لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)
إِذا نُهي السفيهُ جرى إِليه ... وخالف والسفيه إِلى خلاف «1»
يريد جرى إلى السفه. والذي آتاهم الله على قول من قال: البخل بالزكاة: هو المال، وعلى قول من قال: البخل بذكر صفة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو العلم.
قوله تعالى: هُوَ إشارة إلى البخل وليس مذكوراً، ولكنه مدلول عليه ب «يبخلون» .
وفي معنى تطويقهم به أربعة أقوال: أحدها: أنه يجعل كالحية يطوق بها الإنسان.
(242) روى ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا مُثِّل له يوم القيامة شجاع «2» أقرع يفر منه، وهو يتبعه حتى يطوق في عنقه» ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ، وهذا مذهب ابن مسعود، ومقاتل.
والثاني: أنه يجعل طوقاً من نار، رواه منصور عن مجاهد، وإبراهيم.
والثالث: أن معنى تطويقهم به: تكليفهم أن يأتوا به، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
والرابع: أن معناه: يلزم أعناقهم إثمه، قاله ابن قتيبة.
قوله تعالى: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن عباس: يموت أهل السّماوات وأهل الأرض، ويبقى رب العالمين، قال الزجاج: خوطب القوم بما يعقلون، لأنهم يجعلون ما رجع إلى الإنسان ميراثاً إذا كان ملكاً له، وقال ابن الأنباري: معنى الميراث: انفراد الرجل بما كان لا ينفرد به، فلما مات الخلق، وانفرد عزّ وجل صار ذلك له وراثة.
قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يعملون» بالياء إتباعاً لقوله تعالى سَيُطَوَّقُونَ وقرأ الباقون بالتاء، لأنّ قبله وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا.
[سورة آل عمران (3) : آية 181]
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181)
قوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ في سبب نزولها قولان:
(243) أحدهما: أن أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه دخل بيت مدراس اليهود، فوجدهم قد
__________
صحيح. أخرجه الترمذي 3012 والنسائي في «الكبرى» 2221 و 11084 وابن ماجة 1784 من حديث ابن مسعود. وقال الترمذي: حسن صحيح. وهو في صحيح البخاري 1403 و 4565 ومالك 1/ 256- 257 وأحمد 2/ 279 والنسائي 5/ 39 وأبو يعلى 6319 وابن حبان 3258 من حديث أبي هريرة. وورد من حديث جابر أخرجه مسلم 988 والدارمي 1/ 380 وابن حبان 3244 وله شواهد تبلغ به حد الشهرة. وانظر «تفسير القرطبي» 1928 و «تفسير الشوكاني» 571 بتخريجنا.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 275 عن عكرمة والسدي ومقاتل وابن إسحاق. وأخرجه الطبري 8300
__________
(1) أنشده الفرّاء في «معاني القرآن» 1/ 248 وثعلب في «مجالسه» 1/ 60 و «أمالي الشجري» 1/ 68 والبغدادي في «الخزانة» 2/ 383 ولم ينسبوه لقائل.
(2) وفي «اللسان» : الشجاع: الحية الذكر، وقيل: هو الخبيث المارد منها.(1/353)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183)
اجتمعوا على رجل منهم، اسمه فنحاص، فقال له أبو بكر: اتّق الله وأسلم، فو الله إنك لتعلم أن محمداً رسول الله. فقال: والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر. وإنه إلينا لفقير، ولو كان غنيّا عنّا ما استقرضنا.
فغضب أبو بكر وضرب وجه فنحاص ضربة شديدة، وقال: والله لولا العهد الذي بيننا لضربت عنقك.
فذهب فنحاص يشكو إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأخبره أبو بكر بما قال، فجحد فنحاص، فنزلت هذه الآية، ونزل فيما بلغ من أبي بكر من الغضب وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً «1» ، هذا قول ابن عباس، وإلى نحوه ذهب مجاهد، وعكرمة والسدي، ومقاتل.
والثاني: أنه لما نزل قوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً «2» قالت اليهود: إنما يستقرض الفقير من الغني، فنزلت هذه الآية، هذا قول الحسن، وقتادة.
وفي الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ، أربعة أقوال: أحدها: أنه فنحاص بن عازوراء اليهودي، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: حيي بن أخطب، قاله الحسن وقتادة. والثالث: أن جماعة من اليهود قالوه. قال مجاهد: صكَّ أبو بكر رجلاً من الذين قالوا: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ لم يستقرضنا وهو غني؟! والرابع: أنه النَّباش بن عمرو اليهودي، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: سَنَكْتُبُ ما قالُوا قرأ حمزة وحده: «سيُكتب» بياء مضمومة و «قتلُهم» بالرفع و «يقول» بالياء، وقرأ الباقون: سَنَكْتُبُ ما قالُوا بالنّون، ووَ قَتْلَهُمُ بالنصب و «نقول» بالنون، وقرأ ابن مسعود «ويقال» وقرأ الأعمش وطلحة: «ويقول» .
وفي معنى سَنَكْتُبُ ما قالُوا قولان: أحدهما: سنحفظ عليهم ما قالوا، قاله ابن عباس.
والثاني: سنأمر الحفظة بكتابته، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ أي: ونكتب ذلك. فإن قيل: هذا القائل لم يقتل نبياً قط! فالجواب: أنه رضي بفعل متقدميه لذلك، كما بينا في قوله تعالى: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ. قال الزجاج: ومعنى عَذابَ الْحَرِيقِ: عذاب محرق، أي: عذاب بالنار، لأن العذاب قد يكون بغير النّار.
[سورة آل عمران (3) : آية 182]
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)
قوله تعالى: ذلِكَ إشارة إلى العذاب، والذي قدّمت أيديهم: الكفر والخطايا.
[سورة آل عمران (3) : آية 183]
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)
__________
من حديث ابن عباس، وفي إسناده محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، وهو مجهول. وأخرجه الطبري 8302 عن السدي مرسلا، باختصار، و 8316 عن عكرمة، مرسلا فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، ويعلم أن له أصلا، والله أعلم.
__________
(1) آل عمران: 186.
(2) البقرة: 245.(1/354)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185)
قوله تعالى: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا. قال ابن عباس:
(244) نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، وجماعة من اليهود، أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: إن الله عهد إلينا، أي: أمرنا في التوراة: أن لا نؤمن لرسول، أي: لا نصدق رسولاً يزعم أنه رسول، حتى يأتينا بقربان تأكله النار.
قال ابن قتيبة: والقربان: ما تُقرب به إلى الله تعالى من ذبح وغيره. وإنما طلبوا القربان، لأنه كان من سنن الأنبياء المتقدمين، وكان نزول النار علامة القبول. قال ابن عباس: كان الرجل يتصدق، فإذا قبلت منه، نزلت نار من السماء فأكلته، وكانت ناراً لها دويُّ، وحفيف. وقال عطاء: كان بنو إسرائيل يذبحون لله، فيأخذون أطايب اللحم، فيضعونها في وسط البيت تحت السماء، فيقوم النبي في البيت، ويناجي ربه، فتنزل نار، فتأخذ ذلك القربان، فيخر النبي ساجداً، فيوحي الله إليه ما يشاء. قال ابن عباس: قل يا محمد لليهود قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ أي: بالآيات، وَبِالَّذِي سألتم من القربان.
[سورة آل عمران (3) : آية 184]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)
قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ معناه: لست بأول رسول كذب.
قال أبو علي: وقرأ ابن عامر وحده «بالبينات وبالزبر» بزيادة باءٍ، وكذلك في مصاحف أهل الشام، ووجهه أن إعادة الباء ضرب من التأكيد، ووجه قراءة الجمهور أن الواو قد أغنت عن تكرير العامل، تقول: مررت بزيد وعمرو، فتستغني عن تكرير الباء.
قوله تعالى: وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ قال أبو سليمان: يعني به الكتاب النّيّرة بالبراهين والحجج.
[سورة آل عمران (3) : آية 185]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)
قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ. قال ابن عباس:
(245) لما نزل قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ «1» قالوا: يا رسول الله إنما نزل في بني آدم، فأين ذكر الموت في الجن، والطير، والأنعام، فنزلت هذه الآية.
وفي ذكر الموت تهديد للمكذبين بالمصير، وتزهيد في الدنيا وتنبيه على اغتنام الأجل. وفي قوله تعالى: وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بشارة للمحسنين، وتهديد للمسيئين.
__________
لم أره عن ابن عباس، ولعله من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، فقد روى الكلبي عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 277 عن الكلبي بلا سند، والكلبي متروك متهم بالكذب، والصواب الخبر المتقدم، وأن المراد بذلك فنحاص.
يأتي في سورة السجدة.
__________
(1) السجدة: 11.(1/355)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
قوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ قال ابن قتيبة: نُجِّي وأُبعد. فَقَدْ فازَ قال الزجاج: تأويل فاز.
تباعد عن المكروه ولقي ما يحب، يقال لمن نجا من هلكة ولمن لقي ما يغتبط به: قد فاز.
قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ يريد أن العيش فيها يغر الإنسان بما يمنِّيه من طول البقاء، وسيقطع عن قريب. قال سعيد بن جبير: هي متاع الغرور لمن لم يشتغل بطلب الآخرة، فأما من يشتغل بطلب الآخرة، فهي له متاع بلاغ إلى ما هو خير منها.
[سورة آل عمران (3) : آية 186]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
قوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ في سبب نزولها خمسة أقوال:
(246) أحدها: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرَّ بمجلس فيه عبد الله بن أُبيّ، وعبد الله بن رواحة، فغشي المجلس عجاجة الدابة، فخمر ابن أُبيّ أنفه بردائه، وقال: لا تغبّروا علينا، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم دعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن، فقال ابن أُبي: إنه لا أحْسَنَ مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذنا في مجالسنا. وقال ابن رواحة: اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله، فإنَّا نحب ذلك، فاستبَّ المسلمون، والمشركون، واليهود، فنزلت هذه الآية، رواه عروة عن أسامة بن زيد.
والثاني: أن المشركين واليهود كانوا يؤذون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه أشدّ الأذى، فنزلت هذه الآية، قال كعب بن مالك الأنصاري. والثالث: أنها نزلت فيما جرى بين أبي بكر الصديق، وبين فنحاص اليهودي «1» ، وقد سبق ذكره عن ابن عباس. والرابع: أنها نزلت في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكر الصديق، قاله أبو صالح عن ابن عباس. واختاره مقاتل. وقال عكرمة: نزلت في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأبي بكر الصديق، وفنحاص اليهودي «2» .
(247) والخامس: أنها نزلت في كعب بن الأشرف، كان يحرِّض المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2987 ومسلم 1798 والطبراني في الكبير 1/ 389 من حديث أسامة بن زيد.
تنبيه: لفظ الحديث عند البخاري والطبراني.... قال الله عز وجل وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ ... وليس لها ذكر عند مسلم. ولفظ فأنزل الله عند الواحدي والله أعلم بالصواب.
أخرجه الطبري 8317 عن الزهري مرسلا. وأخرجه البيهقي في «الدلائل» 3/ 196- 198 عن الزهري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك مرسلا. وخبر كعب بن الأشرف صحيح، لكن ليس فيه نزول الآية، فقد أخرج البخاري 2510 و 3031 و 3032 و 4037 ومسلم 1801 وأبي داود 2768 من حديث جابر رضي الله عنه. يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لكعب بن الأشرف؟ فإنه آذى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم» : فقال محمد بن مسلمة: أنا، فأتاه فقال: أردنا أن تسلفنا وسقا أو وسقين. فقال: ارهنوني نساءكم قالوا كيف نرهنك نساءنا وأنت أجمل العرب؟ قال فارهنوني أبناءكم. قالوا كيف نرهن أبناءنا فيسب أحدهم فيقال: رهن بوسق أو وسقين؟ هذا عار علينا، ولكنا نرهنك اللأمة- قال سفيان: يعني السلاح- فوعده أن يأتيه، فقتلوه، ثم أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه» . وورد بألفاظ أخرى.
__________
(1) تقدم.
(2) تقدم.(1/356)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187)
وأصحابه في شعره، وهذا مذهب الزهري.
قال الزجّاج: ومعنى لَتُبْلَوُنَّ: لتخبرنّ، أي: توقع عليكم المحن، فيعلم المؤمن حقاً من غيره. و «النون» دخلت مؤكدة مع لام القسم، وضمت الواو لسكونها وسكون النون.
وفي البلوى في الأموال قولان: أحدهما: ذهابها ونقصانها. والثاني: ما فرض فيها من الحقوق.
وفي البلوى في الأنفس أربعة أقوال: أحدها: المصائب، والقتل. والثاني: ما فرض من العبادات.
والثالث: الأمراض. والرابع: المصيبة بالأقارب، والعشائر.
وقال عطاء: هم المهاجرون أخذ المشركون أموالهم، وباعوا رباعهم، وعذبوهم.
قوله تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قال ابن عباس: هم اليهود والنصارى، والَّذِينَ أَشْرَكُوا: مشركو العرب وَإِنْ تَصْبِرُوا على الأذى وَتَتَّقُوا الله بمجانبة معاصيه. قوله تعالى: فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي: ما يعزم عليه، لظهور رشده.
فصل: والجمهور على إحكام هذه الآية، وقد ذهب قوم إلى أن الصبر المذكور منسوخ بآية السّيف.
[سورة آل عمران (3) : آية 187]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)
قوله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم اليهود، قاله ابن عباس، وابن جبير، والسدي، ومقاتل. فعلى هذا، الكتاب: التوراة. والثاني: أنهم اليهود والنصارى، والكتاب: التوراة والإنجيل. والثالث: أنهم جميع العلماء فيكون الكتاب اسم جنس.
قوله تعالى: لَتُبَيِّنُنَّهُ. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم، وزيد عن يعقوب (ليبيننه للناس ولا يكتمونه) بالياء فيهما، وقرأ الباقون، وحفص عن عاصم بالتاء فيهما. وفي هاء الكناية في «لتبيننه» و «تكتمونه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قول من قال:
هم اليهود. والثاني: أنها ترجع إلى الكتاب، قاله الحسن، وقتادة، وهو أصح، لأن الكتاب أقرب المذكورين، ولأن من ضرورة تبيينهم ما فيه إظهار صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قول من ذهب إلى أنه عام في كل كتاب. وقال علي بن أبي طالب عليه السلام: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا «1» .
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 436 (آل عمران: 187) : هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن ينوهوا بذكره في الناس فيكونوا على أهبة من أمره، فإذا أرسله الله تابعوه، فكتموا ذلك وتعوضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم، ويسلك بهم مسلكهم، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئا فقد ورد في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار» .(1/357)
لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188)
قوله تعالى: فَنَبَذُوهُ قال الزجاج: أي: رمَوْا به، يقال للذي يطرح الشيء ولا يعبأ به: قد جعلت هذا الأمر بظهر. قال الفرزدق:
تميمَ بنَ قيس لا تكوننَّ حَاجَتي ... بظَهْرٍ ولا يعيا عليَّ جوابها «1»
معناه: لا تكونن حاجتي مُهمَلة عندك، مطرحة.
وفي هاء «فنبذوه» قولان: أحدهما: أنها تعود إلى الميثاق. والثاني: إلى الكتاب.
قوله تعالى: وَاشْتَرَوْا بِهِ يعني: استبدلوا بما أخذ الله عليهم القيام به، ووعدهم عليه الجنة ثَمَناً قَلِيلًا أي: عرضا يسيرا من الدنيا.
[سورة آل عمران (3) : آية 188]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)
قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وقرأ أهل الكوفة: لا تحسبنَّ بالتاء. وفي سبب نزولها ثمانية أقوال «2» :
(248) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، سأل اليهود عن شيء، فكتموه، وأخبروه بغيره، وأروه أنهم قد أخبروه به، واستحمدوا بذلك إِليه، وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أنها نزلت في قوم من اليهود، فرحوا بما يصيبون من الدنيا، وأحبّوا أن يقول الناس:
إنهم علماء، وهذا القول والذي قبله عن ابن عباس. والثالث: أن اليهود قالوا: نحن على دين إبراهيم، وكتموا ذكر محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير «3» . والرابع: أن يهود المدينة كتبت إلى يهود العراق واليمن، ومن بلغهم كتابهم من اليهود في الأرض كلها، أن محمداً ليس بنبي، فاثبتوا على دينكم، فاجتمعت كلمتهم على الكفر به، ففرحوا بذلك، وقالوا: نحن أهل الصوم والصّلاة، وأولياء
__________
حديث صحيح لكن ليس فيه ذكر نزول الآية، وإنما فيه أنهم المراد بهذه الآية، فقد أخرجه البخاري 4568 ومسلم 2778 ح 8 والترمذي 3014 والنسائي في «التفسير» 106 والطبري 8349 والحاكم 2/ 299 والواحدي 281 من طرق أن مروان بن الحكم قال لبوابه: اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقل: لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحبّ أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبنّ أجمعون. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه؟ إنما دعا النبي صلّى الله عليه وسلّم يهود فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم وفرحوا بما أتوا من كتمانهم، ثم قرأ ابن عباس وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كذلك حتى قوله يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا. واللفظ للبخاري.
__________
(1) في «اللسان» : رجل تكلّف عملا فيعيا به وعنه إذا لم يهتد لوجه عمله.
(2) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» 3/ 549 (آل عمران: 188) : وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: «عني بذلك أهل الكتاب الذين أخبر الله عز وجل أنه أخذ ميثاقهم ليبينن للناس أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا يكتمونه» . لأن قوله: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا الآية، في سياق الخبر عنهم وهو شبيه بقصتهم، مع اتفاق أهل التأويل بأنهم معنيون بذلك.
(3) أخرجه الطبري 8343 عن سعيد مرسلا.(1/358)
الله، فنزلت هذه الآية «1» ، هذا قول الضحاك، والسدي.
(249) والخامس: أن يهود خيبر أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فقالوا: نحن على رأيكم، ونحن لكم ردء، وهم مستمسكون بضلالتهم، فأرادوا أن يحمدهم نبيّ الله بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة.
والسادس: أن ناساً من اليهود جهزوا جيشا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واتفقوا عليهم، فنزلت هذه الآية، قاله إبراهيم النخعي»
. والسابع: أن قوماً من أهل الكتاب دخلوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم خرجوا من عنده فذكروا للمسلمين أنهم قد أخبروا بأشياء قد عرفوها، فحمدوهم، وأبطنوا خلاف ما أظهروا، فنزلت هذه الآية، ذكره الزجاج «3» .
(250) والثامن: أن رجالاً من المنافقين كانوا يتخلّفون عن الغزو مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فإذا قدم اعتذروا إليه، وحلفوا، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية، قاله أبو سعيد الخدري، وهذا القول يدل على أنها نزلت في المنافقين، وما قبله من الأقوال يدل على أنها في اليهود.
وفي الذي أتوا ثمانية «4» أقوال: أحدها: أنه كتمانهم ما عرفوا من الحق. والثاني: تبديلهم التوراة. والثالث: إيثارهم الفاني من الدنيا على الثواب. والرابع: إضلالهم الناس. والخامس:
اجتماعهم على تكذيب النبي. والسادس: نفاقهم بإظهار ما في قلوبهم ضده. والسابع: اتفاقهم على محاربة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهذه أقوال من قال: هم اليهود. والثامن: تخلُّفهم في الغزوات، وهذا قول من قال: هم المنافقون.
وفي قوله تعالى: وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا ستة أقوال: أحدها: أحبّوا أن يحمدوا على إجابة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، عن شيء سألهم عنه وما أجابوه. والثاني: أحبّوا أن يقول الناس: إنهم علماء، وليسوا كذلك. والثالث: أحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا من الصلاة والصيام، وهذه الأقوال الثلاثة عن ابن
__________
أخرجه الطبري 8350 عن قتادة مرسلا بنحوه، و 8351 من طريق عبد الرزاق بن معمر عن قتادة مرسلا باختصار. وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 1/ 192 عن الحسن مرسلا مختصرا.
صحيح أخرجه البخاري 4567 ومسلم 2777 ح 7 ص 2142 والطبري 8335 والواحدي 280 من طرق عن أبي سعيد الخدري.
__________
(1) عزاه الواحدي في «أسباب النزول» 283 للضحاك بدون إسناد. وأخرجه الطبري 8340 عن جويبر عن الضحاك مع اختلاف يسير فيه، وجويبر هو ابن سعيد متروك، وكرره الطبري 8339 من وجه آخر عن الضحاك، وكرره 8342 عن السدي نحوه.
(2) لم أقف عليه.
(3) لم أره مسندا، وعزاه المصنف للزجاج. [.....]
(4) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» 3/ 549 عني بذلك أهل الكتاب وتأويل الآية: لا تحسبن يا محمد الذين يفرحون بما أتوا من كتمانهم الناس أمرك وأنك لي رسول مرسل بالحق، وهم يجدونك مكتوبا عندهم في كتبهم، وقد أخذت عليهم الميثاق بالإقرار بنبوتك، وبيان أمرك للناس، وأن لا يكتموهم ذلك، وهم مع نقضهم ميثاقي الذي أخذت عليهم بذلك، يفرحون بمعصيتهم إياي في ذلك ومخالفتهم أمري.(1/359)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)
عباس. والرابع: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: نحن على دين إبراهيم، وليسوا عليه، قاله سعيد بن جبير. والخامس: أحبوا أن يحمدوا على قولهم: إنا راضون بما جاء به النبي، وليسوا كذلك، قاله قتادة. وهذه أقوال من قال: هم اليهود. والسادس: أنهم كانوا يحلفون للمسلمين، إذا نصروا: إنا قد سررنا بنصركم، وليسوا كذلك، قاله أبو سعيد الخدري، وهو قول من قال: هم المنافقون.
قوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «فلا يحسبُنهم» ، بالياء وضم الباء. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: بالتاء، وفتح الباء. قال الزجاج: إنما كررت «تحسبنهم» لطول القصة، والعرب تعيد إذا طالت القصة «حسبت» وما أشبهها، إعلاماً أن الذي يجرى متصل بالأول، وتوكيداً له، فتقول: لا تظننَّ زيداً إذا جاء وكلمك بكذا وكذا، فلا تظننَّه صادقاً. قوله تعالى بِمَفازَةٍ قال ابن زيد، وابن قتيبة: بمنجاة.
[سورة آل عمران (3) : آية 189]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
قوله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيه تكذيب القائلين: بأنه فقير. وفي قوله تعالى:
وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تهديد لهم، أي: لو شئت لعجلت عذابهم.
[سورة آل عمران (3) : آية 190]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190)
قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(251) أحدها: أن قريشاً قالوا لليهود: ما الذي جاءكم به موسى؟ قالوا: عصاه ويده البيضاء.
وقالوا للنصارى: ما الذي جاءكم به عيسى؟ قالوا: كان يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى. فأتوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: ادع ربك يجعل لنا الصفا ذهباً، فنزلت هذه الآية، رواه ابن جبير عن ابن عباس.
والثاني: أن أهل مكة سألوه أن يأتيهم بآية، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث:
أنه لما نزل قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «1» قالت قريش: قد سوى بين آلهتنا، إئتنا بآية، فنزلت هذه الآية، قاله أبو الضحى، واسمه: مُسلم بن صُبيح. فأما تفسير الآية فقد سبق.
[سورة آل عمران (3) : آية 191]
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً في هذا الذكر ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الذّكر في
__________
ضعيف منكر، أخرجه الطبراني 12322 والواحدي في «الأسباب» 284 عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف لضعف يحيى بن عبد الحميد الحماني، وبه أعله الحافظ الهيثمي في «المجمع» 6/ 329، ثم المتن منكر.
وقال الحافظ في «الفتح» 8/ 235: فيه إشكال أن هذه السورة مدنية وقريش من أهل مكة ويحتمل أن يكون سؤالهم لذلك بعد أن هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ولا سيما في زمن الهدنة اه. وقال ابن كثير في «تفسيره» 1/ 438: وهذا مشكل فإن هذه الآية مدنية وسؤالهم أن يكون الصفا ذهبا كان بمكة، والله أعلم.
__________
(1) البقرة: 164.(1/360)
رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193)
الصّلاة، يصلي قائما، فإن لم يستطع، فعلى جنب، هذا قول علي، وابن مسعود، وابن عباس، وقتادة.
والثاني: أنه الذكر في الصلاة وغيرها، وهو قول طائفة من المفسرين. والثالث: أنه الخوف، فالمعنى:
يخافون الله قياماً في تصرفهم وقعوداً في دعتهم، وعلى جنوبهم في منامهم.
قوله تعالى: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال ابن فارس: الفكرة: تردد القلب في الشيء. قال ابن عباس: ركعتان مقتصدتان في تفكرٍ خيرٌ من قيام ليلة، والقلب ساه.
قوله تعالى: رَبَّنا قال الزجاج: معناه: يقولون: ربنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا أي: خلقته دليلاً عليك، وعلى صدق ما أتت به أنبياؤك. ومعنى سُبْحانَكَ: براءةً لك من السوء، وتنزيهاً لك أن تكون خلقتهما باطلاً، فَقِنا عَذابَ النَّارِ فقد صدَّقْنا أنّ لك جنّة ونارا.
[سورة آل عمران (3) : آية 192]
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192)
قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ قال الزجاج: المخزى في اللغة المذلّ المحقور بأمر لزمه وبحجة. يقال: أخزيته، أي: ألزمته حجةً أذللته معها. وفيمن يتعلق به هذا الخزي قولان: أحدهما: أنه يتعلق بمن يدخلها مخلَّداً، قاله أنس بن مالك، وسعيد بن المسيّب، وابن جبير، وقتادة، وابن جريج، ومقاتل. والثاني: أنه يتعلق بكل داخل إليها، وهذا المعنى مروي عن جابر بن عبد الله، واختاره ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ قال ابن عباس: وما للمشركين من مانع يمنعهم عذاب الله تعالى.
[سورة آل عمران (3) : آية 193]
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193)
قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً في المنادي قولان: أحدهما: أنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس، وابن جريج، وابن زيد، ومقاتل. والثاني: أنه القرآن، قاله محمد بن كعب القرظي، واختاره ابن جرير الطبري.
قوله تعالى: يُنادِي لِلْإِيمانِ فيه قولان: أحدهما: ينادي إلى الإيمان، ومثله: الَّذِي هَدانا لِهذا «1» ، بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها «2» ، قاله الفراء. والثاني: بأنه مقدم ومؤخر، والمعنى: سمعنا منادياً للإيمان ينادي، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا قال مقاتل: امح عنا خطايانا. وقال غيره: غطها عنا، وقيل: إنما جمع بين غفران الذنوب، وتكفير السيئات، لأن الغفران بمجرد الفضل، والتكفير بفعل الخير. وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: «الأبرار» و «الأشرار» و «ذات قرار» وما كان مثله بين الفتح والكسر، وقرأ ابن كثير، وعاصم بالفتح. ومعنى مَعَ الْأَبْرارِ: فيهم، قال ابن عباس: وهم الأنبياء والصّالحون.
__________
(1) الأعراف: 43.
(2) الزلزلة: 5.(1/361)
رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
[سورة آل عمران (3) : آية 194]
رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
قوله تعالى: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا قال ابن عباس: يعنون: الجنة عَلى رُسُلِكَ أي: على ألسنتهم. فإن قيل: ما وجه هذه المسألة والله لا يخلف الميعاد؟ فعنه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنه خرج مخرج المسألة، ومعناه: الخبر، تقديره: فآمنا، فاغفر لنا لتؤتينا ما وعدتنا.
والثاني: أنه سؤال له، أن يجعلهم ممن آتاه ما وعده، لا أنهم استحقوا ذلك، إذ لو كانوا قد قطعوا أنهم من الأبرار لكانت تزكية لأنفسهم. والثالث: أنه سؤال لتعجيل ما وعدهم من النصر على الأعداء، لأنه وعدهم نصراً غير مؤقت، فرغبوا في تعجيله، ذكر هذه الأجوبة ابن جرير، وقال: أولى الأقوال بالصواب، أن هذه صفة المهاجرين، رغبوا في تعجيل النصر على أعدائهم. فكأنهم قالوا: لا صبر لنا على حلمك عن الأعداء فعجّل خزيهم، وظفرنا عليهم.
[سورة آل عمران (3) : آية 195]
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
قوله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ.
(252) روي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، لا أسمع ذكر النساء في الهجرة بشيء؟
فنزلت هذه الآية. واستجاب: بمعنى أجاب. والمعنى: أجابهم بأن قال لهم: إني لا أُضيع عمل عامل منكم ذكرا أو أُنثى.
وفي معنى قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ثلاثة أقوال: أحدها: بعضكم من بعض في الدين، والنُصرة والموالاة. والثاني: حكم جميعكم في الثواب واحد، لأن الذكور من الإناث والإناث من الذكور. والثالث: كلكم من آدم وحواء.
قوله تعالى: فَالَّذِينَ هاجَرُوا أي: تركوا الأوطان والأهل والعشائر وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني:
المؤمنين الذين أخرجوا من مكة بأذى المشركين، فهاجروا، وَقُتِلُوا المشركين وَقُتِلُوا. قرأ ابن كثير، وابن عامر: «وقاتلوا وقتّلوا» مشددة التاء. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم: «وقاتلوا وقتلوا» خفيفة. وقرأ حمزة، والكسائي: و «قتلوا وقاتلوا» . قال أبو علي: تقديم «قتلوا» جائز، لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولاً في المعنى، مؤخراً في اللفظ.
__________
حديث حسن. أخرجه الطبري 8367 من طريق مجاهد عن أم سلمة. ورجال الإسناد ثقات رجال الشيخين، فهو صحيح إن كان مجاهد سمعه من أم سلمة وفيه نظر إذ قال فيه: قالت أم سلمة، وأخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 498 والترمذي 3023 عن عمرو بن دينار عن رجل من ولد أم سلمة عن أم سلمة. وأخرجه الحاكم 2/ 300 والواحدي 285 عن عمرو بن دينار عن سلمة بن عمر بن أبي سلمة- رجل من ولد أم سلمة قال:
قالت أم سلمة. صححه الحاكم على شرط البخاري! وسكت الذهبي! مع أن في إسناده سلمة بن أبي سلمة، وهو مقبول كما في «التقريب» أي حديثه حسن في الشواهد، وقد توبع في ما تقدم، فهو حسن إن شاء الله تعالى. وسيأتي شيء من هذا في سورة الأحزاب.(1/362)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199)
قوله تعالى: ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قال الزجاج: هو مصدرٌ مؤكد لما قبله، لأن معنى وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ: لأثيبنّهم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 197]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197)
قوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ اختلفوا فيمن نزلت على قولين: أحدهما:
أنها نزلت في اليهود، ثم في ذلك قولان: أحدهما: أن اليهود كانوا يضربون في الأرض. فيصيبون الأموال، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
(253) والثاني: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أراد أن يستسلف من بعضهم شعيراً، فأبى إلّا على رهن، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لو أعطاني لأوفيته، إني لأمينٌ في السماء أمينٌ في الأرض» فنزلت، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
والقول الثاني: أنها نزلت في مشركي العرب كانوا في رخاءٍ، فقال بعض المؤمنين: قد أهلكنا الجهد، وأعداء الله فيما ترون، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل. قال قتادة: والخطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد غيره. وقال غيره: إنما خاطبه تأديباً وتحذيراً، وإن كان لا يغتر.
وفي معنى «تقلبهم» ثلاثة أقوال: أحدها: تصرُّفهم في التجارات، قاله ابن عباس، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: تقلُّب ليلهم ونهارهم، وما يجري عليهم من النعم، قاله عكرمة ومقاتل.
والثالث: تقلُّبهم غير مأخوذين بذنوبهم، ذكره بعض المفسرين. قال الزجاج: ذلك الكسب والربح متاع قليل، وقال ابن عباس: منفعة يسيرة في الدنيا. والمهاد: الفراش.
[سورة آل عمران (3) : آية 198]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)
قوله تعالى: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ قرأ أبو جعفر: «لكنَّ» بالتشديد هاهنا، وفي «الزُمر» قال مقاتل: وحدوا. قال ابن عباس: «النزل» الثواب. قال ابن فارس: النُّزُل: ما يهيأ للنّزيل، والنّزيل:
الضّيف.
[سورة آل عمران (3) : آية 199]
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)
قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
__________
لم أقف عليه هكذا، والذي ورد في ذلك أن الآية التي نزلت هي قوله تعالى: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ....- طه: 131- أخرجه الواحدي 615 والطبري 22455 من حديث أبي رافع، وفيه موسى بن عبيدة الربذي ضعيف، وكرره الطبري 24456 من طريق حسين بن داود عن أبي رافع وحسين واه والمتن منكر، لأن سورة طه مكية، وخبر رهن الدرع متأخر جدا كما قال القرطبي، وسيأتي.
وانظر «تفسير القرطبي» 4332 بتخريجنا.(1/363)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
(254) أحدها: أنها نزلت في النجاشي، لأنه لما مات صلّى عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال قائل: يصلي على هذا العلج النصراني، وهو في أرضه؟! فنزلت هذه الآية، هذا قول جابر بن عبد الله، وابن عباس، وأنس. وقال الحسن، وقتادة: فيه وفي أصحابه.
والثاني: أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب من اليهود والنصارى، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد. والثالث: في عبد الله بن سلام، وأصحابه، قاله ابن جريج، وابن زيد، ومقاتل. والرابع: في أربعين من أهل نجران، وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى، فآمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، قاله عطاء «1» .
قوله تعالى: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ يعني: القرآن، وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ يعني: كتابهم. والخاشع:
الذليل. لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا أي: عرضاً من الدنيا كما فعل رؤساء اليهود. وقد سلف بيان سرعة الحساب.
[سورة آل عمران (3) : آية 200]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: نزلت في انتظار الصّلاة بعد الصّلاة، وليس يومئذ غزوٌ يرابَط.
وفي الذي أمروا بالصبر عليه خمسة أقوال: أحدها: البلاء والجهاد، قاله ابن عباس. والثاني:
الدين، قاله الحسن، والقرظي، والزجاج. والثالث: المصائب، روي عن الحسن أيضاً. والرابع:
الفرائض، قاله سعيد بن جبير. والخامس: طاعة الله، قاله قتادة.
وفي الذي أمروا بمصابرته قولان: أحدهما: العدو، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: الوعد الذي وعدهم الله: قاله عطاء، والقرظيّ.
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 287 بدون إسناد. عن جابر وابن عباس وأنس وقتادة، وعزاه الحافظ في «تخريج الكشاف» 246 للثعلبي عن ابن عباس وقتادة.
- وخبر جابر، أخرجه الطبري 8376 وفيه رواد بن الجراح، وهو ضعيف. وورد بنحوه من حديث أنس أخرجه النسائي في «التفسير» 108 و 109 والبزار «كشف الأستار» 382 والطبراني في «الأوسط» 2688 والواحدي 288 ورجاله ثقات كما قال الهيثمي في المجمع 3/ 38، وصلاة الرسول على النجاشي ثابتة في «الصحيحين» دون هذه القصة. انظر البخاري 1333 ومسلم 951.
__________
(1) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» 3/ 560 (آل عمران: 199) : فإن قال قائل: فما أنت قائل في الخبر الذي رويت عن جابر وغيره: أنها نزلت في النجاشي وأصحابه؟
قيل: ذلك خبر في إسناده نظر. ولو كان صحيحا لا شك فيه، لم يكن لما قلنا في معنى الآية بخلاف.
وقد تنزل الآية في الشيء، ثم يعم بها كل من كان في معناه. فالآية وإن كانت نزلت في النجاشي، فإن الله تبارك وتعالى قد جعل الحكم الذي حكم به للنجاشي، حكما لجميع عباده الذين هم بصفة النجاشي في اتباعهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والتصديق بما جاءهم به من عند الله، بعد الذي كانوا عليه قبل ذلك من اتباع أمر الله فيما أمر به عباده في الكتابين، التوراة والإنجيل.(1/364)
وفيما أمروا بالمرابطة عليه قولان: أحدهما: الجهاد للأعداء، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة في آخرين. قال ابن قتيبة: وأصل المرابطة والرباط: أن يربط هؤلاء خيولهم، وهؤلاء خيولهم في الثغر، كلٌ يُعدُّ لصاحبه. والثاني: أنه الصلاة، أُمروا بالمرابطة عليها، قاله أبو سلمة بن عبد الرحمن.
وقد ذكرنا في (البقرة) معنى «لعلّ» ، ومعنى «الفلاح» «1» .
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 313: قوله تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا الآية ختم تعالى السورة بما تضمنته هذه الآية من الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء والفوز بنعيم الآخرة، فحضّ على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، والصبر الحبس. وأمر بالمصابرة، فقيل: معناه مصابرة الأعداء، وقيل: على الصلوات الخمس وقيل: إدامة مخالفة النفس عن الشهوات فهي تدعو وهو ينزع.
والأول قول الجمهور. ولذلك اختلفوا في معنى قوله (ورابطوا) فقال جمهور الأمة: رابطوا أعداءكم بالخيل أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم ومنه قوله تعالى وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ وفي الموطأ عن مالك بن زيد بن أسلم قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعا من الروم وما يتخوف منهم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزّل شدة يجعل الله له بعدها فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين وإن الله تعالى يقول في كتابه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة ولم يكن في زمان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غزو يرابط فيه، واحتج بقوله عليه السلام: ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط ثلاثا. قال ابن عطية: والقول الصحيح هو أن الرباط الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل، ثم كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطا، فارسا كان أو راجلا.
قلت: إن الخليل بن أحمد أحد أئمة اللغة وثقاتها قد قال: الرباط ملازمة الثغور، ومواظبة الصلاة أيضا.
والمرابطة عند العرب: العقد على الشيء حتى لا ينحل، فيعود إلى ما كان صبر عنه، فيحبس القلب على النية الحسنة والجسم على فعل الطاعة. والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما. وقال ابن خويز منداد: للرباط حالتان: حالة يكون الثغر مأمونا منيعا يجوز سكناه بالأهل والولد. وإن كان غير مأمون جاز أن يرابط فيه بنفسه إذا كان من أهل القتال، ولا ينقل إليه الأهل والولد لئلا يظهر العدو فيسبي ويسترق.(1/365)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
سورة النساء
مدنية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة النساء (4) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)
اختلفوا في نزولها على قولين «1» : أحدهما: أنها مكيَّة، رواه عطيّة عن ابن عباس، وهو قول الحسن، ومجاهد، وجابر بن زيد، وقتادة. والثاني: أنها مدنية، رواه عطاء عن ابن عباس، وهو قول مقاتل. وقيل: إنها مدنية، إِلا آية نزلت بمكة في عثمان بن طلحة حين أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يأخذ منه مفاتيح الكعبة، فيسلِّمها إلى العبّاس، وهي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «2» ذكره الماوردي.
قوله تعالى: اتَّقُوا رَبَّكُمُ فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى الطاعة، قاله ابن عباس. والثاني:
بمعنى الخشية. قاله مقاتل. والنفس الواحدة: آدم، وزوجها حواء، و «من» في قوله تعالى: وَخَلَقَ مِنْها للتبعيض في قول الجمهور. وقال ابن بحر: «منها» ، أي: من جنسها.
واختلفوا أي وقت خلقت له، على قولين: أحدهما: أنها خلقت بعد دخوله الجنة، قاله ابن مسعود، وابن عباس. والثاني: قبل دخوله الجنة، قاله كعب الأحبار، ووهب، وابن إسحاق. قال ابن عباس: لما خلق الله آدم، ألقى عليه النوم، فخلق حواء من ضِلَع من أضلاعه اليُسرى، فلم تؤذه بشيء، ولو وجد الأذى ما عطف عليها أبداً، فلما استيقظ قيل: يا آدم ما هذه؟ قال: حواء.
قوله تعالى: وَبَثَّ مِنْهُما قال الفراء: بثَّ: نشر، ومن العرب من يقول: أبث الله الخلق، ويقولون: بثثتك ما في نفسي، وأبثثتك.
قوله تعالى: الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ قرأ ابن كثير، وابن عامر، والبرجمي، عن أبي بكر، عن عاصم.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 5: هي مدنية إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي وهي قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها. وهو الصحيح، فإن في صحيح البخاري- 4993- عن عائشة أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعني قد بنى بها. ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما بنى بعائشة بالمدينة. ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها. والله أعلم.
(2) النساء: 58. وسيأتي الحديث أثناء تفسيرها.(1/366)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2)
واليزيدي، وشجاع، والجعفي، وعبد الوارث، عن أبي عمرو: «تسّاءلون» بالتشديد. وقرأ عاصم، وحمزة والكسائي، وكثير من أصحاب أبي عمرو عنه بالتخفيف. قال الزجاج: الأصل: تتساءلون، فمن قرأ بالتشديد. أدغم التاء في السين، لقرب مكان هذه من هذه، ومن قرأ بالتخفيف، حذف التاء الثانية لاجتماع التاءين. وفي معنى «تساءلون به» ثلاثة أقوال: أحدها: تتعاطفون به، قاله ابن عباس. والثاني:
تتعاقدون، وتتعاهدون به. قاله الضحاك، والربيع. والثالث: تطلبون حقوقكم به، قاله الزجاج.
فأما قوله «والأرحام» فالجمهور على نصب الميم على معنى: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وفسّرها على هذا ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسُّدّي، وابن زيد. وقرأ الحسن، وقتادة، والأعمش، وحمزة بخفض الميم على معنى: تساءلون به وبالأرحام، وفسرها على هذا الحسن، وعطاء والنخعي. وقال الزجاج: الخفض في «الأرحام» خطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار الشعر، وخطأ في الدين، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال:
(255) «لا تحلفوا بآبائِكم» ، وذهب إلى نحو هذا الفرّاء، وقال ابن الأنباري: إِنما أراد، حمزة الخبر عن الأمر القديم الذي جرت عادتهم به، فالمعنى: الذي كنتم تساءلون به وبالأرحام في الجاهلية.
قال أبو علي: من جر، عطف على الضمير المجرور بالباء، وهو ضعيف في القياس، قليل في الاستعمال، فترك الأخذ به أحسن.
فأما الرقيب، فقال ابن عباس، ومجاهد: الرقيب: الحافظ. وقال الخطابي: هو الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء، وهو في نعوت الآدميين الموكل بحفظ الشيء، المترصد له، المتحرز عن الغفلة فيه، يقال منه: رقبت الشيء أرقبه رقبة.
[سورة النساء (4) : آية 2]
وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)
قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ.
(256) سبب نزولها: أن رجلاً من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ، طلب ماله فمنعه، فخاصمه إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت، قاله سعيد بن جبير.
والخطاب بقوله تعالى: «وآتوا» للأولياء والأوصياء. قال الزجاج: وإِنما سموا يتامى بعد البلوغ، بالاسم الذي كان لهم، وقد كان يقال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: يتيم أبي طالب.
قوله تعالى: وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ، قرأ ابن محيصن: «تبدلوا» بتاء واحدة. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنه إِبدال حقيقة، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه أخذ الجيّد، وإعطاء الرديء
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3836 و 6648 ومسلم 1646 وأحمد 2/ 20- 42- 76 من حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: لا تحلفوا بآبائكم» . وانظر «تفسير القرطبي» 1991 بتخريجنا.
عزاه السيوطي في «الدر» 2/ 207 لابن أبي حاتم عن ابن جبير، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 291 بدون إسناد عن مقاتل والكلبي وعزاه ابن حجر في «تخريج الكشاف» 1999 للثعلبي وقال: وسنده إليهما مذكور أول الكتاب- أي كتاب الثعلبي- وسكت الحافظ عليه. وهو معضل، والكلبي متروك متهم، ومقاتل إن كان ابن سليمان، فهو كذاب، وإن كان ابن حيان، فإنه صدوق فيه ضعف وقد روى مناكير كثيرة.(1/367)
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3)
مكانه، قاله سعيد بن المسيب، والضحاك، والنخعي، والزهري، والسُّدّي. قال السدي: كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم، ويجعل مكانها المهزولة، ويأخذ الدراهم الجياد، ويطرح مكانها الزيوف. والثاني: أنه الربح على اليتيم، واليتيم غرّ لا عِلْمَ له، قاله عطاء. والقول الثاني: أنه ليس بإبدال حقيقة، وإنما هو أخْذه مستهلكاً، ثم فيه قولان: أحدهما: أنهم كانوا لا يورثون النساء والصغار، وإنما يأخذ الميراث الأكابر من الرجال، فنصيب الرجل من الميراث طيب، وما أخذه من حق اليتيم خبيث، هذا قول ابن زيد. والثاني: أنه أكل مال اليتيم بدلاً من أكل أموالهم، قاله الزجاج.
و «إلى» بمعنى «مع» والحوب: الإِثم. وقرأ الحسن، وقتادة، والنخعي بفتح الحَاء. قال الفرّاء:
أهل الحجاز يقولون: حُوب بالضم، وتميم يقولونه بالفتح. قال ابن الأنباري: وقال الفراء: المضموم الاسم، والمفتوح المصدر. قال ابن قتيبة: وفيه ثلاث لغات: حوب، وحوب، وحاب.
[سورة النساء (4) : آية 3]
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)
قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى اختلفوا في تنزيلها وتأويلها على ستة أقوال:
أحدها: أن القوم كانوا يتزوجون عدداً كثيراً من النساء في الجاهلية، ولا يتحرّجون من ترك العدل بينهن، وكانوا يتحرّجون في شأن اليتامى، فقيل لهم بهذه الآية: احذروا من ترك العدل بين النساء، كما تحذرون من تركه في اليتامى. وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير والضحاك، وقتادة، والسدي ومقاتل. والثاني: أن أولياء اليتامى كانوا يتزوجون النساء بأموال اليتامى، فلما كثر النساء، مالوا على أموال اليتامى، فَقُصِروا على الأربع حفظاً لأموال اليتامى. وهذا المعنى مرويٌّ عن ابن عباس أيضاً، وعكرمة. والثالث: أن معناها: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في صدقات اليتامى إذا نكحتموهن، فانكحوا سواهن من الغرائب اللواتي أحلَّ الله لكم، وهذا المعنى مروي عن عائشة.
والرابع: أن معناها: وإن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا في نكاحهن، وحذرتم سوء الصحبة لهن، وقلة الرغبة فيهن، فانكحوا غيرهن، وهذا المعنى مروي عن عائشة أيضا، والحسن. والخامس: أنهم كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى، فأمِروا بالتحرّج من الزنى أيضا، ونُدبوا إلى النكاح الحلال، وهذا المعنى مروي عن مجاهد. والسادس: أنهم تحرجوا من نكاح اليتامى، كما تحرجوا من أموالهم، فرخّص الله لهم بهذه الآية، وقصرهم على عدد يمكن العدل فيه، فكأنه قال: وإِن خفتم يا أولياء اليتامى أن لا تعدلوا فيهن، فانكحوهن، ولا تزيدوا على أربع لتعدلوا، فإن خفتم أن لا تعدلوا فيهن، فواحدة، وهذا المعنى مروي عن الحسن «1» .
__________
(1) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في تفسيره 3/ 577 (النساء: 3) : وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية، قول من قال: تأويلها: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فكذلك خافوا في النساء، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن، من واحدة إلى الأربع. فإن خفتم الجور في الواحدة أيضا، فلا تنكحوها، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم، فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن» . وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله جل ثناؤه افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حق وخلطها بغيرها من الأموال. ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرجوا فيه، فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرج في أمر النساء مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى.(1/368)
قال ابن قتيبة: ومعنى قوله: وإن خفتم، أي: فإن علمتم أنكم لا تعدلون بين اليتامى. يقال:
أقسط الرجل: إذا عدل، ومنه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم:
(257) المقسطون في الدنيا على منابر من لؤلؤ يوم القيامة.
ويقال قسط الرجل: إذا جار، ومنه قول الله أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً.
وفي معنى العدل في اليتامى قولان: أحدهما: في نكاح اليتامى. والثاني: في أموالهم.
قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ أي: ما حل لكم. قال ابن جرير: وأراد بقوله تعالى: ما طاب لكم، الفعل دون أعيان النساء، ولذلك قال: «ما» ولم يقل: «من» واختلفوا: هل النكاح من اليتامى، أو من غيرهن؟ على قولين قد سبقا.
قوله تعالى: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ. قال الزجاج: هو بدل من «ما طاب لكم» ومعناه: اثنتين اثنتين، وثلاثاً ثلاثاً، وأربعاً أربعاً. وإِنما خاطب الله العرب بأفصح اللغات، وليس من شأن البليغ أن يعبّر في العدد عن التسعة باثنتين، وثلاث، وأربع، لأن التسعة قد وضعت لهذا العدد، فيكون عِيَّاً في الكلام.
وقال ابن الأنباري: هذه الواو معناها التفرّق، وليست جامعة، فالمعنى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى، وانكحوا ثُلاث في غير الحال الأولى، وانكحوا رُباع في غير الحالين. وقال القاضي أبو يعلى:
الواو هاهنا لإِباحة أيِّ الأعداد شاء، لا للجمع، وهذا العدد إنما هو للأحرار، لا للعبيد، وهو قول أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: هم كالأحرار. ويدل على قولنا: أنه قال: فانكحوا، فهذا منصرف إلى مَن يملك النكاح، والعبد لا يملك ذلك بنفسه، وقال في سياقها فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، والعبد لا ملك له، فلا يباح له الجمع إِلا بين اثنتين.
قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فيه قولان: أحدهما: علمتم. والثاني: خشيتم.
قوله تعالى: أَلَّا تَعْدِلُوا قال القاضي أبو يعلى: أراد العدل في القسم بينهن.
قوله تعالى: فَواحِدَةً أي: فانكحوا واحدة، وقرأ الحسن، والأعمش، وحميد: «فواحدةٌ» بالرفع، المعنى، فواحدة تقنع.
قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني: السراري. قال ابن قتيبة: معنى الآية: فكما تخافون أن لا تعدلوا بين اليتامى إذا كفلتموهم، فخافوا أيضا أن لا تعدلوا بين النساء إذا نكحتموهن، فَقَصَرَهم على أربع، ليقدروا على العدل، ثم قال: فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هؤلاء الأربع، فانكحوا واحدة، واقتصروا على ملك اليمين.
قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أي: أقرب. وفي معنى تَعُولُوا ثلاثة أقوال: أحدها: تميلوا، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، وعطاء، وإبراهيم، وقتادة، والسدي، ومقاتل، والفراء. وقال
__________
صحيح. أخرجه مسلم 1827 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.(1/369)
وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
أبو مالك، وأبو عبيدة، تجوروا. قال ابن قتيبة، والزجاج: تجوروا وتميلوا بمعنى واحد. واحتكم رجلان من العرب إلى رجل، فحكم لأحدهما، فقال المحكوم عليه: إنك والله تعول علي، أي تميل وتجور. والثاني: تضلوا، قاله مجاهد. والثالث: تكثر عيالكم، قال ابن زيد، ورواه أبو سليمان الدمشقي في «تفسيره» عن الشّافعيّ، وردّه الزجّاج، فقال: أهل اللغة يقولون: هذا القول خطأ، لأن الواحدة يعولها، وإِباحة ملك اليمين أزيد في العيال من أربع.
[سورة النساء (4) : آية 4]
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)
قوله تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين:
أحدهما: أنهم الأزواج، وهو قول الجمهور، واحتجوا بأن الخطاب للناكحين قد تقدم، وهذا معطوف عليه، وقال مقاتل: كان الرجل يتزوج بلا مهر، فيقول: أرثكِ وترثيني، فتقول المرأة: نعم، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أنه متوجّه إلى الأولياء ثم فيه قولان: أحدهما: أن الزّوج كان إذا زوج أيّمة حاز صداقها دونها، فنهوا بهذه الآية، هذا قول أبي صالح واختاره الفراء، وابن قتيبة. والثاني: أن الرجل كان يعطي الرجل أخته ويأخذ أخته مكانها من غير مهر، فنهوا عن هذا بهذه الآية، رواه أبو سليمان التيمي عن بعض أشياخه.
قال ابن قتيبة: والصدقات: المهور، واحدها: صدقة.
وفي قوله تعالى: نِحْلَةً أربعة أقوال: أحدها: أنها بمعنى الفريضة، قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد ومقاتل. والثاني: أنها الهبة والعطية، قاله الفراء. قال ابن الأنباري: كانت العرب في الجاهلية لا تعطي النساء شيئا من مهورهن، فلما فرض الله لهن المهر، كان نحلة من الله، أي: هبة للنساء، فرضا على الرجال. وقال الزجاج: هو هبة من الله للنساء. قال القاضي أبو يعلى: وقيل: إِنما سمي المهر: نحلة، لأن الزّوج لا يملك بدله شيئاً، لأن البضع بعد النكاح في ملك المرأة، ألا ترى أنها لو وُطئت بشبهة، كان المهر لها دون الزوج، وإِنما الذي يستحقه الزوج الاستباحة، لا الملك.
والثالث: أنها العطية بطيب نفس، فكأنه قال: لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون، قاله أبو عبيدة.
والرابع: أن معنى «النحلة» : الديانة، فتقديره: وآتوهن صدقاتهن ديانة، يقال: فلان ينتحل كذا، أي:
يدين به، ذكره الزجاج عن بعض العلماء.
قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ يعني: النساء المنكوحات. وفي لَكُمْ قولان: أحدهما: أنه يعني الأزواج. والثاني: الأولياء. و «الهاء» في مِنْهُ كناية عن الصّداق، قال الزّجّاج: ومِنْهُ هاهنا للجنس، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ معناه: فاجتنبوا الرجس الذي هو وثن، فكأنه قال: كلوا الشيء الذي هو مهر، فيجوز أن يسأل الرجل المهر كلّه. ونَفْساً: منصوب على التمييز.
فالمعنى: فان طابت أنفسهن لكم بذلك، فكلوه هنيئا مريئا. وفي الهنيء ثلاثة أَقوال: أحدها: أنه ما تؤمن عاقبته. والثاني: ما أعقب نفعا وشفاءً. والثالث: أنه الذي لا ينغِّصُه شيء. وأما «المريء» فيقال: مرئ الطّعام: إذا انهضم، وحمدت عاقبته.(1/370)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
[سورة النساء (4) : آية 5]
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)
قوله تعالى: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ، المراد بالسفهاء خمسة أقوال: أحدها: أنهم النساء، قاله ابن عمر. والثاني: النساء والصبيان، قاله سعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، ومقاتل، والفراء، وابن قتيبة. وعن الحسن ومجاهد كالقولين. والثالث: الأولاد، قاله أبو مالك، وهذه الأقوال الثلاثة مروية عن ابن عباس، وروي عن الحسن، قال: هم الأولاد الصغار. والرابع: اليتامى، قاله عكرمة، وسعيد بن جبير في رواية. قال الزجاج: ومعنى الآية: ولا تؤتوا السفهاء أموالهم، بدليل قوله تعالى:
وَارْزُقُوهُمْ فِيها وإنما قال: «أموالكم» ذكراً للجنس الذي جعله الله أموالاً للناس. وقال غيره: أضافها إِلى الولاة، لأنهم قوّامها. والخامس: أن القول على إِطلاقه، والمراد به كل سفيه يستحق الحجر عليه، ذكره ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي، وغيرهما، وهو ظاهر الآية.
وفي قوله تعالى: أَمْوالَكُمُ قولان: أحدهما: أنه أموال اليتامى. والثاني: أموال السفهاء.
قوله تعالى: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً قرأ الحسن: «اللاتي جعل الله لكم قِواماً» . وقرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، والكسائيّ، وأبو عمرو: «قياما» بالألف، وقرأ نافع، وابن عامر: «قَيِّماً» بغير ألف.
قال ابن قتيبة: قياماً وقواماً بمنزلة واحدة، تقول: هذا قوام أمرك وقيامه، أي: ما يقوم به أمرك. وذكر أبو علي الفارسي أن «قواماً» و «قياماً» و «قيماً» ، بمعنى القوام الذي يقيم الشأن، قال: وليس قول من قال «القيم» هاهنا: جمع «قيمة» بشيء.
قوله تعالى: وَارْزُقُوهُمْ فِيها أي: منها. وفي «القول المعروف» ثلاثة أقوال: أحدها: العدة الحسنة، قاله ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، ومقاتل. والثاني: الردّ الجميل، قاله الضحاك. والثالث:
الدعاء، كقولك: عافاك الله، قاله ابن زيد.
[سورة النساء (4) : آية 6]
وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)
قوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتامى.
(258) سبب نزولها أن رجلاً، يقال له: رفاعة، مات وترك ولداً صغيراً، يقال له: ثابت، فوليه عمّه، فجاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يحل لي من ماله؟ ومتى أدفع إِليه ماله؟ فنزلت هذه الآية، ذكر نحوه مقاتل.
والابتلاء: الاختبار. وبماذا يختبرون؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم يختبرون في عقولهم، قاله ابن عباس، والسدي، وسفيان، ومقاتل. والثاني: يختبرون في عقولهم ودينهم، قاله الحسن، وقتادة.
وعن مجاهد كالقولين. والثالث: في عقولهم ودينهم، وحفظهم أموالهم، ذكره الثعلبي. قال القاضي أبو يعلى: وهذا الابتلاء قبل البلوغ.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 8640 عن قتادة مرسلا، وذكره الواحدي في «أسبابه» 294 بدون إسناد.(1/371)
قوله تعالى: حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ قال ابن قتيبة: أي: بلغوا أن ينكحوا النساء فَإِنْ آنَسْتُمْ أي:
علمتم، وتبيّنتم. وأصل: أنست: أبصرت. وفي الرشد أربعة أقوال: أحدها: الصلاح في الدين، وحفظ المال، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: الصلاح في العقل، وحفظ المال، روي عن ابن عباس والسدي. والثالث: أنه العقل، قاله مجاهد، والنخعي. والرابع: العقل، والصلاح في الدين، روي عن السدي.
فصل: واعلم أن الله تعالى علَّق رفع الحجر عن اليتامى بأمرين: بالبلوغ والرشد، وأمر الأولياء باختبارهم، فإذا استبانوا رشدهم، وجب عليهم تسليم أموالهم إليهم.
والبلوغ يكون بأحد خمسة أشياء، ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء: الاحتلام، واستكمال خمس عشرة سنة، والإِنبات، وشيئان يختصان بالنساء: الحيض والحمل «1» .
قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً خطاب للأولياء، قال ابن عباس: لا تأكلوها بغير حقّ.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 38: واختلف العلماء في تأويل «رشدا» على أقوال- وذكرها- قال سعيد بن جبير والشعبي: إن الرجل ليأخذ بلحيته وما بلغ رشده، فلا يدفع إلى اليتيم ماله وإن كان شيخا حتى يؤنس منه رشده. وهكذا قال الضّحاك، وأكثر العلماء على أن الرشد لا يكون إلا بعد البلوغ، وعلى أنه إن لم يرشد بعد بلوغ الحلم وإن شاخ لا يزول الحجر عنه، وهو مذهب مالك وغيره. وقال أبو حنيفة: لا يحجر على الحرّ البالغ إذا بلغ مبلغ الرجال، ولو كان أفسق الناس وأشدهم تبذيرا إذا كان عاقلا. وبه قال زفر بن الهذيل، وهو مذهب النخعي. واحتجوا في ذلك بما رواه أنس أن حبّان بن منقذ كان يبتاع وفي عقدته ضعف، فقيل: يا رسول الله احجر عليه، فإنه يبتاع وفي عقدته ضعف. فاستدعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لا تبع» . فقال: لا أصبر. فقال له: «فإذا بايعت فقل لا خلابة ولك الخيار ثلاثا» . قالوا: فلما سأله القوم الحجر عليه لما كان من تصرفه من الغبن ولم يفعل عليه السلام، ثبت أن الحجر لا يجوز. وهذا لا حجة لهم فيه، لأنه مخصوص بذلك، فغيره بخلافه. وقال الشافعي: إن كان مفسدا لماله ودينه، أو كان مفسدا لماله دون دينه حجر عليه، وإن كان مفسدا لدينه مصلحا لماله فعلى وجهين: أحدهما يحجر عليه، وهو اختيار أبي العباس بن شريح.
والثاني: لا حجر عليه، وهو اختيار أبي إسحاق المروزيّ والأظهر من مذهب الشافعي. وإذا ثبت هذا فاعلم أن دفع المال يكون بشرطين: إيناس الرشد والبلوغ فإن وجد أحدهما دون الآخر لم يجز تسليم المال، كذلك نص الآية، وهو رواية ابن وهب عن مالك. وهو قول جماعة الفقهاء إلا أبا حنيفة وزفر والنخعي فإنهم أسقطوا إيناس الرشد ببلوغ خمس وعشرين سنة. قال أبو حنيفة: لكونه جدّا وهذا يدل على ضعف قوله حسب ما تقدم وماذا يعني كونه جدّا إذا كان غير جدّ، أي بخت. إلا أن علماءنا شرطوا في الجارية دخول الزوج بها مع البلوغ، وحينئذ يقع الابتلاء في الرشد. ولم يره أبو حنيفة والشافعي. وفرّق علماؤنا بينهما بأن قالوا: الأنثى مخالفة للغلام لكونها محجوبة لا تعاني الأمور ولا تبرز لأجل البكارة فلذلك وقف فيها على وجود النكاح، فيه تفهم المقاصد كلها. والذكر بخلافها، فإنه بتصرفه وملاقاته للناس من أول نشئه إلى بلوغه يحصل له الاختبار، ويكمل عقله بالبلوغ، فيحصل له الغرض. وما قاله الشافعي أصوب. ثم زاد علماؤنا فقالوا: لا بد بعد الدخول من مضي مدة من الزمان تمارس فيها الأحوال. قال ابن عربي: وذكر علماؤنا في تحديدها أقوالا عديدة: منها الخمسة الأعوام والستة والسبعة في ذات الأب، وجعلوا في اليتيمة التي لا أب لها ولا وصي عليها عاما واحدا بعد الدخول وليس في هذا كله دليل، وتحديد الأعوام عسير. والمقصود من هذا كله داخل تحت قوله تعالى:
فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فتعين اعتبار الرشد ولكن يختلف إيناسه بحسب اختلاف حال الراشد. فاعرفه وركّب عليه واجتنب التحكّم الذي لا دليل عليه.(1/372)
وَبِداراً تُبادِرون أكل المال قبل بلوغ الصبِيّ وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ بماله عن مال اليتيم.
وفي الأكل بالمعروف أربعة أقوال: أحدها: أنه الأخذ على وجه القرض، وهذا مروي عن عمر، وابن عباس، وابن جبير، وأبي العالية، وعبيدة، وأبي وائل، ومجاهد، ومقاتل. والثاني: الأكل بمقدار الحاجة من غير إِسراف، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وعطاء، والنخعي، وقتادة، والسدي. والثالث: أنه الأخذ بقدر الأجرة إِذا عمل لليتيم عملاً، روي عن ابن عباس، وعائشة، وهي رواية أبي طالب، وابن منصور، عن أحمد رضي الله عنه. والرابع: أنه الأخذ عند الضرورة، فان أيسر قضاه، وإن لم يوسر، فهو في حل، وهذا قول الشعبي «1» .
فصل: واختلف العلماء هل هذه الآية محكمة أو منسوخة؟ على قولين:
أحدهما: محكمة، وهو قول عمر، وابن عباس، والحسن، والشعبي، وأبي العالية، ومجاهد، وابن جبير، والنخعي، وقتادة في آخرين. وحكمها عندهم أن الغني ليس له أن يأكل من مال اليتيم شيئاً، فأما الفقير الذي لا يجد ما يكفيه، وتشغله رعاية مال اليتيم عن تحصيل الكفاية، فله أن يأخذ قدر كفايته بالمعروف من غير إِسراف. وهل عليه الضمان إذا أيسر؟ فيه قولان لهم: أحدهما: أنه لا ضمان عليه، بل يكون كالأجرة له على عمله، وهو قول الحسن، والشعبي، والنخعي، وقتادة، وأحمد بن حنبل. والثاني: إذا أيسر وجب عليه القضاء، روي عن عمر وغيره، وعن ابن عباس أيضا كالقولين.
والقول الثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ «2» وهذا مروي عن ابن عباس ولا يصح.
قوله تعالى: فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ قال القاضي أبو يعلى: هذا على طريق الاحتياط لليتيم، والولي، وليس بواجب، فأما اليتيم، فإنه إذا كانت عليه بيِّنة، كان أبعد من أن يدّعي عدم القبض، وأما الوليّ، فإنه تظهر أمانته، ويسقط عنه اليمين عند إِنكار اليتيم للدَّفع.
وفي «الحسيب» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الشهيد، قاله ابن عباس، والسدّي، ومقاتل. والثاني:
أنه الكافي، من قولك: أحسبَني هذا الشيءُ، أي كفاني، والله حسيبي وحسيبك، أي: وكافينا، أي يكون حكماً بيننا كافيا، قال الشاعر «3» :
ونُقْفي وليد الحي إن كان جائعاً ... ونُحسِبُه إن كان ليس بجائع
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 464: قال الفقهاء: له أن يأكل من أقل الأمرين أجرة مثله أو قدر حاجته. واختلفوا هل يردّ إذا أيسر؟ على قولين: أحدهما: لا لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيرا وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي. لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل. قال أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ليس لي مال ولي يتيم؟ فقال: «كل من مال يتيمك غير مسرف ولا مبذر ولا متأثل مالا ومن غير أن تقي مالك- أو قال- تفدي مالك. والثاني: نعم لأن مال اليتيم على الحظر وإنما أبيح للحاجة فيردّ بدله كأكل مال الغير للمضطر لا عند الحاجة.
(2) النساء: 29.
(3) في «اللسان» : قفي نسب البيت لامرأة من بني قشير. ونقفيه أي نؤثره بالقفية وهي ما يؤثر به الصبي والضيف.(1/373)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8)
أي: نعطيه ما يكفيه حتى يقول: حسبي. قاله ابن قتيبة والخطابي. والثالث: أنه المحاسب، فيكون في مذهب جليس، وأكيل، وشريب، حكاه ابن قتيبة والخطّابيّ.
[سورة النساء (4) : آية 7]
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7)
قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ.
(259) سبب نزولها أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك ثلاث بنات وامرأة، فقام رجلان من بني عمّه، يقال لهما: قتادة، وعرفطة «1» فأخذوا ماله، ولم يعطيا امرأته، ولا بناته شيئاً، فجاءت امرأته إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكرت له ذلك، وشكت الفقر، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس. وقال قتادة: كانوا لا يورِّثون النساء، فنزلت هذه الآية.
والمراد بالرجال: الذكور، وبالنساء: الإِناث، صغاراً كانوا أو كبارا. و «النصيب» : الحظ من الشيء، وهو مجمل في هذه الآية، ومقداره معلوم من موضع آخر، وذلك مثل قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ «2» وقوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً «3» . والمفروض: الذي فرضه الله، وهو آكدُ من الواجب.
[سورة النساء (4) : آية 8]
وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8)
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 295 بدون إسناد، وأخرجه الطبري 8658 عن عكرمة مرسلا لكن باختصار. ونسبه السيوطي في «الدر» 2/ 217 لأبي الشيخ عن ابن عباس، وكذا ذكره الواحدي في «الوسيط» 2/ 14 عن ابن عباس في رواية الكلبي باختصار، وبدون إسناد.
- وورد مختصرا من حديث جابر وسيأتي أخرجه أبو نعيم وأبو موسى كما في «الإصابة» 4/ 487 قال أبو موسى: كذا قال: ليس لهما شيء، وأراد ليس يعطيان شيئا من ميراث أبيهما.
قال ابن حجر: قلت: راويه عن سفيان هو إبراهيم بن هراسة ضعيف، وقد خالفه بشر بن المفضل عن عبد الله بن محمد عن جابر أخرجه أبو داود من طريقه قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى جئنا امرأة من الأنصار في الأسواق، فجاءت المرأة بابنتين لها فقالت: يا رسول الله، هاتان بنتا ثابت بن قيس قتل معك يوم أحد، وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما كله فلم يدع لهما مالا إلا أخذه، فما ترى يا رسول الله؟ فو الله لا تنكحان أبدا إلا ولهما مال، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يقضي الله في ذلك» ونزلت سورة النساء يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ الآية، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ادعوا لي المرأة وصاحبها» فقال لعمهما «أعطهما الثلثين، وأعط أمهما الثمن، وما بقي فلك» قال أبو داود: أخطأ بشر فيه إنما هما ابنتا سعد بن الربيع، وثابت بن قيس قتل يوم اليمامة. وانظر «الإصابة في تمييز الصحابة» 4/ 487- 488 ترجمة أم كجّة، وهو عند أبي داود 2891 و 2892 والترمذي 2092 وابن ماجة 2720 وأحمد 3/ 352 والحاكم 4/ 334 والواحدي 298 والبيهقي 6/ 229 من حديث جابر بنحو سياق المصنف، وليس فيه تسمية المرأة بل فيه أن امرأة سعد بن الربيع، والحديث حسن الإسناد.
__________
(1) في «أسباب النزول للواحدي» 295 سويد وعرفجة، وفي «الدرّ المنثور» 2/ 217. [.....]
(2) الأنعام: 141.
(3) التوبة: 103.(1/374)
قوله تعالى: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى في هذه القسمة قولان: أحدهما: قسمة الميراث بعد موت الموروث، فعلى هذا يكون الخطاب للوارثين، وبهذا قال الأكثرون، منهم ابن عباس، والحسن، والزهري. والثاني: أنها وصيّة الميّت قبل موته، فيكون مأموراً. بأن يعيّن لمن لا يرثه شيئاً، روي عن ابن عباس، وابن زيد. قال المفسّرون: والمراد بأولي القربى: الذين لا يرثون، فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ أي: أعطوهم منه، وقيل: أطعموهم، وهذا على الاستحباب عند الأكثرين، وذهب قوم إِلى أنه واجب في المال، فان كان الورثة كباراً، تولوا إِعطاءهم، وإِن كانوا صغاراً تولّى ذلك عنهم وليّ مالهم، فروي عن عبيدة أنه قسم مال أيتام، فأمر بشاة، فاشتريت من مالهم، وبطعام فصنع، وقال: لولا هذه الآية لأحببت أن يكون من مالي، وكذلك فعل محمّد بن سيرين في أيتامِ ولِيَهم، وكذلك روي عن مجاهد: أن ما تضمّنتْه هذه الآية واجب.
وفي «القول المعروف» أربعة أقوال: أحدها: أن يقول لهم الولي حين يعطيهم: خذ بارك الله فيك، رواه سالم الأفطس، عن ابن جبير. والثاني: أن يقول الولي: إِنه مال يتامى، وما لي فيه شيء، رواه أبو بشر عن ابن جبير، وفي رواية أخرى عن ابن جبير، قال: إِن كان الميت أوصى لهم بشيء أُنفذت لهم وصيَّتهم، وإِن كان الورثة كباراً رضخوا لهم، وإن كانوا صغاراً، قال وليُّهم: إِني لست أملك هذا المال، إِنما هو للصغار، فذلك القول المعروف. والثالث: أنه العِدَة الحسنة، وهو أن يقول لهم أولياء الورثة: إِن هؤلاء الورثة صغار، فاذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقكم. رواه عطاء بن دينار، عن ابن جبير. والرابع: أنهم يُعْطَوْنَ من المال، ويقال لهم عند قسمة الأرضين والرقيق: بورك فيكم، وهذا القول المعروف. قال الحسن والنخعي: أدركنا الناس يفعلون هذا.
فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنها محكمة، وهو قول أبي موسى الأشعري، وابن عباس، والحسن، وأبي العالية، والشعبي، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والنخعي، والزهري، وقد ذكرنا أن ما تضمنته من الأمر مستحب عند الأكثرين، وواجب عند بعضهم.
والقول الثاني: أنها منسوخة، نسخها قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ رواه مجاهد عن ابن عباس، وهو قول سعيد بن المسيّب، وعكرمة، والضّحّاك، وقتادة في آخرين «1» .
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 48: بين الله تعالى أن من لم يستحق شيئا إرثا وحضر القسمة، وكان من الأقارب أو اليتامى والفقراء الذين لا يرثون أن يكرموا ولا يحرموا، إن كان المال كثيرا، والاعتذار إليهم إذا كان عقارا أو قليلا لا يقبل الرضخ. وإن كان عطاء من قليل ففيه أجر عظيم، درهم يسبق مائة ألف فالآية على هذا القول محكمة قاله ابن عباس وامتثل ذلك جماعة من التابعين: عروة بن الزبير وغيره، وأمر به أبو موسى الأشعري. وروي عن ابن عباس أنها منسوخة نسخها قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ والأول أصح. فإنها مبينة استحقاق الورثة لنصيبهم، واستحباب المشاركة لمن لا نصيب له ممن حضرهم. قال ابن جبير: ضيّع الناس هذه الآية. قال الحسن: هي ثابتة- محكمة- ولكن الناس شحّوا. وفي البخاري عن ابن عباس في قوله تعالى وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ قال: هي محكمة وليست بمنسوخة. وفي رواية قال: إن ناسا زعموا أن هذه الآية نسخت، لا والله ما نسخت! لكنها مما تهاون بها، هما واليان: وال يرث، وذلك الذي يرزق، ووال لا يرث وذلك الذي يقول بالمعروف، ويقول: لا أمل.
لك أن أعطيك. قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين عند قسمة مواريثهم أن يصلوا أرحامهم، ويتاماهم ومساكينهم من الوصية، فإن لم تكن وصية وصى لهم من الميراث. قال النحاس: فهذا أحسن ما قيل في الآية، أن يكون على الندب والترغيب في فعل الخير والشكر لله عز وجل. وقالت طائفة: هذا الرضخ- العطاء القليل- واجب على جهة الفرض، تعطي الورثة لهذه الأصناف ما طابت به نفوسهم، كالماعون والثوب الخلق وما خف. حكى هذا القول ابن عطية والقشيري. والصحيح أن هذا على الندب، لأنه لو كان فرضا لكان استحقاقا في التركة ومشاركة في الميراث، لأحد الجهتين معلوم وللآخر مجهول. وذلك مناقض للحكمة، وسبب للتنازع والتقاطع.(1/375)
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9)
[سورة النساء (4) : آية 9]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)
قوله تعالى: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً اختلفوا في المخاطب بهذه الآية على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه خطاب للحاضرين عند الموصي. وفي معنى الآية على هذا القول قولان:
أحدهما: وليخش الذين يحضرون موصياً في ماله أن يأمروه بتفريقه فيمن لا يرثه، فيفرّقه ويترك ورثته، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل.
والثاني: على الضدّ من هذا القول، وهو أنه نهي لحاضري الموصي أن يمنعوه من الوصية لأقاربه، وأن يأمروه بالاقتصار على ولده، وهذا قول مقسم، وسليمان التيمي في آخرين.
والقول الثاني: أنه خطاب لأولياء اليتامى، متعلّق بقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً فمعنى الكلام: أحسنوا فيمن وليتم من اليتامى، كما تحبّون أن يحسن ولاة أولادكم بعدكم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، وابن السائب.
والثالث: أنه خطاب للأوصياء أمروا بأداء الوصيّة على ما رسم الموصي، وأن تكون الوجوه التي عينها مرعيّة بالمحافظة كرعي الذرّية الضعاف من غير تبديل، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ «1» فأمر الوصي، بهذه الآية إِذا وجد ميلاً عن الحق أن يستعمل قضيّة الشرع، ويصلح بين الورثة، ذكره شيخنا علي بن عبيد الله، وغيره في «الناسخ والمنسوخ» ، فعلى هذا تكون الآية منسوخة، وعلى ما قبله تكون محكمة.
و «الضعاف» : جمع ضعيف، وهم الأولاد الصغار، وقرأ حمزة: ضعافاً، بإمالة العين.
قال أبو علي: ووجهها: أن ما كان على «فعال» وكان أوله حرفاً مستعلياً مكسوراً، نحو ضعاف، وقفاف، وخفاف حسنت فيه الإِمالة، لأنه قد يُصَعَّدُ بالحرف المستعلي، ثم يُحْدرُ بالكسر، فيستحب أن لا يُصَعَّد بالتفخيم بعد التصوُّب بالكسر، فيجعل الصوت على طريقة واحدة، وكذلك قرأ حمزة:
خافُوا عَلَيْهِمْ بامالة الخاء، والإِمالة هاهنا حسنة، وإِن كانت «الخاء» حرفاً مستعلياً، لأنه يطلب
__________
(1) البقرة: 182.(1/376)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
الكسرة التي في «خِفت» فينحو نحوها بالإِمالة. والقول السّديد: الصّواب.
[سورة النساء (4) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً في سبب نزولها قولان: أحدهما: أن رجلاً من غطفان، يقال له: مرثد بن زيد، ولي مال ابن أخيه، فأكله، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل بن حيان «1» . والثاني: أن حنظلة بن الشمردل ولي يتيما، فأكل ماله، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض المفسرين. وإنما خصّ الأكل بالذكْر، لأنه معظم المقصود، وقيل: عبّر به عن الأخذ.
قال سعيد بن جبير: ومعنى الظلم: أن يأخذه بغير حق. وأما ذكر «البطون» فللتوكيد، كما تقول:
نظرت بعيني، وسمعت بأذني. وفي المراد بأكلهم النار قولان:
أحدهما: أنهم سيأكلون يوم القيامة ناراً، فسمي الأكل بما يؤول إليه أمرهم، كقوله تعالى:
أَعْصِرُ خَمْراً «2» قال السدي: يبعث آكل مال اليتيم ظلماً، ولهب النار يخرج مِن فيه، ومن مسامعه، وأذنيه، وأنفه، وعينيه، يعرفه مَن رآه يأكل مال اليتيم.
والثاني: أنه مَثَل. معناه: يأكلون ما يصيرون به إلى النّار، كقوله تعالى: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ «3» أي: رأيتم أسبابه.
قوله تعالى: وَسَيَصْلَوْنَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي، «وسيصلون» بفتح الياء، وقرأ الحسن، وابن عامر، بضم الياء، ووافقهما ابن مقسم، إِلاَّ أنه شدّد. والمعنى:
سيُحرَّقون بالنار، ويُشْوَوْن. والسعير: النار المستعرة، واستِعار النارِ: توقُّدها.
فصل: وقد توهم قومٌ لا علم لهم بالتفسير وفقهه، أن هذه الآية منسوخة، لأنهم سمعوا أنها لما نزلت، تحرج القوم عن مخالطة اليتامى، فنزل قوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «4» وهذا غلط، وإِنما ارتفع عنهم الحرج بشرط قصد الإصلاح، لا على إباحة الظّلم.
[سورة النساء (4) : آية 11]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)
قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
__________
(1) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 296 عن مقاتل بن حيان بدون إسناد، فهذه علة، ومقاتل ذو مناكير، وخبره معضل، فهو لا شيء.
(2) يوسف: 36.
(3) آل عمران: 143.
(4) البقرة: 220.(1/377)
(260) أحدها: أن جابر بن عبد الله مرض، فعاده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: كيف أصنع في مالي يا رسول الله، فنزلت هذه الآية، رواه البخاري ومسلم.
(261) والثاني: أنّ امرأة جاءت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بابنتين لها، فقالت: يا رسول الله قُتِل أبو هاتين معك يوم أحد، وقد استفاء «1» عمهما مالهما، فنزلت، روي عن جابر بن عبد الله أيضاً.
(262) والثالث: أن عبد الرحمن أخا حسان بن ثابت مات، وترك امرأة، وخمس بنات، فأخذ ورثته ماله، ولم يعطوا امرأته، ولا بناته شيئاً، فجاءت امرأته تشكو إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، هذا قول السدي.
قال الزجاج: ومعنى يوصيكم: يفرض عليكم، لأن الوصيّة منه فرض «2» . وقال غيره: إنما ذكره بلفظ الوصية لأمرين: أحدهما: أن الوصية تزيد على الأمر، فكانت آكد. والثاني: أن في الوصية حقاً للموصي، فدل على تأكيد الحال بإضافته إلى حقه. وقرأ الحسن. وابن أبي عبلة: «يوصِّيكم» بالتشديد.
قوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يعني، للابن من الميراث مثل حظ الأنثيين. ثم ذكر نصيب الإِناث من الأول فقال فَإِنْ كُنَّ يعني: البنات نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ وفي قوله تعالى: فَوْقَ قولان: أحدهما: أنها زائدة، كقوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ. والثاني: أنها بمعنى الزيادة. قال القاضي أبو يعلى: إنما نص على ما فوق الاثنتين، والواحدة، ولم ينص على الاثنتين، لأنه لما جعل لكل واحدة مع الذكر الثلث، كان لها مع الأنثى الثلث أولى.
قوله تعالى: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً قرأ الجمهور بالنصب، وقرأ نافع بالرفع، على معنى: وإِن وقعت، أو وجدت واحدة.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4577 ومسلم 1616 وأبو داود 2886 والترمذي 3015 وابن ماجة 1436 و 2728 واستدركه الحاكم 2/ 303 من حديث جابر.
حسن. أخرجه أبو داود 2891 و 2892 والترمذي 2092 وابن ماجة 2720 وأحمد 3/ 352 والحاكم 4/ 334 والواحدي 298 والبيهقي 6/ 229 من حديث جابر، وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو حسن لأن مداره على عبد الله بن محمد بن عقيل، وهو حسن الحديث. وانظر الحديث المتقدم برقم 259 وانظر «تفسير الشوكاني» 607 بتخريجنا.
ضعيف. أخرجه الطبري 8727 عن أسباط عن السدي مرسلا فهو ضعيف.
__________
(1) في «اللسان» : الاستيفاء: استرجع حقهما من الميراث وجعله فيئا له.
(2) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 59- 60: اعلم أن الميراث كان يستحق في أول الإسلام بأسباب:
منها الحلف، والهجرة والمعاقدة. ثم نسخ على ما يأتي بيانه في هذه السورة. وأجمع العلماء على أن الأولاد إذا كان معهم من له فرض مسمّى أعطيه، وكان ما بقي من المال للذكر مثل حظ الأنثيين لقوله عليه السلام:
«ألحقوا الفرائض بأهلها» رواه الأئمة. يعني الفرائض الواقعة في كتاب الله تعالى وهي ستة ... والأسباب الموجبة لهذه الفروض بالميراث ثلاثة أشياء: نسب ثابت ونكاح منعقد، وولاء عتاقة ... ولا ميراث إلا بعد أداء الدين والوصية فإذا مات المتوفى أخرج من تركته الحقوق المعينات، ثم ما يلزم من تكفينه وتقبيره، ثم الديون على مراتبها ثم يخرج من الثلث الوصايا، وما كان في معناها على مراتبها أيضا، ويكون الباقي ميراثا بين الورثة.(1/378)
قوله تعالى: وَلِأَبَوَيْهِ قال الزجاج: أبواه تثنية أَبٍ وأبة، والأصل في الأم أن يقال لها: أبة، ولكن استغنى عنها بأم، والكناية في قوله «لأبويه» عن الميت وإن لم يجرِ له ذكر.
وقوله تعالى: فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ أي: إِذا لم يخلف غير أبوين، فثلث ماله لأمه، والباقي للأب، وإِنما خص الأم بالذّكر، لأنه لو اقتصر على قوله تعالى: وَوَرِثَهُ أَبَواهُ ظنّ الظان أن المال يكون بينهما نصفين، فلما خصّها بالثلث، دل على التفضيل.
وقرأ ابن كثير، ونافع وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: فَلِأُمِّهِ وفِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ «1» وفِي أُمِّها «2» وفِي أُمِّ الْكِتابِ بالرفع. وقرأ حمزة والكسائي كل ذلك بالكسر إذا وصلا، وحجتهما: أنهما أتبعا الهمزة ما قبلها، من ياء أو كسرة.
قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ أي: مع الأبوين، فإنهم يحجبون الأم عن الثلث، فيردونها إلى السدس، واتفقوا على أنهم إذا كانوا ثلاثة إخوة حجبوا، فإن كانا أخوين، فهل يحجبانها؟ فيه قولان:
أحدهما: يحجبانها عن الثلث، قاله عمر، وعثمان، وعلي، وزيد، والجمهور. والثاني: لا يحجبها إِلا ثلاثة، قاله ابن عباس، واحتج بقوله: إِخوة. والأخوة: اسم جمع، واختلفوا في أقل الجمع، فقال الجمهور: أقله ثلاثة، وقال قوم: اثنان، والأول: أصح. وإِنما حجب العلماء الأم بأخوين لدليل اتفقوا عليه، وقد يُسمّى الاثنان بالجمع، قال الزجاج: جميع أهل اللغة يقولون: إن الأخوين جماعة، وحكى سيبويه أن العرب تقول: وضعا رحالهما، يريدون: رَحْلَي راحلتيهما.
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ أي: هذه السهام إِنما تقسم بعد الوصيّة والدّين. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وأبو بكر، عن عاصم «يوصَى بها» بفتح الصاد في الحرفين. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «يوصي» فيهما بالكسر، وقرأ حفص، عن عاصم الأولى بالكسر، والثانية بالفتح.
واعلم أن الدَّين مؤخّر في اللفظ، مقدم في المعنى، لأن الدين حق عليه، والوصيّة حق له، وهما جميعا مقدمان على حق الورثة إِذا كانت الوصيّة في ثلث المال، و «أو» لا توجب الترتيب، إِنما تدل على أن أحدهما إِن كان، فالميراث بعده، وكذلك إن كانا.
قوله تعالى: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فيه قولان: أحدهما: أنه النفع في الآخرة، ثم فيه قولان: أحدهما: أن الوالد إذا كان أرفع درجة من ولده، رفع إليه ولده، وكذلك الولد، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. والثاني: أنه شفاعة بعضهم في بعض، رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس. والقول الثاني: أنه النفع في الدنيا، قاله مجاهد. ثم في معناه قولان: أحدهما: أن المعنى:
لا تدرون هل موت الآباء أقرب، فينتفع الأبناء بأموالهم، أو موت الأبناء، فينتفع الآباء بأموالهم؟ قاله ابن بحر. والثاني: أن المعنى: أن الآباء والأبناء يتفاوتون في النفع، حتى لا يدري أيهم أقرب نفعاً، لأن الأولاد ينتفعون في صغرهم بالآباء، والآباء ينتفعون في كبرهم بالأبناء، ذكره القاضي أبو يعلى.
وقال الزجاج: معنى الكلام: أن الله قد فرض الفرائض على ما هو عنده حكمة. ولو وكل ذلك إِليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم، فتضعون الأموال على غير حكمة. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بما يصلح
__________
(1) الزمر: 6.
(2) القصص: 59.(1/379)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
خلقه، حَكِيماً فيما فرض. وفي معنى «كان» ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناها: كان عليماً بالأشياء قبل خلقها، حكيماً فيما يقدِّر تدبيره منها، قاله الحسن. والثاني: أن معناها: لم يزل. قال سيبويه: كأنّ القوم شاهدوا علما وحكمة، فقيل له: إن الله كان كذلك، أي: لم يزل على ما شاهدتم، ليس ذلك بحادث. والثالث: أن لفظة «كان» في الخبر عن الله عزّ وجلّ يتساوى ماضيها ومستقبلها، لأن الأشياء عنده على حال واحدة، ذكر هذه الأقوال الزجّاج.
[سورة النساء (4) : آية 12]
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
قوله تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً قرأ الحسن: «يُوَرِّثُ» بفتح الواو، وكسر الراء مع التشديد. وفي الكلالة أربعة أقوال: أحدها: أنها ما دون الوالد والولد، قاله أبو بكر الصّدّيق. وقال عمر بن الخطاب: أتى عليّ حين وأنا لا أعرف ما الكلالة، فإذا هو: من لم يكن له والد ولا ولد، وهذا قول علي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وعطاء، والزهري، وقتادة، والفراء، وذكر الزجاج عن أهل اللغة، أن «الكلالة» : من قولهم: تكلله النسب، أي: لم يكن الذي يرثه ابنه، ولا أباه. قال: والكلالة سوى الوالد والولد، وإنما هو كالاكليل على الرأس. وذكر ابن قتيبة عن أبي عبيدة أنه مصدر تكلله النسب: إذا أحاط به. والابن والأب: طرفان للرجل. فاذا مات، ولم يخلفهما، فقد مات عن ذهاب طرفيه، فسمّي ذهاب الطّرفين: كلالة. والثاني: أن الكلالة: من لا ولد له، رواه ابن عباس، عن عمر بن الخطاب، وهو قول طاوس. والثالث: أن الكلالة: ما عدا الوالد، قاله الحكم. والرابع: أن الكلالة: بنو العم الأباعد، ذكره ابن فارس، عن ابن الأعرابي «1» .
واختلفوا على ما يقع اسم الكلالة على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اسم للحي الوارث، وهذا مذهب أبي بكر الصديق، وعامة العلماء الذين قالوا: إن الكلالة مِن دون الوالد والولد، فانهم قالوا: الكلالة:
اسم للورثة إِذا لم يكن فيهم ولد ولا والد، قال بعض الأعراب: مالي كثير، ويرثني كلالة متراخ
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 470: الكلالة مشتقة من الإكليل وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه كما روي عن أبي بكر أنه سئل عن الكلالة فقال: أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه: الكلالة من لا ولد له ولا والد. وقد حكى الإجماع عليه غير واحد وورد فيه حديث مرفوع. قال أبو الحسين بن اللبان:
وقد روي عن ابن عباس ما يخالف ذلك وهو أنه من لا ولد له والصحيح عنه الأول ولعل الراوي ما فهم عنه ما أراد.(1/380)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)
نسبهم. والثاني: أنه اسم للميت، قاله ابن عباس: والسدي، وأبو عبيدة في جماعة. قال القاضي أبو يعلى: الكلالة: اسم للميت، ولحاله، وصفته، ولذلك انتصب. والثالث: أنه اسم للميت والحي، قاله ابن زيد.
وفيما أخذت منه الكلالة قولان: أحدهما: أنه اسم مأخوذ من الإِحاطة، ومنه الاكليل، لإحاطته بالرأس. والثاني: أنه مأخوذ من الكلال، وهو التعب، كأنه يصل إلى الميراث من بُعد وإِعياء. قال الأعشى:
فآليتُ لا أرثي لها من كلالةٍ ... ولا من حفى حتّى تزور محمّدا
قوله تعالى: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ يعني: من الأم بإجماعهم.
قوله تعالى: فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ قال قتادة: ذكرهم وأنثاهم فيه سواء.
قوله تعالى: غَيْرَ مُضَارٍّ قال الزجاج: «غير» منصوب على الحال، والمعنى: يوصي بها غير مضار، يعني: للورثة.
[سورة النساء (4) : آية 13]
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)
قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ قال ابن عباس: يريد ما حدَّ الله من فرائضه في الميراث وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في شأن المواريث يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ قرأ ابن عامر، ونافع: «ندخله» بالنون في الحرفين جميعاً، والباقون بالياء فيهما.
[سورة النساء (4) : آية 14]
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
قوله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ فلم يرض بقسمه يُدْخِلْهُ ناراً، فان قيل: كيف قطع للعاصي بالخلود؟ فالجواب: أنه إِذا ردَّ حكم الله، وكفر به، كان كافرا مخلدا في النار.
[سورة النساء (4) : آية 15]
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15)
قوله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ قال الزجاج: «التي» تجمع اللاتي واللواتي. قال الشاعر:
من اللواتي والتي واللاتي ... زعمن أني كَبِرتْ لِدَاتي «1»
وتجمع اللاتي بإثبات التاء وحذفها. قال الشاعر:
من اللاتي لم يحججن يبغين حِسبة ... ولكن لِيَقْتُلْنَ البريء المغفَّلا
والفاحشة: الزنى في قول الجماعة.
__________
(1) قال البغدادي في «خزانة الأدب» 2/ 560 لا أعرف ما قبله ولا قائله مع كثرة وجوده في كتب النحو، وهو في «القرطبي» قال الجوهري: أنشد أبو عبيدة. وفي «اللسان» : أنشده أبو عمرو- مادة لتا [.....](1/381)
وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
وفي قوله تعالى: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ قولان: أحدهما: أنه خطاب للأزواج. والثاني: خطاب للحكام، فالمعنى: اسمعوا شهادة أربعة منكم، ذكرهما الماوردي. قال عمر بن الخطاب: إنما جعل الله عزّ وجلّ الشهود أربعة ستراً ستركم به دون فواحشكم. ومعنى «منكم» : من المسلمين. قوله تعالى:
فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ قال ابن عباس: كانت المرأة إِذا زنت، حبست في البيت حتى تموت، فجعل الله لهن سبيلا، وهو الجلد أو الرجم.
[سورة النساء (4) : آية 16]
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)
قوله تعالى: وَالَّذانِ قرأ ابن كثير: «واللذانّ» بتشديد النون، و «هذانّ» في طه والحج و «هاتين» في القصص: «إحدى ابنتيّ هاتينّ» و «فذانّك» كله بتشديد النون. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، بتخفيف ذلك كله، وشدد أبو عمرو «فذانِّك» وحدها.
وقوله: واللذان: يعني: الزانيين. وهل هو عام، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه عامٌّ في الأبكار والثُّيَّب من الرجال والنساء، قاله الحسن، وعطاء.
والثاني: أنه خاص في البكرين إِذا زنيا، قاله أبو صالح، والسدّي، وابن زيد، وسفيان. قال القاضي أبو يعلى: والأول أصح، لأن هذا تخصيص بغير دلالة.
قوله تعالى: يَأْتِيانِها يعني الفاحشة. قوله تعالى فَآذُوهُما فيه قولان: أحدهما: أنه الأذى بالكلام، والتعيير، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والسدي، والضحاك، ومقاتل.
والثاني: أنه التعيير، والضرب بالنعال، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس. فَإِنْ تابا من الفاحشة وَأَصْلَحا العمل فَأَعْرِضُوا عن أذاهما. وهذا كله كان قبل الحد.
فصل: كان حد الزانيين، فيما تقدم، الأذى لهما، والحبس للمرأة خاصة، فنسخ الحكمان جميعا، واختلفوا بماذا وقع نسخهما:
(263) فقال قوم بحديث عبادة بن الصامت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، الثَّيِّب بالثَّيب جلد مائة، ورجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة، ونفي سنة» وهذا على قول من يرى نسخ القرآن بالسنة.
وقال قوم: نسخ بقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ «1» قالوا: وكان قوله
__________
صحيح. أخرجه مسلم 1690 وأبو داود 4415 و 4416 والترمذي 1434 والنسائي في «التفسير» 113 وابن ماجة 2550 والشافعي في «الرسالة» 686 وعبد الرزاق 13359 وابن أبي شيبة 10/ 80 والطيالسي 584 والدارمي 2/ 181 وابن الجارود 810 وأحمد 5/ 313- 317 وابن حبان 4408 و 4409 و 4410 والطحاوي في «المعاني» 3/ 134 من طرق كلهم من حديث عبادة بن الصامت.
__________
(1) النور: 2.(1/382)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17)
تعالى وَالَّذانِ يَأْتِيانِها للبكرين، فنسخ حكمها بالجلد، ونسخ حكم الثيّب من النساء بالرجم «1» .
وقال قوم: يحتمل أن يكون النسخ وقع بقرآن، ثم رفع رسمه، وبقي حكمه. لأن في حديث عبادة «قد جعل الله لهن سبيلا» والظاهر: أنه جعل بوحي لم تستقر تلاوته. قال القاضي أبو يعلى: وهذا وجه صحيح، يخرج على قول من لم ينسخ القرآن بالسنة. قال: ويمتنع أن يقع النسخ بحديث عبادة، لأنه من أخبار الآحاد، والنسخ لا يجوز بذلك.
[سورة النساء (4) : آية 17]
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17)
قوله تعالى: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ قال الحسن: إِنما التوبة التي يقبلها الله. فأما «السوء» ، فهو المعاصي، سمي سوءاً لسوء عاقبته.
قوله تعالى: بِجَهالَةٍ قال مجاهد: كل عاصٍ فهو جاهل حين معصيته. وقال الحسن، وعطاء، وقتادة، والسدي في آخرين: إنما سُمّوا جهالاً لمعاصيهم، لا أنهم غير مُميّزين.
وقال الزجاج: ليس معنى الآية أنهم يجهلون أنه سوء، لأن المسلم لو أتى ما يجهله، كان كمن لم يوقع سوءاً، وإنما يحتمل أمرين: أحدهما: أنهم عملوه، وهم يجهلون المكروه فيه. والثاني: أنهم أقدموا على بصيرة وعلم بأن عاقبته مكروهة، وآثروا العاجل على الآجل، فسموا جُهَّالاً، لإِيثارهم القليل على الرّاحة الكثيرة، والعاقبة الدّائمة.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 472: كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة حبست في بيت فلا تمكن من الخروج إلى أن تموت والسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك. قال ابن عباس رضي الله عنه: كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم.
وقال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 83- 84: قوله تعالى (فآذوهما) قال قتادة والسدي معناه التوبيخ والتعبير وقالت فرقة: هو السب والجفاء دون تعيير. ابن عباس: النيل باللسان والضرب بالنعال قال النحاس:
وزعم قوم أنه منسوخ. قلت: رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: (واللاتي يأتين الفاحشة) و (اللذان يأتيانها) كان في أول الأمر فنسختهما الآية التي في النور وقيل وهو أولى: إنه ليس بمنسوخ، وأنه واجب أن يؤدبا بالتوبيخ فيقال لهما: فجرتما وفسقتما وخالفتما أمر الله عز وجل.
واختلف العلماء أيضا في القول بمقتضى حديث عبادة الذي هو بيان لأحكام الزناة فقال بمقتضاه علي بن أبي طالب لا اختلاف عنه في ذلك، وأنه جلد شراحة الهمدانية مائة ورجمها بعد ذلك، وقال جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال بهذا القول الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي وإسحاق وقال جماعة من العلماء: بل على الثيب الرجم بلا جلد وهذا يروى عن عمر وهو قول الزهري والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي وأحمد وأبي ثور، متماسكين بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم رجم ماعزا والغامدية ولم يجلدهما وبقوله عليه السّلام لأنيس: «اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها» ولم يذكر الجلد، فهو لو كان مشروعا لما سكت عنه. قيل لهم: إنما سكت عنه، لأنه ثابت بكتاب الله تعالى، فليس يمتنع أن يسكت عنه لشهرته والتنصيص عليه في القرآن، لأن قوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ يعم جميع الزناة والله أعلم. ويبين هذا فعل علي بأخذه عن الخلفاء رضي الله عنهم ولم ينكر عليه فقيل له:
عملت بالمنسوخ وتركت الناسخ. وهذا واضح.(1/383)
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)
وفي «القريب» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه التوبة في الصحة، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال السدي، وابن السائب. والثاني: أنه التوبة قبل معاينة ملك الموت. رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال أبو مجلز. والثالث: أنه التوبة قبل الموت، وبه قال ابن زيد في آخرين.
[سورة النساء (4) : آية 18]
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)
قوله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ في السيئات ثلاثة أقوال: أحدها:
الشرك، قاله ابن عباس، وعكرمة. والثاني: أنها النفاق، قاله أبو العالية، وسعيد بن جبير. والثالث:
أنها سيئات المسلمين، قاله سفيان الثوري، واحتجّ بقوله تعالى: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ.
قوله تعالى: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ في الحضور قولان: أحدهما: أنه السَّوْق «1» ، قاله ابن عمر. والثاني: أنه معاينة الملائكة لقبض الروح، قاله أبو سليمان الدمشقي. وقد روى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس أنه قال: أنزل الله تعالى بعد هذه الآية إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «2» الآية.
فحرّم المغفرة على مَن مات مشركاً، وأرجأ أهل التّوحيد إلى مشيئته، فعلى هذا تكون منسوخة في حق المؤمنين.
[سورة النساء (4) : آية 19]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً.
(264) سبب نزولها: أن الرجل كان إِذا مات، كان أولياؤه أحق بامرأته، إِن شاؤوا زوجوها، وإِن شاؤوا لم يزوّجوها، فنزلت هذه الآية. قاله ابن عباس. وقال في رواية أخرى: كانوا في أول الإِسلام إِذا مات الرجل، قام أقرب الناس منه، فيُلقي على امرأته ثوباً، فيرث نكاحها. وقال مجاهد: كان إِذا توفي الرجل، فابنه الأكبر أحق بامرأته، فينكحها إِن شاء، أو يُنكحها من شاء.
(265) وقال أبو أمامة بن سهل بن حنيف: لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته من بعده، وكان ذلك لهم في الجاهلية، فنزلت هذه الآية.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4579 و 6948 وأبو داود 2089 والنسائي في «التفسير» 114 والطبري 8870 والبيهقي 7/ 138 والواحدي في «الأسباب» 299 عن ابن عباس.
حسن، أخرجه النسائي في تفسيره 115 والطبري 8871 عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف وحسّن إسناده الحافظ في «الفتح» 8/ 247، وهو كما قال. وله شاهد من مرسل عكرمة، أخرجه الطبري 8874.
__________
(1) في «اللسان» : السّوق أي الموت والسّياق: نزع الروح كأن روحه تساق لتخرج من بدنه.
(2) النساء: 116.(1/384)
قال عكرمة، واسم هذه المرأة: كبيشة بنت معن بن عاصم «1» ، وكان هذا في العرب. وقال أبو مجلز: كانت الأنصار تفعله. وقال ابن زيد: كان هذا في أهل المدينة. وقال السّدي: إنما كان ذلك للأولياء ما لم تسبق المرأة، فتذهب إِلى أهلها، فإن ذهبت، فهي أحق بنفسها.
وفي معنى قوله تعالى: أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً قولان: أحدهما: أن ترثوا نكاح النساء، وهذا قول الجمهور. والثاني: أَن ترثوا أموالهن كرهاً. روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: كان يُلقي حميم «2» الميت على الجارية ثوباً، فان كانت جميلة تزوجها، وإِن كانت دَميمة حبسها حتى تموت، فيرثها.
واختلف القراء في فتح كاف «الكره» وضمّها في أربعة مواضع: هاهنا، وفي التوبة، وفي الأحقاف في موضعين، فقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو بفتح الكاف فيهن، وضمهن حمزة. وقرأ عاصم، وابن عامر بالفتح في النّساء والتّوبة، وبالضم في الأحقاف. وهما لغتان، قد ذكرناهما في البقرة. وفيمن خوطب بقوله تعالى: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه خطاب للأزواج، ثم في العضل الذي نهى عنه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرجل كان يكره صحبة امرأته، ولها عليه مهر، فيحبسها، ويضربها لتفتدي، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك، والسدي. والثاني: أن الرجل كان ينكح المرأة الشريفة، فلعلها لا توافقه، فيفارقها على أن لا تتزّوج إِلاّ بإذنه، ويشهد على ذلك، فاذا خطبت، فأرضته، أذن لها، وإِلا عضلها، قاله ابن زيد. والثالث: أنهم كانوا بعد الطلاق يعضلون، كما كانت الجاهلية تفعل، فنهوا عن ذلك، روي عن ابن زيد أيضا. وقد ذكرنا في البقرة أن الرجل كان يطلق المرأة، ثم يراجعها، ثم يطلقها كذلك أبداً إِلى غير غاية، يقصد إِضرارها، حتى نزلت الطَّلاقُ مَرَّتانِ «3» .
والقول الثاني: أنه خطاب للأولياء، ثم في ما نهوا عنه ثلاثة أقوال: أحدها: أن الرجل كان في الجاهلية إذا كانت له قرابة قريبة، ألقى عليها ثوبه، فلم تتزّوج أبداً غيره إِلا بإذنه، قاله ابن عباس.
والثاني: أن اليتيمة كانت تكون عند الرجل، فيحبسها حتى تموت، أو تتزوّج بابنه، قاله مجاهد.
والثالث: أن الأولياء كانوا يمنعون النساء من التزويج، ليرثوهن، روي عن مجاهد أيضا.
والقول الثالث: انه خطاب لورثة أزواج النساء الذين قيل لهم: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً.
كان الرجل يرث امرأة قريبة، فيعضلها حتى تموت، أو تردّ عليه صداقها. هذا قول ابن عباس في آخرين «4» وعلى هذا يكون الكلام متّصلاً بالأول، وعلى الأقوال التي قبله يكون ذكر العضل منفصلاً عن
__________
(1) ورد عن عكرمة في أثناء خبر، أخرجه الطبري 8874 وانظر ما قبله.
(2) في «اللسان» الحميم: القرابة، وهو القريب الذي تودّه ويودّك.
(3) البقرة: 229.
(4) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 3/ 651 بعد أن ذكر أقوال السلف: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصحة في تأويل قوله تعالى وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ
قول من قال: نهى الله عز وجل زوج المرأة عن التضييق عليها والإضرار بها، وهو لصحبتها كاره ولفراقها محب، لتفتدي منه ببعض ما آتاها من الصداق. وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة، لأنه لا سبيل لأحد إلى عضل امرأة إلا لأحد الرجلين: إما لزوجها بالتضييق عليها وحبسها على نفسه وهو لها كاره، مضارة منه لها بذلك ليأخذ ما آتاها بافتدائها منه نفسها بذلك، أو لوليها الذي إليه نكاحها. والولي معلوما أنه ليس ممن آتاها شيئا فيقال إن عضلها عن النكاح: «عضلها ليذهب ببعض ما آتاها» .(1/385)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20)
قوله تعالى: أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ.
وفي الفاحشة قولان: أحدهما: أنها النشوز على الزوج، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة في جماعة. والثاني: الزنى، قاله الحسن، وعطاء، وعكرمة في جماعة.
قد روى معمر، عن عطاء الخراساني، قال: كانت المرأة إذا أصابت فاحشة، أخذ زوجها ما ساق إليها، وأخرجها، فنسخ ذلك بالحد. قال ابن جرير: وهذا القول ليس بصحيح، لأن الحد حق الله، والافتداء حق للزوج، وليس أحدهما مبطلاً للآخر، والصحيح: أنها إِذا أتت بأي فاحشةٍ كانت، من زنى الفرج، أو بذاءة اللسان، جاز له أن يعضلها، ويُضيِّق عليها حتى تفتدي. فأما قوله تعالى: مُبَيِّنَةٍ فقرأ ابن كثير، وأبو بكر، عن عاصم: «مُبيَّنة» ، و «آيات مبيَّنات» «1» بفتح الياء فيهما جميعاً. وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، وحفص، عن عاصم: بكسر الياء فيهما، وقرأ نافع، وأبو عمرو «مبينة» كسراً و «آيات مبينات» فتحا. وقد سبق ذكر «العِشرة» .
قوله تعالى: فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً قال ابن عباس: ربما رزق الله منهما ولداً، فجعل الله في ولدها خيراً كثيراً. وقد نَدَبت الآية إِلى إِمساكِ المرأة مع الكراهة لها، ونبَّهت على معنيين:
أحدهما: أن الإِنسان لا يعلم وُجوهَ الصلاح، فرب مكروهٍ عاد محموداً، ومحمودٍ عاد مذموماً.
والثاني: أن الإِنسان لا يكاد يجد محبوباً ليس فيه ما يكره، فليصبِر على ما يكره لما يُحِبُ. وأنشدوا في هذا المعنى:
وَمَن لم يُغَمِّضْ عيْنَه عن صديقه ... وعن بعض ما فيه يَمُتْ وهو عاتِبُ
ومن يتَتَبَّع جاهداً كل عَثْرَةٍ ... يجدها ولا يسلم له الدّهر صاحب
[سورة النساء (4) : آية 20]
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20)
قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ هذا الخطاب للرجال. والزوج: المرأة. وقد سبق ذكر «القنطار» في (آل عمران) .
قوله تعالى: فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً إنما ذلك في حق من وطئها، أو خلا بها، وقد بيّنَتْ ذلك الآية التي بعدها. قال القاضي أبو يعلى: وإنما خصّ النهي عن أخذ شيء مما أعطى بحال الاستبدال، وإن كان المنع عامّا، لئلّا يظنّ أنه لما عاد البضع إلى ملكها، وجب أن يسقط حقها من المهر، أو يظن ظان أن الثانية أولى بالمهر منها، لقيامها مقامها.
وفي البهتان قولان: أحدهما: أنه الظلم، قاله ابن عباس، وابن قتيبة. والثاني: الباطل، قاله الزجاج. ومعنى الكلام: أتأخذونه مباهتين آثمين.
__________
(1) النور: 34.(1/386)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
[سورة النساء (4) : آية 21]
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)
قوله تعالى: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ أي: كيف تستجيزون أخذه. وفي «الإِفضاء» قولان:
أحدهما: أنه الجماع، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة. والثاني: الخلوة بها، وإن لم يغشها، قاله الفراء.
وفي المراد بالميثاق هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الذي أخذه الله للنساء على الرجال الإِمساك بمعروف، أو التسريح بإحسان. هذا قول ابن عباس، والحسن، وابن سيرين، وقتادة، والضحاك، والسدي، ومقاتل. والثاني: أنه عقد النكاح، قاله مجاهد، وابن زيد. والثالث: أنه أمانة الله، قاله الرّبيع.
[سورة النساء (4) : آية 22]
وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22)
قوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ، قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية يحرّمون ما حرّم الله إلا امرأة الأب، والجمع بين الأختين، فنزلت هذه الآية.
(266) وقال بعض الأنصار: توفي أبو قيس بن الأسلت، فخطب ابنه قيس امرأته، فأتت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تستأذنه، وقالت: إنما كنت أعده ولداً، فنزلت هذه الآية.
قال أبو عمر غلام ثعلب: الذي حصلناه عن ثعلب، عن الكوفيين، والمبرّد عن البصريين، أن «النكاح» في أصل اللغة: اسم للجمع بين الشيئين. وقد سموا الوطء نفسه نكاحاً من غير عقد. قال الأعشى:
ومنكوحة غير ممهورة «1»
يعني المسبية الموطوءة بغير مهر ولا عقد. قال القاضي أبو يعلى: قد يطلق النكاح على العقد، قال الله تعالى: إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ «2» وهو حقيقة في الوطء، مجازا في العقد، لأنه اسم للجمع، والجمع: إنما يكون بالوطء، فسمّي العقد نكاحاً، لأنه سبّب إليه.
قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فيه ستة أقوال: أحدها: أنها بمعنى: بعد ما قد سلف، فإن الله يغفره، قاله الضحاك، والمفضّل. وقال الأخفش: المعنى: لا تنكحوا ما نكح آباؤكم، فإنكم تعذّبون به، إِلا ما قد سلف، فقد وضعه الله عنكم. والثاني: أنها بمعنى: سوى ما قد سلف، قاله الفرّاء.
__________
أخرجه البيهقي 7/ 161 من طريق أشعث بن سوار عن عدي بن ثابت الأنصاري، وقال البيهقي: هذا مرسل.
والمرسل من قسم الضعيف، ومع ذلك، أشعث بن سوار ضعيف كما في «التقريب» . و «المجروحين 1/ 171» ، وانظر ما تقدم آنفا.
__________
(1) هو صدر بيت وعجزه: وأخرى يقال له: فادها.
(2) الأحزاب: 49.(1/387)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23)
والثالث: أنها بمعنى: لكن ما قد سلف فدعوه، قاله قطرب. وقال ابن الأنباري: لكن ما قد سلف، فإنه كان فاحشة. والرابع: أن المعنى: ولا تنكحوا كنكاح آبائِكم النساء، أي: كما نكحوا على الوجوه الفاسدة التي لا تجوز في الإسلام إِلا ما قد سلف في جاهليّتكم، من نكاح لا يجوز ابتداء مثله في الإسلام، فإنه معفو لكم عنه، وهذا كقول القائل: لا تفعل ما فعلت، أي: لا تفعل مثل ما فعلت، ذكره ابن جرير «1» . والخامس: أنها بمعنى «الواو» فتقديرها: ولا ما قد سلف، فيكون المعنى: إِقطعوا ما أنتم عليه من نكاح الآباء، ولا تبتدئوا، قاله بعض أهل المعاني. والسادس: أنها للاستثناء، فتقدير الكلام:
لا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الجائز الذي كان عقده بينهم إِلا ما قد سلف منهم بالزنى، والسفاح، فإنهن حلال لكم، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: إِنَّهُ يعني النكاح، و «الفاحشة» : ما يفحش ويقبح. و «المقت» : أشد البغض.
وفي المراد بهذا «المقت» قولان: أحدهما: أنه اسم لهذا النكاح، وكانوا يسمّون نكاح امرأة الأب في الجاهلية: مقتاً، ويُسمّون الولد منه: المقتي. فاعلموا أن هذا الذي حرِّم عليهم من نكاح امرأة الأب لم يزل منكراً في قلوبهم ممقوتاً عندهم. هذا قول الزجاج. والثاني: أنه يوجب مقت الله لفاعله، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
قوله تعالى: وَساءَ سَبِيلًا قال ابن قتيبة: أي: قبُح هذا الفعل طريقا.
[سورة النساء (4) : آية 23]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23)
قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ قال الزجاج: الأصل في أمّهات: أمّات، ولكن الهاء زيدت مؤكّدة، كما زادوها في: أهرقت الماء، وإِنما أصله: أرقت.
قوله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ إنما سُمّين أمهات، لموضع الحرمة. واختلفوا: هل يعتبر في الرضاع العدد، أم لا؟ فنقل حنبل، عن أحمد: أنه يتعلق التحريم بالرضعة الواحدة، وهو قول عمر، وعلي، وابن عباس، وابن عمر، والحسن، وطاوس، والشعبي، والنخعي، والزهري، والأوزاعي، والثوري، ومالك، وأبي حنيفة، وأصحابه. ونقل محمد بن العباس، عن أحمد: أنه يتعلق التحريم بثلاث رضعات. ونقل أبو الحارث، عن أحمد: لا يتعلق بأقل من خمس رضعات متفرقات، وهو قول الشافعي «2» .
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 1/ 661: وهو أولى الأقوال في ذلك بالصواب.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 11/ 309- 310: الأصل في التحريم بالرّضاع الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقول الله تعالى: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وأما السنة: ما روت عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الرضاعة تحرّم ما تحرّم الولادة» . وفي لفظ «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» . والرضاع الذي لا يشك في تحريمه، أن يكون خمس رضعات فصاعدا. هذا الصحيح في المذهب وروي عن عائشة، وابن مسعود، وابن الزبير، وعطاء، وطاوس. وهو قول الشافعي.
وعن أحمد رواية ثانية، أن قليل الرضاع وكثيره يحرّم وروي ذلك عن علي وابن عباس وسعيد بن المسيب، والحسن ومكحول والزهري وأصحاب الرأي، وزعم الليث أن المسلمين أجمعوا على أن قليل الرضاع وكثيرة يحرّم في المهد ما يفطر به الصائم واحتجوا بالكتاب والسنة. وعن عقبة بن الحارث، أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب، فجاءت امرأة سوداء، فقالت: قد أرضعتكما. فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «كيف، وقد زعمت أن قد أرضعتكما» . ولأن ذلك فعل يتعلق به تحريم مؤبد. فلم يعتبر فيه العدد. والرواية الثالثة، لا يثبت التحريم إلا بثلاث رضعات، وبه قال أبو ثور وداود وابن المنذر. لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تحرّم المصّة ولا المصتان» لأن ما يعتبر فيه العدد والتكرار، يعتبر فيه الثلاث. وإذا وقع الشك في وجود الرضاع، أو في عدد الرضاع المحرّم هل كملا أو لا؟ لم يثبت التحريم لأن الأصل عدمه، فلا تزول عن اليقين بالشك. والسّعوط:
بأن يصب اللبن في أنفه من إناء، والوجور: أن يصبّ في حلقه صبا من غير الثدي. فأصح الروايتين أن التحريم يثبت بذلك كما يثبت بالرضاع. وإن عمل اللبن جبنا ثم أطعمه الصبي، ثبت به التحريم، بهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يحرّم به، لزوال الاسم.(1/388)
قوله تعالى: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ أمهات النساء: يحرَّمن بنفس العقد على البنت، سواء دخل بالبنت، أو لم يدخل، وهذا قول عمر، وابن مسعود، وابن عمر، وعمران بن حصين ومسروق، وعطاء، وطاوس، والحسن، والجمهور. وقال عليّ رضي الله عنه في رجل طلق امرأته قبل الدخول:
له أن يتزوج أمها، وهذا قول مجاهد، وعكرمة «1» .
قوله تعالى: وَرَبائِبُكُمُ الرّبيبة: بنت امرأة الرّجل من غيره. ومعنى الربيبة: مربوبة، لأن الرجل يربّيها، وخرج الكلام على الأعم من كون التربية في حجر الرجل، لا على الشرط «2» .
قوله تعالى: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ قال الزجاج: الحلائل: الأزواج. وحليلة بمعنى محلّة، وهي
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 9/ 515- 516: من تزوج امرأة حرّم عليه كل أمّ لها، من نسب أو رضاع، قريبة أو بعيدة بمجرد العقد. نص عليه أحمد. وهو قول أكثر أهل العلم، منهم، ابن مسعود، وابن عمر، وجابر، وعمران بن حصين وكثير من التابعين. وبه يقول مالك والشافعي، وأصحاب الرأي، وحكي عن علي رضي الله عنه أنها لا تحرم إلا بالدخول بابنتها، كما لا تحرم ابنتها إلا بالدخول. ولنا، قول الله تعالى وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ والمعقود عليها من نسائه فتدخل أمها في عموم الآية. قال ابن عباس: أبهموا ما أبهم القرآن، يعني غمّموا حكمها في كل حال، ولا تفصلوا بين المدخول بها وبين غيرها. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تزوج امرأة، فطلقها قبل أن يدخل بها، فلا بأس أن يتزوج ربيبته، ولا يحلّ له أن يتزوج أمها» . رواه أبو حفص بإسناده. وقال زيد: تحرّم بالدخول أو بالموت، لأنه يقوم مقام الدخول. وقد ذكرنا ما يوجب التحريم مطلقا. وحديث علي رضي الله عنه، أخرجه الطبري 8952 عن خلاس بن عمرو عن علي مرسلا. [.....]
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 516- 517 روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما، أنهما رخصا فيها إذا لم تكن في حجره وهو قول داود. قال ابن المنذر: وقد أجمع علماء الأمصار على خلاف هذا القول.
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لأم حبيبة: «لا تعرضن علي بناتكن، ولا أخواتكن» . لأن التربية لا تأثير لها في التحريم كسائر المحرمات. وأما الآية فلم تخرج مخرج الشرط، وإنما وصفها بذلك تعريفا لها بغالب حالها، وما خرج مخرج الغالب لا يصح التمسّك بمفهومه. وإن لم يدخل بالمرأة لم تحرّم عليه بناتها.(1/389)
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
مشتقة من الحلال. وقال غيره: سُميت بذلك، لأنها تحل معه أينما كان. وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي، قال: الحليل: الزوج، والحليلة: المرأة، وسُمّيا بذلك، إِما لأنهما يحلان في موضع واحد، أو لأن كل واحد منهما يحال صاحبه، أي: ينازله، أو لأن كل واحد منهما يحل إِزار صاحبه.
قوله تعالى: الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ قال عطاء: إِنما ذكر الأصلاب، لأجل الأدعياء. والكلام في قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ على نحو ما تقدم في الآية التي قبلها. وقد زادوا في هذا قولين آخرين:
أحدهما: إِلا ما قد سلف من أمر يعقوب عليه السلام، لأنه جمع بين أم يوسف وأختها، وهذا مروي عن عطاء، والسدي، وفيه ضعف لوجهين: أحدهما: أن هذا التحريم يتعلق بشريعتنا، وليس كل الشرائع تتفق، ولا وجه للعفو عنا فيما فعله غيرنا. والثاني: أنه لو طولب قائل هذا بتصحيح نقله، لعَسُر عليه. والقول الثاني: أن تكون فائدة هذا الاستثناء أن العقود المتقدّمة على الأختين لا تنفسخ، ويكون للانسان أن يختار إِحداهما.
(267) ومنه حديث فيروز الديلمي قال: أسلمت وعندي أُختان، فأتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «طلق إِحداهما» ، ذكره القاضي أبو يعلى.
[سورة النساء (4) : آية 24]
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)
قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ. أما سبب نزولها:
(268) فروى أبو سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهنّ، فسألنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، فاستحللناهن.
وأما خلاف القُرّاء، فقرأ ابن كثير، ونافع، وابو عمرو، وعاصم، وابن عامر، وحمزة بفتح الصاد في كل القرآن، وفتح الكسائي الصاد في هذه وحدها، وقرأ سائر القرآن «والمحصِنات» و «محصِنات» .
قال ابن قتيبة: والإِحصان: أن يحمي الشيء، ويمنع منه، فالمحصنات من النساء: ذوات الأزواج، لأن الأزواج أحصنوهن، ومنعوا منهن. قال الله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، والمحصنات: الحرائر وإن لم يكنَّ متزوجات، لأن الحرّة تُحصَن وتَحصِن، وليست كالأمة، قال الله
__________
حسن. أخرجه أبو داود 2243 والترمذي 1129 و 1130 وابن ماجة 1950 و 1951 وعبد الرزاق 12627 وابن أبي شيبة 4/ 317 وأحمد 2/ 232 وابن حبان 4155 والدارقطني 3/ 273- 274 والطبراني 18/ 843 والبيهقي 7/ 184- 185 من طرق عن أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز عن أبيه به. وإسناده حسن، رجاله ثقات. وأخرجه الدارقطني 3/ 273 من وجه آخر، وفيه محمد بن يحيى الأسلمي شيخ الشافعي، وهو متروك، والحجة في الرواية المتقدمة.
صحيح. أخرجه مسلم 1456 وأبو داود 2155 والترمذي 1132 والنسائي 6/ 110 وفي «التفسير» 116 و 117 وعبد الرزاق في «تفسيره» 549 وأحمد 3/ 84 والطيالسي 2239 وأبو يعلى 1318 والبيهقي 7/ 167 من طرق من حديث أبي سعيد. وله شاهد حسن من حديث ابن عباس أخرجه النسائي في «التفسير» 118 وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي 441 بتخريجنا والله الموفق.(1/390)
تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ وقال: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ يعني: الحرائر. والمحصنات: العفائف. قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يعني العفائف وقال تعالى: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي: عفّت. وفي المراد بالمحصنات هنا ثلاثة أقوال: أحدها: ذوات الأزواج. وهذا قول ابن عباس. وسعيد بن المسيب والحسن، وابن جبير، والنخعي، وابن زيد، والفراء، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: العفائف: فإنهن حرام على الرجال إلا بعقد نكاح، أو ملك يمين. وهذا قول عمر بن الخطاب، وأبي العالية، وعطاء، وعبيدة، والسدي. والثالث: الحرائر، فالمعنى: أنهن حرام بعد الأربع اللواتي ذُكِرْنَ في أول السورة، روي عن ابن عباس، وعبيدة.
فعلى القول الأول في معنى قوله تعالى: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قولان: أحدهما: أن معناه:
إِلاَّ ما ملكت أيمانكم من السبايا في الحروب، وعلى هذا تأوَّلَ الآية عليٌ، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عمر، وابن عباس، وكان هؤلاء لا يرون بيع الأمة طلاقاً. والثاني: إِلا ما ملكت أيمانكم من الإِماء ذوات الأزواج، بسبي أو غير سبي، وعلى هذا تأوَّلَ الآية ابنُ مسعود، وأُبيُّ بن كعب، وجابر، وأنس.
وكان هؤلاء يرون بيع الأمة طلاقاً. وقد ذكر ابن جرير، عن ابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن:
أنهم قالوا: بيع الأمة طلاقها، والأول أصح.
(269) لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم خيّر بريرة إِذ أعتقتها عائشة، بين المقام مع زوجها الذي زوَّجها منه سادتُها في حال رقّها، وبين فراقه، ولم يجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم عتق عائشة إِيّاها طلاقاً، ولو كان طلاقاً لم يكن لتخييره إِياها معنى. ويدل على صحة القول الأول ما ذكرناه من سبب نزول الآية.
وعلى القول الثاني: العفائف حرام إِلا بملك، والملك يكون عقداً، ويكون ملك يمين.
وعلى القول الثالث: الحرائِر حرام بعد الأربع إِلا ما ملكت أيمانكم من الإِماء، فانهن لم يُحصَرن بعدد.
قوله تعالى: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: هو منصوب على التوكيد، محمول على المعنى، لأن معنى «حرمت عليكم أمهاتكم» : كتب الله عليكم هذا كتاباً، قال: ويجوز أن ينتصبَ على جهة الأمر، ويكون «عليكم» مفسراً له، فيكون المعنى: إلزموا كتاب الله. قال: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أي: ما بعد هذه الأشياء، إِلا أن السُّنة قد حرَّمت تزويج المرأة على عمتها، وتزويجها على خالتها «1» .
وقرأ ابن السميفع، وأبو عمران: «كتب الله عليكم» بفتح الكاف، والتاء، والباء، من غير ألف، ورفع
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2578 ومسلم 1504 وأبو داود 2916 والنسائي 6/ 162 وأحمد 6/ 45- 46 والبيهقي 6/ 161 والبغوي 1611 وابن حبان 4269 من طرق كلهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «اشتريت بريرة، فاشترط أهلها ولاءها، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أعتقيها، فإن الولاء لمن أعطى الورق، فأعتقتها، فدعاها النبي صلّى الله عليه وسلّم فخيرها من زوجها فقالت لو أعطاني كذا وكذا ما ثبت عنده. فاختارت نفسها» . وله شاهد من حديث ابن عباس. أخرجه البخاري 2581 و 2582 والترمذي 1156.
__________
(1) هو الآتي.(1/391)
الهاء. وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: وأحَلَّ بفتح الحاء، وقرأ حمزة، والكسائي:
بضم الألف.
فصل: قال شيخنا علي بن عبيد الله: وعامة العلماء ذهبوا إِلى أن قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ تحليل ورد بلفظ العموم، وأنه عموم دخله التخصيص، والمخصص له:
(270) نهي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن تنكح المرأة على عمتها، أو على خالتها. وليس هذا على سبيل النسخ.
وذهب طائفة إلى أن التحليل المذكور في الآية منسوخ بهذا الحديث.
قوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ أي: تطلبوا إِمَّا بصداق في نكاح، أو ثمن في ملك مُحْصِنِينَ قال ابن قتيبة: متزوّجين، وقال الزجاج: عاقدين التزويج، وقال غيرهما: متعفّفين غير زانين.
والسفاح: الزنى، قال ابن قتيبة.. أصله من سفحت القربة: إِذا صببتها، فسمّي الزّنى سفاحا، لأنه حين يسافح يصب النطفة، وتصب المرأة النطفة. وقال ابن فارس: السفاح: صب الماء بلا عقد، ولا نكاح، فهو كالشيء يسفح ضياعاً.
قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فيه قولان:
أحدهما: أنه الاستمتاع في النكاح بالمهور، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد، والجمهور.
والثاني: أنه الاستمتاع إلى أجل مُسمىً من غير عقد نكاح. وقد روي عن ابن عباس أنه كان يفتي بجواز المتعة، ثم رجع عن ذلك. وقد تكلف قوم من مفسّري القُرّاء، فقالوا: المراد بهذه الآية نكاح المتعة، ثم نسخت بما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه:
(271) نهى عن متعة النساء، وهذا تكلُّف لا يحتاج إليه، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجاز المتعة، ثم منع منها، فكان قوله منسوخاً بقوله. وأما الآية، فإنها لم تتضمّن جواز المتعة، لأنه تعالى قال فيها: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فدل ذلك على النّكاح الصحيح.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 5109 و 5110 ومسلم 1408 ح 35 و 36 وأبو داود 2066 والنسائي 6/ 96- 97- 98 وابن ماجة 1929 والشافعي 2/ 18 وعبد الرزاق 10753 وأحمد 2/ 432- 462 و 474 و 489 و 508 و 516 وابن حبان 4068 والبيهقي 5/ 345 و 7/ 165 من طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يجمع بين المرأة وعمتها، ولا بين المرأة وخالتها» . لفظ البخاري.
صحيح. أخرج البخاري 4216 و 5523 ومسلم 1407 والنسائي 6/ 126 و 7/ 202 والترمذي 1121 و 1794 وابن ماجة 1961 وأحمد 1/ 79 وسعيد بن منصور 848 والحميدي 37 والدارمي 2/ 140 وابن حبان 4140 و 4143 وأبو يعلى 576 وابن أبي شيبة 4/ 292 والبيهقي 7/ 201 و 202 من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل الحمر الإنسية.
- وله شاهد من حديث الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه أنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «يا أيها الناس! إني قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء. وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة. فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله. ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا» . أخرجه مسلم 1406 وأحمد 2/ 404 والدارمي 2/ 140 والنسائي 6/ 126 وابن ماجة 1962 وسعيد بن منصور 847 وأبو يعلى 938 وعبد الرزاق 14041 والحميدي 847 والدارمي 2/ 140 وابن الجارود 699 وابن أبي شيبة 4/ 292 وابن حبان 4144 و 4146 و 4148 والطحاوي 3/ 25 من حديث الربيع بن سبرة. وانظر «تفسير الشوكاني» 629.(1/392)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
قال الزجّاج: ومعنى قوله تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فما نكحتموهن على الشريطة التي جرت، وهو قوله: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ أي: عاقدين التزويج فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي: مهورهن.
ومن ذهب في الآية إلى غير هذا، فقد أخطأ، وجهل اللغة.
قوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ فيه ستة أقوال:
أحدها: أن معناه: لا جناح عليكم فيما تركته المرأة من صداقها، ووهبته لزوجها، هذا مروي عن ابن عباس، وابن زيد. والثاني: ولا جناح عليكم فما تراضيتم به من مقام، أو فرقة بعد أداء الفريضة، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث: ولا جناح عليكم أيها الأزواج إذا أعسرتم بعد الفرض لنسائكم فيما تراضيتم به من أن ينقصنكم، أو يُبرِئنكم، قاله أبو سليمان التيمي. والرابع: لا جناح عليكم إذا انقضى أجل المتعة أن يزدنكم في الأجل، وتزيدونهن في الأجر من غير استبراء، قاله السدي، وهو يعود إلى قصّة المتعة. والخامس: لا جناح عليكم أن تهب المرأة للرجل مهرها، أو يهب هو للتي لم يدخل بها نصف المهر الذي لا يجب عليه. قاله الزجاج. والسادس: أنه عام في الزيادة، والنقصان، والتأخير، والإِبراء، قاله القاضي أبو يعلى «1» .
[سورة النساء (4) : آية 25]
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا «الطول» : الغنى والسعة في قول الجماعة.
و «المحصنات» : الحرائِر، قال الزجاج: والمعنى: من لم يقدر على مهر الحرّة، يقال: قد طال فلان طَولاً على فلان، أي: كان له فضل عليه في القدرة. والمراد بالفتيات هاهنا: المملوكات، يقال:
للأمة: فتاة، وللعبد: فتى، وقد سُمّي بهذا الاسم من ليس بمملوك. قرأت على شيخنا الإِمام أبي منصور اللغوي قال: المتفتية: الفتاة والمراهقة، ويقال للجارية الحدثة: فتاة، وللغلام: فتى. قال القتيبي: وليس الفتى بمعنى الشاب والحدث، إِنما هو بمعنى الكامل الجزل من الرجال.
فأما ذكر الايمان، فشرط في إِباحتهن، ولا يجوز نكاح الأمة الكتابية، هذا قول الجمهور، وقال أبو حنيفة: يجوز.
__________
(1) قال أبو جعفر الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 16: وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ولا حرج عليكم، أيها الناس، فيما تراضيتم به أنتم ونساؤكم من بعد إعطائهن أجورهن على النكاح الذي جرى بينكم وبينهن من حط ما وجب لهن عليكم، أو إبراء، أو تأخير ووضع. وذلك نظير قوله جل ثناؤه وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً النساء: 4.
فأما الذي قاله السدي، فقول لا معنى له، لفساد القول بإحلال جماع امرأة بغير نكاح ولا ملك يمين.(1/393)
قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ قال الزجاج: معناه: اعملوا على ظاهركم في الإِيمان، فإنكم متعبدون بما ظهر من بعضكم لبعض. قال: وفي قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ وجهان: أحدهما:
أنه أراد النسب، أي كلكم ولد آدم. ويجوز أن يكون معناه: دينكم واحد، لأنه ذكر هاهنا المؤمنات.
وإِنما قيل لهم ذلك، لأن العرب كانت تطعن في الأنساب، وتفخر بالأحساب، وتُسمّي ابن الأمة:
الهجين، فأعلم الله عزّ وجلّ أن أمر العبيد وغيرهم مستوٍ في باب الإِيمان، وإِنما كُره التزويج بالأمة، وَحَرُمَ إذا وجَدَ إلى الحُرّة سبيلاً، لأن وُلْدَ الأمة من الحُرّ يصيرون رقيقاً، ولأن الأمة ممتهنة في عشرة الرجال، وذلك يشق على الزوج.
قال ابن الأنباري: ومعنى الآية: كلكم بنو آدم، فلا يتداخلْكم شُموخ وأنفة من تزوج الإِماء عند الضرورة. وقال ابن جرير: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فلينكح بعضكم من بعض، لينكح هذا فتاة هذا.
قوله تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ يعني: الإِماء بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ، أي: سادتهن. و «الأجور» : المهور.
وفي قوله: بِالْمَعْرُوفِ قولان: أحدهما: أنه مقدم في المعنى، فتقديره: انكحوهن بإذن أهلهن بالمعروف، أي: بالنكاح الصحيح وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ. والثاني: أن المعنى: وآتوهن أجورهن بالمعروف، كمهور أمثالهن. قال ابن عباس: مُحْصَناتٍ: عفائف غير زوانٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ يعني: أخلاَّء، كان الجاهلية يحرّمون ما ظهر من الزنى، ويستحلّون ما خفي. وقال في رواية أخرى:
«المسافحات» : المعلنات بالزّنى. و «المتّخذات أخدَان» : ذات الخليل الواحد. وقال غيره: كانت المرأة تتخذ صديقاً تزني معه، ولا تزني مع غيره.
قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «أحصن» مضمومة الألف. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر، والمفضل عن عاصم: بفتح الألف، والصاد. قال ابن جرير: من قرأ بالفتح، أراد: أسلمن، فصرن ممنوعات الفروج عن الحرام بالاسلام، ومن قرأ بالضم، أراد: فاذا تزوّجن، فصرن ممنوعات الفروج من الحرام بالأزواج. فأما «الفاحشة» ، فهي الزّنى، والْمُحْصَناتُ: الحرائر، و «العذاب» : الحد. قال القاضي أبو يعلى: وليس الإسلام والتزويج شرطاً في إِيجاب الحدّ على الأمة، بل يجب وإِن عُدِما، وإِنما شرط الإِحصان في الحدّ، لئلا يتوهم متوهّم أن عليها نصف ما على الحرة إِذا لم تكن محصنة، وعليها مثل ما على الحرّة إِذا كانت محصنة.
قوله تعالى: ذلِكَ الإِشارة إلى إِباحة تزويج الإِماء. وفي الْعَنَتَ خمسة أقوال:
أحدها: أنه الزنى، قاله ابن عباس، والشعبي، وابن جبير، ومجاهد، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل، وابن قتيبة. والثاني: أنه الهلاك، ذكره أبو عبيدة، والزجاج. والثالث: لقاء المشقة في محبة الأمة، حكاه الزجاج. والرابع: أن العنت هاهنا: الإِثم. والخامس: أنه العقوبة التي تعنته، وهي الحد، ذكرهما ابن جرير الطبري.
قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على إِباحة نكاح الإِماء المؤمنات بشرطين: أحدهما: عدم طَول الحرّة. والثاني: خوف الزنى، وهذا قول ابن عباس، والشعبي، وابن جبير، ومسروق، ومكحول، وأحمد، ومالك، والشافعي. وقد روي عن علي، والحسن، وابن المسيّب، ومجاهد،(1/394)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
والزهري، قالوا: ينكح الأمة، وإِن كان موسراً، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه.
قوله تعالى: وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ، قال ابن عباس والجماعة: عن نكاح الإِماء، وإِنما ندب إِلى الصّبر عنه، لاسترقاق الأولاد.
[سورة النساء (4) : آية 26]
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ. اللام بمعنى «أن» ، وهذا مذهب جماعة من أهل العربيّة، واختاره ابن جرير، ومثله: وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ «1» ، وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ «2» ، يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا «3» .
والبيان من الله تعالى بالنص تارةً، وبدلالة النّص أخرى. قال الزجّاج: و «السّنن» : الطُرُق، فالمعنى يدلكم على طاعته، كما دل الأنبياء وتابعيهم. وقال غيره: معنى الكلام: يريد الله ليُبيّن لكم سنن من قبلكم من أهل الحق والباطل، لتجتنبوا الباطل وتجيبوا الحق، ويهديكم إلى الحق.
[سورة النساء (4) : آية 27]
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)
قوله تعالى: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: يريد أن يدلكم على ما يكون سبباً لتوبتكم. وفي الذين اتبعوا الشهوات أربعة أقوال: أحدها: أنهم الزناة، قاله مجاهد، ومقاتل. والثاني:
اليهود والنصارى، قاله السدي. والثالث: أنهم اليهود خاصّة، ذكره ابن جرير. والرابع: أهل الباطل، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيماً أي: عن الحق بالمعصية.
[سورة النساء (4) : آية 28]
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)
قوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ التخفيف: تسهيل التكليف، أو إِزالة بعضه. قال ابن جرير: والمعنى: يريد أن يُيَسِّر لكم بإذنه في نكاح الفتيات المؤمنات لمن لم يستطع طولاً لحرّة. وفي المراد بضعْف الإنسان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الضعف في أصل الخلقة. قال الحسن: هو أنه خُلق من ماءٍ مهين. والثاني: أنه قلة الصبر عن النساء، قاله طاوس، ومقاتل. والثالث: أنه ضعف العزم عن قهر الهوى، وهذا قول الزجّاج، وابن كيسان.
[سورة النساء (4) : آية 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29)
قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ، الباطل: ما لا يحل في الشرع.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «تجارة» بالرفع. وقرأ حمزة، والكسائي، وعاصم بالنصب، وقد بينّا العلة في آخر (البقرة) .
قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فيه خمسة أقوال: أحدها: أنه على ظاهره، وأن الله حرم على
__________
(1) سورة الشورى: 15.
(2) سورة الأنعام: 71.
(3) سورة الصف: 8.(1/395)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
العبد قتل نفسه، وهذا الظاهر. والثاني: أن معناه: لا يقتل بعضكم بعضاً، وهذا قول ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة، والسدي، ومقاتل، وابن قتيبة. والثالث: أن المعنى: لا تكلفوا أنفسكم عملاً ربّما أدى إلى قتلها وإِن كان فرضاً.
(272) وعلى هذا تأولها عمرو بن العاص في غزاة ذات السلاسل حيث صلى بأصحابه جُنباً في ليلة باردة، فلمّا ذكر ذلك للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال له: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فقال: يا رسول الله إِني احتلمتُ في ليلة باردة، وأشفقت إِن اغتسلت أن أهلِك، فذكرت قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
والرابع: أن المعنى: لا تغفلوا عن حظ أنفسكم، فمن غفل عن حظها، فكأنما قتلها، هذا قول الفضيل بن عياض. والخامس: لا تقتلوها بارتكاب المعاصي.
[سورة النساء (4) : آية 30]
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
قوله تعالى: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً في المشار إِليه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه قتل النفس، قاله ابن عباس، وعطاء. والثاني: أنه عائد إِلى كل ما نهى الله عنه من أوّل السورة إلى هاهنا، روي عن ابن عباس أيضا. والثالث: قتل النفس، وأكل الأموال بالباطل، قاله مقاتل.
[سورة النساء (4) : آية 31]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)
قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ، اجتناب الشيء: تركه جانباً.
وفي الكبائر أحد عشر قولاً:
(273) أحدها: أنها سبع. فروى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إِلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» .
(274) وقد روي هذا الحديث من طريق آخر عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الكبائر سبع، الإِشراك بالله أولهن، وقتل النفس بغير حقها، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بداراً أن يكبروا، والفرار من الزحف، ورمي المحصنات، وانقلاب إلى أعرابية بعد هجرة» .
__________
جيد. أخرجه أبو داود 334 وأحمد 4/ 203- 204 والحاكم 1/ 177 والبيهقي 1/ 225 من حديث عمرو بن العاص. وقال الحاكم: صحيح على شرطهما، ووافقه الذهبي، وقال الحافظ في الفتح 1/ 454: إسناده قوي. ونقل الزيلعي في نصب الراية 1/ 157 عن النوري قوله: حسن أو صحيح.
صحيح. أخرجه البخاري 2766 و 5764 و 6857 ومسلم 89 وأبو داود 6874 والنسائي 6/ 257 وأبو عوانة 1/ 54- 55 والطحاوي في «المشكل» 894 وابن حبان 5561 والبيهقي 8/ 249 من طرق وكلهم عن أبي هريرة مرفوعا.
أخرجه البزار 109 «كشف» وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» 1/ 103: رواه البزار، وفيه عمرو بن أبي سلمة، ضعفه شعبة وغيره، ووثقه أبو حاتم وابن حبان وغيره.(1/396)
وروي عن عليّ عليه السلام قال: هي سبع، فعدّ هذه. وروي عن عطاء أنه قال: هي سبع، وعدّ هذه، إِلا أنه ذكر مكان الإِشراك والتعرّب شهادة الزور وعقوق الوالدين.
(275) والثاني: أنها تسع. روى عبيد بن عمير، عن أبيه، وكان من الصّحابة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل ما الكبائر؟ فقال: «تسع، أعظمهن الإِشراك بالله، وقتل نفس المؤمن بغير حق، والفرار من الزحف، وأكل مال اليتيم، والسحر، وأكل الرّبا، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين المسلمين، واستحلال البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً» .
(276) والثالث: أنها أربع. روى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث عبد الله بن عمرو، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الكبائِر: الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، واليمين الغموس» «1» .
(277) وروى أنس بن مالك قال: ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الكبائر، أو سئل عنها، فقال: «الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين» وقال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قول الزور، أو شهادة الزور» .
وروي عن ابن مسعود أنه قال: الكبائِر أربع: الإِشراك بالله، والأمن لمكر الله، والقنوط من رحمة الله، والإِياس من روح الله، وعن عكرمة نحوه.
(278) والرابع: أنها ثلاث. فروى عمران بن حصين، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ الشرك بالله، وعقوق الوالدين- وكان متكئا فاحتفز «2» - قال: والزّور» .
__________
أخرجه أبو داود 2875 والنسائي 7/ 89 والحاكم 1/ 59 ح 197 و 4/ 259 ح 7666 من حديث عبيد بن عمير بن قتادة عن أبيه. قال الحاكم عقب الرواية الأولى: قد احتجا برواة هذا الحديث غير عبد الحميد بن سنان، وتعقبه الذهبي بقوله: لم يحتجا به لجهالته. ووثقه ابن حبان وصححه الحاكم عقب الرواية الثانية! وسكت الذهبي! مع أن الإسناد واحد. وقال الحافظ في «التقريب» عن عبد الحميد بن سنان: مقبول اه. أي حيث يتابع وقال الذهبي في «الميزان» 4778: لا يعرف وقد وثقه بعضهم، وقال البخاري: روى عن عبيد بن عمير وفي حديثه نظر. وله شاهد عن ابن عمر لكن الجمهور رووه موقوفا.
صحيح. أخرجه البخاري 687- 6920 والترمذي 3021 والنسائي 7/ 89 و 8/ 63 وأحمد 2/ 201 والدارمي 2/ 191 وأبو نعيم في «الحلية» 7/ 202 وابن حبان 5562 والبيهقي 10/ 35 من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص. وورد من حديث عبد الله بن أنيس أخرجه الترمذي 3020 وأحمد 3/ 495 والحاكم 4/ 296 والطحاوي في «المشكل» 893 من طريق الليث بن سعد عن هشام بن سعد عن محمد بن زيد عن أبي أمامة عنه. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وقال الترمذي: حسن غريب اه.
صحيح. أخرجه البخاري 2653 ومسلم 88 والترمذي 1207 و 3018 والطحاوي في «المشكل» 897.
حسن. أخرجه الطبراني 2633 و 18/ 140 من حديث عمران. وقال الهيثمي في «المجمع» 1/ 103: رجاله ثقات، إلا أن الحسن مدلس، وعنعنه. قلت: وقال أبو حاتم: لم يسمع الحسن من عمران. لكن للحديث شواهد، فهو حسن إن شاء الله.
__________
(1) قال ابن الأثير رحمه الله في «النهاية» 3/ 386: اليمين الغموس هي اليمين الكاذبة الفاجرة، كالتي يقتطع بها الحالف مال غيره، سميت غموسا، لأنها تغمس صاحبها في الإثم، ثم في النار.
(2) أي استوى جالسا على وركيه.(1/397)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
(279) وروى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي بكرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا: بلى يا رسول الله، فقال: الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين- وكان متكئا فجلس- فقال: وشهادة الزور» فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت.
(280) وأخرجا في «الصحيحين» من حديث ابن مسعود قال: سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أي الذنب أكبر؟
قال: «أن تجعل لله تعالى نِدّاً وهو خَلَقَكَ» . قلتُ: ثم أيّ؟ قال: «ثم أن تَقْتُلَ وَلَدَكَ مخافة أن يَطْعَمَ معك» . قلت: ثم أيّ؟ قال: «أن تُزانيَ حليلة جارك» .
والخامس: أنها مذكورة من أوّل السورة إِلى هذه الآية، قاله ابن مسعود وابن عباس.
والسادس: أنها إِحدى عشرة: الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس، وقتل النفس.
وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والفرار من الزحف، وقذف المحصنات، وشهادة الزور، والسحر، والخيانة. روي عن ابن مسعود أيضا. والسابع: أنها كل ذنب يختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس. والثامن: أنها كل ما أوجب الله عليه النار في الآخرة، والحدّ في الدنيا، روى هذا المعنى أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والتاسع: أنها كلُّ ما عُصي الله به، روي عن ابن عباس، وعبيدة «1» ، وهو قول ضعيف. والعاشر: أنها كل ذنب أوعَدَ الله عليه النار، قاله الحسن، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك في رواية، والزجاج. والحادي عشر:
أنها ثمان، الإِشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل المؤمن، وقذف المحصنة، والزنا، وأكل مال اليتيم، وقول الزور، واقتطاع الرجل بيمينه وعهدِه ثمناً قليلاً. رواه مُحْرزِ، عن الحسن البصري.
قوله تعالى: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ روى المفضّل، عن عاصم: «يكفر» «ويدخلكم» بالياء فيهما، وقرأ الباقون بالنون فيهما، وقرأ نافع، وأبان، عن عاصم، والكسائي، عن أبي بكر، عن عاصم: «مَدخلاً» بفتح الميم هاهنا، وفي «الحج» وضم الباقون «الميم» ، ولم يختلفوا في ضم «ميم» مُدْخَلَ صِدْقٍ ومُخْرَجَ صِدْقٍ «2» . قال أبو علي الفارسي: يجوز أن يكون «المدخل» مصدراً ويجوز أن يكون مكاناً، سواءً فتح، أو ضمّ: قال السدي: السيئات هاهنا: هي الصغائِر. والمدخل الكريم:
الجنّة. قال ابن قتيبة: والكريم: بمعنى: الشّريف.
[سورة النساء (4) : آية 32]
وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32)
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2654 و 5976 و 6273 و 6274 و 6919 ومسلم 87 والترمذي 1901 و 3019 وأبو عوانة 1/ 54 والطحاوي في المشكل 892 والبيهقي 10/ 121. عن أبي بكرة.
صحيح. أخرجه البخاري 4761 و 6001 و 6811 و 6861 و 7532 ومسلم 86 من وجوه، وأبو داود 2310 والترمذي 3182 والنسائي 7/ 89- 90 وأحمد 1/ 434- 462 والطحاوي في «المشكل» 1/ 379 وابن حبان 4414 و 4415 و 4416 والبغوي 42 والبيهقي 8/ 18 من طرق كثيرة كلهم عن ابن مسعود.
__________
(1) هو السّلماني صاحب علي، ثقة ثبت من كبار التابعين.
(2) سورة الإسراء: 80.(1/398)
قوله تعالى: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(281) أحدها: أن أم سلمة قالت: يا رسول الله: يغزو الرجال، ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد.
(282) والثاني: أن النساء قلن: وددن أن الله جعل لنا الغزو، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة.
(283) والثالث: أنه لما نزل لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ قال الرجال: إِنا لنرجو أن نفضل على النساء بحسناتنا، كما فضّلنا عليهن في الميراث، وقال النساء: إِنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال، كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم، فنزلت هذه الآية، قاله قتادة، والسدي.
وفي معنى هذا التمني قولان: أحدهما: أن يتمنّى الرجل مال غيره، قاله ابن عباس، وعطاء.
والثاني: أن يتمنى النساء أن يكن رجالاً. وقد روي عن أم سلمة أنها قالت: يا ليتنا كنا رجالاً، فنزلت هذه الآية «1» . وللتّمني وجوه: أحدها: أن يتمنّى الإِنسان أن يحصل له مال غيره، ويزول عن الغير، فهذا الحسد. والثاني: أن يتمنّى مثل ما لغيره، ولا يحب زواله عن الغير، فهذا هو الغبطة وربما لم يكن نيل ذلك مصلحة في حق المتمنّي. قال الحسن: لا تمنَّ مال فلان، ولا مال فلان، وما يدريك لعل هلاكه في ذلك المال؟ والثالث: أن تتمنى المرأة أن تكون رجلاً، ونحو هذا مما لا يقع، فليعلم العبد أن الله أعلم بالمصالح، فليرض بقضاء الله، ولتكن أمانيه الزيادة من عمل الآخرة.
قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ فيه قولان:
أحدهما: أن المراد بهذا الاكتساب: الميراث، وهو قول ابن عباس، وعكرمة.
والثاني: أنه الثواب والعقاب. فالمعنى: أن المرأة تثاب كثواب الرجل، وتأثم كإثمه، هذا قول قتادة، وابن السائب، ومقاتل، واحتجّ على صحته أبو سليمان الدمشقي بأن الميراث لا يحصل بالاكتساب، وبأن الآية نزلت لأجل التمني والفضل.
قوله تعالى: وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ قرأ ابن كثير، والكسائي، وأبان، وخلف في اختياره «وسلوا الله» «فسل الذين» «فسل بني إِسرائيل» «وسل من أرسلنا» وما كان مثله من الأمر المواجه به، وقبله «واو» أو «فاء» فهو غير مهموز عندهم. وكذلك نقل عن أبي جعفر، وشيبة «2» . وقرأ الباقون
__________
حسن بشواهده. أخرجه الترمذي 3022 والحاكم 2/ 305 والواحدي 306 من طريق مجاهد عن أم سلمة.
قال الترمذي: هذا حديث مرسل اه. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين، إن كان سمع مجاهد من أم سلمة ووافقه الذهبي، وللحديث شواهد مرسلة، وهي الآتية.
أخرجه الطبري 9245 عن مجاهد وعكرمة، قالا: نزلت في أم سلمة.
مرسل. أخرجه الطبري 9247 عن السدي مرسلا، وهو شاهد لما قبله.
__________
(1) أخرجه الطبري 9241 عن مجاهد: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ قول النساء يتمنين: «ليتنا رجال فنغزو» ! وليس فيه ذكر أم سلمة وانظر الحديث المتقدم برقم 281.
(2) هو شيبة بن نصاح، إمام ثقة، راجع «طبقات القرّاء» 1/ 329.(1/399)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
بالهمز في ذلك كله، ولم يختلفوا في قوله تعالى: وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا «1» أنه مهموز. وفي المراد بالفضل قولان: أحدهما: أن الفضل: الطّاعة، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد، والسدي. والثاني: أنه الرزق، قاله ابن السائِب، فيكون المعنى: سلوا الله ما تتمنونه من النعم، ولا تتمنوا مال غيركم.
[سورة النساء (4) : آية 33]
وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)
قوله تعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ الموالي: الأولياء، وهم الورثة من العصبة وغيرهم.
ومعنى الآية: لكل إِِنسان موالي يرثون ما ترك. وارتفاع الوالدين والأقربين على معنيين من الإِعراب:
أحدهما: أن يكون الرفع على خبر الابتداء، والتقدير: وهم الوالدان والأقربون، ويكون تمام الكلام قوله: مِمَّا تَرَكَ. والثاني: أن يكون رفعا على أن الفاعل التّارك للمال، فيكون الوالدان، هم المولى.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «عاقدت» بالألف، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «عقدت» بلا ألف. قال أبو علي: من قرأ بالألف، فالتقدير: والذين عاقَدَتهم أيمانكم، ومن حذف الألف، فالمعنى: عقدت حِلْفهم أيمانكم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إِليه مقامه. وفيهم ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أهل الحلف، كان الرجل يحالف الرجل، فأيّهما مات ورثه الآخر، فنسخ ذلك بقوله تعالى وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «2» ، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وروى عنه عطيّة قال: كان الرجل يلحق الرجل في الجاهلية، فيكون تابعه، فإذا مات الرجل، صار لأهله الميراث، وبقي تابعه بغير شيء، فأنزل الله «والذين عاقدت أيمانكم» فأعطي من ميراثه، ثم نزل من بعد ذلك وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ، وممن قال هم الحُلفاء: سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة.
(284) والثاني: أنهم الذين آخى بينهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم المهاجرون والأنصار، كان المهاجرون يورّثون الأنصار دون ذوي رحمهم للأخوة التي عقدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهم. رواه سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وبه قال ابن زيد.
والثالث: أنهم الذين كانوا يتبنّون أبناء غيرهم في الجاهلية، هذا قول سعيد بن المسيّب.
فأمّا أرباب القول الأول، فقالوا: نسخ حكم الحلفاء الذين كانوا يتعاقدون على النصرة والميراث بآخِرِ (الأنفال) ، وإِليه ذهب ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة، والثوري، والأوزاعي، ومالك، وأحمد، والشافعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: هذا الحكم باقٍ غير أنه جعل ذوي الأرحام أولى من
__________
صحيح. أخرجه البخاري 6747 عن ابن عباس: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ.... وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ النساء:
33 قال: كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري دون ذوي رحمه للأخوة التي آخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بينهم، فلما نزلت: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ قال: نسختها وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ، لفظ البخاري.
وانظر «تفسير القرطبي» 2155 بتخريجنا.
__________
(1) سورة الممتحنة: 10.
(2) سورة الأنفال: 75. [.....](1/400)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
موالي المعاقدة. وذهب قوم إِلى أن المراد: فآتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة من غير ميراث، وهذا مروي عن ابن عباس، ومجاهد. وذهب قوم آخرون إلى أن المعاقدة: إِنما كانت في الجاهلية على النصرة لا غير، والإسلام لم يُغيّر ذلك، وإنما قرّره.
(285) فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أيّما حلف كان في الجاهلية، فإن الإِسلام لم يزده إِلاّ شدّة» أراد: النصر والعون. وهذا قول سعيد بن جبير، وهو يدل على أن الآية محكمة.
[سورة النساء (4) : آية 34]
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)
قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ.
(286) سبب نزولها: أن رجلاً لطم زوجته لطمةً فاستعدت عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وذكر المفسّرون أنه سعد بن الربيع الأنصاري «1» .
قال ابن عباس: «قوّامون» أي: مسلّطون على تأديب النساء في الحق. وروى هشام بن محمّد عن أبيه «2» في قوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ قال: إِذا كانوا رجالا، وأنشد:
أكلّ امرئ تحسبين امرأ ... وناراً توقّدُّ باللَّيل نارا «3»
قوله تعالى: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني: الرجال على النساء، وفضل الرجل على المرأة بزيادة العقل، وتوفير الحظ في الميراث، والغنيمة، والجمعة، والجماعات، والخلافة، والإمارة، والجهاد، وجعل الطلاق إليه، إلى غير ذلك.
قوله تعالى: وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ قال ابن عباس يعني: المهر والنفقة عليهن. وفي «الصالحات» قولان: أحدهما: المحسنات إِلى أزواجهن، قاله ابن عباس. والثاني: العاملات بالخير، قاله ابن المبارك. قال ابن عباس: و «القانتات» : المطيعات لله في أزواجهنّ، والحافظات للغيب، أي:
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2530 وأبو داود 2925 وأحمد 4/ 83 وابن حبان 4371 والطبري 9295 والطبراني 1597 والبيهقي 6/ 262 من حديث جبير بن مطعم، وصدره «لا حلف في الإسلام، وأيما ... » .
- وله شاهد أخرجه الطبري 9292 وأحمد 5/ 61 والطبراني 18/ 865 عن قيس بن عاصم أنه سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الحلف فقال: «ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به ولا حلف في الإسلام» .
- وله شاهد أخرجه الطبري 9295 من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته يوم فتح مكة: فوا بالحلف، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا تحدثوا حلفا في الإسلام» .
ضعيف. أخرجه الطبري 9503 عن ابن عباس به، وفيه محمد بن أبي محمد شيخ ابن إسحاق، وهو مجهول.
__________
(1) عزاه الواحدي 310 لمقاتل، وهو متروك متهم، فلا يحتج بمثل هذا الخبر.
(2) هو محمد بن السائب الكلبي، وهو متروك، وكذبه غير واحد.
(3) البيت لأبي داود الإيادي كما في «الخزانة» 4/ 191.(1/401)
لغيب أزواجهن. وقال عطاء، وقتادة: يحفظن ما غاب عنه الأزواج من الأموال، وما يجب عليهن من صيانة أنفسهن لهم.
قوله تعالى: بِما حَفِظَ اللَّهُ قرأ الجمهور برفع اسم «الله» . وفي معنى الكلام على قراءتهم ثلاثة أقوال: أحدها: بحفظ الله إِياهن، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، ومقاتل، وروى ابن المبارك، عن سفيان، قال: بحفظ الله إِياها أن جعلها كذلك. والثاني: بما حفظ الله لهن مهورهن، وإيجاب نفقتهن، قاله الزجاج. والثالث: أن معناه: حافظات للغيب بالشيء الذي يحفظ به أمر الله، حكاه الزجاج. وقرأ أبو جعفر بنصب اسم الله. والمعنى: بحفظهن الله في طاعته.
قوله تعالى: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ في الخوف قولان: أحدهما: أنه بمعنى العلم، قاله ابن عباس. والثاني: بمعنى الظن لما يبدو من دلائِل النشوز، قاله الفراء، وأنشد:
وما خِفْتُ يا سلاَّم أنّك عائِبي «1»
قال ابن قتيبة: والنشوز: بغض المرأة للزوج، يقال: نَشَزَت المرأة على زوجها، ونشصت: إِذا فركته «2» ، ولم تطمئن عنده، وأصل النشوز: الانزعاج. وقال الزجاج: أصله من النشز، وهو المكان المرتفع من الأرض.
قوله تعالى: فَعِظُوهُنَّ قال الخليل: الوعظ: التذكير بالخير فيما يرق له القلب. قال الحسن:
يعظها بلسانه، فان أبت، وإِلا هجرها. واختلفوا في المراد بالهجر في المضجع على أربعة أقوال:
أحدها: أنه ترك الجماع، رواه سعيد بن جبير، وابن أبي طلحة، والعوفيُّ، عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير، ومقاتل. والثاني: أنه ترك الكلام، لا ترك الجماع، رواه أبو الضحى، عن ابن عباس، وخصيف، عن عكرمة، وبه قال السدي، والثوري. والثالث: أنه قول الهُجْرِ من الكلام في المضاجع، روي عن ابن عباس، والحسن، وعكرمة. فيكون المعنى: قولوا لهنَّ في المضاجع هُجْراً من القول.
والرابع: أنه هجر فراشها، ومضاجعتها. روي عن الحسن، والشعبي، ومجاهد، والنخعي، ومقسم، وقتادة. قال ابن عباس: اهجرها في المضجع، فان أقبلت وإِلاَّ فقد أذن الله لك أن تضرِبَها ضرباً غير مبرّح. وقال جماعة من أهل العلم: الآية على الترتيب، فالوعظ عند خوف النشوز، والهجر عند ظهور النشوز، والضرب عند تكرّره، واللجاج فيه. ولا يجوز الضرب عند ابتداء النشوز. قال القاضي أبو يعلى: وعلى هذا مذهب أحمد. وقال الشافعي: يجوز ضربها في ابتداء النشوز.
قوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ قال ابن عباس: يعني في المضجع فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا أي:
فلا تتجنّ عليها العلل. وقال سفيان بن عيينة: لا تكلّفها الحُبَّ، لأن قلبها ليس في يدها. وقال ابن جرير: المعنى: فلا تلتمسوا سبيلاً إِلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل، وذلك أن تقول لها وهي مطيعة لك: لست لي مُحبّة، فتضربها، أو تؤذيها.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً قال أبو سليمان الدمشقي: لا تبغوا على أزواجكم،
__________
(1) هو عجز بيت لأبي الغول الطهوي كما في «الخزانة» 3/ 109. وصدره: أتاني زمان عن نصيب بقوله
(2) في «اللسان» فركته: أبغضته.(1/402)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
فهو ينتصر لهن منكم. وقال الخطابي: الكبير: الموصوف بالجلال، وكبر الشأن، يصغر دون جلاله كل كبير. ويقال: هو الذي كبر عن شبه المخلوقين.
[سورة النساء (4) : آية 35]
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)
قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما، في الخوف قولان: أحدهما: أنه الحذر مِن وجود ما لا يتيقّن وُجوده، قاله الزجاج. والثاني: أنه العلم، قاله أبو سليمان الدمشقي. قال الزجاج: والشقاق:
العداوة، واشتقاقه من المتشاقين، كل صنف منهم في شقّ. و «الحكم» : هو القيّم بما يسند إِليه. وفي المأمور بانفاذ الحكمين قولان: أحدهما: أنه السلطان إذا ترافعا إليه، قاله سعيد بن جبير، والضحاك.
والثاني: الزوجان، قاله السدي.
قوله تعالى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً قال ابن عباس: يعني الحكمين. وفي قوله تعالى: يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما قولان: أحدهما: أنه راجع إلى الحكمين، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وعطاء، والسدي، والجمهور. والثاني: أنه راجع إلى الزوجين، ذكره بعض المفسّرين.
فصل: والحكمان وكيلان للزوجين، ويُعتبرُ رضى الزوجين فيما يحكمان به، هذا قول أحمد وأبي حنيفة وأصحابه. وقال مالك والشافعي: لا يفتقرُ حكمُ الحكمين إلى رضى الزّوجين «1» .
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 10/ 263: والزوجان إذا وقعت بينهما العداوة وخشي عليهما أن يخرجهما ذلك إلى العصيان، بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها، مأمونين، برضى الزوجين، وتوكيليهما، بأن يجمعا إذا رأيا أو يفرّقا، فما فعلا من ذلك لزمهما، وجملة ذلك أن الزوجين إذا وقع بينهما شقاق، نظر الحاكم، فإن بان له أنه من المرأة، فهو نشوز- وسيأتي عند الآية 128- وإن بان أنه من الرجل أسكنهما إلى جانب ثقة، يمنعه من الإضرار بها، والتعدي عليها. وكذلك إن بان من كل واحد منهما تعدّ أو ادّعى كلّ واحد منهما أن الآخر ظلمه، أسكنهما إلى جانب من يشرف عليهما ويلزمهما الإنصاف، فإن لم يتهيأ ذلك، وتمادى الشرّ بينهما، وخيف الشقاق عليهما والعصيان، بعث الحاكم حكما من أهله وحكما من أهلها، فنظرا بينهما، وفعلا ما يريان المصلحة فيه، من جمع أو تفريق، لقوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما.
واختلفت الرواية عن أحمد، رحمه الله، في الحكمين، ففي إحدى الروايتين عنه، أنهما وكيلان لهما، لا يملكان التفريق إلا بإذنهما. وهذا مذهب عطاء وأحد قولي الشافعي. وحكي ذلك عن الحسن، وأبي حنيفة، لأنّ البضع حقه، والمال حقّها وهما رشيدان، فلا يجوز لغيرهما التصرف فيه إلا بوكالة منهما، أو ولاية عليهما. والثانية أنهما حاكمان، ولهما أن يفعلا ما يريان من جمع وتفريق، بعوض وغير عوض، ولا يحتاجان إلى توكيل الزوجين ولا رضاهما. وروي ذلك عن علي، وابن عباس، والشعبي والنخعي وسعيد بن جبير ومالك والأوزاعي، وابن المنذر، لقول الله تعالى، فسمّاهما حكمين ولم يعتبر رضى الزوجين ثم قال تعالى:
إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً. فخاطب الحكمين بذلك. وروي أبو بكر، بإسناده عن عبيدة السلماني، أن رجلا وامرأة أتيا عليا، مع كل واحد منهما فئام من الناس، فقال علي رضي الله عنه: ابعثوا حكما من أهله، وحكما من أهلها، فبعثوا حكمين، ثم قال عليّ للحكمين: هل تدريان ما عليكما من الحقّ إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما. فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله عليّ ولي، فقال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال عليّ: كذبت حتى ترضى بما رضيت به. وهذا يدل على أنه أجبره على ذلك. ولا يمتنع أن تثبت الولاية على الرّشيد عند امتناعه من أداء الحق، كما يقضى الدين عنه من ماله إذا امتنع، إذا ثبت هذا، فإن الحكمين لا يكونان إلا عاقلين بالغين عدلين مسلمين، لأن هذه من شروط العدالة، سواء قلنا: هما حاكمان أو وكيلان.(1/403)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
[سورة النساء (4) : آية 36]
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36)
قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ قال ابن عباس: وحِّدوه.
قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً قال الفرّاء: أغراهم بالإِحسان إِلى الوالدين.
قوله تعالى: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى فيه قولان: أحدهما: أنه الجار الذي بينك وبينه قرابة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل في آخرين. والثاني: أنه الجار المسلم، قاله نوف الشامي. فيكون المعنى: ذي القربى منكم بالإِسلام.
قوله تعالى: وَالْجارِ الْجُنُبِ روى المفضّل، عن عاصم: «والجار الجنب» بفتح الجيم، وإِسكان النون. قال أبو علي: المعنى: والجار ذي الجنب، فحذف المضاف. وفي الجار الجنب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الغريب الذي ليس بينك وبينه قرابة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وعطاء، وعكرمة، والضحاك، وابن زيد، ومقاتل في آخرين. والثاني: أنه جارك عن يمينك، وعن شمالك، وبين يديك، وخلفك، رواه الضحاك، عن ابن عباس. والثالث: أنه اليهودي والنصراني، قاله نوف الشامي. وفي الصاحب بالجنب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الزوجة، قاله علي، وابن مسعود، والحسن، وإبراهيم النخعي، وابن أبي ليلى. والثاني: أنه الرفيق في السفر، قاله ابن عباس في رواية مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن قتيبة. وعن سعيد بن جبير كالقولين. والثالث: أنه الرفيق، رواه ابن جريج، عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. قال ابن زيد: هو الذي يلصق بك رجاء خيرك. وقال مقاتل: هو رفيقك حضراً وسفراً. وفي ابن السبيل أقوال قد ذكرناها في (البقرة) .
قوله تعالى: وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعني: المملوكين. وقال بعضهم: يدخل فيه الحيوان البهيم. قال ابن عباس: والمختال: البطرُ في مشيته، والفخور: المفتخر على الناس بكبره. وقال مجاهد: هو الذي يعد ما أعطى، ولا يشكر الله، وقال ابن قتيبة: المختال: ذو الخيلاء والكبر. وقال الزجاج: المختال: الصَّلِف التيّاه الجهول. وإِنما ذكر الاختيال هاهنا، لأن المختال يأنف من ذوي قراباته، ومن جيرانه إذا كانوا فقراء.
[سورة النساء (4) : آية 37]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ ذكر المفسرون أنها نزلت في اليهود. فأما سبب نزولها، فقال ابن عباس: كان كَرْدَم بن زيد حليف كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبحري بن عمرو، وحيي بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، يأتون رجالاً من الأنصار من أصحاب رسول(1/404)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
الله صلّى الله عليه وسلّم وكانوا يخالطونهم، وينتصحون لهم، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم، فإنّا نخشى عليكم الفقر، ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون، فنزلت هذه الآية.
وفي الذي بخلوا به وأمروا الناس بالبخل به قولان: أحدهما: أنه المال، قاله ابن عباس، وابن زيد. والثاني: أنه إظهار صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ونبوّته، قاله مجاهد، وقتادة، والسدي.
قوله تعالى: وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «بالبخْل» خفيفاً. وقرأ حمزة والكسائي: «بالبَخَل» محركاً، وكذلك في سورة الحديد.
وفي الذين آتاهم الله من فضله قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، أوتوا علم نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكتموه، هذا قول الجمهور. والثاني: أنهم أرباب الأموال بخلوا بها، وكتموا الغنى، ذكره الماوردي في آخرين «1» .
قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا قال الزجاج: معناه: جعلنا ذلك عتاداً لهم، أي: مثبتاً لهم.
[سورة النساء (4) : آية 38]
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهم اليهود، قاله ابن عباس ومجاهد ومقاتل. والثاني: أنهم المنافقون، قاله السدي، والزجاج وأبو سليمان الدمشقي. والثالث: مشركو مكة أنفقوا على عداوة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ذكره الثعلبي.
والقرين: الصاحب المؤالف، وهو فعيل من الاقتران بين الشيئين. وفي معنى مقارنة الشّيطان قولان: أحدهما: مصاحبته في الفعل. والثاني: مصاحبته في النار.
[سورة النساء (4) : آية 39]
وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)
قوله تعالى: وَماذا عَلَيْهِمْ المعنى: وأي شيء على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله، لو آمنوا!. وفي الإنفاق المذكور هاهنا قولان: أحدهما: أنه الصدقة، قاله ابن عباس.
والثاني: الزكاة، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
وفي قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً تهديد لهم على سوء مقاصدهم.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 508: وقد حمل السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم وكتمانهم ذلك ولهذا قال تعالى: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً. ولا شك أن الآية محتملة لذلك، والظاهر أن السياق في البخل بالمال وإن كان البخل بالعلم داخلا في ذلك بطريق الأولى فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء وكذلك الآية التي بعدها.
ووافقه الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 89 وزاد: وإنما قلنا: هذا القول أولى بتأويل الآية، لأن الله جل ثناؤه وصفهم بأنهم يأمرون الناس بالبخل ولم يبلغنا عن أمة من الأمم أنها كانت تأمر الناس بالبخل ديانة ولا تخلّقا، بل ترى ذلك قبيحا وتذمّ فاعله، وتمتدح- وإن هي تخلّقت بالبخل واستعملته في أنفسها- بالسخاء والجود، وتعدّه من مكارم الأفعال وتحثّ عليه. ولذلك قلنا: إن بخلهم الذي وصفهم الله به، إنما كان بخلا بالعلم الذي كان الله آتاهموه فبخلوا بتبيينه للناس وكتموه.(1/405)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
[سورة النساء (4) : آية 40]
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ قد شرحنا الظلم فيما سَلف، وهو مستحيل على الله عزّ وجلّ، لأن قوماً قالوا: الظلم: تصرّف فيما لا يملك، والكل ملكه، وقال آخرون: هو وضع الشيء في غير موضعه، وحكمته لا تقتضي فعلاً لا فائدة تحته. ومثقال الشيء: زنة الشيء. قال ابن قتيبة: يقال:
هذا على مثقال هذا، أي: على وزنه. قال الزجاج: وهو مفعال من الثقل.
وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي قال: يظن الناس أن المثقال وزن دينار لا غير، وليس كما يظنون. مثقال كل شيء: وزنه، وكل وزن يسمى مثقالاً، وإن كان وزن ألف. قال الله تعالى: وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ قال أبو حاتم: سألت الأصمعي عن صنجة مثقال الميزان، فقال:
فارسي، ولا أدري كيف أقول، ولكني أقول: مثقال، فإذا قلت للرجل: ناولني مثقالاً، فأعطاك صنجة ألف، أو صنجة حبّة، كان ممتثلاً.
وفي المراد بالذرّة خمسة أقوال: أحدها: أنه رأس نملة حمراء، رواه عكرمة عن ابن عباس.
والثاني: ذرّة يسيرة من التراب، رواه يزيد بن الأصم، عن ابن عباس. والثالث: أصغر النمل، قاله ابن قتيبة، وابن فارس. والرابع: الخردلة. والخامس: الواحدة من الهباء الظاهر في ضوء الشمس إذا طلعت من ثقب، ذكرهما الثعلبي. واعلم أن ذكر الذرّة ضرب مثل بما يعقل، والمقصود أنه لا يظلم قليلاً ولا كثيراً.
قوله تعالى: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً قرأ ابن كثير، ونافع: «حسنة» بالرفع. وقرأ الباقون بالنصب. قال الزجاج: من رفع، فالمعنى: وإِن تحدثْ حسنة، ومن نصب، فالمعنى: وإن تك فعلته حسنة. قوله تعالى: يُضاعِفْها قرأ ابن عامر، وابن كثير: «يُضعِّفها» بالتشديد من غير ألف. وقرأ الباقون:
«يضاعفها» بألف مع كسر العين. قال ابن قتيبة: يضاعفها بالألف: يعطي مثلها مرات، ويضعفها بغير ألف: يعطي مثلها مرّة.
قوله تعالى: مِنْ لَدُنْهُ أي: من قبله. والأجر العظيم: الجنّة «1» .
[سورة النساء (4) : آية 41]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41)
قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ قال الزجاج: معنى الآية فكيف يكون حال هؤلاء يوم القيامة، فحذف الحال، لأن في الكلام دليلاً عليه. ولفظ «كيف» لفظ الاستفهام، ومعناها:
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 509: يقول الله تعالى مخبرا أنه لا يظلم أحدا من خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل ولا مثقال ذرة بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة، كما قال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ الآية وقال تعالى: مخبرا عن سليمان أنه قال: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ وفي «الصحيحين» عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حديث الشفاعة الطويل، وفيه «يقول الله عز وجل: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه ذرة من إيمان فأخرجوه من النار» ، وفي لفظ «أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار» ، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقول أبو سعيد: اقرءوا إن شئتم: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ الآية.(1/406)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
التوبيخ. والشهيد: نبي الأمة. وبماذا يشهد فيه أربعة أقوال: أحدها: بأنه قد بلغ أمّته. قاله ابن مسعود، وابن جريج، والسدي، ومقاتل. والثاني: بإيمانهم، قاله أبو العالية. والثالث: بأعمالهم، قاله مجاهد، وقتادة. والرابع: يشهد لهم وعليهم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَجِئْنا بِكَ يعني: نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم. وفي «هؤلاء» ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم جميع أمته، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه يشهد عليهم. والثاني: يشهد لهم فتكون «على» بمعنى: اللام. والقول الثاني: أنهم الكفار يشهد عليهم بتبليغ الرسالة، قاله مقاتل. والثالث: اليهود والنصارى، ذكره الماورديّ.
[سورة النساء (4) : آية 42]
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)
قوله تعالى: لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو: «لو تُسْوى» ، بضم التاء، وتخفيف السين. والمعنى: ودُّوا لو جُعِلُوا تراباً، فكانوا هم والأرض سواء، هذا قول الفرّاء في آخرين.
قال أبو هريرة: إِذا حشر الله الخلائق، قال للبهائم، والدّواب، والطير: كوني تراباً. فعندها يقول الكافر: يا ليتني كنت تراباً.
وقرأ نافع، وابن عامر: «لو تَسَّوّى» ، بفتح التاء، وتشديد السين، والمعنى: لو تتسوى، فأدغمت التاء في السين، لقربها منها. قال أبو علي: وفي هذه القراءة اتّساع، لأن الفعل مسند إِلى الأرض، وليس المراد: ودّوا لو صارت الأرض مثلهم، وإنما المعنى: ودّوا لو يتسوّون بها.
ثم في المعنى للمفسرين قولان: أحدهما: أن معناه: ودّوا لو تخرقت بهم الأرض، فساخوا فيها، قاله قتادة، وأبو عبيدة، ومقاتل. والثاني: أن معناه: ودّوا أنهم لم يبعثوا، لأن الأرض كانت مستوية بهم قبل خروجهم منها، قاله ابن كيسان، وذكر نحوه الزجاج.
وقرأ حمزة، والكسائي: «لو تسوّى» ، بفتح التاء، وتخفيف السين والواو مشدّدة ممالة، وهي بمعنى: تتسوّى، فحذف التاء التي أدغمها نافع، وابن عامر. فأما معنى القراءتين، فواحد.
قوله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً في الحديث قولان: أحدهما: أنه قولهم: ما كنا مشركين، هذا قول الجمهور. والثاني: أنه أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصفته ونعته، قاله عطاء. فعلى الأول يتعلق الكتمان بالآخرة، وعلى الثاني يتعلق بما كان في الدنيا، فيكون المعنى: ودوا أنهم لم يكتموا ذلك.
وفي معنى الآية ستة أقوال: أحدها: ودّوا إِذا فضحتهم جوارحهم أنهم لم يكتموا الله شركهم، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس. والثاني: أنهم لما شهدت عليهم جوارحهم لم يكتموا الله حديثا بعد ذلك، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث: أنهم في موطن لا يكتمونه حديثا، وفي موطن يكتمون، ويقولون: ما كنا مشركين، قاله الحسن. والرابع: أن قوله تعالى: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً كلام مستأنف لا يتعلق بقوله: «لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ» ، هذا قول الفرّاء، والزجاج. ومعنى: لا يكتمون الله حديثاً:
لا يقدرون على كتمانه، لأنه ظاهر عند الله. والخامس: أن المعنى: ودّوا لو سوّيت بهم الأرض، وأنهم لم يكتموا الله حديثا. والسادس: أنهم لم يعتقدوا قولهم: ما كنا مشركين كذباً، وإِنما اعتقدوا أن عبادة الأصنام طاعة، ذكر القولين ابن الأنباري. وقال القاضي أبو يعلى: أخبروا بما توهّموا، إِذ كانوا(1/407)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
يظنون أنهم ليسوا بمشركين، وذلك لا يخرجهم عن أن يكونوا قد كذبوا.
[سورة النساء (4) : آية 43]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى.
(287) روى أبو عبد الرحمن السلمي، عن عليّ بن أبي طالب قال: صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً، فدعانا، وسقانا من الخمر، فأخذت الخمر منّا، وحضرت الصلاة، فقدّموني، فقرأت قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، ونحن نعبد ما تعبدون، فنزلت هذه الآية. وفي رواية أخرى، عن أبي عبد الرحمن، عن عليّ رضي الله عنه أن الذي قدموه، وخلط في هذه السورة، عبد الرحمن بن عوف.
وفي معنى قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ قولان: أحدهما: لا تتعرّضوا بالسكر في أوقات الصلاة. والثاني: لا تدخلوا في الصلاة في حال السكر، والأول أصح، لأن السكران لا يعقل ما يخاطب به. وفي معنى: وَأَنْتُمْ سُكارى قولان: أحدهما: من الخمر، قاله الجمهور. والثاني: من النوم، قاله الضحاك، وفيه بعد. وهذه الآية اقتضت إِباحة السكر في غير أوقات الصلاة، ثم نسخت بتحريم الخمر. قوله تعالى: وَلا جُنُباً قال ابن قتيبة: الجنابة: البعد، قال الزجاج: يقال: رجل جنب، ورجلان جُنب، ورجال جُنب، كما يقال: رجل رضى، وقوم رضى. وفي تسمية الجنب بهذا الاسم قولان: أحدهما: لمجانبة مَائهِ محله. والثاني: لما يلزمه من اجتناب الصلاة، وقراءة القرآن، ومسّ المصحف، ودخول المسجد «1» .
__________
حديث حسن. أخرجه أبو داود 3671 والترمذي 3026 والحاكم 2/ 307 والطبري 9526 وإسناده حسن، وفيه أن الذي قدّم للصلاة هو علي رضي الله عنه، وفيه عطاء بن السائب لكن الثوري الراوي عنه سمع منه قبل الاختلاط، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه الترمذي، والله أعلم.
__________
(1) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 197: والجمهور من الأمة على أن الجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان. وروي عن بعض الصحابة أن لا غسل إلا من إنزال، لقوله عليه السلام: «إنما الماء من الماء» .
أخرجه مسلم. وفي البخاري عن أبي بن كعب أنه قال: يا رسول الله، إذا جامع الرجل المرأة فلم ينزل؟ قال «يغسل ما مس المرأة منه ثم يتوضأ ويصلي» . قال أبو عبد الله: الغسل أحوط، وذلك الآخر إنما بيناه لاختلافهم. وأخرجه مسلم في صحيحه بمعناه وقال في آخر: قال أبو العلاء بن الشّخّير كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينسخ حديثه بعضه بعضا كما ينسخ القرآن بعضه بعضا. قال أبو إسحاق هذا منسوخ. وقال الترمذي: كان هذا الحكم في أول الإسلام ثم نسخ. قلت: على هذا جماعة العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، وأن الغسل يجب بنفس التقاء الختانين. وقد كان فيه خلاف بين الصحابة. قال ابن القصار: وأجمع التابعون ومن بعدهم بعد خلاف ما قبلهم على الأخذ بحديث «إذا التقى الختانان» وإذا صح الإجماع بعد الخلاف كان مسقطا للخلاف. قال القاضي عياض: لا نعلم أحدا قال به بعد خلاف الصحابة إلا ما حكي عن الأعمش ثم بعده داود الأصبهاني. وقد روي أن عمر رضي الله عنه حمل الناس على ترك الأخذ بحديث: «الماء من الماء» لما اختلفوا، وتأوله ابن عباس على الاحتلام، أي إنما يجب الاغتسال بالماء من إنزال الماء في الاحتلام.
ومتى لم يكن إنزال وإن رأى أنه يجامع فلا غسل. وهذا ما لا خلاف فيه بين كافة العلماء. وانظر «المغني» 1/ 265 باب ما يوجب الغسل ففيه تفصيل وزيادة بيان.(1/408)
قوله تعالى: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: لا تقربوا الصلاة وأنتم جنب إِلا أن تكونوا مسافرين غير واجدين للماء فتيمّموا، وتصلّوا. وهذا المعنى مروي عن عليّ رضي الله عنه.
ومجاهد، والحكم، وقتادة، وابن زيد، ومقاتل، والفراء، والزجاج.
والثاني: لا تقربوا مواضع الصلاة- وهي المساجد- وأنتم جنب إِلا مجتازين، ولا تقعدوا. وهذا المعنى مروي عن ابن مسعود، وأنس بن مالك، والحسن، وسعيد بن المسيّب، وعكرمة، وعطاء الخراساني، والزهري، وعمرو بن دينار، وأبي الضحى، وأحمد، والشافعي، وابن قتيبة «1» . وعن ابن عباس، وسعيد بن جبير، كالقولين، فعلى القول الأول: «عابر السبيل» : المسافر، وقربان الصّلاة:
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 199- 201: ولا يقرأ القرآن جنب ولا حائض ولا نفساء وليس لهم اللبث في المسجد لقوله تعالى: وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا
. وروت عائشة، قالت: جاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، وبيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: «وجهوا هذه البيوت عن المسجد، فإني لا أحلّ المسجد لحائض ولا جنب» رواه أبو داود. ويباح العبور للحاجة من أخذ شيء أو تركه، أو كون الطريق فيه، فأما لغير ذلك فلا يجوز بحال. وممن نقلت عنه الرخصة في العبور: ابن مسعود، وابن عباس، وابن المسيب، وابن جبير، والحسن، ومالك والشافعي. وقال الثوري وإسحاق: لا يمر في المسجد إلا أن لا يجد بدّا، فيتيمم. وهو قول أصحاب الرأي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحل المسجد لحائض ولا جنب» ، ولنا قول الله تعالى: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ والاستثناء من المنهي عنه إباحة، وعن عائشة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لها: «ناوليني الخمرة من المسجد» . قالت: إني حائض، قال: «إن حيضتك ليست في يدك» رواه مسلم. وعن جابر قال:
كنا نمرّ في المسجد ونحن جنب. رواه ابن المنذر. وعن زيد بن أسلم، قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمشون في المسجد وهم جنب. رواه ابن المنذر أيضا. وهذا إشارة إلى جميعهم فيكون إجماعا. وإن خاف الجنب على نفسه أو ماله، أو لم يمكنه الخروج من المسجد، أو لم يجد مكانا غيره، أو لم يمكنه الغسل ولا الوضوء، تيمم، ثم أقام في المسجد، وقال بعض أصحابنا: يلبث بغير تيمم، لأن التيمم لا يرفع الحدث.
وهذا غير صحيح، لأنه يخالف قول من سمينا من الصحابة، ولأن هذا أمر يشترط له الطهارة فوجب التيمم له عند العجز عنها، كالصلاة وسائر ما يشترط له الطهارة. وقولهم: لا يرفع الحدث. قلنا: إلا أنه يقوم مقام ما يرفع الحدث، في إباحة ما يستباح به. إذا توضأ الجنب فله اللبث في المسجد في قول أصحابنا وإسحاق.
وقال أكثر أهل العلم: لا يجوز، للآية والخبر. واحتج أصحابنا بما روي عن زيد بن أسلم، قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يتحدثون في المسجد على غير وضوء وكان الرجل يكون جنبا فيتوضأ، ثم يدخل، فيتحدّث. وهذا إشارة إلى جميعهم، فيكون إجماعا يخصّ به العموم، ولأنه إذا توضأ خفّ حكم الحدث فأشبه التيمم عند عدم الماء، ودليل خفته أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم الجنب به إذا أراد النوم، واستحبابه لمن أراد الأكل ومعاوده الوطء. أما الحائض فلا يباح لها اللبث، لأن وضوءها لا يصح. وأما المستحاضة ومن به سلس البول، فلهم اللبث في المسجد والعبور إذا أمنوا تلويث المسجد، لما روي عن عائشة، أن امرأة من أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اعتكفت معه وهي مستحاضة، فكانت ترى الخمرة والصفرة، وربما وضعت الطست تحتها وهي تصلي. رواه البخاري. ولأنه حدث لا يمنع الصلاة فلم يمنع اللبث، كخروج الدم اليسير من أنفه. فإن خاف تلويث المسجد فليس له العبور، فإن المسجد يصان عن هذا، كما يصان عن البول فيه. ولو خشيت الحائض تلويث المسجد بالعبور فيه لم يكن لها ذلك.(1/409)
فعلها، وعلى الثاني: «عابر السبيل» : المجتاز في المسجد، وقربان الصلاة: دخول المسجد الذي تفعل فيه الصلاة.
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى، في سبب نزول هذا الكلام قولان:
(288) أحدهما: أن رجلاً من الأنصار كان مريضاً فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ، ولم يكن له خادم، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر له ذلك، فنزلت: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ قاله مجاهد.
(289) والثاني: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصابتهم جراحات، ففشت فيهم وابتلوا بالجنابة فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى الآية كلها، قاله إبراهيم النخعي.
قال القاضي أبو يعلى: وظاهر الآية يقتضي جواز التيمم مع حصول المرض الذي يستضرّ معه باستعمال الماء، سواء كان يخاف التلف، أو لا يخاف، وكذلك السفر يجوز فيه التيمم عند عدم الماء، سواء كان قصيراً، أو طويلاً، وعدم الماء ليس بشرط في جواز التيمم للمريض، وإنما الشرط: حصول الضرر، وأما السفر، فعدم الماء شرط في إِباحة التيمم، وليس السفر بشرط، وإنما ذكر السفر، لأن الماء يُعدم فيه غالبا «1» .
__________
ضعيف. أخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر المنثور» 2/ 296 عن مجاهد مرسلا، فهو ضعيف.
ضعيف. أخرجه الطبري 9639 عن إبراهيم النّخعي مرسلا.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 316 و 334- 336 (وإذا كان به قرح أو مرض مخوف، وأجنب، فخشي على نفسه إن أصابه الماء، غسل الصحيح من جسده، وتيمم لما لم يصبه الماء) فالجريح والمريض إذا خاف على نفسه من استعمال الماء جاز له التيمم، هذا قول أكثر أهل العلم، منهم ابن عباس ومجاهد، وعكرمة، وطاوس، والنخعي، وقتادة ومالك، والشافعي. ولم يرخّص له عطاء في التيمم إلا عند عدم الماء، لظاهر الآية، ونحوه عن الحسن في المجدور الجنب، قال لا بد من الغسل. ولنا، قول الله تعالى:
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ. وحديث عمرو بن العاص حين تيمم من خوف البرد، وحديث ابن عباس، وجابر في الذي أصابته الشجّة ولأنه يباح له التيمم إذا خاف العطش، أو خاف من سبع، فكذلك هاهنا، فإن الخوف لا يختلف، وإنما اختلفت جهاته. واختلف في الخوف المبيح للتيمم، فروي عن أحمد: لا يبيحه إلا خوف التّلف. وهذا أحد قولي الشافعي. وظاهر المذهب: أنه يباح له التيمم إذا خاف زيادة المرض أو تباطؤ البرء، أو خاف شيئا فاحشا، أو ألما غير محتمل. وهذا مذهب أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي. وهو الصحيح، لعموم قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ لأنه يجوز له التيمم إذا خاف ذهاب شيء من ماله، أو ضررا في نفسه من لص، أو سبع أو لم يجد الماء إلا بزيادة على ثمن مثله كثيرة، فلأن يجوز هاهنا أولى والمرض والجريح الذي لا يخاف الضرر باستعمال الماء، مثل من به الصداع والحمّى الحارة، أو أمكنه استعمال الماء الحار، ولا ضرر عليه فيه، لزمه ذلك. وحكي عن داود ومالك، إباحة التيمم للمريض مطلقا، لظاهر الآية. ولنا، أنه واجد للماء، لا يستضرّ باستعماله فلم يجز له التيمم، كالصحيح، والآية اشترط فيها عدم الماء، فلم يتناول محل النزاع، على أنه لا بد فيها من إضمار الضرورة، والضرورة إنما تكون عند الضرر. ومن كان مريضا لا يقدر على الحركة، ولا يجد من يناوله الماء، فهو كالعادم. قاله ابن أبي موسى.
وهو قول الحسن، لأنه لا سبيل له إلى الماء فأشبه من وجد بئرا ليس له ما يستقي به منها. وإن كان له من يناوله الماء قبل خروج الوقت، فهو كالواجد، لأنه بمنزلة ما يستقى به في الوقت. وإن خاف خروج الوقت قبل مجيئه. قال ابن أبي موسى: له التيمم ولا إعادة عليه. وهو قول الحسن، لأنه عادم في الوقت، فأشبه العادم مطلقا، ويحتمل أن ينتظر مجيء من يناوله، لأنه جاهز ينتظر حصول الماء قريبا، فأشبه المشتغل باستقاء الماء وتحصيله.(1/410)
قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ «أو» بمعنى الواو، لأنها لو لم تكن كذلك، لكان وجوب الطّهارة على المريض والمسافر غير متعلق بالحدث. والغائِط: المكان المطمئن من الأرض، فكني عن الحدث بمكانه، قاله ابن قتيبة. وكذلك قالوا للمزادة: راوية، وإنما الرَّاوية للبعير الذي يُسقى عليه، وقالوا للنساء: ظعائن، وإِنما الظعائن: الهوادج، وكنَّ يكن فيها، وسموا الحدث عذرة، لأنهم كانوا يلقون الحدث بأفنية الدّور.
قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «أو لامستم» بألف هاهنا، وفي (المائدة) وقرأ حمزة، والكسائي، وخلف في اختياره، والمفضّل عن عاصم، والوليد بن عتبة، عن ابن عامر «أو لمستم» بغير ألف هاهنا، وفي «المائدة» .
وفي المراد بالملامسة قولان: أحدهما: أنها الجماع، قاله علي، وابن عباس، والحسن، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنها الملامسة باليد، قاله ابن مسعود، وابن عمر، والشعبي، وعبيدة، وعطاء، وابن سيرين، والنخعي، والنهدي، والحكم، وحماد. قال أبو علي: اللّمس يكون باليد، وقد اتسع فيه، فأوقع على غيره، فمن ذلك وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ «1» أي: عالجنا غيب السماء، ومنا من يسترقه فيلقيه إلى الكهنة، ويخبرهم به. فلما كان اللّمس يقع على غير المباشرة باليد، قال: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ «2» فخصّ اليد، لئلا يلتبس بالوجه الآخر، كما قال: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ «3» لأنّ الابن قد يتبنّى وليس من الصّلب «4» .
__________
(1) سورة الجن: 8.
(2) سورة الأنعام: 7.
(3) سورة النساء: 33. [.....]
(4) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 256: المشهور من مذهب أحمد، رحمه الله، أن لمس النساء لشهوة ينقض الوضوء ولا ينقضه لغير شهوة وهذا قول علقمة، وأبي عبيدة، والنخعيّ، والحكم، وحمّاد، ومالك، والثوري، وإسحاق، والشعبي، فإنهم قالوا: يجب الوضوء على من قبل لشهوة، ولا يجب على من قبل لرحمة. وممن أوجب الوضوء ابن مسعود وابن عمر، والزهري والشافعي. قال أحمد: المدنيون والكوفيون ما زالوا يرون أن القبلة من اللمس تنقض الوضوء، حتى كان بأخرة وصار فيهم أبو حنيفة، فقالوا:
لا تنقض الوضوء. ويأخذون بحديث عروة ونرى أنه غلط. وعن أحمد، رواية ثانية، لا ينقض اللمس بحال.
وروي ذلك عن علي، وابن عباس وبه قال أبو حنيفة، إلا أن يطأها دون الفرج فينتشر فيها، لما روى حبيب عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل امرأة من نسائه، وخرج إلى الصلاة، ولم يتوضأ. وهو حديث مشهور. ولأن الوجوب من الشرع ولم يرد بهذا شرع ولا هو في معنى ما ورد الشرع به، وقوله أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أراد به الجماع، بدليل أن المس أريد به الجماع فكذلك اللمس، ولأنه ذكره بلفظ المفاعلة، والمفاعلة لا تكون من أقل من اثنين. وعن أحمد رواية ثالثة، أن اللمس ينقض بكل حال. وهو مذهب الشافعي، لعموم قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ وحقيقة اللمس ملاقاة البشرتين. وأما حديث القبلة فكل طرقه معلولة، قال يحيى بن سعيد: احك عني أن هذا الحديث شبه لا شيء. واللمس لغير شهوة لا ينقض، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يمس زوجته في الصلاة وتمسّه. ولو كان ناقضا للوضوء لم يفعله، قالت عائشة: إن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليصلّي، وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة، فإذا أراد أن يسجد غمزني فقبضت رجلي. متفق عليه.
وفي حديث آخر: فإذا أراد أن يوتر مسني برجله. يحققه أن اللمس ليس بحدث في نفسه، وإنما نقض لأنه يفضي إلى خروج المذي أو المني فاعتبرت الحالة التي تقضي إلى الحدث فيها، وهي حالة الشهوة. ولا فرق بين الأجنبية وذات المحرم، والكبيرة والصغيرة. وقال الشافعي: لا ينقض لمس ذوات المحارم، ولا الصغيرة في أحد القولين، لأن لمسهما لا يفضي إلى خروج خارج، أشبه لمس الرجل الرجل. ولنا عموم النص، واللمس الناقض تعتبر فيه الشهوة، ومتى وجدت الشهوة فلا فرق بين الجميع. وسئل أحمد عن المرأة إذا مست زوجها؟ قال: ما سمعت فيه شيئا، ولكن هي شقيقة الرجل. يعجبني أن تتوضأ لأن المرأة أحد المشتركين في اللمس، فهي كالرجل. وينتقض وضوء الملموس إذا وجدت منه الشهوة، لأن ما ينتقض بالتقاء البشرتين لا فرق فيه بين اللامس والملموس. وفيه رواية أخرى: لا ينتقض وضوء المرأة ولا وضوء الملموس، وللشافعي قولان كالروايتين. ووجه عدم النقض أن النص إنما ورد بالنقض بملامسة النساء، فيتناول اللامس من الرجال، فيختص به النقض، كلمس الفرج. ولأن المرأة والملموس لا نص فيه، ولا هو في معنى المنصوص، وإذا امتنع النص والقياس لم يثبت الدليل.(1/411)
قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماء فَتَيَمَّمُوا.
(290) سبب نزولها: أن عائشة رضي الله عنها كانت مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره، فانقطع عقد لها، فأقام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على التماسه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فنزلت هذه الآية، فقال أسيد بن حُضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. أخرجه البخاري، ومسلم.
(291) وفي رواية أخرى أخرجها البخاري، ومسلم أيضاً: أن عائشة استعارت من أسماء قلادة فهلكت، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجالاً في طلبها، فأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا بغير وضوء، وشكوا ذلك إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت آية التيمم.
والتيمم في اللغة: القصد، وقد ذكرناه في قوله تعالى: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ. وأمّا الصعيد: فهو التراب، قاله علي، وابن مسعود، والفراء، وأبو عبيد، والزجاج، وابن قتيبة. وقال الشافعي: لا يقع اسم الصعيد إِلا على تراب ذي غبار. وفي الطيّب قولان: أحدهما: أنه الطاهر. والثاني: الحلال.
قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ الوجه الممسوح في التيمم هو المحدود في الوضوء.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 334 و 3672 و 4607 و 5250 و 6844 ومسلم 367 والنسائي 1/ 163- 164 وعبد الرزاق 880 والشافعي 1/ 43- 44 وأبو عوانة 1/ 302 وابن خزيمة 262 وابن حبان 1300 والبيهقي 1/ 223- 224. وأخرجه البخاري 4608 و 6845 والطبري 9641 والبيهقي 1/ 223 من طريق آخر. كلهم عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء- أو بذات الجيش- انقطع عقد لي، فأقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على التماسه، وأقام الناس معه، وليسوا على ماء، فأتى الناس إلى أبي بكر الصديق فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: حبست رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والناس، وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فقالت عائشة: فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعنني بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فخذي، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أصبح على غير ماء، فأنزل الله آية التيمم، فَتَيَمَّمُوا. فقال أسيد بن الحضير: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت: فبعثنا البعير الذي كنت عليه، فأصبنا العقد تحته. لفظ البخاري.
صحيح. أخرجه البخاري 336 و 4583 و 5164 و 5882 ومسلم 367 ح 109، وأبو داود 317 والنسائي 1/ 172 وابن ماجة 568 والحميدي 165 وابن حبان 1709 وأبو عوانة 1/ 303 والطبري 9640 والبيهقي 1/ 214 من طريق هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، وانظر الحديث المتقدم.(1/412)
وفيما يجب مسحه من الأيدي ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه إلى الكوعين حيث يقطع السارق.
(292) روى عمّار عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «التيمم ضربة للوجه والكفين» ، وبهذا قال سعيد بن المسيّب، وعطاء بن أبي رباح، وعكرمة، والأوزاعي، ومكحول، ومالك، وأحمد، وإِسحاق، وداود.
والثاني: أنه إِلى المرفقين.
(293) روى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أنه تيمم، فمسح ذراعيه. وبهذا قال ابن عمر، وابنه سالم، والحسن، وأبو حنيفة، والشافعي، وعن الشعبي كالقولين.
والثالث: أنه يجب المسح من رؤوس الأنامل إِلى الآباط.
(294) روى عمار بن ياسر قال: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر، فنزلت الرّخصة في المسح،
__________
صحيح. أخرجه أحمد 4/ 263 من طريق يونس وعفان قال: حدثنا أبان حدثنا قتادة عن عزرة عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار بن ياسر: «أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم- قال يونس: إنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن التيمم؟ - فقال: ضربة للكفين والوجه- قال عفان: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في التيمم: ضربة للوجه والكفين» .
وأخرجه البخاري 339- 343 ومسلم 368 ح 112 و 113 وأبو داود 326 والنسائي 1/ 169 و 170 وابن ماجة 569 والطيالسي 1/ 63 وأحمد 4/ 265 و 320 وأبو عوانة 1/ 306 والطحاوي في «المعاني» 1/ 112 والدارقطني 1/ 183 وابن الجارود 125 والبيهقي 1/ 209 و 214 و 216 من طرق عن شعبه به، وبعضهم رواه مختصرا. وأخرجه أبو داود 322 والنسائي 1/ 168 والطحاوي 1/ 113 والبيهقي 1/ 210 من طريق أبي مالك عن عبد الرحمن بن أبزى به. وأخرجه أبو داود 323 وابن أبي شيبة 1/ 159 وأبو عوانة 1/ 305 وابن خزيمة 269 والطحاوي 1/ 112 والدارقطني من طرق عن الأعمش عن سلمة بن كهيل عن سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه به. قال عمار: «فضرب النبي صلّى الله عليه وسلّم بيده الأرض فمسح وجهه وكفيه» لفظ البخاري.
وحديث عمار ورد من طرق كثيرة.
وقد أخرج البخاري 347 ومسلم 368 ح 110 وأبو داود 321 والنسائي 1/ 170 وابن أبي شيبة 1/ 158 و 159 وأحمد 4/ 396 و 264 وابن حبان 1304 و 1305 والدارقطني 1/ 179 و 180 من طريق الأعمش عن شقيق بن سلمة قال: كنت جالسا مع عبد الله وأبي موسى فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن الرجل يجنب فلا يجد الماء أيصلي؟ فقال: لا، فقال: أما تذكر قول عمار لعمر: بعثني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حاجة فأجنبت فلم أجد الماء فتمرغت في الصعيد كما تمرّغ الدابة، فذكرت ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا» فضرب بكفه ضربة على الأرض ثم نفضها ثم مسح بها ظهر كفه بشماله أو ظهر شماله بكفه ثم مسح بها وجهه؟. فقال عبد الله: ألم تر عمر لم يقنع بقول عمار.
أخرجه الدارقطني 1/ 177 وإسناده لين لأجل محمد بن ثابت العبدي. وورد من حديث أبي الجهيم، أخرجه الدارقطني 1/ 176، وإسناده ضعيف لضعف أبي صالح كاتب الليث، والصحيح في حديث أبي الجهيم ذكر «ويديه» بدل «ذراعيه» كذا رواه البخاري 337 ومسلم 369 وغيرهما.
أخرجه أبو داود 318 و 319 والنسائي 1/ 168 وابن ماجة 571 والشافعي 1/ 44 وعبد الرزاق 827 وأحمد 4/ 320 و 321 وابن حبان 1310 والبيهقي في «السنن» 1/ 208 والطحاوي في «شرح معاني الآثار» 1/ 110 من طرق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبيه عن عمار بن ياسر. قال الزيلعي في «نصب الراية» 1/ 155: وهو منقطع، فإن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة لم يدرك عمار بن ياسر. وأخرجه أبو داود 320 والطحاوي 1/ 111 والبيهقي 1/ 208 عن ابن عباس عن عمار، وذكره الطيالسي 1/ 63 من طريق الزهري به.
وقال البغوي في «شرح السنة» 2/ 114: وما روي عن عمار أنه قال: تيممنا إلى المناكب، فهو حكاية فعله ولم ينقله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كما حكى عن نفسه التمعك في حال الجنابة، فلما سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأمره بالوجه والكفين، انتهى إليه، وأعرض عن فعله. وفي «نصب الراية» 1/ 156 نقلا عن الأثرم في هذا الحديث: إنما حكى فيه فعلهم دون النبي صلّى الله عليه وسلّم، كما حكى في الآخر أنه أجنب، فعلمه عليه السلام. قال ابن حجر: إن الأحاديث الواردة في صفة التيمم لم يصح منها سوى حديث أبي جهيم وعمار «الفتح» 1/ 444.(1/413)
فضربنا بأيدينا ضربةً لوجوهنا، وضربةً لأيدينا إِلى المناكب والآباط. وهذا قول الزهري «1» .
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قال الخطابي: «العفو» : بناء للمبالغة. و «العفو» : الصفح عن الذنوب، وترك مجازاة المسيء. وقيل: إِنه مأخوذ من عفت الريح الأثر: إِذا درسته، وكأن العافي عن الذنوب يمحوه بصفحه عنه.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 328: ولا خلاف في وجوب مسح الوجه والكفين لقول الله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ويجب مسح جميعها، واستيعاب ما يأتي عليه الماء منها، لا يسقط إلا المضمضة والاستنشاق، وما تحت الشعور الخفيفة وبهذا قال الشافعي ولنا قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ الباء زائدة فيجب تعميمها فيضرب ضربة واحدة، فيمسح وجهه بباطن أصابع يديه، وظاهر كفيه إلى الكوعين بباطن راحتيه ويستحب أن يمسح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلل بين الأصابع، وليس بفرض وإن تيمم بضربتين للوجه واليدين إلى المرفقين فإنه يمسح بالأولى وجهه ويمسح بالثانية يديه فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهور أصابع يده اليمنى، ويمرّها على ظهر الكفّ، فإذا بلغ الكوع قبض أصابعه على حرف الذراع ويمرّها إلى مرفقه، ثم يدير بطن الكف إلى بطن الذراع ويمرها عليه، ويرفع إبهامه، فإذا بلغ الكوع أمر الإبهام على ظهر إبهام يده اليمنى ويمسح بيده اليمنى يده اليسرى كذلك. ويمسح إحدى الراحتين بالأخرى. ويجب مسح اليدين إلى الموضع الذي يقطع منه السارق، أومأ أحمد إلى هذا لما سئل عن التيمم، فأومأ إلى كفه ولم يجاوزه. وقال: قال الله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما من أين تقطع يد السارق؟ أليس من هاهنا؟ وأشار إلى الرسغ. والجريح والمريض إذا أمكنه غسل بعض جسده دون بعض لزمه ما غسل ما أمكنه وتيمم للباقي وبهذا قال الشافعي. وقال أبو حنيفة، ومالك: إن كان أكثر بدنه صحيحا غسله، ولا يتيمم. وإن كان أكثره جريحا تيمم ولا غسل عليه، لأن الجمع بين المبدل والبدل لا يجب ولنا ما روى جابر، قال: خرجنا في سفر، فأصاب رجلا منا شجة في وجهه، ثم احتلم فسأل أصحابه: هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: ما نجد لك رخصة وأنت تقدر على الماء، فاغتسل فمات، فلما قدمنا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبر بذلك، فقال: «قتلوه، قتلهم الله، ألا سألوا، إذا لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على جرحه خرقة، ثم يمسح عليها، ثم يغسل سائر جسده» . ولأن كل جزء من الجسد يجب تطهيره بشيء إذا استوى الجسم كله في المرض أو الصحة. فيجب ذلك فيه وإن خالفه غيره. وما لا يمكن غسله في الصحيح إلا بانتشار الماء إلى الجريح، حكمه حكم الجريح فإن لم يمكنه ضبطه، وقدر أن يستنيب من يضبطه، لزمه ذلك، فإن عجز عن ذلك تيمم وصلى وأجزأه. وإذا كان الجريح جنبا، فهو مخير، إن شاء قدّم التيمم على الغسل، وإن شاء أخره، بخلاف ما إذا كان التيمم لعدم ما يكفيه لجميع أعضائه، فإنه يلزمه استعمال الماء أولا، لأن التيمم للعدم، لا يتحقق إلا بعد فراغ الماء. وإن كان الجريح يتطهر للحدث الأصغر، فذكر القاضي أنه يلزمه الترتيب فيجعل التيمم في مكان الغسل الذي يتيمم بدلا عنه. فإن كان الجرح في بعض وجهه خيّر بين غسل صحيح وجهه ثم تيمم- أو العكس- وإن كان الجرح في عضو آخر، لزمه غسل ما قبله، واحتاج كل عضو إلى تيمم في محل غسله، ليحصل الترتيب.(1/414)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
[سورة النساء (4) : آية 44]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ، اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت.
(295) والثاني: أنها نزلت في رجلين كانا إذا تكلّم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لويا ألسنتهما وعاباه، روي القولان عن ابن عباس. والثالث: أنها نزلت في اليهود، قاله قتادة.
وفي النصيب الذي أوتوه قولان: أحدهما: أنه علم نبوّة محمّد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: العلم بما في كتابهم دون العمل.
قوله تعالى: يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ قال ابن قتيبة: هذا من الاختصار، والمعنى: يشترون الضلالة بالهدى، ومثله وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ «1» أي: تركنا عليه ثناءً حسناً، فحذف الثناء لعلم المخاطب. وفي معنى اشترائِهم الضلالة أربعة أقوال: أحدها: أنه استبدالهم الضلالة بالايمان، قاله أبو صالح، عن ابن عباس. والثاني: أنه استبدالهم التكذيب بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ظهوره بإيمانهم به قبل ظهوره، قاله مقاتل.
والثالث: أنه إِيثارهم التكذيب بالنبي لأخذ الرشوة، وثبوت الرئاسة لهم، قاله الزجاج. والرابع: أنه إِعطاؤهم أحبارهم أموالهم على ما يصنعونه من التكذيب بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا خطاب للمؤمنين. والمراد بالسّبيل: طريق الهدى.
[سورة النساء (4) : آية 45]
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45)
قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ فهو يعلمكم ما هم عليه، فلا تستنصحوهم، وهم اليهود، وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا لكم، فمن كان وليه، لم يضره عدوه. قال الخطابي: «الولي» : الناصر، و «الولي» :
المتولي للأمر، والقائم به، وأصله من الولي، وهو القرب، و «النصير» : فعيل بمعنى فاعل.
[سورة النساء (4) : آية 46]
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)
قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ هادُوا قال مقاتل: نزلت في رفاعة بن زيد، ومالك ابن الضَّيف، وكعب بن أسيد، وكلهم يهود. وفي «من» قولان، ذكرهما الزجاج:
أحدهما: أنها من صلة الذين أوتوا الكتاب، فيكون المعنى: ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب من الذين هادوا. والثاني: أنها مستأنفة، فالمعنى: من الذين هادوا قوم يحرّفون، فيكون قوله:
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 9694 عن ابن عباس بإسناد ضعيف، فيه محمد بن أبي محمد شيخ ابن إسحاق، وهو مجهول.
__________
(1) سورة الصافات: 78.(1/415)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
يحرّفون، صفة، ويكون الموصوف محذوفاً، وأنشد سيبويه:
وَمَا الدَّهر إِلاَّ تَارَتانِ فمِنْهما ... أموتُ وأُخرى أبتغي العيشَ أكْدَحُ «1»
والمعنى: فمنهما تارة أموت فيها. قال أبو علي الفارسي: والمعنى: وكفى بالله نصيراً من الذين هادوا، أي: إن الله ينصر عليهم.
فأما «التحريف» ، فهو التغيير. والْكَلِمَ: جمع كلمة. وقيل: إِن «الكلام» مأخوذ من «الكلْم» ، وهو الجرحُ الذي يشق الجلد واللحم، فسمي الكلام كلاماً، لأنه يشق الأسماع بوصوله إِليها، وقيل: بل لتشقيقه المعاني المطلوبة في أنواع الخطاب.
وفي معنى تحريفهم الكلم قولان: أحدهما: أنهم كانوا يسألون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الشيء، فإذا خرجوا، حرفوا كلامه، قاله ابن عباس. والثاني: أنه تبديلهم التوراة، قاله مجاهد.
قوله تعالى: عَنْ مَواضِعِهِ، أي: عن أماكنه ووجوهه.
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا قال مجاهد: سمعنا قولك، وعصينا أمرك.
قوله تعالى: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: اسمع لا سمعت، قاله ابن عباس، وابن زيد، وابن قتيبة. والثاني: أن معناه: اسمع غير مقبول ما تقول، قاله الحسن، ومجاهد.
وقد تقدم في (البقرة) معنى: وراعنا.
قوله تعالى: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ قال قتادة: «اللي» : تحريك ألسنتهم بذلك. وقال ابن قتيبة معنى «لياً بألسنتهم» : أنهم يحرفون «راعنا» عن طريق المراعاة، والانتظار إلى السّبّ والرّعونة. قال ابن عباس:
لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مما بدّلوا وَأَقْوَمَ أي أعدل وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ بمحمد.
قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا فيه قولان: أحدهما: فلا يؤمن منهم إِلا قليل، وهم عبد الله بن سلام، ومن تبعه، قاله ابن عباس. والثاني: فلا يؤمنون إِلا إيماناً قليلاً، قاله قتادة، والزجاج. قال مقاتل: وهو اعتقادهم أن الله خلقهم ورزقهم.
[سورة النساء (4) : آية 47]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا سبب نزولها:
(296) أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا قوماً من أحبار اليهود، منهم عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد إلى الإِسلام، وقال لهم: إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق، فقالوا: ما نعرف ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 9729 والبيهقي في «الدلائل» 2/ 534 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد. وانظر «تفسير القرطبي» 2270 بتخريجنا.
__________
(1) البيت لتميم بن مقبل كما في «الكامل» 3/ 908 و «اللسان» مادة- كدح- والكدح: الاكتساب بمشقة.(1/416)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
وفي الذين أوتوا الكتاب قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله الجمهور. والثاني: اليهود والنصارى، ذكره الماوردي. وعلى الأول يكون الكتاب: التوراة، وعلى الثاني: التوراة والإنجيل.
والمراد بما نزلنا: القرآن، وقد سبق في (البقرة) بيان تصديقه لما معهم.
قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً في طمس الوجوه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إِعماء العيون، قاله ابن عباس، وقتادة، والضحاك. والثاني: أنه طمس ما فيها من عين، وأنف، وحاجب، وهذا المعنى مروي عن ابن عباس، واختيار ابن قتيبة. والثالث: أنه ردّها عن طريق الهدى، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن، ومجاهد، والضحاك، والسدي. وقال مقاتل: من قبل أن نطمس وجوهاً، أي:
نحوّل الملّة عن الهدى والبصيرة. فعلى هذا القول يكون ذكر الوجه مجازاً. والمراد: البصيرة والقلوب. وعلى القولين قبله يكون المراد بالوجه: العضو المعروف.
قوله تعالى: فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها خمسة أقوال: أحدها: نُصيِّرُها في الأقفاء، ونجعل عيونها في الأقفاء، هذا قول ابن عباس، وعطيّة. والثاني: نُصيِّرُها كالأقفاء، ليس فيها فم، ولا حاجب، ولا عين، وهذا قول قوم، منهم ابن قتيبة. والثالث: نجعل الوجه منبتاً للشعر، كالقرود، هذا قول الفراء.
والرابع: نَنفيها مدبرة عن ديارها ومواضعها. وإِلى نحوه ذهب ابن زيد. قال ابن جرير: فيكون المعنى:
من قبل أن نطمسَ وجوهَهم التي هم فيها. وناحيتهم التي هم بها نزول، (فنردها على أدبارها) من حيث جاءوا بديّاً «1» من الشام. والخامس: نردها في الضلالة، وهذا قول الحسن، ومجاهد، والضحاك، والسدي، ومقاتل.
قوله تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ يعود إلى أصحاب الوجوه. وفي معنى لعن أصحاب السّبت قولان:
أحدهما: مسخهم قردة، قاله الحسن، وقتادة، ومقاتل. والثاني: طردهم في التيه حتى هلك فيه أكثرهم، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا قال ابن جرير: الأمر هاهنا بمعنى المأمور، سُمِّي باسم الأمر لحدوثه عنه.
[سورة النساء (4) : آية 48]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ (297) قال ابن عمر: لما نزلت
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 9735 و 9736 من طريقين عن ابن أبي جعفر الرازي عن أبيه عن الربيع قال:
أخبرني مخبر عن ابن عمر.... فذكره، وإسناده ضعيف، وله علتان: جهالة المخبر للربيع بن أنس، فهذه علة، والثانية: ضعف أبي جعفر الرازي واسمه عيسى ابن أبي عيسى. وسيأتي في سورة الزمر تمام البحث.
__________
(1) في «اللسان» ومن كلام العرب بادي بدي بهذا المعنى إلا أنه لم يهمز الجوهري: افعل ذلك بادي بد وبادي بديّ أي أولا، قال وأصله الهمز وإنما ترك لكثرة الاستعمال.(1/417)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً «1» قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: والشّرك؟ فكره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذلك، فنزلت هذه. وقد سبق معنى الإِشراك.
والمراد من الآية: لا يغفر لمشرك مات على شركه. وفي قوله تعالى: لِمَنْ يَشاءُ نعمة عظيمة من وجهين: أحدهما: أنها تقتضي أن كل ميّت على ذنب دون الشرك لا يقطع عليه بالعذاب، وإِن مات مصراً. والثاني: أن تعليقه بالمشيئة فيه نفع للمسلمين، وهو أن يكونوا على خوف وطمع.
[سورة النساء (4) : آية 49]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ.
(298) سبب نزولها: أن مرحب بن زيد، وبحري بن عون- وهما من اليهود، أتيا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأطفالهما، ومعهما طائفة من اليهود فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء من ذنب؟ قال: لا، قالوا: والله ما نحن إلا كهيئتهم، ما من ذنب نعمله بالنهار إِلا كُفِّر عنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إلا كفّر عنا بالنهار، فنزلت هذه الآية. هذا قول ابن عباس.
وفي قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ قولان: أحدهما: ألم تُخبر، قاله ابن قتيبة. والثاني: ألم تعلم، قاله الزجاج. وفي الذين يزكون أنفسهم قولان: أحدهما: اليهود على ما ذكرنا عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، ومقاتل. والثاني: أنهم اليهود، والنصارى، وبه قال الحسن، وابن زيد. ومعنى «يزكون أنفسهم» : يزعمون أنهم أزكياء، يقال: زكى الشيء: إِذا نما في الصلاح. وفي الذي زكّوا به أنفسهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم برَّؤوا أنفسهم من الذنوب، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
والثاني: أن اليهود قالوا: إِن أبناءنا الذين ماتوا يزكوننا عند الله، ويشفعون لنا، رواه عطية، عن ابن عباس. والثالث: أن اليهود كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة فيؤمونهم، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم، هذا قول عكرمة، ومجاهد، وأبي مالك. والرابع: أن اليهود والنصارى قالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ «2» وقالوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «3» ، هذا قول الحسن، وقتادة.
قوله تعالى: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أي: يجعله زاكياً، ولا يظلم الله أحداً مقدار فتيل قال ابن جرير: وأصل «الفتيل» : المفتول، صُرف عن مفعول إلى فعيل، كصريع، ودهين.
وفي الفتيل قولان: أحدهما: أنه ما يكون في شقّ النواة، رواه عكرمة، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء بن أبي رباح، والضحاك، وقتادة، وعطية، وابن زيد، ومقاتل، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزجاج. والثاني: أنه ما يخرج بين الأصابع من الوسخ إِذا دلكن، رواه العوفي، عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو مالك، والسّدّيّ، والفرّاء.
__________
هذا الخبر ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 319 عن الكلبي بلا سند، والكلبي متهم بالكذب.
وعزاه الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 520 للثعلبي عن الكلبي فالخبر واه بمرة، ليس بشيء.
__________
(1) سورة الزمر: 53.
(2) سورة المائدة: 18.
(3) سورة البقرة: 111.(1/418)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
[سورة النساء (4) : آية 50]
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)
قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وهو قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وقولهم لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى وقولهم: لا ذنب لنا ونحو ذلك مما كذّبوا فيه، وَكَفى بِهِ أي: وحسبُهم بقيلهم الكذب إِثْماً مُبِيناً يتبيّن كذبهم لسامعيه.
[سورة النساء (4) : آية 51]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ في سبب نزولها أربعة أقوال:
أحدُها: أن جماعة من اليهود قدموا على قريش، فسألوهم: أديننا خيرٌ، أم دين محمد؟ فقال اليهود: بل دينكم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
(299) والثاني: أن كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، قدما مكة، فقالت لهما قريش: أنحن خيرٌ، أم محمدٌ؟ فقالا: أنتم، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة في روايةٍ. وقال قتادة: نزلت في كعب، وحيي، ورجلين آخرين من بني النضير قالوا لقريش: أنتم أهدى من محمد.
والثالث: أن كعب بن الأشرف وهو الذي قال لكفار قريش: أنتم أهدى من محمد، فنزلت هذه الآية. وهذا قول مجاهد، والسدي، وعكرمة في رواية.
والرابع: أن حيي بن أخطب قال للمشركين: نحن وإِياكم خيرٌ من محمد، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن زيد. والمراد بالمذكورين في هذه الآية اليهود.
وفي «الجبت» سبعة أقوال: أحدها: أنه السّحر، قاله عمر بن الخطاب، ومجاهد، والشعبي.
والثاني: الأصنام، رواه عطية، عن ابن عباس. وقال عكرمة: الجبت: صنم. والثالث: حيي بن أخطب، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء. والرابع: كعب بن الأشرف، رواه الضحاك، عن ابن عباس، وليث عن مجاهد. والخامس: الكاهن، روي عن ابن عباس، وبه قال ابن سيرين، ومكحول. والسادس: الشيطان، قاله سعيد بن جبير في رواية، وقتادة، والسدي.
والسابع: الساحر، قاله أبو العالية، وابن زيد. وروى أبو بشر، عن سعيد بن جبير، قال: الجبت:
الساحرُ بلسان الحبشة.
وفي المراد بالطاغوت ها هنا ستة أقوال: أحدها: الشيطان، قاله عمر بن الخطاب، ومجاهد في رواية، والشعبي، وابن زيد. والثاني: أنه اسم للذين يكونون بين يدي الأصنام يعبّرون عنها ليضلوا الناس، رواه العوفي، عن ابن عباس. والثالث: كعب بن الأشرف، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، والفراء. والرابع: الكاهن، وبه قال سعيد بن جبير، وأبو العالية، وقتادة، والسدي. والخامس: أنه الصنم، قاله عكرمة. وقال: الجبت والطاغوت صنمان. والسادس: السّاحر،
__________
أخرجه الطبري 9794 عن عكرمة مرسلا. وأخرج الطبري 9791 عن ابن عباس مختصرا، وعن السدي مرسلا أخرجه الطبري 9795 بنحوه، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم.(1/419)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
روي عن ابن عباس، وابن سيرين، ومكحول. فهذه الأقوال تدل على أنهما اسمان لمسميين. وقال اللغويون منهم ابن قتيبة، والزجاج: كل معبود من دون الله، من حجر، أو صورة، أو شيطان، فهو جبت وطاغوت «1» .
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني لمشركي قريش: أنتم أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، يعنون النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه سَبِيلًا في الدّيانة والاعتقاد.
[سورة النساء (4) : الآيات 52 الى 53]
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53)
قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ هذا استفهام معناه الإِنكار، فالتقدير: ليس لهم. وقال الفراء: قوله فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً جوابٌ لجزاء مضمرٍ، تقديره: ولئن كان لهم نصيب لا يؤتون الناس نقيراً. وفي «النقير» أربعة أقوال: أحدها: أنه النقطة التي في ظهر النواة، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعطاء بن أبي رباح، وقتادة، والضحاك، والسدي، وابن زيد، ومقاتل، والفرّاء، وابن قتيبة في آخرين. والثاني: أنه القشر الذي يكون في وسط النواة، رواه التيمي، عن ابن عباس. وروي عن مجاهد: أنه الخيط الذي يكون في وسط النواة. والثالث: أنه نقر الرجل الشيء بطرف إِبهامه، رواه أبو العالية، عن ابن عباس. والرابع: أنه حبّة النواة التي في وسطها، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد. قال الأزهري: و «الفتيل» و «النقير» و «القطمير» : تضرب أمثالا للشيء التّافه الحقير.
[سورة النساء (4) : آية 54]
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54)
قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ.
(300) سبب نزولها: أن أهل الكتاب قالوا: يزعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع، وله تسع نسوة، فأيُّ ملك أفضل من هذا، فنزلت، رواه العوفي، عن ابن عباس.
وفي «أم» قولان: أحدهما: أنها بمعنى ألف الاستفهام، قاله ابن قتيبة. والثاني: بمعنى «بل» قاله
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 9828 عن ابن عباس وإسناده واه، فيه عطية العوفي ضعيف، وعنه مجاهيل.
وورد من مرسل الضحاك، أخرجه الطبري 9830.
__________
(1) قال الإمام القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 239: وقول مالك في هذا الباب حسن. وروى ابن وهب عن مالك بن أنس: الطاغوت ما عبد من دون الله. وقيل: هما كل معبود من دون الله، أو مطاع في معصية وهذا حسن. يدل عليه قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: 36] وقال تعالى: وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزمر: 17] وروى قطن بن المخارق عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطرق والطيرة والعيافة من الجبت» الطّرق: الزجر، والعيافة: الخط، خرجه أبو داود في سننه، وقيل: الجبت كل ما حرّم الله والطاغوت كل ما يطغى الإنسان. والله أعلم.(1/420)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
الزجاج. وقد سبق ذكر «الحسد» في (سورة البقرة) والحاسدون هاهنا: اليهود. وفي المراد بالناس ها هنا أربعة أقوال: أحدها: النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال عكرمة ومجاهد والضحاك والسدي ومقاتل. والثاني: النبي صلّى الله عليه وسلّم، وأبو بكر، وعمر، روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والثالث: العرب، قاله قتادة. والرابع: النبي والصحابة، ذكره الماوردي. وفي الذي آتاهم الله من فضله ثلاثة أقوال: أحدها: إِباحة الله تعالى نبيه أن ينكح ما شاء من النساء من غير عدد، روي عن ابن عباس، والضحاك، والسدي. والثاني: أنه النبوّة، قاله ابن جريج، والزجاج. والثالث: بعثة نبي منهم على قول من قال: هم العرب «1» .
قوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ يعني: التوراة، والإِنجيل، والزبور. كله كان في آل إِبراهيم، وهذا النبي من أولاد إِبراهيم. وفي الحكمة قولان: أحدهما: النبوة، قاله السدي، ومقاتل.
والثاني: الفقه في الدين، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي الملك العظيم خمسة أقوال «2» : أحدها: ملك سليمان، رواه عطيّة، عن ابن عباس. والثاني: ملك داود، وسليمان في النساء، كان لداود مائة امرأة، ولسليمان سبعمائة امرأة وثلاثمائة سريّة «3» ، رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال السدّي. والثالث:
النبوّة، قاله مجاهد. والرابع: التأييد بالملائكة، قاله ابن زيد في آخرين. الخامس: الجمع بين سياسة الدنيا، وشرع الدين، ذكره الماورديّ.
[سورة النساء (4) : آية 55]
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)
قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ فيمن تعود عليه الهاء والميم قولان:
أحدهما: اليهود الذين أنذرهم نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا قول مجاهد، ومقاتل، والفراء في آخرين.
فعلى هذا القول في هاء بِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: تعود على ما أنزل الله على نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله مجاهد: قال أبو سليمان: فيكون الكلام مبنيا على قوله تعالى: عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو النبوة، والقرآن. والثاني: أنها تعود إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فتكون متعلقة بقوله: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ يعني بالناس: محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، ويكون المراد بقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ عبد الله بن سلام، وأصحابه.
والثالث: أنها تعود إلى النَّبأِ عن آل إِبراهيم، قاله الفرّاء.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 142: وأولى القولين في ذلك بالصواب هو قول قتادة، وابن جريج الذي ذكر: أن معنى الفضل في هذا الموضع: النبوة التي فضل الله بها محمدا، وشرّف بها العرب، إذ آتاها رجلا منهم دون غيرهم. وليس النكاح وتزويج النساء، وإن كان من فضل الله عز وجل الذي آتاه عباده، بتقريظ لهم ومدح.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 144: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، القول الذي روي عن ابن عباس أنه قال: «يعني ملك سليمان» . لأن ذلك معروف من كلام العرب ولأن كلام الله الذي خوطب به العرب، غير جائز توجيهه إلا إلى المعروف المستعمل فيهم من معانيه، إلا أن تأتي دلالة أو تقوم حجة على أن ذلك بخلاف ذلك، يجب التسليم بها.
(3) أبو صالح واه، روى عنه الكلبي عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا، والذي صح في سليمان أن له مائة امرأة كذا أخرجه البخاري 3424 ومسلم 1654.(1/421)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
والقول الثاني: أن الهاء، والميم في قوله فَمِنْهُمْ تعود إِلى آل إِبراهيم، فعلى هذا في هاء بِهِ قولان: أحدهما: أنها عائدة إِلى إِبراهيم، قاله السدي. والثاني: إِلى الكتاب، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وقرأ ابن مسعود، وابن عباس، وابن جبير، وعكرمة، وابن يعمر، والجحدري: «من صُدّ عنه» برفع الصاد. وقرأ أُبيُّ بنُ كعبٍ، وأبو الجوزاء وأبو رجاء والجوني:
بكسر الصاد.
[سورة النساء (4) : آية 56]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56)
قوله تعالى: سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً قال الزجاج: أي نشويهم في نارٍ.
(301) ويروى أن يهوديّة أهدت إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم شاة مصليّة، أي مشوية.
وفي قوله تعالى بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها قولان: أحدهما: أنها غيرها حقيقة، ولا يلزم على هذا أن يقال: كيف بُدلت جلود التذت بالمعاصي بجلود ما التذت، لأن الجلود آلة في إيصال العذاب إِليهم، كما كانت آلة في إيصال اللذّة، وهم المعاقبون لا الجلود. والثاني: أنها هي بعينها تعاد بعد احتراقها، كما تعاد بعد البلى في القبور. فتكون الغيرية عائدة إِلى الصفة، لا إِلى الذات، فالمعنى: بدلناهم جلوداً غير محترقة، كما تقول: صُغت من خاتمي خاتما آخر. وقال الحسن البصري: في هذه الآية: تأكلهم النارُ كل يوم سبعين ألف مرّة، كلما أكلتهم قيل لهم: عودوا، فعادوا.
[سورة النساء (4) : آية 57]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)
قوله تعالى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا قال الزجاج: هو الذي يُظلُّ من الحرّ والريح، وليس كلُّ ظلٍّ كذلك، فأعلم الله تعالى أن ظل الجنة ظليل لا حرّ معه، ولا برد. فان قيل: أفي الجنة برد أو حر يحتاجون معه إلى ظل؟ فالجواب: أن لا، وإنما خاطبهم بما يعقلون مثله، كقوله تعالى: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا «1» . وجواب آخر: وهو أنه إِشارة إِلى كمال وصفها، وتمكين بنائِها، فلو كان البرد أو الحرّ يتسلط عليها، لكان في أبنيتها وشجرها ظلّ ظليل.
__________
لم أره بهذا اللفظ. وحديث اليهودية، أخرجه البخاري 2617 عن أنس، أن يهودية أتت النبي صلّى الله عليه وسلّم بشاة مسمومة فأكل منها ... وأخرجه البخاري 4229 من حديث أبي هريرة. وليس فيه اللفظ المذكور عند المصنف. وانظر «فتح الباري» 5/ 231 و 7/ 497. وورد في حديث موقوف، أخرجه الترمذي 686 وابن حبان 3585 عن صلة بن زفر قال: كنا عند عمار بن ياسر، فأتي بشاة مصلية، فقال كلوا، فتنحى بعض القوم، وقال: إني صائم، فقال عمار: من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم، إسناده صحيح.
__________
(1) سورة مريم: 62.(1/422)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
[سورة النساء (4) : آية 58]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(302) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما فتح مكة، طلب مفتاح البيت من عثمان بن أبي طلحة، فذهب ليعطيه إِياه، فقال العباس: بأبي أنت وأُمّي اجمعه لي مع السقاية، فكفّ عثمان يده مخافة أن يعطيه للعباس، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «هات المفتاح» فأعاد العباس قوله، وكفّ عثمان، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أرني المفتاح إن كنت تؤمن بالله وباليوم الآخر» فقال: هاكَه يا رسول الله بأمانة الله، فأخذ المفتاح، ففتح البيت، فنزل جبريل بهذه الآية، فدعا عثمان، فدفعه إِليه. رواه أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، والزهري، وابن جريج، ومقاتل.
والثاني: أنها نزلت في الأمراء. رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال زيد بن أسلم، وابنه، ومكحول، واختاره أبو سليمان الدمشقي، وقال: أُمر الأمراء أن يؤدوا الأمانة في أموال المسلمين. والثالث: أنها نزلت عامة، وهو مروي عن أبي بن كعب، وابن عباس، والحسن، وقتادة، واختاره القاضي أبو يعلى. واعلم أن نزولها على سبب لا يمنع عموم حكمها، فإنها عامة في الودائع وغيرها من الأمانات. وقال ابن مسعود: الأمانة في الوضوء، وفي الصلاة، وفي الصوم، وفي الحديث، وأشد ذلك في الودائِع.
قوله تعالى: نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ يقول: نعم الشيء يعظكم به، وقد ذكرناه في (البقرة) .
[سورة النساء (4) : آية 59]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في سبب نزولها قولان:
(303) أحدهما: أنها نزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس السّهمي إِذ بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم في سريّة، أخرجه البخاري، ومسلم، من حديث ابن عباس.
__________
أخرجه ابن مردويه من طريق الكلبي عن أبي صالح وفيه الكلبي ضعيف جدا. ومثله لا يحتج به، وذكره الواحدي في «الوسيط» 2/ 69- 70 وفي «الأسباب» 323 بدون إسناد، ودون اللفظ المرفوع.
وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 523: ذكره الثعلبي، ثم البغوي بغير إسناد.
وخبر إعطاء المفتاح لعثمان ورد من وجوه، والوهن في هذا الخبر بذكر نزول الآية. وانظر «تفسير ابن كثير» 1/ 530 و «الدر» 2/ 312.
صحيح. أخرجه البخاري 4584 ومسلم 1834 والترمذي 1672 والنسائي في «التفسير» 129 وأحمد 1/ 337 وابن الجارود 1040 والبيهقي في «الدلائل» 4/ 311 عن ابن عباس به. وانظر كلام الحافظ في «فتح الباري» 8/ 245 حول هذا الخبر.
- ولعبد الله بن حذافة قصة معروفة أخرجها أحمد 3/ 67 وابن ماجة 2863 وأبو يعلى 1349 وابن حبان 4558 من حديث أبي سعيد وإسناده حسن، لأجل محمد بن عمرو، وصححه البوصيري في الزوائد 183 أن أبا سعيد الخدري قال: «بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم علقمة بن محرز على بعث أنا فيهم، حتى انتهينا إلى رأس غزاتنا أو كنا ببعض الطريق، أذن لطائفة من الجيش وأمر عليهم عبد الله بن حُذافة بن قيس السّهمي وكان من أصحاب بدر وكانت فيه دعابة- يعني مزاحا- وكنت ممن رجع معه، فنزلنا ببعض الطريق قال: وأوقد القوم نارا ليصنعوا عليها صنيعا لهم أو يصطلون، قال: فقال لهم: أليس لي عليكم السمع والطاعة؟ قالوا: بلى، قال: فما أنا بآمركم بشيء إن صنعتموه؟ قالوا بلى، قال: أعزم عليكم بحقي وطاعتي لما تواثبتم في هذه النار، فقام ناس فتحجزوا حتى إذا ظن أنهم واثبون، قال: احبسوا أنفسكم، فإنما كنت أضحك معكم، فذكروا ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أن قدموا، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من أمركم بمعصية فلا تطيعوه» لفظ أحمد. وانظر «تفسير القرطبي» 2292 و «الشوكاني» 673 بتخريجنا.(1/423)
(304) والثاني: أن عمّار بن ياسر كان مع خالد بن الوليد في سريّة، فهرب القوم، ودخل رجلٌ منهم على عمار، فقال: إِني قد أسلمتُ، هل ينفعني، أو أذهب كما ذهب قومي؟ قال عمار: أقم فأنت آمن، فرجع الرجل، وأقام فجاء خالد، فأخذ الرجل، فقال عمّار: إِني قد أمنته، وإِنه قد أسلم، قال: أتجير علي وأنا الأمير؟ فتنازعا، وقدما على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
قوله تعالى: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ طاعة الرسول في حياته: امتثال أمره، واجتناب نهيه، وبعد مماته:
اتباع سُنّته. وفي أولي الأمر أربعة أقوال: أحدها: أنهم الأمراء، قاله أبو هريرة، وابن عباس في رواية، وزيد بن أسلم والسدي ومقاتل. والثاني: أنهم العلماء، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وهو قول جابر بن عبد الله والحسن وأبي العالية وعطاء والنخعي والضحاك، ورواه خصيف عن مجاهد.
والثالث: أنهم أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد، وبه قال بكر بن عبد الله المزني.
والرابع: أنهم أبو بكر وعمر، وهذا قول عكرمة «1» .
قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ قال الزجاج: معناه: اختلفتم. وقال كل فريق: القول قولي.
واشتقاق المنازعة: أن كل واحد ينتزع الحجة.
قوله تعالى: فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ في كيفيّة هذا الرد قولان: أحدهما: أن ردّه إلى الله ردّه إلى كتابه، ورده إِلى النبي رده إلى سنّته، هذا قول مجاهد، وقتادة، والجمهور. قال القاضي أبو يعلى:
وهذا الرّد يكون من وجهين: أحدهما: إلى المنصوص عليه باسمه ومعناه. والثاني: الرّد إِليهما من جهة الدلالة عليه، واعتباره من طريق القياس، والنظائر. والقول الثاني: أن ردّه إلى الله ورسوله أن يقول من لا يعلم الشيء: الله ورسوله أعلم، ذكره قومٌ، منهم الزجّاج.
__________
ضعيف. أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 530 من طريق الحكم بن ظهير عن السدي عن أبي صالح عن ابن عباس. والحكم بن ظهير متروك الحديث وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس. واسم أبي صالح باذام. وأخرجه الطبري 9866 عن السدي وهذا معضل، ومع ذلك فالسدي متكلم فيه إذا وصل الحديث فكيف إذا رواه معضلا. وخبر خالد وعمار في الصحيح بغير هذا السياق، وليس فيه ذكر نزول الآية.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 153: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال هم الأمراء والولاة، لصحة الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة. [.....](1/424)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
وفي المراد بالتأويل أربعة أقوال: أحدها: أنه الجزاء، والثواب، وهو قول مجاهد، وقتادة.
والثاني: أنه العاقبة، وهو قول السدي، وابن زيد، وابن قتيبة، والزجاج. والثالث: أنه التصديق، مثل قوله تعالى: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ. قاله ابن زيد في رواية. والرابع: أن معناه: ردّكم إِياه إلى الله ورسوله أحسن من تأويلكم، ذكره الزجّاج «1» .
[سورة النساء (4) : آية 60]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا في سبب نزولها أربعة أقوال:
(305) أحدها: أنها نزلت في رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي:
انطلق بنا إِلى محمد، وقال المنافق: بل إلى كعب بن الأشرف، فأبى اليهودي، فأتيا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقضى لليهودي، فلمّا خرجا، قال المنافق: ننطلق إلى عمر بن الخطاب، فأقبلا إِلَيه، فقصّا عليه القصّة، فقال: رويداً حتى أخرج إليكما، فدخل البيت، فاشتمل على السيف، ثم خرج، فضرب به المنافق حتى برد «2» ، وقال: هكذا أقضي بين من لم يرض بقضاء الله ورسوله، فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 331 عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بدون إسناد، والكلبي متروك متهم. وكذا ذكره السيوطي في «الدر» 2/ 320 ونسبه للثعلبي من حديث ابن عباس.
- وأخرجه الطبري 9900 عن قتادة مرسلا بنحوه دون ذكر عجزه، أي دون ذكر عمر بن الخطاب وفعله.
- وورد بنحوه عن عتبة بن ضمرة مرسلا كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه الآية. وكذا ذكره السيوطي في «الدر» 2/ 322 عن عتبة بن ضمرة ونسبه للحافظ دحيم في «تفسيره» . وأخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود مرسلا كما في «الدر» 2/ 322 وقال الحافظ ابن كثير 1/ 533: وهذا مرسل غريب. وكذا أخرجه الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» عن مكحول مرسلا كما في «الدر» 2/ 323.
الخلاصة: أما قتل عمر للمنافق فهو ضعيف، وأما أصل التحاكم من غير ذكر عمر وما بعده، فله شواهد تعضده، راجع تفصيل ذلك في «أحكام القرآن» لابن العربي 515 بتخريجي. وانظر الآتي.
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير رحمه الله 1/ 530- 531: وهذا أمر من الله عز وجل بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنة، كما قال الله تعالى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [الشورى: 10] ، فما حكم به كتاب الله وسنة رسوله وشهدا له بالصحة فهو الحق، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ولهذا قال تعالى إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنة رسوله، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فدل على أن من لا يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنة، ولا يرجع إليهما في ذلك، فليس مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر. وقوله: ذلِكَ خَيْرٌ أي: التحاكم إلى كتاب الله وسنة رسوله، والرجوع في فصل النزاع إليهما خير وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي: وأحسن عاقبة ومآلا، كما قاله السدي وغير واحد، وقال مجاهد: وأحسن جزاء وهو قريب.
(2) حتى برد: أي حتى مات.(1/425)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
(306) والثاني: أنّ أبا برزة»
الأسلمي كان كاهناً يقضي بين اليهود، فتنافر إليه ناس من المسلمين فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة، عن ابن عباس.
(307) والثالث: أن يهودياً ومنافقاً كانت بينهما خصومة، فدعا اليهودي المنافق إلى النبي، لأنه لا يأخذ الرشوة، ودعا المنافق إلى حكامهم، لأنهم يأخذُون الرشوة، فلما اختلفا، اجتمعا أن يحكما كاهناً، فنزلت هذه الآية، هذا قول الشعبي.
(308) والرابع: أن رجلاً من بني النضير قتل رجلاً من بني قريظة، فاختصموا، فقال المنافقون منهم: انطلقوا إلى أبي برزة الكاهن، فقال المسلمون من الفريقين: بل إِلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأبى المنافقون، فانطلقوا إِلى الكاهن، فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي.
والزَّعم والزُّعم لغتان، وأكثر ما يستعمل في قول ما لا تتحقّق صحته، وفي الذين زعموا أنهم آمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله قولان: أحدهما: أنه المنافق. والثاني: أن الذي زعم أنه آمن بما أنزل إِليه المنافق، والذي زعم أنه آمن بما أنزل من قبله اليهودي. والطاغوت: كعب بن الأشرف، قاله ابن عباس، ومجاهد، والضحاك، والربيع، ومقاتل. قوله تعالى: وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ قال مقاتل: أن يتبرؤوا من الكهنة، و «الضلال البعيد» : الطّويل.
[سورة النساء (4) : آية 61]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ قال مجاهد: هذه الآية والتي قبلها نزلتا في خصومة اليهودي، والمنافق، والهاء والميم في «لهم» : إِشارة إِلى الذين يزعمون، وما أَنْزَلَ اللَّهُ:
أحكام القرآن. وَإِلَى الرَّسُولِ أي: إلى حكمه «2» .
__________
حسن. أخرجه الطبراني 11/ 12045 والواحدي في «أسباب النزول» 328 عن ابن عباس وإسناده حسن، وقال الحافظ في «الإصابة 4/ 19: إسناده جيد. وأخرجه ابن أبي بسند صحيح كما في «الدر» 320.
مرسل. أخرجه الطبري 9898 عن الشعبي مرسلا، وهو شاهد لأصل الخبر المتقدم أولا.
مرسل. أخرجه الطبري 9901 عن السدي مرسلا، فهو ضعيف، لكن يشهد للحديث المتقدم أولا.
وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 332 عن السدي بدون إسناد.
__________
(1) وقع في المطبوع هنا وفي الحديث الآتي (308) : «أبو بردة» والتصويب من كتب التخريج.
(2) يفهم من سياق الآية عدم صحة إيمان من يتحاكم إلى غير كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، لأن الله عز وجل سمّى من يدعي الإيمان بالقرآن وبالكتب السابقة ثم هو يتحاكم إلى ما ابتدعه البشر من تشريعات وقوانين وغير ذلك، فقد سمى الله عز وجل ذلك المدعي للإيمان بأنه يزعم ذلك، يعني ليس ذلك بصحيح ولا مقبول منه، ثم ذكر الله المنافقين. وهذا دليل على أن الله عز وجل قد أدرج هذا الزاعم في زمرة المنافقين. وإن كان يدّعي الإسلام ويتظاهر بالصلاة ونحوها، وقد قال الله تعالى إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ نسأل الله السلامة.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 531: هذا إنكار من الله عز وجل على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله، والآية أعم من ذلك كله فإنها ذامّة لمن عدل عن الكتاب والسنة، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا ولهذا قال يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ إلى آخرها. وقوله:
يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً. أي يعرضون عنك إعراضا كالمستكبرين عن ذلك كما قال تعالى عن المشركين وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وهؤلاء بخلاف المؤمنين الذين قال الله فيهم إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا الآية.(1/426)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
[سورة النساء (4) : آية 62]
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62)
قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ أي: كيف يصنعون ويحتالون إذا أصابتهم عقوبة من الله؟ وفي المراد بالمصيبة قولان: أحدهما: أنه تهديد ووعيد. والثاني: أنه قتل المنافق الذي قتله عمر. وفي الذي قدمت أيديهم ثلاثة أقوال: أحدها: نفاقهم واستهزاؤهم. والثاني: ردّهم حكم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والثالث: معاصيهم المتقدّمة.
قوله تعالى: إِنْ أَرَدْنا بمعنى. ما أردنا. قوله تعالى: إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لما قتل عمر صاحبهم، جاءوا يطلبون بدمه، ويحلفون ما أردنا في المطالبة بدمه إِلا إِحساناً إِلينا، وما يوافق الحق في أمرنا. والثاني: ما أردنا بالترافع إلى عمر إلا إحسانا وتوفيقا. والثالث: أنهم جاءوا يعتذرون إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من محاكمتهم إِلى غيره، ويقولون: ما أردنا في عدولنا عنك إِلا إحساناً بالتقريب في الحكم، وتوفيقاً بين الخصوم دون الحمل على مرّ الحقّ.
[سورة النساء (4) : آية 63]
أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ أي: من النفاق والزيغ. وقال ابن عباس: إِضمارهم خلاف ما يقولون فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تعاقبهم وَعِظْهُمْ بلسانك وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً أي: تقدّم إِليهم: إِن فعلتم الثانية، عاقبتكم. وقال الزجاج: يقال: بَلُغ الرجل يبْلُغُ بلاغة فهو بليغ: إِذا كان يبلغ بعبارة لسانه كُنه ما في قلبه.
وقد تكلم العلماء في حدّ «البلاغة» فقال بعضهم: «البلاغة» : إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ، وقيل: «البلاغة» : حسن العبارة مع صحة المعنى، وقيل: البلاغة: الإِيجاز مع الإِفهام، والتصرّف من غير إِضجار. قال خالد بن صفوان: أحسن الكلام ما قلت ألفاظه، وكثرت معانيه، وخيرُ الكلام ما شوّق أوّله إِلى سماع آخره، وقال غيره: إِِنما يستحق الكلام اسم البلاغة إِذا سابق لفظه معناه، ومعناه لفظه، ولم يكن لفظه إِلى سمعك أسبق من معناه إلى قلبك.
فصل: وقد ذهب قوم إلى أن «الإِعراض» المذكور في هذه الآية منسوخ بآية السيف.
[سورة النساء (4) : آية 64]
وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64)
قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ قال الزجاج: «من» دخلت للتوكيد. والمعنى:(1/427)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
وما أرسلنا رسولاً إِلا ليطاع. وفي قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ قولان: أحدهما: أنه بمعنى: الأمر، قاله ابن عباس. والثاني: أنه الاذن نفسه، قاله مجاهد. وقال الزجاج: المعنى: إِلا ليطاع بأن الله أذن له في ذلك. وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ يرجع إلى المتحاكمين اللذين سبق ذكرهما. قال ابن عباس: ظلموا أنفسهم بسخطهم قضاء الرّسول: جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ من صنيعهم.
[سورة النساء (4) : آية 65]
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)
قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ في سبب نزولها قولان:
(309) أحدهما: أنها نزلت في خصومة كانت بين الزبير وبين رجل من الأنصار في شراج الحرّة «1» ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للزبير: «اسق ثم أرسل إِلى جارك» فغضب الأنصاري، قال: يا رسول الله، أن كان ابن عمّتك! فتلوّن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال للزبير: «اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ الجَدْر» قال الزبير: فو الله ما أحسب هذه الآية نزلت إِلاّ في ذلك. أخرجه البخاري ومسلم.
والثاني: أنها نزلت في المنافق، واليهودي اللذين تحاكما إِلى كعب بن الأشرف، وقد سبقت قصتهما، قاله مجاهد «2» .
قوله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ أي: لا يكونون مؤمنين حتى يحكموك، وقيل: «لا» ردٌ لزعمهم أنهم مؤمنون، والمعنى: فلا، أي: ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا، وهم يخالفون حكمك.
ثم استأنف، فقال: وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم، أي: فيما اختلفوا فيه. وفي «الحرج» قولان: أحدهما: أنه الشك، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والسدي في آخرين.
والثاني: الضيق، قاله أبو عبيدة، والزجاج. وفي قوله: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً قولان: أحدهما: يسلموا لما أمرتهم به، فلا يعارضونك، هذا قول ابن عباس، والزجاج، والجمهور. والثاني: يسلّموا ما تنازعوا فيه لحكمك، قاله الماورديّ «3» .
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2708 عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري عن عروة بن الزبير عن الزبير.
وأخرجه البخاري 2359 و 2361 و 2362 و 4585 ومسلم 2357 وأبو داود 3637 والترمذي 1363 والنسائي 8/ 245 وابن ماجة 15 و 2480 وأحمد 4/ 4- 5 و 165 وابن حبان 24 وابن الجارود 1021 والطبري 9917 و 9918 والبيهقي 6/ 153 و 154 و 10/ 106 من طرق عن الزهري به.
__________
(1) في «اللسان» الشراج: بكسر الشين جمع شرج، والشرج: مسيل الماء من الحرّة إلى السهل، والحرّة: موضع معروف في المدينة، وهي أرض ذات حجارة سود نخرة، كأنما أحرقت بالنار كما في «معجم البلدان» 2/ 244.
(2) تقدم عند الآية 60 برقم 305.
(3) يقسم الله عز وجل بذاته جلّ وعلا بأن الذي يتحاكم إلى غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. أي إلى غير الكتاب والسنة، بأنه ليس بمؤمن ولا يصح إيمانه، وأنه مردود عليه. وهذا ينطبق على أولئك الذين اختاروا القوانين الوضعية على القوانين الشرعية. فليحذر هؤلاء أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم. وهذا في الدنيا. وأما في الآخرة، فإنهم إن ماتوا على ذلك، حشروا مع الكفرة، بل ربما كانوا أسفل منهم. فإن الله يقول: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وقال تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً.(1/428)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
[سورة النساء (4) : الآيات 66 الى 68]
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ (310) سبب نزولها: أن رجلاً من اليهود قال: والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلناها. فقال ثابت بن قيس بن الشماس: والله لو كتب الله علينا ذلك لفعلنا، فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي.
قال الزجاج: «لو» يمتنع به الشيء لامتناع غيره، تقول: لو جاءني زيد لجئته. والمعنى: أن مجيئك امتنع لامتناع مجيئه، وكَتَبْنا بمعنى: فرضنا. والمعنى: لو أنا فرضنا على المؤمنين بك أن اقتلوا أنفسكم. قرأ أبو عمرو: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ، بكسر النون، «أو اخرجوا» بضم الواو. وقرأ ابن عامر، وابن كثير، ونافع، والكسائي: «أن اقتلوا» «أو اخرجوا» بضم النون والواو. وقرأ عاصم، وحمزة بكسرهما. والمعنى: لو فرضنا عليهم كما فرضنا على قوم موسى، لم يفعله إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ هذه قراءة الجمهور. وقرأ ابن عامر: «إِلا قليلاً» بالنصب. وَلَوْ أَنَّهُمْ يعني: المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدون عنك فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أي: ما يذكرون به من طاعة الله، والوقوف مع أمره، لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وأثبت لأمورهم. وقال السّدّيّ: وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً أي: تصديقا.
[سورة النساء (4) : الآيات 69 الى 70]
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)
قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(311) أحدها: أن ثوبان مولى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان شديد المحبّة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فرآه رسول الله يوما
__________
أخرجه الطبري 9925 وابن أبي حاتم كما في ابن كثير 1/ 534 عن السدي مرسلا، فهو ضعيف.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 334 م عن الكلبي بدون إسناد، والكلبي متروك متهم، لكن ورد بنحو هذا السياق من حديث عائشة قالت: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنك لأحب إليّ من نفسي، وإنك لأحب إليّ من ولدي، وإني لأكون في البيت، فأذكرك فما أصبر حتى آتي فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وأني إذا دخلت الجنة خشيت أن لا أراك، فلم يرد عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم شيئا حتى نزل جبريل بهذه الآية وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ... الآية. أخرجه الطبراني في «الأوسط» 480 و «الصغير» 52 والضياء المقدسي في «صفة الجنة» كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 535. وقال ابن كثير: قال الحافظ الضياء المقدسي: لا أرى بإسناده بأسا ووافقه ابن كثير.
- وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 7: رجاله رجال الصحيح غير عبد الله بن عمران العابدي وهو ثقة اه.
- وفي الباب أيضا من حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في «الكبير» 12559 وفي إسناده عطاء بن السائب، وقد اختلط كذا قال الهيثمي. لكن يصلح شاهدا لما قبله. وفي الباب أحاديث أخرى، انظر «الدر المنثور» 2/ 324 فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم، راجع «أحكام القرآن» 518 بتخريجنا.(1/429)
فعرف الحزن في وجهه، فقال: يا ثوبان ما غير وجهك؟ قال: ما بي من وجع غير أني إِذا لم أرك اشتقت إِليك، فأذكر الآخرة، فأخاف أن لا أراك هناك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(312) والثاني: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا له: ما ينبغي أن نفارقك في الدنيا، فانك إِذا فارقتنا رفعت فوقنا، فنزلت هذه الآية. هذا قول مسروق.
(313) والثالث: أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو محزون، فقال: ما لي أراك محزوناً؟ فقال: يا رسول الله غداً ترفع مع الأنبياء، فلا نصل إِليك. فنزلت هذه الآية. هذا قول سعيد بن جبير.
قال ابن عباس: ومن يطع الله في الفرائض، والرسول في السُنن. قال ابن قتيبة: والصدّيق:
الكثير الصدق، كما يقال: فسّيق، وسكّير، وشرّيب، وخمّير، وسكيت، وفجّير، وعشّيق، وضلّيل، وظلّيم: إِذا كثر منه ذلك. ولا يقال ذلك لمن فعل الشيء مرّة، أو مرتين حتى يكثر منه ذلك، أو يكون عادة. فأما الشهداء، فجمع شهيد وهو القتيل في سبيل الله. وفي تسميته بالشهيد خمسة أقوال: أحدها:
لأن الله تعالى وملائكته شهدوا له بالجنّة، قاله ثعلب. والثاني: لأن ملائكة الرحمة تشهده. والثالث:
لسقوطه بالأرض، والأرض: هي الشاهدة، ذكر القولين ابن فارس اللغوي. والرابع: لقيامه بشهادة الحق في أمر الله حتى قتل، قاله أبو سليمان الدمشقي. والخامس: لأنه يشهد ما أعدّ الله له من الكرامة بالقتل، قاله شيخنا على بن عبيد الله.
فأما الصالحون، فهو اسم لكل من صَلُحَتْ سريرتُه وعلانيتُه. والجمهور على أن النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين عام في جميع من هذه صفته. وقال عكرمة: المراد بالنبيين هاهنا محمد، والصديقين أبو بكر، وبالشهداء عمر وعثمان وعلي، وبالصالحين سائر الصحابة.
قوله تعالى: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً قال الزجاج: «رفيقاً» منصوب على التمييز، وهو ينوب عن رفقاء، قال الشاعر:
بِها جِيَفُ الْحَسْرَى فأَمّا عظامُها ... فبيضٌ وأَمّا جلدُها فصليب «1»
وقال آخر:
في حلقكم عظم وقد شجينا «2» يريد: في حلوقكم عظام. ذلِكَ الْفَضْلُ الذي أعطى المذكورين مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بالمقاصد والنيات.
__________
مرسل. أخرجه الطبري 9930 والواحدي 335 عن مسروق مرسلا، وكرره 9931 من مرسل قتادة و 9932 من مرسل السدي، فهذه المراسيل تتقوى بمجموعها، وانظر ما قبله. و «تفسير القرطبي» 2310.
مرسل. أخرجه الطبري 9929 عن سعيد بن جبير مرسلا، وهو شاهد قوي لما تقدم.
__________
(1) البيت لعلقمة بن عبدة «الكتاب» 1/ 107 وقد تقدم.
(2) هو عجز بيت للمسيب بن زيد مناة الغنوي وصدره: لا تنكر القتل وقد سبينا.(1/430)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
[سورة النساء (4) : آية 71]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71)
قوله تعالى: خُذُوا حِذْرَكُمْ فيه قولان: أحدهما: احذروا عدوّكم. والثاني: خذوا سلاحكم.
قوله تعالى: فَانْفِرُوا ثُباتٍ قال ابن قتيبة: أي: جماعات، واحدتها: ثبة، يريد جماعة بعد جماعة.
وقال الزجاج: «الثباتُ» : الجماعات المتفرّقة. قال زهير:
وقد أغْدُوا على ثُبَةٍ كِرامٍ ... نَشَاوى واجدين لما نشاء
قال ابن عباس: فانفروا ثبات، أي: عصباً، سرايا متفرِّقين، أو انفروا جميعاً، يعنى كلكم.
فصل: وقد نقل عن ابن عباس أن هذه الآية وقوله انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا «1» وقوله تعالى:
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً «2» منسوخات بقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً «3» قال أبو سليمان الدمشقي: والأمر في ذلك بحسب ما يراه الإِمام، وليس في هذا من المنسوخ شيء.
[سورة النساء (4) : الآيات 72 الى 73]
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)
قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
(314) أحدهما: أنها في المنافقين، كعبد الله بن أُبيّ، وأصحابه كانوا يتثاقلون عن الجهاد، فان لقيت السريّة نكبة، قال من أبطأ منهم: لقد أنعم الله عليّ، وإِن لقوا غنيمةً، قال: يا ليتني كنت معهم.
هذا قول ابن عباس، وابن جريج.
والثاني: أنها نزلت في المسلمين الذين قلّت علومُهم بأحكام الدين، فتثبطوا لقلة العلم، لا لضعف الدين، ذكره الماوردي وغيره. فعلى الأول تكون إِضافتهم إِلى المؤمنين بقوله «منكم» لموضع نطقهم بالإِسلام، وجريان أحكامه عليهم، وعلى الثاني تكون الإِضافة حقيقة.
قال ابن جرير: اللام في لَمَنْ لام تأكيد. قال الزجاج: واللام في لَيُبَطِّئَنَّ لام القسم، كقولك: إِن منكم لمن أحلف بالله ليبطئن، يقال: «أبطأ الرجل» و «بطؤ» فمعنى «أبطأ» : تأخّر، ومعنى «بطؤ» : ثقُل. وقرأ أبو جعفر: «ليبطئن» بتخفيف الهمزة. وفي معنى «ليبطئن» قولان: أحدهما: ليبطئن هو نفسه، وهو قول ابن عباس. والثاني: ليبطئن غيره، قاله ابن جريج. قال ابن عباس: و «المصيبة» :
النكبة. و «الفضل من الله» : الفتح والغنيمة.
قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ قرأ ابن كثير، وحفص، والمفضّل، عن عاصم:
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 9943 عن ابن جريج، وهذا معضل.
- وأخرجه ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» 2/ 183 عن مقاتل بن حيان، وهذا معضل أيضا.
- وعزاه المصنف لابن عباس، والظاهر أنه من رواية الكلبي، وهو متروك عن أبي صالح عن ابن عباس.
__________
(1) سورة التوبة: 41.
(2) سورة التوبة: 39.
(3) سورة التوبة: 122.(1/431)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
(كأن لم تكن) بالتاء، لأن الفاعل المسند إِليه مؤنّث في اللفظ، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر، عن عاصم: يكن بالياء، لأن التأنيث ليس بحقيقي. قال الزجاج: يجوز أن يكون المعنى: ليقولن يا ليتني كنت معهم، كأن لم يكن بينكم وبينه مودّة، أي: كأنه لم يعاقدكم على أن يجاهد معكم، ويجوز أن يكون هذا الكلام معترضا به، فيكون المعنى: ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن يا ليتني كنت معهم فان أصابتكم مصيبة، قال: قد أنعم الله علي، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة. فيكون معنى «المودّة» أي: كأنه لم يعاقدكم على الإيمان.
[سورة النساء (4) : آية 74]
فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يشرون هاهنا: بمعنى يبتغون في قول الجماعة.
وأنشدوا:
وشرَيْتُ ... بُرداً ليتني ... من بَعْدِ بُردٍ كُنْتُ هامة «1»
و «برد» غلام له باعه.
ومعنى الآية: ليكن قتال المقاتِلينَ على وجه الإِخلاص وطلب الآخرة.
قوله تعالى: فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ خرج مخرج الغالب، وقد يثاب من لم يَغلِب ولَم يُقتل.
[سورة النساء (4) : آية 75]
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)
قوله تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ قال الفراء: تقديره: وفي المستضعفين. وكذلك روي عن ابن عباس. وقال الزجاجِ: المستضعفون في موضع خفض، والمعنى في سبيل الله، وسبيل المستضعفين، أي: ما لكم لا تسعون في خلاص هؤلاء؟ قال ابن عباس: وهم ناس مسلمون كانوا بمكة لا يستطيعون أن يخرجوا. و «القرية» : مكة في قول الجماعة. قال الفراء: وإِنما خفض الظَّالِمِ لأنه نعت للأهل، فلما عاد الأهل على القرية كان فعل ما أضيف إِليها بمنزلة فعلها، تقول: مررت بالرجل الواسعة داره.
قوله تعالى: وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا قال أبو سليمان: سألوا الله ولياً من عنده يلي إِخراجهم منها، ونصيراً يمنعهم من المشركين. قال ابن عباس:
(315) فلما فتح رسول الله مكّة، جعل الله عزّ وجلّ النبيّ عليه السلام وليّهم، واستعمل عليهم
__________
سيأتي تخريجه إن شاء الله.
__________
(1) البيت لابن مفرغ، شاعر إسلامي، وهو من حمير «الخزانة» : 2/ 214. وفي «اللسان» : الهامة: فإن العرب كانت تقول إن عظام الموتى، وقيل أرواحهم تصير هامة فتطير، وقيل كانوا يسمون ذلك الطائر الذي يخرج من هامة الميت الصدى فنهاهم الإسلام عنه، ويقال أصبح فلان هامة إذا مات.(1/432)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عتاب بن أسيد، فكان نصيراً لهم، ينصف الضعيف من القوي.
[سورة النساء (4) : آية 76]
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)
قوله تعالى: يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ الطاغوت هاهنا في معنى جماعة، كقوله وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ معناه: ولحم الخنازير. قوله تعالى: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ يعني: مكره وصنيعه كانَ ضَعِيفاً حيث خذل أصحابه يوم بدر.
[سورة النساء (4) : آية 77]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77)
قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ اختلفوا فيمن نزلت على قولين:
(316) أحدهما: أنها نزلت في نفر من المهاجرين، كانوا يحبون أن يؤذن لهم في قتال المشركين وهم بمكّة قبل أن يُفرَضَ القتال، فنُهوا عن ذلك، فلما أُذِنَ لهم فيه، كَرِههُ بعضُهُم. روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول قتادة، والسدي، ومقاتل.
والثاني: أنها نزلت واصفةً أحوال قومٍ كانوا في الزمان المتقدّم، فحُذّرت هذه الأمّة من مثلِ حالهم، روى هذا المعنى عطية، عن ابن عباس. قال أبو سليمان الدمشقي: كأنه يومئ إِلى قصة الذين قالوا: إِبعث لنا مَلِكاً. وقال مجاهد: هي في اليهود.
فأما كفُّ اليد، فالمراد به: الامتناع عن القتال، ذلك كان بمكة. و «كُتب» بمعنى: فُرض، وذلك بالمدينة، هذا على القول الأول.
قوله تعالى: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ في هذا الفريق ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المنافقون. والثاني: أنهم كانوا مؤمنين، فلما فرض القتال، نافقوا جُبناً وخوفاً. والثالث: أنهم مؤمنون غير أن طبائعهم غلبتهم، فنفرت نفوسُهم عن القتال.
قوله: يَخْشَوْنَ النَّاسَ في المراد بالناس قولان: أحدهما: كفار مكة. والثاني: جميع الكفار.
قوله تعالى: أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً قيل: إِن «أو» بمعنى الواو، و «كتبت» بمعنى: فرضت. و «لولا» بمعنى «هلاّ» ، قال الفراء: إِذا لم تر بعدها اسماً فهي استفهامٌ بمعنى هلاّ، وإِذا رأيت بعدها اسما مرفوعا، فهي
__________
خبر منكر. وورد بذكر ابن عوف وجماعة، لم يسم غير ابن عوف برواية عكرمة عن ابن عباس أخرجه النسائي 6/ 3 وفي «التفسير» 132 والحاكم 2/ 66 و 307 والبيهقي 9/ 11 والواحدي 339 ورجاله ثقات وصححه الحاكم على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، مع أن في إسناده حسين بن واقد وهو من رجال مسلم فقط، فهو على شرط مسلم، ومع ذلك حسين بن واقد فيه ضعف، وقد استنكر الإمام أحمد بعض ما ينفرد به، وهذا الخبر غريب، فإن ظاهر القرآن يدل على أن المخاطب بذلك فئة من المنافقين كابن سلول وأمثاله، ولا يصح هذا السياق في أحد من المهاجرين السابقين والله أعلم.(1/433)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
التي جوابها اللام، تقول: لولا عبد الله لضربتك. وقال ابن قتيبة: إِذا رأيتها بغير جواب، فهي بمعنى «هلاّ» ، تقول: لولا فعلت كذا، ومثلها «لوما» ، فاذا رأيت ل «لولا» جواباً، فليست بمعنى «هلاّ» ، إِنما هي التي تكون لأمر يقع بوقوع غيره، كقوله تعالى: فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ. لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «1» . قلت: فأما «لولا» التي لها جوابٌ فكثيرة في الكلام، وأنشدوا في ذلك:
لولا الحياءُ وأن رأسي قد عثا ... فيه المشيب لزرت امَّ القاسم «2»
وأما التي بمعنى «هلاّ» فأنشدوا منها:
تعدّون عقر النّيب أفضَلَ مجدِكُم ... بني ضَوْطَرى لولا الكَميَّ المقنَّعا «3»
أراد: فهلاّ تعدون الكمي، والكمي: الداخل في السّلاح.
وفي الأجل القريب قولان: أحدهما: أنه الموت، فكأنهم قالوا: هلاّ تركتنا نموت موتاً، وعافيتنا من القتل، هذا قول السدي، ومقاتل. والثاني: أنه إِمهال زمان، فكأنهم قالوا: هلاّ أخرت فرض الجهاد عنّا قليلاً حتى نكثر ونقوى، قاله أبو سليمان الدمشقي في آخرين.
قوله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ أي: مدّة الحياة فيها قليلة.
قوله تعالى: وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: ولا يظلمون بالياء. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وعاصم: بالتاء، وقد سبق ذكر المتاع والفتيل.
[سورة النساء (4) : آية 78]
أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)
قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ. سبب نزولها أن المنافقين قالوا في حقّ شهداء أُحُد:
لو كانوا عندنا ما ماتوا، وما قتلوا، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس «4» ، ومقاتل. والبروج:
الحصون، قاله ابن عباس وابن قتيبة. وفي «المشيّدة» خمسة أقوال «5» : أحدها: أنها الحصينة، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: المطولة، قاله أبو مالك، ومقاتل، وابن قتيبة. والثالث: المجصّصة، قاله
__________
(1) سورة الصافات: 143- 144. [.....]
(2) البيت لعدي بن الرقاع وفي «اللسان» عثا فيه المشيب: أفسده أشد الإفساد.
(3) البيت لجرير بن عطية كما في «الخزانة» 1/ 461 وقوله: عقر النبيب، عقر الناقة المسنّة: ضرب قوائمها فقطعها. وفي حديث ابن عباس: «لا تأكلوا من تعاقر الأعراب فإني لا آمن أن يكون مما أهل به لغير الله» . هو عقرهم الإبل كان يتبارى الرجلان في الجود والسخاء، فيعقر هذا إبلا ويعقر هذا إبلا حتى يعجز أحدهما الآخر. وقوله: «بني ضوطرى» يعني: يا بني الحمقى، ويقال للقوم إذا كانوا لا يغنون غناء: بنو ضوطرى.
والكمي: الشجاع الذي لا يرهب، والمقنع: على رأسه البيضة والمغفر.
(4) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 340 برواية أبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح وعنه الكلبي رويا تفسيرا مصنوعا عن ابن عباس. فالإسناد ساقط، وإن كان ظاهر الآية يدل على أن المراد بذلك المنافقون.
(5) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 271: واختلف العلماء وأهل التأويل في المراد بهذه البروج، فقال الأكثر وهو الأصح: إنه أراد البروج في الحصون التي في الأرض المبنية، لأنها غاية البشر في التحصّن والمنعة، فمثّل الله لهم بها.(1/434)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
هلال بن خبّاب، واليزيدي. والرابع: أنها المبنيّة بالشيِّد، وهو الجص، قاله أبو سليمان الدمشقي.
والخامس: أنها بروج في السماء، قاله الربيع بن أنس، والثوري. وقال السدّي: هي قصور بيض في السماء مبنيّة.
قوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ اختلفوا فيهم على ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم المنافقون واليهود، قاله ابن عباس. والثاني: المنافقون، قاله الحسن. والثالث: اليهود، قاله ابن السري. وفي الحسنة والسيئة قولان: أحدهما: أن الحسنة: الخصب، والمطر. والسيئة: الجدب، والغلاء، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. والثاني: أن الحسنة: الفتح والغنيمة، والسيئة: الهزيمة والجراح، ونحو ذلك، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وفي قوله تعالى: مِنْ عِنْدِكَ قولان: أحدهما: بشؤمك، قال ابن عباس.
والثاني: بسوء تدبيرك، قاله ابن زيد.
قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ قال ابن عباس: الحسنة والسيئة، أما الحسنة، فأنعم بها عليك، وأما السيئة، فابتلاك بها. قوله تعالى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ وقف أبو عمرو، والكسائي على الألف من «فما» في قوله تعالى: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ ومالِ هذَا الْكِتابِ ومالِ هذَا الرَّسُولِ وفَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا، والباقون وقفوا على اللام. فأما «الحديث» ، فقيل: هو القرآن، فكأنّه قال: لا يفقهون القرآن، فيؤمنون به، ويعلمون أن الكل من عند الله.
[سورة النساء (4) : آية 79]
ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)
قوله تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ في المخاطب بهذا الكلام ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه عامٌ، فتقديره: ما أصابك أيها الإِنسان، قاله قتادة.
والثاني: أنه خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والمراد به غيره، ذكره الماوردي. وقال ابن الأنباري: ما أصابك الله من حسنة، وما أصابك الله به من سيئة، فالفعلان يرجعان إلى الله عزّ وجلّ.
وفي «الحسنة» و «السيئة» ثلاثة أقوال: أحدها: أن الحسنة: ما فُتح عليه يوم بدر، والسيئة: ما أصابه يوم أُحد، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس. والثاني: الحسنة: الطاعة، والسيئة: المعصية، قاله أبو العالية. والثالث: الحسنة: النعمة، والسيئة: البليّة، قاله ابن قتيبة، وعن أبي العالية نحوه، وهو أصح، لأن الآية عامة. وروى كرداب، عن يعقوب: «ما أصابك من حسنة فمن الله» بتشديد النون ورفعها ونصب الميم وخفض اسم الله، «وما أصابك من سيئة فمن نَفسُك» بنصب الميم ورفع السين.
وقرأ ابن عباس: «وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك» . وقرأ ابن مسعود: «وأنا عددتها عليك» . قوله تعالى: فَمِنْ نَفْسِكَ أي: فبذنبك، قاله الحسن، وقتادة، والجماعة، وذكر فيه ابن الأنباري وجهاً آخر، فقال: المعنى: أفمن نفسك، فأضمرت ألف الاستفهام كما أضمرت في قوله وَتِلْكَ نِعْمَةٌ أي: أوَ تلك نعمة.
قوله تعالى: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا قال الزجاج: ذكر الرسول مؤكّد لقوله تعالى: وَأَرْسَلْناكَ، والباء في «بالله» مؤكّدة. والمعنى: وكفى بالله شهيدا. و «شهيدا» : منصوب على التمييز، لأنك إذا قلت: كفى بالله، ولم تبيّن في أي شيء الكفاية كنت مبهماً. وفي المراد بشهادة الله هاهنا ثلاثة أقوال:(1/435)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
أحدها: شهيداً لك بأنك رسوله، قاله مقاتل. والثاني: على مقالتهم، قاله ابن السائب. والثالث: لك بالبلاغ، وعليهم بالتكذيب والنفاق، قاله أبو سليمان الدمشقي.
فان قيل: كيف عاب الله هؤلاء حين قالوا: إِن الحسنة من عند الله، والسيئة من عند النبي عليه السلام، وردّ عليهم بقوله تعالى: كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثم عاد فقال: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فهل قال القوم إِلا هكذا؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنهم أضافوا السّيئة إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تشاؤماً به، فردّ عليهم، فقال: كلٌ بتقدير الله. ثم قال: ما أصابك من حسنة، فمن الله، أي: من فضله، وما أصابك من سيئة، فبذنبك، وإِن كان الكل من الله تقديراً. والثاني: أن جماعة من أرباب المعاني قالوا: في الكلام محذوف مقدّر، تقديره: فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً، يقولون: ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك. فيكون هذا من قولهم. والمحذوف المقدّر في القرآن كثير، ومنه قوله تعالى: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا «1» أي: يقولان: ربنا. ومثله أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ «2» أي: فحلق، ففدية. ومثله فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ «3» أي: فيقال لهم. ومثله وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ «4» أي: يقولون سلام. ومثله أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ «5» أراد: لكان هذا القرآنَ. ومثله وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ «6» أراد: لعذّبكم. ومثله رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا أي: يقولون. وقال النَّمِرُ بنُ تولب:
فإنَّ المنيَّة من يخشَها ... فَسَوْفَ تُصَادِفُه أينما
أراد: أينما ذهب. وقال غيره:
فأُقْسِمُ لَوْ شيءٌ أتانا رسولُه ... سواكَ وَلكِن لم نجد لَك مدفعا «7»
أراد: لرددناه.
[سورة النساء (4) : آية 80]
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)
قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ سبب نزولها:
(317) أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أطاعني، فقد أطاع الله، ومن أحبني، فقد أحب الله» فقال المنافقون: لقد قارب هذا الرجل الشرك، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
__________
لا أصل له بهذا اللفظ، عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالوضع. وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 539: لم أجده. وبعض الحديث المرفوع صحيح، ورد في خبر مسند عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله. ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعص الأمير فقد عصاني. وإنما الإمام جنّة يقاتل من ورائه، ويتقى به. فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك أجرا، وإن قال بغيره فإن عليه منه» .
وهذا صحيح. أخرجه البخاري 2957 و 7137 ومسلم 1835 والنسائي 7/ 154 وابن ماجة 3 وابن حبان 3556 وعبد الرزاق 20679 وأحمد 2/ 342 و 416 من حديث أبي هريرة، وليس فيه سبب نزول ولا قول المنافقين وقال الحافظ في «الفتح» 2957: قوله: «من أطاعني فقد أطاع الله» : هذه الجملة منتزعة من قوله تعالى: (ومن يطع الرسول فقد أطاع الله) .
__________
(1) سورة البقرة: 127.
(2) سورة البقرة: 196.
(3) سورة آل عمران: 106.
(4) سورة الرعد: 23- 24.
(5) سورة الرعد: 34.
(6) سورة النور: 20.
(7) البيت لامرئ القيس وهو في ديوانه 242.(1/436)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
ومعنى الكلام: من قَبِلَ ما أتى به الرسول، فانما قبل: ما أمر الله به، ومن تولّى، أي: أعرض عن طاعته. وفي «الحفيظ» قولان: أحدهما: أنه الرّقيب، قاله ابن عباس. والثاني: المحاسب، قاله السدي، وابن قتيبة.
فصل: قال المفسّرون: وهذا كان قبل الأمر بالقتال، ثم نسخ بآية السيف.
[سورة النساء (4) : آية 81]
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)
قوله تعالى: وَيَقُولُونَ طاعَةٌ.
(318) نزلت في المنافقين، كانوا يؤمنون عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليأمنوا، فاذا خرجوا، خالفوا، هذا قول ابن عباس. قال الفرّاء: والرّفع في «طاعة» على معنى: أمرُك طاعة.
قوله تعالى: بَيَّتَ طائِفَةٌ قرأ أبو عمرو، وحمزة: بيت، بسكون «التاء» وإدغامها في «الطاء» ، ونصب الباقون «التاء» ، قال أبو علي: التاء والطاء والدال من حيز واحد، فحسن الإِدغام، ومَن بيّن، فلانفصال الحرفين، واختلاف المخرجين. قال ابن قتيبة: والمعنى (فاذا برزوا من عندك) أي خرجوا، (بيت طائفة منهم غير الذي تقول) ، أي «1» قالوا، وقدّروا ليلاً غير ما أعطوك نهاراً. قال الشاعر:
أتوني فلم أرض ما بيَّتوا ... وكانوا أتَوْني بشيء نُكُرْ «2»
والعرب تقول: هذا أمر قد قُدِّر بليل، [وفرغ منه بليل، ومنه قول الحارث بن حِلِّزة:
أجمعوا أمرهم عشاءً فلما ... أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء] «3»
وقال بعضهم: بيّت، بمعنى: بدّل، وأنشد:
وبيَّتَ قولِيَ عند المليك ... قاتلك الله عبدا كفورا «4»
وفي قوله تعالى: غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ قولان: أحدهما: غير الذي تقول الطائفة عندك، وهو قول ابن عباس، وابن قتيبة. والثاني: غير الذي تقول أنت يا محمّد، وهو قول قتادة، والسّدّيّ.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 9991 عن العوفي عن ابن عباس وإسناده واه لأجل عطية بن سعد العوفي.
__________
(1) ما بين المعقوفتين زيادة من «غريب القرآن» : 131.
(2) البيت لعبيدة بن همام كما في «تفسير الطبري» 4/ 180 والبيت الذي بعده يتممه:
لأنكح أيمهم منذرا ... وهل ينكح العبد حرّ لحر؟!
وفي «اللسان» : النكر: الأمر المنكر الذي تنكره.
(3) ما بين المعقوفتين زيادة من غريب القرآن. [.....]
(4) البيت للأسود بن عامر بن جوين الطائي كما في «تفسير القرطبي» 5/ 276 وفيه عبد المليك.(1/437)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يكتبه في الأعمال التي تثبتها الملائكة، قاله مقاتل في آخرين. والثاني: ينزله إِليك في كتابه. والثالث: يحفظه عليهم ليجازوا به، ذكر القولين الزجاج. قال ابن عباس: فأعرض عنهم: فلا تعاقبهم، وثق بالله عز وجل، وكفى بالله ثقة لك. قال: ثم نسخ هذا الإِعراض، وأُمِر بقتالهم.
فإن قيل: ما الحكمة في أنه ابتدأ بذكرهم جملة، ثم قال: بَيَّتَ طائِفَةٌ، والكل منافقون؟
فالجواب من وجهين، ذكرهما أهل التفسير: أحدهما: أنه أخبر عمن سهر ليله، ودبَّر أمرهُ منهم دون غيره منهم. والثاني: أنه ذكر من علم أنه يبقى على نفاقه دون من علم أنّه يرجع.
[سورة النساء (4) : آية 82]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)
قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ قال الزجاج: «التدبّر» : النظر في عاقبة الشيء. و «الدّبْر» النحل، سُمي دبراً، لأنه يُعْقِبُ ما يُنتفع به، و «الدّبْر» : المال الكثير، سُمي دبراً لكثرته، لأنه يبقى للأعقاب، والأدبار. وقال ابن عباس: أفلا يتدبّرون القرآن، فيتفكّرون فيه، فيرون تصديق بعضه لبعض، وأن أحداً من الخلائق لا يقدر عليه. قال ابن قتيبة: والقرآن من قولك: ما قرأت الناقة سلى «1» قط، أي: ما ضمّت في رحمها ولداً، وأنشد أبو عبيدة:
هِجانُ اللّون لم تقرأ جنينا «2» وإنما سُمي قرآنا، لأنه جمع السور، وضمها.
قوله تعالى: لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه التناقض، قاله ابن عباس، وابن زيد، والجمهور. والثاني: الكذب، قاله مقاتل، والزجاج. والثالث: أنه اختلاف تفاوت من جهة بليغ من الكلام، ومرذول، إِذ لا بدّ للكلام إِذا طال من مرذول، وليس في القرآن إِلا بليغ، ذكره الماورديّ في جماعة.
[سورة النساء (4) : آية 83]
وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)
قوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ في سبب نزولها قولان:
(319) أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما اعتزل نساءه، دخل عمر المسجد، فسمع الناس يقولون: طلّق
__________
صحيح. أخرجه مسلم 1479 عن ابن عباس عن عمر في أثناء خبر مطول، وكرره لكن دون ذكر الآية.
- وسيأتي باستيفاء في سورة الأحزاب.
__________
(1) في «اللسان» السلى: لفاقة الولد من الدواب والإبل.
(2) هو عجز بيت لعمرو بن كلثوم كما في اللسان: (قرأ) ، وصدره: ذراعي عيطل أدماء بكر.
والعيطل: الناقة الطويلة العنق، في حسن منظر وسمن. الأدماء: البيضاء مع سواد المقلتين. وهجان اللون:
بيضاء كريمة.(1/438)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نساءه، فدخل على النبي عليه السلام فسأله: أطّلقت نساءك؟ قال: «لا» . فخرج فنادى:
ألا إِن رسول الله لم يطلّق نساءه. فنزلت هذه الآية. فكان هو الذي استنبط الأمر. انفرد بإخراجه مسلم، من حديث ابن عباس، عن عمر.
(320) والثاني: أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إِذا بعث سريّة من السرايا فَغَلَبَتْ أو غُلِبَت، تحدثوا بذلك، وأفشوه، ولم يصبروا حتى يكون النبي هو المتحدِّث به. فنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
وفي المشار إِليهم بهذه الآية قولان: أحدهما: أنهم المنافقون. قاله ابن عباس، والجمهور.
والثاني: أهل النفاق، وضعفة المسلمين، ذكره الزجاج. وفي المراد بالأمن أربعة أقوال: أحدها: فوز السريّة بالظفر والغنيمة، وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه الخبر يأتي إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه ظاهر على قوم، فيأمن منهم، قاله الزجاج. والثالث: أنه ما يعزم عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الموادعة والأمان لقومٍ، ذكره الماوردي. والرابع: أنه الأمن يأتي من المأمَن وهو المدينة، ذكره أبو سليمان الدمشقي مُخرجاً من حديث عمر. وفي الْخَوْفِ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه النكبة التي تُصيب السريّة، ذكره جماعة من المفسّرين. والثاني: أنه الخبر يأتي أن قوماً يجمعون للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فيخاف منهم، قاله الزجاج. والثالث:
ما يعزم عليه النبي من الحرب والقتال، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: أَذاعُوا بِهِ قال ابن قتيبة: أشاعوه. وقال ابن جرير: والهاء عائدة على الأمر. قوله تعالى: وَلَوْ رَدُّوهُ يعني: الأمر إِلَى الرَّسُولِ حتى يكون هو المخبر به وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ
وفيهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم مثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، قاله ابن عباس. والثاني:
أنهم أبو بكر، وعمر، قاله عكرمة. والثالث: العلماء، قاله الحسن، وقتادة، وابن جريج. والرابع:
أمراء السرايا، قاله ابن زيد، ومقاتل. وفي الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ قولان: أحدهما: أنهم الذين يتتبعونه من المذيعين له، قاله مجاهد. والثاني: أنهم أُولو الأمر، قاله ابن زيد. و «الاستنباط» في اللغة:
الاستخراج. قال الزجاج: أصله من النبط، وهو الماء الذي يخرج من البئر أول ما تحفر، يقال من ذلك: قد أنبط فلان في غضراء، أي: استنبط الماء من طين حُرّ. والنبط: سُموا نبطاً، لاستنباطهم ما يخرج من الأرض.
قال ابن جرير: ومعنى الآية: وإِذا جاءهم خبر عن سريّة للمسلمين بخير أو بشر أفشوه، ولو سكتوا حتى يكون الرسول وذوو الأمر يتولون الخبر عن ذلك، فيصححوه إِن كان صحيحاً، أو يبطلوه إِن كان باطلاً، لعلم حقيقة ذلك من يبحث عنه من أُولى الأمر.
قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. في المراد بالفضل أربعة أقوال: أحدها: أنه رسول الله.
والثاني: الإِسلام. والثالث: القرآن. والرابع: أُولو الأمر. وفي الرحمة أربعة أقوال: أحدها: أنها الوحي. والثاني: اللّطف. والثالث: النعمة. والرابع: التّوفيق.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، فالخبر لا شيء.(1/439)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
قوله تعالى: لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا في معنى هذا الاستثناء ثلاثة أقوال: أحدها: أنه راجع إِلى الإِذاعة، فتقديره: أذاعوا به إِلا قليلاً. وهذا قول ابن عباس وابن زيد، واختاره القرّاء وابن جرير.
والثاني: أنه راجع إِلى المستنبطين، فتقديره: لَعلمه الذين يستنبطونه منهم إِلا قليلاً، وهذا قول الحسن وقتادة، واختاره ابن قتيبة. فعلى هذين القولين في الآية تقديم وتأخير. والثالث: أنه راجع إلى اتِّباع الشيطان، فتقديره: لاتبعتم الشيطان إِلا قليلاً منكم، وهذا قول الضحاك، واختاره الزجاج. وقال بعض العلماء: المعنى: لولا فضل الله بإرسال النبي إِليكم، لضللتم إلا قليلاً منكم كانوا يستدركون بعقولهم معرفة الله، ويعرفون ضلال من يَعبُد غيره، كقس بن ساعدة.
[سورة النساء (4) : آية 84]
فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)
قوله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سبب نزولها:
(321) أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما ندب الناس لموعد أبي سفيان ببدر الصُغرى بعد أُحُد، كره بعضهم ذلك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
وفي «فاء» فَقاتِلْ قولان: أحدهما: أنه جوابُ قوله وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ. والثاني: أنها متصلة بقوله وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذكرهما ابن السريّ. والمرادُ بسبيل الله: الجهاد.
قوله تعالى: لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ أي: إِلا المجاهدة بنفسك. و «حرّض» : بمعنى حضّض.
قال الزجاج: ومعنى عَسَى في اللغة: معنى الطمع والإِشفاق. والإِطماع من الله واجب. و «البأس» :
الشدّة. وقال ابن عباس: والله أشدّ عذابا. قال قتادة: و «التّنكيل» : العقوبة.
[سورة النساء (4) : آية 85]
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85)
قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً، في المراد بالشفاعة أربعة أقوال: أحدها: أنها شفاعة الإِنسان للانسان، ليجتلب له نفعاً، أو يُخلصه من بلاء، وهذا قول الحسن ومجاهد وقتادة، وابن زيد.
والثاني: أنها الإِصلاح بين اثنين، قاله ابن السائب. والثالث: أنه الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، ذكره الماوردي. والرابع: أن المعنى: مَن يَصرْ شفعاً لوِترِ أصحابك يا محمد، فيشفعهم في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله، قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي.
وفي الشفاعة السيئة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها السعي بالنميمة، قاله ابن السائب، ومقاتل.
والثاني: أنها الدّعاء على المؤمنين والمؤمنات، وكانت اليهود تفعله، ذكره الماوردي. والثالث: أن المعنى: من يشفع وتر أهل الكفر، فيقاتل المؤمنين قاله ابن جرير وأبو سليمان الدمشقي.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهو من رواية الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، فالخبر لا شيء.(1/440)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
قال الزجاج: و «الكفل» في اللغة: النصيب، وأخذ من قولهم: اكتفلت البعير: إذا أدرت على سنامه، أو على موضع من ظهره كِساء، وركبتَ عليه. وإِنما قيل له: كِفل، لأنه لم يستعمل الظهر كله، وإِنما استعمل نصيباً منه.
وفي المقيت» سبعة أقوال: أحدها: أنه المقتدر، قال أحيحة بن الجلاّح:
وذي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفس عنه ... وكنتُ على مساءته مُقيتاً «1»
وإِلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، وابن جرير، والسدي، وابن زيد، والفراء، وأبو عبيد، وابن قتيبة، والخطّابي. والثاني: أنه الحفيظ، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وبه قال قتادة، والزجاج.
وقال: هو بالحفيظ أشبه، لأنه مشتقّ من القوت، يقال: قُتُّ الرجل أقوته قوتاً: إِذا حفظت عليه نفسه بما يقوته. والقوت: اسم الشيء الذي يحفظ نفسه، ولا فضل فيه على قدر الحفظ، فمعنى المقيت:
الحافظ الذي يعطي الشيء على قدر الحاجة من الحفظ. قال الشاعر:
أليَ الفَضْلُ أمْ عليّ إِذا حُو ... سبْتُ إِنّي على الحساب مُقيتُ
والثالث: أنه الشهيد، رواه ابن أبي نجيح، عن مجاهد، واختاره أبو سليمان الدمشقي. والرابع:
أنه الحسيب، رواه خصيف عن مجاهد. والخامس: الرقيب، رواه أبو شيبة عن عطاء. والسادس:
الدائم، رواه ابن جريج عن عبد الله بن كثير. والسابع: أنه معطي القوت، قاله مقاتل بن سليمان. وقال الخطّابي: المقيت يكون بمعنى معطي القوت، قال الفرّاء: يقال: قاته وأقاته.
[سورة النساء (4) : آية 86]
وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86)
قوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ في التحيّة قولان: أحدهما: أنها السلام، قاله ابن عباس والجمهور. والثاني: الدّعاء، ذكره ابن جرير والماوردي. فأما «أحسن منها» فهو الزيادة عليها، وردها:
قول مثلها. قال الحسن: إِذا قال أخوك المسلم: السلام عليكم، فردَّ السلام، وزد: ورحمة الله. أو رُد ما قال ولا تزد. وقال الضحاك: إِذا قال: السلام عليك، قلت: وعليكم السلام ورحمة الله، وإِذا قال:
السلام عليك ورحمة الله، قلتَ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وهذا منتهى السلام. وقال قتادة:
بأحسن منها للمسلم، أو ردّوها على أهل الكتاب «2» .
__________
(1) في «اللسان» الضغن: الحقد والعداوة.
(2) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 283: واختلف العلماء في معنى الآية وتأويلها، فروى ابن وهب عن مالك أن هذه الآية بتشميت العاطس والردّ على المشمّت. وهذا ضعيف. والرد على المشمّت فمما يدخل بالقياس في معنى رد التحية وهذا هو منحى مالك إن صح ذلك عنه. وقال أصحاب أبي حنيفة: التحية هنا الهدية، لقوله تعالى: أَوْ رُدُّوها والصحيح أن التحية هاهنا السلام وعلى هذا جماعة المفسرين. وأجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنّة مرغب فيها، وردّه فريضة لقوله تعالى: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها.
واختلفوا إذا ردّ واحد من جماعة هل يجزئ أو لا. فمذهب الشافعي ومالك إلى الإجزاء. واحتجوا بما رواه داود عن علي رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجزئ من الجماعة إذا مرّوا أن يسلّم أحدهم، ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم» قال أبو عمر: حديث حسن لا معارض له. وقد ضعفه بعضهم وجعلوه حديثا منكرا.
واحتجوا أيضا بقوله عليه السلام: «يسلّم القليل على الكثير» . وروى مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يسلّم الراكب على الماشي وإذا سلّم واحد من القوم أجزأ عنهم» . قلت: هكذا تأول علماؤنا هذا الحديث وجعلوه حجة في جواز رد الواحد، وفيه قلق. وقوله تعالى: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها رد الأحسن أن يزيد فيقول: عليك السلام ورحمة الله، لمن قال: سلام عليك. فإن قال: سلام عليك ورحمة الله زدت في ردّك: وبركاته. وهذا هو النهاية فلا مزيد. فإن انتهى بالسلام غايته، زدت في ردك الواو في أول كلامك فقلت وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. وينبغي أن يكون السلام. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي قال: إذا سلّمت على الواحد فقل: السلام عليكم، فإن معه الملائكة، وكذلك الجواب يكون بلفظ الجمع. والاختيار في التسليم والأدب فيه تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق قال تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ.
فإن ردّ فقدم اسم المسلم عليه لم يأت محرّما ولا مكروها. ومن السنة تسليم الراكب على الماشي، والقائم على القاعد، والقليل على الكثير. هكذا جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة. قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويسلّم الصغير على الكبير» . وأما تسليم الكبير على الصغير قال أكثر العلماء: التسليم عليهم أفضل من تركه، وفيه تدريب للصغير وحضّ على تعليم السّنن ورياضة لهم على آداب الشريعة فيه، وقد جاء في الصحيحين عن سيار قال: كنت أمشي مع ثابت فمرّ بصبيان فسلم عليهم، وذكر أنه كان يمشي مع أنس فمرّ بصبيان فسلّم عليهم، وحدّث أنه كان يمشي مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فمرّ بصبيان فسلّم عليهم. وأما التسليم على النساء فجائز إلا على الشابات منهن خوف الفتنة من مكالمتهن بنزعة شيطان أو خائنة عين. وأما المتجالات- المتجالة الهرمة المسنة- والعجز فحسن للأمن فيما ذكرناه وإليه ذهب مالك وطائفة من العلماء.
ومنعه الكوفيون إذا لم يكن منهن ذوات محرم وقالوا: لما سقط عن النساء الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن ردّ السّلام فلم يسلّم عليهن. والصحيح الأول لما خرجه البخاري عن سهل بن سعد قال:
كنا نفرح بيوم الجمعة. قلت ولم؟ قال: كانت لنا عجوز ترسل إلى بضاعة- قال ابن مسلمة: نخل بالمدينة- فتأخذ من أصول السّلق فتطرحه في القدر وتكركر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا فنسلّم عليها فتقدمه إلينا فنفرح من أجله، ولا كنا نقيل ولا نتغذى إلا بعد الجمعة. تكركر أي تطحن. ولا تكفي الإشارة بالإصبع والكف عند الشافعي، وعندنا تكفي إذا كان على بعد وأما الكافر فحكم الردّ عليه أن يقال له:
وعليكم. وقال عطاء: الآية في المؤمنين خاصة، ومن سلّم من غيرهم قيل له: عليك، كما جاء في الحديث في صحيح مسلم: «عليك» بغير واو وهي الرواية الواضحة، ورواية حذف الواو أحسن معنى وإثباتها أصح رواية وأشهر، وعليها من العلماء أكثر. ولا يسلّم على المصلي فإن سلّم عليه فهو بالخيار، إن شاء رد بالإشارة بإصبعه وإن شاء أمسك حتى يفرغ من الصلاة ثم يردّ. ولا ينبغي أن يسلّم على من يقضي حاجته فإن فعل لم يلزمه أن يرد عليه.(1/441)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
[سورة النساء (4) : آية 87]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)
قوله تعالى: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ قال مقاتل: نزلت في الذين شكّوا في البعث. قال الزجاج:
واللام في «لَيجمعنكم» لام القسم، كقولك: واللهِ ليجمعنّكم، قال: وجائِز أن تكون سُميت القيامة، لقيام الناس من قبورهم، وجائِز أن تكون، لقيامهم للحساب.
قوله تعالى: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً إِنما وصف نفسه بهذا، لأن جميع الخلق يجوز عليهم الكذب، ويستحيل في حقّه.
[سورة النساء (4) : آية 88]
فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88)(1/442)
قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ في سبب نزولها سبعة أقوال «1» :
(322) أحدها: أن قوماً أسلموا، فأصابهم وَبَاء بالمدينة وحِماها، فخرجوا فاستقبلهم نفرٌ من المسلمين، فقالوا: ما لكم خرجتم؟ قالوا: أصابنا وباء بالمدينة، واجتويناها «2» ، فقالوا: أما لكم في رسول الله أسوةٌ؟ فقال بعضهم: نافقوا، وقال بعضهم: لم ينافقوا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبيه.
(323) والثاني: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما خرج إِلى أُحد، رجع ناسٌ ممن خرج معه، فافترق فيهم أصحاب رسول الله، ففرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا نقتلهم، فنزلت هذه الآية، هذا في «الصحيحين» من قول زيد بن ثابت.
(324) والثالث: أن قوماً كانوا بمكة تكلموا بالإِسلام وكانوا يعاونون المشركين، فخرجوا من مكة لحاجة لهم، فقال قوم من المسلمين: اخرجوا إِليهم فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عدوّكم. وقال قوم:
كيف نقتلهم وقد تكلموا بمثل ما تكلمنا به؟ فنزلت هذه الآية، رواه عطية عن ابن عباس.
(325) والرابع: أن قوماً قدموا المدينة، فأظهروا الإِسلام، ثم رجعوا إلى مكة، فأظهروا الشرك، فنزلت هذه الآية، هذا قول الحسن، ومجاهد.
(326) والخامس: أن قوماً أعلنوا الإِيمان بمكة وامتنعوا من الهجرة، فاختلف المؤمنون فيهم، فنزلت هذه الآية، وهذا قول الضّحّاك.
__________
ضعيف. أخرجه أحمد 1/ 192 والواحدي في «أسباب النزول» 342 عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف عن أبيه بنحوه، وإسناده منقطع، أبو سلمة لم يسمع من أبيه شيئا. وله علة ثانية ابن إسحاق مدلس، وقد عنعن. وورد بنحوه عن السدي مرسلا أخرجه الطبري 10064، وهو ضعيف. والصواب في ذلك ما رواه الشيخان، وهو الآتي.
صحيح. أخرجه البخاري 1884 و 4050 و 4589 ومسلم 1384 و 2776 والترمذي 3028 والنسائي في «التفسير» 133 وأحمد 5/ 184 و 187 و 188 والطبري 10055 والواحدي 341 عن زيد بن ثابت.
ضعيف. أخرجه الطبري 10060 عن عطية، عن ابن عباس، وإسناده واه لأجل عطية العوفي.
ضعيف. أخرجه الطبري 10058 عن مجاهد مرسلا، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 342 م عن مجاهد بدون إسناد، وهو ضعيف لكونه مرسلا، والصحيح ما رواه الشيخان.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» 2/ 190 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ضعيف. أخرجه الطبري 10063 عن الضحاك، مرسلا.
__________
(1) قال أبو جعفر رحمه الله في «تفسيره» 4/ 196: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة.
وفي قول الله تعالى ذكره: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا أوضح دليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة. لأن الهجرة كانت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر، فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيما فلم يكن عليه فرض هجرة.
(2) في «اللسان» اجتويت البلد: أي استوخموها. ولم توافقهم وكرهوها لسقم أصابهم قالوا: وهو مشتق من الجوى، وهو داء في الجوف.(1/443)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
(327) والسادس: أن قوماً من المنافقين أرادوا الخروج من المدينة، فقالوا للمؤمنين: إِنه قد أصابتنا أوجاع في المدينة، فلعلنا نخرج فنتماثل، فإنا كنا أصحاب بادية، فانطلقوا، واختلف فيهم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية. هذا قول السدي.
(328) والسابع: أنها نزلت في شأن ابن أُبيّ حين تكلّم في عائشة بما تكلّم، وهذا قول ابن زيد.
وقوله تعالى: فَما لَكُمْ خطاب للمؤمنين. والمعنى: أي شيء لكم في الاختلاف في أمرهم؟
و «الفئة» : الفرقة. وفي معنى «أركسهم» أربعة أقوال: أحدها: ردّهم، رواه عطاء، عن ابن عباس. قال ابن قتيبة: ركست الشيء، وأركسته: لغتان، أي: نكسهم وردهم في كفرهم، وهذا قول الفراء، والزجاج. والثاني: أوقعهم، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس. والثالث: أهلكهم، قاله قتادة.
والرابع: أضلّهم، قاله السدّي.
فأما الذي كسبوا، فهو كفرهم، وارتدادهم. قال أبو سليمان. إِنما قال: أتريدون أن تهدوا مَن أضل الله، لأن قوماً من المؤمنين قالوا: إِخواننا، وتكلموا بكلمتنا.
قوله تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا فيه قولان: أحدهما: إِلى الحجة، قاله الزجاج. والثاني: إِلى الهدى، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
[سورة النساء (4) : آية 89]
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89)
قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا أخبر الله عزّ وجلّ المؤمنين بما في ضمائِر تلك الطائِفة، لئلا يحسنوا الظنّ بهم، ولا يجادلوا عنهم، وليعتقدوا عداوتهم.
قوله تعالى: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ أي: لا توالوهم فإنهم أعداء لكم حَتَّى يُهاجِرُوا أي:
يرجعوا إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن عباس: فإن تولوا عن الهجرة والتوحيد، فَخُذُوهُمْ أي: ائسروهم، واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحِل والحرم.
فصل: قال القاضي أبو يعلى: كانت الهجرة فرضاً إِلى أن فتحت مكّة «1» . وقال الحسن: فرض
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 10064 عن السدي مرسلا.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 10065 عن ابن زيد مرسلا، وابن زيد متروك، ليس بشيء.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 149- 152: الهجرة: هي الخروج من دار الكفر إلى دار الإسلام. قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها الآيات. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أنا بريء من مسلم بين مشركين، لا تراءى ناراهما» . وحكم الهجرة باق، لا ينقطع إلى يوم القيامة. في قول عامة أهل العلم. وقال قوم: قد انقطعت الهجرة، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا هجرة بعد الفتح» وروي أن صفوان بن أمية لما أسلم، قيل له: لا دين لمن لم يهاجر. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما جاء بك أبا وهب؟» قال: قيل: إنه لا دين لمن لم يهاجر. قال «ارجع أبا وهب إلى أباطح مكة، أقرّوا على مساكنكم، قد انقطعت الهجرة ولكن جهاد ونية» .
روى ذلك كله سعيد. ولنا، ما روى معاوية، قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها» . رواه أبو داود. وأما الأحاديث الأول، فأراد بها، لا هجرة بعد الفتح من بلد قد فتح. وقوله لصفوان: «إن الهجرة قد انقطعت» . يعني من مكة، لأن الهجرة الخروج من بلد الكفار، فإذا فتح لم يبق بلدا لكفار، فلا تبقى منه هجرة. وإذا ثبت هذا فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب- وذكر الأوجه الثلاثة.(1/444)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
الهجرة باق، واعلم أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب: أحدها: من تجب عليه، وهو الذي لا يقدر على إِظهار الإِسلام في دار الحرب، خوفاً على نفسه، وهو قادرٌ على الهجرة، فتجب عليه لقوله أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها «1» . والثاني: من لا تجب عليه بل تستحب له، وهو من كان قادراً على إِظهار دينه في دار الحرب. والثالث: من لا تستحب له وهو الضعيف الذي لا يقدر على إِظهار دينه، ولا على الحركة كالشيخ الفاني، والزّمِن، فلم تستحب له للحوق المشقّة.
[سورة النساء (4) : آية 90]
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ هذا الاستثناء راجع إِلى القتل، لا إِلى الموالاة وفي «يصلون» قولان: أحدهما: أنه بمعنى يتّصلون ويلجئون.
(329) قال ابن عباس: كان هلال بن عويمر الأسلمي وادع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أن لا يعينه ولا يعين عليه. فكان من وصل إِلى هلال من قومه وغيرهم، فلهم من الجوار مثل ما لهلال.
والثاني: أنه بمعنى ينتسبون، قاله ابن قتيبة، وأنشد.
إِذا اتَّصلَتْ قالتْ أبكرَ بنَ وائلٍ ... وبكرٌ سَبَتْها والأنوفُ رواغمُ
يريد: إِذا انتسبت، قالت: أبكراً، أي: يا آل بكر.
وفي القوم المذكورين أربعة أقوال: أحدها: أنهم بنو بكر بن زيد مناة، قاله ابن عباس. والثاني:
أنهم هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف، قاله عكرمة.
والثالث: أنهم بنو مدلج، قاله الحسن. والرابع: خزاعة وبنو مدلج، قاله مقاتل. قال ابن عباس:
«والميثاق» : العهد.
قوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: أو يصلون إلى قوم جاءوكم، قاله الزجاج في جماعة. والثاني: أنه يعود إِلى المطلوبين للقتل. فتقديره: أو رجعوا فدخلوا فيكم، وهو بمعنى قول السدي. قوله تعالى: حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ فيه قولان: أحدهما: أن فيه إِضمار «قد» .
والثاني: أنه خبرٌ بعد خبر، فقوله جاؤُكُمْ: خبرٌ قد تم، وحصِرت: خبرٌ مستأنف، حكاهما
__________
عزاه السيوطي في «أسباب النزول» 328 لابن أبي حاتم عن ابن عباس.
__________
(1) سورة النساء: 97.(1/445)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
الزجاج. وقرأ الحسن ويعقوب والمفضل، عن عاصم: «حَصِرةً صدورُهم» على الحال. و «حصرت» :
ضاقت، ومعنى الكلام: ضاقت صدورهم عن قتالكم للعهد الذي بينكم وبينهم، أو يقاتلوا قومَهم، يعني قريشاً. قال مجاهد: هلال بن عويمر هو الذي حصِر صَدرُه أن يقاتلكم، أو يقاتل قومه. قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: أخبر أنه إِنما كفّهم بالرعب الذي قذف في قلوبهم.
وفي السَّلَمَ قولان: أحدهما: أنه الإِسلام، قاله الحسن. والثاني: الصُلح، قاله الربيع، ومقاتل.
فصل: قال جماعة من المفسّرين: معاهدة المشركين وموادعتهم المذكورة في هذه الآية منسوخة بآية السيف. قال القاضي أبو يعلى: لما أعزّ الله الإِسلام أُمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إِلاَّ الإسلام أو السّيف «1» .
[سورة النساء (4) : آية 91]
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)
قوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
(330) أحدها: أنها نزلت في أسد وغطفان، كانوا قد تكلموا بالإِسلام ليأمنوا المؤمنين بكلمتهم، ويأمنوا قومهم بكفرهم، رواه أبو صالح، عن ابن عباس.
والثاني: أنها نزلت في بني عبد الدار، رواه الضحاك، عن ابن عباس.
(331) والثالث: أنها نزلت في قوم أرادوا أخذ الأمان من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا، قاله قتادة.
(332) والرابع: أنها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي، كان يأمن في المسلمين والمشركين،
__________
ضعيف جدا، فهو من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، والكلبي متروك متهم، وأبو صالح روى عن ابن عباس مناكير.
ضعيف. أخرجه الطبري 10087 عن قتادة مرسلا.
وذكره السيوطي في «الدر» 2/ 343 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
ضعيف. أخرجه الطبري 10088 عن السدي مرسلا.
وذكره السيوطي في «الدر» 2/ 343 وزاد نسبته لابن أبي حاتم.
__________
(1) قال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 203- 208: ولا تقبل الجزية إلا من يهودي أو نصراني، أو مجوسي، إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه. لأن الله تعالى أمر بقتالهم لهم حتى يعطوا الجزية، أي يلتزموا أداءها، فما لم يوجد ذلك، يبقوا على إباحة دمائهم وأموالهم، ومن سواهم، فالإسلام أو القتل. هذا ظاهر مذهب أحمد. وروى عنه الحسن بن ثواب، أنها تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب. لتغلظ كفرهم من وجهين دينهم وكونهم من رهط النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال أبو حنيفة: تقبل من جميع الكفار إلا العرب لأنهم رهط النبي صلّى الله عليه وسلّم، فلا يقرّون على غير دينه. وقال الشافعي: لا تقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس، وعن مالك:
تقبل من جميعهم إلا مشركي قريش، لأنهم ارتدّوا.(1/446)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
فينقل الحديث بين النبي عليه السلام وبينهم، ثم أسلم نُعيم، هذا قول السدي.
ومعنى الآية: ستجدون قوماً يظهرون الموافقة لكم ولقومهم، ليأمنوا الفريقين، كلما دعوا إلى الشرك، عادوا فيه، فان لم يعتزلوكم في القتال، ويلقوا إليكم الصّلح، ويكفوا أيديهم عن قتالكم، فخذوهم، أي: ائسروهم، واقتلوهم حيث أدركتموهم، وأولائكم جعلنا لكم عليهم حجة بيّنة في قتلهم.
فصل: قال أهل التفسير: والكف عن هؤلاء المذكورين في هذه الآية منسوخ بآية السّيف.
[سورة النساء (4) : آية 92]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)
قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً في سبب نزولها قولان:
(333) أحدهما: أن عياش بن أبي ربيعة أسلم بمكّة قبل هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم خاف أن يظهر إِسلامه لقومه، فخرج إِلى المدينة فقالت أُمُّه لابنيها أبي جهل، والحارث ابني هشام، وهما أخواه لأمّه:
والله لا يُظلّني سقف، ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتياني به. فخرجا في طلبه، ومعهما الحارث بن زيد، حتى أتوا عيّاشاً وهو مُتحَصّنٌ في أُطُم «1» ، فقالوا له: انزل فإن أُمّك لم يُؤوها سقفٌ، ولم تذق طعاماً، ولا شراباً، ولك علينا أن لا نحول بينكَ وبين دينك، فنزل، فأوثقوه، وجلده كلُّ واحد منهم مائة جلدة، فقدموا به على أُمّه، فقالت: والله لا أحُلُّك من وَثاقك حتى تكفُر، فطُرِحَ موثقاً في الشمس حتى أعطاهم ما أرادوا، فقال له الحارث بن زيد: يا عياش لئن كان ما كنت عليه هدى لقد تركته، وإِن كان ضلالاً لقد ركبته فغضب، وقال: والله لا ألقاك خالياً إلا قتلتك، ثم أفلت عياش بعد ذلك وهاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، ثم أسلم الحارث بعده وهاجر، ولم يعلم عياش، فلقيه يوماً فقتله، فقيل له: إنه قد أسلم، فجاء إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبره بما كان، وقال: لم أشعر باسلامه، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح، عن ابن عباس. وهو قول سعيد بن جبير، والسدّي، والجمهور.
(334) والثاني: أن أبا الدرداء قتل رجلاً قال لا إِله إِلا الله في بعض السّرايا، ثم أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم،
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» بإثر 343 عن الكلبي بدون إسناد، وقد روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا، وورد بمعناه، أخرجه الطبري 10098 عن السدي مرسلا و 10097 عن عكرمة مرسلا و 10095 و 10096 عن مجاهد مرسلا. وورد مختصرا عند الواحدي في «أسباب النزول» 343 والبيهقي 8/ 72 عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، وهذا مرسل، ولعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 10099 عن ابن زيد وهو معضل ومع ذلك عبد الرحمن بن زيد ضعيف الحديث ليس بشيء إن وصل الحديث فكيف إذا أرسله؟! وقد صح ذلك في أسامة بن زيد. انظر «تفسير ابن كثير» 1/ 547 بتخريجنا.
__________
(1) الأطم: الحصن، كما في الصحاح.(1/447)
فذكر له ما صنع، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن زيد.
قال الزجاج: معنى الآية: وما كان لمؤمنٍ أن يقتل مؤمنا البتّة. والاستثناء ليس من الأوّل، وإنما المعنى: إلا أن يخطئ المؤمن. روى أبو عبيدة، عن يونس: أنه سأل رؤبة عن هذه الآية، فقال: ليس له أن يقتله عمداً ولا خطأ «1» ، ولكنّه أقام «إِلا» مقام «الواو» قال الشاعر:
وكلُّ أخٍ مُفَارقُه أخوهُ ... لَعَمْرُ أبيكَ إِلاَّ الفَرقَدَانِ «2»
أرَادَ: والفَرْقَدَانِ. وقال بعضُ أهل المعاني: تقديرُ الآية: لكن قد يقتله خطأ، وليس ذلك فيما جعل الله له، لأن الخطأ لا تصح فيه الإِباحة، ولا النهي. وقيل: إِنما وقع الاستثناء على ما تضمنته الآية من استحقاق الإثم، وإِيجاب القتل.
قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ قال سعيدُ بنُ جبير: عتق الرقبة واجبٌ على القاتِل في ماله، واختلفوا في عتق الغلام الذي لا يصح منه فعل الصلاة والصيام، فروي عن أحمد جوازه، وكذلك روى ابن أبي طلحة، عن ابن عباس، وهذا قول عطاء، ومجاهد. وروي عن أحمد: لا يجزئ إِلا من صام وصلى، وهو قول ابن عباس في رواية، والحسن، والشعبي، وإِبراهيم، وقتادة. قوله تعالى: وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ قال القاضي أبو يعلى: ليس في هذه الآية بيان من تلزمه هذه الدية، واتفق الفقهاء على أنها عاقلة القاتل، تحملها عنه على طريق المواساة، وتلزم العاقلة في ثلاث سنين، كل سنة ثلثها، والعاقلة: العصبات من ذوي الأنساب. ولا يلزم الجاني منها شيء. وقال أبو حنيفة: هو كواحد من العاقلة «3» . وللنفس ستة أبدال: من الذهب ألف دينار، ومن الوَرِق اثنا عشر ألف درهم، ومن الإبل مائة، ومن البقرة مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، وفي الحلل روايتان عن أحمد. إِحداهما: أنها أصل، فتكون مائتا حلة. فهذه دية الذكر الحرّ المسلم، ودية الحُرّة المسلمة على النصف من ذلك «4» . قوله
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 206: والصواب في ذلك أن يقال: إن الله عرّف عباده بهذه الآية على من قتل مؤمنا خطأ من كفارة ودية. وجائز أن تكون الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة وقتيله، وفي أبي الدرداء وصاحبه. وأي ذلك كان، فالذي عنى الله تعالى بالآية: تعريف عباده ما ذكرناه، وقد عرف من عقل عنه من عباده تنزيله، وغير ضائرهم جهلهم بما نزلت فيه.
(2) البيت لعمرو بن معديكرب كما في «الكامل» 3/ 1240، وفي «اللسان» الفرقدان: نجمان في السماء لا يغربان، ولكنهما يطوفان بالجدي.
(3) قال الإمام الموفق رحمه الله في المغني 12/ 21: ولا نعلم بين أهل العلم خلافا في أن دية الخطأ على العاقلة. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم وقد ثبتت الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنه قضى بدية الخطأ على العاقلة. وفي «صحيح البخاري» عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، قال: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتلهم، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرفع يديه وقال:
«اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد» ، قال ابن إسحاق: وبعث عليا، فودى قتلاهم، وما أتلف من أموالهم حتى ميلغة الكلب. وهذا يؤخذ منه أن خطأ الإمام أو نائبه يكون في بيت المال. [.....]
(4) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 6- 12: أجمع أهل العلم على أن الإبل أصل في الدية، وأن دية الحر المسلم مائة من الإبل. وهنا إحدى الروايتين عن أحمد، رحمه الله. وقال القاضي: لا يختلف المذهب أن أصول الدية الإبل، والذهب، والورق، والبقر، والغنم، فهذه خمسة لا يختلف المذهب فيها.
ولنا، قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ألا إن في قتيل عمد الخطأ، قتيل السوط والعصا، مائة من الإبل» ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم فرّق بين دية العمد والخطأ فغلّظ بعضها، وخفف بعضها، ولا يتحقق هذا في غير الإبل، ولأنه بدل متلف حقا لآدمي، فكان متعينا، كعوض الأموال. فإن قلنا: هي خمسة أصول، فإن قدرها من الذهب ألف مثقال، ومن الورق اثنا عشر ألف درهم، ومن البقر والحلل مائتان، ومن الشاة ألفان، ولم يختلف القائلون بهذه الأصول في قدرها من الذهب، ولا من سائرها، إلا الورق. فإن الثوري وأبا حنيفة وصاحبيه قالوا: قدرها عشرة آلاف من الورق. وعلى هذا، أي شيء أحضره من عليه الدية من القاتل أو العاقلة من هذه الأصول، لزم الولي أخذه، ولم يكن له المطالبة بغيره، لأنها أصول في قضاء الواجب، يجزئ واحد منها.(1/448)
تعالى: إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا قال سعيد بن جبير: إِلا أن يتصدّق أولياء المقتول بالدية على القاتل.
قوله تعالى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فيه قولان: أحدهما: أن معناه: وإِن كان المقتول خطأ من قوم كفار، ففيه تحرير رقبة من غير دية، لأن أهل ميراثه كفار. والثاني: وإِن كان مقيماً بين قومه، فقتله من لا يعلم بإيمانه، فعليه تحرير رقبة ولا دية، لأنه ضيّع نفسه بإقامته مع الكفار، والقولان مرويّان عن ابن عباس، وبالأول قال النخعي، وبالثاني سعيد بن جبير. وعلى الأول تكون «مِن» للتبعيض، وعلى الثاني تكون بمعنى في.
قوله تعالى: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فيه قولان: أحدهما: أنه الرجل من أهل الذّمة يُقتل خطأ، فيجب على قاتله الدية، والكفارة، هذا قول ابن عباس، والشّعبيّ، وقتادة، والزّهريّ. ولأبي حنيفة، والشافعي، ولأصحابنا تفصيل في مقدار ما يجب من الدية «1» . والثاني: أنه المؤمن يقتل، وقومه مشركون، ولهم عقد، فديته لقومه، وميراثه للمسلمين، هذا قول النخعي.
قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ اختلفوا هل هذا الصيام بدل من الرقبة وحدها إِذا عدِمها، أو بدل من الرقبة والدية؟ فقال الجمهور: عن الرقبة وحدها، وقال مسروق، ومجاهد، وابن سيرين: عنهما. واتفق العلماء على أنه إِذا تخلّل صوم الشهرين إِفطار لغير عذر، فعليه الابتداء، فأما إِذا تخللها المرض، أو الحيض، فعندنا لا ينقطع التتابع. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة:
المرض يقطع! والحيض لا يقطع، وفرق بينهما بأنه يمكن في العادة صوم شهرين بلا مرض، ولا يمكن ذلك في الحيض، وعندنا أنها معذورة في الموضعين «2» .
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 51- 54: ودية الحر الكتابي نصف دية الحر المسلم، ونساؤهم، على النصف من دياتهم. هذا ظاهر المذهب، وهو مذهب عمر بن عبد العزيز ومالك. وعن أحمد، أنها ثلث دية المسلم. إلا أنه رجع عنها، فإن صالحا روى عنه أنه قال: كنت أقول: إن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف، وأنا اليوم أذهب إلى نصف دية المسلم، وهذا صريح في الرجوع عنه.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 11/ 88- 90: فإن أفطر فيهما من عذر بنى، وإن أفطر من غير عذر ابتدأ. أجمع أهل العلم على وجوب التتابع في الصيام في الكفّارة، وأجمعوا على أن من صام بعض الشهر، ثم قطعه لغير عذر، وأفطر، أن عليه استئناف الشهرين، وإنما كان ذلك لورود لفظ الكتاب والسنة به، ومعنى التتابع الموالاة بين صيام أيامها، فلا يفطر فيهما. ولم يفتقر التتابع إلى نية كالمتابعة بين الركعات، وأجمع أهل العلم على أن الصائمة متتابعا، إذا حاضت قبل إتمامه، تقضي إذا طهرت، وتبني، وذلك لأن الحيض لا يمكن التحرز منه في الشهرين إلا بتأخيره إلى الإياس، وفيه تغرير بالصوم، والنفاس كالحيض، في أنه لا يقطع التتابع، في أحد الوجهين، لأنه بمنزلة في أحكامه، ولأن الفطر لا يحصل فيهما بفعلهما، والوجه الثاني: أن النفاس يقطع التتابع، لأنه فطر أمكن التحرز منه، لا يتكرر كل عام، ولا يصح قياسه على الحيض، لأنه أندر منه، ويمكن التحرز عنه. وإن أفطر لمرض مخوّف، لم ينقطع التتابع أيضا. وبه قال مالك، والشافعي في القديم وقال في الجديد: ينقطع التتابع، لأنه أفطر اختيارا، فانقطع التتابع. وإن أفطر في أثناء الشهرين لغير عذر، أو قطع التتابع بصوم نذر، أو قضاء، أو تطوّع لزمه استئناف الشهرين، لأنه أخلّ بالتتابع المشترط، ويقع صومه عمّا نواه.(1/449)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
قوله تعالى: تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ قال الزجاج: معناه: فعل الله ذلك توبة منه. قوله: وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً أي: لم يزل عليماً بما يُصلح خلقه من التكليف حَكِيماً فيما يقضي بينهم، ويدبّره في أمورهم.
[سورة النساء (4) : آية 93]
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)
قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً.
(335) سبب نزولها: أن مقيس بن صُبابة وجد أخاه هشام بنُ صبابة قتيلاً في بني النّجار، وكان مسلما، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رسولاً من بني فهر، فقال له: إِيت بني النجّار، فأقرئهم مني السلام، وقل لهم: إِن رسول الله يأمركم إِن علمتم قاتل هشام، فادفعوه إلى مقيس، وإِن لم تعلموا له قاتلاً، فادفعوا إِليه ديته، فأبلغهم الفهري ذلك، فقالوا: والله ما نعلم له قاتلاً، ولكنّا نعطي ديته، فأعطوه مائة من الإِبل، ثم انصرفا راجعين إِلى المدينة، فأتى الشيطان مقيس بن صُبابة، فقال: تقبل دية أخيك، فيكون عليك سبّة ما بقيت. اقتل الذي معك مكان أخيك، وافضل بالدّية، فرمى الفهري بصخرةٍ، فشدخ رأسه، ثم ركب بعيراً منها، وساق بقيّتها راجعاً إلى مكة، وهو يقول:
قتلت به فهراً وحمَّلْتُ عقلهُ ... سُراةَ بني النّجار أرباب فارِع
وأدركت ثأري واضَّطجعْتُ موسداً ... وكنت إِلى الأصنام أول راجع «1»
فنزلت هذه الآية، ثم أهدر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دمه يوم الفتح، فقتل، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وفي قوله تعالى: مُتَعَمِّداً قولان: أحدهما: متعمداً لأجل أنه مؤمن، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: متعمداً لقتله، ذكره بعض المفسرين. وفي قوله تعالى: فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ قولان:
أحدهما: أنها جزاؤه قطعاً. والثاني: أنها جزاؤه إِن جازاه. واختلف العلماء هل للمؤمن إِذا قتل مؤمناً متعمداً توبة أم لا؟ فذهب الأكثرون إِلى أن له توبة، وذهب ابن عباس إِلى أنه لا توبة له.
فصل: اختلف العلماء في هذه الآية هل هي محكمة أم منسوخة؟ فقال قوم: هي محكمة،
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 344 عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس بدون إسناد. وهذا إسناد ساقط مع كونه معلقا، الكلبي متروك متهم. وأخرجه الطبري 1091 مختصرا عن عكرمة مرسلا.
__________
(1) في «اللسان» العقل في كلام العرب: الدية. سراة: اسم للجمع، والسّري: الرفيع في كلام العرب من سرا:
السّرو: المروءة والشرف. الفارع: يقال فلان فارع: مرتفع طويل.(1/450)
واحتجّوا بأنها خبرٌ، والأخبار لا تحتمل النسخ، ثم افترق هؤلاء فرقتين، إِحداهما قالت: هي على ظاهرها، وقاتل المؤمن مخلد في النار، والفرقة الثانية قالت: هي عامة قد دخلها التخصيص بدليل أنه لو قتله كافر، ثم أسلم الكافر، انهدرت عنه العقوبة في الدنيا والآخرة، فإذا ثبت كونها من العامّ المخصّص، فأي دليل صلح للتخصيص وجب العمل به. ومن أسباب التخصيص أن يكون قَتله مستحلاً، فيستحق الخلود لاستحلاله. وقال قومٌ: هي مخصوصة في حقّ من لم يَتُب، واستدلوا بقوله تعالى في «الفرقان» : إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «1» . وقال آخرون: هي منسوخة بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «2» .
__________
(1) سورة الفرقان: 70.
(2) سورة النساء: 48. قال الشوكاني رحمه الله في «تفسيره» 1/ 576: وقد اختلف العلماء هل لقاتل العمد من توبة أم لا توبة له؟ فروى البخاري عن سعيد بن جبير قال: اختلف فيه علماء أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً وهي آخر ما نزل وما نسخها شيء، وقد روى النسائي نحو هذا وروى النسائي عن زيد بن ثابت نحوه، وممن ذهب: إلى أنه لا توبة له من السلف أبو هريرة، وعبد الله بن عمر، وأبو سلمة، وعبيد بن عمير، والحسن، وقتادة، والضحاك بن مزاحم، نقله ابن أبي حاتم عنهم. وذهب الجمهور: إلى أن التوبة منه مقبولة، واستدلوا بمثل قوله تعالى: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ وقوله: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وقوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ قالوا أيضا:
والجمع ممكن بين آية النساء هذه وآية الفرقان، فيكون معناهما: جزاؤه جهنم إلا من تاب، لا سيما وقد اتحد السبب- وهو القتل- والموجب، وهو التوعد بالعقاب. واستدلوا أيضا: بالحديث المذكور في الصحيحين عن عبادة بن الصامت أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق، ثم قال: فمن أصاب من ذلك شيئا فستره الله فهو إلى الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه، وبحديث أبي هريرة الذي أخرجه مسلم في صحيحه وغيره: في الذي قتل مائة نفس، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة وأصحابه والشافعي: إلى أن القاتل عمدا دخل تحت المشيئة تاب أو لم يتب. والحق: أن باب التوبة لم يغلق دون كل عاص، بل هو مفتوح لكل من قصده ورام الدخول منه، وإذا كان الشرك وهو أعظم الذنوب وأشدها تمحوه التوبة إلى الله، ويقبل من صاحبه الخروج منه، والدخول في باب التوبة، فكيف ما دونه من المعاصي التي من جملتها القتل عمدا؟ لكن لا بد في توبة قاتل العمد من الاعتراف بالقتل، وتسليم نفسه للقصاص إن كان واجبا، أو تسليم الدية إن لم يكن القصاص واجبا، وكان القاتل غنيا متمكنا من تسليمها أو بعضها، وأما مجرد التوبة من القاتل عمدا، وعزمه على أن لا يعود إلى قتل أحد، من دون اعتراف، ولا تسليم نفس، فنحن لا نقطع بقبولها، والله أرحم الراحمين، هو الذي يحكم بين عباده فيما كانوا فيه يختلفون. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 550: وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة، ولكن لا بد من ردّها إليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة، ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة، فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة، أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ورفع درجته فيها ونحو ذلك والله أعلم.
واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام على قولين فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون: نعم يجب عليه لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى وأصحاب الإمام أحمد وآخرون: قتل العمد أعظم من أن يكفر فلا كفارة فيه وكذا اليمين الغموس. وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد حيث قال: عن واثلة بن الأسقع قال: أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم نفر من بني سليم فقالوا إن صاحبا لنا قد أوجب قال: «فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها عضوا من النار» . والله أعلم.(1/451)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
[سورة النساء (4) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا في سبب نزولها أربعة أقوال:
(336) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث سريّة فيها المقداد بن الأسود، فلما أتوا القوم، وجدوهم قد تفرقوا، وبقي رجل له مالٌ كثير لم يبرح، فقال: أشهد أن لا إِله إِلا الله، فأهوى إِليه المقداد بن الأسود فقتله. فقال له رجل من أصحابه: أقتلت رجلاً يشهد أن لا إِله إِلا الله؟! لأذكرن ذلك للنبي. فلما قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا له: يا رسول الله إِن رجلاً شهد أن لا إِله إِلا الله، فقتله المقداد، فقال: ادعوا لي المقداد، فقال: يا مقداد أقتلت رجلاً قال: لا إِله إِلا الله، فكيف لك ب «لا إِله إِلا الله غداً» ! فنزلت هذه الآية. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للمقداد: كان رجل مؤمن يخفي إِيمانه مع قوم كفار فأظهر إِيمانه فقتلته؟
وكذلك كنت تخفي إِيمانك بمكة قبل. رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
(337) والثاني: أن رجلاً من بني سليم مرَّ على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه غنم، فسلّم عليهم، فقالوا: ما سلّم عليكم إِلا ليتعوّذ منا، فعمدوا إِليه فقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية. رواه عكرمة، عن ابن عباس.
(338) والثالث: أن قوماً من أهل مكة سمعوا بسريّة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنها تريدهم فهربوا، وأقام
__________
حسن، أخرجه البزار 2202 والطبراني في «الكبير» 12379 وإسناده حسن. وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 8: رواه البزار، وإسناده جيد. ويمكن الجمع بين هذا وما بعده بتعدد الحادثة، والله أعلم.
صحيح. أخرجه الترمذي 3030 وأحمد 1/ 229 و 272 و 324 والطبري 10222 والطبراني 11731 والحاكم 2/ 235 والبيهقي 9/ 115 والواحدي في «أسباب النزول» 346 من طرق عن عكرمة به. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حديث حسن اه. وأخرجه البخاري 4591 ومسلم 3025 وأبو داود 3974، والطبري 10219 و 10220 و 10221 والواحدي 345 والبيهقي 9/ 115 من طرق عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس بنحوه.
ضعيف جدا بهذا اللفظ، قال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 552: أخرجه الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس اه. والكلبي متهم بالكذب، وخصوصا في روايته عن أبي صالح. وأخرجه الطبري 10226 من رواية أسباط عن السدي مرسلا وليس فيه استغفار النبي صلّى الله عليه وسلّم لأسامة، وقوله: «أعتق رقبة» .
- وأصل الخبر في الصحيحين البخاري 4269 ومسلم 96 من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الحرقة فصبّحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله فكفّ الأنصاري، فطعنته برمحي حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ قلت: كان متعوذا. فما زال يكررها حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم» فهذا الذي صح في ذلك، فعليك به، والله الموفق.(1/452)
رجل منهم كان قد أسلم، يقال له: مرداس، وكان على السريّة رجل، يقال له: غالب بن فضالة، فلما رأى مرداس الخيل، كبر، ونزل إِليهم، فسلم عليهم، فقتله أسامة بن زيد، واستاق غنمه، ورجعوا إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبروه، فوجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وجدا شديدا، وأنزلت هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال السدي: كان أسامة أمير السريّة.
(339) والرابع: أن رسول الله بعث أبا حدرد الأسلمي، وأبا قتادة، ومحلِّم بن جثامة في سريّة إِلى إِضم «1» ، فلقوا عامر بن الأضبط الأشجعي، فحيّاهم بتحية الإِسلام، فحمل عليه محلم بن جثامة، فقتله، وسلبه بعيراً وسقاء. فلما قدموا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أخبروه، فقال: أقتلته بعد ما قال آمنت؟! ونزلت هذه الآية. رواه ابن أبي حدرد، عن أبيه.
فأما التفسير، فقوله تعالى: إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: سرتم وغزوتم. وقوله تعالى:
فَتَبَيَّنُوا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: فَتَبَيَّنُوا بالنون من التبيين للأمر قبل الإِقدام عليه. وقرأ حمزة والكسائي وخلف «فتثبّتوا» بالثاء من الثبات وترك الاستعجال، وكذلك قرءوا في «الحجرات» .
قوله تعالى: لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر، وحفص، عن عاصم، والكسائي: «السلام» بالألف مع فتح السين. قال الزجاج: يجوز أن يكون بمعنى التسليم، ويجوز أن يكون بمعنى الاستسلام. وقرأ نافع. وابن عامر، وحمزة، وخلف، وجبَلة عن المفضل عن عاصم: «السلم» بفتح السين واللام من غير ألف وهو من الاستسلام. وقرأ أبان بن يزيد عن عاصم بكسر السّين وإِسكان اللام من غير ألف. و «السلم» : الصُلح. وقرأ الجمهور: لست مؤمناً، بكسر الميم، وقرأ علي، وابن عباس، وعكرمة، وأبو العالية، ويحيى بن يعمر وأبو جعفر: بفتح الميم من الأمان.
قوله تعالى: تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا و «عرضها» : ما فيها من مال، قلَّ أو كثر. قال المفسّرون: والمراد به: ما غنموه من الرجل الذي قتلوه.
قوله تعالى: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ فيه قولان: أحدهما: أنه ثواب الجنة، قاله مقاتل.
والثاني: أنها أبواب الرّزق في الدنيا، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: كذلك كنتم تأمنون من قومكم المؤمنين بهذه الكلمة، فلا تُخيفوا من قالها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني:
__________
حسن، أخرجه أحمد 6/ 11 والطبري 5/ 140 والبيهقي في «الدلائل» 4/ 305 والواحدي 349 من حديث أبي حدرد عن أبيه، وإسناده حسن. وانظر «تفسير الشوكاني» 692 بتخريجنا.
__________
(1) إضم: ماء بين مكة واليمامة عند السمينة، وقيل: واد بجبال تهامة. وقال ابن السكيت: إضم واد يشق الحجاز حتى يفرع في البحر- انظر معجم البلدان 1/ 215.(1/453)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
كذلك كنتم تُخفون إِيمانكم بمكة كما كان هذا يخفي إِيمانه، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
والثالث: كذلك كنتم من قبل مشركين، قاله مسروق وقتادة وابن زيد.
قوله تعالى: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ في الذي مَنّ به أربعة أقوال: أحدها: الهجرة، قاله ابن عباس. والثاني: إِعلان الإِيمان، قاله سعيد بن جبير. والثالث: الإِسلام، قاله قتادة، ومسروق.
والرابع: التوبة على الذي قتل ذلك الرجل، قاله السدي.
قوله تعالى: فَتَبَيَّنُوا تأكيد للأول.
[سورة النساء (4) : آية 95]
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95)
قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ قال أبو سليمان الدمشقي: نزلت هذه الآية من أجل قوم كانوا إِذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود.
(340) وقال زيد بن ثابت: إني لقاعد إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إِذ غشيَته السكينة، ثم سرِّي عنه، فقال: «اكتب» (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون ... ) الآية، فقام ابن أمِّ مكتوم، فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد؟ فو الله ما قضى كلامَه حتى غشيت رسول الله السكينة، ثم سرِّي عنه، فقال: اقرأ، فقرأت (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون) ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ فألحقتها.
قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ يعني عن الجهاد، والمعنى: أن المجاهدين أفضل. قال ابن عباس: وأُريد بهذا الجهاد غزوة بدر. وقال مقاتل: غزاة تبوك.
قوله تعالى: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة: «غيرُ» برفع الرّاء، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وخلف، والمفضل: بنصبها. قال أبو علي: من رفع الراء، جعل «غير» صفة للقاعدين، ومن نصبها، جعلها استثناءً من القاعدين «1» . وفي «الضّرر» قولان:
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2832 و 4592 والترمذي 3033 والنسائي 6/ 9 و 10 وأحمد 5/ 184 وابن حبان 4713 والطبري 10244 وابن الجارود 1034 والطبراني 4814 و 4815 و 4899 وأبو نعيم في «الدلائل» 175 كلهم عن سهل بن سعد الساعدي أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره ...
- وورد بنحوه من حديث الفلتان بن عاصم أخرجه ابن حبان 4712 والطبراني 18/ 856 والبزار 2203 وأبو يعلى 1583. وقال الهيثمي في «المجمع» 9444: رواه أبو يعلى ورجاله ثقات.
ويشهد له أيضا حديث البراء بن عازب أخرجه البخاري 4593 و 4594 ومسلم 1898 والترمذي 1670 والنسائي 6/ 10 والطبري 10238- 10242 والبيهقي 9/ 23. وحديث زيد بن أرقم أخرجه الطبري 10243 والطبراني 5053 وفي الباب أحاديث، فهو حديث مشهور.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 6- 10: والجهاد فرض على الكفاية، إذا قام به قوم سقط عن الباقين، في قول عامة أهل العلم. وحكي عن سعيد بن المسيب، أنه من فروض الأعيان، لقول الله تعالى:
انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ التوبة: 41- ثم قال: إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً. وروى أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من مات ولم يغز، ولم يحدّث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق» . رواه أبو داود. ولنا، قول الله تعالى: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ... الآية. وهذا يدل على أن القاعدين غير آثمين مع جهاد غيرهم، وقال الله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا، ولأن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان يبعث السرايا، ويقيم هو وسائر أصحابه. وأما الآية التي احتجوا بها، فقد قال ابن عباس: نسخها قوله تعالى: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً رواه الأثرم وأبو داود. ويحتمل أنه أراد حين استنفرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى غزوة تبوك، وكانت إجابتهم إلى ذلك واجبة عليهم، ولذلك هجر النبي صلّى الله عليه وسلّم كعب بن مالك وأصحابه الذين خلّفوا حتى تاب الله عليهم بعد ذلك، وكذلك يجب على من استنفره الإمام لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا استنفرتم فانفروا» متفق عليه. ومعنى الكفاية في الجهاد أن ينهض للجهاد قوم يكفون في قتالهم، إما أن يكونوا جندا لهم دواوين من أجل ذلك، أو يكونوا قد أعدّوا أنفسهم له تبرعا بحيث إذا قصدهم العدو حصلت المنعة بهم، ويكون في الثغور من يدفع العدو عنها، ويبعث في كل سنة جيش يغيرون على العدو في بلادهم.(1/454)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
أحدهما: أنه العجز بالزّمانة والمرض، ونحوهما. قال ابن عباس: هم قوم كانت تحسبهم عن الغزاة أمراض وأوجاع. وقال ابن جبير، وابن قتيبة: هم أولو الزّمانة. وقال الزجاج: الضرر: أن يكون ضريراً أو أعمى أو زمناً. والثاني: أنه العذر، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
قوله تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً في هؤلاء القاعدين قولان:
أحدهما: أنهم القاعدون بالضرر، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: القاعدون من غير ضرر، قاله أبو سليمان الدمشقي. قال ابن جرير: والدرجة: الفضيلة. فأما الحسنى فهي الجنة في قول الجماعة. قوله تعالى: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ قال ابن عباس: القاعدون هاهنا: غير أولي الضرر، وقال سعيد بن جبير: هم الذين لا عذر لهم.
[سورة النساء (4) : آية 96]
دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
قوله تعالى: دَرَجاتٍ مِنْهُ قال الزجاج: درجات، في موضع نصب بدلا من قوله تعالى: أَجْراً عَظِيماً، وهو مفسر للأجر. وفي المراد بالدرجات قولان «1» : أحدهما: أنها درجات الجنة، قال ابن مُحيريز: الدرجات: سبعون درجة ما بين كل درجتين حُضْرُ الفرس الجواد المضَّمرِ «2» سبعين سنة، وإِلى نحوه ذهب مقاتل. والثاني: أن معنى الدرجات: الفضائل، قاله سعيد بن جبير. قال قتادة: كان
__________
(1) قال الإمام القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 327: قوله تعالى: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وقد قال بعد هذا: دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً فقال قوم: التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات مبالغة وبيان وتأكيد. وقيل: إن معنى درجة علوّ، أي أعلى ذكرهم ورفعهم بالثناء والمدح والتقريظ. وقيل: فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر بدرجة واحدة، وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات.
(2) في «اللسان» الحضر: ارتفاع الفرس في عدوه. وضمّرت الخيل: علفتها القوت بعد السمن. وتضمير الفرس أيضا أن تعلفه حتى يسمن ثم تردّه إلى القوت، وذلك في أربعين يوما. وهذه المدة تسمى المضمار.(1/455)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97)
يقال: الإِسلام درجة، والهجرة في الإِسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد درجة. وقال ابن زيد: الدرجات: هي السبع التي ذكرها الله تعالى في براءة حين قال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ ... إِلى قوله: وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ... «1» . فان قيل: ما الحكمة في أن الله تعالى ذكر في أول الكلام درجة، وفي آخره درجات؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن الدرجة الأولى تفضيل المجاهدين على القاعدين من أولي الضرر منزلة، والدرجات: تفضيل المجاهدين على القاعدين من غير أولي الضرر منازل كثيرة، وهذا معنى قول ابن عباس. والثاني: أن الدرجة الأولى درجة المدح والتعظيم، والدرجات: منازل الجنة، ذكره القاضي أبو يعلى.
[سورة النساء (4) : آية 97]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(341) أحدها: أن أناساً كانوا بمكة قد أقروا بالإِسلام، فلمّا خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إِلى بدر لم تدع قريش أحداً إِلا أخرجوه معهم، فقتل أولئك الذين أقروا بالإِسلام، فنزلت فيهم هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(342) وقال قتادة: نزلت في أناس تكلموا بالإِسلام، فخرجوا مع أبي جهل، فقتلوا يوم بدر، واعتذروا بغير عذر، فأبى الله أن يقبل منهم.
(343) والثاني: أن قوماً نافقوا يوم بدر، وارتابوا، وقالوا: غرّ هؤلاء دينهم وأقاموا مع المشركين حتى قتلوا، فنزلت فيهم هذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(344) والثالث: أنها نزلت في قوم تخلفوا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولم يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي، ضربت الملائكة وجهه ودبره، رواه العوفي عن ابن عباس.
وفي «التوّفي» قولان: أحدهما: أنه قبض الأرواح بالموت، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني:
الحشر إِلى النار، قاله الحسن. قال مقاتل: والمراد بالملائكة ملك الموت وحده. وقال في موضع
__________
صحيح. أخرجه الطبري 10265 من طريق عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس بأتم منه. وورد من وجه آخر عن أبي الأسود عن عكرمة عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا يكثرون سواد المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأتي السهم فيرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب فيقتل فأنزل الله إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الآية. لفظ البخاري. أخرجه البخاري 4596 والنسائي في «الكبرى» 1119 والطبري 10266 و 10267 والواحدي 356 وانظر تفسير القرطبي بتخريجنا.
مرسل. أخرجه الطبري 10272 عن قتادة مرسلا، وهو شاهد لما قبله.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس.
ضعيف. أخرجه الطبري 10268 برواية العوفي عن ابن عباس، والعوفي وهو محمد بن سعد واه، والصواب ما تقدم عن ابن عباس برواية البخاري.
__________
(1) سورة التوبة: 120- 121.(1/456)
إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
آخر: ملك الموت وأعوانه، وهم ستة، ثلاثة يَلون أرواح المؤمنين، وثلاثة يَلون أرواح الكفّار. قال الزجاج: «ظالمي أنفسهم» نصب على الحال، والمعنى: تتوفّاهم في حال ظلمهم أنفسهم، والأصل.
ظالمين، لأن النون حذفت استخفافاً. فأما ظلمهم لأنفسهم، فيحتمل على ما ذكر في قصّتهم أربعة أقوال: أحدها: أنه ترك الهجرة. والثاني: رجوعهم إلى الكفر. والثالث: الشك بعد اليقين. والرابع:
إِعانة المشركين.
قوله تعالى: فِيمَ كُنْتُمْ قال الزجاج: هو سؤال توبيخ، والمعنى: كنتم في المشركين أو في المسلمين. قوله تعالى: قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قال مقاتل: كنا مقهورين في أرض مكة، لا نستطيع أن نذكر الإِيمان، قالت الملائكة: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً يعني المدينة فَتُهاجِرُوا فِيها يعني:
إليها. وقول الملائكة لهم يدل على أنهم كانوا يستطيعون الهجرة.
[سورة النساء (4) : الآيات 98 الى 99]
إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)
قوله تعالى: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ.
(345) سبب نزولها: أن المسلمين قالوا في حق المستضعفين من المسلمين بمكة: هؤلاء بمنزلة الذين قتلوا ببدر، فنزلت هذه الآية. قاله مجاهد.
قال الزجاج: «المستضعفين» نصب على الاستثناء من قوله تعالى: مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ. قال أبو سليمان: «المستضعفون» : ذوو الأسنان، والنساء، والصبيان.
قوله تعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً أي: لا يقدرون على حيلة في الخروج من مكة، ولا على نفقةٍ، ولا قوّةٍ. وفي قوله تعالى: وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا قولان: أحدهما: أنهم لا يعرفون الطريق إِلى المدينة، قاله ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد. والثاني: أنهم لا يعرفون طريقاً يتوجّهون إِليه، فإن خرجوا هلكوا، قاله ابن زيد. وفي عَسَى قولان: أحدهما: أنها بمعنى الإِيجاب، قاله الحسن.
والثاني: أنها بمعنى الترجّي، فالمعنى: أنهم يرجون العفو، قاله الزجّاج.
[سورة النساء (4) : آية 100]
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
قوله تعالى: يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً قال سعيد بنُ جبير، ومجاهد: متزحزحاً عما يكره. وقال ابن قتيبة: المراغم والمهاجر: واحد، يقال: راغمت وهاجرت، وأصله: أن الرجل كان إِذا أسلم، خرج عن قومه، مُراغِماً، أي: مغاضِباً لهم، ومهاجِراً، أي: مقاطِعاً من الهجران، فقيل للمذهب: مراغم، وللمصير إلى النبي عليه السلام هجرة، لأنها كانت بهجرة الرجل قومه.
وفي السّعة قولان: أحدهما: أنها السّعة في الرّزق، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: التمكّن
__________
مرسل، أخرجه الطبري 10281 عن مجاهد مرسلا، وهو يتأيد بما تقدم عن ابن عباس.(1/457)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
من إِظهار الدين، قاله قتادة.
قوله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ اتفقوا على أنه نزل في رجل خرج مهاجراً، فمات في الطريق، واختلفوا فيه على ستة أقوال:
(346) أحدها: أنه ضمرة بن العيص، وكان ضريراً موسِراً، فقال: احملوني فحمل، وهو مريض، فمات عند التنعيم، فنزل فيه هذا الكلام، رواه سعيد بن جبير.
(347) والثاني: أنه العيص بن ضمرة بن زنباع الخزاعي، أمر أهله أن يحملوه على سريره، فلما بلغ التنعيم، مات، فنزلت فيه هذه الآية، رواه أبو بشر عن سعيد بن جبير.
(348) والثالث: أنه ابن ضمرة الجندعي، مرض فقال لبنيه: أخرجوني من مكة، فقد قتلني غمّها، فقالوا: أين؟ فأومأ بيده نحو المدينة، يريد الهجرة، فخرجوا به، فمات في الطريق، فنزل فيه هذا، ذكره ابن إِسحاق. وقال مقاتل: هو جُندب بن ضمرة.
(349) والرابع: أن اسمه سبرة، فلما نزل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ إِلى قوله: مُراغَماً كَثِيراً قال لأهله وهو مريض: احملوني، فإني موسِر، ولي من المال ما يُبلغني إِلى المدينة، فلما جاوز الحرم، مات فنزل فيه هذا، قاله قتادة.
(350) والخامس: أنه رجل من بني كنانة هاجر فمات في الطريق، فسخر منه قومُه، فقالوا: لا هو بلغ ما يريد، ولا أقام في أهله حتى يدفن، فنزل فيه هذا، قاله ابن زيد.
(351) والسادس: أنه خالد بن حزام أخو حكيم بن حزام، خرج مهاجراً، فمات في الطريق، ذكره الزبير بن بكّار. وقوله تعالى: وَقَعَ معناه وجب.
[سورة النساء (4) : آية 101]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)
قوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ.
__________
مرسل. أخرجه الطبري 10287 عن سعيد بن جبير، مرسلا.
هو مرسل كسابقه.
علقه الواحدي في «أسباب النزول» 357 عن ابن عباس من رواية عطاء. وورد مختصرا من حديث ابن عباس، أخرجه أبو يعلى 2679 والطبراني في «الكبير» 11709 وفي إسناده عبد الرحمن بن محمد بن زياد المحاربي، وأشعث بن سوّار وكلاهما ضعيف. وانظر «الإصابة في تمييز الصحابة» 1/ 251.
مرسل. أخرجه الطبري 10291 عن قتادة مرسلا دون ذكر اسم الصحابي وإنما ذكر رجلا من المسلمين.
- الخلاصة: هذه الروايات تتأيد بمجموعها، والاضطراب فقط في تعيين الرجل وأما أصل الخبر فصحيح.
ضعيف. أخرجه الطبري عن ابن زيد، وهذا معضل.
ضعيف. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 1/ 556 من حديث الزبير بن العوام، وله قصة.
- وقال الحافظ ابن كثير: وهذا الأثر غريب جدا، فإن القصّة مكية، ونزول هذه الآية مدني.
- قلت: فيه عبد الرحمن بن عبد الملك، وهو لين الحديث، وفيه المنذر بن عبد الله الحزامي، وهو مجهول.(1/458)
(352) روى مجاهد عن أبي عياش الزَّرقي قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعُسفان «1» ، وعلى المشركين خالد بن الوليد، قال: فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غِرّة، لو كنا حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر.
والضرب في الأرض: السفر، والجُناح: الإِثم، والقصر: النقص، والفتنة: القتل.
وفي القصر قولان: أحدهما: أنه القصر مِن عدد الركعات. والثاني: أنه القصرُ من حدودها.
وظاهر الآية يدل على أن القصر لا يجوز إِلا عند الخوف، وليس الأمر كذلك، وإِنما نزلت الآية على غالب أسفار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأكثرها لم يخل عن خوف العدو. وقيل: إِن قوله: أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ كلام تام. وقوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ كلامٌ مبتدأ، ومعناه: وإِن خفتم.
واختلف العلماء هل صلاة المسافر ركعتين مقصورة أم لا؟ فقال قوم: ليست مقصورة، وإِنما فرض المسافر ذلك، وهو قول ابن عمر، وجابر بن عبد الله، وسعيد بن جبير، والسدي، وأبي حنيفة، فعلى هذا القول قصر الصلاة أن تكون ركعة، ولا يجوز ذلك إِلا بوجود السفر والخوف، لأن عند هؤلاء أن الركعتين في السفر إِذا لم يكن فيه خوفٌ تمام غير قصر.
(353) واحتجوا بما روى ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلى بذي قرد «2» ، فصف الناس خلفه صفّين، صفاً خلفه، وصفاً موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء، إِلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة، ولم يقضوا.
(354) وعن ابن عباس أنه قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة.
والثاني: أنها مقصورةٌ، وليست بأصل، وهو قول مجاهد وطاوس، وأحمد، والشافعي.
(355) قال يعلى بن أميّة: قلت لعمر بن الخطاب: عجبت من قصر الناس اليوم، وقد أمنوا وإنما
__________
جيد. أخرجه أبو داود 1236 والنسائي 3/ 176 و 177 و 178 وابن أبي شيبة 2/ 465 والطيالسي 1347 وأحمد 4/ 59 و 60 والدارقطني 2/ 59 و 60 وابن حبان 2875 و 2876 والطبري 10383 والحاكم 1/ 337- 338 والواحدي في «أسباب النزول» 359 والبيهقي 3/ 254- 255 والبغوي في «شرح السنة» 1091 من طرق عن منصور عن مجاهد عن أبي عياش مطولا. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وقال الدارقطني:
صحيح. وكذا قال البيهقي، وجوده الحافظ في الإصابة 4/ 143.
صحيح. أخرجه النسائي 3/ 169 وأحمد 1/ 232 والحاكم 1/ 335 وابن حبان 2871 والطبري 10339 و 10340 والطحاوي 1/ 309 والبيهقي 3/ 262. وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي! وإنما هو على شرط مسلم فقط، لأن أبا بكر بن أبي الجهم لم يخرج له البخاري.
صحيح. أخرجه مسلم 687 وأبو داود 1247 والنسائي 3/ 168- 169 وابن ماجة 1068 وابن خزيمة 943 وأبو يعلى 2346 وأحمد 1/ 237 و 254 من حديث ابن عباس.
صحيح. أخرجه مسلم 686 وأبو داود 1199 و 1200 والترمذي 3034 وابن ماجة 945 وأحمد 1/ 25 و 36 والدارمي 1/ 354 والطحاوي 1/ 415 والنحاس في «الناسخ والمنسوخ» ص 116 وابن خزيمة 945 وابن حبان 2739 و 2740 و 2741 والطبري 10315 و 10316 و 10317 والطحاوي في «المعاني» 1/ 415 والبيهقي 3/ 134 و 140 و 141 من طرق عن يعلى بن أمية.
__________
(1) عسفان: على مرحلتين من مكة على طريق المدينة. انظر «معجم البلدان» 4/ 122.
(2) ذو قرد: ماء على ليلتين من المدينة بينها وبين خيبر. انظر «معجم البلدان» 4/ 321.(1/459)
قال الله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فذكرت ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال:
صدقةٌ تصدق الله بها عليكم. فاقبلوا صدقته.
فصل: وإِنما يجوز للمسافر القصر إِذا كان سفرُهُ مُباحاً، وبهذا قال مالك، والشافعي، وقال أبو حنيفة: يجوز له القصر في سفر المعصية. فأما مدة الإِقامة التي إِذا نواها أتم الصلاة، وإِن نوى أقلَّ منها، قصر، فقال أصحابنا: إِقامة اثنين وعشرين صلاة، وقال أبو حنيفة: خمسة عشر يوماً. وقال مالك، والشّافعيّ: أربعة أيام «1» .
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 3/ 104: وأجمع أهل العلم على أن من سافر سفرا تقصر في مثله الصلاة في حج، أو عمرة، أو جهاد، أن له أن يقصر الرباعية فيصليها ركعتين. قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله:
في كم تقصر الصلاة؟ قال: في أربعة برد قيل له: مسيرة يوم تام؟ قال: لا، أربعة برد، ستة عشر فرسخا، ومسيرة يومين. فمذهب أبي عبد الله أن القصر لا يجوز في أقل من ستة عشر فرسخا. وقد قدّره ابن عباس، فقال: من عسفان إلى مكة، ومن الطائف إلى مكة، ومن جدة إلى مكة. فعلى هذا تكون مسافة القصر يومين قاصدين. وهذا قول ابن عباس، وابن عمر، وإليه ذهب مالك، والليث، والشافعي. وروي عن ابن عمر أنه كان يقصر إلى مسيرة عشرة فراسخ وروي نحو ذلك عن ابن عباس، فإنه يقصر في اليوم ولا يقصر فيما دونه.
ويروى عن ابن مسعود، أنه يقصر في مسيرة ثلاثة أيام وبه قال أبو حنيفة. لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم «يمسح المسافر في ثلاثة أيام ولياليهن» . وهذا يقتضي أن كل مسافر له ذلك، ولأن الثلاثة متفق عليها وليس في أقل من ذلك توقيف ولا اتفاق. وقال الأوزاعي: كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ. وروي عن علي، أنه خرج من قصره بالكوفة حتى أتى النخيلة، فصلى بها الظهر والعصر ركعتين، ثم رجع من يومه، فقال: أردت أن أعلمكم سنتكم. وعن جبير بن نفير عن شرحبيل بن السمط. قال رأيت عمر بن الخطاب يصلي بالحليفة ركعتين وقال: إنما فعلت كما رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يفعل. رواه مسلم. واحتج أصحابنا بقول ابن عباس وابن عمر، قال ابن عباس: يا أهل مكة، لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من عسفان إلى مكة. وقال الخطابي: وهو أصح الروايتين عن ابن عمر. ولم يجز فيما دونها، لأنه لم يثبت دليل يوجب القصر فيه. وإذا كان في سفينة في البحر، فهو كالبر، إن كانت مسافة سفره تبلغ مسافة القصر، أبيح له، وإلا فلا، سواء قطعها في زمن طويل أو قصير، اعتبارا بالمسافة. وإن شك هل السفر مبيح للقصر أو لا؟ لم يبح له، لأن الأصل وجوب الإتمام، فلا يزول بالشك. وليس لمن نوى السفر القصر حتى يخرج من بيوت قريته، ولنا قول الله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ولا يكون ضاربا في الأرض حتى يخرج. وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يبتدئ القصر إذا خرج من المدينة. وإن الرخص المختصة بالسفر، من القصر، والجمع، والفطر، والمسح ثلاثا، والصلاة على الراحلة تطوعا، يباح في السفر الواجب- حج أو جهاد والمندوب والمباح كالتجارة. وبه قال الأوزاعي، والشافعي، وإسحاق وأهل المدينة وعن ابن مسعود: لا يقصر إلا في حج أو جهاد، لأن الواجب لا يترك إلا لواجب. ولا تباح هذه الرّخص في سفر المعصية كالإباق، وقطع الطّريق، والتجارة في الخمر والمحرمات. نصّ عليه أحمد. وهذا قول الشافعي وقال أبو حنيفة: له ذلك، لأنه مسافر، فأبيح له التّرخص كالمطيع. ولنا، قول الله تعالى فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ. وفي سفر التنزه والتفرّج روايتان: إحداهما تبيح الرخص. وهذا ظاهر كلام الخرقي، لأنه سفر مباح، والثانية: لا يترخص فيه. قال أحمد: إذا خرج الرجل إلى بعض البلدان تنزها وتلذذا، وليس في طلب حديث ولا حج ولا عمرة ولا تجارة فإنه لا يقصر الصلاة والأول أولى. والمشهور عن أحمد، أن المسافر إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء أتم. وروي عنه أنه توقف، وقال: أنا أحب العافية في هذه المسألة. وممن روي عنهم الإتمام في السفر: عثمان، وابن مسعود، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم وبه قال الشافعي والمشهور عن مالك. وقال حمّاد: ليس له الإتمام في السفر وهو قول الثوري، وأبو حنيفة وروي عن ابن عباس أنه قال: من صلى في السفر أربعا فهو كمن صلى في الحضر ركعتين ولنا، قول الله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهذا يدل على أن القصر رخصة مخيّر بين فعله وتركه، كسائر الرّخص وقال يعلى بن أمية: قلت لعمر بن الخطاب: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ.. الآية، فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «صدقة تصدّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته» رواه مسلم. وهذا يدل على أنها رخصة وليست بعزيمة، وأنها مقصورة. [.....](1/460)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
[سورة النساء (4) : آية 102]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)
قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ سبب نزولها:
(356) أن المشركين لما رأوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه قد صلّوا الظهر، ندموا إِذْ لم يكبوا عليهم، فقال بعضهم لبعض: دعوهم فإن لهم صلاة هي أحب إليهم من آبائهم وأبنائِهم، يعنون العصر، فإذا قاموا فشدوا عليهم، فلما قاموا إِلى صلاة العصر، نزل جبريل بهذه الآية. رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ خطابٌ للنبيّ عليه السلام، ولا يدلُ على أن الحكم مقصورٌ عليه، فهول كقوله تعالى خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً «1» وقال أبو يوسف: لا تجوزُ صلاة الخوف بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والهاء والميم مِن «فيهم» تعودُ على الضاربين في الأرض «2» .
__________
ذكره البغوي برواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا الإسناد مع كونه معلقا، الكلبي متروك متهم، وأبو صالح ليس بثقة عن ابن عباس، وانظر الحديث المتقدم برقم 352.
__________
(1) سورة التوبة: 103.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 3/ 296: صلاة الخوف ثابتة بالكتاب والسنة، أما الكتاب فقول الله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ الآية وأما السنة فثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصلي صلاة الخوف، وجمهور العلماء متفقون على أن حكمها باق بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقال أبو يوسف: إنما كانت تختص بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، لقوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ. وليس بصحيح، فإن ما ثبت في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم ثبت في حقنا، ما لم يقم دليل على اختصاصه به، فإن الله تعالى أمر باتباعه بقوله: فَاتَّبِعُوهُ. وسئل عن القبلة للصائم، فأجاب:
«بأنني أفعل ذلك» فقال السائل: لست مثلنا، فغضب وقال: «إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله تعالى، وأعلمكم بما أتقي» . وكان أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يحتجّون بأفعال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ويرونها معارضة لقوله وناسخة له، ولو لم يكن فعله حجة لغيره لم يكن معارضا لقوله. وأيضا فإن الصحابة أجمعوا على صلاة الخوف. فأما تخصيص النبي صلّى الله عليه وسلّم بالخطاب، فلا يوجب تخصيصه بالحكم، لما ذكرناه. ولأن الصحابة، رضي الله عنهم، أنكروا على مانعي الزكاة قولهم: إن الله تعالى خصّ نبيه بأخذ الزكاة، بقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً فإن قيل: فالنبي صلّى الله عليه وسلّم أخّر الصلاة يوم الخندق، ولم يصل. قلنا: هذا كان قبل نزول صلاة الخوف، وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويكون ناسخا لما قبله، ثم إن هذا الاعتراض باطل في نفسه، إذ لا خلاف في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان له أن يصلي صلاة الخوف، وقد أمره الله تعالى بذلك في كتابه. ويحتمل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخّر الصلاة نسيانا وروي أن عمر قال ما صليت العصر. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «والله ما صليتها» ولم يكن ثمّ قتال يمنعه من الصلاة.(1/461)
قوله تعالى: فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أي: ابتدأتها، فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ أي: لتقف، ومثله وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا «1» . وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فيهم قولان: أحدهما: أنهم الباقون، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم المصلون معه، ذكره ابن جرير، قال: وهذا السّلاح كالسّيف، يتقلده الإِنسان، والخنجر يشده إِلى ذراعه.
قوله تعالى: فَإِذا سَجَدُوا يعني المصلين معه فَلْيَكُونُوا في المشار إليهم قولان:
أحدهما: أنهم الطّائفة التي لم تصل، أُمرت أن تحرس الطائفة المصلية، وهذا معنى قول ابن عباس. والثاني: أنهم المصلون معه، أُمروا إِذا سجدوا أن ينصرفوا إِلى الحَرَس.
واختلف العلماء كيف ينصرفون بعد السجود، فقال قوم: إِذا أتموا مع الإِمام ركعةً أتموا لأنفسهم ركعةً، ثم سلموا وانصرفوا، وقد تمت صلاتهم، وقال آخرون: ينصرفون عن ركعةٍ، واختلف هؤلاء، فقال بعضهم: إِذا صلوا مع الإِمام ركعة وسلموا، فهي تجزئهم. وقال آخرون منهم أبو حنيفة: بل ينصرفون عن تلك الركعة إلى الحَرَس وهم على صلاتهم، فيكونوا في وجه العدو مكان الطّائفة التي لم تصل، وتأتي تلك الطائفة. واختلفوا في الطائفة الأخرى، فقال قوم: إِذا صلى بهم الإمام أطال التشهد حتى يقضوا الركعة الفائِتة، ثم يسلّم بهم، وقال آخرون: بل يسلم هو عند فراغه من الصلاة بهم، فإذا سلم قضوا ما فاتهم. وقال آخرون: بلى يصلي بالطائفة الثانية ركعة ويسلم هو، ولا تسلم هي، بل ترجع إلى وجه العدو، ثم تجيء الأولى، فتقضي ما بقي من صلاتها وتسلم، وتمضي وتجيء الأخرى، فتتم صلاتها، وهذا مذهب أبي حنيفة «2» .
__________
(1) البقرة: 20.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 3/ 298- 313: وصلاة الخوف إذا كان بإزاء العدو وهو في سفر، صلى بطائفة ركعة، وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة، ثم ذهبت تحرس، وجاءت الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو، فصلت معه ركعة وأتمت لأنفسها أخرى بالحمد لله وسورة، ويطيل التشهد حتى يتموا التشهد، ويسلم بهم. وجملة ذلك أن الخوف لا يؤثر في عدد الركعات في حق الإمام والمأموم جميعا، فإذا كان سفر يبيح القصر، صلى بهم ركعتين، بكل طائفة ركعة وتتم لأنفسها أخرى على الصفة المذكورة. وإن صلى بهم كمذهب أبي حنيفة جاز، نصّ عليه أحمد. ولكن يكون تاركا للأولى والأحسن. ولا تجب التسوية بين الطائفتين، لأنه لم يرد بذلك نص ولا قياس. ويجب أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو ممن تحصل الثقة بكفايتها وحراستها، ومتى خشي اختلال حالهم واحتيج إلى معونتهم بالطائفة الأخرى. فللإمام أن ينهد إليهم بمن معه، ويبنوا على ما مضى من صلاتهم. وإن خاف وهو مقيم، صلى بكل طائفة ركعتين وأتمت الطائفة الأولى بالحمد لله في كل ركعة، والطائفة الأخرى تتم بالحمد لله وسورة. واختلفت الرواية فيما يقضيه المسبوق، فروي أنه أول صلاته، وما يدركه مع الإمام آخرها وهذا ظاهر المذهب وروي عن أحمد أن ما يقضيه آخر صلاته. ويستحب أن يحمل السلاح في صلاة الخوف. ويجوز أن يصلي صلاة الخوف على كل صفة صلاها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال أحمد: كل حديث يروى في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز. وقال:
ستة أوجه أو سبعة يروى فيها، كلها جائز. وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: تقول بالأحاديث كلها كل حديث في موضعه، أو تختار واحدا منها، قال: أنا أقول من ذهب إليها كلها فحسن، وأما حديث سهل فأنا أختاره.
والحديث الذي اختاره الإمام أحمد رواه. ولفظه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى بأصحابه في الخوف، فصفهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة ثم قام فلم يزل قائما حتى صلى الذين خلفهم ركعة، ثم تقدموا وتأخر الذين كانوا قدامهم فصلى بهم ركعة، ثم قعد حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم. ومتى صلى بهم صلاة الخوف من غير خوف، فصلاته وصلاتهم فاسدة. وإذا كان الخوف شديدا وهم في حال المسايفة، صلوا رجالا وركبانا، إلى القبلة وإلى غيرها، يومئون إيماء، يبتدئون تكبيرة الإحرام إلى القبلة إن قدروا، أو إلى غيرها. إن لم يمكنهم، يومئون بالركوع والسجود على قدر الطاقة، ويجعلون السجود أخفض من الركوع، ولا يؤخرون الصلاة عن وقتها. وهذا قول أكثر أهل العلم. وقال أبو حنيفة: لا يصلي مع المسايفة، ولا مع المشي، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يصلّ يوم الخندق- قد ورد الرد على هذا القول قبل قليل: انظر التعليق السابق- وأخّر صلاته. وقال الشافعي: يصلي، ولكن إن تابع الطعن، أو الضرب، أو فعل ما يطول، بطلت صلاته. ولنا قول الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى بأصحابه من غير شدة خوف، فأمرهم بالمشي إلى وجاه العدو، ثم يعودون لقضاء ما بقي من صلاتهم، فمع الخوف الشديد أولى.
والله أعلم.(1/462)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
قوله تعالى: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ قال ابن عباس: يريد الذين صلوا أوّلاً. وقال الزجاج: يجوز أن يريد به الذين وجاه العدو، لأن المصلي غير مقاتل، ويجوز أن يكون الجماعة أمروا بحمل السلاح، لأنه أرهب للعدو، وأحرى أن لا يقدموا عليهم. و «الجناح» الإِثم، وهو من:
جنحت: إِذا عدلت عن المكان، وأخذت جانبا عن القصد. فالمعنى: أنكم إِذا وضعتم أسلحتكم، لم تعدلوا عن الحق.
قوله تعالى: إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ قال ابن عباس: رخّص لهم في وضع الأسلِحة لثقلها على المريض وفي المطر، وقال: وخذوا حذركم كي لا يتغفّلوكم.
[سورة النساء (4) : آية 103]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)
قوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ يعني صلاة الخوف، وقَضَيْتُمُ بمعنى: فرغتم.
قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اللَّهَ في هذا الذِّكر قولان: أحدهما: أنه الذكر لله في غير الصلاة، وهذا قول ابن عباس، والجمهور قالوا: وهو التسبيح، والتكبير، والدعاء، والشكر. والثاني: أنه الصلاة، فيكون المعنى: فصلوا قياماً، فان لم تستطيعوا فقعوداً، فان لم تستطيعوا فعلى جنوبكم، هذا قول ابن مسعود. وفي المراد بالطمأنينة قولان: أحدهما: أنه الرجوع إلى الوطن عن السفر، وهو قول الحسن، ومجاهد وقتادة. والثاني: أنه الأمن بعد الخوف، وهو قول السدي، والزجاج، وأبي سليمان الدمشقي.
وفي إِقامة الصلاة قولان: أحدهما: إِتمامها، قاله مجاهد وقتادة والزجاج وابن قتيبة. والثاني: أنه إِقامة ركوعها وسجودها، وما يجب فيها مما قد يترك في حالة الخوف، هذا قول السدي.(1/463)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
قوله تعالى: كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي: فرضا. وفي «الموقوتا» قولان:
أحدهما: أنه بمعنى المفروض، قاله ابن عباس. ومجاهد، والسدي، وابن زيد. والثاني: أنه الموقت في أوقات معلومة، وهو قول ابن مسعود، وقتادة، وزيد بن أسلم، وابن قتيبة.
[سورة النساء (4) : آية 104]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
قوله تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ قال أهل التفسير:
(357) سبب نزولها: أن النبي عليه السلام أمر أصحابه لما انصرفوا من أُحد أن يسيروا في أثر أبي سفيان وأصحابه، فشكوا ما بِهِم من الجراحات، فنزلت هذه الآية.
قال الزجاج: ومعنى «تهنوا» : تضعفوا، يقال: وَهَنَ يهِنُ: إذا ضَعُفَ، وكلُّ ضَعْفٍ فهو وَهْنٌ.
وابتغى القوم: طلبهم بالحرب. و «القوم» هاهنا: الكفار إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ أي: توجَعون، فانهم يجدون من الوجع بما ينالهم من الجراح والتعب، كما تجدون، وأنتم مع ذلك ترجون ما لا يرجون.
وفي هذا الرجاء قولان: أحدهما: أنه الأمل، قاله مقاتل. قال الزجاج: وهو إِجماع أهل اللغة الموثوق بعلمهم. والثاني: أنه الخوف، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال الفرّاء: ولم نجد الخوف بمعنى الرجاء إِلا ومعه جحد، فإذا كان كذلك كان الخوف على جهة الرجاء والخوف، وكان الرجاء كذلك، كقوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «1» وقوله: لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ «2» قال الشاعر:
لا ترتجي حين تلاقي الذّائدا ... أسبعةً لاقَتْ معاً أم واحداً «3»
وقال الهذلي:
إِذا لَسَعَتْه النَّحل لم يَرْجُ لَسْعَها ... وخالفها في بيت نُوْبٍ عَوامِلِ «4»
ولا يجوز رجوتك وأنت تريد خفتك، ولا خفتك وأنت تريد رجوتك. قال الزجاج: وإِنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف، لأنه أمل قد يخاف أن لا يتم، فعلى القول الأول يكون المعنى: ترجون
__________
ذكره البغوي في تفسيره 1/ 476 بدون إسناد. وأخرجه الطبري 10412 عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما كان قتال أحد، وأصاب المسلمين ما أصاب، صعد النبي صلّى الله عليه وسلّم الجبل، فجاء أبو سفيان فقال: «يا محمد، ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ الحرب سجال، يوم لنا ويوم لكم» . فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه: «أجيبوه» . فقالوا: لا سواء، لا سواء قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار. فقال أبو سفيان: «أعل هبل» فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا له: الله أعلى وأجل» فقال أبو سفيان: «موعدنا وموعدكم بدر الصغرى» ونام المسلمون وبهم الكلوم. وقال عكرمة وفيها نزلت الآية (آل عمران: 140) وهذه الآية إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ ولم يذكر الطبري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث طائفة في آثارهم وأنهم شكوا ألم الجراحات.
__________
(1) سورة نوح: 13.
(2) سورة الجاثية: 14.
(3) البيت في «اللسان» دون نسبة لقائل، والذائد، من ذاد الإبل: إذا طردها وساقها ودفعها.
(4) في «اللسان» : النوب: جمع نائب: وهو صفة للنحل ترعى ثم تنوب إلى بيتها لتصنع عسلها، تجيء وتذهب، والعوامل: التي تعمل العسل.(1/464)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
النصر وإِظهار دينكم والجنة. وعلى الثاني: تخافون من عذاب الله ما لا يخافون.
[سورة النساء (4) : آية 105]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105)
قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(358) أحدها: أن طُعمة بن أبيرق سرق درعاً لقتادة بن النعمان، وكان الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتشر من خرق في الجراب، حتى انتهى إِلى الدار، ثم خبأها عند رجل من اليهود، فالتمست الدرعَ عند طعمة، فلم توجد عنده، وحلف: ما لي بها علم، فقال أصحابها: بلى والله، لقد دخل علينا فأخذها، وطلبنا أثره حتى دخل داره، فرأينا أثر الدقيق، فلما حلف تركوه، واتّبعوا أثر الدّقيق حتى انتهوا إلى منزلي اليهودي فأخذوه، فقال: دفعَها إِليَّ طعمة، فقال قوم طعمة: انطلقوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وليجادل عن صاحبنا فإنه بريء، فأتوه فكلموه في ذلك، فهم أن يفعل، وأن يعاقب اليهودي، فنزلت هذه الآيات كلها. رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(359) والثاني: أن رجلاً من اليهود، استودع طُعمة بن أبيرق درعاً، فخانها، فلما خاف اطلاعهم عليها، ألقاها في دار أبي مُليل الأنصاري، فجادل قوم طعمة عنه، وأتوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فسألوه أن يبرئه، ويكذّب اليهودي، فنزلت الآيات. هذا قول السدي، ومقاتل.
(360) والثالث: أن مشربة «1» رفاعة بن زيدُ نقبت، وأخذ طعامه وسلاحه، فاتهم به بنو أبيرق، وكانوا ثلاثة: بشير، ومبشّر، وبشر، فذهب قتادة بن النعمان إِلى النبيّ عليه السلام فقال: يا رسول الله إِن أهل بيت منّا فيهم جفاء «2» نقبوا مشربة لعمّي رفاعة بن زيد، وأخذوا سلاحه، وطعامه، فقال: أنظرُ في ذلك، فذهب قوم من قوم بني أبيرق إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: إِن قتادة بن النعمان، وعمّه عمدوا إلى
__________
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 361 بدون إسناد، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 561: ذكره الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. وانظر «أسباب النزول» 373 و 374 للسيوطي.
وأخرجه الطبري 10417 من رواية سعيد عن قتادة مرسلا مع اختلاف يسير. ويشهد لهذا الخبر الحديث الآتي برقم 360.
مرسل. أخرجه الطبري 10420 عن السدي مرسلا، ويشهد لأصله ما بعده.
حسن. أخرجه الترمذي 3036 والحاكم 4/ 385 والطبري 10416 من حديث قتادة بن النعمان، وفيه ابن إسحاق مدلس، وقد عنعن. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. وورد مختصرا عن قتادة مرسلا أخرجه الطبري 10417، وورد موصولا عن ابن عباس أخرجه الطبري 10418 وفيه عطية العوفي، واه. وكرره 10419 عن ابن زيد، وهو عبد الرحمن، مرسلا و 10420 عن السدي مرسلا و 10421 عن عكرمة مرسلا و 10422 عن الضحاك مرسلا. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، فالحديث حسن في أقل تقدير، والله أعلم. وانظر «تفسير الشوكاني» 707 بتخريجنا.
__________
(1) في «اللسان» المشربة والمشربة، بالفتح والضم: الغرفة والمشارب: العلاليّ. وفي الحديث: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان في مشربة له أي كان في غرفة.
(2) في «اللسان» : الجفاء يكون في الخلقة والخلق، يقال: رجل جافي الخلقة إذا كان كزّا غليظ العشرة والخرق في المعاملة والتحامل عند الغضب والسورة على الجليس.(1/465)
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
أهل بيت منّا يرمونهم بالسرقة وهم أهل بيت إِسلام وصلاح، فقال النبي لقتادة: رميتهم بالسرقة على غير بيّنة! فنزلت هذه الآيات. قاله قتادة بن النعمان.
والكتاب: القرآن. والحق: الحكم بالعدل. لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ: أي لتقضي بينهم. وفي قوله تعالى: بِما أَراكَ اللَّهُ قولان «1» : أحدهما: أنه الذي علّمه، والذي علّمه أن لا يقبل دعوى أحد على أحد إِلا ببرهان. والثاني: أنه ما يؤدي إليه اجتهاده، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً قال الزجاج: لا تكن مخاصماً، ولا دافعاً عن خائن.
واختلفوا هل خاصم عنه أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه قام خطيباً فعذره. رواه العوفي عن ابن عباس «2» . والثاني: أنه همَّ بذلك، ولم يفعله، قاله سعيد بن جبير، وقتادة «3» .
قال القاضي أبو يعلى: وهذه الآية تدل على أنه لا يجوز لأحدٍ أن يخاصم عن غيره في إِثبات حق أو نفيه، وهو غير عالم بحقيقة أمره، لأن الله تعالى عاتب نبيّه على مثل ذلك.
[سورة النساء (4) : آية 106]
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)
قوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ في الذي أُمر بالاستغفار منه قولان «4» :
أحدهما: أنه القيام بعذر. والثاني: أنه العزم على ذلك.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 563: وقوله لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلّى الله عليه وسلّم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال «ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها» . وروى الإمام أحمد عن أم سلمة قالت: جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بينة فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها انتظاما في عنقه يوم القيامة» فبكى الرجلان وقال كل منهما حقي لأخي، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما. ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما، ثم ليحلل كل منكما صاحبه» .
(2) واه. أخرجه الطبري 10418 عن ابن عباس من رواية عطية العوفي، واه.
(3) هذا ضعيف بل منكر، والصواب ما تقدم من وجوه، وأن السرقة وقعت.
(4) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 5/ 359: ذهب الطبري إلى أن المعنى. استغفر الله من ذنبك في خصامك للخائنين، فأمره بالاستغفار لما همّ بالدفع عنهم وقطع يد اليهودي. وهذا مذهب من جوّز الصغائر على الأنبياء. صلوات الله عليهم وسلامه. قال ابن عطية: وهذا ليس بذنب لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما دافع على الظاهر وهو يعتقد براءتهم. والمعنى: استغفر الله للمذنبين من أمتك والمتخاصمين بالباطل، ومحلك من الناس أن تسمع من المتداعيين وتقضي بنحو ما تسمع، وتستغفر للمذنب. وقيل: هو أمر بالاستغفار على طريق التسبيح، كالرجل يقول: أستغفر الله على وجه التسبيح من غير أن يقصد توبة من ذنب. وقيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد بنو أبيرق. [.....](1/466)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
[سورة النساء (4) : الآيات 107 الى 108]
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)
قوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
أي: يُخوِّنون أنفسهم، فيجعلونها خائنة بارتكاب الخيانة. قال عكرمة: والمراد بهم: طُعمة بن أُبيرق، وقومه الذين جادلوا عنه.
(361) وفي حديث العوفي عن ابن عباس قال: انطلق نفرٌ من عشيرةِ طُعمة ليلاً إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: إِن صاحبنا بريء.
و «الاستخفاء» : الاستتار، والمعنى: يستترون من الناس لئلاَّ يطّلعوا على خيانتهم وكذبهم، ولا يستترون من الله، وهو معهم بالعلم. وكلُّ ما فُكِّر فيه، أو خيض فيه بليل، فقد بُيّت. وجمهور العلماء على أن المشار إِليه بالاستخفاء والتبييت، قوم طعمة. والذي بيّتوا: احتيالهم في براءة صاحبهم بالكذب. وقال الزجاج: هو السارق نفسه، والذي بيّت أنه قال: أرمي اليهودي بأنّه سارق الدرع، وأحلف أني لم أسرقها، فتقبل يميني، ولا تقبل يمين اليهوديّ.
[سورة النساء (4) : آية 109]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ
قال الزجاج: «ها» للتنبيه، وأعيدت في أوله.
والمعنى: ها أنتم الذين جادلتم. و «المجادلة، والجدال» : شدة المخاصمة، و «الجدل» : شدّة الفتل.
والكلام يعود إلى مَن احتج عن السارق. فأما قوله: «عنهم» فانه عائِد إلى السارق. و «عليهم» بمعنى «لهم» . والوكيل: القائم بأمر مَن وكله. فكأنه قال: من الذي يتوكّل لهم منكم في خصومة ربّهم؟!
[سورة النساء (4) : آية 110]
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110)
قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
اختلفوا في نزولها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها نزلت خطاباً للسارق، وعَرْضاً للتّوبة عليه. رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال ابن زيد، ومقاتل.
والثاني: أنها للذين جادلوا عنه من قومه، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنه عنى بها كل مسيء ومُذنب. ذكره أبو سليمان الدمشقي. وإِطلاقُها لا يمنع أن تكون نزلت على سبب. وفي هذا السوء ثلاثة أقوال: أحدها: أنه السرقة. والثاني: الشّرك. والثالث: أنه كل ما يأثم به. وفي هذا الظلم قولان:
أحدهما: أنه رمي البريء بالتُّهمة. والثاني: ما دون الشّرك.
[سورة النساء (4) : آية 111]
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111)
قوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً
أي: ومن يعمل ذنباً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ
يقول: إنّما يعود
__________
هو بعض المتقدم.(1/467)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
وباله عليه. قاله مقاتل. وهذه في طُعمة أيضا.
[سورة النساء (4) : آية 112]
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112)
قوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
جمهور العلماء على أنها نزلت متعلقة بقصة طُعمة بن أبيرق.
(362) وقد روى الضحاك عن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن أبيِّ بن سلول إِذ رمى عائشة عليها السلام بالإفك.
وفي قوله تعالى: خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
أربعة أقوال «1» : أحدها: أن «الخطيئة» يمين السارق الكاذبة، و «الإِثم» : سرقته الدرع، ورميه اليهودي، قاله ابن السائب. والثاني: أن «الخطيئة» ما يتعلق به من الذنب، و «الإِثم» : قذفه البريء، قاله مقاتل. والثالث: أن «الخطيئة» قد تقع عن عمد، وقد تقع عن خطأ، و «الإثم» : يختصّ العمد. قاله ابن جرير، وأبو سليمان الدمشقي. وذكر الزجاج أن الخطيئة نحو قتل الخطأ الذي يرتفع فيه الإِثم. والرابع: أنه لمّا سمى الله عزّ وجلّ بعض المعاصي خطيئة، وبعضها إِثماً، أعلم أن من كسب ما يقع عليه أحد هذين الاسمين، ثم قذف به بريئاً، فقد احتمل بهتانا، ذكره الزجّاج أيضا.
فأمّا قوله تعالى: ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
أي: يقذفُ بما جناه بريئاً منه.
فإن قيل: الخطيئة والإِثم اثنان، فكيف قال: به، فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أنه أراد: ثم يرم بهما، فاكتفى بإعادة الذكر على الإثم من إِعادته على الخطيئة، كقوله تعالى: انْفَضُّوا إِلَيْها «2» فخصّ التجارة، والمعنى للتجارة واللهو. والثاني: أن الهاء تعودُ على الكسب، فلما دلّ ب «يكسب» على الكسب، كنى عنه. والثالث: أن الهاء راجعة على معنى الخطيئة والإِثم، كأنه قال: ومَن يكسب ذنباً، ثم يرم به. ذكر هذه الأقوال ابن الأنباري. والرابع: أن الهاء تعود على الإِثم خاصة، قاله ابن جرير الطبري.
وفي المراد بالبريء الذي قذفه هذا السارق قولان: أحدهما: أنه كان يهودياً، قاله ابن عباس، وعكرمة، وابن سيرين وقتادة وابن زيد، وسمّاه عكرمة، وقتادة: زيد بن السمين «3» . والثاني: أنه كان مسلماً، روي عن ابن عباس، وقتادة بن النعمان، والسدي، ومقاتل، واختلفوا في ذلك المسلم، فقال
__________
منكر جدا، ذكره المصنف عن الضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد، وهو متروك. والصواب ما ذهب إليه الجمهور.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 566: الآية، يعني كما اتهم بنو أبيرق بصنيعهم القبيح ذلك الرجل وقد كان بريئا وهم الظلمة الخونة كما أطلع الله على ذلك رسوله صلّى الله عليه وسلّم، ثم هذا التقريع والتوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بصفتهم فارتكب مثل خطيئتهم فعليه مثل عقوبتهم.
(2) الجمعة: 11.
(3) في المطبوع: «السّمير» والتصويب من الطبري 10421 وابن كثير 1/ 566.(1/468)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
الضحاك عن ابن عباس: هو عائشة لما قذفها ابن أبيّ، وقال قتادة بن النعمان: هو لبيد بن سهل، وقال السدي، ومقاتل: هو أبو مُليل الأنصاري.
فأما البهتان: فهو الكذب الذي يُحيّر من عِظَمه، يقال: بهت الرجل: إِذا تحيّر. قال ابن السائب:
فقد احتمل بهتاناً برميه البريء، وإِثماً مبيناً بيمينه الكاذبة.
[سورة النساء (4) : آية 113]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنها متعلقة بقصة طُعمة وقومه، حيث لبَّسُوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر صاحبهم، هذا قول ابن عباس من طريق ابن السائب «1» .
(363) والثاني: أنَّ وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: جئناك نبايعك على أن لا نُحشرْ ولا نُعشرْ، وعلى أن تمتّعنا بالعزَّى سنةً، فلم يجبهم، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس في رواية الضحاك.
وفي المراد بفضل الله ورحمته قولان: أحدهما: النبوّة والعصمة. والثاني: الإِسلام والقرآن، رويا عن ابن عباس. قال مقاتل: لولا فضل الله عليك حيث بيّن لك أمر طعمة وحوّلك بالقرآن عن تصديق الخائِن لهمّت طائفة منهم أن يُضِلُّوك. قال الفرّاء: والمعنى لقد همّت. فإن قيل: كيف قال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ
وقد همت باضلاله؟ فالجواب: أنه لولا فضل الله، لظهر تأثير ما همّوا به. فأما الطائفة، فعلى رواية ابن السائب عن ابن عباس: قوم طعمة، وعلى رواية الضحاك:
وفد ثقيف.
وفي الإِضلال قولان «2» : أحدهما: التخطئة في الحكم: والثاني: الاستزلال عن الحقّ. قال
__________
لا أصل له. عزاه المصنف للضحاك عن ابن عباس، والضحاك لم يلق ابن عباس، ورواية الضحاك هو جويبر بن سعيد، وهو متروك، وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا مصنوعا، وانظر المقدمة.
- وخبر وفد ثقيف ورد بسياق آخر مطول، وليس فيه نزول الآية. انظر «طبقات» ابن سعد 1/ 237- 238.
__________
(1) هذا واه، ابن السائب هو الكلبي كذبه غير واحد.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 566- 567: عن قتادة بن النعمان وذكر قصة بني أبيرق فأنزل الله لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ يعني أسيد بن عروة وأصحابه، يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برآء ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لهذا أنزل الله فصل القضية وجلاءها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال، وعصمته له، وما أنزل عليه من الكتاب، وهو القرآن، والحكمة وهي السنة عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
أي قبل نزول ذلك عليك كقوله وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ إلى آخر السورة. وقال تعالى: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ولهذا قال وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً.(1/469)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
الزجاج: وما يضلُّون إِلا أنفسهم، لأنهم يعملون عمل الضّالين، فيرجع الضلال إِليهم.
فأما «الكتاب» ، فهو القرآن. وفي «الحكمة» ثلاثة أقوال: أحدها: القضاء بالوحي، قالَه ابن عباس. والثاني: الحلال والحرام، قاله مقاتل. والثالث: بيانُ ما في الكتاب، وإِلهام الصواب، وإِلقاء صحة الجواب في الرّوع، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي قوله تعالى: وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الشرع، قاله ابن عباس ومقاتل. والثاني: أخبار الأولين والآخرين، قاله أبو سليمان. والثالث: الكتاب والحكمة، ذكره الماوردي. وفي قوله تعالى: وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
ثلاثة اقوال: أحدها: أنه المنة بالإِيمان. والثاني: المنّة بالنبوّة، هذان عن ابن عباس.
والثالث: أنه عامّ في جميع الفضل الذي خصّه الله به، قاله أبو سليمان.
[سورة النساء (4) : آية 114]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)
قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ قال ابن عباس: هُم قومُ طعمة، وقال مقاتل:
وكلهم يهود تناجوا في أمر طعمة، وقال مجاهد: هو عام في نجوى جميع الناس. قال الزجاج: ومعنى النجوى: ما تنفردُ به الجماعة أو الاثنان، سِرَّاً كان أو ظاهراً. ومعنى «نجوت الشيء» في اللغة. خلّصته وألقيته، يقال: نجوت الجلد: إِذا ألقيته عن البعير وغيره. قال الشاعر:
فقلتُ انجُوَا عنها نجا الجلد إِنّه ... سيرُضيكما منها سَنَامٌ وغارِبُهُ «1»
وقد نجوت فلاناً: إِذا استنكهته، قال الشاعر:
نجوتُ مجالداً فوجدتُ منه ... كريحِ الكلب مات قديمَ عهد «2»
وأصله كله من النَّجوة، وهو ما ارتفع من الأرض، قال الشاعر يصف سيلاً:
فَمَنْ بنجوَته كَمَن بعَقوَته ... والمُسْتكنُّ كَمَن يمشي بقِرْواح «3»
والمراد بنجواهم: ما يدبِّرونه بينهم من الكلام.
فأما قوله: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ فيجوز أن يكون بمعنى: إِلا في نجوى من أمر بصدقة، ويجوز أن يكون استثناء ليس من الأول، فيكون بمعنى: لكن من أمر بصدقةٍ، ففي نجواهم خير. وأمّا قوله تعالى: أَمَرَ بِصَدَقَةٍ فالمعنى: حثّ عليها. وأما المعروف، ففيه قولان:
أحدهما: أنه الفرض، روي عن ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنه عام في جميع أفعال البرّ، وهو
__________
(1) البيت لأبي الغمر الكلابي كما في «الخزانة» 2/ 227 ونسب أيضا إلى عبد الرحمن بن ثابت وقال ابن السيرافي في «إصلاح المنطق» 94: يريد قشّر عنها لحمها وشحمها، كما يقشر الجلد فإنها سمينة. وغاربها: ما بين السنام والعنق.
(2) البيت في «الحيوان» للحكم بن عبدل الأسدي.
(3) البيت لأوس بن حجر في «ديوانه» 16. وهو في «اللسان» لعبيد بن الأبرص وفي «ديوانه» 53، والعقوة:
الساحة وما حول الدار والمحلة، والقرواح: البارز الذي ليس يستره من السماء شيء. وقيل: الناقة الطويلة.
وكذلك النخلة الطويلة يقال لها: قرواح.(1/470)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
اختيار القاضي أبي يعلى، وأبي سليمان الدمشقي.
[سورة النساء (4) : آية 115]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115)
قوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ في سبب نزولها قولان:
(364) أحدهما: أنه لما نزل القرآن بتكذيب طُعمة، وبيان ظلمه، وخاف على نفسه من القطع والفضيحة، هرب إِلى مكة، فلحق بأهل الشرك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وقتادة، وابن زيد، والسدي.
(365) وقال مقاتل: لما قدم مكة نزل على الحجاج بن علاط السُلمي فأحسن نزله، فبلغه أن في بيته ذهباً، فخرج في الليل فنقب حائط البيت، فعلموا به فأحاطوا بالبيت، فلما رأوه، أرادوا أن يرجموه، فاستحيا الحجاج، لأنه ضيفه، فتركوه، فخرج، فلحق بحرّة بني سليم يعبُد صنمهم حتى مات على الشرك، فنزل فيه: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. وقال غيره: بل خرج مع تجارٍ فسرق منهم شيئاً، فرموه بالحجارة حتى قتلوه، وقيل: ركب سفينةً، فسرق فيها مالاً، فعُلِمَ به، فألقي في البحر.
والقول الثاني: أن قوماً قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأسلموا، ثم ارتدُّوا، فنزلت فيهم هذه الآية، روي عن ابن عباس.
ومعنى الآية: ومَن يخالف الرسول في التوحيد، والحدود، مِن بعد ما تبيّن له التوحيد والحكم، ويتبع غير دين المسلمين، نولِّه ما تولى، أي: نكله إِلى ما اختار لنفسه، ونصله جهنم: ندخله إِياها.
قال ابن فارس: تقول صليت اللحم أصليه: إِذا شويته، فإن أردت أنك أحرقته، قلت: أصليته. وساءت مصيراً، أي: مرجعاً يصار إليه «1» .
__________
انظر الأحاديث المتقدمة (عند الآية 105) .
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان، وقد كذبه غير واحد، فخبره لا شيء.
وذكره البغوي في «تفسيره» 1/ 480 بدون إسناد، ومن غير عزو لأحد.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 568: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم فصار في شق والشرع في شق وذلك عن عمد منه بعد ما ظهر له الحق وتبين له واتضح له وقوله: وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ هذا ملازم للصفة الأولى ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقا فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ تشريفا لهم وتعظيما لنبيهم وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك، وقد ذكرنا منها طرفا صالحا في كتاب «أحاديث الأصول» ومن العلماء من ادّعى تواتر معناها، والذي عوّل عليه الشافعي رحمه الله في الاحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك ولهذا توعد تعالى على ذلك بقوله: نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه على ذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجا له كما قال تعالى: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم: 44] وقال تعالى: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [الصف: 5] وجعل النار مصيره في الآخرة لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة، كما قال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ [الصافات: 22- 23] وقال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً [الكهف: 53] .(1/471)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
[سورة النساء (4) : آية 116]
إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ في سبب نزولها قولان:
أحدهما: أنها نزلت في حق طعمة بن أبيرق لما هرب من مكة، ومات على الشرك، وهذا قول الجمهور، منهم سعيد بن جبير.
(366) والثاني: أن شيخاً من الأعراب جاء إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إني مُنهَمك في الذنوب، إِلا أني لم أشرك بالله منذ عرفته، وإني لنادمٌ مستغفرٌ، فما حالي؟ فنزلت هذه الآية، روي عن ابن عباس. فأما تفسيرها، فقد تقدم.
[سورة النساء (4) : الآيات 117 الى 118]
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118)
قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً، «إن» بمعنى: «ما» ويَدْعُونَ بمعنى:
يعبدون. والهاء في دُونِهِ ترجع إلى الله عزّ وجلّ. والقراءة المشهورة إِناثاً. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وأبو مجلز، وأبو المتوكل، وأبو الجوزاء: «إِلا وَثَناً» ، بفتح الواو، والثاء من غير ألف. وقرأ ابن عباس، وأبو رزين: «أُنُثاً» ، برفع الهمزة والنون من غير ألف. وقرأ أبو العالية، ومعاذ القارئ، وأبو نُهيك: (أناثاً) ، برفع الهمزة وبألف بعد الثاء. وقرأ أبو هريرة، والحسن، والجوني: «إِلا أنثى» ، على وزن «فعلى» . وقرأ أيوب السختياني: «إِلا وُثنا» ، برفع الواو والثاء من غير ألف. وقرأ مورّق العجلي: (أُثُناً) ، برفع الهمزة والثاء من غير ألف. قال الزجاج: فمن قال: إِناثاً، فهو جمع أنثى وإِناث، ومَن قال: أنثاً، فهو جمع إِناث، ومن قال: أُثنا، فهو جمع وثن، والأصل: وُثنٌ، إِلا أن الواو إِذا انضمّت جاز إِبدالها همزة، كقوله تعالى: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ «1» الأصل: وقتت. وجائز أن يكون أُثُن أصلها: أُثْن، فأتبعت الضمّةُ الضمةَ، وجائِز أن يكون أثن، مثل أسد وأسد.
__________
واه بمرة. عزاه الشوكاني في «فتح القدير» 1/ 595 للثعلبي عن الضحاك عن ابن عباس، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 566: هو منقطع اه.
قلت: والثعلبي يروي الموضوعات. والضحاك لم يلق ابن عباس، وعامة روايات الضحاك إنما هي من طريق جويبر بن سعيد ذاك المتروك، ويجتنب أهل التفسير ذكره بسبب وضوح حاله، فالخبر واه بمرة.
__________
(1) سورة المرسلات: 11.(1/472)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
فأما المفسرون، فلهم في معنى الإِناث أربعة أقوال «1» : أحدها: أن الإِناث بمعنى الأموات، قاله ابن عباس: والحسن في رواية، وقتادة. وقال الحسن: كل شيء لا روح فيه، كالحجر، والخشبة، فهو إِناث. قال الزجاج: والموات كلها يخبر عنها، كما يخبر عن المؤنّث، تقول من ذلك: الأحجار تعجبني، والدراهم تنفعني. والثاني: أن الإِناث. الأوثان، وهو قول عائشة، ومجاهد. والثالث: أن الإِناث اللاّت والعُزّى ومناة، كلهن مؤنّث، وهذا قول أبي مالك، وابن زيد والسدي. وروى أبو رجاء عن الحسن قال: لم يكن حيٌ من أحياء العرب إِلاّ ولهم صنم يسمّونه: أُنثى بني فلان، فنزلت هذه الآية. قال الزجاج: والمعنى: ما يدعون إِلا ما يُسمّونه باسم الإِناث. والرابع: أنها الملائكة كانوا يزعمون أنها بناتُ الله، قاله الضحاك.
وفي المراد بالشيطان ثلاثة أقوال: أحدها: شيطانٌ يكون في الصنم. قال ابن عباس: في كل صنم شيطان يتراءى للسدنة فيكلمهم. وقال أبيُّ بن كعب: مع كل صنم جنيّة. والثاني: أنه إِبليس، وعبادته:
طاعته فيما سوّل لهم، هذا قول مقاتل، والزجاج. والثالث: أنه أصنامهم التي عبدوا، ذكره الماوردي.
فأما «المريد» فقال الزجاج: «المريد» : المارد، وهو الخارج عن الطاعة، ومعناه: أنه قد مرد في الشّر، يقال: مرد الرجل يمرُد مُروداً: إِذا عتا، وخرج عن الطاعة. وتأويل المرود: أن يبلغ الغاية التي يخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف، وأصله في اللغة: املساس الشيء، ومنه قيل للانسان: أمرد: إِذا لم يكن في وجهه شعر، وكذلك يقال: شجرة مرداء: إِذا تناثر ورقها، وصخرة مرداء: إذا كانت ملساء.
وفي قوله تعالى: لَعَنَهُ اللَّهُ قولان: أحدهما: أنه ابتداء دعاء عليه باللعن، وهو قول من قال:
هو الأوثان. والثاني: أنه إِخبار عن لعن متقدم، وهو قول من قال: هو إِبليس.
قال ابن جرير: المعنى: قد لعنه الله. قال ابن عباس: معنى الكلام: دحره الله، وأخرجه من الجنة. وَقالَ يعني إِبليس: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً. قال ابن قتيبة: أي حظاً افترضته لنفسي منهم، فأضلّهم. وقال مقاتل: النّصيب المفروض في اللغة: القطع أنَّ مِنْ كل ألفٍ إنسانٌ واحد في الجنة، وسائِرهم في النار. قال الزجاج: «الفرض» في اللغة: القطع، و «الفُرضة» : الثلمة تكون في النهر. و «الفرض» في القوس: الحز الذي يشد فيه الوتر، والفرض فيما ألزمه الله العباد: جعله حتما عليهم قاطعا.
[سورة النساء (4) : آية 119]
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119)
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 279: وأولى التأويلات من قال: عنى بذلك الآلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله ويسمونها الإناث من الأسماء، كاللات والعزّى ونائلة ومناة. وإنما قلنا ذلك بتأويل الآية، لأن الأظهر من معاني الإناث في كلام العرب ما عرّف بالتأنيث دون غيره. يقول جل ثناؤه:
حسب هؤلاء الذين أشركوا بالله وعبدوا ما عبدوا من دونه من الأوثان والأنداد، حجة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل، أنهم يعبدون إناثا ويدعونها آلهة أربابا. والإناث من كل شيء أخسّه، فهم يقرّون للخسيس من الأشياء بالعبودية على علم منهم بخساسته، ويمتنعون من إخلاص العبودية للذي له ملك كل شيء وبيده الخلق والأمر.(1/473)
قوله تعالى: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ قال ابن عباس: عن سبيل الهدى، وقال غيره: ليس له من الضلال سوى الدّعاء إليه. وفي قوله تعالى: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ أربعة أقوال: أحدها: أنه الكذب الذي يخبرهم به، قال ابن عباس: يقول لهم: لا جنة، ولا نار، ولا بعث. والثاني: أنه التسويف بالتوبة، روي عن ابن عباس. والثالث: أنه إيهامُهم أنهم سينالون من الآخرة حظاً، قاله الزجاج. والرابع: أنه تزيين الأماني لهم، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ قال قتادة، وعكرمة، والسدي: هو شق أذن البَحيرة، قال الزجاج: ومعنى «يبتكن» يُشقّقن، يقال: بتكت الشيء أبتكه بتكاً: إِذا قطعته، وَبتَكه وبَتَك، مثل قطعه وقطع. وهذا في البحيرة كانت الجاهلية إِذا ولدت الناقة خمسة أبطن، وكان الخامس ذكراً، شقّوا أذن الناقة، وامتنعوا من الانتفاع بها، ولم تُطردْ عن ماءٍ، ولا مرعى، وإِذا لقيها المعيي، لم يركبها.
سوّل لهم إِبليس أن هذا قربةٌ إِلى الله تعالى.
وفي المراد بتغيير خلق الله خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه تغيير دين الله، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الحسن في رواية، وسعيد بن المسيّب وابن جبير والنخعي والضحاك والسدي وابن زيد ومقاتل. وقيل: معنى تغيير الدّين: تحليل الحرام وتحريم الحلال. والثاني: أنه تغيير الخلق بالخصاء، رواه عكرمة عن ابن عباس، وهو مرويٌ عن أنس بن مالك، وعن مجاهد وقتادة وعكرمة، كالقولين. والثالث: أنه التغيير بالوشم، وهو قول ابن مسعود، والحسن في رواية. والرابع: أنه تغيير أمر الله، رواه أبو شيبة عن عطاء. والخامس: أنه عبادة الشمس والقمر والحجارة، وتحريم ما حرّموا من الأنعام، وإِنما خلق ذلك للانتفاع به، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ في المراد بالولي قولان: أحدهما: أنه بمعنى الرب، قاله مقاتل. والثاني: من الموالاة، قاله أبو سليمان الدمشقي.
فان قال قائل: من أين لإِبليس العلم بالعواقب حتى قال: ولأضلنّهم. وقال في سورة الأعراف وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ «2» . وقال في سورة بني إِسرائيل لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا «3» ، فعنه ثلاثة أجوبة. أحدها: أنه ظن ذلك، فتحقّق ظنه، وذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ «4» قاله الحسن، وابن زيد. وفي سبب ذلك الظن قولان: أحدهما: أنه لما قال الله تعالى له:
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 285: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال:
معناه وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ قال: دين الله، وذلك لدلالة الآية الأخرى على أن ذلك معناه، وهي قوله: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.
وقال ابن كثير رحمه الله في تفسيره 1/ 569: على قول من جعل ذلك أمرا أي لا تبدلوا فطرة الله ودعوا الناس على فطرتهم. كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء» . وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال الله عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرّمت عليهم ما أحللت لهم» .
(2) سورة الأعراف: 17.
(3) سورة الإسراء: 62. [.....]
(4) سورة سبأ: 20.(1/474)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ «1» علم أنه ينال ما يريد. والثاني: أنه لما استزلَّ آدم، قال: ذرّية هذا أضعف منه. والثاني: أن المعنى: لأحرضنّ ولأجتهدنّ في ذلك، لا انه كان يعلم الغيب، قاله ابن الأنباري.
والثالث: أن من الجائِز أن يكون علم من جهة الملائكة بخبر من الله تعالى أن أكثر الخلق لا يشكرون، ذكره الماوردي.
فان قيل: فلم اقتصر على بعضهم؟ فقال: نَصِيباً مَفْرُوضاً «2» وقال: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ وقال: إِلَّا قَلِيلًا فعنه ثلاثة أجوبة. أحدها: أنه يجوز أن يكون علم مآل الخلق من جهة الملائكة، كما بينّا. والثاني: أنه لما لم ينلْ من آدم كل ما يريد، طمع في بعض أولاده، وأيس من بعض.
والثالث: انه لما عاين الجنّة والنار، علم أنهما خلقتا لمن يسكنهما، فأشار بالنصيب المفروض إلى ساكني النار.
[سورة النساء (4) : الآيات 120 الى 122]
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
قوله تعالى: يَعِدُهُمْ يعني: الشيطان يعد أولياءه. وفيما يعدهم به قولان: أحدهما: أنه لا بعث لهم، قاله مقاتل. والثاني: النصرة لهم، ذكره أبو سليمان الدمشقي، وفيما يُمنِّيهم قولان:
أحدهما: الغرور والأماني، مثل أن يقول: سيطول عمرك، وتنال من الدنيا مرادك: والثاني: الظفر بأولياء الله.
قوله تعالى: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي: باطلاً يغرُّهم به. فأما المحيص، فقال الزجاج: هو المعدِل والملجأ، يقال: حِصتُ عن الرجل أحيص، ورووا: جضتُ أجيض بالجيم والضاد، بمعنى: حصت، ولا يجوز ذلك في القرآن، وإِن كان المعنى واحداً، لأن القراءة سنّة، والذي في القرآن أفصحُ مما يجوز، ويقال: حُصتُ أحوص حوصاً وحياصة: إِذا خطت، قال الأصمعي:
يقال: حصْ عين صقرك، أي: خط عينه، والحوصُ في العين: ضيق مؤخرها، ويقال: وقع في حيصَ بيصَ، وحاص باص: إِذا وقع فيما لا يقدر على التخلص منه.
[سورة النساء (4) : آية 123]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123)
قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(367) أحدها: أن أهل الأديان اختصموا، فقال أهل التّوراة: كتابنا خير الكتاب، ونبيّنا خير
__________
أخرجه الطبري 10501 عن ابن عباس برواية العوفي، وهو واه. وورد مرسلا، أخرجه الطبري 10495 و 10496 عن مسروق و 10499 عن السدي، و 10500 عن الضحاك، و 10502 عن أبي صالح.
__________
(1) سورة ص: 85.
(2) سورة النساء: 118.(1/475)
الأنبياء، وقال أهل الإِنجيل مثل ذلك، وقال المسلمون: كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم الأنبياء، فنزلت هذه الآية، ثم خيّر بين الأديان بقوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ. رواه العوفي عن ابن عباس، وإِلى هذا المعنى ذهب مسروق وأبو صالح وقتادة والسدي.
(368) والثاني: أن العرب قالت: لا نُبعثُ، ولا نعذبُ، ولا نحاسب، فنزلت هذه الآية، هذا قول مجاهد.
(369) والثالث: أن اليهود والنصارى قالوا: لا يدخل الجنة غيرنا، وقالت قريش: لا نُبعث، فنزلت هذه الآية، هذا قول عكرمة.
قال الزجاج: اسم «ليس» مضمر، والمعنى: ليس ثواب الله عز وجل بأمانيكم، وقد جرى ما يدل على الثواب، وهو قوله تعالى: سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.
وفي المشار إليهم بقوله «أمانيكم» قولان «1» : أحدهما: أنهم المسلمون على قول الأكثرين.
والثاني: المشركون على قول مجاهد. فأما أماني المسلمين، فما نقل من قولهم: كتابنا ناسخ للكتب، ونبينا خاتم الأنبياء، وأماني المشركين قولهم: لا نبعث، وأماني أهل الكتاب قولهم: نحن أبناء الله وأحباؤه، وإِن النار لا تمسُّنا إِلا أياماً معدودة، وأنّ كتابنا خير الكتاب، ونبيّنا خير الأنبياء، فأخبر الله عزّ وجلّ أن دخول الجنة والجزاء، بالأعمال لا بالأماني.
وفي المراد «بالسوء» قولان «2» : أحدهما: أنه المعاصي.
__________
ضعيف، أخرجه الطبري 10507 عن مجاهد مرسلا.
هو مرسل، فهو واه، والمتن غريب.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 290: وأولى التأولين بالصواب ما قاله مجاهد: من أنه عنى بقوله: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ مشركي قريش. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وإنما جرى ذكر أماني الشيطان المفروض، وذلك في قوله وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وقوله: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، فإلحاق معنى قوله جل ثناؤه: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ بما قد جرى ذكره قبل، أحقّ وأولى من ادعاء تأويل فيه، لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا أثر عن الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا إجماع أهل التأويل. فتأويل الآية إذا: ليس الأمر بأمانيكم، يا معشر أولياء الشيطان وحزبه، التي يمنيكموها وليّكم عدو الله، ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغترارا بالله وبحلمه عنهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [سورة البقرة: 80] . فإن الله مجاز كل عامل منكم جزاء عمله، من يعمل منكم سوءا، ومن غيركم، يجز به، ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيرا، ومن يعمل من الصالحات من ذكرٍ أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة. ولم يرجح ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 570 بين هذه الأقوال وإنما قال بعد ذكر الأقوال: والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقته الأعمال وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه، ولا كل من قال إنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان، والعبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام، ولهذا قال بعده: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 292: وأولى التأويلات هو أن كل من عمل سوءا صغيرا أو كبيرا من مؤمن أو كافر، جوزي به، وذلك لعموم الآية كل عامل سوء، من غير أن يخصّ أو يستثنى منهم أحد فهي على عمومها. وبنحو ما قلنا تظاهر الأخبار عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.(1/476)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
(370) ومنه حديث أبي بكر الصديق أنه قال: يا رسول الله كيف الصلاح بعد هذه الآية: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فإذا عملنا سوءاً جُزينا به، فقال: غفر الله لك يا أبا بكر، ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء «1» ؟ فذلك ما تُجزَون به.
والثاني: أنه الشرك، قاله ابن عباس، ويحيى بن أبي كثير.
وفي هذا الجزاء قولان: أحدهما: أنه عام في كل من عمل سوءاً فإنه يجازى به، وهو معنى قول أُبيِّ بن كعب، وعائشة، واختاره ابن جرير، واستدل عليه بحديث أبي بكر الذي قدمناه. والثاني: أنه خاص في الكفار يجازَوْن بكل ما فعلوا، فأما المؤمن فلا يجازى بكل ما جنى، قاله الحسن البصري.
وقال ابن زيد: وعد الله المؤمنين أن يكفّر عنهم سيئاتهم، ولم يَعِد المشركين.
قوله تعالى: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا قال أبو سليمان: لا يجد مَن أراد الله أن يجزيه بشيءٍ من عمله ولياً، وهو القريب، ولا ناصراً يمنعه من عذاب الله وجزائِه.
[سورة النساء (4) : آية 124]
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)
__________
حسن. أخرجه أحمد 1/ 11، والطبري 10528 و 10529 و 10531 و 10532 و 10533 والمروزي في «مسند أبي بكر» 111 و 112، وأبو يعلى 98 و 99 و 100 و 101 وابن حبان 2910 والحاكم 3/ 74- 75 والبيهقي 3/ 373 من طرق عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي عن أبي بكر الصديق.
وإسناده ضعيف لانقطاعه: أبو بكر بن زهير لم يدرك الصديق. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
- وأخرجه أبو يعلى 99 من طريق وكيع عن إسماعيل بن أبي خالد عن أبي بكر الصديق. وأخرجه الطبري 10526 عن عائشة عن أبي بكر بنحوه. وأخرجه الطبري 10534 عن مسلم بن صبيح قال: قال أبو بكر.
وأورده ابن كثير في «تفسيره» 1/ 572 عن مسلم بن صبيح، عن مسروق قال: قال أبو بكر. وأخرجه المروزي 22 وأبو يعلى 18 والطبري 10527 والحاكم 3/ 552- 553 من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن زياد الجصاص، عن علي بن زيد، عن مجاهد، عن ابن عمر، عن أبي بكر. وزياد وعلي بن زيد ضعيفان.
وأخرجه الترمذي 3039 وأبو يعلى 21 عن روح بن عبادة، عن موسى بن عبيدة، عن مولى ابن سبّاع، عن ابن عمر يحدث عن أبي بكر. وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وفي إسناده مقال. وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد، وأحمد بن حنبل ومولى ابن سبّاع مجهول. ويشهد له حديث عائشة أخرجه الترمذي 2991 وأحمد 6/ 218 والطبري 10536 كلهم من حديث حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن أمية ابنة عبد الله أنها سألت عائشة عن قول الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ وعن قوله: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فقالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «هذه معاتبة الله العبد فيما يصيبه من الحمى والنكبة حتى البضاعة يضعها في كم قميصه فيفقدها فيفزع لها حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من حديث عائشة، لا نعرفه إلا من حديث حماد بن سلمة. وأخرجه الحاكم 2/ 308 من طريق آخر موقوفا عليها.
وصححه ووافقه الذهبي وانظر ما أخرجه ابن حبان 2923. ويشهد له أيضا حديث أبي هريرة أخرجه مسلم 2574 والترمذي 3038 وأحمد 2/ 249، والطبري 10525، وابن حبان 2926 والبيهقي 3/ 373. وانظر «تفسير ابن كثير» 1/ 571 و «تفسير القرطبي» 2473 بتخريجنا.
__________
(1) في «اللسان» : اللأي المشقة والجهد، واللأواء: الشدة وضيق العيش.(1/477)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ.
(371) قال مسروق: لما نزلت لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ قال أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء، فنزلت وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ، وهذه تدل على ارتباط الإِيمان بالعمل الصالح، فلا يقبل أحدهما إِلاّ بوجود الآخر، وقد سبق ذكر «النّقير» .
[سورة النساء (4) : آية 125]
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125)
قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ قال ابن عباس: خيّر الله بين الأديان بهذه الآية. وأَسْلَمَ بمعنى: أخلص. وفي «الوجه» قولان: أحدهما: أنه الدين. والثاني: العمل. وفي الإحسان قولان: أحدهما: أنه التوحيد، قاله ابن عباس. والثاني: القيام لله بما فرض الله، قاله أبو سليمان الدمشقي. وفي اتِّباع ملة إِبراهيم قولان: أحدهما: اتباعه على التوحيد والطاعة. والثاني: اتباع شريعته، اختاره القاضي أبو يعلى.
فأما الخليل، فقال ابن عباس: الخليل الصفي، وقال غيره: المصافي، وقال الزجاج: هو المُحبُّ الذي ليس في محبّته خلل. قال: وقيل: الخليل: الفقير، فجائِز أن يكون إبراهيم سُمّي خليل الله بأنه أحبّه محبةً كاملةً، وجائِز أن يكون لأنه لم يجعل فقرَه وفاقته إِلاّ إِليه، و «الخُلّة» : الصداقة، لأن كلَّ واحد يسدُّ خلل صاحبه، و «الخَلة» بفتح الخاء: الحاجة: سُميت خَلَّة للاختلال الذي يلحق الانسان فيما يحتاج إِليه، وسمي الخَلّ الذي يؤكل خلاً، لأنه اختلّ منه طعم الحلاوة. وقال ابن الأنباري:
الخليل: فعيل من الخُلة، والخلّة: المودّة. وقال بعض أهل اللغة: الخليل، المحب، والمحب الذي ليس في محبته نقص ولا خلل، والمعنى: أنه كان يحبُ الله، ويحبهُ الله محبة لا نقص فيها، ولا خلل، ويقال: الخليل: الفقير، فالمعنى: اتّخذه فقيرا ينزل فقره وفاقته به، لا بغيره. وفي سبب اتخاذ الله له خليلاً ثلاثة أقوال: أحدها: أنه اتخذه خليلاً لإِطعامه الطعام.
(372) روى عبد الله بن عمرو عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «يا جبريل، لم اتخذ الله إِبراهيم خليلا؟
قال: لإِطعامه الطعام» .
(373) والثاني: أن الناس أصابتهم سنَة فأقبلوا إِلى باب إِبراهيم يطلبون الطعام، وكانت له مِيرَة من صديق له بمصر في كل سنة، فبعث غلمانه بالإِبل إِلى صديقه، فلم يعطهم شيئا، فقالوا: لو احتملنا
__________
أخرجه الطبري 10495 عن مسروق.
ضعيف. أخرجه البيهقي 9616 من حديث عبد الله بن عمرو، وفيه ابن لهيعة والراوي عنه ليس من العبادلة، فالحديث ضعيف والمتن منكر، فإن الأمر أعم من ذلك. وانظر «تفسير القرطبي» 2478.
لا أصل له في المرفوع. عزاه المصنف لرواية أبي صالح عن ابن عباس وهو في «تفسير البغوي» برواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط، الكلبي متروك، وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس، والكلبي وأبو صالح أقرّا أنهما كانا يكذبان على ابن عباس. راجع ترجمتهما في «الميزان» .
وذكر هذا الخبر الطبري بدون إسناد في «تفسيره» 4/ 297، ونقله عنه ابن كثير في «تفسيره» 1/ 573، وقال:
وفي صحة هذا ووقوعه نظر، وغايته أن يكون خبرا إسرائيليا لا يصدق ولا يكذب.(1/478)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة، فملؤوا الغرائِر»
رملاً، ثم أتوا إِبراهيم عليه السلام، فأعلموه، فاهتم إِبراهيم لأجل الخلق. فنامَ وجاءت سارة وهي لا تعلم ما كان، ففتحت الغرائر، فاذا دقيق حُواري، فأمرت الخبازين فخبزوا، وأطعموا الناس، فاستيقظ إِبراهيم، فقال: من أين هذا الطعام؟
فقالت: من عند خليلك المصري، فقال: بل من عند خليلي الله عزّ وجلّ، فيومئذٍ اتخذه الله خليلا، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثالث: أنه اتخذه خليلاً لكسره الأصنام، وجداله قومه، قاله مقاتل.
[سورة النساء (4) : آية 126]
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً أي: أحاط علمه بكل شيء.
[سورة النساء (4) : آية 127]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)
قوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ في سبب نزولها خمسة أقوال:
(374) أحدها: أنهم كانوا في الجاهلية لا يورِّثون النساء والأطفال، فلما فرض الله المواريث في هذه السورة، شق ذلك عليهم، فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وقتادة، وابن زيد.
(375) والثاني: أن ولي اليتيمة كان يتزوّجها إِذا كانت جميلةً وهَوِيَها، فيأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها الرجال حتى تموت، فاذا ماتت ورثها، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
(376) والثالث: أنهم كانوا لا يؤتون النساء صَدُقَاتِهِنَّ، ويتملَّك ذلك أولياؤهنّ، فلما نزل قوله
__________
حسن صحيح، أخرجه الطبري 10544 و 10546 عن ابن عباس، وفيه عطاء بن السائب وهو صدوق لكنه اختلط. وورد من مرسل مجاهد، أخرجه الطبري 10552 و 10553 ومن مرسل سعيد بن جبير، أخرجه برقم 10558 ومن مرسل ابن زيد، برقم 10562. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.
أخرجه الطبري 10576 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به. وأخرجه الطبري 10554 عن عطية العوفي عن ابن عباس قال: كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل فيرغب أن ينكحها أو يجامعها، ولا يعطيها مالها، رجاء أن تموت فيرثها. وأخرجه الطبري 10549 و 10550 عن إبراهيم النّخعي مرسلا. وأخرجه برقم 10551 عن أبي مالك مرسلا. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.
صحيح. أخرجه البخاري 4600 ومسلم 3018 وأبو داود 2068 والنسائي في «التفسير» 144 والواحدي 368 في «أسباب النزول» والبيهقي 7/ 141- 142 والطبري 10559 كلهم عن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ إلى قوله: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ قالت عائشة: هو الرجل تكون عنده اليتيمة هو وليها ووارثها فأشركته في ماله حتى العذق فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوّجها رجلا فيشركه في ماله بما شركته، فيعضلها فنزلت هذه الآية.
وقوله «فيعضلها» : أي لم يعاملها معاملة الأزواج لنسائهم، ولم يتركها تتصرف في نفسها، فكأنه قد منعها.
__________
(1) في «اللسان» : الغرائر: جمع غرارة: وهي الجوالق التي يوضع فيها التبن والقمح وغيرهما.(1/479)
تعالى: وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، هذا قول عائشة عليها السلام.
(377) والرابع: أن رجلاً كانت له امرأة كبيرة، وله منها أولاد، فأراد طلاقها، فقالت: لا تفعل، واقسم لي في كل شهر إِن شئت أو أكثر فقال: لئن كان هذا يصلحُ، فهو أحبُ إِليّ، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فذكر له ذلك، فقال: «قد سمع الله ما تقول، فإن شاء أجابك» ، فنزلت هذه الآية، والتي بعدها، رواه سالم الأفطس عن سعيد بن جبير.
والخامس: أن ولي اليتيمة كان إِذا رغب في مالها وجمالها لم يبسط لها في صداقها، فنزلت هذه الآية، ونهوا أن ينكحوهنّ، أو يبلغوا بهنّ سنتهن من الصداق، ذكره القاضي أبو يعلى.
وقوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ أي: يطلبون منك الفتوى، وهي تبيين المشكل من الأحكام. وقيل:
الاستفتاء: الاستخبار. قال المفسّرون: والذي اسْتَفْتَوه فيه، ميراث النساء، وذلك أنهم قالوا: كيف ترث المرأة والصبي الصغير؟
قوله تعالى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ قال الزجاج: موضع «ما» رفع، المعنى: الله يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب أيضا يفتيكم فيهنّ. وهو قوله تعالى: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ الآية. والذي تلي عليهم في التزويج قوله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ «1» . وفي يتامى النساء قولان: أحدهما: أنهنّ النساء اليتامى، فأضيفت الصّفة إِلى الاسم، كما تقول: يوم الجمعة. والثاني: أنهن أمهات اليتامى، فأضيف إِليهن أولادهن اليتامى.
وفي الذي كتب لهن قولان: أحدهما: أنه الميراث، قاله ابن عباس، ومجاهد في آخرين.
والثاني: أنه الصداق. ثم في المخاطب بهذا قولان: أحدهما: أنهم أولياء المرأة كانوا يحوزون صداقها دونها. والثاني: ولي اليتيمة، كان إِذا تزوجها لم يعدل في صداقها.
وفي قوله تعالى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ قولان: أحدهما: وترغبون في نكاحهن رغبة في جمالهن، وأموالهن، هذا قول عائشة، وعبَيدة. والثاني: وترغبون عن نكاحِهن لقبحهنّ، فتمسكوهن رغبة في أموالهن، وهذا قول الحسن.
قوله تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ قال الزجاج: موضع «المستضعفين» خفض على قوله تعالى: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ المعنى: وفي الولدان. قال ابن عباس: يريد أنهم لم يكونوا يورّثون صغيراً من الغلمان والجواري، فنهاهم الله عن ذلك، وبيّن لكلّ ذي سهم
__________
لم أر من أسنده عن سعيد، وهو مرسل، والمرسل من قسم الضعيف، وتقدم روايات كثيرة، ليس فيها ما هو مرفوع لفظي، والله أعلم.
__________
(1) سورة النساء: 3.(1/480)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
سهمه. قوله تعالى: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ قال الزجاج: موضع «أن» خفض، فالمعنى: في يتامى النساء، وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط. قال ابن عباس: يريد العدل في مهورهن ومواريثهنّ.
[سورة النساء (4) : آية 128]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)
قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(378) أحدها: أن سودة خشيت أن يطلّقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالت: يا رسول الله لا تطلقني، وأمسكني، واجعل يومي لعائشة، ففعل، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(379) والثاني: أن بنت محمد بن مسلمة كانت تحت رافع بن خديج، فكره منها أمراً، إِما كِبَراً، وإِما غيره، فأراد طلاقها، فقالت: لا تطلقني، واقسم لي ما شئت، فنزلت هذه الآية، رواه الزّهريّ عن سعيد بن المسيّب، وقال مقاتل: واسمها خويلة «1» .
والثالث: قد ذكرناه عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير في نزول الآية التي قبلها.
(380) وقالت عائشة: نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فلا يستكثر منها، ويريد فراقها، ولعلها تكون له محبة أو يكون لها ولد فتكره فراقه، فتقول له: لا تطلقني وأمسكني، وأنت في حل من شأني. رواه البخاري، ومسلم.
وفي خوف النشوز قولان: أحدهما: أنه العلم به عند ظهوره. والثاني: الحذر من وجوده لأماراته. قال الزجاج: والنشوز من بعل المرأة: أن يُسيء عشرتها، وأن يمنعها نفسه ونفقته. وقال أبو
__________
أخرجه الترمذي 3040 والطبري 10613 من حديث ابن عباس بهذا اللفظ، وقال الترمذي: حسن غريب.
- قلت: إسناده غير قوي لأنه من رواية سماك عن عكرمة، وهي مضطربة، ولكن ورد من وجه آخر بنحوه.
أخرجه أبو داود 2135 والحاكم 2/ 186 من حديث عائشة وصححه، ووافقه الذهبي، وإسناده حسن لأجل عبد الرحمن بن أبي الزناد. وخبر سودة دون ذكر نزول الآية، أخرجه مسلم 1463 وابن حبان 4211 من حديث عائشة قالت: ما رأيت امرأة أحب إليّ أن أكون في مسلاخها من سودة بنت زمعة، من امرأة فيها حدة.
قالت: فلما كبرت جعلت يومها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة. قالت: يا رسول الله: قد جعلت يومي منك لعائشة، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعائشة يومين، يومها ويوم سودة. أخرجه البخاري 5212 ومسلم 1463 والنسائي في «الكبرى» 7934 وابن ماجة 1972 مختصرا والبيهقي 7/ 74- 75 من حديث عائشة مطولا وليس فيه سبب نزول الآية. وانظر «تفسير القرطبي» 2481 بتخريجنا.
مرسل. أخرجه الشافعي 1/ 250 والواحدي 370 والبيهقي 7/ 296 عن ابن المسيب مرسلا.
- وورد من حديث رافع بن خديج. أخرجه مالك 2/ 548- 549، والحاكم 2/ 308، ولكن ليس فيه نزول الآية. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
صحيح. أخرجه البخاري 2450 و 2694 و 4601 ومسلم 3021 والبيهقي 7/ 296 والواحدي 369 والطبري 10589 و 10590 و 10591 عن عائشة به. وانظر «تفسير القرطبي» 2483.
__________
(1) ورد اسمها في «تفسير القرطبي» 5/ 384 و «تفسير البغوي» 1/ 486 خولة بنت محمد بن مسلمة، وفي بقية كتب التفاسير ابنة محمد بن مسلمة، ولم تسمّ.(1/481)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
سليمان: نشوزاً، أي: نبواً عنها إِلى غيرها، أو إعراضا عنها، واشتغالاً بغيرها. فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «يصّالحا» بفتح الياء والتشديد. والأصل:
«يتصالحا» ، فأدغمت التاء في الصاد. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «يُصلحا» بضم الياء والتخفيف. قال المفسرون: والمعنى: أن يوقعا بينهما أمرا يرضيان به، وتدوم بينهما الصحبة، مثل أن تصبر على تفضيله. وروي عن علي، وابن عباس: أنهما أجازا لهما أن يصطلحا على ترك بعض مهرها، أو بعض أيامها، بأن يجعله لغيرها.
وفي قوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ قولان «1» : أحدهما: خير من الفرقة، قاله مقاتل، والزجاج.
والثاني: خيرٌ من النشوز والإِعراض، ذكره الماوردي. قال قتادة: متى ما رضيت بدون ما كان لها، واصطلحا عليه، جاز، فان أبتْ لم يصلح أن يحبسها على الخسف.
قوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ «أحضرت» بمعنى: ألزمت. و «الشّح» : الإِفراط في الحرص على الشيء. وقال ابن فارس: «الشح» : البخل مع الحرص، وتشاح الرجلان على الأمر: لا يريدان أن يفوتهما، وفيمن يعود إِليه هذا الشح من الزوجين قولان: أحدهما: المرأة، فتقديره:
وأحضرت نفس المرأة الشح بحقها من زوجها، هذا قول ابن عباس، وسعيد بن جبير. والثاني:
الزوجان جميعاً، فالمرأة تشح على مكانها من زوجها، والرجل يشح عليها بنفسه إِذا كان غيرُها أحبَّ إِليه، هذا قول الزجاج. وقال ابن زيد: لا تطيب نفسه أن يعطيها شيئاً فتحلله، ولا تطيب نفسها أن تعطيه شيئاً من مالها، فتعطّفه عليها.
قوله تعالى: وَإِنْ تُحْسِنُوا فيه قولان: أحدهما: بالصّبر على التي يكرها. والثاني: بالإِحسان إِليها في عشرتها. قوله تعالى: وَتَتَّقُوا يعني الجور عليها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم عليه.
[سورة النساء (4) : آية 129]
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)
قوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ قال أهل التفسير: لن تطيقوا أن تسوّوا بينهن في المحبة التي هي ميل الطباع، لأن ذلك ليس من كسبكم وَلَوْ حَرَصْتُمْ على ذلك فَلا تَمِيلُوا إِلى التي تحبون في النفقة والقسم. وقال مجاهد: لا تتعمّدوا الإِساءة فتذروا الأخرى كالمعلقة قال ابن عباس: المعلقة: التي لا هي أيِّم، ولا ذات بعل. وقال قتادة: المعلقة: المسجونة. قوله تعالى: وَإِنْ تُصْلِحُوا أي: بالعدل في القسمة وَتَتَّقُوا الجور فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً لميل القلوب.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 10/ 262- 263: وإذا خافت المرأة نشوز زوجها وإعراضه عنها، لرغبته عنها، إما لمرض بها أو كبر أو دمامة، فلا بأس أن تضع عنه بعض حقوقها تسترضيه بذلك، لقول الله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً ... الآية. ومتى صالحته على ترك شيء من قسمها أو نفقتها أو على ذلك كله، جاز، فإن رجعت، فلها ذلك. قال أحمد، في الرجل يغيب عن امرأته، فيقول لها: إن رضيت على هذا وإلا فأنت أعلم. فتقول: قد رضيت. فهو جائز، فإن شاءت رجعت.(1/482)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
[سورة النساء (4) : الآيات 130 الى 132]
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132)
قوله تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يقول: وإِن أبت المرأة أن تسمح لزوجها بإيثار التي يميل إِليها، واختارت الفرقة، فإن الله يغني كلَّ واحد من سعته. قال ابن السائِب: يغني المرأة برجل، والرجل بامرأة. ثم ذكر ما يوجبُ الرغبة إِليه في طلب الخير، فقال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني: أهل التوراة، والإِنجيل، وسائر الكتاب وَإِيَّاكُمْ يا أهل القرآن أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ قيل: وحّدوه وَإِنْ تَكْفُرُوا بما أوصاكم به فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فلا يضرّه خلافكم. وقيل: له ما في السماوات، وما في الأرض من الملائكة، فهم أطوع له منكم. وقد ذكرنا في سورة البقرة معنى «الغني الحميد» «1» ، وفي آل عمران معنى «الوكيل» «2» .
[سورة النساء (4) : آية 133]
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133)
قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ قال ابن عباس: يريد المشركين والمنافقين وَيَأْتِ بِآخَرِينَ أطوع له منكم. وقال أبو سليمان: هذا تهدّد للكفار، يقول: إِن يشأ يهلككم كما أهلك مَن قبلكم إِذ كفروا به، وكذّبوا رسله.
[سورة النساء (4) : آية 134]
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)
قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا قيل: إِن هذه الآية نزلت من أجل المنافقين كانوا لا يصدِّقون بالقيامة، وإِنما يطلبون عاجل الدنيا، ذكره أبو سليمان. وقال الزجاج: كان مشركو العرب يتقربون إِلى الله ليعطيهم من خير الدنيا، ويصرف عنهم شرّها، ولا يؤمنون بالبعث، فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن خير الدنيا والآخرة عنده. وذكر الماوردي أن المراد بثواب الدنيا: الغنيمة في الجهاد، وثواب الآخرة: الجنة. قال: والمراد بالآية: حث المجاهد على قصد ثواب الله.
[سورة النساء (4) : آية 135]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ في سبب نزولها قولان:
__________
(1) سورة البقرة: 267.
(2) سورة آل عمران: 173.(1/483)
(381) أحدهما: أن فقيراً وغنياً اختصما إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فكان صَغْوُه «1» مع الفقير يرى أن الفقير لا يَظلم الغني، فنزلت هذه الآية، هذا قول السدي. والثاني: أنها متعلقة بقصّة ابن أُبيرق، فهي خطاب للذين جادلوا عنه، ذكره أبو سليمان الدمشقي «2» .
و «القوّام» : مبالغة مِن قائِم. و «القسط» : العدل. قال ابن عباس: كونوا قوّالين بالعدل في الشهادة على من كانت، ولو على أنفسكم. وقال الزجاج: معنى الكلام: قوموا بالعدل، واشهدوا لله بالحق، وإِن كان الحق على الشاهد، أو على والديه، أو قريبه «3» ، إِنْ يَكُنْ المشهود له غَنِيًّا فالله أولى به، وإِن يكن فقيراً فالله أولى به. فأما الشهادة على النفس، فهي إِقرار الإِنسان بما عليه من حق. وقد أمرت الآية بأن لا ينظر إِلى فقر المشهود عليه، ولا إِلى غناه، فإن الله تعالى أولى بالنظر إِليهما. قال عطاء: لا تحيفوا على الفقير، ولا تعظموا الغني، فتمسكوا عن القول فيه. وممن قال: إِن الآية نزلت في الشهادات، ابن عباس، والحسن، ومجاهد، وعكرمة، والزّهريّ، وقتادة، والضحاك.
قوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا فيه أربعة أقوال: أحدها: أن معناه: فلا تتبعوا الهوى، واتقوا الله أن تعدِلوا عن الحق، قاله مقاتل. والثاني: ولا تتبعوا الهوى لتعدلوا، قاله الزجاج. والثالث: فلا تتبعوا الهوى كراهية أن تعدلوا عن الحق. والرابع: فلا تتبعوا الهوى فتعدلوا، ذكرهما الماوردي. قوله
__________
ضعيف، أخرجه الطبري 10683 عن السدي مرسلا. وذكره الواحدي بدون إسناد في «أسباب النزول» 371، وأخرجه ابن أبي حاتم عن السدي كما في «أسباب النزول» للسيوطي.
- وفي الطبري والواحدي وكان- ضلعه- بدلا من وكان- صغوه-.
__________
(1) في «اللسان» : صغا: مال ويقال صغوه معك: أي ميله معك.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 320: وهذه الآية عندي تأديب من الله جل ثناؤه عباده المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذروا بني أبيرق في سرقتهم ما سرقوا، وخيانتهم ما خانوا ممن ذكر قيل، عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشهادتهم لهم عنده بالصلاح. [.....]
(3) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 14/ 137: من لزمته الشهادة، فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد، لا يسعه التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك. وجملته أن أداء الشهادة من فروض الكفايات، فإن تعينت عليه، بأن لا يتحملها من يكفي فيها سواه، لزمه القيام بها. وإن قام بها اثنان غيره، سقط عنه أداؤها إذا قبل الحاكم. فإن كان تحمّلها جماعة، فأداؤها واجب على الكل، إذا امتنعوا أثموا كلهم، كسائر فروض الكفاية. ولا تجوز شهادة الوالدين وإن علوا، للولد وإن سفل، ولا شهادة الولد وإن سفل لهما وإن علوا، وبه قال شريح، والحسن، ومالك والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي.
وروي عن أحمد رواية ثانية، تقبل شهادة الابن لأبيه، ولا تقبل شهادة الأب له، لأن مال الابن في حكم مال الأب، له أن يتملكه إذا شاء لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أنت ومالك لأبيك» . وأما شهادة أحدهما على صاحبه، فتقبل. نصّ عليه أحمد. وهذا قول عامة أهل العلم، ولم أجد في «الجامع» فيه خلافا، وذلك لقوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ. فأمر بالشهادة عليهم، ولو لم تقبل لما أمر بها، ولأنها ردّت للتهمة في إيصال النفع، ولا تهمة في شهادته عليه، فوجب أن تقبل، كشهادة الأجنبي، بل أولى.
وقال بعض الشافعية: لا تقبل شهادة الابن على أبيه في قصاص، ولا حدّ قذف، لأنه لا يقتل بقتله، ولا يحدّ بقذفه، فلا يلزمه ذلك. والمذهب الأوّل، لأنه يتهم له ولا يتهم عليه، فشهادته عليه أبلغ في الصّدق، كإقراره على نفسه.(1/484)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، والكسائي، تلووا، بواوين، الأولى مضمومة، واللام ساكنة. وفي معنى هذه القراءة ثلاثة أقوال: أحدها: أن يلوي الشاهد لسانه بالشهادة إِلى غير الحق. قال ابن عباس: يلوي لسانه بغير الحق، ولا يقيم الشهادة على وجهها، أو يعرض عنها ويتركها. وهذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، وقتادة، والسدي، وابن زيد. والثاني: أن يلوي الحاكم وجهه إِلى بعض الخصوم، أو يُعرِضَ عن بعضهم، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث:
أن يلوي الإِنسان عنقه إِعراضاً عن أمر الله لكبره وعتوِّه. ويكون: «أو تعرضوا» بمعنى: وتعرضوا، ذكره الماوردي. وقرأ الأعمش، وحمزة، وابن عامر: «تلوا» بواو واحدة، واللاّم مضمومة. والمعنى: أن تلوا أمور الناس، أو تتركوا، فيكون الخطاب للحكّام.
[سورة النساء (4) : آية 136]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ في سبب نزولها قولان:
(382) أحدهما: أن عبد الله بن سلام، وأسداً، وأُسيداً ابني كعب، وثعلبة بن قيس، وسلاماً، وسلمة، ويامين. وهؤلاء مؤمنو أهل الكتاب أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله نؤمن بك، وبكتابك، وبموسى، والتوراة، وعزير، ونكفر بما سوى ذلك من الكتاب والرسل، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن مؤمني أهل الكتاب كان بينهم وبين اليهود كلام لما أسلموا، فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل «1» .
وفي المشار إليهم بقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنهم المسلمون، قاله الحسن، فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا بمحمد والقرآن اثبتوا على إِيمانكم. والثاني: اليهود والنصارى، قاله الضحاك، فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى، والتوراة، وبعيسى، والإِنجيل:
آمنوا بمحمد والقرآن. والثالث: المنافقون، قاله مجاهد، فيكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا في الظّاهر بألسنتهم، آمنوا بقلوبكم.
__________
باطل. ذكره البغوي عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط: الكلبي متروك كذاب، وأبو صالح لم يسمع من ابن عباس. وانظر ترجمتهما في «الميزان» . وذكره الواحدي في أسباب النزول 372 عن الكلبي بدون إسناد، وقال الحافظ في «تخريج الكشاف» 1/ 576: ذكره الثعلبي من رواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس.
__________
(1) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان عند الإطلاق، وهو متهم بالوضع، فخبره لا شيء.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 324: يعني الله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بمن قبل محمد من الأنبياء والرسل، وصدّقوا بما جاءوهم به من عند الله، يعني بما هم مؤمنون من الكتاب والرسل، آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ محمد صلّى الله عليه وسلّم وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ فإنكم قد علمتم أن محمدا رسول الله، تجدون صفته في كتبكم، ذلك بأنهم كانوا صنفين: أهل التوراة مصادقين بها وبمن جاء بها، وهم مكذبون بالإنجيل وعيسى ومحمد صلوات الله عليهما، وصنف أهل الإنجيل، وهم مصدقون به وبالتوراة وسائر الكتاب، مكذبون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والفرقان.(1/485)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
قوله تعالى: وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «نزِّل على رسوله، والكتاب الذي أُنزل من قبل» مضمومتين. وقرأ نافع، وعاصم، وحمزة، والكسائي: نَزَلَ على رسوله، والكتاب الذي أنْزَلَ مفتوحتين. والمراد بالكتاب: الذي نزل على رسوله القرآن، والكتاب الذي أنزل من قبل: كل كتاب أنزل قبل القرآن، فيكون «الكتاب» ها هنا اسم جنس.
[سورة النساء (4) : آية 137]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها في اليهود آمنوا بموسى، ثم كفروا بعد موسى، ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمّد عليه السلام، هذا قول ابن عباس. وروي عن قتادة قال: آمنوا بموسى، ثم كفروا بعبادة العجل، ثم آمنوا به بعد عوده، ثم كفروا بعده بعيسى، ثم ازدادوا كفراً بمحمد. والثاني: أنها في اليهود والنصارى، آمن اليهود بالتوراة، وكفروا بالإِنجيل، وآمن النصارى بالإِنجيل. ثم تركوه فكفروا به، ثم ازدادوا كفراً بالقرآن وبمحمد، رواه شيبان عن قتادة. وروي عن الحسن قال: هم قوم من أهل الكتاب، قصدوا تشكيك المؤمنين، فكانوا يظهرون الإيمان ثم الكفر، ثم ازدادوا كفراً بثبوتهم على دينهم. وقال مقاتل: آمنوا بالتوراة وموسى، ثم كفروا من بعد موسى، ثم آمنوا بعيسى والإِنجيل، ثم كفروا من بعده، ثم ازدادوا كفراً بمحمد والقرآن. والثالث: أنها في المنافقين آمنوا، ثم ارتدوا، ثم ماتوا على كفرهم، قاله مجاهد. وروى ابن جريج عن مجاهد ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قال: ثبتوا عليه حتى ماتوا. قال ابن عباس: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ ما أقاموا على ذلك وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أي: لا يجعلهم بكفرهم مهتدين. قال: وإِنما علق امتناع المغفرة بكفر بعد كفر، لأن المؤمن بعد الكفر يُغفرُ له كفره، فإذا ارتدّ طولب بالكفر الأوّل «2» .
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 326: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قول من قال: عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة، ثم كذبوا بخلافهم إياه، ثم أقرّ من أقرّ منهم بعيسى والإنجيل، ثم كذّب به بخلافه إياه، ثم كذّب بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والفرقان، فازداد بتكذيبه كفرا على كفره.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 264: ومن ارتد عن الإسلام من الرّجال والنساء، وكان بالغا عاقلا، دعي إليه ثلاثة أيام، وضيّق عليه، فإن رجع، وإلا قتل. فإنه لا يقتل حتى يستتاب ثلاثا. هذا قول أكثر أهل العلم. وروي عن أحمد، رواية أخرى، أنه لا تجب استتابته، ولكن تستحب. وهذا القول الثاني للشافعي، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من بدّل دينه فاقتلوه» ولم يذكر استتابته. وإن مفهوم كلام الخرقي، أنه إذا تاب قبلت توبته، ولم يقتل أي كفر كان، وهذا مذهب الشافعي. وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار أبي بكر الخلال، وقال إنه أولى على مذهب أبي عبد الله. والرواية الأخرى لا تقبل توبة الزنديق، ومن تكررت ردته.
وهو قول مالك، والليث وإسحاق، وعن أبي حنيفة روايتان كهاتين. فأما من تكررت ردّته فقد قال الله تعالى:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا. وقد روي عن ظبيان بن عمارة، أن رجلا من بني سعد مرّ على مسجد بني حنيفة، فإذا هم يقرءون برجز مسيلمة، فرجع إلى ابن مسعود، فذكر له ذلك، فبعث إليهم، فأتي بهم فاستتابهم فتابوا، فخلّى سبيلهم، إلا رجلا منهم يقال له ابن النّوّاحة. قال: قد أتيت بك مرة فزعمت أنك قد تبت، وأراك عدت. فقتله.(1/486)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
[سورة النساء (4) : آية 138]
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138)
قوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ زعم مقاتل أنه لما نزلت المغفرة في سورة الفتح للنبي والمؤمنين قال عبد الله بن أُبيّ ونفر معه: فما لنا؟ فنزلت هذه الآية «1» . وقال غيره: كان المنافقون يتولَّون اليهود، فأُلحِقوا بهم في التبشير بالعذاب. وقال الزجاج: معنى الآية: اجعل موضع بشارتهم العذاب. والعرب تقول: تحيتك الضَّربُ، أي: هذا بدلٌ لك من التحيّة. قال الشاعر:
وخيلٍ قد دلفتُ لها بخيل ... تحيّة بينهم ضرب وجيع «2»
[سورة النساء (4) : آية 139]
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ قال ابن عباس: يتخذون اليهود أولياء في العون والنُّصرة. قوله تعالى: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ أي: القوة بالظهور على محمد وأصحابه، والمعنى:
أيتقون بهم؟ قال مقاتل: وذلك أن اليهود أعانوا مشركي العرب على قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وقال الزجاج: أيبتغي المنافقون عند الكافرين العزة. و «العزَّة» : المنعة، وشدة الغلبة، وهو مأخوذ من قولهم: أرض عَزاز. قال الأصمعي: العزاز: الأرض التي لا تنبت. فتأويل العزة: الغلبة والشدة التي لا يتعلق بها إذلال. قالت الخنساء:
كَأَنْ لم يكونوا حِمىً يُتَّقَى ... إِذْ النَّاسُ إِذ ذَاكَ مَن عَزّ بَزَّا
أي: من قوي وغَلَبَ سَلبَ. ويقال: قد استُعِزَّ على المريض، أي: اشتد وجعه. وكذلك قول الناس: يَعزُّ عليّ أن يفعل، أي: يشتد، وقولهم: قد عزَّ الشيء: إِذا لم يوجد، معناه: صعب أن يوجد، والباب واحد.
[سورة النساء (4) : آية 140]
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)
قوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ وقرأ عاصم، ويعقوب: «نَزَّل» بفتح النون والزاي.
قال المفسّرون: الذي نزل عليهم في النهي عن مجالستهم، قوله في الأنعام وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ «3» وكان المنافقون يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن ويكذبون به، فنهى الله المسلمين عن مجالستهم. وآيات الله: هي القرآن. والمعنى: إِذا سمعتم الكفر بآيات الله، والاستهزاء بها، فلا تقعدوا معهم حتى يأخذوا في حديث غير الكفر، والاستهزاء. إِنَّكُمْ إِن جالستموهم على ما هم عليه من ذلك، فأنتم مِثْلُهُمْ، وفي ماذا تقع المماثلة فيه، قولان: أحدهما:
__________
(1) باطل. عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم بالوضع، كما تقدم، وخبره لا شيء، ليس له أصل.
(2) في «الخزانة» 4/ 53 قال البغدادي: وهذا البيت نسبه شراح أبيات «الكتاب» وغيرهم إلى عمرو بن معديكرب الصحابي ولم أره في شعره. وفي «اللسان» : دلف: الدّليف: المشي الرّويد. ودلفت الكتيبة إلى الكتيبة في الحرب تقدمت. وجيع أي موجع.
(3) سورة الأنعام: 68.(1/487)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
في العصيان. والثاني: في الرضى بحالهم، لأن مُجالس الكافر غير كافر. وقد نبّهت الآية على التحذير من مجالسة العصاة. قال إِبراهيم النّخعيّ: إنّ الرجل ليجلس فيتكلم بالكلمة، فيرضي الله بها، فتصيبُه الرحمة فتعمُّ من حوله، وإِن الرجل ليجلس في المجلس، فيتكلم بالكلمة، فيسخط الله بها، فيصيبه السّخط، فيعمّ من حوله.
[سورة النساء (4) : آية 141]
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ قال أبو سليمان: هذه الآية نزلت في المنافقين خاصة. قال مقاتل: كان المنافقون يتربصون بالمؤمنين الدوائِر، فإن كان الفتح، قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ؟ فاعطونا من الغنيمة. وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ، أي دولةٌ على المؤمنين، قالوا للكفار: أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ؟
قال المبرِّد: ومعنى: ألم نستحوذ عليكم: ألم نغلبْكم على رأيكم. وقال الزجاج: ألم نغلب عليكم بالموالاة لكم. و «نستحوذ» في اللغة، بمعنى: نستولي، يقال: حُذْت الإِبل، وحُزْتها: إِذا استوليت عليها وجمعتها. وقال غيره: ألم نستول عليكم بالمعونة والنصرة؟ وقال ابن جريج: ألم نبين لكم أنا على دينكم؟ وفي قوله تعالى: وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: نمنعكم منهم بتخذيلهم عنكم. والثاني: بما نعلمكم من أخبارهم. والثالث: بصرفنا إيّاكم عن الدخول عن الإِيمان. ومراد الكلام: إِظهار المنّة من المنافقين على الكفار، أي: فاعرفوا لنا هذا الحق عليكم.
قوله تعالى: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني المؤمنين والمنافقين. قال ابن عباس: يريد أنه أخّر عقاب المنافقين. قوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا سبيل لهم عليهم يوم القيامة، روى يُسيْع الحضرمي عن علي بن أبي طالب أن رجلاً جاءه، فقال: أرأيت قول الله عزّ وجلّ: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون، فقال: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ يوم القيامة عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. هذا مروي عن ابن عباس، وقتادة. والثاني: أن المراد بالسبيل: الظهور عليهم، يعني: أن المؤمنين هم الظاهرون، والعاقبة لهم، وهذا المعنى في رواية عكرمة، عن ابن عباس. والثالث: أن السبيل: الحجة. قال السدي: لم يجعل الله عليهم حجة، يعني فيما فعلوا بهم من القتل والإِخراج من الديار. قال ابن جرير: لما وعد الله المؤمنين أنه لا يدخل المنافقين مدخلهم من الجنة، ولا المؤمنين مدخل المنافقين، لم يكن للكافرين على المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم: أنتم كنتم أعداءنا، وكان المنافقون أولياءنا، وقد اجتمعتم في النار.
[سورة النساء (4) : آية 142]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142)
قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ
أي: يعملون عمل المخادع. وقيل: يخادعون نبيّه،(1/488)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
وهو خادعهم، أي: مجازيهم على خداعهم. وقال الزجاج: لما أمر بقبول ما أظهروا، كان خادعاً لهم بذلك. وقيل: خداعه إِياهم يكون في القيامة بإطفاء نورهم، وقد شرحنا طرفاً من هذا في (البقرة) . قوله تعالى: وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
أي: متثاقلين. وكُسالى
: جمع كسلان، و «الكسل» :
التثاقل عن الأمر. وقرأ أبو عمران الجونيّ: «كسالى» بفتح الكاف، وقرأ ابن السّميقع: «كسلى» ، بفتح الكاف من غير ألف. وإنما كانوا هكذا، لأنهم يصلّون حذراً على دمائهم، لا يرجون بفعلها ثواباً، ولا يخافون بتركها عقابا. قوله تعالى: يُراؤُنَ النَّاسَ
أي: يصلُّون ليراهم الناس. قال قتادة: والله لولا الناس ما صلى المنافق. وفي تسمية ذكرهم بالقليل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه سُمّي قليلاً، لأنه غير مقبول، قاله علي رضي الله عنه، وقتادة. والثاني: لأنه رياء، ولو كان لله لكان كثيراً، قاله ابن عباس، والحسن. والثالث: أنه قليل في نفسه، لأنهم يقتصرون على ما يظهر، دون ما يخفى من القراءة والتّسبيح، ذكره الماورديّ.
[سورة النساء (4) : آية 143]
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)
قوله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ المذبذب: المتردّد بين أمرين، وأصل التذبذب: التحرّك، والاضطراب، وهذه صفة المنافق، لأنه محيّر في دينه لا يرجع إِلى اعتقاد صحيح. قال قتادة: ليسوا بالمشركين المصرّحين بالشرك، ولا بالمؤمنين المخلصين. قال ابن زيد: ومعنى بَيْنَ ذلِكَ: بين الاسلام والكفر، لم يظهروا الكفر فيكونوا إِلى الكفار، ولم يصدّقوا الإِيمان، فيكونوا إِلى المؤمنين.
قال ابن عباس: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا إِلى الهدى.
(383) وقد روى ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مثل المنافق: مثل الشاة العائِرة «1» بين الغنمين تُعيرُ إِلى هذه مرةً، وإِلى هذه مرة، ولا تدري أيّها تتبّع» .
[سورة النساء (4) : آية 144]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144)
قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ في المراد بالكافرين قولان:
أحدهما: اليهود، قاله ابن عباس. والثاني: المنافقون، قال الزجاج: ومعنى الآية: لا تجعلوهم بطانتكم وخاصّتكم. والسلطان: الحجة الظاهرة، وإنما قيل للأمير: سلطان، لأنه حجة الله في أرضه، واشتقاق السلطان: من السليط. والسَّليط: ما يستضاء به، ومن هذا قيل للزيت: السَّليط. والعرب تؤنِّث السلطان وتذكِّره، تقول: قضت عليك السلطان، وأمرتك السلطان، والتذكير أكثر، وبه جاء القرآن، فمن أنَّث، ذهب إِلى معنى الحجة، ومن ذكَّر، أراد صاحب السلطان. قال ابن الأنباريّ: تقدير
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2784 والنسائي 8/ 124 وأحمد 2/ 102 و 143 والرامهرمزي في «الأمثال» ص 86 من طرق عن عبد الله بن عمر.
__________
(1) العائرة: المترددة الحائرة لا تدري أيهما تتبع.(1/489)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
الآية: أتريدون أن تجعلوا لله عليكم بموالاة الكافرين حجة بيِّنة تلزمكم عذابه، وتكسبكم غضبه؟
[سورة النساء (4) : آية 145]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145)
قوله تعالى: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: بفتح الراء، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وخلف: بتسكين الراء. قال الفراء: وهي لغتان. قال أبو عبيدة: جهنم أدراك، أي: منازلٌ، وأطباق. فكل منزل منها: درك. وحكى ابن الأنباري عن بعض العلماء أنه قال: الدركات: مراق، بعضها تحت بعض. وقال الضحاك: الدرج: إِذا كان بعضها فوق بعضها، والدرك: إِذا كان بعضها أسفل من بعض. وقال ابن فارس: الجنة درجات، والنار دركات.
وقال ابن مسعود في هذه الآية: هم في توابيت من حديد مبهمة عليهم. قال ابن الأنباري: المبهمة:
التي لا أقفال عليها، يقال: أمرٌ مبهم: إذا كان ملتبسا ولا يعرف معناه، ولا بابه.
قوله تعالى: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً قال ابن عباس: مانعاً من عذاب الله.
[سورة النساء (4) : آية 146]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا قال مقاتل: سبب نزولها: أن قوماً قالوا عند ذكر مستقر المنافقين: فقد كان فلان وفلان منافقين، فتابوا، فكيف يُفْعَل بهم؟ فنزلت هذه الآية «1» . ومعنى الآية:
إِلا الذين تابوا من النفاق وَأَصْلَحُوا أعمالهم بعد التوبة وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ أي: استمسكوا بدينه.
وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ فيه قولان:
أحدهما: أنه الإِسلام، وإِخلاصه: رفع الشرك عنه، قاله مقاتل.
والثاني: أنه العمل، وإِخلاصه: رفع شوائِب النفاق والرياء منه، قاله أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ في «مع» قولان:
أحدهما: أنها على أصلها، وهو الاقتران. وفي ماذا اقترنوا بالمؤمنين؟ فيه قولان:
أحدهما: في الولاية، قاله مقاتل. والثاني: في الدين والثواب. قاله أبو سليمان.
والثاني: أنها بمعنى «مِن» فتقديره: فأولئك من المؤمنين، قاله الفراء.
[سورة النساء (4) : آية 147]
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)
قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ «ما» حرف استفهام، ومعناه: التقرير، أي: إِن الله لا يعذِّب الشاكر المؤمن، ومعنى الآية: ما يصنع الله بعذابكم إِن شكرتم نعمه، وآمنتم به وبرسوله.
والإيمان مقدّم في المعنى وإِن أخِّر في اللفظ. وروي عن ابن عباس أن المراد بالشكر: التوحيد. قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً أي: للقليل من أعمالكم، عليما بنيّاتكم، وقيل: شاكرا، أي: قابلا.
__________
(1) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط، وتقدم.(1/490)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
[سورة النساء (4) : آية 148]
لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148)
قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ في سبب نزولها قولان:
(384) أحدهما: أن ضيفاً تضيّف قوماً فأساؤوا قِراهُ فاشتكاهم، فنزلت هذه الآية رخصةً في أن يشكوا، قاله مجاهد.
(385) والثاني: أن رجلاً نال من أبي بكر الصّدّيق والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم حاضر، فسكت عنه أبو بكر مراراً، ثم ردّ عليه، فقام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو بكر: يا رسول الله شتمني فلم تقل له شيئاً، حتى إِذا رددت عليه قمت؟! فقال: «إِن ملكا كان يجيب عنك، فلما رددت عليه، ذهب الملك، وجاء الشيطان» فنزلت هذه الآية، هذا قول مقاتل.
واختلف القراء في قراءة إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فقرأ الجمهور بضم الظاء، وكسر اللام. وقرأ عبد الله بن عمرو، والحسن، وابن المسيب، وأبو رجاء، وسعيد بن جبير، وقتادة، والضحاك، وزيد بن أسلم، بفتحهما. فعلى قراءة الجمهور، في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: إِلا أن يدعو المظلوم على مَن ظلمه، فإن الله قد أرخص له، قاله ابن عباس. والثاني: إِلا أن ينتصر المظلومُ من ظالمه، قاله الحسن، والسدي. والثالث: إِلا أن يخبر المظلوم بظلم من ظلمه، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. وروى ابن جريج عنه قال: إِلا أن يجهر الضيف بذم من لم يضيفه. فأما قراءة مَن فتح الظاء، فقال ثعلب: هي مردودة على قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِلا من ظلم. وذكر الزجاج فيها قولين: أحدهما:
أن المعنى: إِلا أن الظالم يجهر بالسوء ظلماً. والثاني: إِلا أن تجهروا بالسوء للظالم. فعلى هذا تكون «إِلا» في هذا المكان استثناءً منقطعاً، ومعناها: لكن المظلوم يجوز له أن يجهرَ لظالمه بالسوء. ولكن الظالم قد يجهر بالسوء. واجهروا له بالسوء. وقال ابن زيد: إِلا من ظلم، أي: أقام على النفاق، فيجهر له بالسوء حتى يَنْزِع.
قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً أي: لما تجهرون به من سوء القول عَلِيماً بما تخفون. وقيل:
سميعاً لقول المظلوم، عليماً بما في قلبه، فليتق الله، ولا يقل إِلا الحق. وقال الحسن: من ظُلِم، فقد رخّص له أن يدعو على ظالمه من غير أن يعتدي، مثل أن يقول: اللهم أعني عليه، اللهم استخرج لي حقي، اللهم حل بينه وبين ما يريد.
__________
ضعيف، أخرجه عبد الرزاق 654 والطبري 10758 عن مجاهد مرسلا، فهو ضعيف.
وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 373 بدون إسناد والبغوي في «التفسير» 1/ 494 عن مجاهد.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو واه. وورد دون ذكر الآية ونزولها. أخرجه أبو داود 4896 عن سعيد بن المسيب مرسلا. وأخرجه برقم 4897 من طريق ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بنحوه متصلا، وإسناده حسن لأجل محمد بن عجلان. وقال المنذري في «الترغيب» 4051 رواه أبو داود هكذا مرسلا ومتصلا من طريق عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة بنحوه، وذكر البخاري في تاريخه أن المرسل أصح. ولفظ مرسل سعيد بن المسيب: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس ومعه أصحابه وقع رجل بأبي بكر فآذاه، فصمت عنه أبو بكر، ثم آذاه الثانية، فصمت عنه أبو بكر ثم آذاه الثالثة، فانتصر منه أبو بكر، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين انتصر أبو بكر، فقال أبو بكر: أوجدت علي يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «نزل ملك من السماء يكذّبه بما قال لك، فلما انتصرت وقع الشيطان، فلم أكن لأجلس إذ وقع الشيطان» .(1/491)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
[سورة النساء (4) : آية 149]
إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)
قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً قال ابن عباس: يريد من أعمال البرِّ كالصيام والصدقة. وقال بعضهم: إِن تبدوا خيراً بدلاً من السوء. وأكثرهم على أن «الهاء» في تُخْفُوهُ تعود إِلى الخير. وقال بعضهم: تعود إِلى السوء. قوله تعالى: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قال أبو سليمان: أي: لم يزل ذا عفوٍ مع قدرته، فاعفوا أنتم مع القدرة.
[سورة النساء (4) : آية 150]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود، كانوا يؤمنون بموسى، وعزير، والتّوراة، ويكافرون بعيسى، والإِنجيل، ومحمد، والقرآن، قاله ابن عباس.
والثاني: أنهم اليهود والنصارى، آمَن اليهود بالتوراة وموسى، وكفروا بالإِنجيل وعيسى، وآمن النصارى بالإِنجيل وعيسى، وكفروا بمحمد والقرآن، قاله قتادة.
ومعنى قوله تعالى: وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ أي: يريدون أن يفرّقوا بين الإِيمان بالله، والإِيمان برسله، ولا يصح الإِيمان به والتكذيب برسله أو ببعضهم وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ أي: بين إِيمانهم ببعض الرُسُلِ، وتكذيبهم ببعض سَبِيلًا أي: مذهباً يذهبون إِليه، وقال ابن جريج: دينا يدينون به.
[سورة النساء (4) : الآيات 151 الى 152]
أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا ذكر «الحقّ» هاهنا توكيا لكفرهم إزالةً لتَوَهُّم مَن يتوهم أن إِيمانهم ببعض الرّسل يزيل عنهم اسم الكفر.
[سورة النساء (4) : آية 153]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153)
قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال «1» :
أحدها: أنهم سألوه أن ينزِّل كتاباً عليهم خاصّة، هذا قول الحسن، وقتادة.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 346: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن أهل التوراة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يسأل ربه أن ينزل عليهم كتابا من السماء، آية معجزة جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها، شاهدة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالصدق، آمرة لهم باتباعه.(1/492)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
(386) والثاني: أن اليهود والنصارى أتوا إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: لا نُبايعك حتى تأتينا بكتابٍ من عند الله إِلى فلان أنك رسول الله، وإِلى فلان بكتاب أنك رسول الله، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن جريج.
(387) والثالث: أن اليهود سألوا النبيّ عليه السلام أن ينزل عليهم كتاباً من السماء مكتوباً كما نزلت التوراة على موسى، هذا قول القرظي، والسدي.
وفي المراد بأهل الكتاب قولان: أحدهما: اليهود والنصارى. والثاني: اليهود. وفي المراد بالكتاب المنزّل من السماء قولان: أحدهما: كتاب مكتوب غير القرآن. والثاني: كتاب بتصديقه في رسالته. وقد بيّنا في البقرة معنى سؤالهم رؤية الله جهرة، واتّخاذهم العجل. والْبَيِّناتُ الآيات التي جاء بها موسى. فإن قيل: كيف قال: ثم اتخذوا العجل، و «ثم» تقتضي التراخي، والتأخر، أفكان اتخاذ العجل بعد قولهم: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً؟ فعنه أربعة أجوبة: ذكرهن ابن الأنباري. أحدهن: أن تكون «ثم» مردودة على فعلهم القديم، والمعنى: وإِذْ وَعَدْنا موسى أربعين فخالفوا أيضاً، ثم اتخذوا العجل.
والثاني: أن تكون مقدمة في المعنى، مؤخّرة في اللفظ، والتقدير: فقد اتخذوا العجل، ثم سألوا موسى أكبر من ذلك، ومثله فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ «1» المعنى: فألقه إِليهم، ثم انظر ماذا يرجعون، ثم تول عنهم. والثالث: أن المعنى، ثم كانوا اتخذوا العجل، فأضمر الكون. والرابع: أن ثم معناها التأخير في الإِخبار، والتقديم في الفعل، كما يقول القائِل: شربت الماء، ثم أكلت الخبز، يريد:
شربت الماء، ثم أخبركم أني أكلت الخبز بعد إِخباري بشرب الماء.
قوله تعالى: فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ أي: لم نستأصل عبدة العجل. و «السلطان المبين» : الحجّة البيّنة. قال ابن عباس: اليد والعصا. وقال غيره: الآيات التّسع.
[سورة النساء (4) : آية 154]
وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)
قوله تعالى: وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ أي: بما أعطوا الله من العهد والميثاق: ليعملُنَّ بما في التوراة. قوله تعالى: لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ قرأ نافع: «لا تعْدُّوا» بتسكين العين وتشديد الدال، وروى عنه ورش «تَعَدُّوا» بفتح العين وتشديد الدال، وقرأ الباقون «تَعْدوا» خفيفة، وقد ذكرنا هذا وغيره في البقرة. و «الميثاق الغليظ» : العهد المؤكّد.
__________
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 10776 عن ابن جريج، وهذا معضل، وما يرسله ابن جريج واه، ليس بشيء.
قال الذهبي في «الميزان» 2/ 659: قال الإمام أحمد: بعض هذه الأحاديث التي كان يرسلها ابن جريج أحاديث موضوعة.
ضعيف. أخرجه الطبري 10773 عن السدي مرسلا. وبرقم 10774 عن كعب القرظي.
__________
(1) سورة النمل: 28.(1/493)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
[سورة النساء (4) : آية 155]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155)
قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ «ما» صلة مؤكّدة. قال الزجاج: والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم، وهو أن الله أخذ عليهم الميثاق أن يُبيّنوا ما أنزل عليهم من ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وغيره. والجالب للباء العامل فيها، وقوله تعالى: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ «1» أي: بنقضهم ميثاقهم، والأشياء التي ذكرت بعده حرّمنا عليهم. وقوله تعالى: فَبِظُلْمٍ «2» بدل من قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ. وجعل الله جزاءهم على كفرهم أن طبع على قلوبهم. وقال ابن فارس: الطّبع: الختم ومن ذلك طبع الله على قلب الكافر كأنه ختم عليه حتى لا يصل إِليه هدى ولا نور فلم يوفّق لخير، والطابع: الخاتم يختم به. قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا فيه قولان: أحدهما: فلا يؤمن منهم إِلا القليل، وهم عبد الله بن سلام، وأصحابه، قاله ابن عباس. والثاني: المعنى: إِيمانهم قليل، وهو قولهم: ربنا الله، قاله مجاهد.
[سورة النساء (4) : آية 156]
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156)
قوله تعالى: وَبِكُفْرِهِمْ في إِعادة ذكر الكفر فائِدة وفيها قولان: أحدهما: أنه أراد: وبكفرهم بمحمد والقرآن، قاله ابن عباس. والثاني: وبكفرهم بالمسيح، وقد بشروا به، قاله أبو سليمان الدمشقي. فأما «البهتان» فهو في قول الجماعة: قذفهم مريم بالزّنى.
[سورة النساء (4) : الآيات 157 الى 158]
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)
قوله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ قال الزجاج: أي باعترافهم بقتلهم إِيَّاه، وما قتلوه، يُعذَّبون عذابَ من قتل، لأنهم قتلوا الذي قتلوا على أنّه نبي.
وفي قوله تعالى: رَسُولَ اللَّهِ قولان: أحدهما: أنه من قول اليهود، فيكون المعنى: أنه رسول الله على زعمه. والثاني: أنه من قول الله، لا على وجه الحكاية عنهم.
قوله تعالى: وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ أي: أُلقِي شبهُه على غيره. وفيمن أُلقي عليه شبهه قولان:
أحدهما: أنه بعض من أراد قتله من اليهود. روى أبو صالح عن ابن عباس: أن اليهود لما اجتمعت على قتل عيسى، أدخله جبريل خوخة لها رَوزنة «3» ، ودخل وراءه رجل منهم، فألقى الله عليه شبه عيسى، فلما خرج على أصحابه، قتلوه يظنونه عيسى، ثم صلبوه، وبهذا قال مقاتل وأبو سليمان. والثاني: أنه رجُلٌ من أصحاب عيسى، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن عيسى خرج على أصحابه لما أراد الله رفعه، فقال: أيكم يُلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي؟ فقام شابّ، فقال:
__________
(1) سورة النساء: 160.
(2) سورة النساء: 160. [.....]
(3) الروزنة: الكوّة، وقيل: الخرق في أعلى السقف، ويقال للكوّة النافذة: الرّوزن.(1/494)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
أنا، فقال: اجلس، ثم أعاد القول، فقام الشاب، فقال عيسى: اجلس، ثم أعاد، فقال الشاب: أنا، فقال: نعم أنت ذاك، فألقي عليه شبه عيسى، ورفع عيسى، وجاء اليهود، فأخذوا الرجل، فقتلوه، ثم صلبوه «1» . وبهذا القول قال وهب بن منبه، وقتادة، والسدي.
قوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ في المختلفين قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، فعلى هذا في هاء «فيه» قولان: أحدهما: أنها كناية عن قتله، فاختلفوا هل قتلوه أم لا؟ وفي سبب اختلافهم في ذلك قولان: أحدهما: أنهم لما قتلوا الشخص المشبّه كان الشبه قد أُلقي على وجهه دون جسده، فقالوا: الوجه وجه عيسى، والجسد جسد غيره، ذكره ابن السائب.
والثاني: أنهم قالوا: إِن كان هذا عيسى، فأين صاحبنا؟ وإِن كان هذا صاحبنا، فأين عيسى يعنون الذي دخل في طلبه، هذا قول السدي. والثاني: أن «الهاء» كناية عن عيسى، واختلافهم فيه قول بعضهم:
هو ولد زنى، وقول بعضهم، هو ساحر.
والثاني: أن المختلفين النصارى، فعلى هذا في هاء «فيه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى قتله، هل قتل أم لا؟ والثاني: أنها ترجع إِليه، هل هو إِله أم لا؟
وفي هاء «منه» قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى قتله. والثاني: إِلى نفسه، هل هو إِلهٌ، أم لغيرِ رشدة «2» ، أم هو ساحر؟
قوله تعالى: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ قال الزجاج: «اتباع» منصوب بالاستثناء، وهو استثناء ليس من الأول. والمعنى: ما لهم به من علم إِلا أنهم يتبعون الظن، وإِن رُفع جاز على أن يجعل علمهم اتباع الظن، كما تقول العرب: تحيّتك الضّرب.
قوله تعالى: وَما قَتَلُوهُ في «الهاء» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها ترجع إِلى الظن فيكون المعنى: وما قتلوا ظنّهم يقيناً، هذا قول ابن عباس.
والثاني: أنها ترجع إِلى العلم، أي: ما قتلوا العلم به يقيناً، تقول: قتلته يقيناً، وقتلته علماً للرأي والحديث. هذا قول الفراء، وابن قتيبة. قال ابن قتيبة: وأصل هذا: أن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء وغلبة، يقول: فلم يكن علمهم بقتل المسيح علماً أحيط به، إِنما كان ظناً.
والثالث: أنها ترجع إلى عيسى، فيكون المعنى: وما قتلوا عيسى حقاً، هذا قول الحسن، وقال ابن الأنباري: اليقين مؤخر في المعنى، فالتقدير: وما قتلوه، بل رفعه الله إليه يقينا.
[سورة النساء (4) : آية 159]
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)
قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قال الزجاج: المعنى: وما منهم أحد إلّا ليؤمننّ
__________
(1) ذكره ابن كثير في «تفسيره» 1/ 587 وقال: وكان من خبر اليهود عليهم لعائن الله وغضبه وسخطه وعقابه أنه لما بعث الله عيسى ابن مريم ... وذكر القصة. وأخرجه الطبري 10784 و 10785 عن وهب بن المنبه. وبرقم 10786 و 10787 عن قتادة. وبرقم 10788 عن السدي، وليس فيهم رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس.
فهذه روايات عن أهل الكتاب يستأنس بها، ولا يحتجّ، فالله أعلم.
(2) في «اللسان» : وهو لرشدة، وهو نقيض زنية. هذا ولد رشدة: إذا كان لنكاح صحيح.(1/495)
به، ومثله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «1» . وفي أهل الكتاب قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله ابن عباس.
والثاني: اليهود والنصارى، قاله الحسن، وعكرمة. وفي هاء «به» قولان: أحدهما: أنها راجعة إلى عيسى، قاله ابن عباس: والجمهور. والثاني: أنها راجعة إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله عكرمة. وفي هاء «موته» قولان «2» :
أحدهما: أنها ترجع إِلى المؤمِن. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ليس يهودي يموتُ أبداً حتى يؤمن بعيسى، فقيل لابن عباس: إِن خرّ من فوق بيْت؟ قال: يتكلم به في الهُويِّ «3» . قال:
وهي في قراءة أُبي: «قبل موتهم» ، وهذا قول مجاهد، وسعيد بن جبير. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: يؤمن اليهودي قبل أن يموت، ولا تخرج روح النصراني حتى يشهد أن عيسى عبد. وقال عكرمة:
لا تخرج روج اليهوديّ والنّصرانيّ حتى يؤمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم.
والثاني: أنها تعود إِلى عيسى، روى عطاء عن ابن عباس قال: إِذا نزل إِلى الأرض لا يبقى يهودي ولا نصراني، ولا أحدٌ يعبد غير الله إِلا اتّبعه، وصدّقه، وشهد أنه روح الله، وكلمته، وعبده
__________
(1) سورة مريم: 71.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 360: وأولى الأقوال بالصواب والصحة، قول من قال: تأويل ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 590: لا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك، ثم إنه رفعه إليه وإنه باق حي وإنه سينزل قبل يوم القيامة كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، فيقتل مسيح الضلالة ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية، يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف، فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم ولهذا قال: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ أي موت عيسى عليه السلام الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي بأعمالهم التي شاهدها قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض.
فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة والسلام، فهذا هو الواقع، وذلك أن كل واحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلا به فيؤمن به ولكن لا يكون ذلك إيمانا نافعا له إذا كان قد شاهد الملك كما قال الله تعالى في أول هذه السورة: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ الآية وقال تعالى: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ الآيتين، وهذا يدل على ضعف ما احتج به ابن جرير في ردّ هذا القول حيث قال: ولو كان المراد بهذه الآية هذا لكان كل من آمن بمحمد صلّى الله عليه وسلّم أو بالمسيح ممن كفر بهما يكون على دينهما حينئذ لا يرثه أقرباؤه من أهل دينه لأنه قد أخبر الصادق أنه يؤمن به قبل موته، فهذا ليس بجيد إذ لا يلزم من إيمانه في حالة لا ينفعه إيمانه أنه يصير بذلك مسلما ألا ترى قول ابن عباس: ولو تردّى من شاهق أو ضرب سيف أو افترسه سبع فإنه لا بد أن يؤمن بعيسى فالإيمان به في هذه الحال ليس بنافع ولا ينقل صاحبه عن كفره لما قدمناه والله أعلم. ومن تأمل هذا جيدا وأمعن النظر اتضح له أنه هو الواقع لكن لا يلزم منه أن يكون المراد بهذه الآية هذا بل المراد بها ما ذكرناه من تقرير وجود عيسى عليه السلام وبقاء حياته في السماء وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ليكذّب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت أقوالهم فيه وتصادمت وتعاكست وتناقضت وخلت عن الحق.
(3) في «اللسان» : هوى، يهوي هويّا: إذا سقط من فوق إلى أسفل.(1/496)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
ونبيّه. وهذا قول قتادة، وابن زيد، وابن قتيبة، واختاره ابن جرير، وعن الحسن كالقولين وقال الزجاج: هذا بعيدٌ، لعموم قوله: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ والذين يبقوْن حينئِذ شرذمة منهم، إِلا أن يكون المعنى: أنهم كلهم يقولون: إن عيسى الذي ينزل لقتل الدجّال نؤمن به.
قوله تعالى: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قال قتادة: يكون عليهم شهيداً أنه قد بلَّغ رسالات ربه، وأقرّ بالعبودية على نفسه.
[سورة النساء (4) : آية 160]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160)
قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا قال مقاتل: حرّم الله على أهل التوراة الربا، وأن يأكلوا أموال الناس ظلماً، ففعلوا، وصدوا عن دين الله، وعن الإِيمان بمحمد عليه السلام، فحرّم الله عليهم ما ذكر في قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ «1» عقوبة لهم. قال أبو سليمان:
وظلمهم: نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وما ذكر في الآيات قبلها. وقال مجاهد: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال: صدّهم أنفسهم وغيرهم عن الحق. قال ابن عباس: صدهم عن سبيل الله، يعني الإِسلام، وأكلهم أموال الناس بالباطل، أي: بالكذب على دين الله، وأخذ الرُّشى على حكم الله، وتبديل الكتاب التي أنزلها الله ليستديموا المأكل.
[سورة النساء (4) : آية 161]
وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)
قوله تعالى: وَأَعْتَدْنا أي: أعددنا للكافرين، يعني اليهود، وقيل: إِنما قال «منهم» ، لأنه علم أنّ قوما منهم يؤمنون، فيأمنون العذاب.
[سورة النساء (4) : آية 162]
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
قوله تعالى: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ قال ابن عباس: هذا استثناء لمؤمني أهل الكتاب، فأما الراسخون، فهم الثّابتون في العلم. قال أبو سليمان: وهم عبد الله بن سلام، ومَن آمَن معه، والذين آمنوا من أهل الإِنجيل ممّن قَدِمَ مع جعفر من الحبشة، والمؤمنون، يعني أصحاب رسول الله. فأما قوله تعالى: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ فهم القائمون بأدائها كما أُمروا.
وفي نصب «المقيمين» أربعة أقوال: أحدها: أنه خطأٌ من الكاتب، وهذا قول عائشة «2» ، وروي عن عثمان بن عفان أنه قال: إِن في المصحف لحنا ستقيمه العرب بألسنتها «3» . وقد قرأ ابن مسعود،
__________
(1) سورة الأنعام: 146.
(2) خبر عائشة، أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص 160- 161 والطبري 10843 من طريق أبي معاوية عن هشام بن عروة عن أبيه عنها، وهذا إسناد رجاله ثقات، لكن في رواية أبي معاوية عن هشام اضطراب إلى عائشة، أبو معاوية هو محمد بن حازم، ويحمل هذا على اجتهاد من عائشة رضي الله عنها، والجمهور على خلافه، وهذا إن ثبت عنها ذلك.
(3) لا يصح مثل هذا عن عثمان بن عفان رضي الله عنه. أخرجه أبو عبيد في «فضائل القرآن» ص 159- 160 ح 20/ 49 وابن أبي داود في «المصاحف» ص 42 كلاهما عن الزبير بن خرّيت عن عكرمة، وهذا مرسل، فهو ضعيف. وأخرجه ابن أبي داود ص 41 عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر القرشي، وهذا معضل مع جهالة القرشي هذا، وكرره من وجه آخر عن قتادة، وهو مرسل ومع إرساله فيه من لم يسمّ، وكرره ص 41- 42 من وجه آخر عن قتادة عن نصر بن عاصم الليثي عن عبد الله بن خطيم عن يحيى بن يعمر عن عثمان به، وهذا إسناد ضعيف لجهالة ابن خطيم هذا، وهذه الروايات جميعا واهية لا تقوم بها حجة.(1/497)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
وأُبيّ، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والجحدري: «والمقيمون الصلاة» بالواو. وقال الزجاج: قول من قال إِنه خطأ، بعيدٌ جداً، لأن الذين جمعوا القرآن هم أهل اللغة، والقدوة، فكيف يتركون في كتاب الله شيئاً يُصلِحُه غيرهم؟! فلا ينبغي أن ينسب هذا إليهم. وقال الأنباري: حديثُ عثمان لا يصح، لأنه غير متصل، ومحال أن يؤخر عثمان شيئاً فاسداً، ليُصلحه من بعده. والثاني: أنه نسقٌ على «ما» والمعنى يؤمنون بما أنزل إِليك، وبالمقيمين الصلاة، فقيل: هم الملائكة، وقيل: الأنبياء. والثالث: أنه نسقٌ على الهاء والميم من قوله مِنْهُمْ فالمعنى: لكن الراسخون في العلم منهم، ومن المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إِليك. قال الزجاج: وهذا رديء عند النحويين، لا ينسق بالظاهر المجرور على المضمر المجرور إِلا في الشّعر. والرابع: أنه منصوبٌ على المدح، فالمعنى: اذكر المقيمين الصلاة، وهم المؤتون الزكاة. وأنشدوا:
لا يَبْعَدَنْ قومي الذين هُمُ ... سُمُّ العُداة وآفةُ الجُزْرِ
النازلين بكلِّ معترَكٍ ... والطيبون مَعاقِدَ الأُزْرِ «1»
وهذا على معنى: اذكر النازلين، وهم الطيبون، ومن هذا قولك: مررت بزيد الكريمِ، إن أردت أن تخلصَه من غيره. فالخفض هو الكلام، وإِن أردت المدح والثناء، فإن شئت نصبت، فقلت: بزيد الكريمَ، كأنك قلت: اذكر الكريم، وإِن شئت رفعت على معنى: هو الكريمُ. وتقول: جاءني قومك المطعمين في المحْل، والمغيثون في الشدائِد على معنى: اذكر المطعمين، وهم المغيثون، وهذا القول اختيار الخليل، وسيبويه. فهذه الأقوال حكاها الزجاج، واختار هذا القول.
[سورة النساء (4) : آية 163]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163)
قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قال ابن عباس: قال عدي بن زيد، وسُكين: يا محمد ما نعلم الله أنزل على بشرٍ من شيءٍ بعد موسى، فنزلت هذه الآية. وقد ذكرنا في «آل عمران» معنى الوحي، وذكرنا نوحا هنالك. وإِسحاق: أعجمي، وإِن وافق لفظ العربي، يقال: أسحقه الله يسحقه إِسحاقاً، ويعقوب: أعجمي. فأما اليعقوب، وهو ذكر الحجل وهي القبج «2» فعربيّ، كذلك قرأته على شيخنا أبي
__________
(1) البيتان للخرنق بنت هفان من قصيدة رثت بها زوجها بشر بن عمرو بن مرثد الضبعي وابنها علقمة، وأخويها حسان وشرحبيل، ومن قتل معه من قومه. كما في «الخزانة» 2/ 301. والآفة: العلّة. والجزر: جمع جزور، وهي الناقة التي تنحر. والطيبون معاقد الأزر: من عادة العرب إذا وصفوا الرجل بطهارة الإزار وطيبه فهو إشارة وكناية عن عفة الفرج.
(2) في «اللسان» : القبج: الكروان، معرّب، وهو بالفارسية كبج، والقاف والجيم لا يجتمعان في كلمة واحدة من كلام العرب.(1/498)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
منصور اللغوي، وأيوب: أعجمي، ويونس: اسم أعجمي. قال أبو عبيدة، يقال: يُونُس ويُونِس بضم النون وكسرها، وحكى أبو زيد الأنصاري عن العرب همزة مع الكسرة والضمّة والفتحة. وقال الفراء:
يونس بضم النون من غير همز لغة أهل الحجاز، وبعض بني أسد يقول: يؤنس بالهمز، وبعض بني عُقيل يقول: يونس بفتح النون من غير همز. والمشهور في القراءة يونُس برفع النون من غير همز. وقد قرأ ابن مسعود، وقتادة، ويحيى بن يعمر، وطلحة: يؤنس بكسر النون مهموزا. وقرأ أبو الجوزاء وأبو عمران والجحدري: يُونَس بفتح النون من غير همز. وقرأ أبو المتوكل: يؤنس بفتح النون مهموزاً. وقرأ أبو السّماك العدوي: يونِس بكسر النون من غير همز. وقرأ عمرو بن دينار برفع النون مهموزاً.
وهارون: اسمٌ أعجمي، وباقي الأنبياء قد تقدم ذكرهم. فأما الزبور، فأكثر القرّاء على فتح الزَاي، وقرأ أبو رزين، وأبو رجاء، والأعمش، وحمزة بضم الزاي. قال الزجاج: فمن فتح الزاي، أراد: كتاباً، ومن ضم، أراد: كتُباً. ومعنى ذكر «داود» أي: لا تنكروا تفضيل محمد بالقرآن، فقد أعطى الله داود الزبور. وقال أبو علي: كأنَّ حمزة جعل كتاب داود أنحاء، وجعل كلَّ نحو زبراً، ثم جمع، فقال:
زُبُوراً. وقال ابن قتيبة: الزَّبُور فَعُول بمعنى مفعول، كما تقول: حلوب وركوب بمعنى: محلوب ومركوب، وهو من قولك: زبرت الكتاب أزبره زبراً: إِذا كتبته، قال: وفيه لغة أخرى: الزُبور بضم الزاي، كأنه جمع.
[سورة النساء (4) : آية 164]
وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164)
قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً تأكيد كلّم بالمصدر يدل على أنه سمع كلام الله حقيقة.
روى أبو سليمان الدمشقي، قال: سمعت إِسماعيل بن محمد الصفّار يقول: سمعت ثعلبا يقول: لولا أن الله تعالى أكّد الفعل بالمصدر، لجاز أن يكون كما يقول أحدنا للآخر: قد كلمتُ لك فلاناً، بمعنى:
كتبت إِليه رقعة، أو بعثت إِليه رسولاً، فلما قال: تكليماً، لم يكن إِلا كلاماً مسموعا من الله.
[سورة النساء (4) : آية 165]
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)
قوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ أي: لئلا يحتجوا في ترك التوحيد والطاعة بعدم الرسل، لأن هذه الأشياء إِنما تجب بالرّسل.
[سورة النساء (4) : آية 166]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166)
قوله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ في سبب نزولها قولان:
(388) أحدهما: أن النبي عليه السلام دخل على جماعة من اليهود، فقال: «إِني والله أعلم أنكم لتعلمون أني رسول الله» ، فقالوا: ما نعلم ذلك. فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
(389) والثاني: أن رؤساء أهل مكّة أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: سألنا عنك اليهود، فزعموا أنّهم
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 10854 عن ابن عباس به بسند ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد شيخ ابن إسحاق.
باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 375 عن الكلبي بدون إسناد، والكلبي متهم بالوضع، فخبره لا شيء، بل هو باطل، فإن سورة النساء مدنية وسؤالات أهل مكة ومجادلاتهم مكية.(1/499)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
لا يعرفونك، فائتنا بمن يشهد لك أن الله بعثك، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن السائب.
قال الزجاج: الشاهد: المبيِّن لما يشهد به، فالله عزّ وجلّ بيَّن ذلك، ويعلم مع إِبانته أنه حق.
وفي معنى أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: أنزله وفيه علمه، قاله الزجاج. والثاني: أنزله من علمه، ذكره أبو سليمان الدمشقي. والثالث: أنزله إِليك بعلمٍ منه أنك خيرته من خلقه، قاله ابن جرير.
قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ، فيه قولان: أحدهما: يشهدون أنَّ الله أنزله. والثاني: يشهدون بصدقك. قوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً قال الزجاج: «الباء» دخلت مؤكِّدة. والمعنى: اكتفوا بالله في شهادته.
[سورة النساء (4) : آية 167]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال مقاتل وغيرُهُ: هُم اليهود كفروا بمحمد، وصدُّوا الناس عن الإِسلام. قال أبو سليمان: وكان صدُّهم عن الإِسلام قولهم للمشركين ولأتباعهم: ما نجد صفة محمد في كتابنا.
[سورة النساء (4) : الآيات 168 الى 169]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا قال مقاتل وغيره: هم اليهود أيضاً كفروا بمحمد والقرآن.
وفي الظلم المذكور هاهنا قولان: أحدهما: أنه الشرك، قاله مقاتل. والثاني: أنه جحدهم صفة محمّد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم. قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ يريد من مات منهم على الكفر. وقال أبو سليمان: لم يكن الله ليستر عليهم قَبيح فعالهم، بل يفضحهم في الدنيا، ويعاقبهم بالقتل والجلاء والسّبي، وفي الآخرة بالنار وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً ينجون فيه. وقال مقاتل: طريقاً إِلى الهدى وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً يعني كان عذابهم على الله هيّنا.
[سورة النساء (4) : آية 170]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ الكلام عامّ، وروي عن ابن عباس أنه قال: أراد المشركين. قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ أي: بالهدى، والصدق. قوله تعالى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ قال الزجاج عن الخليل وجميع البصريين: إنه منصوبٌ بالحمل على معناه، لأنك إِذا قلت: انته خيراً لك، وأنت تدفعه عن أمرٍ فتدخله في غيره، كان المعنى: انته وأتِ خيراً لك، وادخل في ما هو خير لك. وأنشد الخليل وسيبويه قول عمر بن أبي ربيعة:
فواعديه سَرْحَتَيْ مالك ... أَوِ الرُّبا بينهما أسهلا «1»
__________
(1) في «اللسان» : السّرح: شجر كبار عظام طوال، لا يرعى وإنما يستظل فيه وهو كل شجر لا شوك فيه.
وقال أبو حنيفة: السرحة: دوحة محلال واسعة يحل تحتها الناس في الصيف ويبتنون تحتها البيوت.(1/500)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
كأنّه قال: ائتي مكاناً أسهل.
قوله تعالى: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: هو غني عنكم. وعن إِيمانكم.
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بما يكون من إِيمان أو كفر حَكِيماً في تكليفكم مع علمه بما يكون منكم.
[سورة النساء (4) : آية 171]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ قال مقاتل: نزلت في نصارى نجران: السّيد والعاقِب ومَن معهما «1» . والجمهور على أن المراد بهذه الآية: النصارى. وقال الحسن: نزلت في اليهود والنصارى. والغلو: الإفراط ومجاوزة الحد، ومنه غلا السّعر. وقال الزجاج: الغلو: مجاوزة القدر في الظلم. وغلو النصارى في عيسى: قول بعضهم: هو الله، وقول بعضهم: هو ابن الله، وقول بعضهم: هو ثالث ثلاثة. وعلى قول الحسن غلو اليهود فيه قولهم: إنه لغير رشدة «2» . وقال بعض العلماء: لا تغلوا في دينكم بالزيادة في التشدّد فيه.
قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ أي: لا تقولوا: إِن الله له شريك أو ابن أو زوجة.
وقد ذكرنا معنى «المسيح» والكلمة في (آل عمران) . وفي معنى وَرُوحٌ مِنْهُ سبعة أقوال: أحدها: أنه روح ٌمن أرواح الأبدان. قال أبيّ بن كعب: لما أخذ الله الميثاق على بني آدم كان عيسى روحاً من تلك الأرواح، فأرسله إِلى مريم، فحملت به. والثاني: أن الروح النفخ، فسُمّي روحاً، لأنه حدث عن نفخة جبريل في درع «3» مريم. ومنه قول ذي الرمّة:
وَقُلتُ لهُ ارْفعهَا إِليك وأحْيِها ... بروحِك واقْتَتْه لها قيتة قدرا «4»
__________
(1) ذكره الواحدي بدون سند ولا عزو لأحد في «أسباب النزول» 376 ولم يذكر فيه أسماء، وعزاه المصنف لمقاتل، وهو متروك.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 1/ 603: ينهى الله تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاها الله إياه فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه. بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادا، أو صحيحا أو كذبا، ولهذا قال الله تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وروى أحمد عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله» وقال الحافظ ابن حجر: وقوله: «لا تطروني» ، والإطراء: المدح بالباطل، تقول: أطريت فلانا، مدحته فأفرطت في مدحه، وقوله: «كما أطرت النصارى ابن مريم» أي: في دعواهم فيه الإلهية وغير ذلك. [.....]
(3) في «اللسان» درع المرأة: قميصها.
(4) يأمره بالرفق والنفخ القليل شيئا فشيئا، كأنه جعل النفخ قوتا لهذه النار، يقدر لها تقديرا شيئا بعد شيء حتى تكتمل. وقالوا: «أحيها بروحك» أي أحيها بنفخك.(1/501)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
هذا قول أبي رَوق. والثالث: أن معنى وَرُوحٌ مِنْهُ إِنسان حيٌ باحياء الله له. والرابع: أن الروح: الرحمة، فمعناه: ورحمة منه، ومثله وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ «1» . والخامس: أن الروح هاهنا جبريل. فالمعنى ألقاها الله إلى مريم، والذي ألقاها روحٌ منه، ذكر هذه الأقوال الثلاثة أبو سليمان الدمشقي. والسادس: أنه سمّاه روحاً، لأنه يحيا به الناس كما يحيون بالأرواح، ولهذا المعنى سمي القرآن روحاً، ذكره القاضي أبو يعلى. والسابع: أن الرّوح: الوحي أوحى إلى مريم يبشرها به، وأوحى إِلى جبريل بالنفخ في درعها، وأوحى إِلى ذات عيسى أن: كن فكان. ومثله: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ «2» أي. بالوحي، ذكره الثعلبي.
فأما قوله «منه» فانه إِضافة تشريفٍ، كما تقول: بيت الله، والمعنى من أمره، ومما يقاربها قوله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ «3» .
قوله تعالى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ قال الزجاج: رفعه بإضمار: لا تقولوا آلهتُنا ثلاثة إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ أي: ما هو إِلا إِلهٌ واحد سُبْحانَهُ ومعنى «سبحانه» : تبرئته مِن أن يكون له ولد. قاله أبو سليمان: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا أي: قيّما على خلقه، مدبّرا لهم.
[سورة النساء (4) : آية 172]
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)
قوله تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ.
(390) سبب نزولها: أن وفد نجران وفدوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا: يا محمد لَمْ تذكر صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى، قال: وأي شيءٍ أقول له؟ هو عبد الله، قالوا: بل هو الله، فقال: إِنه ليس بعار عليه أن يكون عبد الله، قالوا: بلى، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قال الزجاج: معنى يستنكف: يأنَف، واصله في اللغة من نكفت الدمع: إِذا نحيته باصبُعِكَ من خدّك. قال الشاعر:
فبانوا فلولا ما تذكَّرُ منهم ... من الحِلْفِ لم يُنكَفْ لعينيك مَدْمعُ «4»
قوله تعالى: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
قال ابن عباس: هم حملة العرش.
[سورة النساء (4) : آية 173]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)
قوله تعالى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي: ثواب أعمالهم وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ مضاعفة الحسنات.
__________
لا أصل له. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 377 عن الكلبي بلا سند، والكلبي متهم.
__________
(1) سورة المجادلة: 22.
(2) سورة النحل: 2.
(3) سورة الجاثية: 13.
(4) لم ينسب إلى قائل كما في «اللسان» مادة- نكف-.(1/502)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
(391) وروى ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ قال: يدخلون الجنة وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في الدّنيا.
[سورة النساء (4) : آية 174]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)
قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ في البُرهان ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الحجة، قاله مجاهد، والسدي. والثاني: القرآن، قاله قتادة. والثالث: أنه النبيّ محمّد عليه السلام، قاله سفيان الثوري. فأما النور المبين، فهو القرآن، قاله قتادة، وإنما سمّاه نوراً، لأن الأحكام تبين به بيان الأشياء بالنّور.
[سورة النساء (4) : آية 175]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)
قوله تعالى: وَاعْتَصَمُوا بِهِ أي: استمسكوا. وفي «هاء» به قولان: أحدهما: أنها تعود إلى النور وهو القرآن، قاله ابن جريج. والثاني: تعود إِلى الله تعالى، قاله مقاتل. وفي «الرحمة» قولان:
أحدهما: أنها الجنة، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: أنها نفس الرحمة، والمعنى: سيرحمهم، قاله أبو سليمان. وفي «الفضل» قولان: أحدهما: أنه الرزق في الجنة، قاله مقاتل. والثاني: أنه الإِحسان، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى: وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي: يوفقهم لإِصابة الطريق المستقيم. وقال ابن الحَنفية: الصراط المستقيم: دين الله.
[سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ في سبب نزولها قولان:
(392) أحدهما: أنها نزلت في جابر بن عبد الله. روى أبو الزبير عن جابر قال: مرضت فأتاني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعودني هو وأبو بكر وهما ماشيان فوجدني قد أغمي عليّ، فتوضّأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم صبَّ علي من وَضوئه، فأفقت، وقلت: يا رسول الله كيف أصنع في مالي وكان لي تسع أخوات، ولم
__________
ضعيف. أخرجه ابن أبي عاصم في «السنة» 846 والطبراني 10462 من حديث ابن مسعود، وفيه إسماعيل بن عبد الله الكندي، وهو ضعيف وقال الذهبي في «الميزان» أتى بخبر منكر. وقال ابن كثير في «تفسيره» 1/ 605: لا يثبت. وصوب الوقف فيه. والمرفوع ضعفه أيضا السيوطي في «الدر» 2/ 440 ووافقه الشوكاني وهو كما قالوا. وانظر «تفسير الشوكاني» 735 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه البخاري 194 ومسلم 1616 وأبو داود 2886 والترمذي 2098 والبيهقي 6/ 231 وأحمد 3/ 298 وأبو يعلى 2018 والطيالسي 1945 والطبري 10873 والواحدي 378 من حديث جابر.(1/503)
يكن لي ولد؟ فلم يجبني بشيء، ثم خرج وتركني، ثم رجع إِليّ وقال: يا جابر لا أراك ميتاً من وجعك هذا، وإنّ الله عزّ وجلّ قد أنزل في أخواتك، وجعل لهن الثلثين، فقرأ عليَّ هذه الآية: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية فيَّ. والثاني: أن الصحابة أهمّهم بيان شأن الكلالة فسألوا عنها نبي الله، فنزلت هذه الآية، هذا قول قتادة «1» .
(393) وقال سعيد بن المسيب: سأل عمر بن الخطّاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف نورّث الكلالة؟
فقال: «أو ليس قد بين الله ذلك، ثم قرأ: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً فأنزل الله عزّ وجلّ يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ.
قوله تعالى: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ أي: مات لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ يريد: ولا والِد: فاكتفى بذكر أحدهما، ويدلُ على المحذوف أنَّ الفتيا في الكلالة، وهي مَن ليس له ولد ولا والد «2» .
قوله تعالى: وَلَهُ أُخْتٌ يريد من أبيه وأُمه فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ عند انفرادها وَهُوَ يَرِثُها أي: يستغرق ميراث الأُخت إِذا لم يكن لها ولد ولا والد، وهذا هو الأخ من الأب والأم، أو من الأب فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ يعني: أُختين. وسئل الأخفش ما فائدة قوله «اثنتين» وكانَتَا لا يُفسّر إِلا باثنتين؟
فقال: أفادت العدد العاري عن الصفة، لأنه يجوز في كانَتَا صغيرتين، أو حرتين، أو صالحتين، أو طالحتين، فلما قال: اثْنَتَيْنِ فاذا اطلاق العدد على أي وصف كانتا عليه. فَلَهُمَا الثُّلُثانِ من تركة أخيهما الميت وَإِنْ كانُوا يعني المخلفين.
قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا قال ابن قتيبة: لئلا تضلوا. وقال الزجاج: فيه قولان:
أحدهما: أن لا تضلوا، فأضمرت لا. والثاني: كراهية أن تضلوا، وهو قول البصريين. قال ابن جريج:
أن تضلوا في شأن المواريث.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 10870 عن ابن المسيب مرسلا، ولا يصح كونها نزلت بسبب سؤال عمر، فقد أخرج مسلم 1617 ما يعارضه.
__________
(1) مرسل. أخرجه الطبري 10869 عن قتادة مرسلا.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 9/ 6: أجمع أهل العلم أنه لا يرث أخ، ولا أخت لأب وأم أو لأب، مع ابن، ولا مع ابن ابن وإن سفل ولا مع أب. والأصل في هذا قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ.... وانظر «المغني» 9/ 9- 63 لمزيد من البحث في مسائل الفرائض.(1/504)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
سورة المائدة
قال ابن عباس، والضّحّاك: هي مدنيّة. وقال مقاتل: نزلت نهارا وكلّها مدنيّة. وقال أبو سليمان الدّمشقيّ: فيها من المكّي الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ قال: وقيل: فيها من المكّيّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ والصّحيح أنّ قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ نزلت بعرفة يوم عرفة، فلهذا نسبت إلى مكة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المائدة (5) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اختلفوا في المخاطبين بهذا على قولين: أحدهما: أنهم المؤمنون من أُمتنا، وهذا قول الجمهور. والثاني: أنهم أهل الكتاب، قاله ابن جريج.
وبِالْعُقُودِ: العهود، قاله ابن عباس ومجاهد وابن جبير وقتادة والضحاك والسدي والجماعة وقال الزجاج: «العقود» : أوكد العهود. واختلفوا في المراد بالعهود هاهنا على خمسة أقوال «1» :
أحدها: أنها عهود الله التي أخذها على عباده فيما أحلّ وحرّم، وهذا قول ابن عباس ومجاهد. والثاني:
أنها عهود الدين كلها، قاله الحسن. والثالث: أنها عهود الجاهلية، وهي الحِلْفُ الذي كان بينهم، قاله قتادة. والرابع: أنها العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب من الإِيمان بالنبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن جريج، وقد ذكرنا عنه أن الخطاب للكتابيين. والخامس: أنها عقود الناس بينهم من بيع ونكاح، أو عقد الإِنسان على نفسه من نذر أو يمين، وهذا قول ابن زيد «2» .
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 388: وأولى الأقوال عندنا بالصواب، ما قاله ابن عباس، وأن معناه: أوفوا، يا أيها الذين آمنوا، بعقود الله التي أوجبها عليكم، وعقدها فيما أحلّ لكم وحرّم عليكم، وألزمكم فرضه وبين لكم حدوده.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 444- 445: ومتى كانت اليمين على فعل واجب أو ترك محرّم، كان حلّها محرّما لأن حلها بفعل المحرّم، وهو محرّم وإن كانت على فعل مندوب، أو ترك مكروه.
وإن كانت على فعل مباح، فحلّها مباح. فإن قيل: فكيف يكون حلّها مباحا وقد قال الله تعالى: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها؟ قلنا: هذا في الأيمان في العهود والمواثيق، بدليل قوله تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها، والعهد يجب الوفاء به بغير يمين، فمع اليمين أولى، فإن الله تعالى.
قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.
وإن كانت على فعل مكروه، أو ترك مندوب، فحلّها مندوب إليه، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، فأت الذي هو خير، وكفّر عن يمينك» وإن كانت اليمين على فعل محرّم، أو ترك واجب فحلّها واجب، لأن حلّها بفعل الواجب، وفعل الواجب واجب.(1/505)
قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ في بهيمة الأنعام ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها أجنّة الأنعام التي توجد ميتة في بطون أُمهاتها إِذا ذبحت الأُمهات، قاله ابن عمر، وابن عباس. والثاني: أنها الإِبل، والبقر، والغنم، قاله الحسن، وقتادة، والسدي. وقال الربيع: هي الأنعام كلها. وقال ابن قتيبة:
هي الإِبل، والبقر، والغنم، والوحوش كلها. والثالث: أنها وحش الأنعام كالظباء، وبقر الوحش، روي عن ابن عباس، وأبي صالح. وقال الفراء: بهيمة الأنعام: بقر الوحش، والظباء، والحمر الوحشيّة. قال الزجاج: وإِنما قيل لها بهيمة، لأنها أبهمت عن أن تميّز، وكل حي لا يميّز فهو بهيمة.
قوله تعالى: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ، روي عن ابن عباس أنه قال: هي الميتة وسائِر ما في القرآن تحريمه. وقال ابن الأنباري: المتلو علينا من المحظور الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ. قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ قال أبو الحسن الأخفش: أوفوا بالعقود غير محلي الصيد، فانتصب على الحال. وقال غيره: المعنى: أُحلت لكم بهيمة الأنعام غير مستحلي اصطيادها، وأنتم حرم، قال الزجاج: الحرم: المحرمون، وواحد الحرم: حرام، يقال: رجل حرام، وقومٌ حرمٌ.
قال الشاعر:
فقلت لها فيئي إِليك فإنني ... حرامٌ وإِني بعد ذاك لبيبُ «2»
أي: ملبّ. وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ أي: الخلق له يحل ما يشاء لمن يشاء، ويحرم ما يريد على من يريد.
__________
(1) فائدة: قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 308- 310: ما ملخصه: إذا خرج الجنين ميتا من بطن أمه بعد ذبحها، أو وجد ميتا في بطنها، أو كانت حركته بعد خروجه كحركة المذبوح، فهو حلال روي هذا عن ابن عمر وعلي وبه قال ابن المسيب والنخعي والشافعي وإسحاق وابن المنذر. وقال ابن عمر: ذكاته ذكاة أمه إذا أشعر وروي ذلك عن عطاء وطاوس ومجاهد والزهري والحسن وقتادة ومالك والليث، لأن عبد الله بن كعب بن مالك قال: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقولون: إذا أشعر الجنين فذكاته ذكاة أمه. وهذا إشارة إلى جميعهم. فكان إجماعا. وقال أبو حنيفة: لا يحل إلا أن يخرج حيا فيذكى. قال ابن المنذر: لا نعلم أحدا منهم خالف ما قالوا إلى أن جاء النعمان، فقال: لا يحل لأن ذكاة نفس لا تكون ذكاة نفسين، ولنا «ذكاة الجنين ذكاة أمه» ولأن هذا إجماع من الصحابة فمن بعدهم، فلا يعول على ما خالفه، ولأن الجنين متصل بها اتصال خلقه، يتغذى بغذائها، فتكون ذكاته ذكاتها، كأعضائها، ولأن الزكاة في الحيوان تختلف على حسب الإمكان فيه والقدرة، بدليل الصيد الممتنع والمقدور عليه والمتردية، والجنين لا يتوصل إلى ذبحه بأكثر من ذبح أمه، فيكون ذكاة له. فصل: واستحب أبو عبد الله- الإمام أحمد بن حنبل- أن يذبحه وإن خرج ميتا ليخرج الدم الذي في جوفه. فصل: فإن خرج حيا حياة مستقرة، يمكن أن يذكى، فلم يذكه حتى مات فليس بذكي. قال أحمد: إن خرج حيا فلا بد من ذكاته لأنه نفس أخرى. قلت: وقال أبو يوسف ومحمد بقول الجمهور، راجع «الهداية» 9/ 508 بتخريجي.
(2) البيت للمضرب بن كعب بن زهير بن أبي سلمى كما في «مجاز القرآن» 1/ 145 و «شرح أدب الكاتب» للجواليقي 411.(1/506)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
[سورة المائدة (5) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
قوله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ في سبب نزولها قولان.
(394) أحدهما: أن شريح بن ضبيعة أتى المدينة، فدخل على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إِلام تدعو؟
فقال: «إِلى شهادة أن لا إِله إِلا الله، وأنِّي رسولُ الله» ، فقال: إِن لي أُمراء خلفي أرجع إِليهم أشاورهم، ثم خرج، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبي غادر، وما الرجل بمسلم» ، فمر شريح بسرح لأهل المدينة، فاستاقه، فلما كان عام الحُديبية، خرج شريح إِلى مكة معتمراً، ومعه تجارة، فأراد أهل السّرح أن يغيروا عليه كما أغار عليهم، فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وقال السّدّي: اسمه الحطم بن هند البكري. قال: ولما ساق السَّرح جعل يرتجز:
قدْ لَفَّها الليل بسوّاقٍ حُطَم ... ليس براعي إِبل ولا غنم
ولا بجزّارٍ على ظَهْرِ وضم ... باتوا نيَاما وابنُ هندٍ لم ينم
بات يُقاسِيهَا غلامٌ كالزَّلَمْ ... خَدلَّجُ الساقين ممسوحُ القدم «1»
(395) والثاني: أن ناساً من المشركين جاءوا يؤمون البيت يوم الفتح مهلّين بعمرة، فقال المسلمون: لا ندع هؤلاء بل نغير عليهم، فنزل قوله تعالى وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ.
قال ابن قتيبة: وشعائِر الله: ما جعله الله علماً لطاعته. وفي المراد بها هنا سبعة أقوال «2» :
أحدها: أنها مناسك الحج، رواه الضّحّاك عن ابن عباس. وقال الفرّاء: كان عامّة العرب لا يرون الصّفا
__________
أخرجه الطبري 10961 عن السدي، وهذا مرسل، وكرره 10962 عن عكرمة وعن ابن جريج ونسبه الواحدي 379 لابن عباس بدون سند، فلعل هذه المراسيل المتقدمة تتأيد بمجموعها، والله أعلم. انظر «أحكام القرآن» 610 بتخريجنا.
ضعيف. أخرجه الطبري 10963 عن عبد الرحمن بن زيد مرسلا.
__________
(1) الرجز في «الأغاني» 14/ 44 و «حماسة أبي تمام» 1/ 354 وقد اختلفوا في نسبة هذا الشعر اختلافا كثيرا، ونسبه في: «الحماسة» لرشيد بن رميض العنزي، ونسب أيضا للأغلب العجلي، وللأخنس بن شهاب، ولجابر بن حني التغلبي ولعل الحطم أنشده مدحا لنفسه فيما فعل وقبل هذا الرجز:
هذا أوان الشدّ فاشتدي زيم والسّرح: المال السائم. وفي «اللسان» : الوضم: كل شيء يوضع عليه اللحم من خشب أو بارية يوقى به من الأرض. وقد ذكره في «اللسان» ونسبه إلى رشيد بن رميض العنزي. وقيل أبو زغبة الخزرجي. والزلم: القدح كان أهل الجاهلية يستقسمون بها. وخدلّج الساقين: عظيمهما.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 393: وأولى التأويلات بقوله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ، قول عطاء: من توجيهه معنى ذلك إلى: لا تحلوا حرمات الله ولا تضيعوا فرائضه. [.....](1/507)
والمروة من الشعائر، ولا يطوفون بينهما، فقال الله تعالى: لا تستحلوا ترك ذلك. والثاني: أنها ما حرم الله تعالى في حال الإحرام، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: دين الله كله، قاله الحسن. والرابع:
حدود الله، قاله عكرمة وعطاء. والخامس: حَرمُ الله، قاله السدي. والسادس: الهدايا المشعرة لبيت الله الحرام، قاله أبو عبيدة والزجاج. والسابع: أنها أعلام الحرم، نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إِذا أرادوا دخول مكة، ذكره الماوردي، والقاضي أبو يعلى.
قوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ قال ابن عباس: لا تُحِلُّوا القتال فيه. وفي المراد بالشهر الحرام ثلاثة أقوال: أحدها: أنه ذو القَعدة، قاله عكرمة، وقتادة. والثاني: أن المراد به الأشهر الحرم. قال مقاتل: كان جنادة بن عوف يقوم في سوق عكاظ كلَّ سنة فيقول: ألا إِني قد أحللت كذا، وحرّمت كذا. والثالث: أنه رجب، ذكره ابن جرير الطبري. والهدي: كل ما أهدي إِلى بيت الله تعالى من شيءٍ.
وفي الْقَلائِدَ قولان: أحدهما: أنها المقلَّدات مِن الهدي، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: أنها ما كان المشركون يقلدون به إِبلهم وأنفسهم في الجاهلية، ليأمنوا به عدوّهم، لأن الحرب كانت قائمة بين العرب إِلا في الأشهر الحُرُم، فمن لقوة مقلِّداً نفسه، أو بعيره، أو مشعراً بُدُنَهُ أو سائِقاً هدياً لم يُتعرض له. قال ابن عباس: كانَ مَن أراد أن يسافر في غير الأشهر الحُرُم، قلد بعيره من الشعر والوبر، فيأمَن حيثُ ذهب.
(396) وروى مالك بن مِغوَل عن عطاء قال: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم، فيأمنون به إِذا خرجوا من الحرم، فنزلت هذه الآية.
وقال قتادة: كان الرجل في الجاهلية إِذا خرج من بيته يريد الحج تقلّد من السَّمُرِ، فلم يَعرِض له أحد، وإِذا رجع تقلَّد قلادة شعر، فلم يعرض له أحد. وقال الفراء: كان أهل مكة يُقلّدون بلحاء الشجر، وسائر العرب يُقلّدون بالوبر والشعر. وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال «1» : أحدها: لا تستحلّوا المقلَّدات من الهدي. والثاني: لا تستحلوا أصحاب القلائد. والثالث: أن هذا نهيٌ للمؤمنين أن ينزعوا شيئاً من شجر الحرم، فيتقلّدوه كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم، رواه عبد الملك عن عطاء، وبه قال مطرف، والربيع بن أنس.
قوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ «الآمّ» : القاصد، و «البيت الحرام» : الكعبة، والفضل:
الربح في التجارة، والرضوان من الله يطلبونه في حجّهم على زعمهم. ومثله قوله تعالى: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي «2» ، وقيل: ابتغاء الفضل عام، وابتغاء الرضوان للمؤمنين خاصّة.
__________
أخرجه الطبري 10954 عن عطاء مرسلا، وكرره 10953 من مرسل قتادة.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 396: والذي هو أولى بتأويل قوله: وَلَا الْقَلائِدَ إذ كانت معطوفة على أول الكلام ولم يكن في الكلام ما يدل على انقطاعها عن أوله، ولا أنه عنى بها النهي عن التقليد أو اتخاذ القلائد من شيء، أن يكون معناه: ولا تحلّوا القلائد. ونهي من الله عز وجل عن استحلال حرمة المقلّد، هديا كان ذلك أو إنسانا، دون حرمة القلادة. وإن الله عز ذكره، إنما دلّ بتحريمه حرمة القلادة على ما ذكرنا من حرمة المقلّد.
(2) سورة طه: 97.(1/508)
قوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا لفظُه لفظُ الأمر، ومعناه الإِباحة، نظيره فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ «1» وهو يدلُ على إِحرامٍ متقدّم.
قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ وروى الوليد عن يعقوب «يجرمنْكم» بسكون النون، وتخفيفها. قال ابن عباس: لا يحملنّكم، قال غيره: لا يدخلنكم في الجُرم، كما تقول: آثمتُه أي: أدخلته في الإثم، وقال ابن قتيبة: لا يكسبنكم يقال: فلان جارمُ أهله، أي: كاسُبهم، وكذلك جريمتهم. وقال الهُذلي:
ووصف عقاباً:
جريمةَ ناهضٍ في رأس نِيْقٍ ... تَرَى لِعظَامِ ما جَمَعَتْ صَليبا «2»
والناهض: فرخها، يقول: هي تكسب له، وتأتيه بقوته. و «الشنآن» البغض، يقال: شنئته أشنؤه:
إِذا أبغضته. وقال ابن الأنباري: «الشنآن» : البغض، و «الشنآن» بتسكين النون: البغيض. واختلف القراء في نون الشنآن، فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: بتحريكها، وأسكنها ابن عامر، وروى حفص عن عاصم تحريكها، وأبو بكر عنه تسكينها، وكذلك اختُلف عن نافع. قال أبو علي:
«الشَّنآن» ، قد جاء وصفاً، وقد جاء اسماً، فمن حرّك، فلأنه مصدر، والمصدر يكثر على فَعَلان، نحو النَّزَوان، ومن سكَّن. قال: هو مصدر، وقد جاء المصدر على فَعْلان، تقول: لويته دينَه لَيَّانًا، فالمعنى في القراءتين واحد، وإِن اختلف اللفظان.
واختلفوا في قوله تعالى: أَنْ صَدُّوكُمْ فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو بالكسر، وقرأ الباقون بالفتح، فمن فتح جعل الصّد ماضياً، فيكون المعنى من أجل أن صدوكم، ومن كسرها، جعلها للشرط، فيكون الصّد مترقَّباً. قال أبو الحسن الأخفش: وقد يكون الفعل ماضيا مع الكسر، كقوله تعالى: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ «3» وقد كانت السرقة عندهم قد وقعت، وأنشد أبو علي الفارسي:
إِذا ما انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْني لئيمةٌ ... وَلَمْ تَجِدي من أن تُقِرِّي بها بُدّا
فانتفاء الولادة أمر ماض وقد جعله جزاء، والجزاء إِنما يكون بالمستقبل فيكون المعنى إِن ننتسب لا تجدني مولود لئيمة.
قال ابن جرير: وقراءة مَن فتح الألف أبيَن، لأن هذه السورة نزلت بعد الحديبية، وقد كان الصدّ تقدّم. فعلى هذا في معنى الكلام قولان: أحدهما: ولا يحملنكم بغض أهل مكة أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا فيه، فتقاتلوهم، وتأخذوا أموالهم إِذا دخلتموه، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: لا يحملنكم بغض أهل مكة، وصدّهم إِياكم أن تعتدوا بإتيان ما لا يحل لكم من الغارة على المعتمرين من المشركين، على ما سبق في نزول الآية.
قوله تعالى: وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى قال الفراء: لِيُعِن بعضكم بعضاً. قال ابن عباس: البرّ ما
__________
(1) سورة الجمعة: 10.
(2) الصليب: الودك. وقد تقدم وقال ابن فارس: يقال جرم وأجرم ولا جرم بمنزلة قولك لا بد ولا محالة وأصلها من جرم أي اكتسب. انظر «تفسير القرطبي» 6/ 44.
(3) سورة يوسف: 77.(1/509)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
أُمرت به، و «التقوى» : ترك ما نُهيت عنه. فأمّا «الإثم» فالمعاصي. والعدوان: التّعدّي في حدود الله، قاله عطاء.
فصل: اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنها محكمة، روي عن الحسن أنه قال: ما نسخ من المائدة شيء، وكذلك قال أبو ميسرة في آخرين قالوا: ولا يجوز استحلال الشعائر، ولا الهدي قبل أوان ذبحه، واختلفوا في «القلائد» فقال قوم: يحرم رفع القلادة عن الهدي حتى ينحر، وقال آخرون: كانت الجاهلية تقلِّد من شجر الحرم، فقيل لهم: لا تستحلُّوا أخذ القلائد من الحرم، ولا تصدوا القاصدين إِلى البيت.
والثاني: أنها منسوخة، وفي المنسوخ منها أربعة أقوال: أحدها: أن جميعها منسوخ، وهو قول الشعبي. والثاني: أنها وردت في حق المشركين كانوا يقلِّدون هداياهم، ويظهرون شعائِر الحج من الاحرام والتلبية، فنُهي المسلمون بهذه الآية عن التعرّض لهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» وهذا قول الأكثرين. والثالث: أن الذي نُسخ قوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ نسخه قوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا «2» روي عن ابن عباس، وقتادة. والرابع: أن المنسوخ منها: تحريم الشهر الحرام، وآمّون البيت الحرام: إِذا كانوا مشركين، وهدي المشركين. إِذا لم يكن لهم من المسلمين أمان، قاله أبو سليمان الدّمشقيّ.
[سورة المائدة (5) : آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ مفسّرٌ في «البقرة» ، فأمّا وَالْمُنْخَنِقَةُ فقال ابن عباس: هي التي تختنق فتموت، وقال الحسن، وقتادة: هي التي تختنق بحبل الصائد وغيره. قلت: والمنخنقة حرام كيف وقع ذلك، قال ابن قتيبة: وَالْمَوْقُوذَةُ: التي تُضرب حتى توقَذ، أي: تشرف على الموت، ثم تترك حتى تموت، وتؤكل بغير ذكاة، ومنه يقال: فلان وقيذ، وقد وقذته العبادة. و «المتردّية» : الواقعة من جبل أو حائط، أو في بئر، يقال: تردى: إِذا سقط. وَالنَّطِيحَةُ: التي تنطحها شاة أخرى أو بقرة، «فعيلة» في معنى «مفعولة» وَما أَكَلَ السَّبُعُ وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وأبو مجلز، وابن أبي ليلى:
السَّبع: بسكون الباء. والمراد: ما افترسه فأكل بعضه إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي: إِلا ما لحقتم من هذا كله وبه حياة، فذبحتموه «3» . فأما الاستثناء، ففيه قولان: أحدهما: أنه يرجع إِلى المذكور من عند قوله تعالى:
__________
(1) سورة التوبة: 5.
(2) سورة التوبة: 38.
(3) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 291: «مسألة: وإذا ندّ بعيره فلم يقدر عليه فرماه بسهم أو نحوه مما يسيل به دمه فقتله أكل» . قال: وكذلك إذا تردى في بئر فلم يقدر على تذكيته، فجرحه في أي موضع قدر عليه، فقتله أكل، إلا أن تكون رأسه في الماء فلا يؤكل، لأن الماء يعين على قتله، هذا قول أكثر الفقهاء، روي ذلك عن علي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة، وبه قال مسروق والأسود والحسن وعطاء وطاوس وإسحاق والشعبي والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأبو ثور. وقال مالك: لا يجوز أكله إلا أن يذكّى. وهو قول ربيعة والليث. قال أحمد: لعل مالكا لم يسمع حديث رافع بن خديج اه باختصار.(1/510)
وَالْمُنْخَنِقَةُ. والثاني: أنه يرجع إِلى ما أكل السبع خاصة، والعلماء على الأول.
فصل في الذكاة: قال الزجاج: أصل الذكاة في اللغة: تمام الشيء، فمنه الذكاء في السن، وهو تمام السِّن. قال الخليل: الذكاء: أن تأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استكمال القوة، ومنه الذكاء في الفهم، وهو أن يكون فهماً تاماً، سريع القبول. وذكّيت النار، أي: أتممت إِشعالها. وقد روي عن عليّ، وابن عباس، والحسن، وقتادة أنهم قالوا: ما أدركت ذكاته بأن توجد له عينٌ تَطْرِف أو ذنب يتحرك، فأكله حلالٌ. قال القاضي أبو يعلى: ومذهب أصحابنا أنه إِن كان يعيش مع ما به، حل بالذبح، فان كان لا يعيش مع ما به، نظرت، فان لم تكن حياته مستقرّة، وإِنما حركته حركة المذبوح، مثل أن شُقَّ جوفه، وأُبينت حشوته، فانفصلت عنه، لم يحل أكله، وإِن كانت حياته مستقرة يعيش اليوم واليومين، مثل أن يشق جوفه، ولم تقطع الأمعاء، حل أكله. ومن الناس من يقول: إِذا كانت فيه حياة في الجملة أُبيح بالذكاة، والصحيح ما ذكرنا، لأنه إِذا لم تكن فيه حياة مستقرة، فهو في حكم الميت.
ألا ترى أن رجلاً لو قطع حُشْوَةَ آدمي، ثم ضرب عنقه آخر، فالأول هو القاتل، لأن الحياة لا تبقى مع الفعل الأول.
وفي ما يجب قطعه في الذكاة روايتان «1» : إِحداهما: أنه الحلقوم والمريء والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء، فإن نقص من ذلك شيئاً لم يؤكل، هذا ظاهر كلام أحمد في رواية عبد الله.
والثانية: يجزئ قطع الحلقوم والمريء، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل، وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة: يجزئ قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين. وقال مالك: يجزئ قطع الأوداج، وإِن لم يقطع الحلقوم. وقال الزجاج: الحلقوم بعد الفم، وهو موضع النفَس، وفيه شعب تتشعب منه في الرئة.
__________
(1) قال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 303- 308: يعتبر قطع الحلقوم والمريء وبهذا قال الشافعي، وعن أحمد رواية أخرى أنه يعتبر مع هذا قطع الودجين وبه قال مالك وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة: يعتبر قطع الحلقوم والمريء وأحد الودجين ولا خلاف أن الأكمل قطع الأربعة: الحلقوم والمريء والودجين اه ملخصا. ويسنّ الذبح بسكين حادّ، ويكره أن يسنّ السكين والحيوان يبصره ويكره أن يذبح شاة وأخرى تنظر إليه، ويستحب أن يستقبل القبلة. وإذا ذبح فأتى على المقاتل، فلم تخرج الروح حتى وقعت في الماء، أو وطئ عليها شيء لم تؤكل. يعني وطئ عليها شيء يقتلها مثله غالبا. وقال أصحابنا المتأخرين: لا يحرم بذلك وهو قول أكثر الفقهاء، لأنها إذا ذبحت فقد صارت في حكم الميت، وكذلك لو أبين رأسها بعد الذّبح، لم تحرم. وإذا ذبحها من قفاها، وهو مخطئ، فأتت السكين على موضع ذبحها، وهي في الحياة أكلت. قال القاضي: معنى الخطأ أن تلتوي الذبيحة عليه، فتأتي السكين على القفا، لأنها مع التوائها معجوز عن ذبحها في محل ذبحها، فسقط اعتبار المحل. وقد روي أن الفضل بن زياد قال: سألت أبا عبد الله عن من ذبح في القفا؟ قال: عامدا أو غير عامد؟ قلت: عامدا. قال: لا تؤكل، فإذا كان غير عامد، كأنه التوى عليه، فلا بأس. ومن ذبحها من قفاها اختيارا. لا تؤكل. وقال القاضي: إن بقيت فيها حياة مستقرة قبل قطع الحلقوم والمريء، حلّت وإلا فلا. وهذا مذهب الشافعي. وهذا أصح. لأن الذبح إذا أتى على ما فيه حياة مستقرة أحلّه. ولو ضرب عنقها بالسيف فأطار رأسها حلّت بذلك.(1/511)
والمريء: مجرى الطعام، والودجان: عرقان يقطعهما الذابح. فأما الآلة التي تجوز بها الذكاة، فهي كل ما أنهر الدم، وفرى الأوداج سوى السن والظفر، سواء كانا منزوعين أو غير منزوعين. وأجاز أبو حنيفة الذكاة بالمنزوعين. فأما البعير إِذا توحش أو تردى في بئر، فهو بمنزلة الصيد ذكاته عقره. وقال مالك:
ذكاته ذكاة المقدور عليه. فإن رمى صيداً فأبان بعضه وفيه حياة مستقرة فذكّاه، أو تركه حتى مات جاز أكله، وفي أكل ما بان منه روايتان.
قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ في النصب قولان: أحدهما: أنها أصنام تنصب، فتُعبد من دون الله، قاله ابن عباس، والفراء، والزجاج، فعلى هذا القول يكون المعنى، وما ذبح على اسم النُّصب، وقيل لأجلها، فتكون «على» بمعنى «اللام» ، وهما يتعاقبان في الكلام، كقوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ «1» أي: عليك، وقوله تعالى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «2» . والثاني: أنها حجارة كانوا يذبحون عليها، ويشرِّحون اللحم عليها ويعظمونها، وهو قول ابن جريج.
وقرأ الحسن، وخارجة عن أبي عمرو: على النَّصْب، بفتح النون، وسكون الصاد، قال ابن قتيبة، يقال: نُصُبٌ ونُصْبُ ونَصْبٌ، وجمعه أنصاب.
قوله تعالى: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ قال ابن جرير: أي: وأن تطلبوا عِلم ما قُسم لكم، أو لم يقسم بالأزلام، واستفعلت من القسم، قسم الرزق والحاجات. قال ابن قتيبة: الأزلام: القداح، واحدها: زَلَم وزُلَم. والاستقسام بها: أن يضرب بها فيعمل بما يخرج فيها من أمرٍ أو نهي، فكانوا إِذا أرادوا أن يقتسموا شيئاً بينهم، فأحبُّوا أن يعرفوا قسم كل امرئٍ تعرفوا ذلك منها، فأخِذ الاستقسام من القِسم وهو النصيب. قال سعيد بن جبير: الأَزلام: حصى بيض، كانوا إِذا أرادوا غدواً، أو رواحاً، كتبوا في قدحين، في أحدهما: أمرني ربي، وفي الآخر: نهاني ربي، ثم يضربون بهما، فأيهما خرج، عملوا به. وقال مجاهد: الأزلام: سهام العرب، وكعاب «3» فارس التي يتقامرون بها. وقال السدي:
كانت الأزلام تكون عند الكهنة. وقال مقاتل: في بيت الأصنام. وقال قوم: كانت عند سدنة الكعبة.
قال الزجاج: ولا فرق بين ذلك وبين قول المنجمين: لا تخرج من أجل نجم كذا، أو اخرج من أجل نجم كذا.
قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ في المشار إِليه بذلكم قولان: أحدهما: أنه جميع ما ذكر في الآية، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وبه قال سعيد بن جبير. والثاني: أنه الاستقسام بالأزلام، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والفسق: الخروج عن طاعة الله إِلى معصيته.
قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ في هذا «اليوم» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه اليوم الذي دخل فيه رسول الله مكة في حجة الوداع، قاله أبو صالح عن ابن عباس «4» . وقال ابن السائب: نزلت ذلك اليوم. والثاني: أنه يوم عرفة، قاله مجاهد، وابن زيد.
__________
(1) سورة الواقعة: 91.
(2) سورة الإسراء: 7.
(3) في اللسان الكعاب: فصوص النّرد. واللعب بها حرام.
(4) لا يصح عن ابن عباس، فهو من رواية أبي صالح، وهو غير ثقة في ابن عباس، وراوية أبي صالح هو محمد بن السائب الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.(1/512)
والثالث: أنه لم يرد يوماً بعينه، وإِنما المعنى: الآن يئسوا، كما تقول: أنا اليوم قد كبرت، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: العرب توقع اليوم على الزمان الذي يشتمل على الساعات والليالي، فيقولون: قد كنت في غفلة، فاليوم استيقظت، يريدون: فالآن، ويقولون: كان فلان يزورنا، وهو اليوم يجفونا، ولا يقصدون باليوم قصد يوم واحد. قال الشاعر:
فيومٌ علينا ويوم لنا ... ويومٌ نُساء ويومٌ نُسر «1»
أراد: فزمان لنا، وزمان علينا، ولم يقصد ليوم واحد لا ينضم إِليه غيره.
وفي معنى يأسهم قولان: أحدهما: أنهم يئسوا أن يرجع المؤمنون إلى دين المشركين، قاله ابن عباس والسدي. والثاني: يئسوا من بطلان الإِسلام، قاله الزجاج. قال ابن الأنباري: وإِنما يئسوا من إِبطال دينهم لما نقل الله خوف المسلمين إِليهم. وأمنهم إِلى المسلمين، فعلموا أنهم لا يقدرون على إِبطال دينهم، ولا على استئصالهم، وإِنما قاتلوهم بعد ذلك ظناً منهم أن كفرهم يبقى. قوله تعالى:
فَلا تَخْشَوْهُمْ قال ابن جريج: لا تخشوهم أن يظهروا عليكم، وقال ابن السائب: لا تخشوهم أن يظهروا على دينكم، واخشوني في مخالفة أمري.
قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.
(397) روى البخاري، ومسلم في «الصحيحين» من حديث طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إِلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين إِنكم تقرؤون آيةً من كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيداً، قال: وأيّ آية هي؟ قال: قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي فقال عمر: إِني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه على رسول الله، والساعة التي نزلت فيها، والمكان الذي نزلت فيه على رسول الله وهو قائم بعرفة في يوم جمعة. وفي لفظ «نزلت عشيّة عرفة» قال سعيد بن جبير: عاش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك أحداً وثمانين يوماً «2» .
فأما قوله تعالى: الْيَوْمَ ففيه قولان: أحدهما: أنه يوم عرفة، وهو قول الجمهور. والثاني: أنه ليس بيوم معيّن، رواه عطيّة عن ابن عباس، وقد ذكرنا هذا آنفاً.
وفي معنى إِكمال الدين خمسة أقوال «3» : أحدها: أنه إِكمال فرائضه وحدوده، ولم ينزل بعد هذه
__________
صحيح. أخرجه البخاري 45 و 4407 و 4606 و 7268 ومسلم 3017 والترمذي 3043 والنسائي 8/ 114 وأحمد 1/ 28 والطبري 11098 و 11099 عن طارق بن شهاب عن عمر به.
__________
(1) البيت للنمر بن تولب كما في «الشواهد الكبرى» للعيني 1/ 565. [.....]
(2) هو مرسل، وتقدم في أواخر سورة البقرة.
(3) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 419: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين به، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الآية على نبيه دينهم بإفرادهم البلد الحرام وإجلائه عنه المشركين، حتى حجه المسلمون دونهم لا يخالطونهم المشركون. فأما الفرائض والأحكام، فإنه قد اختلف فيها: هل كانت أكملت ذلك اليوم، أم لا؟ ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أن قبض بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا. فإذا كان ذلك كذلك، وكان قوله: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ النساء: 176 آخرها نزولا، وكان ذلك من الأحكام والفرائض.(1/513)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
الآية تحليل ولا تحريم، قاله ابن عباس، والسُدّي، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت لكم شرائِع دينكم. والثاني: أنه بنفي المشركين عن البيت، فلم يحج معهم مشرك عامئذ، قاله سعيد بن جبير، وقتادة. وقال الشعبي: كمال الدين هاهنا: عزه وظهوره، وذلّ الشّرك ودروسه، لا تكامل الفرائض والسّنن، لأنّها لم تزل تنزل إِلى أن قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فعلى هذا يكون المعنى: اليوم أكملت لكم نصر دينكم. والثالث: أنه رفع النسخ عنه. وأما الفرائض فلم تزل تنزل عليه حتى قُبض، روي عن ابن جبير أيضاً. والرابع: أنه زوال الخوف من العدو، والظهور عليهم، قاله الزجاج. والخامس: أنه أمن هذه الشريعة من أن تنسخ بأخرى بعدها، كما نسخ بها ما تقدمها. وفي إِتمام النعمة ثلاثة أقوال:
أحدها: منع المشركين من الحج معهم، قاله ابن عباس، وابن جبير، وقتادة. والثاني: الهداية إِلى الإيمان، قاله ابن زيد. والثالث: الإِظهار على العدو، قاله السدي.
قوله تعالى: فَمَنِ اضْطُرَّ أي: دعته الضرورة إِلى أكل ما حرُم عليه. فِي مَخْمَصَةٍ أي:
مجاعة، والخمص: الجوع. قال الشاعر يذم رجلاً:
يَرَى الخمْصَ تعذيباً وإِن يلق شَبْعَةً ... يَبِتْ قلبُه من قِلَّة الهمِّ مُبْهما «1»
وهذا الكلامُ يرجع إِلى المحرمات المتقدّمة من الميتة والدم، وما ذكر معهما.
قوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ قال ابن قتيبة: غير مائل إلى ذلك، و «الجنف» : الميل. وقال ابن عباس، والحسن، ومجاهد: غير متعمد لإِثم. وفي معنى «تجانف الإِثم» قولان:
أحدهما: أن يتناول منه بعد زوال الضرورة، روي عن ابن عباس في آخرين.
والثاني: أن يتعرّض لمعصية في مقصده، قاله قتادة. وقال مجاهد: من بغى وخرج في معصية، حرم عليه أكله. قال القاضي أبو يعلى: وهذا أصح من القول الأول، لأن الآية تقتضي اجتماع تجانف الاثم مع الاضطرار، وذلك إنما يصحّ في سفر العاصي، ولا يصح حمله على تناول الزِّيادة على سد الرّمق، لأن الاضطرار قد زال. قال أبو سليمان: ومعنى الآية: فمن اضطر فأكله غير متجانف لإِثم، فإن الله غفور، أي: متجاوز عنه، رحيم إِذْ أحل ذلك للمضطر.
[سورة المائدة (5) : آية 4]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)
قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ في سبب نزولها قولان:
(398) أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما أمر بقتل الكلاب، قال الناس: يا رسول الله ماذا أحلّ لنا من
__________
ضعيف، أخرجه الحاكم 2/ 311 والطبري 11137 والطبراني 971 و 972 والواحدي في «الأسباب» 383 من حديث أبي رافع وإسناده ضعيف لضعف موسى بن عبيدة الربذي، وبه أعله الهيثمي في «المجمع» 6096 والوهن في هذا الحديث ذكر جبريل عليه السلام، أما الأمر بقتل الكلاب ونزول الآية، فقد ورد من وجه آخر عن ابن إسحاق عن أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى أم رافع عن أبي رافع، ورجاله ثقات لكن فيه عنعنة ابن إسحاق، وله شاهد من مرسل عكرمة أخرجه الطبري 11138 ومن مرسل محمد بن كعب برقم 11139، وقد صح لفظ «لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» فهذا أخرجه مسلم 2105، وليس فيه ذكر الآية والأمر بقتل الكلاب، وانظر «تفسير الشوكاني» 769 و «أحكام القرآن» 621 بتخريجي.
__________
(1) البيت لحاتم الطائي كما في «الأغاني» 16/ 122.(1/514)
هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية، أخرجه أبو عبد الله الحاكم في صحيحه من حديث أبي رافع عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(399) وكان السبب في أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بقتلها أن جبريل عليه السلام استأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأذن له، فلم يدخل وقال: «إِنا لا ندخل بيتاً فيه كلب ولا صورة» ، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو.
(400) والثاني: أن عدي بن حاتم، وزيد الخيل الذي سمّاه رسول الله: زيد الخير، قالا: يا رسول الله إِنا قومٌ نصيد بالكلاب والبُزاة «1» ، فمنه ما ندرك ذكاته، ومنه ما لا ندرك ذكاته، وقد حرّم الله الميتة، فماذا يحلُّ لنا منها؟ فنزلت هذه الآية، قاله سعيد بن جبير.
قال الزجاج: ومعنى الكلام: يسألونك أي شيء أُحل لهم؟ قل: أُحلّ لكم الطيبات، وأُحل لكم صيد ما علّمتم من الجوارح، والتأويل أنهم سألوا عنه ولكن حذف ذكر صيد ما علمتم، لأن في الكلام دليلاً عليه. وفي الطيبات قولان: أحدهما: أنها المباح من الذبائح. والثاني: أنها ما استطابته العربُ مما لم يحرّم. فأما الْجَوارِحِ فهي ما صيد به من سباع البهائم والطير، كالكلب، والفهد، والصقر والبازي، ونحو ذلك مما يقبل التعليم «2» . قال ابن عباس: كل شيءٍ صاد فهو جارح. وفي تسميتها بالجوارح قولان: أحدهما: لكسب أهلها بها. قال ابن قتيبة: أصل الاجتراح: الاكتساب، يقال: امرأة لا جارح لها، أي: لا كاسب. والثاني: لأنها تجرح ما تصيد في الغالب، ذكره الماوردي. قال أبو سليمان الدمشقي: وعلامة التعليم أنك إِذا دعوته أجاب، وإذا أسّدته على الصيد استأسد، ومضى في طلبه، وإِذا أمسك أمسك عليك لا على نفسه. وعلامة إِمساكه عليك: أن لا يأكل منه شيئاً، هذا في السباع والكلاب «3» ، فأما تعليم جوارح الطير فبخلاف السباع، لأن الطائر إِنما يُعلّم الصيد بالأكل،
__________
هو بعض المتقدم، وقوله «إنا لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة» دون باقي الخبر، متفق عليه، وسيأتي.
أخرجه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير كما في ابن كثير 2/ 22، وهو مرسل، ومع إرساله، فيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وعطاء بن دينار روايته عن سعيد بن جبير صحيفة. وذكره الواحدي في أسبابه 384 بدون إسناد عن سعيد بن جبير. وله شاهد مرسل، أخرجه الطبري 4227 من حديث جابر وإسناده ضعيف. فيه أشعث بن سوّار، ضعيف والحسن لم يسمع من جابر. وقد أخرجه عبد الرزاق 2656 بإسناد على شرط مسلم عن جابر موقوفا وهو الصواب وورد عن جماعة من الصحابة. والإجماع منعقد على ذلك. وانظر «تفسير الشوكاني» 770 و 771 بتخريجنا.
__________
(1) في «اللسان» : الباز: لغة في البازي، وجمع البازي بزاة.
(2) وقال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 265- 266: فصل: وكل ما يقبل التعليم ويمكن الاصطياد به من سباع البهائم: كالفهد أو جوارح الطير فحكمه حكم الكلب في إباحة صيده، وبمعنى هذا قال ابن عباس وطاوس ويحيى بن أبي كثير والحسن ومالك والثوري وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي وأبو ثور. وحكي عن ابن عمر ومجاهد أنه لا يجوز الصيد إلا بالكلب اه باختصار.
(3) قال الإمام البغوي في «تفسيره» عقب الحديث 753: واختلفوا فيما أخذت الصيد وأكلت منه شيئا، فذهب أكثر أهل العلم إلى تحريمه روي ذلك عن ابن عباس، وهو قول عطاء وطاوس والشعبي، وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي، وهو أصح قولي الشافعي، ورخص بعضهم في أكله روي ذلك عن ابن عمر وسلمان وسعد بن أبي وقاص، وبه قال مالك.
وانظر «المغني» 13/ 262- 263. و «الأحكام للجصاص» 3/ 312- 313.(1/515)
والفهد، والكلب، وما أشبههما يعلمون بترك الأكل، فهذا فرق ما بينهما.
وفي قوله تعالى: مُكَلِّبِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أصحاب الكلاب، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول ابن عمر، وسعيد بن جبير، وعطاء، والضحاك، والسدي، والفراء، والزجاج، وابن قتيبة. قال الزجاج: يقال: رجل مكلّب وكلاّبي، أي: صاحب صيد بالكلاب. والثاني: أن معنى مُكَلِّبِينَ: مُصرّين على الصيد، وهذا مروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد. والثالث: ان مُكَلِّبِينَ بمعنى: معلمين. قال أبو سليمان الدمشقي: وإِنما قيل لهم: مكلبين، لأن الغالب من صيدهم إِنما يكون بالكلاب. قال ثعلب: وقرأ الحسن، وأبو رزين: مُكْلِبين، بسكون الكاف، يقال:
أكلب الرجل: إِذا كثرت كلابه، وأمشى: إِذا كثرت ماشيته، والعرب تدعو الصائد مكلّبا.
قوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ قال سعيد بن جبير: تؤدّبونهن لطلب الصيد. وقال الفراء:
تؤدّبونهن أن لا يأكلن صيدهن. واختلفوا هل إِمساك الصائد عن الأكل شرط في صحة التعليم أم لا؟
على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه شرط في كل الجوارح، فان أكلت، لم يؤكل، روي عن ابن عباس، وعطاء. والثاني: أنه ليس بشرط في الكل، ويؤكل وإِن أكلت، روي عن سعد بن أبي وقاص، وابن عمر، وأبي هريرة، وسلمان الفارسي. والثالث: أنه شرط في جوارح البهائم، وليس بشرط في جوارح الطير، وبه قال الشعبي، والنخعي، والسدي، وهو أصح لما بيّنا أن جارح الطير يعلم على الأكل، فأبيح ما أكل منه، وسباع البهائم تعلم على ترك الأكل، فأبيح ما أكلت منه. فعلى هذا إِذا أكل الكلب والفهد من الصيد، لم يبحْ أكله. فأما ما أكل منه الصقر والبازي، فمباح، وبه قال أبو حنيفة، وأصحابه، وقال مالك: يباح أكل ما أكل منه الكلب، والفهد، والصقر، فإن قتل الكلب، ولم يأكل، أُبيح. وقال أبو حنيفة: لا يباح، فان أدرك الصيد، وفيه حياة، فمات قبل أن يذكيه، فإن كان ذلك قبل القدرة على ذكاته أُبيح، وإِن أمكنه فلم يذكّه، لم يبحْ، وبه قال مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يباح في الموضعين. فأما الصيد بكلب المجوسي، فروي عن أحمد أنه لا يكره، وهو قول الأكثرين، وروي عنه الكراهة، وهو قول الثوري لقوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ وهذا خطاب للمؤمنين «1» . قال القاضي أبو يعلى: ومنع أصحابنا الصيد بالكلب الأسود، وإِن كان معلماً، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بقتله،
__________
(1) قال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 272: وإن صاد المسلم، بكلب مجوسيّ فقتل، حلّ صيده. وبهذا قال سعيد بن المسيّب، والحكم، ومالك والشافعي، وأبو ثور وأصحاب الرأي. وعن أحمد: لا يباح. وكرهه جابر والحسن، ومجاهد، والنخعي، والثوري لقوله تعالى: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ. وهذا لم يعلّمه. ولنا، أنه آلة صاد بها المسلم، فحلّ صيده، كالقوس والسهم. قال ابن المسيّب: هو بمنزلة شفرته.
والآية دلّت على إباحة الصيد بما علمناه وما علمه غيرنا، فهو في معناه، فيثبت الحكم بالقياس الذي ذكرناه، يحققه أن التعليم إنما أثر في جعله آلة، ولا تشترط الأهلية في ذلك كعمل القوس والسهم. وإنما يشترط إرسال الآية من الكلب والسهم، وقد وجد هاهنا.(1/516)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
والأمر بالقتل: يمنع ثبوت اليد، ويبطل حكم الفعل، فيصير وجوده كالعدم، فلا يباح صيده «1» .
قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ قال الأخفس: «من» زائدة كقوله تعالى: فِيها مِنْ بَرَدٍ «2» .
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الإِرسال، قاله ابن عباس، والسدي، وعندنا أن التسمية شرط في إِباحة الصيد «3» . والثاني: ترجع إِلى الأكل فتكون التسمية مستحبّة.
قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ قال سعيد بن جبير: لا تستحلوا ما لم يذكر اسم الله عليه.
[سورة المائدة (5) : آية 5]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
قوله تعالى: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ قال القاضي أبو يعلى: يجوز أن يريد باليوم اليوم الذي أنزلت فيه الآية، ويجوز أن يريد اليوم الذي تقدم ذكره في قوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ، وفي قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وقيل: ليس بيوم معيّن، وقد سبق الكلام في «الطيبات» وإنما كرّر إِحلالها تأكيداً. فأما أهل الكتاب، فهم اليهود والنّصارى. وطعامهم: ذبائحهم،
__________
(1) قال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 267: ولا يؤكل ما صيد بالكلب الأسود، إذا كان بهيما لأنه شيطان. قال أحمد: الذي ليس فيه بياض وممن كره صيده الحسن، والنخعي، وقتادة، وإسحاق. قال أحمد: ما أعرف أحدا يرخّص فيه. يعني من السلف. وأباح صيده أبو حنيفة ومالك والشافعي، لعموم الآية والخبر، والقياس على غيره من الكلاب. ولنا، أنه كلب يحرم اقتناؤه، ويجب قتله، فلم يبح صيده كغير المعلّم، ودليل تحريم اقتنائه ما روى مسلم في «صحيحه» بإسناده عن عبد الله بن المغفّل، قال: أمرنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقتل الكلاب، ثم نهى عن قتلها، فقال: «عليكم بالأسود البهيم، ذي النكتتين، فإنه شيطان» . فالنبي سماه شيطانا، ولا يجوز اقتناء الشيطان. وإباحة الصيد المقتول رخصة، فلا تستباح بمحرّم كسائر الرّخص.
(2) سورة النور: 43.
(3) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 257- 265: مسألة، قال أبو القاسم، رحمه الله «وإذا سمّى وأرسل كلبه أو فهده المعلّم، واصطاد، وقتل، ولم يأكل منه، جاز أكله فاشترط في إباحة ما قتله الجارح شروط منها. أن يسمّي عند إرسال الجارح، فإن ترك التسمية عمدا أو سهوا لم يبح هذا تحقيق المذهب وهو قول الشعبي وأبي ثور، وعن أحمد أن التسمية تشترط في إرسال الكلب في العمد والنسيان، ولا يلزم ذلك في إرسال السهم. وممن أباح متروك التسمية في النسيان دون العمد أبو حنيفة ومالك، لقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» . وقال الشافعي: يباح متروك التسمية عمدا أو سهوا لأن البراء روى، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «المسلم يذبح على اسم الله، سمّى أو لم يسمّ» . وعن أحمد رواية أخرى مثل هذا. ولنا قوله تعالى:
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أرسلت كلبك، وسمّيت، فكل» ، قلت أرسل كلبي فأجد معه كلبا آخر؟ قال: «لا تأكل، فإنك إنما سمّيت على كلبك ولم تسمّ على الآخر» متفق عليه.
وحديث أبي ثعلبة، فهذه نصوص صحيحة لا يعرّج على ما خالفها. وأما أحاديث الشافعي، وإن صحت فهي في الذبيحة، ولا يصح قياس الصيد عليها، والتسمية المعتبرة «بسم الله» وقد ثبت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا ذبح قال: «بسم الله والله أكبر» . وجاء في تفسير قوله تعالى: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ لا أذكر إلا ذكرت معي.
ولنا، قوله صلّى الله عليه وسلّم: «موطنان لا أذكر فيهما، عند الذبيحة، والعطاس» رواه أبو محمد الخلّال بإسناده.(1/517)
هذا قول ابن عباس، والجماعة. وإِنما أريد بها الذبائح خاصّة، لأن سائر طعامهم لا يختلف بمن توَّلاه من مجوسي وكتابي، وإِنما الذكاة تختلف، فلما خصّ أهل الكتاب بذلك، دل على أن المراد الذبائح، فأما ذبائح المجوس، فأجمعوا على تحريمها. واختلفوا في ذبائح من دان باليهودية والنصرانية من عبدة الأوثان «1» ، فروي عن ابن عباس أنه سُئل عن ذبائح نصارى العرب، فقال: لا بأس بها، وتلا قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ وهذا قول الحسن، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وعكرمة، وقتادة، والزهري، والحكم، وحماد. وقد روي عن علي، وابن مسعود في آخرين أن ذبائحهم لا تحل. ونقل الخرقي عن أحمد في نصارى بني تغلب روايتين. إِحداهما: تباح ذبائحهم، وهو قول أبي حنيفة، ومالك. والثانية: لا تباح. وقال الشافعي: من دخل في دين أهل الكتاب بعد نزول القرآن، لم يبح أكل ذبيحته.
قوله تعالى: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي: وذبائحكم لهم حلال، فاذا اشتروا منا شيئاً كان الثمن لنا حلالاً، واللحم لهم حلالاً. قال الزجاج. والمعنى: أُحل لكم أن تطعموهم.
فصل: وقد زعم قوم أن هذه الآية اقتضت إِباحة ذبائح أهل الكتاب مطلقاً وإِن ذكروا غير اسم الله عليها، فكان هذا ناسخاً لقوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ «2» والصحيح أنها أطلقت إِباحة ذبائحهم، لأن الأصل أنهم يذكرون الله فيُحمل أمرهم على هذا. فإن تيقنّا أنهم ذكروا غيره فلا نأكل ولا وجه للنسخ، وإِلى هذا الذي قلته ذهب علي، وابن عمر، وعبادة، وأبو الدرداء، والحسن في جماعة.
__________
(1) فائدة: قال الإمام الخرقي في «المختصر» مسألة: وذبيحة من أطاق الذبح من المسلمين وأهل الكتاب حلال إذا سموا، أو نسوا التسمية» قال الإمام الموفق في «شرحه» : وجملة ذلك أن كل من أمكنه الذبح من المسلمين وأهل الكتاب إذا ذبح حل أكل ذبيحته رجلا كان أو امرأة، بالغا أو صبيا، حرا أو عبدا، لا نعلم في هذا خلافا. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على إباحة ذبيحة المرأة والصبي. ويشترط أن يكون عاقلا، فإن كان طفلا أو مجنونا أو سكران لا يعقل، لم يصح منه الذبح، وبهذا قال مالك، وقال الشافعي: لا يعتبر القول. ولنا أن الذكاة يعتبر لها القصد، فيعتبر لها العقل كالعبادة. فإن من لا عقل له، لا يصح منه القصد، فيصير ذبحه كما لو وقعت الحديدة بنفسها على حلق شاة فذبحتها. قال: والتسمية مشترطة في كل ذابح مع العمد سواء كان مسلما أو كتابيا، فإن ترك الكتابي التسمية عن عمد، أو ذكر اسم غير الله، لم تحل ذبيحته، روي ذلك عن علي، وبه قال النخعي والشافعي وحماد وإسحاق وأصحاب الرأي. وقال عطاء ومجاهد ومكحول: إذا ذبح النصراني باسم المسيح حلّ، فإن الله تعالى أحل لنا ذبيحته، وقد علم أنه سيقول ذلك. اه ملخصا 13، 311- 312.
وقال الإمام المرغيناني الحنفي في «الهداية» : وذبيحة المسلم والكتابي حلال. ويحل إذا كان يعقل التسمية والذبيحة ويضبط، وإن كان صبيا أو مجنونا أو امرأة، أما إذا كان لا يضبط ولا يعقل التسمية والذبيحة لا تحل، لأن التسمية على الذبيحة شرط بالنص وذلك بالقصد، والأقلف والمختون سواء، وإطلاق اسم الكتابي ينتظم:
الكتابي والذمي والحربي والعربي والتغلبي. ولا تؤكل ذبيحة المجوسي والمرتد والوثني والمحرم، وكذا لا يؤكل ما ذبح من الصيد في الحرم، وإن ترك التسمية عمدا فالذبيحة ميتة لا تؤكل، وإن تركها ناسيا أكل وقال الشافعي: أكل في الوجهين. وقال مالك: لا يؤكل في الوجهين والمسلم والكتابي في ترك التسمية سواء اه ملخصا «فتح القدير شرح الهداية» 9/ 497- 499 بتخريجي.
(2) سورة الأنعام: 121.(1/518)
قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ فيهن قولان: أحدهما: العفائف، قاله ابن عباس. والثاني:
الحرائِر، قاله مجاهد. وفي قوله تعالى: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قولان: أحدهما: الحرائِر أيضاً، قاله ابن عباس. والثاني: العفائِف، قاله الحسن، والشعبي، والنخعي، والضحاك والسدي، فعلى هذا القول يجوز تزويج الحرّة منهن والأمة.
فصل: وهذه الآية أباحت نكاح الكتابية. وقد روي عن عثمان أنه تزوج نائِلة بنت الفرافصة على نسائه وهي نصرانية. وعن طلحة بن عبيد الله: أنه تزوج يهودية. وقد روي عن عمر، وابن عمر كراهة ذلك. واختلفوا في نكاح الكتابية الحربية، فقال ابن عباس: لا تحل، والجمهور على خلافه، وإِنما كرهوا ذلك، لقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» ، والنكاح يوجب الود. واختلفوا في نكاح نساء تغلب، فروي عن عليّ رضي الله عنه الحظر، وبه قال جابر بن زيد، والنخعي، وروي عن ابن عباس الإباحة. وعن أحمد روايتان. واختلفوا في إماء أهل الكتاب، فروي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد: أنه لا يجوز نكاحهن، وبه قال الأوزاعي، ومالك، واللّيث بن سعد، والشافعي، وأصحابنا، وروي عن الشعبي، وأبي ميسرة جواز ذلك، وبه قال أبو حنيفة. فأما المجوس، فالجمهور على أنهم ليسوا بأهل كتاب، وقد شذّ من قال: إِنهم أهل كتاب.
(401) ويبطل قولهم قولُه عليه السلام: «سُنُّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب» .
فأما «الأجور» ، و «الإحصان» ، و «السّفاح» ، و «الأخذان» فقد سبق في سورة النساء.
قوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ.
(402) سبب نزول هذا الكلام: أن الله تعالى لما رخَّص في نكاح الكتابيات قلن بينهن: لولا أن الله تعالى قد رضي علينا، لم يبح للمؤمنين تزويجنا، وقال المسلمون: كيف يتزوّج الرجل منا الكتابية، وليست على ديننا، فنزلت: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وقال مقاتل بن حيّان: نزلت فيما أحصن المسلمون من نساء أهل الكتاب، يقول: ليس إِحصان المسلمين إِياهن بالذي يخرجهن من الكفر. وروى ليث عن مجاهد: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ قال:
الإِيمان بالله تعالى، وقال الزجاج: معنى الآية: من أحل ما حرّم الله، أو حرّم ما أحلّه الله فهو كافر.
وقال أبو سليمان: من جحد ما أنزله الله من شرائِع الإِيمان، وعرفه من الحلال والحرام، فقد حبط
__________
صحيح. أخرجه مالك في «الموطأ» عن محمد الباقر وهو مرسل لأنه لم يدرك عمر ولا عبد الرحمن بن عوف. ورواه ابن سعد وفيه شيخه الواقدي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص والواقدي ضعيف.
لكن أخرجه البخاري 3157 وأبو داود 3043 والترمذي 1587 والدارمي 2406 وابن الجارود 1105 والبيهقي 9/ 189 وأحمد 1/ 190، 94 كلهم عن بجالة بن عبدة قال: «لم يكن عمر يأخذ الجزية من المجوس حتى حدثه ابن عوف أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أخذ الجزية من مجوس هجر» فهذا إسناد صحيح متصل.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس، ولم يسمع منه كما قال ابن حبان، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.
__________
(1) سورة المجادلة: 22.(1/519)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
عمله المتقدّم. وسمعت الحسن بن أبي بكر النّيسابوريّ الفقيه يقول: إنّما أباح الله عزّ وجلّ الكتابيّات، لأنّ بعض المسلمين قد يعجبه حسنهن، فَحَذَّر ناكحهنَّ من الميل إِلى دينهن بقوله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ
[سورة المائدة (5) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ قال الزجاج: المعنى: إِذا أردتم القيام إِلى الصلاة، كقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «1» قال ابن الأنباري: وهذا كما تقول: إذا آخيت فآخ أهل الحسب، وإِذا اتجرت فاتجر في البزّ «2» . قال: ويجوز أن يكون الكلام مقدّماً ومؤخراً، تقديره: إِذا غسلتم وجوهكم، واستوفيتم الطهور، فقوموا إِلى الصلاة. وللعُلماء في المراد بالآية قولان «3» .
أحدهما: إِذا قمتم إِلى الصلاة محدثين، فاغسلوا، فصار الحدث مضمراً في وجوب الوضوء، وهذا قول سعد بن أبي وقاص، وأبي موسى الأشعري، وابن عباس، والفقهاء. والثاني: أن الكلام على إِطلاقه من غير إِضمار، فيجب الوضوء على كل من يريد الصلاة، محدثاً كان، أو غير محدث، وهذا مروي عن عليّ رضي الله عنه وعكرمة، وابن سيرين. ونقل عنهم أن هذا الحكم غير منسوخ، ونقل عن جماعة من العلماء أن ذلك كان واجباً، ثم نسخ بالسنّة.
(403) وهو ما روى بُريدة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوءٍ واحدٍ، فقال له عمر: لقد صنعت شيئاً لم تكن تصنعه؟ فقال: «عمداً فعلته يا عمر» .
__________
صحيح. أخرجه مسلم 277 وأبو داود 172 والترمذي 61 والنسائي 1/ 16 والدارمي 1/ 169 وأحمد 5/ 350- 351- 358 وأبو عوانة 1/ 237 والطحاوي في «المعاني» 1/ 41 وابن حبان 1706 و 1707 و 1708 والبيهقي 1/ 162 من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه.
__________
(1) سورة النحل: 98. [.....]
(2) في «اللسان» : البزّ: الثياب، وقيل البزّ من الثياب أمتعة البزاز والبزاز بائع البزّ وحرفته البزازة.
(3) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 454: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال: إن الله عني بقوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا، جميع أحوال قيام القائم إلى الصلاة، غير أنه أمر فرض بغسل ما أمر الله بغسله القائم إلى صلاته، بعد حدث كان منه ناقض طهارته، وقبل إحداث الوضوء منه، وأمر ندب لمن كان على طهر قد تقدم منه، ولم يكن منه بعده حدث ينقض طهارته لذلك كان عليه السلام يتوضأ لكلّ صلاة قبل فتح مكة ثم صلى يومئذ الصلوات كلها بوضوء واحد، ليعلّم أمته أن ما كان يفعله عليه السلام من تجديد الطهر لكل صلاة، إنما كان منه أخذا بالفضل، وإيثارا منه لأحب الأمرين إلى الله، ومسارعة منه إلى ما ندبه إليه ربّه، لا على أن ذلك كان عليه فرضا واجبا.(1/520)
وقال قوم: في الآية تقديم وتأخير، ومعناها: إِذا قمتم إِلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء، فاغسلوا وجوهكم «1» .
قوله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ «إِلى» حَرْفٌ موضوعٌ للغاية، وقد تدخل الغاية فيها تارة، وقد لا تدخل، فلما كان الحديث يقيناً، لم يرتفع إِلا بيقين مثله، وهو غسل المرفقين. فأما الرأس فنقل عن أحمد وجوب مسح جميعه «2» ، وهو قول مالك، وروي عنه: يجب مسح أكثره، وروي عن أبي حنيفة روايتان: إِحداهما: أنه يتقدّر بربع الرأس. والثانية: بمقدار ثلاث أصابع.
قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم:
بكسر اللام عطفاً على مسح الرأس، وقرأ نافع، وابن عامر، والكسائي، وحفص عن عاصم، ويعقوب:
بفتح اللام عطفاً على الغَسل، فيكون من المقدم والمؤخّر. قال الزجاج: الرِّجل من أصل الفخذ إِلى القدم، فلما حدّ الكعبين، عُلمَ أن الغسل ينتهي إِليهما، ويدل على وجوب الغَسل التحديد بالكعبين، كما جاء في تحديد اليد «إلى المرافق» ولم يجيء في شيء من المسح تحديد. ويجوز أن يراد الغسل على قراءة الخفض، لأن التحديد بالكعبين يدل على الغسل، فينسق بالغسل على المسح. قال الشاعر:
__________
(1) قال الإمام ابن العربي في «أحكام القرآن» 2/ 48: قال زيد بن أسلم: معناه إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ من النوم، وبين هذا أن النوم حدث، وبه قال جملة الأمة.
وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 235- 237 ما ملخصه. فصل: والنوم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
نوم المضطجع، فينقض الوضوء يسيره وكثيره في قول كل من يقول بنقضه بالنوم. الثاني: نوم القاعد، إن كان كثيرا نقض، رواية واحدة، وإن كان يسيرا لم ينقض، وهذا قول حماد والحكم ومالك والثوري وأصحاب الرأي، وقال الشافعي: لا ينقض وإن كثر، إذا كان القاعد متمكنا مفضيا بمحل الحدث إلى الأرض. الثالث:
نوم القائم والراكع والساجد، فروي عن أحمد في جميع ذلك روايتان: إحداهما: ينقض، وهو قول الشافعي، والثانية: لا ينقض إلا إذا كثر. وذهب أبو حنيفة إلى أن النوم في حال من أحوال الصلاة لا ينقض وإن كثر.
لأنه حال من أحوال الصلاة، فأشبهت حال الجلوس. والظاهر عن أحمد التسوية بين القيام والجلوس.
واختلفت الرواية عن أحمد في القاعد المستند والمحتبي. فعنه: لا ينقض يسيره. قال أبو داود: سمعت أحمد قيل له: الوضوء من النوم؟ قال: إذا طال. قيل: فالمحتبي؟ قال: يتوضأ. قيل: فالمتكئ؟ قال: الاتكاء شديد، والمتساند كأنه أشد من الاحتباء، ورأى منها كلها الوضوء، إلا أن يغفو قليلا، وعنه: ينقض بكل حال لأنه معتمد على شيء، فهو كالمضطجع، والأولى أنه متى كان معتمدا بمحل الحدث على الأرض أن لا ينقض منه إلا الكثير اه باختصار. وانظر «المدونة» 1/ 9- 10 و «تفسير القرطبي» 5/ 222.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 175- 176: لا خلاف في وجوب مسح الرأس. واختلف في قدر الواجب، فروي عن أحمد وجوب مسح جميعه في حق كل أحد، وهو مذهب مالك. وعن أحمد: يجزئ مسح بعضه، وبه قال الحسن والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب الرأي، إلا أن الظاهر عن أحمد في حق الرجل وجوب الاستيعاب، وأن المرأة يجزئها مسح مقدم رأسها اه ملخصا.
وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 1/ 183- 184 ما ملخصه: فصل: والأذنان من الرأس، فقياس المذهب وجوب مسحهما مع مسحه. وقال الخلال: كلهم حكوا عن أبي عبد الله فيمن ترك مسحهما عامدا أو ناسيا أنه يجزئه، وذلك لأنهما تبع للرأس، والأولى مسحهما معه، لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم مسحهما مع رأسه.
- وقال الإمام المرغيناني الحنفي في «الهداية» : ومسح الأذنين، وهو سنة بماء الرأس عندنا خلافا للشافعي لقوله عليه الصلاة والسلام «الأذنان من الرأس» والمراد بيان الحكم دون الخلقة.(1/521)
يا ليتَ بَعْلك قد غدا ... متقلِّداً سيفاً ورُمحاً «1»
والمعنى: وحاملاً رمحاً. وقال الآخر.
علفتها تبناً وماءً بارِداً «2» والمعنى: وسقيتها ماءً بارداً. وقال أبو الحسن الأخفش: يجوز الجرّ على الإِتباع، والمعنى:
الغسل، نحو قولهم: جحر ضبٍ خربٍ. وقال ابن الأنباري: لما تأخّرت الأرجل بعد الرؤوس، نسقت عليها للقرب والجوار، وهي في المعنى نسق على الوجوه كقولهم: جحر ضبٍّ خَربٍ، ويجوز أن تكون منسوقة عليها، لأن العرب تسمّي الغسل مسحاً، لأن الغسل لا يكون إِلا بمسح. وقال أبو علي: مَن جرّ فحُجَّتُه أنه وجد في الكلام عاملين: أحدهما: الغسل، والآخر: الباء الجارّة، ووجه العاملين إِذا اجتمعا: أن يحمل الكلام على الأقرب منهما دون الأبعد، وهو «الباء» هاهنا، وقد قامت الدلالة على أن المراد بالمسح: الغسل من وجهين «3» :
__________
(1) البيت غير منسوب في «مشكل القرآن» : 165 و «الكامل» 1/ 289 و «اللسان» مادة: قلد. ونسبه في حواشي ابن القوطية على «الكامل» 189 لعبد الله بن الزبعرى. ويروى الشطر الأول منه «ورأيت زوجك في الوغى» وفي «اللسان» : تقلّد الأمر: احتمله.
(2) هو صدر بيت وعجزه: حتى شتت همّالة عيناها. وهو في «الخزانة» 1/ 499 وشرح «شواهد المغني» 314.
قال العيني: 4/ 181 أنشده الأصمعي وغيره، ولم أر أحدا عزاه إلى قائله.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 2/ 35: ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي 1/ 75 عن النزال بن سبرة يحدث عن علي بن أبي طالب أنه صلى الظهر ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر، ثم أتي بكوز من ماء فأخذ منه حفنة واحدة فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه، ثم قام فشرب فضلته، وهو قائم، ثم قال: إن أناسا يكرهون الشرب قائما، وإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صنع كما صنعت، وقال: «هذا وضوء من لم يحدث» . والأحاديث التي جاءت بالغسل كثيرة. ففي البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمرو قال تخلف عنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر، ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته:
«أسبغوا الوضوء، وبل للأعقاب من النار» . وروى مسلم عن عمر بن الخطاب «أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدم، فأبصره النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ارجع فأحسن وضوءك» قال ابن كثير: وإسناده جيد قوي صحيح.
وقال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» : وغسل الرجلين واجب في قول أكثر أهل العلم، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على غسل القدمين. وروي عن علي أنه مسح على نعليه وقدميه، وحكي عن ابن عباس أنه قال: ما أجد في كتاب الله إلا غسلتين ومسحتين. وحكي عن الشعبي أنه قال: الوضوء مغسولان وممسوحان، فالممسوحان يسقطان في التيمم. ولم نعلم من فقهاء المسلمين من يقول بالمسح على الرجلين غير ما ذكرنا إلا ما حكي عن ابن جرير أنه قال: هو مخيّر بين المسح والغسل، واحتج بظاهر الآية. وما روي عن ابن عباس. ولنا أن عبد الله بن زيد، وعثمان، حكيا وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالا: فغسل قدميه. وفي حديث عثمان: ثم غسل كلتا رجليه ثلاثا، متفق عليهما. وعن علي أنه حكى وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاثا ثلاثا. فإن قيل: فعطفه على الرأس دليل على أنه أراد حقيقة المسح. قلنا: قد افترقا من وجوه: أحدها: أن الممسوح في الرأس شعر يشق غسله، والرجلين أشبه بالمغسولات. والثاني: أنهما محدودان بحد ينتهي إليه، فأشبها اليدين. والثالث: أنهما معرضتان للخبث لكونهما يوطأ بهما على الأرض بخلاف الرأس. وأما حديث أوس في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم: فإنما أراد الغسل الخفيف وكذلك ابن عباس، ولذلك قال: أخذ ملء كفّه من ماء فرش على قدميه، والمسح يكون بالبلل لا برش الماء.(1/522)
أحدهما: أن أبا زيد قال: المسح خفيف الغسل، قالوا: تمسحت للصلاة، وقال أبو عبيدة:
فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ «1» ، أي ضرباً، فكأن المسح في الآية غسل خفيف. فإن قيل: فالمستحب التكرار ثلاثاً؟ قيل: إِنما جاءت الآية بالمفروض دون المسنون.
والوجه الثاني: أن التحديد والتوقيت إِنما جاء في المغسول دون الممسوح، فلما وقع التحديد مع المسح، عُلم أنه في حكم الغسل لموافقته الغسل في التحديد، وحجة من نصب أنه حَمل ذلك على الغسل لاجتماع فُقهاء الأمصار على الغسل.
قوله تعالى: إِلَى الْكَعْبَيْنِ «إِلى» بمعنى «مع» ، والكعبان: العظمان الناتئان من جانبي القدم.
قوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا أي: فتطهروا، فأدغمت التاء في الطاء، لأنهما من مكان واحد، وقد بيّن الله عزّ وجلّ طهارة الجنب في سورة النّساء بقوله تعالى: حَتَّى تَغْتَسِلُوا «2» وقد ذكرنا هناك الكلام في تمام الآية إلى قوله تعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و «الحرج» : الضيق، فجعل الله الدين واسعاً حين رخّص في التيمم.
قوله تعالى: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي: يريد أن يطهركم. قال مقاتل: من الأحداث والجنابة، وقال غيره: من الذنوب والخطايا، لأن الوضوء يكفر الذنوب.
قوله تعالى: وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ في الذي يتمُّ به النعمة أربعة أقوال:
أحدها: بغفران الذنوب.
(404) قال محمد بن كعب القرظي: حدثني عبد الله بن دارة، عن حمران قال: مررت على عثمان بفخّارةٍ من ماءٍ، فدعا بِها فتوضأ، فأحسن الوضوء ثم قال: لو لم أسمعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غير مرة أو مرّتين أو ثلاثاً ما حدّثتكم، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ما توضأ عبد فأحسن الوضوء، ثم قام إِلى الصلاة، إِلا غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى» قال محمد بن كعب: وكنت إِذا سمعت الحديث التمسته في القرآن. فالتمست هذا فوجدته في قوله تعالى: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ «3» فعلمت أن الله لم يتم النعمة عليه حتى غفر له ذنوبه، ثم قرأت الآية التي في المائدة: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ إِلى قوله وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فعلمت أنه لم يتم النعمة عليهم حتى غفر لهم.
__________
ضعيف بهذا اللفظ والإسناد. أخرجه البيهقي في «الشعب» 2728 من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب به، وإسناده ضعيف لضعف أبي معشر، واسمه عيسى بن أبي عيسى.
- والذي صح عن عثمان ما أخرجه البخاري 159 و 1934 و 6433 ومسلم 226 وغيرهما عن حمران مولى عثمان أن عثمان بن عفان دعا بوضوء فأفرغ على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض واستنشق واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاثا، ثم مسح برأسه، ثم غسل كل رجل ثلاثا، ثم قال: رأيت النبي صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ نحو وضوئي هذا وقال: «من توضأ نحو وضوئي هذا وصلى ركعتين لا يحدّث فيهما نفسه، غفر الله له ما تقدم من ذنبه» .
__________
(1) سورة ص: 33.
(2) سورة النساء: 43.
(3) سورة الفتح: 1- 2.(1/523)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
والثاني: بالهداية إِلى الإِيمان، وإِكمال الدين، وهذا قول ابن زيد. والثالث: بالرخصة في التيمم، قاله مقاتل، وأبو سليمان. والرابع: ببيان الشرائِع، ذكره بعض المفسّرين.
[سورة المائدة (5) : آية 7]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)
قوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني النعم كلَّها. وفي هذا حثٌ على الشكر.
وفي الميثاق أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه إِقرار كل مؤمن بما آمن به. قال ابن عباس: لما أنزل الله الكتاب، وبعث الرسول، فقالوا: آمنا، ذكَّرهم ميثاقه الذي أقرُّوا به على أنفسهم، وأمرهم بالوفاء.
والثاني: أنه الميثاق الذي أخذه من بني آدم حين أخرجهم من ظهره، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وابن زيد. والثالث: أنه ما وثق على المؤمنين على لسان نبيه عليه السلام من الأمر بالوفاء بما أقرّوا به من الإِيمان. روى هذا المعنى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع: أنه الميثاق الذي أخذ من الصّحابة على السمع والطاعة في بيعة العقبة، وبيعة الرضوان، ذكره بعض المفسّرين. قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ قال مقاتل: اتقوه في نقض الميثاق إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي: بما فيها من إيمان وشكّ.
[سورة المائدة (5) : آية 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها نزلت من أجل كفار قريش أيضا، وقد تقدّم ذكرهم في قوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ روى نحو هذا أبو صالح، عن ابن عباس، وبه قال مقاتل.
(405) والثاني: أن قريشاً بعثت رجلاً ليقتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأطلع الله نبيه على ذلك، ونزلت هذه الآية، والتي بعدها، هذا قول الحسن.
(406) والثالث: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذهب إِلى يهود بني النضير يستعينهم في ديةٍ، فهمُّوا بقتله، فنزلت هذه الآية، قاله مجاهد، وقتادة.
ومعنى الآية: كونوا قوامين لله بالحق، ولا يحملنَّكم بغض قوم على ترك العدل اعْدِلُوا في
__________
هو الآتي بعد حديث.
هو الآتي بعد حديث جابر.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله في «تفسيره» 4/ 481: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول ابن عباس، وهو أن معناه: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ يعني وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة في المنشط والمكره والعسر واليسر.(1/524)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
الولي والعدو هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي: إِلى التقوى. والمعنى: أقرب إِلى أن تكونوا متقين، وقيل: هو أقرب إلى اتّقاء النّار.
[سورة المائدة (5) : الآيات 9 الى 10]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)
قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ في معناها قولان:
أحدهما: أن المعنى: وعدهم الله أن يغفر لهم ويأجرهم فاكتفى بما ذكر عن هذا المعنى.
والثاني: أن المعنى: وعدهم فقال: لهم مغفرة. وقد بيّنّا في البقرة معنى «الجحيم» » .
[سورة المائدة (5) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
في سبب نزولها أربعة أقوال «2» :
(407) أحدها: أن رجلاً من محارب قال لقومه: الا أقتل لكم محمداً، فقالوا: وكيف تقتله؟
فقال: أفتك به، فأقبل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسيفه في حجره، فأخذه، وجعل يهزّه، ويهمّ به، فيَكْبِتُه الله، ثم قال: يا محمد ما تخافني؟ قال: لا، قال: لا تخافني وفي يدي السّيف؟! قال: يمنعني الله منك، فأغمد السيف، فنزلت هذه الآية، رواه الحسن البصري عن جابر بن عبد الله. وفي بعض الألفاظ: فسقط السّيف من يده. وفي لفظ آخر: فما قال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شيئاً ولا عاقبه. واسم هذا الرجل: غورث بن الحارث من محارب خصفة.
__________
ذكر نزول الآية ضعيف. أخرجه الواحدي 385 من طريق ابن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن عن جابر به، وإسناده ضعيف، فيه عنعنة ابن إسحاق والحسن وكلاهما مدلس، وفيه عمرو بن عبيد، وهو ضعيف، والوهن في هذا الخبر بذكر نزول الآية، وأما أصل الحديث فصحيح. أخرجه البخاري 4135 و 4136 ومسلم 843 والواحدي 386 والبيهقي 6/ 319 والطبري 11569 من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه غزا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قبل نجد فلما قفل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قفل معه فأدركتهم القائلة في واد كثير العضاه، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتفرّق الناس في العضاه يستظلون بالشجر، ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تحت سمرة، فعلّق بها سيفه، قال جابر، فنمنا نومة فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعونا فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتا فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت له: الله، فها هوذا جالس» ثم لم يعاقبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وليس فيه سبب نزول الآية.
والقائلة: شدة الحر. والعضاه: شجر له شوك. واختراط السيف: سله. صلتا: مجردا من غمده.
__________
(1) سورة البقرة: 119.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 487: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية، نعمته على المؤمنين به وبرسوله، في استنقاذه نبيهم محمدا صلّى الله عليه وسلّم مما كانت اليهود همت به في قتله ومن معه، يوم سار إليهم نبي الله صلّى الله عليه وسلّم في الدية التي كان تحمّلها عن قتيلي عمرو بن أمية.(1/525)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
(408) والثاني: أن اليهود عزموا على الفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكفاه الله شرّهم، قال ابن عباس:
صنعوا له طعاماً، فأوُحِيَ إِليه بشأنهم، فلم يأت.
(409) وقال مجاهد، وعكرمة: خرج إِليهم يستعينهم في دية، فقالوا: اجلس حتى نعطيك، فجلس هو وأصحابه، فخلا بعضهم ببعض، وقالوا: لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن، فمن يظهر على هذا البيت، فيطرح عليه صخرة؟ فقال عمرو بن جحّاش: أنا، فجاء إِلى رحى عظيمة ليطرحها عليه، فأمسك الله يده، وجاء جبريل، فأخبره، وخرج، ونزلت هذه الآية.
(410) والثالث: أن بني ثعلبة، وبني مُحارب أرادوا أن يفتكوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبأصحابه، وهم ببطن نخلة في غزاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السابعة، فقالوا: إِِن لهم صلاة هي أحبّ إِليهم من آبائِهم وأمهاتهم، فإذا سجدوا وقعنا بهم، فأطلع الله نبيه على ذلك، وأنزل صلاة الخوف، ونزلت هذه الآية، هذا قول قتادة.
والرابع: أنها نزلت في حق اليهود حين ظاهروا المشركين على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هذا قول ابن زيد.
[سورة المائدة (5) : آية 12]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ قال أبو العالية: أخذ الله ميثاقهم أن يخلصوا له العبادة، ولا يعبُدوا غيره. وقال مقاتل: أن يعملوا بما في التوراة.
وفي معنى النقيب ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الضمين، قاله الحسن، ومعناه: أنه ضمين ليعرف أحوال من تحت يده، ولا يجوز أن يكون ضميناً عنهم بالوفاء، لأن ذلك لا يصح ضمانه. وقال ابن قتيبة: هو الكفيل على القوم. والنقابة شبيهة بالعرافة. والثاني: أنه الشاهد، قاله قتادة. وقال ابن فارس:
النقيب: شاهد القوم، وضمينهم. والثالث: الأمين، قاله الربيع بن أنس، واليزيدي، وهذه الأقوال تتقارب. قال الزجاج: النقيب في اللغة، كالأمين والكفيل، يقال: نقب الرجل على القوم ينقب: إِذا صار نقيباً عليهم، وصناعته النقابة، وكذلك عرِّف عليهم: إِذا صار عريفاً، ويقال لأول ما يبدو من الجرب: النّقبة، ويجمع النّقب والنّقب. وقال الشاعر:
__________
أخرجه أبو نعيم في «الدلائل» 2/ 489- 490 من طريق عطاء عن ابن عباس وعن مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس مطوّلا، ومقاتل متهم، والضحاك لم يلق ابن عباس، وأخرجه الطبري 11567 بسند فيه مجاهيل.
وانظر ما بعده،
أخرجه الطبري برقم 11561 و 11562 عن مجاهد، وبرقم 11565 عن عكرمة، وكلاهما مرسل.
مرسل. أخرجه الطبري 11568 عن قتادة مرسلا. فهذه المراسيل تتأيد بمجموعها، وإن اختلفت ألفاظها، والله أعلم، فإن المعنى متحد، وهو محاولة الكفرة قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم.(1/526)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
متبذِلاً تبدو محاسنُه ... يضعُ الهناء مواضِعَ النُّقب «1»
ويقال: في فلان مناقب جميلة، وكل الباب معناه: التأثير الذي له عُمق ودخول، ومن ذلك نقبت الحائِط، أي: بلغت في النقب آخِرَه، والنقبة من الجرب: داء شديد الدخول. وإِنما قيل: نقيب، لأنه يعلم دخيلة أمر القوم، ويعرف مناقبهم، وهو الطريق إِلى معرفة أمورهم. ونقل أن الله تعالى أمر موسى وقومه بالسّير إلى الأرض المقدسة، وكان يسكنها الجبارون، فقال تعالى: يا موسى اخرج إِليها وجاهد من فيها من العدو، وخُذْ من قومك اثني عشر نقيباً، من كل سبط نقيباً يكون كفيلاً على قومه بالوفاء بما أُمروا به، فاختاروا النقباء. وفيما بعثوا له قولان:
أحدهما: أن موسى بعثهم إِلى بيت المقدس، ليأتوه بخبر الجبارين، قاله ابن عباس، ومجاهد، والسدي. والثاني: أنهم بعثوا ضمناء على قومِهِمْ بالوفاء بميثاقهم، قاله الحسن، وابن إِسحاق. وفي نبوّتهم قولان: أصحهما: أنهم ليسوا بأنبياء.
قوله تعالى: وَقالَ اللَّهُ في الكلام محذوف. تقديره: وقال الله لهم. وفي المقول لهم قولان: أحدهما: أنهم بنو إِسرائيل، قاله الجمهور. والثاني: أنهم النقباء، قاله الربيع، ومقاتل. ومعنى إِنِّي مَعَكُمْ أي: بالعون والنصرة، وفي معنى: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ قولان: أحدهما: أنه الإِعانة والنصر، قاله ابن عباس، والحسن، ومجاهد وقتادة والسدي. والثاني: أنه التعظيم والتوقير، قاله عطاء واليزيدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة.
قوله تعالى: وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً في هذا الإقراض قولان: أحدهما: أنه الزكاة الواجبة.
والثاني: صدقة التطوع. وقد شرحنا في البقرة معنى القرض الحسن.
قوله تعالى: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ يشير إِلى الميثاق فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي: أخطأ قصد الطريق.
[سورة المائدة (5) : آية 13]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ في الكلام محذوف، تقديره: فنقضوا، فبنقضهم لعنّاهم. وفي المراد بهذه اللعنة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها التعذيب بالجزية، قاله ابن عباس. والثاني: التعذيب بالمسخ، قاله الحسن، ومقاتل. والثالث: الإِبعاد من الرحمة، قاله عطاء، والزجاج.
قوله تعالى: وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر: قاسِيَةً بالألف، يقال: قست، فهي قاسية، وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضّل، عن عاصم: «قسيّةً» بغير ألف مع تشديد الياء، لأنه قد يجيء فاعل وفعيل، مثل شاهد وشهيد، وعالم وعليم. و «القسوة» : خلاف اللّين والرّقة. وقد ذكرنا هذا في (البقرة) .
__________
(1) البيت لدريد بن الصّمة كما في «اللسان» مادة- نقب. [.....](1/527)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
وفي تحريفهم الكلم ثلاثة أقوال: أحدها: تغيير حدود التوراة، قاله ابن عباس. والثاني: تغيير صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله مقاتل. والثالث: تفسيره على غير ما أُنزل، قاله الزجاج.
قوله تعالى: عَنْ مَواضِعِهِ مبيّن في (سورة النساء) .
قوله تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ النسيان هاهنا: الترك عن عمد. والحظ: النصيب.
قال مجاهد: نسوا كتاب الله الذي أُنزل عليهم، وقال غيره: تركوا نصيبهم من الميثاق المأخوذ عليهم.
وفي معنى ذُكِّرُوا بِهِ قولان: أحدهما: أمروا. والثاني: أوصوا.
قوله تعالى: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ وقرأ الأعمش «على خيانة منهم» قال ابن قتيبة:
الخائِنة: الخيانة. ويجوز أن تكون صفة للخائِن، كما يقال: رجلٌ طاغية، وراوية للحديث. قال ابن عباس: وذلك مثل نقض قريظة عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وخروج كعب بن الأشرف إِلى أهل مكة للتّحريض على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم ينقضوا العهد، وهم عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: بل القليل ممن لم يؤمن.
قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ واختلفوا في نسخها على قولين:
أحدهما: أنها منسوخة، قاله الجمهور. واختلفوا في ناسخها على ثلاثة أقوال: أحدها: أنها آية السّيف. والثاني: قوله تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... «1» . والثالث:
قوله تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً ... «2» .
(411) والثاني: أنها نزلت في قوم كان بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عهد، فغدروا، وأرادوا قتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأظهره الله عليهم، ثم أنزل الله هذه الآية، ولم تنسخ.
قال ابن جرير: يجوز أن يعفى عنهم في غدرةٍ فعلوها، ما لم ينصبوا حرباً، ولم يمتنعوا من أداء الجزية والإقرار بالصّغار، فلا يتوجّه النّسخ.
[سورة المائدة (5) : آية 14]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
قوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ قال الحسن: إِنما قال: قالوا:
إِنا نصارى، ولم يقُل: من النصارى، لِيَدل على أنهم ليسوا على منهاج النصارى حقيقة، هم الذين اتبعوا المسيح. وقال قتادة: كانوا بقرية، يقال لها: ناصرة، فسمّوا بهذا الاسم، قال مقاتل: أُخذ عليهم الميثاق، كما أخذ على أهل التوراة أن يؤمنوا بمحمد، فتركوا ما أُمروا به.
قوله تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ قال النّصر: هيّجنا، وقال المؤرّج: حرّشنا بعضهم على بعض وقال الزجاج: ألصقنا بهم ذلك، يقال: غريت بالرّجل غرى مقصوراً: إِذا لصقت به، هذا قول الأصمعيّ.
__________
تقدم آنفا، وقد ساقه المصنف بمعناه. وانظر كلام الطبري في «تفسيره» 4/ 498- 499.
__________
(1) سورة التوبة: 29.
(2) سورة الأنفال: 58.(1/528)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وقال غير الأصمعي: غريت به غراءً ممدود، وهذا الغراء الذي يُغرى به إِنما يلصق به الأشياء، ومعنى أغرينا بينهم العداوة والبغضاء: أنهم صاروا فرقاً يكفّر بعضهم بعضاً. وفي الهاء والميم مِن قوله بَيْنَهُمُ قولان: أحدهما: أنها ترجع إِلى اليهود والنصارى، قاله مجاهد وقتادة والسدي. الثاني: أنها ترجع إِلى النصارى خاصة، قاله الربيع. وقال الزجاج: هم النصارى، منهم النسطوريّة واليعقوبيّة والملكيّة، وكل فرقة منهم تعادي الأخرى. وفي تمام الآية وعيد شديد لهم.
[سورة المائدة (5) : آية 15]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15)
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ فيهم قولان: أحدهما: أنهم اليهود. والثاني: اليهود والنّصارى. و «الرّسول» : محمّد صلّى الله عليه وسلّم. قوله تعالى: يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ قال ابن عباس: أخفوا آية الرّجم «1» ، وأمر محمّد عليه السلام وصفته وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ يتجاوز، فلا يخبرهم بكتمانه. فان قيل: كيف كان له أن يمسك عن حق كتموه فلا يبينه؟
فعنه جوابان: أحدهما: أنه كان متلقياً ما يؤمر به، فإذا أُمِر باظهار شيءٍ من أمرهم، أظهره، وأخذهم به، وإِلا سكت. والثاني: أن عقد الذّمة إِنما كان على أن يُقرّوا على دينهم، فلما كتموا كثيراً مما أُمروا به، واتخذوا غيره ديناً، أظهر عليهم ما كتموه مِن صفته وعلامة نبوته، لتتحقّق معجزته عندهم، واحتكموا إِليه في الرجم، فأظهر ما كتموا مما يوافق شريعته، وسكت عن أشياء ليتحقق إِقرارهم على دينهم. قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ قال قتادة: يعني بالنور: النبي محمّدا صلّى الله عليه وسلّم. وقال غيره: هو الإِسلام، فأما الكتاب المبين، فهو القرآن.
[سورة المائدة (5) : آية 16]
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ يعني: بالكتاب. ورضوانه: ما رضيه الله تعالى. و «السُبل» ، جمع سبيل، قال ابن عباس: سبل السلام: دين الاسلام. وقال السدي: «السلام» : هو الله، و «سبله» :
دينه الذي شرعه. قال الزجاج: وجائِز أن يكون «سُبل السلام» طريق السَّلامة التي مَن سلكها سَلِمَ في دينه، وجائز أن يكون «السلام» اسم الله عزَّ وجلَّ، فيكون المعنى: طرق الله عزّ وجلّ. قوله تعالى:
وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ قال ابن عباس: يعني الكفر إِلَى النُّورِ يعني: الإِيمان بِإِذْنِهِ أي:
بأمره وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الإسلام. وقال الحسن: طريق الحقّ.
[سورة المائدة (5) : آية 17]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
__________
(1) أخرجه الطبري 11612 بسند حسن عن ابن عباس.(1/529)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قال ابن عباس: هؤلاء نصارى أهل نجران، وذلك أنهم اتخذوه إِلهاً قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: فمن يقدر أن يدفع من عذابه شيئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أي: فلو كان إِلهاً كما تزعمون لقَدَرَ أن يردّ أمرَ اللهِ إِذا جاءه بإهلاكه أو إِهلاك أمّه، ولما نزل أمر الله بأمّه، لم يقدرْ أن يدفع عنها. وفي قوله تعالى:
يَخْلُقُ ما يَشاءُ ردٌ عليهم حيث قالوا للنبي: فهات مثله من غير أب «1» . فإن قيل: فلم قال وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ولم يقل: وما بينهن؟ فالجواب أن المعنى: وما بَين هذين النوعين من الأشياء، قاله ابن جرير.
[سورة المائدة (5) : آية 18]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى قال مقاتل: هم يهود المدينة، ونصارى نجران. وقال السدي: قالوا: إِن الله تعالى أوحى إِلى إِسرائيل: إِنَّ ولدك بكري من الولد. فأدخلهم النار فيكونون فيها أربعين يوماً حتى تطهّرهم، وتأكل خطاياهم، ثم ينادي منادٍ: أخرجوا كلَّ مختون من بني إِسرائيل.
وقيل: إِنهم لما قالوا: المسيح ابن الله، كان معنى قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ أي: منّا ابن الله. وفي قوله: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ إِبطال لدعواهم، لأن الأب لا يعذّب ولده، والحبيبُ لا يُعذّبُ حبيبه وهم يقولون: إِن الله يعذبنا أربعين يَوماً بالنار. وقيل: معنى الكلام: فلمَ عذّب منكم من مسخه قردةً وخنازير؟ وهم أصحاب السبت والمائِدة.
قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أي: أنتم كسائِر بني آدم تُجازَوْن بالإِحسان والإِساءة. قال عطاء: يغفر لمن يشاء، وهم الموحدون، ويعذّب من يشاء، وهم المشركون.
[سورة المائدة (5) : آية 19]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
قوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا.
(412) سبب نزولها: أن معاذ بن جبل، وسعد بن عبادة، وعقبة بن وهب، قالوا: يا معشر اليهود اتقوا الله، والله إِنكم لتعلمون أنه رسول الله، كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، وتصفونه بصفته. فقال وهب بن يهوذا، ورافع: ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله بعد موسى من كتاب، ولا أرسل رسولاً بشيراً ولا نذيراً بعده، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
فأما «الفترة» فأصلها السكون، يقال: فتر الشيء يَفتر فتوراً: إذا سكنت حدّته، وانقطع عمّا كان
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 11619 من طريق محمد بن إسحاق به. وشيخه محمد بن أبي محمد مجهول كما في التقريب، وقال الذهبي في «الميزان» لا يعرف.
__________
(1) تقدم في آل عمران.(1/530)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
عليه، والطرف الفاتر: الذي ليس بحديد. والفتور: الضعف. وفي مدّة الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام أربعة أقوال: أحدها: أنه كان بين عيسى ومحمّد عليهما السلام ستمائة سنة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال سلمان الفارسي، ومقاتل. والثاني: خمسمائة سنة وستون سنة، قاله قتادة.
والثالث: أربع مائة وبضع وثلاثون سنة، قاله الضحاك. والرابع: خمسمائة سنة وأربعون سنة، قاله ابن السائب. وقال أبو صالح عن ابن عباس عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أي: انقطاع منهم، قال: وكان بين ميلاد عيسى، وميلاد محمّد عليهما السّلام خمسمائة سنة وتسعة وتسعون سنة، وهي فترة. وكان بعد عيسى أربعة من الرسل، فذلك قوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ «1» . قال: والرابع لا أدري من هو. وكان بين تلك السنين مائة سنة، وأربع وثلاثون نبوّة وسائِرها فترة. قال أبو سليمان الدمشقي: والرابع، والله أعلم: خالد بن سنان الذي قال فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
(413) «نبيٌ ضيَّعه قومُه» .
قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا قال الفرّاء: كي لا تقولوا: مثل قوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا «2» . وقال غيره: لئلا تقولوا، وقيل: كراهة أن تقولوا.
[سورة المائدة (5) : آية 20]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20)
قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فيهم قولان: أحدهما: أنهم السبعون الذين اختارهم موسى، وانطلقوا معه إِلى الجبل، جعلهم الله أنبياء بعد موسى وهارون، وهذا قول ابن السائب ومقاتل.
والثاني: أنهم الأنبياء الذين أُرْسِلوا من بني إِسرائيل بعد موسى، ذكره الماوردي.
وبماذا جعلهم ملوكاً؟ فيه ثمانية أقوال: أحدها: بالمن والسلوى والحجر. والثاني: بأن جعل للرجل منهم زوجةً وخادماً. والثالث: بالزوجة والخادم والبيت، رويت هذه الثلاثة عن ابن عباس، وهذا الثالث اختيار الحسن، ومجاهد. والرابع: بالخادم والبيت، قال عكرمة. والخامس: بتمليكهم الخدم. وكانوا أول مَن ملك الخدم، ومن اتخذ خادماً فهو ملك، قاله قتادة. والسادس: بكونهم أحراراً يملك الإِنسان منهم نفسه وأهله وماله، قاله السدّي. والسابع: بالمنازل الواسعة، فيها المياه الجارية، قاله الضحاك. والثامن: بأن جعل لهم الملك والسلطان، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ اختلفوا فيمن خوطب بهذا على قولين:
أحدهما: أنهم قوم موسى، وهذا مذهب ابن عباس، ومجاهد. قال ابن عباس: ويعني بالعالمين: الذين
__________
ضعيف منكر. أخرجه البزار 2361 من حديث ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف قيس بن الربيع.
وهو معارض بحديث «أنا أولى الناس بعيسى، الأنبياء أبناء علات، وليس بيني وبين عيسى نبي» .
- أخرجه البخاري 3443 ومسلم 2365 وأحمد 2/ 319 وغيرهم من حديث أبي هريرة.
- فهذا يرد الحديث المتقدم، بل ولا يصح ثبوت نبوة رجل بخبر ضعيف.
__________
(1) سورة يس: 14.
(2) سورة النساء: 176.(1/531)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
هم بين ظهرانيهم. وفي الذي آتاهم ثلاثة أقوال: أحدها: المن والسّلوى والحجر والغمام، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به. والثاني: أنه الدار والخادم والزوجة، رواه عطاء عن ابن عباس. قال ابن جرير:
ما أُوتي أحد من النِّعم في زمان قوم موسى ما أُوتوا. والثالث: كثرة الأنبياء فيهم، ذكره الماورديّ.
والثاني: أن الخطاب لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا مذهب سعيد بن جبير وأبي مالك.
[سورة المائدة (5) : آية 21]
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21)
قوله تعالى: يا قَوْمِ ادْخُلُوا وقرأ ابن محيصن: «يا قوم ادخلوا» بضمّ الميم، وكذلك «يا قوم اذكروا» و «يا قوم اعبدوا» «1» . وفي معنى الْمُقَدَّسَةَ قولان:
أحدهما: المطهرة، قاله ابن عباس، والزجاج. قال: وقيل للسطل: القَدَس، لأنهُ يتطهّر منه، وسُمّي بيت المقدس، لأنه يتطهر فيه من الذنوب. وقيل: سمّاها مقدّسة، لأنها طهرت من الشرك، وجعلت مسكناً للأنبياء والمؤمنين. والثاني: أن المقدَّسة: المباركة، قاله مجاهد.
وفي المراد بتلك الأرض أربعة أقوال: أحدها: أنها أريحا: رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال السدي، وابن زيد. قال السدي: أريحا هي أرض بيت المقدس. وروي عن الضحاك أنه قال: المراد بهذه الأرض إيلياء وبيت المقدس. قال ابن قتيبة: وقرأت في مناجاة موسى أنه قال: اللهم إِنَّك اخترت من الأنعام الضائنة، ومن الطير الحمامة، ومن البيوت بكة وإِيلياء ومن إِيلياء بيت المقدس، فهذا يدل على أن إِيلياء الأرض التي فيها بيت المقدس، وقرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي أن إِيلياء بيت المقدس، وهو معرَّب. قال الفرزدق:
وبيتانِ بَيْتُ الله نحْنُ ولاته ... وبيت بأعلى إيلياء مشرّف
والثاني: أنها الطور وما حوله، رواه مجاهد عن ابن عباس وقال به. والثالث: أنها دمشق وفلسطين وبعض الأردُن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والرابع: أنها الشام كلها، قاله قتادة.
وفي قوله تعالى: الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: أنه بمعنى أمرَكم وفرض عليكم دخولها، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: أنه بمعنى: وهبها الله لكم، قاله محمد بن إِسحاق. وقال ابن قتيبة: جعلها لكم. والثالث: كتب في اللوح المحفوظ أنها مساكنكم.
فإن قيل: كيف قال: فإنها محرمة عليهم، وقد كتبها لهم؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أنه إِنما جعلها لهم بشرط الطاعة، فلما عصَوْا حرَّمها عليهم.
والثاني: أنه كتبها لبني إِسرائيل، وإِليهم صارت، ولم يعنِ موسى أن الله كتبها للذين أُمِرُوا بدخولها بأعيانهم. قال ابن جرير: ويجوز أن يكون الكلام خرج مخرج العموم، وأُريد به الخصوص فتكون مكتوبة لبعضهم، وقد دخلها يوشع، وكالب.
قوله تعالى: وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فيه قولان:
أحدهما: لا ترجعوا عن أمر الله إِلى معصيته. والثاني: لا ترجعوا إلى الشّرك به.
__________
(1) سورة الأعراف: 59.(1/532)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
[سورة المائدة (5) : آية 22]
قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22)
قوله تعالى: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ قال الزجاج: الجبار من الآدميّين: الذي يُجبِر الناس على ما يريد، يقال: جبار: بَيِّنُ الجَبَرِيَّة، والجِبِرِيَّة بكسر الجيم والباء، والجَبَرُوَّةُ والجُبُّورة والتَّجبار والجَبَرُوت. وفي معنى وصفه هؤلاء بالجبارين ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم كانوا ذوي قوّة، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم كانوا عظام الخلْق والأجسام، قاله قتادة. والثالث: أنهم كانوا قتَّالين، قاله مقاتل.
(الإِشارة إِلى القصَّة) قال ابن عباس: لما نزل موسى وقومه بمدينة الجبارين، بعث اثني عشر رجلاً، ليأتوه بخبرهم، فلقيَهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائِه، فأتى بهم المدينة، ونادى في قومه، فاجتمعوا، فقالوا لهم: من أين أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى بعثنا لنأتيَه بخبركم، فأعطوهم حبَّةً من عنبٍ توقر «1» الرجل، وقالوا لهم، قولوا لموسى وقومه: اقدروا قدر فاكههم، فلما رجعوا، قالوا: يا موسى إِن فيها قوماً جبارين. وقال السدي: كان الذي لقيهم، يقال له: عاج، يعني: عوج بن عناق، فأخذ الاثني عشر، فجعلهم في حُجرته وعلى رأسه حُزمة حطب، وانطلق بهم إِلى امرأته، فقال: انظري إِلى هؤلاء الذين يزعمون أنهم يريدون قتالنا، فطرحهم بين يديها، قال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا، بل خلِّ عنهم حتى يخبروا قومهم بما رأوا. فلما خرجوا قالوا: يا قوم إِن أخبرتم بني إِسرائيل بخبر القوم، ارتدوا عن نبي الله، فأخذوا الميثاق بينهم على كتمان ذلك، فنكث عشرة، وكتم رجلان، وقال مجاهد: لما رأى النُّقباءُ الجبارينَ، وجدوهم يدخل في كمِّ أحدهم اثنان منهم، ولا يحمل عنقود عنبهم إِلا خمسة أو أربعة، ويدخل في شطر الرّمّانة إذ نزع حبّها خمسة أو أربعة، فرجع النقباء كلُّهم ينهى سبطه عن قتالهم إِلا يوشع، وابن يوقنّا «2» .
[سورة المائدة (5) : آية 23]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
قوله تعالى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ في الرجلين ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يوشع بن نون، وكالب بن يوقنة، قاله ابن عباس. وقال مجاهد: ابن يوقنّا، وهما من النقباء. والثاني: أنهما كانا من الجبارين فأسلما، روي عن ابن عباس. والثالث: أنهما كانا في مدينة الجبارين، وهما على دين موسى، قاله الضحاك. وقرأ ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وأبو رجاء، وأيوب: «يُخافون» بضم الياء، على معنى أنهما كانا من العدوّ، فخرجا مؤمنين. وفي معنى «خوفهم» ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهم خافوا الله وحده. والثاني: خافوا الجبارين، ولم يمنعهم خوفهم قول الحق. والثالث: يُخاف منهم، على قراءة ابن جبير. وفيما أنعم به عليهما أربعة أقوال: أحدها: الإِسلام، قاله ابن عباس.
__________
(1) في «اللسان» : الوقر: الحمل الثقيل.
(2) هذه الأخبار من مجازفات الإسرائيليين وترّهاتهم، وفيها من المبالغة ما لا يخفى.(1/533)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
والثاني: الصلاح والفضل واليقين، قاله عطاء. والثالث: الهُدى، قاله الضحاك. والرابع: الخوف، ذكره ابن جرير عن بعض السلف. قوله تعالى: ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ قال ابن عباس: قال الرجلان:
ادخلوا عليهم باب القرية فانهم قد مُلئوا منّا رعبا وفرقا.
[سورة المائدة (5) : آية 24]
قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
قوله تعالى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا قال ابن زيد: قالوا له: انظر كما صنع ربك بفرعون وقومه، فليصنع بهؤلاء. وقال مقاتل: فاذهب أنت وسل ربَّك النصر. وقال غيرهما: اذهب أنت وليُعِنْكَ ربك.
(414) قال ابن مسعود: لقد شهدت من المقداد مشهداً لأن أكون صاحبه أحبُّ إِليَّ مما عُدِلَ به، أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إِنا هاهنا قاعدون، ولكنّا نقاتل عن يمينك وعن شمالك، ومن بين يديك ومن خلفك.
فرأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشرق لذلك وجهه وسُرّ به.
(415) وقال أنس: استشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس يوم خرج إِلى بدر، فأشار عليه أبو بكر، ثم استشارهم، فأشار عليه عمر فسكت، فقال رجل من الأنصار: إِنما يريدكم، فقالوا: يا رسول الله! لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب وأنت وربك فقاتلا إِنا هاهنا قاعدون، ولكن والله لو ضربت أكبادها حتى تبلغ برك الغماد لكنّا معك.
[سورة المائدة (5) : آية 25]
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25)
قوله تعالى: لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فيه قولان: أحدهما: لا أملك إِلا نفسي، وأخي لا يملك إِلا نفسه. والثاني: لا أملك إِلا نفسي وإِلاّ أخي، أي: وأملك طاعة أخي، لأن أخاه إِذا أطاعه فهو كالمِلْكِ له، وهذا على وجه المجاز، كما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
(416) «ما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر» فبكى أبو بكر، وقال: هل أنا ومالي إِلا لك يا رسول الله، يعني: أنِّي متصرّف حيث صرّفتني، وأمرك جائِز في مالي.
قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قال ابن عباس: اقض بيننا وبينهم. وقال أبو عبيدة: باعد، وافصل، وميّز. وفي المراد بالفاسقين ثلاثة أقوال: أحدها: العاصون، قاله ابن عباس.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3952 و 4609 والنسائي في «التفسير» 160 من حديث ابن مسعود.
صحيح. أخرجه النسائي في «التفسير» 161 وأحمد 3/ 105 و 188 وأبو يعلى 3766 و 3803 وابن حبان 4721 من حديث حميد الطويل عن أنس، وإسناده على شرط الشيخين. وأخرجه مسلم 1779 وأبو داود 2681 وأحمد 3/ 219- 220 وابن حبان 4722 من طريق حماد عن ثابت عن أنس نحوه.
صحيح. أخرجه النسائي في «فضائل الصحابة» 9 وابن ماجة 94 وابن أبي شيبة 12/ 6- 7 وأحمد 2/ 253- 366. وابن حبان 6858، وهو حديث صحيح، رووه من حديث أبي هريرة. وأخرجه بأطول مما هنا الترمذي 3661 وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. وأصله متفق عليه.(1/534)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
والثاني: الكاذبون، قاله ابن زيد. والثالث: الكافرون، قاله أبو عبيدة، قال السدي: غضب موسى حين قالوا له: اذهب أنت وربك، فدعا عليهم، وكانت عجلة من موسى عجلها.
[سورة المائدة (5) : آية 26]
قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ الإِشارة إِلى الأرض المقدَّسة. ومعنى تحريمها عليهم: منعهم منها. فأمّا نصب «الأربعين» ، فقال الفراء: هو منصوب بالتحريم، وجائز أن يكون منصوباً ب «يتيهون» . وقال الزجاج: لا يجوز أن ينتصب بالتحريم، لأن التفسير جاء أنها محرَّمة عليهم أبداً، قلت: وقد اختلف المفسرون في ذلك، فذهب الأكثرون، منهم عكرمة، وقتادة، إِلى ما قال الزجاج، وأنها حرّمت عليهم أبداً، قال عكرمة: فإنها محرّمة عليهم أبداً يتيهون في الأرض أربعين سنة، وذهب قومٌ، منهم الربيع بن أنس، إِلى أنها حُرِّمَت عليهم أربعين سنة، ثم أمروا بالسير إِليها، وهذا اختيار ابن جرير. قال: إِنما نصبت بالتحريم، والتحريم كان عاماً في حق الكلِّ، ولم يدخلها في هذه المدة منهم أحد، فلما انقضت، أُذن لمن بقي منهم بالدخول مع ذراريهم. قال أبو عبيدة: ومعنى: يتيهون:
يحورون ويضلون.
(الإشارة إلى قصتهم) قال ابن عباس: حرّم الله على الذين عَصَوْا دُخُولَ بيت المقدس، فلبثوا في تيههم أربعين سنة، وماتوا في التيه، ومات موسى وهارون، ولم يدخل بيت المقدس إِلا يوشع وكالب بأبناء القوم، وناهض يوشع بمن بقي معه مدينة الجبارين فافتتحها. وقال مجاهد: تاهوا أربعين سنة يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا. وقال السدي: لما ضرب الله عليهم التيه، ندم موسى على دعائه عليهم، وقالوا له: ما صنعت بنا، أين الطعام؟ فأنزل الله المنَّ. قالوا: فأين الشراب؟ فأُمِر موسى أن يضرب بعصاه الحجر. قالوا: فأين الظلُّ؟ فظلّل عليهم الغمام. قالوا: فأين اللباس؟ وكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان، ولا يتخرّق لهم ثوب، وقُبض موسى ولم يبق أحد ممن أبى دخول قرية الجبارين إِلاَّ مات، ولم يشهد الفتح. وفيه قول آخر أنه لما مضت الأربعون خرج موسى ببني إِسرائيل من التيه، وقال لهم: ادخلوا هذه القرية، فكلوا منها حيث شئتم رغداً، وادخلوا الباب سجداً، وقولوا حطةٌ ... إِلى آخر القصّة. وهذا قول الربيع بن أنس، وعبد الرّحمن بن زيد. قال ابن جرير الطبري، وأبو سليمان الدمشقي: وهذا الصحيح، وأن موسى هو الذي فتح مدينة الجبارين مع الصالحين من بني إِسرائيل، لأن أهل السيرة أجمعوا على أن موسى هو قاتل عوج، وكان عوج ملكهم، وكان بلعم بن باعوراء فيمن سباه موسى وقتله، ولم يدخل مع موسى من قدمائهم غير يوشع وكالب، وإِنما حرِّمت على الذين لم يطيعوا. وفي مسافة أرض التيه قولان: أحدهما: تسعة فراسخ، قاله ابن عباس. قال مقاتل: هذا عرضها، وطولها ثلاثون فرسخاً. والثاني: ستة فراسخ في طول اثني عشر فرسخاً، حكاه مقاتل أيضاً.
قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ قال الزجاج: لا تحزن على قوم شأنهم المعاصي، ومخالفة الرسل. وقال ابن قتيبة: يقال أسيت على كذا، أي: حزنت، فأنا آسي أسى.(1/535)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
[سورة المائدة (5) : آية 27]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
قوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ النبأ: الخبر. وفي ابنيْ آدم قولان:
أحدهما: أنهما ابناه لِصُلبه، وهما قابيل وهابيل، قاله ابن عمر، وابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أنهما أخوان من بني إِسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وهذا قول الحسن، والعلماء على الأول، وهو أصح لقوله تعالى: لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ «1» ولو كان من بني إِسرائيل، لكان قد عرف الدّفن.
(417) ولأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال عنه: «إِنه أول من سن القتل» .
وقوله تعالى: بِالْحَقِّ أي: كما كان. والقربان: فعلان من القرب، وقد ذكرناه في آل عمران.
وفي السبب الذي قربا لأجله قولان: أحدهما: أن آدم عليه السلام كان قد نُهِي أن يُنْكِحَ المرأة أخاها الذي هو توأمها، وأُجيز له أن يُنكحها غيره من إِخوتها، وكان يولد له في كل بطن ذكر وأُنثى، فولدت له ابنة وسيمة، وأخرى دميمة، فقال أخو الدميمة لأخي الوسيمة: أنكحني أُختك، وأُنكحك أُختى، فقال أخو الوسيمة: أنا أحق بأختي، وكان أخو الوسيمة صاحب حرث، وأخو الدميمة صاحب غنم، فقال: هلمَّ فلنقرّب قرباناً، فأينا تُقُبِّل قربانُه فهو أحقُّ بها، فجاء صاحب الغنم بكبش أبيض أعين أقرن، وجاء صاحب الحرث بصُبْرَةٍ «2» من طعام، فتُقُبِّل الكبش، فخزنه الله في الجنة أربعين خريفاً، فهو الذي ذبحه إِبراهيم، فقتله صاحب الحرث، فوَلَدُ آدم كلهم من ذلك الكافر، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنهما قرّباه من غير سبب. روى العوفي عن ابن عباس أن ابنيْ آدم كانا قاعدَين يوماً، فقالا: لو قرّبنا قرباناً، فجاء صاحب الغنم بخير غنمه وأسمنها، وجاء الآخر ببعض زرعه، فنزلت النار، فأكلت الشاة، وتركت الزرع، فقال لأخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أن قربانك تُقُبِّل، وأنك خيٌر مني لأقتلنَّك.
واختلفوا هل قابيل وأُخته وُلدا قبل هابيل وأُخته، أم بعدهما؟ على قولين، وهل كان قابيل كافراً أو فاسقاً غير كافر؟ فيه قولان: وفي سبب قبول قربان هابيل قولان: أحدهما: أنه كان أتقى الله من قابيل. والثاني: أنه تقرّب بخيار ماله، وتقرب قابيل بشرِّ ماله. وهل كان قربانهما بأمر آدم، أم من قِبل أنفسهما؟ فيه قولان: أحدهما: أنه كان وآدم قد ذهب إِلى زيارة البيت. والثاني: أن آدم أمرهما بذلك.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 3335 و 6867 و 7321 ومسلم 1677 والترمذي 2673 والنسائي 7/ 81- 82 في «التفسير» 162 وعبد الرزاق 19718 وابن ماجة 2616 وأحمد 1/ 383 وابن أبي شيبة 9/ 364 وابن حبان 5983 والطحاوي في «المشكل» 1/ 483 من حديث ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقتل نفس ظلماً إِلاّ كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمِها، لأنه أول من سنّ القتل؟» . وانظر «تفسير الشوكاني» 794 و «أحكام القرآن» 690 بتخريجنا.
__________
(1) سورة المائدة: 31.
(2) في «اللسان» : الصّبرة: ما جمع من الطعام بلا كيل ولا وزن. كالكومة.(1/536)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
وهل قُتل هابيل بعد تزويج أُخت قابيل، أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: أنه قتله قبل ذلك لئلا يصل إِليها.
والثاني: أنه قتله بعد نكاحها.
قوله تعالى: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ وروى زيد عن يعقوب: «لأقتلنْك» بسكون النون وتخفيفها.
والقائل: هو الذي لم يُتقبَّل منه. قال الفراء: إِنما حذف ذكره، لأن المعنى يدل عليه، ومثل ذلك في الكلام أن تقول: إِذا رأيت الظالم والمظلوم أعنت، وإِذا اجتمع السفيه والحليم حُمِد، وإِنما كان ذلك، لأن المعنى لا يشكل، فلو قلت: مرّ بي رجلٌ وامرأةٌ، فأعنتُ، وأنت تريد أحدهما، لم يجز، لأنه ليس هناك علامة تدل على مُرادِك. وفي المراد بالمتقين قولان: أحدهما: أنهم الذين يتقون المعاصي، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم الذين يتقون الشرك، قاله الضحاك.
[سورة المائدة (5) : آية 28]
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28)
قوله تعالى: ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ فيه قولان: أحدهما: أما أنا بمنتصرٍ لنفسي، قاله ابن عباس. والثاني: ما كنت لأبتدئك، قاله عكرمة. وفي سبب امتناعه من دفعه عنه قولان: أحدهما:
أنه منعه التحرُّج مع قدرته على الدفع وجوازه له، قاله ابن عمر وابن عباس. والثاني: أن دفع الانسان عن نفسه لم يكن في ذلك الوقت جائزاً، قاله الحسن ومجاهد.
وقال ابن جرير: ليس في الآية دليل على أن المقتول علم عزم القاتل على قتله، ثم ترك الدفع عن نفسه، وقد ذُكر أنه قتله غِيلةً، فلا يدَّعى ما ليس في الآية إلا بدليل.
[سورة المائدة (5) : آية 29]
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29)
قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فيه قولان:
أحدهما: إِني أُريد أن ترجع بإثم قتلي وإِثمك الذي في عنقك، هذا قول ابن مسعود، وابن عباس. ومجاهد، وقتادة، والضحاك. والثاني: أن تبوء بإثمي في خطاياي، وإِثمك في قتلك لي، وهو مروي عن مجاهد أيضاً. قال ابن جرير: والصحيح عن مجاهد القول الأول.
(418) وقد روى البخاري ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن مسعود عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«لا تقتل نفس ظلماً إِلاّ كان على ابن آدم الأول كِفْل من دمِها، لأنه كان أول من سن القتل» .
فإن قيل: كيف أراد هابيل وهو من المؤمنين أن يبوء قابيل بالإِثم وهو معصية، والمؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟ فعنه ثلاثة أجوبة «1» : أحدها: أنه ما أراد لأخيه الخطيئة، وإِنما أراد: إِن قتلتني أردت أن تبوء بالإِثم، وإِلى هذا المعنى ذهب الزجاج. والثاني: أن في الكلام محذوفا، وتقديره: إني
__________
هو الحديث المتقدم.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 534: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي وذلك هو معنى قوله: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وأما معنى: وَإِثْمِكَ
فهو إثمه بغير قتله وذلك معصيته لله جل ثناؤه في أعمال سواه، وأجمع أهل التأويل عليه.(1/537)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
أُريد أن لا تبوء بإثمي وإِثمك، فحذف «لا» كقوله تعالى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ أي: أن لا تميد بكم، ومنه قول امرئ القيس:
فقلتُ يمينُ اللهِ أبرحُ قَاعِدَاً ... وَلَوْ قطَّعوا رأسي لَدَيْكِ وأوصالي «1»
أراد: لا أبرح. وهذا مذهب ثعلب. والثالث: أن المعنى: أريد زوال أن تبوء باثمي وإِثمك، وبطلان أن تبوء باثمي وإِثمك. فحذف ذلك، وقامت «أن» مقامه، كقوله تعالى: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ «2» أي: حبّ العجل، ذكره والذي قبله ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ الإِشارة إلى مصاحبة النّار.
[سورة المائدة (5) : آية 30]
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)
قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ فيه خمسة أقوال: أحدها: تابعته على قتل أخيه، قاله ابن عباس. والثاني: شجَّعته، قاله مجاهد. والثالث: زيَّنت له، قاله قتادة. والرابع: رخَّصت له، قاله أبو الحسن الأخفش. والخامس: أنَّ «طوّعت» فعَّلت من «الطوع» والعرب تقول: طاع لهذه الظبية أصول هذا الشجر، وطاع له كذا، أي: أتاه طوعاً، حكاه الزجاج عن المبرّد. وقال ابن قتيبة: شايعتْه وانقادت له، يقال: لساني لا يَطوع بكذا، أي: لا ينقاد، وهذه المعاني تتقارب.
وفي كيفية قتله ثلاثة أقوال: أحدها: أنه رماه بالحجارة حتى قتله، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: ضرب رأسه بصخرة وهو نائم، رواه مجاهد عن ابن عباس، والسدي عن أشياخه. والثالث:
رضخ رأسه بين حجرين، قال ابن جريج: لم يدر كيف يقتله، فتمثّل له إِبليس، وأخذ طائِراً فوضع رأسه على حجر، ثم شدخه بحجر آخر، ففعل به هكذا، وكان ل «هابيل» يومئذٍ عشرون سنة. وفي موضع مصرعه ثلاثة أقوال: أحدها: على جبل ثور، قاله ابن عباس. والثاني: بالبصرة، قاله جعفر الصادق.
والثالث: عند عَقْبَة حِرَاء، حكاه ابن جرير الطّبريّ.
وفي قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ ثلاثة أقوال: أحدها: من الخاسرين الدنيا والآخرة، فخسرانه الدنيا: أنه أسخط والديه، وبقي بلا أخ، وخسرانه الآخرة: أنه أسخط ربه، وصار إِلى النار، قاله ابن عباس. والثاني أنه أصبح من الخاسرين الحسنات، قاله الزجاج. والثالث: من الخاسرين أنفسهم بإهلاكهم إيّاها، قاله القاضي أبو يعلى.
[سورة المائدة (5) : آية 31]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
قوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ قال ابن عباس: حمله على عاتقه، فكان إِذا مشى تخطُّ يداه ورجلاه في الأرض، وإِذا قعد وضعه إِلى جنبه حتى رأى غرابين اقتتلا، فقتل أحدهما الآخر، ثم بحث
__________
(1) في «اللسان» : الوصل: كل عظم على حدة لا يكسر، ولا يخلط بغيره، ولا يوصل به غيره والجمع أوصال والأوصال: مجتمع العظام.
(2) سورة البقرة: 93. [.....](1/538)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
له الأرض حتى واراه بعد أن حمله سنين. وقال مجاهد: حمله على عاتقه مائة سنة. وقال عطية: حمله حتى أروح «1» . وقال مقاتل: حمله ثلاثة أيام.
وفي المراد بسوأة أخيه قولان: أحدهما: عورة أخيه. والثاني: جيفة أخيه.
قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ، فان قيل: أليس الندم توبة، فَلِم لم يقبل منه؟ فعنه أربعة أجوبة: أحدها: أنه يجوز أن لا يكون الندم توبة لمن تقدَّمنا، ويكون توبة لهذه الأمة، لأنها خصّت بخصائِص لم تشارَك فيها، قاله الحسن بن الفضل. والثاني: أنه ندم على حمله لا على قتله. والثالث:
أنه ندم إِذ لم يواره حين قتله. والرابع: أنه ندم على فوات أخيه، لا على ركوب الذنب. وفي هذه القصّة تحذير من الحسد، لأنه الذي أهلك قابيل.
[سورة المائدة (5) : آية 32]
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ قال الضحاك: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلماً، وقال أبو عبيدة: من جناية ذلك، ومن جري ذلك. قال الشاعر:
وأهل خباءٍ صالحٍ ذَاتُ بينهم ... قدِ احتربوا في عاجِلٍ أنا آجِلُه «2»
أي: جانيه وجارٌ ذلك عليهم. وقال قوم: الكلام متعلق بما قبله، والمعنى: فأصبح من النادمين من أجل ذلك. فعلى هذا يَحسن الوقف هاهنا، وعلى الأول لا يحسن الوقف. والأوّل أصحّ.
وكَتَبْنا بمعنى: فرضنا. ومعنى قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: قتلها ظلماً ولم تقتل نفساً. أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ «فساد» منسوق على نَفْسٍ، المعنى: أو بغير فساد تستحق به القتل. وقيل: أراد بالفساد هاهنا: الشرك.
وفي معنى قوله تعالى: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً خمسة أقوال: أحدها: أن عليه إِثم من قتل الناس جميعاً، قاله الحسن، والزجاج. والثاني: أنه يصلى النار بقتل المسلم، كما لو قتل الناس جميعاً، قاله مجاهد، وعطاء. وقال ابن قتيبة: يُعذَّبُ كما يُعذَّب قاتل النَّاسِ جميعاً. والثالث: أنه يجب عليه من القصاص مثل ما لو قتل الناس جميعاً، قاله ابن زيد. والرابع: أن معنى الكلام: ينبغي لجميع الناس أن يُعينوا ولي المقتول حتى يُقيدوه منه، كما لو قتل أولياءَهم جميعاً، ذكره القاضي أبو يعلى.
والخامس: أن المعنى: من قتل نبياً أو إِماماً عادلاً، فكأنما قتل الناس جميعاً، رواه عكرمة عن ابن عباس. والقول بالعموم أصح.
فإن قيل: إِذا كان إِثم قاتل الواحد كاثم من قتل الناس جميعاً، دل هذا على أنه لا إِثم عليه في
__________
(1) في «اللسان» أروح اللحم: تغيّرت رائحته.
(2) نسبه أبو عبيدة في «مجاز القرآن» إلى الخفوت وهو توبة بن مضرس. ونسبه التبريزي في شرح «إصلاح المنطق» إلى خوات بن جبير وألحق بشعر زهير بن أبي سلمى في ديوانه بشرح الشنتمري.(1/539)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
قتل مَن يقتله بعد قتل الواحد إِلى أن يفنى الناس؟ فالجواب: أن المقدار الذي يستحقّه قاتل الناس جميعاً معلوم عند الله محدود، فالذي يقتل الواحد يلزمه ذلك الإِثم المعلوم، والذي يقتل الاثنين يلزمه مثلاه، وكلما زاد قتلاً زاده الله إِثماً، ومثل هذا قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «1» فالحسنة معلوم عند الله مقدار ثوابها، فعاملها يعطى بمثل ذلك عشر مرات. وهذا الجواب عن سؤال سائل إِن قال: إِذا كان من أحيا نفساً فله ثواب من أحيا الناس، فما ثواب من أحيا الناس كلَّهم؟ هذا كله منقول عن المفسرين. والذي أراه أن التشبيه بالشيء تقريبٌ منه، لأنه لا يجوز أن يكون إِثم قاتل شخصين كإثم قاتل شخص، وإِنما وقع التشبيه ب «كأنما» ، لأن جميع الخلائِق من شخص واحد، فالمقتول يتصوّر منه نشر عدد الخلق كلِّهم.
وفي قوله تعالى: وَمَنْ أَحْياها خمسة أقوال: أحدها: استنقذها من هلكةٍ، روي عن ابن مسعود، ومجاهد. قال الحسن. من أحياها من غرق أو حرق أو هلاك. وفي رواية عكرمة عن ابن عباس: من شدَّ عَضُدَ نبي أو إِمامٍ عادِلٍ، فكأنما أحيا الناس جميعاً. والثاني: ترك قتل النفس المحرّمة، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية. والثالث: أن يعفو أولياء المقتول عن القصاص، قاله الحسن وابن زيد وابن قتيبة. والرابع: أن يزجر عن قتلها وينهى. والخامس: أن يعين الوليَّ على استيفاء القصاص لأن في القصاص حياةً، ذكرهما القاضي أبو يعلى. وفي قوله تعالى:
فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً قولان: أحدهما: فله أجر من أحيا الناس جميعاً، قاله الحسن وابن قتيبة. والثاني: فعلى جميع الناس شكره كما لو أحياهم، ذكره الماوردي. قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ يعني: بني إِسرائيل الذين جرى ذكرهم.
[سورة المائدة (5) : آية 33]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33)
قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(419) أحدها: أنها نزلت في ناسٍ من عُرَينة قدموا المدينة، فاجتووها، فبعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في
__________
حديث صحيح دون ذكر نزول الآية. أخرجه البخاري 4193 ومسلم 1671 وأبو داود 4366 والترمذي 72 و 1845 و 2042 والنسائي 7/ 97 و 160 وابن أبي شيبة 7/ 75 وأحمد 3/ 186- 198 وابن حبان 1376 والبغوي في «التفسير» 782 من طرق كلهم من حديث أنس، رووه بألفاظ متقاربة والمعنى متحد، وليس في شيء من طرقه ذكر نزول الآية، وإنما ورد من طريق قتادة وحده، وليس في الصحيح.
وورد نزول الآية من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 11812، وورد من مرسل سعيد بن جبير، أخرجه الطبري 11814، وورد موصولا من حديث جرير البجلي، أخرجه الطبري 11815 لكن فيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو متروك. وورد عن قتادة عن أنس، أخرجه الطبري 11819 ولعل الصواب كونه من مرسل قتادة كما تقدم آنفا، فوصله أحد الرواة وهما. وورد من وجه آخر عن أنس أخرجه الطبري 11820 وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وورد من مرسل السدي، أخرجه الطبري 11821. فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، إلا أن روايات الصحيح خالية من ذكر نزول الآية، فالله أعلم.
__________
(1) سورة الأنعام: 160.(1/540)
إِبل الصدقة، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا، فصحوا، وارتدوا عن الاسلام، وقتلوا الراعي، واستاقوا الإِبل، فأرسل رسول الله في آثارهم، فجيء بهم، فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وسمَّر أعينهم، وألقاهم بالحرَّة حتى ماتوا، ونزلت هذه الآية، رواه قتادة عن أنس، وبه قال سعيد بن جبير، والسدي.
(420) والثاني: أن قوماً من أهل الكتاب كان بينهم وبين النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عهد وميثاق، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فخيّر الله رسوله بهذه الآية: إِن شاء أن يقتلهم، وإِن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، وبه قال الضحاك.
(421) والثالث: أن أصحاب أبي بُردة الأسلمي قطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الاسلام، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(422) وقال ابن السائب: كان أبو بردة، واسمه هلال بن عويمر، وادع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على أن لا يعينه ولا يعين عليه، ومن أتاه من المسلمين لم يُهَجْ، ومن مرّ بهلال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يُهِجْ، فمرّ قوم من بني كنانة يريدون الاسلام بناسٍ من قوم هلال، فَنَهَدُوا إِليهم، فقتلوهم وأخذوا أموالهم، ولم يكن هلال حاضراً، فنزلت هذه الآية.
والرابع: أنها نزلت في المشركين، رواه عكرمة عن ابن عباس وبه قال الحسن «1» .
واعلم أن ذكر «المحاربة» لله عزّ وجلّ في الآية مجاز. وفي معناها للعلماء قولان: أحدهما: أنه سمّاهم محاربين له تشبيهاً بالمحاربين حقيقة، لأن المخالف محارب، وإِن لم يحارب. فيكون المعنى:
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 11807 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس به، وفيه إرسال، علي لم يسمع من ابن عباس. وورد عن الضحاك مرسلا، أخرجه الطبري 11808 وفيه جويبر بن سعيد وهو متروك.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وهو متهم بالوضع، فحديثه لا شيء.
عزاه المصنف لابن السائب وهو الكلبي، واسمه محمد، وهو ساقط متهم، فخبره باطل.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 549: وأولى الأقوال في ذلك عندي أن يقال: أنزل الله هذه الآية على نبيه معرّفة حكمه على من حارب الله ورسوله، وسعى في الأرض فسادا، بعد الذي كان من فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعرنيين ما فعل.
وقال الإمام ابن العربي رحمه الله في «أحكام القرآن» 2/ 93: من قال: إنها نزلت في المشركين أقرب إلى الصواب لأن عكلا وعرينة ارتدّوا وقتلوا وأفسدوا، ولكن يبعد، لأن الكفار لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة. وقد قيل للكفار قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ. وقد قال في المحاربين: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ وكذلك المرتد. يقتل بالردة دون المحاربة، فثبت أنها لا يراد بها المشركون ولا المرتدون فلو ثبت أن هذه الآية نزلت في شأن عكل أو عرينة لكان غرضا ثابتا، ونصا صريحا. وإنما ترك النبي صلّى الله عليه وسلّم استتابة العرنيين لما أحدثوا من القتل والمثلة والحرب، وإنما يستتاب المرتد الذي يرتاب فيستريب به ويرشد ويبيّن له المشكل.(1/541)
يخالفون الله ورسوله بالمعاصي. والثاني: أن المراد: يحاربون أولياء الله، وأولياء رسوله. وقال سعيد بن جبير: أراد بالمحاربة لله ورسوله، الكفر بعد الاسلام. وقال مقاتل: أراد بها الشرك «1» . فأما «الفساد» فهو القتل والجراح وأخذ الأموال، وإِخافة السبيل.
قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا اختلف العلماء هل هذه العقوبة على التّرتيب، أم على التّخيير؟ فمذهب أحمد رضي الله عنه أنها على الترتيب «2» ، وأنهم إِذا قتلوا، وأخذوا المال، أو قتلوا ولم يأخذوا، قُتِلوا وصلِّبوا، وإِن أخذوا المال، ولم يقتلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإِن لم يأخذوا المال، نُفوا. قال ابن الأنباري: فعلى هذا تكون «أو» مبعّضة، فالمعنى: بعضهم يفعل به كذا، وبعضهم كذا، ومثله قوله تعالى: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى «3» المعنى: قال بعضهم هذا، وقال بعضهم هذا. وهذا القول اختيار أكثر اللغويين. وقال الشافعي: إِذا قتلوا وأخذوا المال، قُتِلوا وصُلِّبوا، وإِذا قتلوا ولم يأخذوا المال، قُتلوا ولم يُصلَّبوا، وإِذا أخذوا المال ولم يَقتلوا، قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف. وقال مالك: الإِمام مخير في إِقامة أيِّ الحدود شاء، سواء قتلوا أو لم يقتلوا، أخذوا المال أو لم يأخذوا، والصلب بعد القتل. وقال أبو حنيفة، ومالك: يُصْلب ويُبعج برمحٍ حتى يموت.
واختلفوا في مقدار زمان الصّلب. فعندنا أنه يُصلب بمقدار ما يشتهر صلبُه. واختلف أصحاب الشافعي، فقال بعضهم: ثلاثة أيام، وهو مذهب أبي حنيفة، وقال بعضهم: يترك حتى يسيل صديده.
قال أبو عبيدة: معنى «من خلاف» أن تُقطَع يدُه اليُمنى ورجله اليسرى، يُخالَف بين قطعهما. فأما «النفي» فأصله الطرد والإِبعاد. وفي صفة نفيهم أربعة أقوال: أحدها: إِبعادهم من بلاد الاسلام إِلى دار الحرب، قاله أنس بن مالك، والحسن، وقتادة، وهذا إِنما يكون في حق المحارب المشرك، فأما المسلم فلا ينبغي أن يُضطر إِلى ذلك. والثاني: أن يُطلبوا لِتُقام عليهم الحدود، فيُبعدوا، قاله ابن عباس، ومجاهد. والثالث: إِخراجهم مِن مدينتهم إِلى مدينة أُخرى، قاله سعيد بن جبير. وقال مالك:
ينفى إِلى بلدٍ غير بلده، فيحبس هناك. والرابع: أنه الحبس، قاله أبو حنيفة وأصحابه. وقال أصحابنا:
صِفَةُ النفي: أن يُشرّد ولا يترك يأوي في بلد، فكلما حَصَل في بلد نُفي إِلى بلد غيره. وفي «الخزي»
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 552: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال: «المحارب لله ورسوله» من حارب في سابلة المسلمين وذمتهم، والمغير عليهم في أمصارهم وقراهم حرابة.
(2) قال الإمام الموفق في «المغني» 12/ 475: مسألة: «فمن قتل منهم وأخذ المال، قتل وإن عفا صاحب المال، وصلب حتى يشتهر، ودفع إلى أهله، ومن قتل منهم ولم يأخذ المال قتل ولم يصلب، وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، في مقام واحد، ثم حسمتا وخلي» قال الإمام الموفق في شرحه: روينا نحو هذا عن ابن عباس، وبه قال قتادة وأبو مجلز وحماد والليث والشافعي وإسحاق: وعن أحمد: أنه إذا قتل وأخذ المال قتل وقطع، كما لو زنى وسرق، وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخيّر فيهم بين القتل والصلب، والقطع والنفي لأن «أو» تقتضي التخيير، وهذا قول ابن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن والضحاك والنخعي وأبي الزناد وأبي ثور وداود، وقال أصحاب الرأي: إن قتل قتل، وإن أخذ المال قطع، وإن قتل وأخذ المال فالإمام مخيّر بين قتله وصلبه، وبين قتله وقطعه، وبين أن يجمع له ذلك كله. لأنه وجد منه ما يوجب القتل والقطع اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 150.
(3) سورة البقرة: 135.(1/542)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
قولان: أحدهما: أنه العقاب. والثاني: الفضيحة.
وهل يثبت لهم حكم المحاربين في المصر، أم لا؟ ظاهر كلام أصحابنا أنه لا يثبت لهم ذلك في المصر وهو قول أبي حنيفة. وقال الشافعي، وأبو يوسف: المصر والصحارى سواء «1» ، ويعتبر في المال المأخوذ قدر نصاب، كما يُعتبر في حقِّ السَّارِقِ، خلافاً لمالك.
[سورة المائدة (5) : آية 34]
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا قال أكثر المفسّرين: هذا الاستثناء في المحاربين المشركين إِذا تابوا من شركهم وحربهم وفسادهم، وآمنوا قبل القدرة عليهم، فلا سبيل عليهم فيما أصابوا من مال أو دمٍ، وهذا لا خلاف فيه. فأما المحاربون المسلمون، فاختلفوا فيهم، ومذهب أصحابنا: أن حدود الله تسقط عنهم مِن انحتام القتل والصلب والقطع والنفي. فأما حقوق الآدميين من الجراح والأموال، فلا تسقطها التوبة، وهذا قول الشّافعيّ «2» .
[سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
قوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ في «الوسيلة» قولان:
أحدهما: أنها القربة، قاله ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، والفراء. وقال قتادة: تقربوا إِليه بما يرضيه. قال أبو عبيدة: يقال: توسلت إليه، أي: تقرّبت إليه. وأنشد:
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 474: والمحاربون الذين يعرضون للقوم بالسلاح في الصحراء، فيغصبونهم المال مجاهرة. وجملته أن المحاربين الذين تثبت لهم أحكام المحاربة، تعتبر لهم شروط ثلاث:
أحدها: أن يكون ذلك في الصحراء، فإن كان منهم في القرى والأمصار، فقد توقف أحمد رحمه الله فيهم، وظاهر كلام الخرقي أنهم غير محاربين وبه قال أبو حنيفة والثوري وإسحاق وقال كثير من أصحابنا هو قاطع حيث كان. وبه قال الأوزاعي، والليث والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور لتناول الآية بعمومها كل محارب، ولأن ذلك إذا وجد في مصر كان أعظم خوفا، وأكثر ضررا، فكان بذلك أولى.
(2) جاء في «المغني» 12/ 483: مسألة «فإن تابوا من قبل أن يقدر عليهم، سقطت عنهم حدود الله تعالى وأخذوا بحقوق الآدميين، من الأنفس والجراح والأموال، إلا أن يعفى لهم عنها» قال الإمام الموفق: لا نعلم في هذا خلافا بين أهل العلم، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي وأبو ثور، والأصل فيه قوله تعالى: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ... فعلى هذا يسقط عنهم تحتّم القتل والصلب والقطع والنفي، ويبقى عليهم القصاص في النفس والجراح، وغرامة المال والديّة لما لا قصاص فيه، فأما إن تاب بعد القدرة عليه لا يسقط عنه شيء من حدود الله تعالى. وإن فعل المحارب ما يوجب حدا لا يختص المحاربة: كالزنى، والقذف، وشرب الخمر، والسرقة، فذكر القاضي أنها تسقط بالتوبة، لأنها حدود الله تعالى، إلا حد القذف، لأنه حق آدمي، ويحتمل أن لا تسقط اه ملخصا.(1/543)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
إِذا غفل الواشُونَ عُدْنَا لِوَصِْلَنا ... وَعَاَد التَّصَافي بيننا وَالوَسَائلُ «1»
والثاني: المحبة، يقول: تحببوا إِلى الله، هذا قول ابن زيد.
[سورة المائدة (5) : آية 38]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38)
قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما قال ابن السائب: نزلت في طُعمة بن أُبيرق «2» ، وقد مضت قصّته في سورة النّساء. ووَ السَّارِقُ: إِنما سُمّي سارقاً، لأنه يأخذ الشيء في خفاءٍ، واسترق السّمع: إِذا تسمَّع مستخفياً. قال المبرّد: والسارق هاهنا مرفوع بالابتداء، لأنه ليس القصد منه واحداً بعينه، وإِنما هو، كقولك: مَنْ سَرَق فاقطعْ يده. وقال ابن الأنباري: وإِنّما دخلت الفاء، لأن في الكلام معنى الشرط، تقديره: من سرق فاقطعوا يَدَهُ، قال الفرّاء: وإِنما قال: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما لأن كلَّ شيءٍ موحّد من خلق الإنسان إِذا ذُكِرَ مضافاً إِلى اثنين فصاعداً، جُمع، تقول: قد هشمت رؤوسَهما وملأت ظهورهما وبطونهما ضرباً، ومثله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «3» وإِنما اختير الجمع على التثنية، لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين اثنين في الانسان: اليدين، والرجلين، والعينين، فلما جرى أكثره على هذا، ذُهِبَ بالواحد منه إِذا أُضيف إِلى اثنين مذهب التثنية، وقد يجوز تثنيتهما.
قال أبو ذؤيب.
فتخالسا نفسيهما بنوافذٍ ... كَنَوَافِذِ العُبُط التي لا تُرقَع «4»
فصل: وهذه الآية اقتضت وجوب القطع على كلِّ سارق «5» ، وبينت السُنَّة أن المراد به السارقُ لِنِصابٍ من حِرْزِ مثله، كما قال تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ» .
(423) ونهى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن قتل النساء، والصبيان، وأهل الصّوامع. واختُلِفَ في مقدار النصاب، فمذهب أصحابنا: أن للسّرقة نصابين: أحدهما: من الذهب ربع دينار، ومن الورق ثلاثة دراهم، أو
__________
متفق عليه، وتقدم.
__________
(1) في «تفسير القرطبي» 6/ 151 وفي «مجاز القرآن» 1/ 164 لم يعرف قائله.
(2) ابن السائب هو الكلبي، وهو متهم بالوضع، فخبره باطل، لا أصل له.
(3) سورة التحريم: 4.
(4) تخالسا: جعل كل واحد منهما يختلس نفس صاحبه بالطعن. النوافذ: جمع نافذة وهي الطعن تنفذ حتى يكون لها رأسان. عبط: جمع عبيط، وأصل العبط: شق الجلد الصحيح.
(5) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 459 في شرح المسألة 1589: وجملته أن الوالد لا يقطع بالسرقة من مال ولده، وإن سفل وسواء في ذلك الأب والأم، والابن والبنت، والجد والجدة، من قبل الأب والأم وهذا قول عامة أهل العلم منهم: مالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي، وقال أبو ثور وابن المنذر:
القطع على كل سارق بظاهر الكتاب.
قال الإمام الموفق: والعبد إذا سرق من مال سيده فلا قطع عليه في قولهم جميعا، ووافقهم أبو ثور، وحكي عن داود أنه يقطع لعموم الآية اه ملخصا، وانظر «أحكام الجصاص» 4/ 80- 81 و «تفسير القرطبي» . [.....]
(6) سورة التوبة: 5.(1/544)
قيمة ثلاثة دراهم مِن العروض وهو قول مالك. وقال أبو حنيفة: لا يقطع حتى تبلغ السّرقة عشرة دراهم. وقال الشافعي: الاعتبار في ذلك بربع دينار، وغيره مقوَّمٌ به، فلو سرق درهمين قيمتهما ربع دينار، قُطع، فان سَرق نصاباً من التّبر، فعليه القطع. وقال أبو حنيفة: لا يقطع حتى يبلغ ذلك نصاباً مضروباً، فان سرق منديلاً لا يساوي نصاباً، في طرفه دينار، وهو لا يعلم، لا يقطع. وقال الشافعي:
يقطع. فإن سرق ستارة الكعبة، قطع، خلافاً لأبي حنيفة. فإن سرق صَبياً صغيراً حُراً، لم يقطع، وإِن كان على الصغير حُلي. وقال مالك: يقطع بكل حال. وإِذا اشترك جماعة في سرقة نصاب، قطعوا «1» ، وبه قال مالك، إِلا أنه اشترط أن يكون المسروق ثقيلاً يحتاج إِلى معاونة بعضهم لبعض في إِخراجه.
وقال أبو حنيفة، والشافعي: لا قطع عليه بحال ويجبُ القطع على جاحد العاريَّة عندنا، وبه قال سعيد بن المسيب، والليث بن سعد، خلافاً لأكثر الفقهاء.
فصل: فأما الحرز، فهو ما جعل للسكنى، وحفظ الأموال، كالدور والمضارب والخيم التي يسكنها الناس، ويحفظون أمتعتهم بها، فكل ذلك حِرز، وإِن لم يكن فيه حافظ ولا عنده، وسواء سُرِق من ذلك وهو مفتوح الباب، أو لا باب له إِلا أنه محجّر بالبناء. فأما ما كان في غير بناءٍ ولا خيمة، فإنه ليس في حرز إِلا أن يكون عنده من يحفظه. ونقل الميموني عن أحمد: إِذا كان المكان مشتركاً في الدّخول إِليه، كالحمام والخيمة لم يقطع السارق منه، ولم يُعتَبَر الحافظ. ونقل عنه ابن منصور: لا يقطع سارق الحمام إِلا أن يكون على المتَاع أجير حافظ. فأما النبّاش، فقال أحمد في رواية أبي طالب:
يقطع، وبه قال مالك، والشافعي، وابن أبي ليلى. وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة: لا يقطع.
فصل: فأما موضع قطع السارق «2» ، فمن مَفْصِل الكَفِّ، ومِن مَفْصِلِ الرِّجْلِ. فأمّا اليد اليسرى
__________
(1) جاء في «المغني» 12/ 468: «وإذا اشترك الجماعة في سرقة قيمتها ثلاثة دراهم قطعوا» قال الإمام الموفق:
وبهذا قال مالك وأبو ثور. وقال الثوري وأبو حنيفة والشافعي وإسحاق: لا قطع عليهم إلا أن تبلغ حصة كل واحد منهم نصابا، كما لو انفرد كل واحد بدون النصاب اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 146. وجاء في «المغني» 13/ 172- 173: «ولا يقام الحد على المسلم في أرض العدو» وجملته أن من أتى حدا من الغزاة، أو ما يوجب قصاصا في أرض الحرب، لم يقم عليه حتى يقفل، فيقام عليه حده، وبهذا قال الأوزاعي وإسحاق: وقال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر: يقام الحد في كل موضع، لأن الله تعالى أمر بإقامته في كل مكان وزمان، إلا أن الشافعي قال: إذا لم يكن أمير الجيش الإمام، أو أمير إقليم، فليس له إقامة الحد، ويؤخّر حتى يأتي الإمام. لأن إقامة الحدود إليه، وكذلك إن كان بالمسلمين حاجة إلى المحدود، أو قوة به، أو شغل عنه أخّر. وقال أبو حنيفة: لا حد ولا قصاص في دار الحرب ولا إذا رجع. اه ملخصا. وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 171 بتخريجي.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 12/ 440: لا خلاف بين أهل العلم في أن السارق أول ما يقطع منه يده اليمنى من مفصل الكف، وهو الكوع، لأنها آلة السرقة، فناسب عقوبته بإعدام آلتها، وإذا سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى، وبذلك قال جماعة إلا عطاء حكي عنه أنه تقطع يده اليسرى، وروي عن داود وربيعة، وهذا شذوذ يخالف قول جماعة فقهاء الأمصار من أهل الفقه والأثر، من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، وقول أبي بكر وعمر. وأما الآية فالمراد بها قطع يد كل واحد منهما. وفي قراءة ابن مسعود «فاقطعوا أيمانهما» إذا ثبت هذا، فإنه تقطع رجله اليسرى لقوله تعالى: أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ وتقطع الرجل من مفصل الكعب في قول أكثر أهل العلم، وفعل ذلك عمر وكان علي يقطع من نصف القدم، من معقد الشراك، ويدع له عقبا يمشي عليها، وهو قول أبي ثور.
- قال: وإذا قطع حسم، وهو أن يغلى الزيت فيغمس عضوه فيه، لتنسد أفواه العروق اه ملخصا. وانظر «أحكام الجصاص» 4/ 69- 74، و «تفسير القرطبي» 6/ 171- 172.
وجاء في «المغني» 12/ 446- 447 ما ملخصه: مسألة: «فإن عاد حبس، ولا يقطع غير يد ورجل» يعني إذا عاد فسرق بعد قطع يده ورجله، لم يقطع منه شيء آخر وحبس، وبهذا قال علي والحسن والشعبي والنخعي والزهري وحماد والثوري وأصحاب الرأي، وعن أحمد أنه تقطع في الثالثة يده اليسرى، وفي الرابعة رجله اليمنى، وفي الخامسة يعزر ويحبس، وروي عن أبي بكر وعمر أنهما قطعا يد أقطع اليد والرجل، وهذا قول قتادة ومالك والشافعي وأبي ثور وابن المنذر، وروي عن عثمان وعمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز، أنه تقطع يده اليسرى في الثالثة، والرجل اليمنى في الرابعة، ويقتل في الخامسة لحديث جابر: «جيء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بسارق فقال: اقتلوه.....» ولنا ما روى سعيد عن أبي معشر عن سعيد المقبري عن أبيه قال:
حضرت عليّ بن أبي طالب، أتي برجل مقطوع اليد والرجل قد سرق، فقال لأصحابه: ما ترون في هذا؟
قالوا: اقطعه يا أمير المؤمنين. قال: قتلته إذا، وما عليه القتل، بأي شيء يأكل الطعام، بأي شيء يتوضأ بأي شيء يغتسل، بأي شيء يقوم على حاجته، فرده إلى السجن، ثم جلده جلدا شديدا ثم أرسله اه ملخصا.
وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 172 و «أحكام الجصاص» 4/ 72- 73.(1/545)
فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
والرجل اليُمنى، فروي عن أحمد: لا تقطع، وهو قول أبي بكر، وعمر، وعلي، وأبي حنيفة، وروي عنه: أنها تقطع، وبه قال مالك، والشافعي. ولا يثبت القطع إِلا باقراره مرتين، وبه قال ابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي: يثبت بمرّة. ويجتمع القطع والغرم موسِراً كان أو معسراً. وقال أبو حنيفة: لا يجتمعان، فان كانت العين باقية أخذها ربُّها، وإِن كانت مستهلكة، فلا ضمان. وقال مالك: يضمنها إِن كان موسراً، ولا شيء عليه إِن كان معسراً «1» .
قوله تعالى: نَكالًا مِنَ اللَّهِ قد ذكرنا «النكال» في البقرة. قوله تعالى: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال سعيد بن جبير: شديد في انتقامه، حكيم إذا حكم بالقطع. قال الأصمعي: قرأت هذه الآية، وإِلى جنبي أعرابيٌ، فقلت: والله غفور رحيم، سهواً، فقال الأعرابي: كلام مَن هذا؟ قلت: كلام الله. قال: أعد فأعدت: والله غفور رحيم، فقال: ليس هذا كلام الله، فتنبهت، فقلت: وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. فقال:
أصبت، هذا كلام الله. فقلت له: أتقرأ القرآن؟ قال: لا. قلت: فمن أين علمت أني أخطأت؟ فقال: يا هذا عزَّ فحكم فقطع، ولو غفر ورحم لما قطع.
[سورة المائدة (5) : الآيات 39 الى 40]
فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
قوله تعالى: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ. سبب نزولها:
__________
(1) قال الإمام الموفق في «المغني» 12/ 454 ما ملخصه: لا يختلف أهل العلم في وجوب رد العين المسروقة إذا كانت باقية، فأما إن كانت تالفة، فعلى السارق رد قيمتها، أو مثلها إن كانت مثلية، قطع أو لم يقطع، موسرا كان أو معسرا، وهذا قول الحسن والنخعي وحماد والبتّي والليث والشافعي وإسحاق وأبي ثور، وقال الثوري وأبو حنيفة: لا يجتمع الغرم والقطع، إن غرمها قبل القطع سقط القطع، وإن قطع قبل الغرم سقط الغرم، وقال عطاء وابن سيرين والشعبي ومكحول: لا غرم على السارق إذا قطع، ووافقهم مالك في المعسر، ووافقنا في الموسر. وانظر «أحكام الجصاص» 4/ 83- 84.(1/546)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41)
(424) أن امرأة كانت قد سرقت، فقالت: يا رسول الله هل لي من توبة؟ فنزلت هذه الآية. قاله عبد الله بن عمرو. وقال سعيد بن جبير: فمن تاب من بعد ظلمه، أي: سرقته، وأصلح العمل، فإن الله يتجاوز عنه، إِن الله غفور لما كان منه قبل التوبة، رحيم لمن تاب.
[سورة المائدة (5) : آية 41]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال «1» :
(425) أحدها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرّ بيهودي وقد حمموه «2» وجلدوه، فقال: أهكذا تجدون حدّ الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم، فدعا رجلاً من علمائهم، فقال: أنشدُك الله الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولكنّه كثر في أشرافنا، فكنا نترك الشريف، ونُقيمه على الوضيع، فقلنا: تعالوا نُجْمِعْ على شيء نقيمه على الشريف والوضيع، فاجتمعنا على التحميم والجلد. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ إنّي أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه» فأمَرَ به فَرُجم، ونزلت هذه الآية، رواه البراء بن عازب.
__________
أخرجه أحمد 2/ 177 والطبري 11922 من حديث عبد الله بن عمرو قال: «إن امرأة سرقت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجاء الذين سرقتهم، فقالوا: يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا، قال قومها: فنحن نفديها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اقطعوا يدها، فقالت المرأة: هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال نعم. أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك. فأنزل الله عز وجل: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ إلى آخر الآية.
وفيه عبد الله بن لهيعة، وهو ضعيف الحديث، وهذا الحديث يعرف بحديث المخزومية، وأصله في الصحيحين دون ذكر نزول الآية، وبسياق آخر. وانظر «تفسير الشوكاني» 803 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه مسلم 1700 وأبو داود 4447 و 4448 وأحمد 4/ 286 وابن ماجة 2558 والبيهقي 8/ 246 والطبري 12039 من حديث البراء بن عازب.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، أن يقال: عني بقوله: لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ ... الآية، قوم من المنافقين. وجائز أن يكون ممن دخل هذه الآية ابن صوريا، وجائز أن يكون أبو لبابة، وجائز أن يكون غيرهما، غير أن أثبت شيء روي في ذلك ما روي عن البراء بن عازب وأبي هريرة لأن ذلك عن رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإذا كان ذلك كذلك، كان الصحيح من القول فيه أن يقال: عني به عبد الله بن صوريا.
(2) في «اللسان» : حمّم الرجل: سخّم وجهه بالحمم، وهو الفحم. وفي الحديث أنه أمر بيهودي محمّم مجلود أي مسود الوجه.(1/547)
(426) والثاني: أنها نزلت في ابن صوريا آمن ثم كفر، وهذا المعنى مروي عن أبي هريرة.
(427) والثالث: أنها نزلت في يهودي قتل يهودياً، ثم قال: سلوا محمداً فإن كان بُعِثَ بالدّية، اختصمنا إِليه، وإِن كان بعث بالقتل، لم نأته، قاله الشعبي.
والرابع: أنها نزلت في المنافقين، قاله ابن عباس، ومجاهد «1» .
(428) والخامس: أن رجلاً من الأنصار أشارت إِليه قريظة يوم حِصارهم: على ماذا ننزل؟ فأشار إِليهم: أنه الذّبح، قاله السدي.
(429) قال مقاتل: هو أبو لبابة بن عبد المنذر، قالت له قريظة: اننزل على حُكم سعدٍ؟ فأشار بيده: أنه الذّبح، وكان حليفاً لهم. قال أبو لبابة: فعلمت أني قد خُنتُ الله ورسوله، فنزلت هذه الآية.
ومعنى الكلام: لا يحزنك مسارعة الذي يُسارِعُون في الكفر من الذين قالوا آمنّا بأفواههم وهم المنافقون، ومن الذين هادوا وهم اليهود. سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ قال سيبويه: هو مرفوعٌ بالابتداء. قال أبو الحسن الأخفش: ويجوز أن يكونَ رفعُه على معنى: ومن الذين هادوا سماعون للكذب. وفي معناه أربعة أقوال: أحدها: سماعون منك ليكذبوا عليك. والثاني: سماعون للكذب، أي: قائلون له.
والثالث: سماعون للكذب الذي بدَّلوه في توراتهم. والرابع: سماعون للكذب، أي قابلون له، ومنه:
«سمع الله لمن حمده» أي: قبل.
وفي قوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ قولان: أحدهما: يسمعون لأولئك، فهم عيونٌ لهم. والثاني: سمّاعون من قوم آخرين، وهم رؤساؤهم المبدِّلون التوراة. وفي السمّاعين للكذب، وللقوم الآخرين قولان: أحدهما: أن «السّماعين للكذب» يهود المدينة، والقوم الآخرون الذين لم يأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يهود فدَك. والثاني: بالعكس من هذا.
وفي تحريفهم الكلم خمسة أقوال: أحدها: أنه تغيير حدود الله في التوراة، وذلك أنهم غيّروا الرّجم، قاله ابن عباس، والجمهور. والثاني: تغيير ما يسمعونه من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالكذب عليه، قاله الحسن. والثالث: إِخفاء صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والرابع: إِسقاط القود بعد استحقاقه. والخامس: سوء التأويل. وقال ابن جرير: المعنى يُحرّفون حكم الكلم، فحذف ذكر الحكم لمعرفة السامعين بذلك.
__________
أخرجه الطبري 11926 و 11928 و 11929 عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، وإسناد ضعيف، فيه راو لم يسمّ، وهو عجز حديث مطول. وأخرجه أبو داود 4450 و 4451 والطبري 12013 والواحدي 392 من حديث أبي هريرة، ولم يذكر فيه أنه ابن صوريا.
ضعيف. أخرجه الطبري 11924 و 11925 عن الشعبي مرسلا، وهو معارض بحديث البراء، وذاك أصح.
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 11923 عن السدي مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف، والمتن منكر، معارض بما تقدم عن البراء، ومراسيل السدي مناكير. وانظر «أحكام القرآن» 717 بتخريجنا.
مقاتل متروك، وكذبه غير واحد، فخبره لا شيء، والصواب ما رواه البراء.
__________
(1) أخرجه الطبري 11930 عن عبد الله بن كثير مرسلا. وكرره 11931 عن مجاهد مرسلا أيضا، ولم أره عن ابن عباس، والخبر ضعيف بكل حال.(1/548)
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ قال الزجاج: أي من بعد أن وَضَعه الله مواضعه، فأحلّ حلاله وحرّم حرامه. قوله تعالى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ في القائلين لهذا قولان:
(430) أحدهما: أنهم اليهود، وذلك أن رجلاً وامرأةً من أشرافهم زنيا، فكان حدهما الرّجم، فكرهت اليهود رجمهما، فبعثوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يسألونه عن قضائه في الزّانيين إِذا أُحصِنَا، وقالوا: إِن أفتاكم بالجلد فخذوه، وإِن أفتاكم بالرّجم فلا تعملوا به، هذا قول الجمهور.
(431) والثاني: أنهم المنافقون. قال قتادة: وذلك أن بني النضير كانوا لا يُعطون قريظة القود إِذا قتلوا منهم، وإِنما يعطونهم الدية، فإذا قتلت قريظة من النضير لم يَرْضوا إلا بالقود تعززا عليهم، فقتل بنو النضير رجلا من قريظة عمداً، فأرادوا رفع ذلك إِلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال رجل من المنافقين: إِن قتيلكم قتيل عمد، ومتى ترفعوا ذلك إِلى محمد خشيتُ عليكم القود، فان قُبِلَتْ منكم الدِّية فأعطوا، وإِلا فكونوا منه على حذر.
وفي معنى فَاحْذَرُوا ثلاثة أقوال: أحدها: فاحذروا أن تعملوا بقوله الشديد. والثاني: فاحذروا أن تُطْلِعُوه على ما في التوراة فيأخذكم بالعمل به. والثالث: فاحذروا أن تسألوه بعدها.
قوله تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ في «الفتنة» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها بمعنى الضلالة، قاله ابن عباس ومجاهد. والثاني: العذاب، قاله الحسن، وقتادة. والثالث: الفضيحة، ذكره الزجاج. قوله تعالى: فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: لا تغني عنه، ولا تقدر على استنقاذه. وفي هذا تسلية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم من حزنه على مسارعتهم في الكفر.
قوله تعالى: لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ قال السدّي: يعني المنافقين واليهود، لم يُرِدْ أن يطهر قلوبهم من دَنَسِ الكُفر، ووسَخ الشِّرك بطهارة الإِيمان والإِسلام.
قوله تعالى: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أما خزي المنافقين، فبهتك ستره وإِطلاع النبي على كفرهم، وخزي اليهود بفضيحتهم في إِظهار كذبهم إِذ كتموا الرجم، وبأخذ الجزية منهم. قال مقاتل: وخزي قريظة بقتلهم وسبيهم، وخزي النّضير بإجلائهم.
[سورة المائدة (5) : آية 42]
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42)
قوله تعالى: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ قال الحسن: يعني حكام اليهود يسمعون الكذب ممن يكذبُ عندهم في دعواه، ويأتيهم برشوة فيأخذونها. وقال أبو سليمان: هم اليهود يسمعون الكذب، وهو قول بعضهم لبعض: محمد كاذب، وليس بنبي، وليس في التوراة رجم، وهم يعلمون كذبهم. قوله تعالى:
__________
أخرجه الطبري 11941 عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، ورجاله ثقات لكنه منقطع بينهما، ومع ذلك هو يتأيد بحديث البراء.
ضعيف. أخرجه الطبري 11944 عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف.(1/549)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو جعفر «السُّحُتُ» مضمومة الحاء مثقَّلة.
وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة «السُّحْتُ» ساكنة الحاء خفيفة. وروى خارجة بن مصعب عن نافع «أكّالون للسَّحْت» بفتح السين وجزم الحاء. قال أبو علي: السُّحْت والسُّحُتُ لغتان، وهما اسمان للشيء المسحوت، وليسا بالمصدر، فأما من فتح السين، فهو مصدر سحتٍ، فأوقع اسم المصدر على المسحوت، كما أوقع الضرب على المضروب في قولهم: هذا الدرهم ضرب الأمير. وفي المراد بالسحت ثلاثة أقوال: أحدها: الرشوة في الحكم. والثاني: الرشوة في الدين، والقولان عن ابن مسعود. والثالث: أنه كل كسب لا يحل، قاله الأخفش.
قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ فيمن أُريد بهذا الكلام قولان:
أحدهما: اليهوديان اللذان زنيا، قاله الحسن، ومجاهد، والسدي. والثاني: رجلان من قريظة والنضير قتل أحدهما الآخر، قاله قتادة. وقال ابن زيد: كان حيي بن أخطب قد جعل للنضيريّ ديتين، والقرظي دية، لأنه كان من النضير، فقالت قريظة: لا نرضى بحكم حُيي، ونتحاكم إِلى محمد، فقال الله تعالى لنبيّه: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ الآية.
فصل: اختلف علماء التفسير في هذه الآية على قولين: أحدهما: أنها منسوخة، وذلك أن أهل الكتاب كانوا إِذا ترافعوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان مخيَّراً، إِن شاء حكم بينهم، وإِن شاء أعرض عنهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فلزمه الحكم، وزال التخيير، وهذا مروي عن ابن عباس، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، والسدي. والثاني: أنها محكمة، وأن الإِمام ونوابه في الحكم مخيّرون إِذا ترافعوا إِليهم، إِن شاؤوا حكموا بينهم، وإِن شاؤوا أعرضوا عنهم، وهذا مروي عن الحسن، والشعبي، والنخعي، والزهري، وبه قال أحمد بن حنبل، وهو الصحيح، لأنه لا تنافي بين الآيتين، لأن إِحداهما: خيَّرت بين الحكم وتركه. والثانية: بينت كيفية الحكم إِذا كان.
[سورة المائدة (5) : آية 43]
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
قوله تعالى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ قال المفسّرون: هذا تعجيب من الله عزّ وجلّ لنبيه من تحكيم اليهود إِياهُ بعد علمهم بما في التوراة من حكم ما تحاكموا إِليه فيه، وتقريع لليهود إِذ يتحاكمون إِلى مَن يجحدون نبوته، ويتركون حكم التوراة التي يعتقدون صحتها.
قوله تعالى: فِيها حُكْمُ اللَّهِ فيه قولان: أحدهما: حكم الله بالرجم، وفيه تحاكموا، قاله الحسن. والثاني: حكمه بالقود، وفيه تحاكموا، قاله قتادة.
قوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فيه قولان: أحدهما: من بعد حكم الله في التوراة.
والثاني: من بعد تحكيمك. وفي قوله تعالى: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ قولان: أحدهما: ليسوا بمؤمنين لتحريفهم التوراة. والثاني: ليسوا بمؤمنين أن حكمك من عند الله لجحدهم نبوّتك.(1/550)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
[سورة المائدة (5) : آية 44]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)
قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ قال المفسرون: سبب نزول هذه الآية: استفتاء اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أمر الزانيين، وقد سبق «1» . و «الهدى» : البيان. فالتّوراة مبيّنة صحة نبوّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ومبينة ما تحاكموا فيه إِليه. و «النور» : الضياء الكاشف للشبهات، والموضح للمشكلات.
وفي «النبيين الذين أسلموا» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنهم الأنبياء من لَدُنْ موسى إِلى عيسى، قاله الأكثرون. فعلى هذا القول في معنى «أسلموا» أربعة أقوال: أحدها: سلموا لحكم الله، ورضوا بقضائه. والثاني: انقادوا لحكم الله، فلم يكتموه كما كتم هؤلاء. والثالث: أسلموا أنفسهم إِلى الله عزّ وجلّ. والرابع: أسلموا لما في التوراة ودانوا بها، لأنه قد كان فيهم من لم يعمل بكل ما فيها كعيسى عليه السلام. قال ابن الأنباري: وفي «المسلم» قولان: أحدهما: أنه سُمّي بذلك لاستسلامه وانقياده لربه. والثاني: لإِخلاصه لربّه، من قوله تعالى: وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ «2» أي: خالصاً له.
والثاني: أن المراد بالنبيين نبيّا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله الحسن، والسدي. وذلك حين حكم على اليهود بالرّجم، وذكره بلفظ الجمع كقوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «3» . وفي الذي حكم به منها قولان: أحدهما: الرجم والقود. والثاني: الحكم بسائِرها ما لم يرد في شرعه ما يخالف.
والثالث: النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ومن قبله من الأنبياء صلوات الله عليهم، قاله عكرمة.
قوله تعالى: لِلَّذِينَ هادُوا قال ابن عباس: تابوا من الكفر. قال الحسن: هم اليهود. قال الزجاج: ويجوز أن يكون في الآية تقديم وتأخير. على معنى: إِنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونورٌ للذين هادوا، يحكم بها النبيون الذين أسلموا. فأما «الربانيون» فقد سبق ذكرهم في (آل عمران) . وأما «الأحبار» فهم العلماء واحدهم حَبر وحِبر، والجمع أحبار وحبور. وقال الفراء: أكثر ما سمعت العرب تقول في واحد الأحبار: حِبر بكسر الحاء. وفي اشتقاق هذا الاسم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من الحَبار وهو الأثر الحسن، قاله الخليل. والثاني: أنه من الحِبر الذي يكتب به، قاله الكسائي. والثالث: أنه من الحبر الذي هو الجمال والبهاء.
(432) وفي الحديث «يخرج رجل من النار قد ذهَبَ حِبْرُه وسبره» أي: جماله وبهاؤه. فالعالم
__________
لم أره مسندا، وإنما أورده الزمخشري في «الفائق» 1/ 85 وابن الجوزي في «غريب الحديث» 1/ 186 بدون إسناد، ومن غير عزو، فهذا مما لا أصل له. أي لا إسناد له.
__________
(1) انظر الأحاديث المتقدمة عند الآية: 41.
(2) سورة الزمر: 29.
(3) سورة النساء: 54.(1/551)
بَهِيٌ بجمال العلم، وهذا قول قطرب.
وهل بين الرّبانيين والأحبار فَرْق أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا فرق، والكل العلماء، هذا قول الأكثرين، منهم ابن قتيبة، والزجاج. وقد روي عن مجاهد أنه قال: الرّبانيون: الفُقهاء العُلماء، وهم فوق الأحبار. وقال السدي: الربانيون العلماء، والأحبار القُرّاء. وقال ابن زيد: الربانيون: الولاة، والأحبار: العُلماء، وقيل: الربانيون: علماء النصارى، والأحبار: علماء اليهود.
قوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ قال ابن عباس: بما استودعوا من كتاب الله وهو التوراة. وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: يحكمون بحكم ما استحفظوا. والثاني: العلماء بما استحفظوا. قال ابن جرير: «الباء» في قوله تعالى: بِمَا اسْتُحْفِظُوا من صلة الأحبار.
وفي قوله تعالى: وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ قولان:
أحدهما: وكانوا على ما في التوراة من الرَّجم شهداء، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: وكانوا شهداء لمحمد عليه السلام بما قال أنه حق. رواه العوفي عن ابن عباس.
قوله تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ قرأ ابن كثير، وعاصم، وحمزة، وابن عامر، والكسائي «واخشون» بغير ياء في الوصل والوقف. وقرأ أبو عمرو بياء في الوصل، وبغير ياء في الوقف، وكلاهما حسنٌ. وقد أشرنا إِلى هذا في سورة آل عمران «1» . ثم في المخاطبين بهذا قولان.
أحدهما: أنهم رؤساء اليهود، قيل لهم: فلا تخشوا الناس في إِظهار صفة محمد، والعمل بالرّجم، واخشوني في كتمان ذلك، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس. قال مقاتل: الخطاب ليهود المدينة، قيل لهم: لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرّجم، ونعت محمد، واخشوني في كتمانه.
والثاني: أنهم المسلمون، قيل لهم: لا تخشوا الناس، كما خشيت اليهود الناس، فلم يقولوا الحق، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قوله تعالى: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا في المراد بالآيات قولان: أحدهما: أنها صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. والثاني: الأحكام والفرائِض. والثمن القليل مذكور في البقرة.
فأمّا قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ. وقوله تعالى بعدها:
فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. فاختلف العلماء فيمن نزلت على خمسة أقوال «2» :
أحدها: أنها نزلت في اليهود خاصة، رواه عبيد بن عبد الله عن ابن عباس، وبه قال قتادة. والثاني: أنها نزلت في المسلمين، روى سعيد بن جبير عن ابن عباس نحو هذا المعنى. والثالث: أنها عامّة في
__________
(1) سورة آل عمران: 173.
(2) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 597: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: نزلت هذه الآيات في كفار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيون بها. وهذه الآيات سياق الخبر عنهم، فكونها خبرا عنهم أولى قلت: ومع ذلك العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فمن فعل من هذه الأمة مثل أفعال اليهود ألحق بهم، وتوجه الخطاب له، ومن فعل أفعال المشركين ألحق بهم، وتوجه الخطاب له، ومن فعل أفعال النصارى ألحق بهم، وتوجه الخطاب له، فإن هذا القرآن ما نزل لمجرد التلاوة والتبرك به، بل ليهتدى به، وليعتبر به. والله ولي التوفيق.(1/552)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
اليهود، وفي هذه الأمَّة، قاله ابن مسعود، والحسن، والنخعي، والسدي. والرابع: أنها نزلت في اليهود والنصارى، قاله أبو مجلز. والخامس: أن الأولى في المسلمين، والثانية في اليهود، والثالثة في النصارى، قاله الشعبي.
وفي المراد بالكفر المذكور في الآية الأولى قولان: أحدهما: أنه الكفر بالله تعالى. والثاني: أنه الكفر بذلك الحكم، وليس بكفر ينقل عن الملّة.
وفصل الخطاب: أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحداً له، وهو يعلم أن الله أنزله، كما فعلت اليهود، فهو كافر، ومن لم يحكم به ميلاً إِلى الهوى من غير جحود، فهو ظالم وفاسِق. وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومَن أقرَّ به ولم يحكم به فهو فاسق وظالم.
[سورة المائدة (5) : آية 45]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
قوله تعالى: وَكَتَبْنا أي: فرضنا عَلَيْهِمْ أي: على اليهود فِيها أي: في التوراة. قال ابن عباس: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس، فما بالهم يخالفون، فيقتلون النفسين بالنفس، ويفقئون العينينِ بالعين؟ وكان على بني إِسرائيل القصاص أو العفو، وليس بينهم دية في نفس ولا جُرح، فخفف الله عن أُمة محمد بالدية. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: النَّفسَ بالنفسِ، والعينَ بالعينِ، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسنَ بالسنِ، ينصبون ذلك كلَّه، ويرفعون «والجروحُ» . وكان نافع، وعاصم، وحمزة ينصبون ذلك كلَّه، وكان الكسائي يقرأ: «أن النفس بالنفس» نصباً، ويرفع ما بعد ذلك. قال أبو علي: وحجّته أن الواو لعطف الجُمل، لا للاشتراك في العامل، ويجوز أن يكون حمل الكلام على المعنى، لأن معنى: وكتبنا عليهم: قلنا لهم: النفس بالنفس، فحمل العين على هذا، وهذه حجّة من رفع الجروح. ويجوز أن يكون مستأنفاً، لا أنه ممّا كُتب على القوم، وإِنما هو ابتداء ايجاب. قال القاضي أبو يعلى: وقوله تعالى: العين بالعين، ليس المراد قلع العين بالعين، لتَعذّر استيفاء المماثلة، لأنا لا نقف على الحدِّ الذي يجب قلعه، وإِنما يجب فيما ذهب ضوؤها وهي قائمةٌ، وصفة ذلك أن تُشدَّ عين القالع، وتُحمى مرآة، فتقدّم من العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوؤها. وأما الأنف فإذا قطع المارن، وهو ما لان منه، وتركت قصبته، ففيه القصاص، وأما إِذا قطع من أصله، فلا قصاص فيه، لأنه لا يمكن استيفاء القصاص، كما لو قطع يده من نصف الساعد. وقال أبو يوسف، ومحمد: فيه القصاص إِذا استوعب. وأما الأُذن، فيجب القصاص إذا استُوعِبَت، وعرف المقدار. وليس في عظمٍ قصاص إِلا في السن، فان قلعت قلع مثلها، وإِن كُسِرَ بعضُها، برد بمقدار ذلك. وقوله تعالى: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ يقتضي إِيجاب القصاص في سائِر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها.
قوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ يشير إِلى القصاص. فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ في هاء «له» قولان:(1/553)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
أحدهما: أنها إِشارة إِلى المجروح، فاذا تصدّق بالقصاص كفّر من ذنوبه، وهو قول ابن مسعود، وعبد الله بن عمرو بن العاص، والحسن، والشعبي. والثاني: إِشارة إِلى الجارح إِذا عفا عنه المجروح، كفر عنه ما جنى، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، ومقاتل، وهو محمول على أن الجاني تاب من جنايته، لأنه إِذا كان مُصرّاً فعقوبة الإِصرار باقية.
[سورة المائدة (5) : آية 46]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)
قوله تعالى: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي: وأتبعنا على آثار النبيّين الذين أسلموا بِعِيسَى فجعلناه يقفو آثارهم مُصَدِّقاً أي: بعثناه مُصدّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً ليس هذا تكرار للأول، لأن الأول لعيسى، والثاني للإنجيل، لأن عيسى كان يدعو إِلى التصديق بالتوراة، والإِنجيل أنزل وفيه ذكر التّصديق بالتّوراة.
[سورة المائدة (5) : آية 47]
وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
قوله تعالى: وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ قرأ الأكثرون بجزم اللام على معنى الأمر، تقديره: وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه. وقرأ الأعمش، وحمزة بكسر اللام، وفتح الميم على معنى «كي» ، فكأنه قال: وآتيناه الإِنجيل لكي يحكم أهل الإِنجيل بما أنزل الله فيه.
[سورة المائدة (5) : آية 48]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)
قوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن بِالْحَقِّ أي: بالصدق مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ قال ابن عباس: يريد كلَّ كتاب أنزله الله تعالى.
وفي «المهيمن» أربعة أقوال: أحدها: أنه المؤيمن، رواه التميمي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير. وعكرمة، وعطاء، والضحاك. وقال المبرّد: «مهيمن» في معنى: «مؤيمن» إِلا أن الهاء بدل من الهمزة، كما قالوا: أرقت الماء، وهرقت، وإِيّاك وهِيّاك. وأرباب هذا القول يقولون: المعنى:
أن القرآن مؤتمن على ما قبله من الكتاب. إِلا أن ابن أبي نجيح روى عن مجاهد: ومُهيمَناً عليه. قال:
محمد مؤتمن على القرآن. فعلى قوله، في الكلام محذوف، كأنه قال: وجعلناك يا محمد مهيمناً عليه، فتكون هاء «عليه» راجعة إِلى القرآن. وعلى غير قول مجاهد ترجع إلى الكتاب المتقدّمة. والثاني: أنه الشاهد، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، والسدي، ومقاتل. والثالث: أنه المصدِّق على ما أخبر عن الكتاب، وهذا قول ابن زيد، وهو قريبٌ من القول الأول. والرابع: أنه الرقيب الحافظ، قاله الخليل.(1/554)
قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ يشير إِلى اليهود بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إِليك في القرآن وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ. قاله أبو سليمان: المعنى: فترجع عما جاءك. قال ابن عباس: لا تأخذ بأهوائِهم في جَلد المُحصَن.
قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً قال مجاهد: الشرعة: السُّنة، والمنهاج: الطريق.
وقال ابن قتيبة: الشرعة والشريعة واحد، والمنهاج: الطريق الواضح. فان قيل: كيف نسق «المنهاج» على «الشرعة» وكلاهما بمعنى واحد؟ فعنه جوابان: أحدهما: أن بينهما فرقاً من وجهين: أحدهما: أن «الشرعة» ابتداء الطريق، والمنهاج: الطريق المستمر، قاله المبرّد. والثاني: أن «الشرعة» الطريق الذي ربما كان واضحاً، وربما كان غير واضح، والمنهاج: الطريق الذي لا يكون إِلا واضحاً، ذكره ابن الأنباري. فلما وقع الاختلاف بين الشرعة والمنهاج، حَسُنَ نسق أحدهما على الآخر. والثاني: أن الشِّرعة والمنهاج بمعنى واحد، وإِنما نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين. قال الحطيئة:
ألا حَبَّذّا هندٌ وأرضٌ بها هِندُ ... وهندٌ أتى من دُونها النَّأْي والبُعْدُ
فنسق البُعد على النأي لما خالفه في اللفظ، وإِن كان موافقاً له في المعنى، ذكره ابن الأنباري.
وأجاب عنه أربابُ القول الأول، فقالوا: «النأي» كل ما قلّ بعده أو كثُر كأنه المفارقة، والبعد إِنما يُستعمل فيما كثرت مسافة مفارقته.
وللمفسرين في معنى الكلام قولان: أحدهما: لكل ملة جعلنا شرعةً ومنهاجاً، فلأهل التوراة شريعة، ولأهل الإِنجيل شريعة، ولأهل القرآن شريعة، هذا قول الأكثرين. قال قتادة: الخطاب للأمم الثلاث: أمةِ موسى، وعيسى، وأمة محمد، فللتوراة شريعة، وللإنجيل شريعة، وللفرقان شريعة، يُحِلُّ الله فيها ما يشاء، ويحرّم ما يشاء بلاءً، ليعلمَ من يطيعه ممن يعصيه، ولكن الدين الواحد الذي لا يُقبل غيره، التوحيدُ والإِخلاصُ لله الذي جاءت به الرسل. والثاني: أن المعنى: لكل مَن دخل في دين محمّد جعلنا القرآن شرعة ومنهاجا، هذا قول مجاهد.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً فيه قولان: أحدهما: لجمعكم على الحق.
والثاني: لجعلكم على ملةٍ واحدةٍ وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ أي: ليختبركم فِي ما آتاكُمْ من الكتاب، وبيّن لكم من الملل. فإن قيل: إِذا كان المعنى بقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً: نبينا محمداً مع سائر الأنبياء قبله، فمن المخاطب بقوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ؟ فالجواب: أنه خطاب لنبينا، والمراد به سائِر الأنبياء والأمم. قال ابن جرير: والعرب من شأنها إِذا خاطبت غائباً، فأرادت الخبر عنه أن تغلِّب المخاطَب، فتخرج الخبر عنهما على وجه الخطاب.
قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ قال ابن عباس، والضحاك: هو خطابٌ لأمة محمد عليه السلام. قال مقاتل: و «الخيرات» : الأعمال الصالحة: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ في الآخرة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ مِن الدِّين. قال ابن جرير: قد بين ذلك في الدنيا بالأدلّة والحجج، وغدا بيبّنه بالمجازاة.(1/555)
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
[سورة المائدة (5) : آية 49]
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49)
قوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ سبب نزولها:
(433) أن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسد «1» ، وعبد الله بن صُوريا، وشأس بن قيس، قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إِلى محمد، لعلنا نفتنه عن دينه، فأتَوه، فقالوا: يا محمد، قد عرفتَ أنَّا أحبارُ اليهود وأشرافُهم، وأنَّا إِن تبعناك، اتبعك اليهود، وإِن بيننا وبين قوم خصومة، فنحاكمهم إِليك، فتقضي لنا عليهم، ونحن نؤمن بك، فأبى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس. وذكر مقاتل: أن جماعة من بني النضير قالوا له: هل لك أن تحكم لنا على أصحابنا أهل قريظة في أمر الدماء، كما كنا عليه من قبلُ، ونبايعك؟ فنزلت هذه الآية.
قال القاضي أبو يعلى: وليس هذه الآية تكراراً لما تقدّم، وإِنما نزلتا في شيئين مختلفين:
أحدهما: في شأن الرّجم. والآخر: في التسوية في الديات حتى تحاكموا إِليه في الأمرين.
قوله تعالى: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ أي: يصرفوك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ وفيه قولان:
أحدهما: أنه الرّجم، قاله ابن عباس. والثاني: شأن القصاص والدماء، قاله مقاتل.
قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فيه قولان: أحدهما: عن حكمك. والثاني: عن الإِيمان، فاعلم أن إِعراضهم من أجل أن الله يريد أن يعذبهم ببعض ذنوبهم. وفي ذكر البعض قولان: أحدهما: أنه على حقيقته، وإِنما يصيبهم ببعض ما يستحقونه. والثاني: أن المراد به الكل، كما يُذكر لفظ الواحد ويراد به الجماعة، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «2» والمراد: جميع المسلمين. وقال الحسن: أراد ما عجَّله من إِجلاء بني النضير وقتل بني قريظة.
قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ قال المفسّرون: أراد اليهود. وفي المراد بالفسق هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: الكفر، قاله ابن عباس. والثاني: الكذب، قاله ابن زيد. والثالث: المعاصي، قاله مقاتل.
[سورة المائدة (5) : آية 50]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
قوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ قرأ الجمهور «يبغون» بالياء، لأن قبله غَيبة، وهي قوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ. وقرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء، على معنى: قل لهم.
(434) وسبب نزولها: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما حكم بالرّجم على اليهوديّين تعلّق بنو قريظة ببني النّضير،
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 12156 من حديث ابن عباس بسند ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس.
وورد من وجه آخر بنحوه. أخرجه النسائي 8/ 18- 19 والدارقطني عن عكرمة عن ابن عباس قال: «كان قريظة والنضير، وكان النضير أشرف من قريظة، وكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة أدّى مائة وسق من تمر، فلما بعث صلّى الله عليه وسلّم قتل رجل من النضير رجلا من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأتوه فنزلت وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ والقسط: النفس بالنفس، ثم نزلت أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ. وهو حديث حسن. رجاله ثقات، لكن رواية سماك عن عكرمة مضطربة وليس فيه اللفظ المرفوع.
وكرره النسائي ومن وجه آخر عن داود بن حصين، عن عكرمة عن ابن عباس، وداود ضعّف في روايته عن عكرمة، وورد من وجه آخر، أخرجه أحمد 2212 والطبراني 10732 وإسناده لين لأجل عبد الرحمن بن أبي الزناد، لكن هذه الروايات تتأيد بمجموعها والله أعلم.
__________
(1) وقع في الأصل «أسيد» ، والتصويب من كتب التفسير، والحديث.
(2) سورة الطلاق: 1. [.....](1/556)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
وقالوا: يا محمد هؤلاء إِخواننا، أبونا واحد، وديننا واحد، إِذا قتلوا منا قتيلاً أعطونا سبعين وسقاً من تمر، وإِن قتلنا منهم واحداً أخذوا منا أربعين ومائة وسْق، وإِن قتلنا منهم رجلاً قتلوا به رجلين، وإِن قتلنا امرأةً قتلوا بها رجلاً، فاقض بيننا بالعدل، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لبني النضير على بني قريظة فضل في عقل ولا دم» فقال بنو النضير: والله لا نرضى بقضائك، ولا نطيع أمرك، ولنأخذن بأمرنا الأوّل، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قال الزجاج: ومعنى الآية: أتطلب اليهود حكماً لم يأمر الله به، وهم أهل كتاب الله، كما تفعل الجاهلية؟! قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً قال ابن عباس: ومن أعدل؟! وفي قوله تعالى: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ قولان: أحدهما: يوقنون بالقرآن، قاله ابن عباس. والثاني:
يوقنون بالله، قاله مقاتل. وقال الزجاج: من أيقن تبيّن عدلَ الله في حكمه.
[سورة المائدة (5) : آية 51]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(435) أحدها: أنها نزلت في أبي لُبابة حين قال لبني قريظة إِذ رضوا بحكم سعد: إِنه الذّبح، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وهو قول عكرمة.
(436) والثاني: أن عُبادة بن الصّامت قال: يا رسول الله إِن لي موالي من اليهود، وإِني أبرأ إِلى الله مِن ولاية يهود، فقال عبد الله بن أُبيّ: إِنّي رجلٌ أخاف الدوائر، ولا أبرأ إِلى الله مِن ولاية يهود، فنزلت هذه الآية، قاله عطية العوفي.
__________
أخرجه الطبري 12166 عن عكرمة مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
- وعزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة كما تقدّم مرارا.
أخرجه الطبري 12162 عن عطية العوفي مرسلا، ومع إرساله، عطية واه. وورد من مرسل الزهري، أخرجه الطبري 12163، ومراسيل الزهري واهية. وله شاهد موصول، أخرجه الطبري 12164 عن عبادة بن الوليد، وهذا مرسل حسن، فلعل هذه الروايات تتأيد بمجموعها، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» 729 بتخريجنا.(1/557)
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)
(437) والثالث: أنه لما كانت وقعة أُحد خافت طائفةٌ من الناس أن يُدال عليهم الكُفَّارُ، فقال رجل لصاحبه: أمّا أنا فألحق بفلان اليهودي، فآخذ منه أماناً، أو أتهوّد معه، فنزلت هذه الآية، قاله السدي، ومقاتل.
قال الزجاج: لا تتولوهم في الدين. وقال غيره: لا تستنصروا بهم، ولا تستعينوا، بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في العون والنصرة.
قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ فيه قولان: أحدهما: من يتولهم في الدين، فانه منهم في الكفر. والثاني: من يتولهم في العهد فانه منهم في مخالفة الأمر.
[سورة المائدة (5) : آية 52]
فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52)
قوله تعالى: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ قال المفسّرون: نزلت في المنافقين، ثم لهم في ذلك قولان:
(438) أحدهما: أن اليهود والنصارى كانوا يميرون «1» المنافقين ويقرضونهم فيُوادُّونهم، فلما نزلت لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ قال المنافقون: كيف نقطع مودّة قوم إِن أصابتنا سنة وسَّعوا علينا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وممن قال: نزلت في المنافقين، ولم يعين:
مجاهد، وقتادة.
والثاني: أنها نزلت في عبد الله بن أُبيّ، قاله عطيّة العوفي «2» .
وفي المراد بالمرض قولان: أحدهما: أنه الشك، قاله مقاتل. والثاني: النّفاق، قاله الزجّاج.
وفي قوله تعالى: يُسارِعُونَ فِيهِمْ ثلاثة أقوال: أحدها: يسارعون في موالاتهم ومناصحتهم، قاله مجاهد، وقتادة. والثاني: في رضاهم، قاله ابن قتيبة. والثالث: في معاونتهم على المسلمين، قاله الزجاج. وفي المراد «بالدائرة» قولان: أحدهما: الجدب والمجاعة، قاله ابن عباس. قال ابن قتيبة:
نخشى أن يدور علينا الدّهر بمكروه، يعنون الجدب، فلا يبايعوننا، ونمتار فيهم فلا يميروننا. والثاني:
انقلاب الدولة لليهود على المسلمين، قاله مقاتل. وفي المراد بالفتح أربعة أقوال: أحدها: فتح مكة، قاله ابن عباس، والسدي. والثاني: فتح قرى اليهود، قاله الضحاك. والثالث: نصر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على مَن خالفه، قاله قتادة، والزجاج. والرابع: الفَرَج، قاله ابن قتيبة. وفي الأمر أربعة أقوال: أحدها: إجلاء
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 12165 عن السدي، مرسلا، فهو ضعيف.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة كما تقدم مرارا.
__________
(1) في «اللسان» : الميرة: الطعام يمتاره الإنسان، وفي التهذيب: جلب الطعام للبيع وهم يمتارون لأنفسهم ويميرون غيرهم ميرا.
(2) عطية هو ابن سعد العوفي، وهو ضعيف، لا يحتج به، إلا أن ابن أبي هو المراد في أكثر الآيات التي تذكر المنافقين، فإنه رأس النفاق.(1/558)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54)
بني النضير وأخذ أموالهم، وقتل قريظة، وسبي ذراريهم، قاله ابن السائِب، ومقاتل. والثاني: الجزية، قاله السدي. والثالث: الخصب، قاله ابن قتيبة. والرابع: أن يؤمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم باظهار أمر المنافقين وقتلهم، قاله الزجاج. وفيما أسرُّوا قولان: أحدهما: موالاتهم. والثاني: قولهم: لعل محمّدا لا ينصر.
[سورة المائدة (5) : آية 53]
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)
قوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ أبو عمرو، بنصب اللام على معنى: وعسى أن يقول.
ورفعه الباقون، فجعلوا الكلام مستأنفاً. وقرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر: «يقول» ، بغير واو، مع رفع اللام، وكذلك في مصاحف أهل مكة والمدينة.
قال المفسرون: لما أجلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني النضير، اشتد ذلك على المنافقين، وجعلوا يتأسفون على فراقهم، وجعل المنافق يقول لقريبه المؤمن إِذا رآه جادّاً في معاداة اليهود: أهذا جزاؤهم منك، طال والله ما أشبعوا بطنك؟ فلما قُتلت قريظة، لم يُطق أحدٌ من المنافقين ستر ما في نفسه، فجعلوا يقولون: أربعمائة حُصِدوا في ليلةٍ، فلما رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين، قالوا: أَهؤُلاءِ يعنون المنافقين الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ قال ابن عباس: أغلظوا في الأيمان. وقال مقاتل:
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ القسم بالله. وقال الزجاج: اجتهدوا في المبالغة في اليمين إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ على عدوّكم حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ بنفاقهم.
[سورة المائدة (5) : آية 54]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)
قوله تعالى: مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة، والكسائي:
يرتدَّ، بإدغام الدال الأولى في الأخرى، وقرأ نافع، وابن عامر: يرتدد، بدَّالين. قال الزجاج: «يرتدد» هو الأصل، لأن الثاني إِذا سُكِّن مِن المضاعف، ظهر التضعيف. فأما «يرتد» فأدغمت الدال الأولى في الثانية، وحرِّكت الثانية بالفتح، لالتقاء الساكنين. قال الحسن: علم الله أن قوماً يرجعون عن الإِسلام بعد موت نبيهم عليه السلام، فأخبرهم أنه سيأتي بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ. وفي المراد بهؤلاء القوم ستة أقوال «1» : أحدها: أبو بكر الصديق وأصحابه الذين قاتلوا أهل الرّدَّة، قاله علي بن أبي طالب، والحسن عليهما السلام، وقتادة، والضحاك، وابن جريج. قال أنس بن مالك: كرهت الصحابة قتال مانِعي الزكاة، وقالوا: أهل القبلة، فتقلَّد ابو بكر سيفه، وخرج وحده، فلم يجدوا بُداً من الخروج على أثره.
والثاني: أبو بكر، وعمر، روي عن الحسن، أيضاً. والثالث: أنهم قومُ أبي موسى الأشعريّ.
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله 4/ 626: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما روي به الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنهم أهل اليمن، قومُ أبي موسى الأشعري.(1/559)
إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
(439) روى عياض الأشعري أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هم قوم هذا» يعني:
أبا موسى.
والرابع: أنهم أهل اليمن، رواه الضحاك عن ابن عباس وبه قال مجاهد. والخامس: أنهم الأنصار، قاله السدي. والسادس: المهاجرون والأنصار، ذكره أبو سليمان الدمشقي. قال ابن جرير:
وقد أنجز الله ما وَعَد فأتى بقومٍ في زمن عمر كانوا أحسن موقعاً في الإِسلام ممّن ارتد.
قوله تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ قال علي بن أبي طالب عليه السلام: أهل رِقَّة على أهل دينهم، أهل غِلظةٍ على من خالفهم في دينهم. وقال الزجاج: معنى «أذلة» : جانبهم ليّن على المؤمنين، لا أنهم أذلاّءُ. يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ لأن المنافقين يراقبون الكفار، ويظاهرونهم، ويخافون لومهم، فأعلم الله عزّ وجلّ أن الصحيحَ الإِيمان لا يخاف في الله لومة لائم، ثم أعلمك أن ذلك لا يكون إِلا بتوفيقه، فقال: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعني: محبتهم لله، ولين جانبهم للمسلمين، وشدّتهم على الكافرين.
[سورة المائدة (5) : الآيات 55 الى 56]
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)
قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ اختلفوا فيمن نزلت على أربعة أقوال:
(440) أحدها: أن عبد الله بن سلام وأصحابه جاءوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: إِن قوماً قد أظهروا لنا العداوة، ولا نستطيع أن نجالس أصحابك لبُعد المنازل، فنزلت هذه الآية، فقالوا: رضينا
__________
حسن. أخرجه الحاكم 2/ 313 والطبري 12193 والطبراني 17/ 371 وابن سعد 4/ 80 من حديث عياض الأشعري، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي وقال الهيثمي في «المجمع» 10976: رجال الطبراني رجال الصحيح. ويشهد له ما أخرجه البيهقي في «الدلائل» 5/ 352 من حديث أبي موسى، وما أخرجه الطبراني في «الأوسط» 1414 من حديث جابر وقال الهيثمي 1977: إسناده حسن اه.
إسناده ضعيف جدا. بل موضوع. أخرجه الواحدي 397 بهذا اللفظ، وأتم، عن محمد بن مروان عن محمد بن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس وهذا إسناد ساقط ليس بشيء. محمد بن مروان هو السدي الصغير متروك متهم بالكذب، وابن السائب هو الكلبي أقر على نفسه بالكذب، راجع الميزان، وأبو صالح اسمه باذام غير ثقة في ابن عباس، والمتن باطل. وهذه السلسلة تعرف عند علماء الحديث بسلسلة الكذب.
وأخرجه عبد الرزاق كما في «تفسير ابن كثير» 2/ 92- 93 عن ابن عباس بنحوه. باطل، قال ابن كثير: فيه عبد الوهاب بن مجاهد، لا يحتج به اه. وقال الذهبي في «الميزان» 2/ 682: قال يحيى: ليس يكتب حديثه وقال أحمد: ليس بشيء. وقال ابن عدي: عامة ما يرويه لا يتابع عليه. وقال البخاري: يقولون: لم يسمع من أبيه اه. والظاهر أن هذا المتن سرقه من الكلبي فركبه على هذا الإسناد. وأخرجه الطبري 12219 عن مجاهد مرسلا، وفيه غالب بن عبيد الله متروك. وكرره 12216 عن أبي جعفر بلاغا، ومع ذلك هو معضل. وورد من حديث علي أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 2/ 93 وورد من حديث عمار بن ياسر أخرجه الطبراني في «الأوسط» كما في «المجمع» 10978. وقال الهيثمي: فيه من لم أعرفهم اه. وزاد ابن كثير نسبته لابن مردويه عن أبي رافع وقال ابن كثير: وليس يصح شيء منها بالكلية لضعف أسانيدها، وجهالة رجالها وانظر «تفسير الشوكاني» 815 و 816 بتخريجنا.(1/560)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
بالله وبرسوله وبالمؤمنين، وأذَّن بلال بالصلاة، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا مساكين يسأل الناس، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هل أعطاك أحدٌ شيئاً» ؟ قال: نعم. قال: «ماذا» ؟ قال: خاتم فضة. قال: «من أعطاكه» ؟ قال: ذاك القائِم، فاذا هو علي بن أبي طالب، أعطانيه وهو راكع، فقرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل. وقال مجاهد: نزلت في علي بن أبي طالب، تصدق وهو راكع «1» .
والثاني: أن عبادة بن الصّامت لما تبرأ من حلفائه اليهود نزلت هذه الآية في حقه «2» ، رواه العوفي عن ابن عباس. والثالث: أنها نزلت في أبي بكر الصديق، قاله عكرمة. والرابع: أنها نزلت فيمن مضى من المسلمين ومن بقي منهم، قاله الحسن.
قوله تعالى: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ فيه قولان: أحدهما: أنهم فعلوا ذلك في ركوعهم، وهو تصدق علي عليه السلام بخاتمه في ركوعه. والثاني: أن من شأنهم إِيتاء الزكاة وفعل الركوع. وفي المراد بالركوع ثلاثة أقوال: أحدها: أنه نفس الركوع على ما روى أبو صالح عن ابن عباس. وقيل: إِن الآية نزلت وهُم في الركوع. والثاني: أنه صلاة التطوّع بالليل والنهار، وإنما أُفرد الركوع بالذكر تشريفاً له، وهذا مروي عن ابن عباس أيضا. والثالث: أنه الخضوع والخشوع، وأنشدوا «3» :
لا تُذِلَّ الفقيرَ عَلََّك أنْ ... تركع يَوْماً والدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ
ذكره الماوردي. فأما حِزْبَ اللَّهِ فقال الحسن: هم جند الله. وقال أبو عبيدة: أنصار الله. ثم فيهم قولان: أحدهما: أنهم المهاجرون والأنصار، قاله ابن عباس. والثاني: الأنصار، ذكره أبو سليمان.
[سورة المائدة (5) : آية 57]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً سبب نزولها:
(441) أن رفاعة بن زيد بن التابوت، وسويد بن الحارث كانا قد أظهرا الإسلام، ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادُّونهما، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 12221 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لجهالة محمد بن أبي محمد.
__________
(1) انظر الحديث المتقدم. وقال ابن كثير في «تفسيره» 2/ 73- 74 ما ملخصه: وأما قوله تعالى وَهُمْ راكِعُونَ فقد توهم بعض الناس أن الجملة في موضع حال من قوله وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي في حال ركوعهم، ولو كان كذلك لكان دفع الزكاة حال الركوع أفضل من غيره، ولم يقل به أحد من أئمة الفتوى اه. وذكره ابن تيمية رحمه الله في «المقدمة في أصول التفسير» ، وقال: إنه من وضع الرافضة اه والظاهر أنه من وضع الكلبي، وسرقه منه بعض الضعفاء.
(2) تقدم.
(3) الشاعر هو: الأضبط بن قريع. وقوله لا تذلّ الفقير: لا تعادي ولا تهين.(1/561)
وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
فأما اتخاذهم الدّين هزُواً ولعباً، فهو إِظهارهم الإِسلام وإِخفاؤهم الكفر وتلاعبهم بالدين. والذين أُوتوا الكتاب: اليهود والنصارى، والكفار: عبدة الأوثان. قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وحمزة:
وَالْكُفَّارَ بالنّصب على معنى: لا تتخذوا الكفار أولياء. وقرأ أبو عمرو والكسائي: «والكفارِ» خفضاً، لقرب الكلام من العامل الجارِّ، وأمال أبو عمرو الألف. وَاتَّقُوا اللَّهَ أن تولّوهم.
[سورة المائدة (5) : آية 58]
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)
قوله تعالى: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ في سبب نزولها قولان:
(442) أحدهما: أن منادي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إِذا نادى إِلى الصلاة، وقام المسلمون إِليها، قالت اليهود: قاموا لا قاموا، صلوا لا صلّوا، على سبيل الاستهزاء والضحك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب.
(443) والثاني: أن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين على ذلك، وقالوا: يا محمد لقد أبدعت شيئاً لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية، فان كنت تدَّعي النبوّة، فقد خالفت في هذا الأذان الأنبياء قبلك، فما أقبح هذا الصوت، وأسمج هذا الأمر، فنزلت هذه الآية، ذكره بعض المفسّرين.
(444) وقال السُدّي: كان رجل من النصارى بالمدينة إِذا سمع المنادي ينادي: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: حُرِق الكاذب، فدخلت خادمه ذات ليلة بنارٍ وهو نائم، وأهله نيام، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله.
والمناداة: هي الأذان، واتخاذهم إِيّاها هزواً: تضاحكهم وتغامزهم ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما لهم في إِجابة الصلاة، وما عليهم في استهزائهم بها.
[سورة المائدة (5) : آية 59]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59)
قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا.
(445) سبب نزولها: أن نفراً من اليهود أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسألوه عمّن يؤمن به من الرُّسل، فذكر جميع الأنبياء، فلما ذكر عيسى، جحدوا نبوّته، وقالوا: والله ما نعلم ديناً شراً من دينكم، فنزلت هذه الآية والتي بعدها، قاله ابن عباس.
وقرأ الحسن، والأعمش: «تَنْقَمون» بفتح القاف. قال الزجاج: يقال: نَقَمْتُ على الرجل أنقم،
__________
عزاه المصنف لابن السائب، وهو الكلبي، وتقدم مرارا أنه يضع الحديث.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 400 م، بدون إسناد، ومن غير عزو لقائل، فهو لا شيء.
ضعيف أخرجه الطبري 12223 عن السدي مرسلا، فهو ضعيف.
ضعيف. أخرجه الطبري 12224 عن ابن عباس من طريق ابن إسحاق به، ومداره على محمد بن أبي محمد، وهو مجهول كما في «التقريب» ، و «الميزان» . وانظر «تفسير الشوكاني» 818 بتخريجنا.(1/562)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60)
ونَقِمْت عليه أنقَمُ، والأول أجود. ومعنى «نقمت» : بالغت في كراهة الشيء، والمعنى: هل تكرهون منا إِلا إِيماننا، وفسقكم، لأنكم علمتم أننا على حقّ، وأنكم فسقتم.
[سورة المائدة (5) : آية 60]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)
قوله تعالى: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ قال المفسرون: سبب نزولها قول اليهود للمؤمنين: والله ما علمنا أهل دينٍ أقلّ حظّاً منكم في الدنيا والآخرة، ولا ديناً شرّاً من دينكم. وفي قوله تعالى: بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ قولان: أحدهما: بشرٍّ من المؤمنين، قاله ابن عباس. والثاني: بشرٍّ مما نقمتم مِن إِيماننا، قاله الزجاج. فأما «المثوبة» فهي الثواب.
قال الزجاج: وموضع «مَنْ» في قوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ إِن شئت كان رفعاً، وإِن شئت كان خفضاً، فمن خفض جعله بدلاً مِن «شرٍّ» فيكون المعنى: أُنبئكم بمن لعنه الله؟ ومن رفع فباضمار «هو» كأنَّ قائلاً قال: مَن ذلك؟ فقيل: هو من لعنه الله. قال أبو صالح عن ابن عباس: من لعنه الله بالجزية، وغضب عليه بعبادة العجل، فهم شر مثوبة عند الله.
وروي عن ابن عباس أن المسخَين من أصحاب السبت: مسخ شبابهم قردة، ومشايخهم خنازير.
وقال غيره: القردة: أصحاب السبت، والخنازير: كفار مائدة عيسى. وكان ابن قتيبة يقول: أنا أظنُّ أن هذه القردة والخنازير هي المسوخ بأعيانها توالدت. قال: واستدللت بقوله تعالى: وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ فدخول الألف واللام يدل على المعرفة، وعلى أنها القردة التي تعاين، ولو كان أراد شيئاً انقرض ومضى، لقال: وجعل منهم قردة وخنازير، إِلا أن يصحّ حديث أم حبيبة في «المسوخ» فيكون كما قال عليه السلام. قلت أنا:
(446) وحديث أم حبيبة في «الصحيح» انفرد بإخراجه مسلم، وهو أنّ رجلا سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، القردة والخنازير هي ممّا مُسِخ؟ فقال النبي عليه السلام: «إن الله لم يمسخ قوماً أو يهلك قوماً، فيجعل لهم نسلاً ولا عاقبة، وإِن القردة والخنازير قد كانت قبل ذلك» وقد ذكرنا في سورة البقرة عن ابن عباس زيادة بيان ذلك، فلا يُلتفت إِلى ظن ابن قتيبة.
قوله تعالى: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فيها عشرون قراءة. قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، ونافع، والكسائي: «وعبد» بفتح العين والباء والدال، ونصب تاء «الطاغوت» . وفيها وجهان:
أحدهما: أن المعنى: وجعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت. والثاني: أن المعنى: من لعنه الله وعبد الطاغوت. وقرأ حمزة: «وعَبُدَ الطاغوتِ» بفتح العين والدال، وضم الباء، وخفض تاء الطاغوت. قال ثعلب: ليس لها وجه إِلا أن يجمع فَعْل على فَعُل. وقال الزجاج: وجهها أن الاسم بني على «فَعُل» كما تقول: عَلُم زيد، ورجل حَذُر، أي: مبالغ في الحذر. فالمعنى: جعل منهم خَدَمة
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2663 والحميدي 125 وأحمد 1/ 395- 396- 397- 422 وأبو يعلى 5313 من حديث ابن مسعود عن أم حبيبة.(1/563)
وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61)
الطاغوت ومن بلغ في طاعة الطاغوت الغاية. وقرأ ابن مسعود، وأُبيّ بن كعب، «وعَبَدُوا» ، بفتح العين والباء ورفع الدال على الجمع «الطاغوتَ» بالنصب. وقرأ ابن عباس، وابن أبي عبلة: «وعَبَدَ» بفتح العين والباء والدال، إِلا أنهما كسرا تاء «الطاغوت» . قال الفراء: أرادا «عبدة» فحذفا الهاء. وقرأ أنس بن مالك: «وعَبيدَ» بفتح العين والدال وبياء بعد الباء وخفض تاء «الطاغوت» . وقرأ أيوب، والأعمش:
«وعُبَّدَ» ، برفع العين ونصب الباء والدال مع تشديد الباء، وكسر تاء «الطاغوت» . وقرأ أبو هريرة، وأبو رجاء، وابن السميفع، «وعابد» بألف، مكسورة الباء مفتوحة الدال، مع كسر تاء الطّاغوت. وقرأ أبو العالية، ويحيى بن وثَّاب: «وعُبُدَ» برفع العين والباء وفتح الدال، مع كسر تاء الطاغوت. قال الزجاج:
هو جمع عبيد، وعُبُد مثل رغيف، ورغُف، وسرير، وسُرُر، والمعنى: وجعل منهم عبيد الطاغوت.
وقرأ أبو عمران الجوني، ومورّق العجلي، والنخعي: «وعُبِدَ» برفع العين وكسر الباء مخففة، وفتح الدال مع ضم تاء «الطاغوت» . وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وعكرمة: «وعَبَّد» بفتح العين والدال وتشديد الباء، مع نصب تاء الطاغوت. وقرأ الحسن، وأبو مجلز، وأبو نهيك: «وعَبْدَ» بفتح العين والدال، وسكون الباء خفيفة مع كسر تاء الطّاغوت. وقرأ قتادة، وهذيل بن شرحبيل: «وعَبَدَة» بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ منصوبة بعد الدال «الطواغيت» بالف وواو وياء بعد الغين على الجمع. وقرأ الضحاك، وعمرو بن دينار: «وعُبَدَ» برفع العين وفتح الباء والدال مع تخفيف الباء، وكسر تاء «الطاغوت» . وقرأ سعيد بن جبير، والشعبي: «وعَبْدَة» مثل حمزة، إِلا أنهما رفعا تاء «الطاغوت» .
وقرأ يحيى بن يعمر، والجحدري: «وعَبُدُ» بفتح العين ورفع الباء مع كسر تاء «الطاغوت» . وقرأ أبو الأشهب العطاردي: «وعُبْدَ» برفع العين وتسكين الباء، ونصب الدال، مع كسر تاء «الطاغوت» . وقرأ أبو السّمّال: «وعبدة» بفتح العين والباء والدال وتاء في اللفظ بعد الدال مرفوعة مع كسر تاء «الطّاغوت» . وقرأ معاذ القارئ: «وعابد» مثل قراءة أبي هريرة إِلا أنه ضم الدال. وقرأ أبو حياة:
«وعُبّادَ» بتشديد الباء وبألف بعدها مع رفع العين، وفتح الدال. وقرأ ابن حَذْلَمْ، وعمرو بن فائد:
«وعبّاد» مثل أبي حياة إِلا أن العين مفتوحة والدال مضمومة. وقد سبق ذكر «الطاغوت» في سورة البقرة. وفي المراد به هاهنا قولان: أحدهما: الأصنام. والثاني: الشيطان.
قوله تعالى: أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً أي: هؤلاء الذين وصفناهم شر مكاناً من المؤمنين، ولا شرّ في مكان المؤمنين، ولكن الكلام مبني على كلام الخصم، حين قالوا للمؤمنين: لا نعرف شراً منكم، فقيل: من كان بهذه الصّفة، فهو شرّ منهم.
[سورة المائدة (5) : آية 61]
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61)
قوله تعالى: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا.
(447) قال قتادة: هؤلاء ناسٌ من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيخبرونه أنهم مؤمنون بما جاء به، وهم متمسّكون بضلالتهم.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 12234 عن قتادة مرسلا، فهو ضعيف.(1/564)
وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قوله تعالى: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ أي: دخلوا كافرين، وخرجوا كافرين، فالكفر معهم في حالتيهم، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ من الكفر والنّفاق.
[سورة المائدة (5) : آية 62]
وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62)
قوله تعالى: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يعني: اليهود يُسارِعُونَ، أي: يبادرون فِي الْإِثْمِ وفيه قولان: أحدهما: أنه المعاصي، قاله ابن عباس. والثاني: الكفر، قاله السدي.
فأما العدوان فهو الظلم. وفي «السحت» ثلاثة أقوال: أحدها: الرّشوة في الحكم. والثاني:
الرشوة في الدين. والثالث: الربا.
[سورة المائدة (5) : آية 63]
لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)
قوله تعالى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ «لولا» بمعنى: «هلاّ» ، و «الربّانيون» مذكورون في آل عمران، ووَ الْأَحْبارُ قد تقدم ذكرهم في هذه السورة. وهذه الآية من أشد الآيات على تاركي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لأن الله تعالى جمع بين فاعل المنكر وتارك الإِنكار في الذم. قال ابن عباس: ما في القرآن آية أشدَّ توبيخاً من هذه الآية.
[سورة المائدة (5) : آية 64]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
قوله تعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ قال أبو صالح عن ابن عباس: نزلت في فنحاص اليهودي وأصحابه، قالوا: يد الله مغلولة. وقال مقاتل: فنحاص وابن صلوبا «1» ، وعازر بن أبي عازر. وفي سبب قولهم هذا ثلاثة أقوال: أحدها: أن الله تعالى كان قد بسط لهم الرزق، فلما عصوا الله تعالى في أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم وكفروا به كفَّ عنهم بعض ما كان بسط لهم، فقالوا: يد الله مغلولة، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة. والثاني: أن الله تعالى استقرض منهم كما استقرض من هذه الأمة، فقالوا:
إِن الله بخيل، ويده مغلولة فهو يستقرضنا، قاله قتادة. والثالث: أن النصارى لما أعانوا بختنصر المجوسي على تخريب بيت المقدس، قالت اليهود: لو كان الله صحيحاً لمنعنا منه، فيده مغلولة، ذكره قتادة أيضاً.
والمغلولة: الممسَكة المنقبضة. وعن ماذا عَنوا أنها ممسكة، فيه قولان:
أحدهما: عن العطاء، قاله ابن عباس، وقتادة، والفرّاء، وابن قتيبة، والزجّاج.
والثاني: ممسكة من عذابنا، فلا يعذبنا إِلا تحلّة القسم بقدر عبادتنا العجل، قاله الحسن.
وفي قوله تعالى: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ ثلاثة أقوال: أحدها: غلت في جهنم، قاله الحسن. والثاني:
أُمسكت عن الخير، قاله مقاتل. والثالث: جُعِلوا بُخلاء، فهم أبخل قوم، قاله الزجّاج. قال ابن
__________
(1) كذا في الأصل، وفي بعض كتب التفسير «صوريا» .(1/565)
الأنباري: وهذا خبر أخبر الله تعالى به الخلق أن هذا قد نزل بهم، وموضعه نصب على معنى الحال.
تقديره: قالت اليهود هذا في حال حكم الله بغل أيديهم، ولعنته إِياهم، ويجوز أن يكون المعنى: فغلت أيديهم، ويجوز أن يكون دعاء، معناه: تعليم الله لنا كيف ندعو عليهم، كقوله تعالى: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ «1» وقوله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ «2» .
وفي قوله تعالى: وَلُعِنُوا بِما قالُوا ثلاثة أقوال: أحدها: أُبعدوا من رحمة الله. والثاني: عذّبوا قردة بالجزية، وفي الآخرة بالنّار. الثالث: مُسخوا قردة وخنازير.
(448) وروى ابن عباس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من لعن شيئاً لم يكن للعنه أهلاً رجعت اللعنة على اليهود بلعنة الله إِياهم» .
قال الزجاج: وقد ذهب قومٌ إِلى أن معنى «يد الله» : نعمته، وهذا خطأ ينقضه بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ فيكون المعنى على قولهم: نعمتاه، ونعم الله أكثر من أن تحصى. والمراد بقوله: بل يَداهُ مَبْسُوطَتانِ:
أنه جواد ينفق كيف يشاء، وإِلى نحو هذا ذهب ابن الأنباري. قال ابن عباس: إِن شاء وسَّع في الرزق، وإِن شاء قتَّر.
قوله تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً قال الزجاج: كلما أُنزل عليك شيء كفروا به، فيزيد كفرهم. و «الطّغيان» هاهنا: الغلو في الكفر. وقال مقاتل: وليزيدن بني النضير ما أُنزل إِليك من ربك من أمر الرجم والدّماء طغياناً وكفراً.
قوله تعالى: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فيمن عني بهذا قولان: أحدهما: اليهود والنصارى، قاله ابن عباس: ومجاهد، ومقاتل. فإن قيل: فأين ذكر النصارى؟ فالجواب: أنه قد تقدم في قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ. والثاني: أنهم اليهود، قاله قتادة.
قوله تعالى: كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ ذِكْر إِيقاد النار مَثَلٌ ضُربَ لاجتهادهم في المحاربة، وقيل: إِن الأصل في استعارة اسم النار للحرب أن القبيلة من العرب كانت إِذا أرادت حرب أُخرى أوقدت النار على رؤوس الجبال، والمواضع المرتفعة، ليعلم استعدادهم للحرب، فيتأهب من يريد إِعانتهم. وقيل: كانوا إِذا تحالفوا على الجدِّ في حربهم، أوقدوا ناراً، وتحالفوا. وفي معنى الآية قولان: أحدهما: كلما جمعوا لحرب النبي صلّى الله عليه وسلّم فرّقهم الله. والثاني: كلما مكروا مكراً رده الله. قوله
__________
لا أصل له في المرفوع، وقد صح ما يعارضه، وهو ما أخرجه أبو داود 4908 والترمذي 1978 وابن حبان 5745 والطبراني 12757 عن ابن عباس أن رجلا لعن الريح عند النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تلعن الريح، فإنها مأمورة، وليس أحد يلعن شيئا ليس له بأهل إلا رجعت عليه اللعنة» . رجاله ثقات رجال الشيخين، لكن فيه عنعنة قتادة. وله شاهد من حديث ابن مسعود، أخرجه أحمد 1/ 408 وجوده المنذري في «الترغيب» 4108.
وله شاهد من حديث أبي الدرداء، أخرجه أبو داود 4905 بإسناد ضعيف لكن يصلح شاهدا لما قبله. فهذه الروايات تتأيد بمجموعها، فهو خبر صحيح. وهو يعارض حديث المصنف، لأن في هذه الأحاديث عود اللعنة على صاحبها إن لم يكن الآخر أهلا لها، في حين سياق المصنف ابن الجوزي فيه عودها على اليهود في جميع الأحوال.
__________
(1) سورة المسد: 1.
(2) سورة الفتح: 27.(1/566)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
تعالى: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً فيه أربعة أقوال: أحدها: بالمعاصي، قاله ابن عباس، ومقاتل.
والثاني: بمحو ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من كتبهم، ودفع الإِسلام، قاله الزجاج. والثالث: بالكفر. والرابع:
بالظّلم، ذكرهما الماورديّ.
[سورة المائدة (5) : آية 65]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ يعني: اليهود والنصارى آمَنُوا بالله وبرسله وَاتَّقَوْا الشرك لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ التي سلفت.
[سورة المائدة (5) : آية 66]
وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ قال ابن عباس: عملوا بما فيها. وفيما أُنزل إِليهم من ربهم قولان: أحدهما: كتب أنبياء بني إِسرائيل. والثاني: القرآن، لأنهم لما خوطبوا به، كان نازلاً إِليهم. قوله تعالى: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ فيه قولان:
أحدهما: لأكلوا بقطر السماء، ونبات الأرض، وهذا قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة.
والثاني: أن المعنى: لوسِّع عليهم، كما يقال: فلان في خير من قرنه إِلى قدمه، ذكره الفراء، والزجاج. وقد أعلم الله تعالى بهذا أن التقوى سبب في توسعة الرزق كما قال: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ «1» وقال: وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «2» .
قوله تعالى: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ يعني: من أهل الكتاب، وهم الذين أسلموا منهم، قاله ابن عباس، ومجاهد. وقال القرظي: هم الذين قالوا: المسيح عبد الله ورسوله. و «الاقتصاد» الاعتدال في القول والعمل من غير غلوّ ولا تقصير.
[سورة المائدة (5) : آية 67]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ذكر المفسرون أن هذه الآية نزلت على أسباب: روى الحسن أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال:
(449) «لما بعثني الله برسالته، ضقت بها ذرعاً، وعرفت أن من الناس من يكذِّبني» ، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، يهابُ قريشاً واليهود والنصارى، فأنزل الله هذه الآية.
__________
ضعيف. أخرجه أبو الشيخ كما في «أسباب النزول» للسيوطي 438. وهو مرسل. ومراسيل الحسن واهية كما هو مقرر في كتب المصطلح. وانظر «تفسير الشوكاني» 825 بتخريجنا.
__________
(1) سورة الأعراف: 96.
(2) سورة الطلاق: 3.(1/567)
(450) وقال مجاهد: لما نزلت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ قال: «يا رب كيف أصنع؟
إِنما أنا وحدي يجتمع عليَّ الناس» ، فأنزل الله وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
(451) وقال مقاتل: لما دعا اليهود، وأكثر عليهم، جعلوا يستهزئون به، فسكت عنهم، فحُرِّض بهذه الآية.
(452) وقال ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُحرَسُ فيرسل معه أبو طالب كلَّ يوم رجالاً من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت عليه هذه الآية، فقال: «يا عمّاه إِن الله قد عصمني من الجن والإِنس» .
(453) وقال أبو هريرة: نزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم تحت شجرة وعلق سيفه فيها، فجاء رجلٌ فأخذه، فقال: يا محمد من يمنعني منك؟ فقال: «الله» ، فنزل قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ.
(454) وقالت عائشة: سهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة، فقلت: ما شأنك؟ قال: ألا رجلٌ صالح يحرسني الليلة، فبينما نحن في ذلك إِذ سمعت صوت السّلاح، فقال: «من هذا» ؟ فقال: سعد وحذيفة جئنا نحرسك، فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى سمعت غطيطه «1» ، فنزلت وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فأخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأسه من قبة أدم «2» وقال «انصرفوا أيها النّاس، فقد عصمني الله تعالى» .
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 12275 عن مجاهد مرسلا، فهو ضعيف.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان إذا أطلق، وخبره معضل، وهو متروك متهم إذا وصل الحديث، فكيف إذا أرسله؟!
باطل. أخرجه الطبراني 1663 وابن عدي 7/ 22/ 1960 من حديث ابن عباس، وأعلّه ابن عدي بالنضر بن عبد الرحمن الخزّاز ونقل عن البخاري قوله: منكر الحديث. وقال النسائي متروك. وكذا ضعفه الهيثمي به في «المجمع» 10981 وله علة ثانية عبد الحميد بن عبد الرحمن الحمّاني وثقه ابن معين وفي رواية: ضعفه. وكذا ضعفه أحمد وابن سعد وقال النسائي: ليس بالقوي. والآية مدنية كما ذكر المصنف فالمتن منكر جدا، بل هو باطل. وانظر «تفسير القرطبي» 2751 و «ابن كثير» 2/ 102 بتخريجنا.
أخرجه ابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 2/ 103 من طريق حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وإسناده حسن، رجاله ثقات سوى محمد بن عمرو، وهو حسن الحديث.
أخرجه الترمذي 3046 والحاكم 2/ 313 والطبري 12279 والواحدي 404 من حديث عائشة. صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وقال الترمذي: حديث غريب ورواه بعضهم مرسلا بدون ذكر عائشة اه. والمرسل أخرجه الطبري 12277، وإسناده أصح من الموصول. وورد بمعناه من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه الطبراني في «الصغير» 418 والأوسط كما في «المجمع» 10980 وأعله الهيثمي بعطية العوفي، وقال ضعيف.
وأصله عند البخاري 2885 ومسلم 2410 دون ذكر الآية وسبب النزول فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم سهر، فلما قدم المدينة قال: «ليت رجلا من أصحابي صالحا يحرسني الليلة» إذ سمعنا صوت السلاح، فقال «من هذا؟» فقال: أنا سعد بن أبي وقاص جئت لأحرسك. «فنام النبي صلّى الله عليه وسلّم» لفظ البخاري.
وانظر «تفسير الشوكاني» 829 بتخريجنا.
__________
(1) في «اللسان» : الغطيط: هو صوت النائم المرتفع.
(2) الأدم: الأديم: الجلد ما كان، وقيل: الأحمر وقيل: هو المدبوغ- والجمع الأدم.(1/568)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
قال الزجّاج: قوله تعالى: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ معناه: بلغ جميع ما أُنزل إِليك، ولا تراقبن أحداً، ولا تتركنَّ شيئاً منه مخافة أن ينالك مكروه، فان تركت منه شيئاً، فما بلَّغت. قال ابن قتيبة:
يدل على هذا المحذوف قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ. وقال ابن عباس: إِن كتمت آية فما بلَّغت رسالتي. وقال غيره: المعنى: بلِّغ جميع ما أُنزل إِليك جهراً، فان أخفيت شيئاً منه لخوف أذىً يلحقك، فكأنك ما بلَّغت شيئاً. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «رسالته» على التوحيد. وقرأ نافع «رسالاته» على الجمع.
قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ قال ابن قتيبة: أي يمنعك منهم. وعصمة الله: منعه للعبد من المعاصي، ويقال: طعام لا يعصم، أي: لا يمنع من الجوع. فان قيل: فأين ضمان العصمة وقد شُجَّ جبينه، وكسِرت رَباعيته، وبولغ في أذاه؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه عصمه من القتل والأسرِ وتلفِ الجملة، فأمّا عوارض الأذى، فلا تمنع عصمة الجملة. والثاني: أن هذه الآية نزلت بعد ما جرى عليه ذلك، لأن «المائدة» من أواخر ما نزل.
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ فيه قولان: أحدهما: لا يهديهم إِلى الجنة.
والثاني: لا يعينهم على بلوغ غرضهم.
[سورة المائدة (5) : آية 68]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)
قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ سبب نزولها:
(455) أن اليهود قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألست تؤمن بما عندنا من التوراة، وتشهد أنها حق؟ قال:
بلى، ولكنكم أحدثتم وجحدتم ما فيها، فأنا بريء من إِحداثكم. فقالوا: نحن على الهدى، ونأخذ بما في أيدينا، ولا نؤمن بك، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
فأما أهل الكتاب، فالمراد بهم اليهود والنّصارى. وقوله تعالى: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي: لستم على شيء من الدين الحق حتى تقيموا التوراة والإِنجيل، وإِقامتهما: العمل بما فيهما، ومن ذلك الإِيمان بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم. وفي الذي أُنزل إِليهم من ربهم قولان قد سبقا، وكذلك باقي الآية.
[سورة المائدة (5) : آية 69]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ قد ذكرنا تفسيرها في البقرة. وكذلك اختلفوا في إِحكامها ونسخها كما بينا هناك. فأما رفع «الصابئين» فذكر الزجاج عن البصريين، منهم الخليل، وسيبويه أن قوله: «والصابئون» محمول على التأخير، ومرفوع بالابتداء. والمعنى: إِن الذين آمنوا والذين هادوا من آمَن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
__________
إسناده ضعيف. أخرجه الطبري 12287 من طريق محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي محمد به، ومحمد هذا مجهول كما تقدم مرارا. وانظر «تفسير الشوكاني» بتخريجنا.(1/569)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
والصابئون والنصارى كذلك أيضاً، وأنشدوا:
وإِلاَّ فاعلموا أنَّا وأنتم ... بُغاةٌ ما بقينا في شقاق «1»
المعنى: فاعلموا أنا بُغاة ما بقينا في شقاق، وأنتم أيضا كذلك.
[سورة المائدة (5) : آية 70]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)
قوله تعالى: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ قال مقاتل: أخذ ميثاقهم في التوراة بأن يعملوا بما فيها. قال ابن عباس: كان فيمن كُذِّبُوا. محمد وعيسى، وفيمن قتلوا: زكريا ويحيى. قال الزجاج:
فأما التكذيب، فاليهود والنصارى يشتركون فيه. وأمّا القتل فيختصّ اليهود.
[سورة المائدة (5) : آية 71]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)
قوله تعالى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وابن عامر: تَكُونَ بالنصب، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي: «تكون» بالرفع، ولم يختلفوا في رفع «فتنة» . قال مكي بن أبي طالب: من رفع جعل «أن» مخفّفة من الثقيلة، وأضمر معها «الهاء» ، وجعل «حسبوا» بمعنى: أيقنوا، لأن «أن» للتأكيد، والتأكيد لا يجوز إِلا مع اليقين. والتقدير: أنه لا تكون فتنة. ومن نصب جعل «أن» هي الناصبة للفعل، وجعل «حسبوا» بمعنى: ظنوا. ولو كان قبل «أن» فعلٌ لا يصلح للشك، لم يجز أن تكون إِلا مخففة من الثقيلة، ولم يجز نصب الفعل بها، كقوله تعالى: أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ «2» وعَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ «3» . وقال أبو علي: الأفعال ثلاثة: فعلٌ يدلُ على ثبات الشيء واستقراره، نحو العلم والتيقّن، وفعلٌ يدلُ على خلاف الثبات والاستقرار، وفعلٌ يجذب إِلى هذا مرة، وإِلى هذا أُخرى، فما كان معناه العلم، وقعت بعده «أن» الثقيلة، لأن معناها ثبوت الشيء واستقراره، كقوله تعالى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ «4» أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى «5» ، وما كان على غير وجه الثبات والاستقرار نحو: أطمع وأخاف وأرجو، وقعت بعده «أن» الخفيفة، كقوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ «6» تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ «7» فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما «8» أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي «9» ، وما كان متردداً بين الحالين مثل حسبتُ وظننت، فإنه يُجعلُ تارةً بمنزلة العلم، وتارةً بمنزلة أرجو وأطمع، وكلتا القراءتين في وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قد جاء بها التنزيل. فمثل مذهب من نصب: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ
«10» أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا «11»
__________
(1) البيت لبشر بن أبي خازم كما في «شواهد المعيني» 2/ 271. [.....]
(2) سورة طه: 89.
(3) سورة المزمل: 20.
(4) سورة النور: 25.
(5) سورة العلق: 14.
(6) سورة البقرة: 229.
(7) سورة الأنفال: 26.
(8) سورة الكهف: 80.
(9) سورة الشعراء: 82.
(10) سورة الجاثية: 21.
(11) سورة العنكبوت: 4.(1/570)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا «1» ، ومثلُ مذهب مَنْ رفع: أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ «2» أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ «3» . قال ابن عباس: ظنوا أن الله لا يعذّبهم، ولا يبتليهم بقتلهم الأنبياء، وتكذيبهم الرسل.
قوله تعالى: فَعَمُوا وَصَمُّوا قال الزجاج: هذا مثل تأويله: أنهم لم يعملوا بما سمعوا ورأوا من الآيات، فصاروا كالعمي الصمّ.
قوله تعالى: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فيه قولان: أحدهما: رفع عنهم البلاء، قاله مقاتل. وقال غيره: هو ظفرهم بالأعداء، وذلك مذكور في قوله تعالى: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ. والثاني: أن معنى «تاب عليهم» : أرسل إِليهم محمداً يعلمهم أن الله قد تاب عليهم إِن آمنوا وصدقوا، قاله الزجاج.
وفي قوله تعالى: ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا قولان: أحدهما: لم يتوبوا بعد رفع البلاء، قاله مقاتل. والثاني:
لم يؤمنوا بعد بعثة محمّد صلّى الله عليه وسلّم، قاله الزجاج.
قوله تعالى: كَثِيرٌ مِنْهُمْ أي: عمي وصم كثيرٌ منهم، كما تقول: جاءني قومُك أكثرُهم. قال ابن الأنباري: هذه الآية نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل أن يبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما بعث كذبوه بغياً وحسداً، وقدَّروا أن هذا الفعل لا يكون مُوبقاً لهم، وجانياً عليهم، فقال الله تعالى: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: ظنوا ألا تقع بهم فتنة في الإِصرار على الكفر، فعموا وصموا بمجانبة الحق. ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: عرّضهم للتّوبة بأن أرسل محمّدا صلّى الله عليه وسلّم وإِن لم يتوبوا، ثم عموا وصموا بعد بيان الحق بمحمد، كثيرٌ منهم، فخصّ بعضهم بالفعل الأخير، لأنهم لم يجتمعوا كلهم على خلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة المائدة (5) : آية 72]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72)
قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قال مقاتل: نزلت في نصارى نجران، قالوا ذلك. قوله تعالى: وَقالَ الْمَسِيحُ أي: وقد كان المسيح قال لهم وهو بين أظهرهم: إِنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة.
[سورة المائدة (5) : آية 73]
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)
قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ قال مجاهد: هم النصارى. قال وهب بن منبّه: لما وُلد عيسى لم يبق صنم إِلا خرَّ لوجهه، فاجتمعت الشياطين إِلى إِبليس، فأخبروه، فذهب فطاف أقطار الأرض، ثم رجع، فقال: هذا المولود الذي ولد من غير ذكر، أردت أن أنظر إِليه، فوجدت الملائكة قد حفّت بأمِّه، فليتخلف عندي اثنان من مردتكم، فلما أصبح. خرج بهما في
__________
(1) سورة العنكبوت: 2.
(2) سورة المؤمنون: 95.
(3) سورة الزخرف: 80.(1/571)
أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
صورة الرجال، فأتوا مسجد بني إِسرائيل وهم يتحدثون بأمر عيسى، ويقولون: مولود من غير أب.
فقال إِبليس: ما هذا ببشر، ولكن الله أحبَّ أن يتمثّل في امرأةٍ ليختبر العباد، فقال أحد صاحبيه: ما أعظم ما قلت، ولكن الله أحب أن يتخذ ولداً. وقال الثالث: ما أعظم ما قلت، ولكن الله أراد أن يجعل إِلها في الأرض، فألقوا هذا الكلام على ألسنة الناس، ثم تفرَّقوا، فتكلم به الناس. وقال محمد بن كعب: لمّا رفع عيسى اجتمع مائة من علماء بني إِسرائيل، وانتخبوا منهم أربعة، فقال أحدهم:
عيسى هو الله كان في الأرض ما بدا له، ثم صعِد إِلى السماء، لأنه لا يحيي الموتى ولا يبرئ الأكمه والأبرص إِلا الله. وقال الثاني: ليس كذلك، لأنا قد عرفنا عيسى، وعرفنا أُمه، ولكنّه ابن الله. وقال الثالث: لا أقول كما قلتما، ولكن جاءت به أُمه من عمل غير صالح. فقال الرابع: لقد قلتم قبيحاً، ولكنه عبد الله ورسوله، وكلمته، فخرجوا، فاتبع كلَّ رجل منهم عُنُقٌ «1» من الناس. قال المفسّرون:
ومعنى الآية: أن النصارى قالت: الإِلهية مشتركة بين الله وعيسى ومريم، وكل واحد منهم إِلهٌ. وفي الآية إِضمار، فالمعنى: ثالث ثلاثة آلهة، فحذف ذكر الآلهة، لأن المعنى مفهوم، لأنه لا يكفر من قال: هو ثالث ثلاثة، ولم يرد الآلهة، لأنه ما من اثنين إِلا وهو ثالثهما، وقد دل على المحذوف قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ. قال الزجاج: ومعنى ثالث ثلاثة: أنه أحد ثلاثة. ودخلت «من» في قوله تعالى: وَما مِنْ إِلهٍ للتوكيد. والذين كفروا منهم، هم المقيمون على هذا القول. وقال ابن جرير: المعنى: ليَمسّن الذين يقولون: المسيح هو الله، والذين يقولون: إِن الله ثالث ثلاثة، وكلّ كافر يسلك سبيلهم، عذاب أليم.
[سورة المائدة (5) : آية 74]
أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
قوله تعالى: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ قال الفراء: لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الأمر، كقوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
[سورة المائدة (5) : آية 75]
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
قوله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ فيه ردٌ على اليهود في تكذيبهم رسالته، وعلى النصارى في ادّعائهم إِلهيَّته. والمعنى: أنه ليس بالهٍ، وإِنما حكمُه حكم من سبقه من الرسل. وفي قوله تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ ردٌ على من نسبها من اليهود إِلى الفاحشة. قال الزجاج: والصدّيقة: المبالغة في الصدق، وصدِّيق «فعِّيل» من أبنية المبالغة، كما تقول: فلانٌ سكّيت، أي: مبالغ في السكوت. وفي قوله تعالى: كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ قولان: أحدهما: أنه بيّن أنهما يعيشان بالغذاء، ومن لا يُقيمه إِلا أكل الطعام فليس باله، قاله الزجاج. والثاني: أنه نبه بأكل الطعام على عاقبته، وهو الحدث، إِذ لا بد لآكل الطعام من الحدث، قاله ابن قتيبة. قال: وقوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ من ألطف ما يكون من الكناية. و «يؤفكون» : يُصرفون عن الحق ويُعدَلون، يقال: أفِك الرجل عن كذا:
__________
(1) في «اللسان» العنق: الجماعة الكثيرة من الناس. [.....](1/572)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79)
إِذا عدل عنه، وأرض مأفوكة: محرومة المطر والنّبات، كأنّ ذلك صرف عنها وعدل.
[سورة المائدة (5) : آية 76]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76)
قوله تعالى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قال مقاتل: قل لنصارى نجران: أتعبدون من دون الله، يعني عيسى ما لا يملك لكم ضراً في الدنيا، ولا نفعاً في الآخرة. والله هو السميع لقولهم: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة، العليم بمقالتهم.
[سورة المائدة (5) : آية 77]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)
قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ قال مقاتل: هم نصارى نجران. والمعنى: لا تغلوا في دينكم، فتقولوا غير الحق في عيسى. وقد بيّنا معنى «الغلو» في آخر سورة (النساء) . قوله تعالى: وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ قال أبو سليمان: من قبل أن تَضِلُّوا. وفيهم قولان: أحدهما: أنهم رؤساء الضَّلالَةِ من اليهود. والثاني: رؤساء اليهود والنصارى، والآية خطاب للذين كانوا في عصر نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم نُهوا أن يتبعوا أسلافهم فيما ابتدعوه بأهوائهم.
[سورة المائدة (5) : آية 78]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78)
قوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ في لعنهم قولان:
أحدهما: أنه نفس اللعن، ومعناه المباعدة من الرحمة. قال ابن عباس: لُعنوا على لسان داود، فصاروا قردة، ولعنوا على لسان عيسى في الإِنجيل. قال الزجاج: وجائز أن يكون داود وعيسى أُعْلِمَا أن محمداً نبيّ، ولعنا من كفر به. والثاني: أنه المسخ، قاله مجاهد، لعنوا على لسان داود فصاروا قردة، وعلى لسان عيسى، فصاروا خنازير. وقال الحسن، وقتادة: لعن أصحاب السبت على لسان داود، فانهم لما اعتدوا، قال داود: اللهم العنهم، واجعلهم آية، فمسخوا قردة. ولعن أصحاب المائدة على لسان عيسى، فانهم لما أكلوا منها ولم يؤمنوا قال عيسى: اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت، فجُعلوا خنازير.
قوله تعالى: ذلِكَ بِما عَصَوْا أي: ذلك اللعن بمعصيتهم لله تعالى في مخالفتهم أمره ونهيه، وباعتدائِهم في مجاوزة ما حدّه لهم.
[سورة المائدة (5) : آية 79]
كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79)
قوله تعالى: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ التناهي: تفاعل من النهي، أي: كانوا لا ينهى بعضهم بعضاً عن المنكر. وذكر المفسّرون في هذا المنكر ثلاثة أقوال: أحدها: صيدُ السّمك يوم السبت. والثاني: أخذ الرشوة في الحكم. والثالث: أكل الربا، وأثمان الشحوم. وذِكْر المنكر منكَّراً يدل على الإِطلاق، ويمنع هذا الحصر، ويدلُ على ما قلنا:(1/573)
تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
(456) ما روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إِن الرجل من بني إِسرائيل كان إِذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيراً، فإذا كان الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريبه، فلما رأى الله تعالى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم» .
قوله تعالى: لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ قال الزجاج: اللاّم دخلت للقسم والتوكيد، والمعنى:
لبئس شيئاً فعلهم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 80 الى 81]
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
قوله تعالى: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ في المشار إِليهم قولان: أحدهما: أنهم المنافِقُون، روي عن ابن عباس، والحسن، ومجاهد. والثاني: أنهم اليهود، قاله مقاتل في آخرين، فعلى هذا القول انتظام الآيات ظاهر، وعلى الأول يرجع الكلام إلى قوله تعالى فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ. وفي الذين كفروا قولان: أحدهما: أنهم اليهود، قاله أرباب القول الأول.
والثاني: أنهم مشركو العرب، قاله أرباب هذا القول الثاني.
قوله تعالى: لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي: بئسما قدموا لمعادهم أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قال الزجاج: يجوز أن تكون «أن» في موضع رفع على إِضمار هو، كأنه قيل: هو أن سخط الله عليهم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 83]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83)
قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ قال المفسّرون: نزلت هذه الآية وما بعدها مما يتعلق بها في النجاشي وأصحابه. قال سعيد بن جبير: بعث النجاشي قوما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأسلموا، فنزلت فيهم هذه الآية والتي بعدها، وسنذكر قصّتهم فيما بعد. قال الزجاج: واللام في «لتجدن» لام القسم، والنون دخلت تفصل بين الحال والاستقبال، و «عداوة» منصوب على التمييز، واليهود ظاهروا المشركين على المؤمنين حسداً للنبيّ عليه السّلام.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني: عبدة الأوثان. فأما الذين قالوا إِنا نصارى، فهل هذا عام
__________
أخرجه أبو داود 4336 و 4337 والترمذي 3050 وابن ماجة 4006 وأحمد 1/ 391 من حديث أبي عبيدة عن أبيه عن ابن مسعود، وفيه إرسال بينهما. وله شاهد من حديث أبي موسى، أخرجه الطبراني كما في «المجمع» 12153 وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح اه. وفي الباب أحاديث يحسن بها، وقد وهم من حكم بضعفه.(1/574)
في كل النصارى أم خاص؟ فيه قولان: أحدهما: أنه خاص، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه أراد النجاشي وأصحابه لما أسلموا، قاله ابن عباس وابن جبير. والثاني: أنهم قوم من النصارى كانوا متمسّكين بشريعة عيسى، فلما جاء محمد عليه السلام أسلموا، قاله قتادة. والقول الثاني: أنه عام. قال الزجاج:
يجوز أن يراد به النصارى لأنهم كانوا أقلَّ مظاهرةً للمشركين من اليهود.
قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً قال الزجاج: «القس» و «القسيس» من رؤساء النصارى. وقال قطرب: القسيس: العالم بلغة الروم، فأما الرهبان: فهم العباد أرباب الصوامع. قال ابن فارس: الترهّب: التعبّد، فان قيل: كيف مدحهم بأن منهم قسيسين ورهبانا وليس ذلك من أمرِ شريعتنا؟ فالجواب: أنه مدحهم بالتمسّك بدين عيسى حين استعملوا في أمر محمد ما أخذ عليهم في كتابهم، وقد كانت الرهبانية مستحسنة في دينهم. والمعنى: بأن فيهم علماء بما أوصى به عيسى من أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم. قال القاضي أبو يعلى: وربما ظن جاهلٌ أن في هذه الآية مدح النصارى، وليس كذلك، لأنه إِنما مدح مَن آمن منهم، ويدل عليه ما بعد ذلك، ولا شك أن مقالة النصارى أقبح من مقالة اليهود.
قوله تعالى: وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ، أي: لا يتكبرون عن إتباع الحق.
قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ.
(457) قال ابن عباس: لمّا حضر أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بين يدي النّجاشيّ، وقرءوا القرآن، سمع ذلك القسيسون والرهبان، فانحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، فقال الله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ إلى قوله تعالى: الشَّاهِدِينَ.
(458) وقال سعيد بن جبير: بعث النجاشي من خيار أصحابه ثلاثين رجلاً إِلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليهم القرآن، فبكوا ورقُّوا، وقالوا: نعرف والله، وأسلموا، وذهبوا إِلى النجاشي فأخبروه فأسلم، فأنزل الله فيهم وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ ... الآية.
(459) وقال السدي: كانوا اثني عشر رجلاً سبعة من القسيسين، وخمسة من الرّهبان، فلمّا قرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرآن، بكوا وآمنوا، فنزلت هذه الآية فيهم «1» .
__________
حسن. أخرجه الطبري 12320 من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس بأتم منه، ورجاله ثقات، لكن فيه إرسال بين علي وابن عباس. وله شاهد عن عبد الله بن الزبير، أخرجه النسائي في «التفسير» 168 والطبري 12330، وله شاهد من مرسل عطاء، أخرجه الطبري 12322.
مرسل. أخرجه الطبري 12318 عن خصيف الجزري عن سعيد بن جبير مرسلا.
- وكرره برقم 12328 عن سالم الأفطس عن سعيد به.
مرسل. أخرجه الطبري 12321 بأتم منه عن السدي مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف. وله شاهد عن أبي صالح، أخرجه الطبري 12326 وهو مرسل، وفيه راو لم يسمّ. الخلاصة: هذه الروايات جميعا تتأيد بمجموعها، فيكون النجاشي وأصحابه الذين آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم من هؤلاء، ويدخل في ذلك كل من اتصف بذلك من أهل الكتاب، وأصح ما في الباب حديث ابن الزبير وابن عباس. وانظر التعليق الآتي.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «جامع البيان» 5/ 5: والصواب في ذلك من القول عندي: أن الله تعالى وصف صفة قوم قالوا: إِنَّا نَصارى، أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم يجدهم أقرب الناس ودادا لأهل الإيمان بالله ورسوله، ولم يسمّ لنا أسماءهم، وقد يجوز أن يكون أريد بذلك أصحاب النجاشي، ويجوز أن يكونوا قوما كانوا على شريعة عيسى، فأدركهم الإسلام فأسلموا لما سمعوا القرآن وعرفوا أنه الحق، ولم يستكبروا عنه.(1/575)
وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
قوله تعالى: فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ، أي: مع من يشهد بالحق. وللمفسرين في المراد بالشاهدين هاهنا أربعة أقوال: أحدها: محمد وأُمته، رواه علي بن أبي طلحة، وعكرمة عن ابن عباس.
والثاني: أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلّم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: الذين يشهدون بالإِيمان، قاله الحسن. والرابع: الأنبياء والمؤمنون، قاله الزجّاج.
[سورة المائدة (5) : الآيات 84 الى 86]
وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)
قوله تعالى: وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ قال ابن عباس: لامهم قومهم على الإِيمان، فقالوا هذا، وفي القوم الصالحين ثلاثة أقوال: أحدها: أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس. والثاني: رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، قاله ابن زيد. والثالث: المهاجرون الأولون، قاله مقاتل.
قوله تعالى: وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس: ثواب المؤمنين.
[سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(460) أحدها: أن رجالاً من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، منهم عثمان بن مظعون، حرّموا اللحم والنساء على أنفسهم، وأرادوا جبّ أنفسهم ليتفرّغوا للعبادة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم أُومر بذلك» ، ونزلت هذه الآية، رواه العوفي عن ابن عباس.
__________
حسن. أخرجه الطبري 12350 وفيه إرسال بين علي بن أبي طلحة وابن عباس وكرره 12351 من وجه آخر عنه، وفيه عطية العوفي واه، وورد مرسلا عن عكرمة أخرجه الطبري وهذا ضعيف لإرساله ومن مرسل قتادة أخرجه الطبري 12348 مطولا، ومن مرسل السدي أخرجه 12349 وكرره 12340 من مرسل أبي مالك و 12345 من مرسل أبي قلابة. وذكره الواحدي في «الأسباب» 411 بقوله: قال المفسرون اه. رووه بألفاظ متقاربة، والمعنى متحد، وهذه الروايات المرسلة والموصولة تتأيد بمجموعها، فالحديث حسن.
- وفي الصحيح أن عثمان بن مظعون نهاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن التبتل دون ذكر الآية وهو عند البخاري 5073 و 5074، ومسلم 1402 والترمذي 1083 والنسائي 6/ 58 وابن ماجة 1848 وأحمد 1/ 175- 183 والدارمي 2/ 133 وابن حبان 4027 والبغوي 2237 والبيهقي 7/ 97 من حديث سعد بن أبي وقاص قال: ردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على عثمان بن مظعون التبتل ولو أذن له لاختصينا. وانظر «أحكام القرآن» 737.(1/576)
(461) وروى أبو صالح عن ابن عباس، قال: كانوا عشرة: أبو بكر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وعثمان بن مظعون، والمقداد بن الأسود، وسالم مولى أبي حذيفة، وسلمان الفارسي، وأبو ذر، وعمار بن ياسر، اجتمعوا في دار عثمان بن مظعون، فتواثقوا على ذلك، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «من رغب عن سنَّتي فليس مني» ونزلت هذه الآية.
(462) قال السدي: كان سبب عزمهم على ذلك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جلس يوماً، فلم يزدهم على التخويف، فرقَّ الناس، وبكوا، فعزم هؤلاء على ذلك، وحلفوا على ما عزموا عليه.
(463) وقال عكرمة: إِن علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وعثمان بن مظعون، والمقداد، وسالماً مولى أبي حُذيفة في أصحابه، تبتَّلوا، فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح «1» ، وحرموا طيبات الطعام واللباس، إِلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إِسرائيل، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار، فنزلت هذه الآية.
(464) والثاني: أن رجلاً أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إِني إِذا أكلت من هذا اللحم، أقبلت على النساء، وإِني حرَّمته عليّ، فنزلت هذه الآية، رواه عكرمة عن ابن عباس.
(465) والثالث: أن ضيفاً نزل بعبد الله بن رواحة، ولم يكن حاضراً، فلما جاء، قال لزوجته: هل أكل الضيف؟ فقالت: انتظرتك. فقال: حبست ضيفي من أجلي؟! طعامك عليّ حرام. فقالت: وهو عليَّ حرام إِن لم تأكله، فقال الضيف: وهو عليَّ حرام إِن لم تأكلوه، فلما رأى ذلك ابن رواحة قال:
قرّبي طعامك، كلوا بسم الله، ثم غدا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأخبره بذلك فقال: أحسنت، ونزلت هذه الآية، وقرأ حتى بلغ لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ، رواه عبد الرحمن بن زيد عن أبيه.
فأما «الطيبات» فهي اللذيذات التي تشتهيها النّفوس ممّا أبيح، وفي قوله تعالى: وَلا تَعْتَدُوا خمسة أقوال: أحدها: لا تجبّوا أنفسكم، قاله ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وإِبراهيم. والثاني: لا
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في روايته عن ابن عباس، وراويته هو الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، وذكر أبي بكر وعمر في هذا الحديث غريب جدا.
أخرجه الطبري 12349 عن السدي مرسلا مطولا، وهذا المتن أصله محفوظ بشواهده المرسلة والموصولة.
هو مرسل، وانظر ما تقدم.
ضعيف. أخرجه الترمذي 3054 والطبري 2354 وابن عدي 5/ 1070 والواحدي 410 من حديث ابن عباس. وإسناده ضعيف لضعف عثمان بن سعد الكاتب، وبه أعله ابن عدي. وأما الترمذي فقال: حسن غريب، ورواه بعضهم عن عثمان بن سعد مرسلا، ليس فيه عن ابن عباس، ورواه خالد الحذاء عن عكرمة مرسلا اه. قلت: هو خبر ضعيف، والصواب ما ذكره أئمة التفسير ومنهم ابن عباس، انظر الحديث المتقدم. انظر «أحكام القرآن» 740 بتخريجنا.
ضعيف جدا، أخرجه الطبري 12353 عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه مرسلا، ومع إرساله عبد الرحمن متروك الحديث. والصحيح في سبب النزول ما قبله. وحديث ابن رواحة في الصحيح، وليس فيه ذكر نزول الآية راجع البخاري 3581 وصحيح مسلم 2057. وانظر «أحكام القرآن» 738 بتخريجنا.
__________
(1) في «اللسان» : المسوح: جمع مسح: وهو كساء من شعر يلبسه الرهبان.(1/577)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
تأتوا ما نهى الله عنه، قاله الحسن. والثالث: لا تسيروا بغير سيرة المسلمين مِن ترك النساء، وإِدامة الصيام، والقيام، قاله عكرمة. والرابع: لا تحرّموا الحلال، قاله مقاتل. والخامس: لا تغصبوا الأموال المحرّمة، ذكره الماورديّ.
[سورة المائدة (5) : آية 89]
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ سبب نزولها:
(466) أنه لما نزل قوله تعالى: لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ قال القوم الذين كانوا حرّموا النساء واللحم: يا رسول الله كيف نصنع بأيْماننا التي حلفنا عليها؟ فنزلت هذه الآية، رواه العوفي عن ابن عباس. وقد سبق ذكر «اللغو» في سورة البقرة.
قوله تعالى: بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم:
«عقدتم» بغير ألف، مشددة القاف. قال أبو عمرو: معناها: وكدّتم، وقرأ أبو بكر، والمفضّل عن عاصم: «عقَدْتُم» خفيفة بغير ألف، واختارها أبو عبيد. قال ابن جرير: معناها: أوجبتموها على أنفسكم «1» . وقرأ ابن عامر: «عاقدتم» بألف، مثل «عاهدتم» . قال القاضي أبو يعلى: وهذه القراءة المشددة لا تحتمل إِلا عقد قول. فأما المخففة، فتحتمل عقد القلب، وعقد القول. وذكر المفسّرون في
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 12360 عن عطية بن سعد العوفي عن ابن عباس، وإسناده ضعيف لضعف عطية.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 469- 471 ما ملخصه: فصل: فإن قال: أقسمت، أو آليت، أو حلفت، أو شهدت لأفعلنّ، ولم يذكر بالله. فعن أحمد روايتان، إحداهما: أنها يمين، سواء نوى اليمين أو أطلق، وروي نحو ذلك عن عمر وابن عباس والنخعي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وعن أحمد: إن نوى اليمين بالله كان يمينا، وإلا فلا، وهو قول مالك وإسحاق وابن المنذر، لأنه يحتمل القسم بالله تعالى وبغيره، فلم تكن يمينا حتى يصرفه بنيته إلى ما تجب به الكفارة، وقال الشافعي: ليس بيمين وإن نوى، وروي نحو ذلك عن عطاء والحسن والزهري وقتادة وأبي عبيد لأنها عريت عن اسم الله تعالى وصفته فلم تكن يمينا. ولنا أنه ثبت لها عرف الشرع والاستعمال فإن أبا بكر قال: أقسمت عليك يا رسول الله، لتخبرني بما أصبت مما أخطأت، فقال: النبي صلّى الله عليه وسلّم «لا تقسم يا أبا بكر» رواه أبو داود. وقال العباس للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أقسمت عليك يا رسول الله لتبايعنّه، فبايعه النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقال: «أبررت قسم عمي، ولا هجرة» . وفي كتاب الله إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إلى اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فسماها يمينا.
- فصل: وإن قال: أعزم، أو عزمت لم يكن قسما، نوى به القسم أو لم ينو، لأنه لم يثبت لهذا اللفظ عرف في شرع ولا استعمال، ولا هو موضوع للقسم، ولا فيه دلالة عليه.
- مسألة: أو بأمانة الله قال القاضي: لا يختلف المذهب في أن الحلف بأمانة الله يمين مكفرة، وبهذا قال أبو حنيفة. وقال الشافعي: لا تنعقد اليمين بها إلا أن ينوي الحلف بصفة الله تعالى.
- فصل: فإن قال: والأمانة لا فعلت. ونوى الحلف بأمانة الله فهي يمين مكفّرة. وإن أطلق فعلى روايتين:
إحداهما: يكون يمينا، والثانية: لا يكون يمينا، لأنه لم يضفها إلى الله تعالى.(1/578)
معنى الكلام قولين: أحدهما: ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم عليه قلوبكم في التعمد لليمين، قاله مجاهد.
والثاني: بما عقَّدتم عليه قلوبكم أنه كذب، قاله سعيد بن جبير.
قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ «1» قال ابن جرير: الهاء عائدةٌ على «ما» في قوله: «بما عقَّدتم» .
فصل: فأما إِطعام المساكين «2» ، فروي عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، وابن عباس، والحسن في آخرين: أنّ لكلّ مساكين مدّ برّ، وبه قال مالك، والشافعي. وروي عن عمر، وعليّ، وعائشة في آخرين: لكلّ مساكين نصف صاع من بُرّ، قال عمر، وعائشة: أو صاعاً من تمر، وبه قال أبو حنيفة.
ومذهب أصحابنا في جميع الكفارات التي فيها إِطعام، مثل كفارة اليمين، والظهار، وفدية الأذى، والمفرّطة في قضاء رمضان، مُدّ بُرٍّ، أو نصف صاع تمر أو شعير. ومِنْ شرط صحة الكفارة، تمليك الطعام للفقراء، فإن غدَّاهم وعشَّاهم، لم يجزئه، وبه قال سعيد بن جبير، والحكم، والشافعي. وقال الثوري، والأوزاعي: يجزئه، وبه قال أبو حنيفة، ومالك «3» . ولا يجوز صرف مدّين إلى مساكين واحد «4» ، ولا إخراج القيامة في الكفارة، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: يجوز. قال الزجاج: وإِنما وقع لفظ التّذكير في المساكين، ولو كانوا إِناثاً لأجزأ، لأن المغلَّب في كلام العرب التذكير. وفي قوله تعالى: مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ قولان:
أحدهما: من أوسطه في القدر، قاله عمر، وعلي، وابن عباس، ومجاهد.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 481- 482: كفارة سائر الأيمان تجوز قبل الحنث وبعده، صوما كانت أو غيره، في قول أكثر أهل العلم، وبه قال مالك، وممن روي عنه جواز تقديم التكفير عمر وابنه وابن عباس وسلمان الفارسي ومسلمة بن مخلد، وبه قال الحسن وابن سيرين وربيعة والأوزاعي والثوري وابن المبارك وإسحاق وأبو عبيد وأبو خيثمة وسليمان بن داود، وقال أصحاب الرأي: لا تجزئ الكفارة قبل الحنث، لأنه تكفير قبل وجود سببه، وقال الشافعي كقولنا، في الإعتاق والإطعام والكسوة. وكقولهم في الصيام من أجل أنه عبادة بدنية.
قلت: ويخطئ أكثر العامة حيث يظنون أن المتعين هو صيام ثلاثة أيام. ولا يعرفون غير ذلك؟!!
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 511: لا يجزئ في الكفارة إخراج قيمة الطعام، ولا الكسوة، في قول إمامنا ومالك والشافعي وابن المنذر، وهو الظاهر من قول عمر وابن عباس وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير والنخعي. وأجازه الأوزاعي وأصحاب الرأي اه ملخصا. وانظر القرطبي 6/ 280.
(3) قال الإمام القرطبي في «تفسيره» 6/ 277: قال مالك: إن غدّى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه. وقال الشافعي: لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة، لأنهم يختلفون في الأكل، ولكن يعطي كل مساكين مدا. وروي عن علي: لا يجزئ إطعام العشرة وجبة واحدة. يعني غداء دون عشاء، أو عشاء دون غداء حتى يغدّيهم ويعشيهم. قال أبو عمر: وهو قول أئمة أهل الفتوى بالأمصار. وانظر ما ذكره 6/ 276.
(4) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 513: المكفّر لا يخلو من أن يجد المساكين بكمال عددهم، أو لا يجدهم، فإن وجدهم لم يجزئه إطعام أقل من عشرة في كفارة اليمين، ولا أقل من ستين في كفارة الظهار، وكفارة الجماع في رمضان وبهذا قال الشافعي وأبو ثور. وأجاز الأوزاعي دفعها إلى واحد. وقال أبو عبيد: إن خص بها أهل بيت شديدي الحاجة جاز. وقال أصحاب الرأي: يجوز أن يرددها على مساكين واحد في عشرة أيام إن كانت كفارة يمين، أو في ستين إن كان الواجب إطعام ستين مسكينا. ولا يجوز دفعها إليه في يوم واحد. وحكاه أبو الخطاب عن أحمد اه ملخصا. وانظر القرطبي 6/ 278.(1/579)
والثاني: مِن أوسط أجناس الطعام، قاله ابن عمر، والأسود، وعَبيدة، والحسن، وابن سيرين.
وروي عن ابن عباس قال: كان أهل المدينة يقرون للحُرِّ مِن القوت أكثر ما للمملوك، وللكبير أكثر ما للصغير، فنزلت مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ليس بأفضله ولا بأخسِّه.
وفي كسوتهم خمسة أقوال: أحدها: أنها ثوبٌ واحدٌ، قاله ابن عباس، ومجاهد، وطاوس، وعطاء، والشافعي. والثاني: ثوبان، قاله أبو موسى الأشعري، وابن المسيّب، والحسن، وابن سيرين، والضحاك. والثالث: إِزار ورداء وقميص، قاله ابن عمر. والرابع: ثوب جامع كالملحفة، قاله إِبراهيم النخعي. والخامس: كسوة تجزئ فيها الصلاة، قاله مالك. ومذهب أصحابنا: أنه إِن كسا الرجل، كساه ثوباً، والمرأة ثوبين، درعاً وخماراً، وهو أدنى ما تُجزئ فيه الصلاة.
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وأبو الجوزاء ويحيى بن يعمر: «أو كُسوتهم» بضم الكاف. وقد قرأ سعيد بن جبير وأبو العالية وأبو نهيك ومعاذ القارئ: «أو كاسوتهم» بهمزة مكسورة مفتوحة الكاف مكسورة التاء والهاء. وقرأ ابن السميفع وأبو عمران الجوني مثله، إِلا إنهما فتحا الهمزة. قال المصنف:
ولا أرى هذه القراءة جائزة لأنها تسقط أصلاً من أصول الكفارة.
قوله تعالى: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ تحريرها: عتقها، والمراد بالرقبة: جملة الشخص. واتفقوا على اشتراط إِيمان الرقبة في كفارة القتل لموضع النص. واختلفوا في إِيمان الرقبة المذكورة في هذه الكفارة على قولين: أحدهما: أنه شرط، وبه قال الشافعي، لأن الله تعالى قيد بذكر الإِيمان في كفارة القتل، فوجب حمل المطلق على المقيّد. والثاني: ليس بشرط، وبه قال أبو حنيفة، وعن أحمد رضي الله عنه في إِيمان الرقبة المعتقة في كفارة اليمين، وكفارة الظهار، وكفارة الجماع، والمنذورة، روايتان. قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ اختلفوا فيما إِذا لم يجده، صام، على خمسة أقوال: أحدها: أنه إِذا لم يجد درهمين صام، قاله الحسن. والثاني: ثلاثة دراهم، قاله سعيد بن جبير. والثالث: إِذا لم يجد إِلا قَدْرَ ما يكفِّر به، صام، قاله قتادة. والرابع: مائتي درهم، قاله أبو حنيفة. والخامس: إِذا لم يكن له إِلا قدر قوته وقوت عائلته يومه وليلته «1» ، قاله أحمد، والشافعي. وفي تتابع الثّلاثة أيام «2» ، قولان: أحدهما: أنه
__________
(1) قال الإمام الموفق في «المغني» 13/ 533: ويكفّر بالصوم من لم يفضل عن قوته وقوت عياله يومه وليلته، مقدار ما يكفر به وجملة ذلك أن كفارة اليمين تجمع تخييرا وترتيبا، فيتخير بين الخصال الثلاث، ويعتبر أن لا يجد فاضلا عن قوته وقوت عياله يومه وليلته قدرا يكفّر به، وهذا قول إسحاق، وأبو عبيد وقال الشافعي من جاز له الأخذ من الزكاة لحاجته وفقره، أجزأه الصيام، لأنه فقير. وقال سعيد بن جبير، إذا لم يملك إلا ثلاثة دراهم، كفّر بها. وقال الحسن: درهمين. وهذان القولان نحو قولنا، ووجه ذلك أن الله اشترط للصيام، أن لا يجد. فاعتبر فيه الفاضل عن قوته وقوت عياله، يومه وليلته، كصدقة الفطر.
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 13/ 528: ظاهر المذهب اشتراط التتابع في الصوم كذلك قال النخعي، والثوري، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور، وأصحاب الرأي. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال عطاء ومجاهد، وعكرمة.
وعن أحمد رواية أخرى، أنه يجوز تفريقها. وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه لأن الأمر بالصوم مطلق، فلا يجوز تقييده إلا بدليل. وفي قراءة ابن مسعود: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» كذلك ذكره أحمد: إن كان قرآنا فهو حجة، وإن لم يكن قرآنا، فهو رواية عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأيضا هو حجة فوجب التتابع.(1/580)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
شرط، وكان أُبيّ، وابن مسعود يقرآن: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» وبه قال ابن عباس، ومجاهد، وطاوس، وعطاء، وقتادة، وأبو حنيفة، وهو قول أصحابنا. والثاني: ليس بشرط، ويجوز التفريق، وبه قال الحسن، ومالك. وللشافعي فيه قولان.
قوله تعالى: ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ فيه إِضمار تقديره: إذا حلفتم وحنثتم.
وفي قوله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ ثلاثة أقوال: أحدها: أقلّوا منها، ويشهد له قوله تعالى:
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ، وأنشدوا:
قليل الألايا حافظ ليمينه «1»
والثاني: احفظوا أنفسكم من الحنث فيها. والثالث: راعوها لكي تؤدّوا الكفّارة عند الحنث فيها.
[سورة المائدة (5) : آية 90]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(467) أحدها: أن سعد بن أبي وقاص أتى نفراً من المهاجرين والأنصار، فأكل عندهم، وشرب الخمر قبل أن تحرم، فقال: المهاجرون خير من الأنصار، فأخذ رجلٌ لَحْي جمل فضربه، فجدع أنفه، فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره، فنزلت هذه الآية، رواه مصعب بن سعد عن أبيه.
(468) وقال سعيد بن جبير: صنع رجل من الأنصار صنيعاً، فدعا سعد بن أبي وقاص، فلما أخذت فيهم الخمرة افتخروا واستبُّوا، فقام الأنصاري إِلى لحي بعير، فضرب به رأس سعد، فإذا الدم على وجهه، فذهب سعد يشكو إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنزل تحريم الخمر في قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله تعالى: تُفْلِحُونَ.
(469) والثاني: أن عمر بن الخطاب قال: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في «البقرة» فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت التي في النساء لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى فقال: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت هذه الآية، رواه أبو ميسرة عن عمر.
(470) والثالث: أن أُناساً من المسلمين شربوها، فقاتل بعضهم بعضاً، وتكلموا بما لا يرضاه الله من القول، فنزلت هذه الآية، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
__________
صحيح. أخرجه مسلم 4/ 1877 ح 1748 والواحدي 412 وأحمد 1/ 181- 185 والبيهقي 8/ 285 والطبري 12522 و 12523 من حديث سعد. وانظر «تفسير الشوكاني» 851 بتخريجنا.
هو مرسل، لكن يشهد له ما قبله.
مضى في سورة البقرة، وهو حديث حسن.
فيه انقطاع بين علي بن أبي طلحة وابن عباس، لكن يشهد له ما تقدم.
__________
(1) هو صدر بيت لكثير عزة وتمامه: وإن سبقت منه الألية برّت.(1/581)
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
(471) والرابع: أن قبيلتين من الأنصار شربوا، فلما ثَمِلوا عبث بعضهم ببعض، فلما صحَوْا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه وبرأسه وبلحيته، فيقول: صنع بي هذا أخي فلان!! والله لو كان بي رؤوفاً ما صنع بي هذا، حتى وقعت في قلوبهم الضغائن، وكانوا إِخوة ليس في قلوبهم ضغائن، فنزلت هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس.
وقد ذكرنا الخمر والميسر في البقرة «1» وذكرنا في «النصب» في أوّل هذه السورة «2» قولين، وهما اللذان ذكرهما المفسرون في الأنصاب. وذكرنا هناك «الأزلام» . فأما الرجس، فقال الزجاج: هو اسمٌ لكل ما اسْتُقْذِرَ من عمل، يقال: رَجُس الرَّجل يرجُس، ورَجِسَ يَرْجَسُ: إِذا عمل عملاً قبيحاً، والرَّجس بفتح الراء: شدّة الصوت، فكأن الرِّجسَ، العملُ الذي يقبح ذكره، ويرتفع في القبح، ويقال:
رعدٌ رجّاس: إِذا كان شديد الصوت.
قوله تعالى: مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ قال ابن عباس: من تزيين الشيطان. فإن قيل: كيف نُسِبَ إِليه، وليس من فعله؟ فالجواب: أن نسبته إِليه مجاز، وإِنما نسب إِليه، لأنه هو الداعي إِليه، المزيّن له، ألا ترى أن رجلاً لو أغرى رجلاً بضرب رجل، لجاز أن يقال له: هذا من عملك.
قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ قال الزجاج: اتركوه. واشتقاقه في اللغة: كونوا جانباً منه. فإن قيل:
كيف ذكر في هذه الآية أشياء، ثم قال: فاجتنبوه؟ فالجواب: أن الهاء عائدةٌ على الرجس، والرجس واقعٌ على الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام، ورجوع الهاء عليه بمنزلة رجوعها على الجمع الذي هو واقعٌ عليه، ومنبئ عنه، ذكره ابن الأنباريّ.
[سورة المائدة (5) : الآيات 91 الى 92]
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)
قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ أما «الخمر» فوقوع العداوة والبغضاء فيها على نحو ما ذكرنا في سبب نزول الآية من القتال والمماراة. وأما الميسر، فقال قتادة: كان الرجل يقامر على أهله وماله، فيُقمَرُ ويبقى حزيناً سليباً، فينظر إِلى ماله في يد غيره، فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء.
قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ فيه قولان: أحدهما: أنه لفظ استفهام، ومعناه الأمر. تقديره:
انتهوا. قال الفراء: ردّد علي أعرابيٌ: هل أنت ساكتٌ، هل أنت ساكت؟ وهو يريد: اسكت، اسكت.
والثاني: أنه استفهام، لا بمعنى الأمر. ذكر شيخنا علي بن عبيد الله أن جماعة كانوا يشربون الخمر بعد
__________
حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» 171 والطبري 12526 والحاكم 4/ 141 والبيهقي 8/ 285 والطبراني 12459، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. وسكت عنه الحاكم، وصححه الذهبي على شرط مسلم، وهو كما قال، ويشهد له ما قبله، بل ربما تعددت الأسباب فنزلت الآيات في جميع ذلك.
__________
(1) سورة البقرة: 219.
(2) سورة المائدة: 3.(1/582)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
هذه الآية، ويقولون: لم يحرّمها، إِنما قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، فقال بعضنا: انتهينا، وقال بعضنا: لم ننته، فلما نزلت قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ حُرّمت، لأن «الإِثم» اسمٌ للخمر.
وهذا القول ليس بشيء، والأوّل أصح.
قوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما أمَرَاكم، واحذروا خلافهما فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي:
أعرضتم، فاعلموا أنما على رسولنا محمد البلاغ المبين وهذا وعيدٌ لهم، كأنه قال فاعلموا أنّكم قد استحققتم العقاب لتولّيكم.
[سورة المائدة (5) : آية 93]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا سبب نزولها:
(472) أن ناسا من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ماتوا وهم يشربون الخمر، إِذ كانت مباحة، فلما حرِّمت قال ناس: كيف بأصحابنا وقد ماتوا وهم يشربونها؟! فنزلت هذه الآية، قاله البراء بن عازب.
و «الجناح» : الإِثم. وفيما طعموا ثلاثة أقوال: أحدها: ما شربوا من الخمر قبل تحريمها، قاله ابن عباس، قال ابن قتيبة: يقال: لم أطعم خُبْزاً وأدماً ولا ماءً ولا نوماً. قال الشاعر:
فَإنْ شئتِ حرَّمتُ النِّساء سِواكُم ... وإِن شئتِ لم أطْعَمْ نُقَاخاً ولا بَرْدَا «1»
النقاخ: الماء البارد الذي ينقخ الفؤاد ببرده، والبرد: النوم.
والثاني: ما شربوا من الخمر وأكلوا من الميسر. والثالث: ما طعموا من المباحات.
وفي قوله تعالى: إِذا مَا اتَّقَوْا ثلاثة أقوال: أحدها: اتقوا بعد التحريم، قاله ابن عباس.
والثاني: اتقوا المعاصي والشرك. والثالث: اتقوا مخالفة الله في أمره. وفي قوله تعالى: وَآمَنُوا قولان: أحدهما: آمنوا بالله ورسوله. والثاني: آمنوا بتحريمها.
قوله تعالى: وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال مقاتل: أقاموا على الفرائض.
__________
صحيح. أخرجه الترمذي 3050 و 3051 والطيالسي 715 وأبو يعلى 1719 و 1720 وابن حبان 5350 والطبري 12533 من حديث البراء، وإسناده صحيح على شرطهما، لكن فيه عنعنة أبي إسحاق، وهو مدلس، وجاء في رواية أبي يعلى: قال شعبة: قلت لأبي إسحاق: أسمعته من البراء، قال: لا اه.
ومع ذلك يعتضد بحديث أنس: قال: كنت ساقي القوم في منزل أبي طلحة فنزل تحريم الخمر فأمر مناديا فنادى فقال أبو طلحة: اخرج فانظر ما هذا الصوت قال: فخرجت، قال: فجرت في سكك المدينة قال:
وكانت خمرهم يومئذ الفضيخ، فقال بعض القوم: قتل قوم وهي في بطونهم قال: فأنزل الله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا. أخرجه البخاري 4620 ومسلم 1980 والحميدي 1210 وأحمد 3/ 183 والنسائي 8/ 287 وابن حبان 5352 و 5363 و 5364 والبيهقي 8/ 286 والبغوي 2043 من طرق عن أنس، رووه بألفاظ متقاربة، واللفظ للبخاري.
__________
(1) البيت للعرجي وهو في ديوانه: 109 و «اللسان» مادة: نقخ.(1/583)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
قوله تعالى: ثُمَّ اتَّقَوْا في هذه التقوى المعادة أربعة أقوال: أحدها: أن المراد خوف الله عزّ وجلّ. والثاني: أنها تقوى الخمر والميسر بعد التحريم. والثالث: أنها الدوام على التقوى. والرابع: أن التقوى الأولى مخاطبة لمن شربها قبل التحريم، والثانية لمن شربها بعد التحريم.
قوله تعالى: وَآمَنُوا في هذا الإِيمان المُعاد قولان: أحدهما: صدّقوا بجميع ما جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم. والثاني: آمنوا بما يجيء من الناسخ والمنسوخ.
قوله تعالى: ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا في هذه التقوى الثالثة أربعة أقوال: أحدها: اجتنبوا العودَ إِلى الخمر بعد تحريمها، قاله ابن عباس: والثاني: اتقوا ظلم العباد. والثالث: توقوا الشبهات. والرابع:
اتقوا جميع المحرّمات. وفي الإِحسان قولان: أحدهما: أحسنوا العمل بترك شربها بعد التحريم، قاله ابن عباس. والثاني: أحسنوا العمل بعد تحريمها، قاله مقاتل.
[سورة المائدة (5) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ.
(473) قال المفسّرون: لما كان عام الحديبية، وأقام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالتنعيم، كانت الوحوش والطير تغشاهم في رحالهم، وهم مُحرِمون، فنزلت هذه الآية، ونهوا عنها ابتلاء.
قال الزجاج: اللام في «ليبلونَّكم» لام القسم، ومعناه: لنختبرن طاعتكم من معصيتكم. وفي «من» قولان: أحدهما: أنها للتبعيض، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه عنى صيد البرِّ دون صيد البحر.
والثاني: أنه عنى الصيد ما داموا في الإِحرام كأنَّ ذلك بعض الصيد. والثاني: أنها لبيان الجنس، كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ.
قوله تعالى: تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ قال مجاهد: الذي تناله اليد: الفراخ والبيض، وصغار الصيد، والذي تناله الرماح: كبار الصيد.
قوله تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ قال مقاتل: ليرى الله من يخافه بالغيب ولم يَره، فلا يتناول الصيد وهو مُحرم فَمَنِ اعْتَدى فأخذ الصيد عمداً بعد النهي للمُحرِم عن قتل الصيد فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ قال ابن عباس: يوسع بطنه وظهره جلدا، وتسلب ثيابه.
[سورة المائدة (5) : آية 95]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95)
__________
ورد ذلك عن مقاتل بن حيان، أخرجه ابن أبي حاتم كما في «الدر» 2/ 576، وهذا معضل، ومقاتل له مناكير كثيرة، وتفرده بهذا يدل على وهنه بل وبطلانه أيضا، حيث لم أجده عن غيره، والله أعلم.
وانظر «أحكام القرآن» 2/ 170 بتخريجنا.(1/584)
قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ بيّن الله عزّ وجلّ بهذه الآية من أيِّ وجهٍ تقع البلوى، وفي أيِّ زمانٍ، وما على من قتله بعد النهي؟. وفي قوله: وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ثلاثة أقوال:
أحدها: وأنتم محرمون بحج أو عمرة، قاله الأكثرون. والثاني: وأنتم في الحرم، يقال: أحرم:
إِذا دخل في الحرم، وأنجد: إِذا أتى نجداً. والثالث: الجمع بين القولين.
قوله تعالى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فيه قولان: أحدهما: أن يتعمّد قتله ذاكراً لإِحرامه، قاله ابن عباس، وعطاء. والثاني: أن يتعمد قتله ناسياً لإِحرامه، قاله مجاهد. فأما قتله خطأً، ففيه قولان:
أحدهما: أنه كالعمد، قاله عمر، وعثمان، والجمهور. قال الزهري: نزل القرآن بالعمد، وجرت السنّة في الخطأ، يعني: ألحقت المخطئ بالمتعمّد في وجوب الجزاء.
(474) وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «الضبع صيد وفيه كبش إِذا قتله المحرم» .
وهذا عامّ في العامد والمخطئ. قال القاضي أبو يعلى: أفاد تخصيص العمد بالذكر ما ذكر في أثناء الآية من الوعيد، وإِنما يختصّ ذلك بالعامد. والثاني: أنه لا شيء فيه، قاله ابن عباس وابن جبير وطاوس وعطاء وسالم والقاسم وداود. وعن أحمد روايتان، أصحهما الوجوب.
قوله تعالى: فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «فجزاء مثل» مضافة وبخفض «مثل» . وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «فجزاءٌ» منون «مثلُ» مرفوع. قال أبو علي: من أضاف، فقوله تعالى: مِنَ النَّعَمِ يكون صفة للجزاء، وإِنما قال: مثل ما قتل، وإِنما عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، لأنهم يقولون: أنا أُكرِمُ مثلك، يريدون: أنا أُكرِمُك، فالمعنى: جزاء ما قتل. ومَن رفع «المثل» ، فالمعنى: فعليه جزاء من النعم مماثل للمقتول، والتقدير: فعليه جزاء. قال ابن قتيبة: النعم: الإِبل، وقد يكون البقر والغنم، والأغلب عليها الإِبل. وقال الزجاج: النعم في اللغة:
الإِبل والبقر والغنم، فان انفردت الابل، قيل لها: نعم، وإِن انفردت البقر والغنم، لم تسم نعماً.
فصل: قال القاضي أبو يعلى: والصيد الذي يجب الجزاء بقتله: ما كان مأكول اللحم، كالغزال، وحمار الوحش، والنعامة، ونحو ذلك، أو كان متولداً من حيوان يؤكل لحمه، كالسِّمع، فإنه متولد من الضبع، والذئب، وما عدا ذلك من السباع كلها، فلا جزاء على قاتلها سواء ابتدأ قتلها، أو عدت عليه فقتلها دفعاً عن نفسه، لأن السبع لا مثل له صورة ولا قيمة، فلم يدخل تحت الآية.
(475) ولأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجاز للمحرم قتل الحيّة، والعقرب، والفويسقة، والغراب، والحدأة، والكلب العقور، والسَّبع العادي. قال: والواجب بقتل الصيد فيما له مثلٌ من الأنعام مثله، وفيما لا مثل
__________
صحيح. أخرجه أبو داود 3801 وابن ماجة 3085 والدارمي 2/ 74 والحاكم 1/ 452، والدارقطني 2/ 246 وابن حبان 3964 من حديث جابر، وصححه الحاكم على شرطهما وجاء في «تلخيص الحبير» 2/ 278. قال الترمذي: سألت عنه البخاري فصححه، وكذا صححه عبد الحق، وجوّده البيهقي، وأعلّه بعضهم بالوقف.
وانظر «تفسير القرطبي» 2809 بتخريجنا.
يشير المصنف للحديث الصحيح الوارد عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور» . أخرجه البخاري 1829 ومسلم 1198 وأحمد 6/ 259 وابن حبان 5632 وأبو يعلى 4503 والطحاوي 2/ 166. والدارقطني 2/ 231 من طرق عن عائشة، رووه بألفاظ متقاربة. وفي رواية مسلم برقم 1198 ح 68. «الحية والكلب العقور» . وفيه «السبع العادي» . أخرجه أبو داود 1848 والترمذي 838 وابن ماجة 3089 والطحاوي 1/ 385 وأحمد 3/ 3- 32- 79 والبيهقي 5/ 210 من طريق يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن أبي نعم عن أبي سعيد في أثناء حديث، وإسناده غير قوي لأجل يزيد بن أبي زياد، فقد ضعفه غير واحد. والألفاظ الواردة في الصحيحين ليس فيها ذكر «السبع العادي» . والفويسقة: هي الفأرة.(1/585)
له قيمته، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة: الواجب فيه القيامة، وحمل المثل على القيامة، وظاهرُ الآية يردُّ ما قال، ولأن الصحابة حملوا الآية على المثل من طريق الصورة، فقال ابن عباس:
المثل: النظير، ففي الظبية شاة، وفي النعامة بعير.
قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ يعني بالجزاء، وإِنما ذكر اثنين، لأن الصيد يختلف في نفسه، فافتقر الحكم بالمثل إلى عدلين. وقوله تعالى: مِنْكُمْ يعني: من أهل ملتكم.
قوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ قال الزجاج: هو منصوب على الحال، والمعنى: يحكمان به مقدّراً أن يهدى «1» . ولفظ قوله «بالغ الكعبة» لفظ معرفة، ومعناه: النكرة. والمعنى: بالغاً الكعبة، إِلا أن التنوين حُذف استخفافاً. قال ابن عباس: إِذا أتى مكّة ذبحه، وتصدّق به.
قوله تعالى: أَوْ كَفَّارَةٌ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: أَوْ كَفَّارَةٌ منوناً طَعامُ رفعاً. وقرأ نافع، وابن عامر: «أو كفّارة» رفعا غير منوّن «طعام مساكين» على الاضافة.
قال أبو علي: من رفع ولم يضف، جعله عطفاً على الكفارة عطف بيان، لأن الطعام هو الكفارة، ولم يضف الكفارة إِلى الطعام، لأن الكفارة لقتل الصيد، لا للطعام، ومن أضاف الكفارة إِلى الطعام، فلأنه لما خيّر المكفِّر بين الهدي، والطعام، والصيام، جازت الإِضافة لذلك، فكأنه قال: كفارةُ طعامٍ، لا كفارة هدي، ولا صيام. والمعنى: أو عليه بدل الجزاء والكفارة، وهي طعامُ مساكين «2» . وهل يعتبر في إِخراج الطعام قيمة النظير، أو قيمة الصيد؟ فيه قولان: أحدهما: قيمة النظير، وبه قال عطاء، والشافعي، وأحمد. والثاني: قيمة الصيد، وبه قال قتادة، وأبو حنيفة، ومالك. وفي قدر الإطعام لكلّ
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المغني» 5/ 450- 451 ما ملخصه: أما فدية الأذى، فتجوز في الموضع الذي حلق فيه، نص عليه أحمد، وقال الشافعي: لا تجوز إلا في الحرم لقوله تعالى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ. ولنا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر كعب بن عجرة بالفدية بالحديبية، ولم يأمر ببعثه إلى الحرم.
- وأما جزاء الصيد، فهو لمساكين الحرم لقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ.
فصل: وما وجب نحره بالحرم، وجب تفرقة لحمه به، وبهذا قال الشافعي. وقال مالك وأبو حنيفة: إذا ذبحها في الحرم، جاز تفرقة لحمها في الحل. وانظر «تفسير القرطبي» 6/ 413. [.....]
(2) قال الإمام الموفق رحمه الله 5/ 451: فصل: والطعام كالهدي، يختص بمساكين الحرم فيما يختص الهدي به، وقال عطاء والنخعي: ما كان من هدي فبمكة، وما كان من طعام وصيام. فحيث شاء، وهذا يقتضيه مذهب مالك وأبي حنيفة، ولنا قول ابن عباس: الهدي والطعام بمكة، والصوم حيث شاء.
- فصل: ومساكين الحرم من كان فيه من أهل، أو وارد إليه من الحاجّ وغيرهم الذين يجوز دفع الزكاة إليهم، ولو دفع إلى من ظاهره الفقر فبان غنيا خرّج فيه وجهان كالزكاة، وللشافعي فيه قولان، وما جاز تفريقه بغير الحرم لم يجز دفعه إلى فقراء أهل الذمة، وبهذا قال الشافعي وأبو ثور، وجوزه أصحاب الرأي، ولنا أنه كافر، فلم يجز الدفع إليه، كالحربي.(1/586)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
مساكين قولان: أحدهما: مدّان من بُرٍّ، وبه قال ابن عباس، وأبو حنيفة. والثاني: مُدُّ بُرٍّ، وبه قال الشافعي، وعن أحمد روايتان، كالقولين.
قوله تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً قرأ أبو رزين، والضحاك، وقتادة، والجحدري، وطلحة: «أو عِدل ذلك» ، بكسر العين. وقد شرحنا هذا المعنى في البقرة. قال أصحابنا: يصوم عن كل مُدّ بُرٍّ، أو نصف صاع تمر، أو شعير يوماً. وقال أبو حنيفة: يصوم يوماً عن نصف صاع في الجميع. وقال مالك، والشافعي: يصوم يوماً عن كلِّ مدٍّ من الجميع.
فصل: وهل هذا الجزاء على الترتيب، أم على التخيير؟ فيه قولان:
أحدهما: أنه على التخيير بين إِخراج النظير، وبين الصيام، وبين الإِطعام.
والثاني: أنه على الترتيب، إِن لم يجد الهدي، اشترى طعاماً، فإن كان معسراً صام، قاله ابن سيرين. والقولان مرويّان عن ابن عباس، وبالأول قال جمهور الفقهاء.
قوله تعالى: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي: جزاء ذنبه. قال الزجاج: «الوبال» : ثقل الشيء في المكروه، ومنه قولهم: طعامٌ وبيل، وماءُ وبيل: إذا كانا ثقيلين. قال الله عزّ وجلّ: فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا أي: ثقيلاً شديداً.
قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ فيه قولان: أحدهما: ما سلف في الجاهلية، من قتلهم الصيد، وهم محرمون، قاله عطاء. والثاني: ما سلف من قتل الصيد في أوّل مرّة، حكاه ابن جرير، والأول أصح. فعلى القول الأول يكون معنى قوله: وَمَنْ عادَ في الإِسلام، وعلى الثاني: وَمَنْ عادَ ثانية بعد أولى. قال أبو عبيدة: «عاد» في موضع يعود، وأنشد:
إِن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحاً ... وإِن ذكِرْتُ بسوءٍ عندهم أذِنُوا «1»
قوله تعالى: فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ «الانتقام» : المبالغة في العقوبة، وهذا الوعيد بالانتقام لا يمنع إِيجاب جزاء ثانٍ إِذا عاد، وهذا قول الجمهور، وبه قال مالك والشافعي، وأحمد. وقد روي عن ابن عباس، والنخعي، وداود: أنه لا جزاء عليه في الثاني، إنّما وعد بالانتقام.
[سورة المائدة (5) : آية 96]
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ قال أحمد: يؤكل كلُّ ما في البحر إِلا الضِّفدِع والتِّمساح، لأن التمساح يأكل الناس يعني: أنه يَفْرِسُ. وقال أبو حنيفة، والثوري: لا يباح منه إِلا السمك. وقال ابن أبي ليلى، ومالك: يباح كلُّ ما فيه من ضفدع وغيره.
__________
(1) البيت لقعنب ابن أم صاحب، وهو في «اللسان» مادة- أذن- ملفق من بيتين هما:
إنْ يَسْمَعُوا رِيْبِةً طارُوا بِهَا فَرَحاً ... مِنَّي وما سمعوا من صالح دفنوا
صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به ... وإن ذكرت بشر عندهم أذنوا
جهلا علينا وجبنا عن عدوّهم ... لبئست الخلتان الجهل والجبن(1/587)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
فأما طعامه، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما نبذه البحر ميّتاً، قاله أبو بكر، وعمر، وابن عمر، وأبو أيوب، وقتادة. والثاني: أنه مليحه، قاله سعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير والسدّي، وعن ابن عباس، ومجاهد، وعكرمة كالقولين. واختلفت الرواية عن النخعي. فروي عنه كالقولين، وروي عنه أنه جمع بينهما، فقال: طعامه المليح «1» ، وما لفظه. والثالث: أنه ما نبت بمائة من زروع البرّ، وإِنما قيل لهذا: طعام البحر، لأنه ينبت بمائه، حكاه الزجاج.
وفي المتاع قولان: أحدهما: أنه المنفعة، قاله ابن عباس، والحسن وقتادة. والثاني: أنه الحلّ قاله النخعي. قال مقاتل: متاعاً لكم يعني المقيمين، وللسيارة، يعني المسافرين.
قوله تعالى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً أما الاصطياد فمحرّم على المحرم «2» ، فإن صيد لأجله، حَرُم عليه أكله خلافاً لأبي حنيفة، فإن أكل فعليه الضمان خلافاً لأحد قولي الشافعي. فإن ذبح المُحرم صيداً، فهو ميتة، خلافاً لأحد قولي الشافعي أيضاً. فإن ذبح الحلال صيداً في الحرم، فهو ميتة أيضاً، خلافا لأكثر الحنفيّة.
[سورة المائدة (5) : الآيات 97 الى 98]
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
قوله تعالى: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ جعل بمعنى: صيّر. وفي تسمية الكعبة كعبة قولان:
أحدهما: لأنها مربعة، قاله عكرمة، ومجاهد.
والثاني: لعُلوها ونتوئها، يقال: كعبت المرأة كعابة، وهي كاعب، إِذا نتأ ثديها.
ومعنى تسمية البيت بأنه حرام: أنه حَرُم أن يصاد عنده، وأن يختلى ما عنده من الخلا، وأن يُعضَدَ شجرُه، وعظمت حرمته. والمراد بتحريم البيت سائِر الحرم، كما قال: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ «3» وأراد: الحرم. والقيام: بمعنى القوام. وقرأ ابن عامر: قيما بغير ألف. قال أبو علي: وجهه على أحد أمرين، إِما أن يكون جعله مصدراً، كالشبع. أو حذف الألف وهو يريدها، كما يُقصر الممدود. وفي معنى الكلام ستة أقوال: أحدها: قياماً للدين، ومعالم للحج، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس.
والثاني: قياماً لأمرِ مَن توجه إِليها، رواه العوفي عن ابن عباس. قال قتادة: كان الرجل لو جرّ كلّ
__________
(1) في «اللسان» الملح والمليح: خلاف العذب من الماء.
(2) قال الإمام القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 6/ 321- 322: اختلف العلماء فيما يأكله المحرم من الصيد، فقال مالك والشافعي وأصحابهما وأحمد وروي عن إسحاق، وهو الصحيح عن عثمان: إنه لا بأس بأكل المحرم الصيد إذا لم يصد له ولا من أجله لحديث جابر. وقال أبو حنيفة وأصحابه أكل الصيد للمحرم جائز على كل حال إذا اصطاده الحلال، سواء صيد من أجله أم لا. واحتجوا بحديث أبي قتادة، وهو قول عمر وعثمان في رواية. وروي عن علي وابن عباس وابن عمر أنه لا يجوز للمحرم أكل صيد على حال من الأحوال سواء صيد من أجله أو لم يصد، وبه قال إسحاق، وروي عن الثوري، واحتجوا بحديث الصعب بن جثّامة اه ملخصا، وانظر «المغني» 5/ 135- 136.
(3) سورة المائدة: 95.(1/588)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
جريرة، ثم لجأ إليها، لم يتناول. والثالث: قياماً لبقاء الدين، فلا يزال في الأرض دين ما حُجَّت واستُقْبِلت، قاله الحسن. والرابع: قوام دنيا وقوام دين، قاله أبو عبيدة. والخامس: قياماً للناس، أي:
مما أُمروا أن يقوموا بالفرض فيه، ذكره الزجاج. والسادس: قياماً لمعايشهم ومكاسبهم بما يحصل لهم من التجارة عندها، ذكره بعض المفسرين.
فأما الشهر الحرام، فالمراد به الأشهر الحرم، كانوا يأمن بعضهم بعضاً فيها، فكان ذلك قواماً لهم، وكذلك إِذا أهدى الرجل هدياً أو قلد بعيره أمِنَ كيف تصرّف، فجعل الله تعالى هذه الأشياء عصمة للناس بما جعل في صدورهم من تعظيمها.
قوله تعالى: ذلِكَ لِتَعْلَمُوا ذكر ابن الأنباري في المشار إِليه بذلك أربعة أقوال:
أحدها: أن الله تعالى أخبر في هذه السورة بغيوب كثيرة من أخبار الأنبياء وغيرهم، وأطلع على أشياء من أحوال اليهود والمنافقين، فقال: ذلك لتعلموا، أي: ذلك الغيب الذي أنبأتكم به عن الله يدلكم على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض، ولا تخفى عليه خافية.
والثاني: أن العرب كانت تسفك الدماء بغير حلها، وتأخذ الأموال بغير حقها، ويقتل أحدهم غير القاتل، فاذا دخلوا البلد الحرام، أو دخل الشهر الحرام، كفُّوا عن القتل. والمعنى: جعل اللهِ الكعبة أمناً، والشهر الحرام أمناً، إِذ لو لم يجعل للجاهلية وقتاً يزول فيه الخوف لهلكوا، فذلك يدل على أنه يعلم ما في السّماوات وما في الأرض.
والثالث: أن الله تعالى صرف قلوب الخلق إِلى مكة في الشهور المعلومة، فاذا وصلوا إِليها عاش أهلها معهم، ولولا ذلك ماتوا جوعاً، لعلمه بما في ذلك من صلاحهم، وليستدلوا بذلك على أنه يعلم ما في السّماوات وما في الأرض.
والرابع: أن الله تعالى جعل مكة أمناً، وكذلك الشهر الحرام، فإذا دخل الظبي الوحشي الحرم، أنس بالناس، ولم ينفر من الكلب، ولم يطلبه الكلب، فإذا خرجا عن حدود الحرم، طلبه الكلبُ، وذُعِر هو منه، والطائِر يأنس بالناس في الحرم، ولا يزالُ يطير حتى يقرب من البيت، فإذا قرب منه عدل عنه، ولمْ يطرْ فوقه إِجلالاً له، فإذا لحقه وجعٌ طرح نفسه على سقف البيت استشفاءً به، فهذه الأعاجيب في ذلك المكان، وفي ذلك الشهر قد دللن على أن الله تعالى يعلم ما في السّماوات وما في الأرض.
[سورة المائدة (5) : آية 99]
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99)
قوله تعالى: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ في هذه الآية تهديدٌ شديد. وزعم مقاتل أنها نزلت والتي بعدها، في أمر شُريح بن ضُبيعة وأصحابه، وهم حجاج اليمامة حين همّ المسلمون بالغارة عليهم، وقد سبق ذكر ذلك في أول السورة. وهل هذه الآية محكمةٌ، أم لا؟ فيه قولان:
أحدهما: أنها محكمة، وأنها تدل على أن الواجب على الرسول التبليغ، وليس عليه الهُدى.
والثاني: أنها كانت قبل الأمر بالقتال، ثم نسخت بآية السّيف.(1/589)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
[سورة المائدة (5) : آية 100]
قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
قوله تعالى: لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ.
(476) روى جابر بن عبد الله أن رجلاً قال: يا رسول الله إِن الخمر كانت تجارتي، فهل ينفعني ذلك المال إِن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِن الله لا يقبل إِلاّ الطيِّب» فنزلت هذه الآية تصديقا لقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وفي الخبيث والطيب أربعة أقوال: أحدها: الحلال والحرام، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني:
المؤمِن والكافر، قاله السدي. والثالث: المطيع والعاصي. والرابع: الرديء والجيِّد، ذكرهما الماوردي. ومعنى الإعجاب هاهنا: السّرور بما يتعجّب منه.
[سورة المائدة (5) : آية 101]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101)
قوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ في سبب نزولها ستة أقوال:
(477) أحدها: أن الناس سألوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حتى أحفوه بالمسألة، فقام مغضباً خطيباً، فقال:
«سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا بينته لكم» ، فقام رجل من قريش، يقال له: عبد الله بن حُذافة كان إِذا لاحى «1» يُدعى إِلى غير أبيه، فقال: يا نبي الله مَن أبي؟ قال: أبوك حُذافة، فقام آخر، فقال: أين أبي؟ قال: في النار، فقام عمر فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً، وبالقرآن إِماماً، إِنَّا حديثو عهدٍ بجاهلية، والله أعلم مَن أباؤنا، فسكن غضبه، ونزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن أبي هريرة، وقتادة عن أنس.
(478) والثاني: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطب الناس، فقال: «إِن الله كتب عليكم الحجّ، فقام عكاشة
__________
باطل. أخرجه الواحدي 417 والأصبهاني في «الترغيب» 1235 عن جابر بن عبد الله، وإسناده ساقط. فيه محمد بن يوسف بن يعقوب الرازي وضّاع، انظر ضعفاء ابن الجوزي 3254 و «الميزان» 4/ 72.
حديث صحيح. أما حديث أبي هريرة، فأخرجه الطبري 12806، وفيه قيس بن الربيع، وهو غير قوي، لكن للحديث شواهد كثيرة منها الآتي. وأما حديث أنس. فأخرجه البخاري 4621 و 4362 و 7295 ومسلم 2359 والنسائي في «التفسير» 174 والترمذي 3056 وابن حبان 6429 والبغوي في «التفسير» 839 من طرق عن أنس، رووه بألفاظ متقاربة، وطوله بعضهم. انظر «أحكام القرآن» 801 بتخريجنا.
صحيح. أخرجه مسلم 1337 والنسائي 5/ 110- 111 وأحمد 2/ 508 وابن حبان 3704 و 3705 والبيهقي 4/ 326 والدارقطني 2/ 281 والطبري 12809. وأخرجه الطبري 12808 من طريق عبد الرحيم بن سليمان والدارقطني 2/ 282 عن محمد بن فضيل، كلاهما عن إبراهيم بن مسلم الهجري- وهو ضعيف- عن أبي عياض عن أبي هريرة.
__________
(1) لاحى: أي خاصم.(1/590)
قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
ابن مُحصن، فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: أما إِني لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت ثم تركتم لضللتم، اسكتوا عني ما سكتُّ عنكم، فإنما هلكَ من هلك ممن كان قبلكم بكثرة سؤالِهم، واختلافهم على أنبيائهم» فنزلت هذه الآية، رواه محمد بن زياد عن أبي هريرة. وقيل: إِن السائل عن ذلك الأقرع بن حابس.
(479) والثالث: أن قوما كانوا يسألون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استهزاء، فيقول الرجل: مَن أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته: أين ناقتي؟ فنزلت هذه الآية، رواه أبو الجويرية «1» عن ابن عباس.
(480) والرابع: أن قوماً سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام، فنزلت هذه الآية، رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير.
والخامس: أن قوماً كانوا يسألون الآيات والمعجزات، فنزلت هذه الآية، روي هذا المعنى عن عكرمة.
والسادس: أنها نزلت في تمنيهم الفرائض، وقولهم: وددنا أن الله تعالى أذِنَ لنا في قتال المشركين، وسؤالهم عن أحبِّ الأعمال إِلى الله، ذكره أبو سليمان الدمشقي.
قال الزجاج: أَشْياءَ في موضع خفض إِلا أنها فتحت، لأنها لا تنصرف. وتُبْدَ لَكُمْ: تظهر لكم. فأعلم الله تعالى أن السؤال عن مثل هذا الجنس لا ينبغي أن يقع، لأنه يسوء الجواب عنه. وقال ابن عباس: إِن تبد لكم، أي: إِن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك.
قوله تعالى: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أي: حين ينزل القرآن فيها بفرض أو إِيجاب، أو نهي أو حكم، وليس في ظاهر ما نزل دليل على شرح ما بكم إِليه حاجة، فإذا سألتم حينئذ عنها تبد لكم. وفي قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْها قولان: أحدهما: أنها إِشارة إِلى الأشياء. والثاني: إِلى المسألة. فعلى القول الأول في الآية تقديم وتأخير. والمعنى: لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم، عفا الله عنها. ويكون معنى: عفا الله عنها: أمسك عن ذكرها، فلم يوجب فيها حكماً. وعلى القول الثاني، الآية على نظمها، ومعنى: عفا الله عنها: لم يؤاخذ بها.
[سورة المائدة (5) : آية 102]
قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)
قوله تعالى: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ في هؤلاء القوم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الذين سألوا عيسى نزول المائدة، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أنهم قوم صالح حين سألوا النّاقة، هذا
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4622 والطبري 12798 والطبراني 12695 والواحدي 418 والبغوي 842 كلهم عن ابن عباس به. وانظر «أحكام القرآن» 802 بتخريجنا.
ضعيف. أخرجه الطبري 12815 عن ابن عباس، وإسناده ضعيف، فيه خصيف الجزري، وهو صدوق لكنه سيء الحفظ كثير الخطأ، وكرره الطبري 12816 عن عكرمة مرسلا، وهو أصح، والمتقدم عن ابن عباس أصح، وكذا المتقدم عن أنس وأبي هريرة، والظاهر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد سئل مسائل كثيرة، فنزلت هذه الآية في ذلك جميعا، والله أعلم. وانظر «أحكام القرآن» 804 بتخريجنا.
__________
(1) وقع في الأصل «الجورية» والمثبت عن كتب الحديث.(1/591)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103)
على قول السدي. وهذان القولان يخرجان على أنهما سألوا الآيات. والثالث: أن القوم هم الذين سألوا في شأن البقرة وذبحها، فلو ذبحوا بقرةً لأجزأت، ولكنهم شدّدوا فشدّد الله عليهم، قاله ابن زيد. وهذا يخرج على سؤال من سأل عن الحج، إِذ لو أراد الله أن يشدِّد عليهم بالزيادة في الفرض لشدّد. والرابع:
أنهم الذين قالوا لنبيٍ لهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله، وهذا عن ابن زيد أيضاً، وهو يخرج على من قال: إِنما سألوا عن الجهاد والفرائض تمنياً لذلك. قال مقاتل: كان بنو إِسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم ولم يصدّقوهم، فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين.
[سورة المائدة (5) : آية 103]
ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103)
قوله تعالى: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ أي: ما أوجب ذلك، ولا أمر به. وفي «البحيرة» أربعة أقوال: أحدها: أنها الناقة إِذا نُتِجَتْ خمسة أبطن نظروا إِلى الخامس، فإن كان ذكراً نحروه، فأكله الرجال والنساء، وإِن كان أنثى شقوا أُذنها، وكانت حراماً على النساء لا ينتفعن بها، ولا يذقن من لبنها، ومنافعها للرجال خاصة، فإذا ماتت، إشترك فيها الرجال والنساء، قاله ابن عباس، واختاره ابن قتيبة. والثاني: أنها الناقة تلد خمس إِناث ليس فيهن ذكر، فيَعْمِدون إِلى الخامسة، فيَبْتِكُون أُذنها، قاله عطاء. والثالث: أنها ابنة السائِبة، قاله ابن إِسحاق، والفراء. قال ابن إِسحاق: كانت الناقة إِذا تابعت بين عشر إِناث، ليس فيهن ذكر، سُيِّبت، فإذا نُتِجَتْ بعد ذلك أُنثى، شقّت أُذنها، وسمّيت بحيرة، وخليت مع أُمها. والرابع أنها الناقة كانت إِذا نُتِجَت خمسة أبطن، وكان آخرها ذكراً بحروا أُذنها، أي:
شقُّوها، وامتنعوا من ركوبها وذبحها، ولا تطرد عن ماء، ولا تمنع عن مرعى، وإِذا لقيها لم يركبها، قاله الزجاج.
فأما «السائبة» ، فهي فاعلة بمعنى: مفعولة، وهي المسيّبة، كقوله تعالى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ: أي مرضيّة. وفي السائِبة خمسة أقوال: أحدها: أنها التي تُسيّب من الأنعام للآلهة، لا يركبون لها ظهراً، ولا يحلبون لها لبناً، ولا يجزُّون منها وبراً، ولا يحملون عليها شيئاً، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أن الرجل كان يُسيّب من ماله ما شاء، فيأتي به خزنة الآلهة، فيطعمون ابن السبيل من ألبانِه ولحومه إِلا النساء، فلا يطعمونهن شيئاً منه إِلا أن يموت، فيشترك فيه الرجال والنساء، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وقال الشّعبيّ: كانوا يهدون آلهتهم الإِبل والغنم، ويتركونها عند الآلهة، فلا يشرب منها إِلا رجلٌ، فان مات منها شيءٌ أكله الرجال والنساء. والثالث: أنها الناقة إِذا ولدت عشرة أبطن، كلهن إِناث، سيّبت، فلم تركب، ولم يجز لها وبر، ولم يشرب لبنها إِلا ضيف أو ولدُها حتى تموت، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء، ذكره الفراء. والرابع: أنها البعير يُسيّب بنذر يكون على الرجل إِن سلمه الله تعالى من مرض أو بلّغه منزله أن يفعل ذلك، قاله ابن قتيبة. قال الزجاج: كان الرجل إِذا نذر لشيء من هذا، قال: ناقتي سائبة، فكانت كالبحيرة في أن لا ينتفع بها ولا تمنع من ماء ومرعى. والخامس: أنه البعير يحج عليه الحجة، فيُسيّب، ولا يستعمل شكراً لنجحها، حكاه الماوردي عن الشافعي.(1/592)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
وفي «الوصيلة» خمسة أقوال: أحدها: أنها الشاة إِذا نُتِجَت سبعة أبطن، نظروا إِلى السابع، فإن كان أُنثى، لم ينتفع النساء منها بشيء إِلا أن تموت، فيأكلها الرجال والنساء، وإِن كان ذكراً، ذبحوه، فأكلوه جميعاً، وإِن كان ذكراً وأُنثى، قالوا: وصلت أخاها، فتترك مع أخيها فلا تذبح، ومنافعها للرجال دون النساء، فإذا ماتت، اشترك فيها الرجال والنساء، رواه أبو صالح عن ابن عباس. وذهب إِلى نحوه ابن قتيبة، فقال: إِن كان السابع ذكراً، ذبح فأكل منه الرجال والنساء، وإِن كان أُنثى، تركت في النعم، وإِن كان ذكراً وأُنثى، قالوا: وصلت أخاها، فلم تذبح، لمكانها، وكانت لحومها حراماً على النساء، ولبن الأُنثى حراماً على النساء إِلا أن يموت منها شيء فيأكله الرجال والنساء. والثاني: أنها الناقة البكر تبتكر في أول نتاج الإِبل بالأُنثى، ثم تثنّي بالأنثى، فكانوا يستبقونها لطواغيتهم، ويَدْعونها الوصيلة، أي: وصلت إِحداهما بالأُخرى، ليس بينهما ذكر، رواه الزهري عن ابن المسيّب. والثالث: أنها الشاة تنتج عشر إِناثٍ متتابعاتٍ في خمسة أبطن، فيدعونها الوصيلة، وما ولدت بعد ذلك فللذكور دون الإِناث، قاله ابن إِسحاق. والرابع: أنها الشاة تنتج سبعة أبطن، عناقين عناقين «1» ، فإذا ولدت في سابعها عناقاً وجدياً، قيل: وصلت أخاها، فجَرت مجرى السائبة، قاله الفراء. والخامس: أن الشاة كانت إِذا ولدت أُنثى، فهي لهم، وإِذا ولدت ذكراً جعلوه لآلهتهم فإن ولدت ذكراً وأُنثى، قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم، قاله الزجاج.
وفي «الحام» ستة أقوال: أحدها: أنه الفحل، ينتج من صلبه عشرة أبطن، فيقولون: قد حمى ظهره، فيسيبونه لأصنامهم، ولا يحملُ عليه، قاله ابن مسعود، وابن عباس، واختاره أبو عبيدة، والزجاج. والثاني: أنه الفحل يولد لولده، فيقولون: قد حمى هذا ظهره، فلا يحملون عليه، ولا يجزُّون وبره، ولا يمنعونه ماءً، ولا مرعى، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس، واختاره الفراء، وابن قتيبة. والثالث: أنه الفحل يظهر من أولاده عشر إِناثٍ من بناته، وبنات بناته، قاله عطاء. والرابع: أنه الذي ينتج له سبع إِناث متواليات، قاله ابن زيد. والخامس: أنه الذي لصُلبه عشرة كلها تضرِب في الإِبل، قاله أبو روق. والسادس: أنه الفحل يضرب في إِبل الرجل عشر سنين، فيخلَّى ويقال: قد حمى ظهره، ذكره الماوردي عن الشافعي.
قال الزجاج: والذي ذكرناه في البحيرة، والسائِبة، والوصيلة، والحام أثبت ما روينا عن أهل اللغة. وقد أعلم الله عزّ وجلّ في هذه الآية أنه لم يحرّم من هذه الأشياء شيئاً، وأن الذين كفروا افتروا على الله عزّ وجلّ. قال مقاتل: وافتراؤهم: قولهم: إِن الله حرَّمه، وأمرنا به.
وفي قوله تعالى: وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ قولان: أحدهما: وأكثرهم، يعني: الأتباع لا يعقلون أن ذلك كذب على الله من الرؤساء الذين حرموا، قاله الشعبي. والثاني: لا يعقلون أن هذا التحريم من الشّيطان، قاله قتادة.
[سورة المائدة (5) : آية 104]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)
__________
(1) في «اللسان» : العناق: الأنثى من ولد المعز.(1/593)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني: إِذا قيل لهؤلاء المشركين الذين حرَّموا على أنفسهم هذه الأنعام: تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ في القرآن من تحليل ما حرّمتم على أنفسكم، قالوا: حَسْبُنا أي:
يكفينا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الدين والمنهاج أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الدين وَلا يَهْتَدُونَ له، أيتّبعونهم في خطئهم.
[سورة المائدة (5) : آية 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ في سبب نزولها قولان:
(481) أحدهما: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتب إِلى هَجَر، وعليهم المنذر بن ساوي يدعوهم إِلى الإسلام، فإن أبوا فليُؤدُّوا الجزية، فلما أتاه الكتاب، عرضه على مَن عنده من العرب واليهود والنصارى والمجوس، فأقرُّوا بالجزية، وكرهوا الإسلام، فكتب إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما العرب فلا تقبل منهم إِلا الإسلام أو السّيف، وأما أهل الكتاب والمجوس، فاقبل منهم الجزية» فلما قرأ عليهم كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسلمت العرب، وأعطى أهل الكتاب والمجوس الجزية، فقال منافقو مكة: عجباً لمحمدٍ يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا، وقد قبل من مجوس هَجر، وأهل الكتاب الجزية، فهلاّ أكرههم على الإسلام، وقد ردَّها على إِخواننا من العرب، فشق ذلك على المسلمين، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(482) وقال مقاتل: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يقبل الجزية إِلا من أهل الكتاب فلما أسلمت العرب طوعاً وكرهاً، قبلها من مجوس هَجَر، فطعن المنافقون في ذلك، فنزلت هذه الآية.
والثاني: أن الرجل كان إِذا أسلم، قالوا له: سفهت آباءك وضللتهم، وكان ينبغي لك أن تنصرهم، فنزلت هذه الآية، قاله ابن زيد «1» .
قال الزجاج: ومعنى الآية: إِنما ألزمكم الله أمر أنفسكم، ولا يؤاخذكم بذنوب غيركم، وهذه الآية لا توجب ترك الأمر بالمعروف، لأن المؤمن إِذا تركه وهو مستطيع له، فهو ضالّ، وليس بمهتدٍ.
وقال عثمان بن عفان: لم يأت تأويلُها بعد. وقال ابن مسعود: تأويلُها في آخر الزّمان: قولوا ما قبل منكم، فإذا غلبتم، فعليكم أنفسكم. وفي قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ قولان:
__________
لا أصل له. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس. وكذا عزاه الواحدي في «أسباب النزول» 420 للكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس، وهذا إسناد ساقط، الكلبي يضع الحديث، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس، وقد رويا تفسيرا مصنوعا ونسباه لابن عباس، راجع ترجمتهما في «الميزان» وهذا المتن أمارة الوضع لائحة عليه.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيث أطلق، وهو ممن يضع الحديث، فهذا خبر لا شيء.
__________
(1) عزاه المصنف لابن زيد، واسمه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو واه إذا وصل الحديث، فكيف إذا أرسله؟! فهذا خبر لا شيء.(1/594)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
أحدهما: لا يضركم من ضل بترك الأمر بالمعروف إِذا اهتديتم أنتم للأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، قاله حُذيفة بن اليمان، وابن المسيّب. والثاني: لا يضرُّكم من ضل من أهل الكتاب إِذا أدُّوا الجزية، قاله مجاهد. وفي قوله تعالى: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تنبيهٌ على الجزاء.
فصل: فعلى ما ذكرنا عن الزجاج في معنى الآية، هي محكمة، وقد ذهب قومٌ من المفسرين إِلى أنها منسوخة، ولهم في ناسخها قولان: أحدهما: أنه آية السيف. والثاني: أن آخرها نسخ أولها.
روي عن أبي عبيد أنه قال: ليس في القرآن آية جمعت الناسخ والمنسوخ غير هذه، وموضع المنسوخ منها إلى قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ والناسخ: قوله: إِذا اهتديتم. والهُدى هاهنا: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.
[سورة المائدة (5) : آية 106]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ.
(483) روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان تميم الدّاري، وعدي بن بداء يختلفان إِلى مكة، فصحبهما رجلٌ من قريش من بني سهم، فمات بأرض ليس فيها أحد من المسلمين، فأوصى إِليهما بتركته، فلما قدما، دفعاها إِلى أهله، وكتما جاماً كان معه من فضة، وكان مخوَّصاً بالذهب، فقالا: لم نره، فأُتي بهما إِلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فاستحلفهما بالله: ما كتما، وخلى سبيلهما، ثم إِن الجام وُجدَ عند قومٍ من أهل مكة، فقالوا: ابتعناه من تميم الدّاري، وعدي بن بداء، فقام أولياء السهمي، فأخذوا الجام، وحلف رجلان منهم بالله: إِن هذا الجام جام صاحبنا، وشهادتنا أحق مِن شهادتهما، وما اعتدينا، فنزلت هذه الآية، والتى بعدها.
قال مقاتل: واسم الميِّت: بُزيلُ بن أبي مارية مولى العاص بن وائل السهمي، وكان تميم، وعدي نصرانيين، فأسلم تميم، ومات عديٌ نصرانياً.
فأما التفسير: فقال الفراء: معنى الآية: ليشهدكم اثنان إِذا حضر أحدكم الموت. قال الزجاج:
المعنى: شهادة هذه الحال شهادة اثنين، فحذف «شهادة» ويقوم «اثنان» مقامهما. وقال ابن الأنباري:
معنى الآية: ليشهدكم في سفركم إِذا حضركم الموت، وأردتم الوصيّة اثنان. وفي هذه الشهادة ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الشهادة على الوصيّة التي ثبتت عند الحكام، وهو قول ابن مسعود، وأبي موسى، وشريح، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، والثوري، والجمهور. والثاني: أنها أيمان الوصي بالله تعالى إذا
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2780 وأبو داود 3606 والترمذي 3060 والدارقطني 4/ 166 والطبري 12670 والجصاص في «الأحكام» 4/ 160 والطبراني 12/ 71 والواحدي 421 والبيهقي 10/ 165 كلهم من حديث ابن عباس به، فهو من مسند ابن عباس، وهو مختصر كما ترى، وانظر «أحكام ابن العربي» 826 و «تفسير الشوكاني» 872 بتخريجي ولله الحمد والمنة.(1/595)
ارتاب الورثة بهما، وهو قول مجاهد. والثالث: أنها شهادة الوصيّة، أي: حضورها، كقوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ «1» ، جعل الله الوصي هاهنا اثنين تأكيداً، واستدل أرباب هذا القول بقوله تعالى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ قالوا: والشاهد لا يلزمه يمينٌ. فأما «حضور الموت» فهو حضور أسبابه ومقدماته. وقوله تعالى: حِينَ الْوَصِيَّةِ، أي: وقت الوصية. وفي قوله: «منكم» قولان: أحدهما:
من أهل دينكم وملتكم، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير وشريح، وابن سيرين، والشعبي، وهو قول أصحابنا. والثاني: من عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضاً، قاله الحسن وعكرمة، والزّهريّ، والسّدّيّ. قوله تعالى: أَوْ آخَرانِ تقديره: أو شهادة آخرين من غيركم.
وفي قوله تعالى: مِنْ غَيْرِكُمْ قولان: أحدهما: من غير ملتكم ودينكم، قاله أرباب القول الأول.
والثاني: من غير عشيرتكم وقبيلتكم، وهم مسلمون أيضاً، قاله أرباب القول الثاني. وفي «أوْ» قولان:
أحدهما: أنها ليست للتخيير، وإِنما المعنى: أو آخران من غيركم إِن لم تجدوا منكم، وبه قال ابن عباس، وابن جبير. والثاني: أنها للتّخيير، ذكره الماورديّ.
فصل: والقائل بأن المراد بالآية شهادة مسلمين من القبيلة، أو من غير القبيلة لا يشك في إِحْكَامِ هذه الآية. فأما القائل بأن المراد بقوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أهل الكتاب إِذا شهدوا على الوصيّة في السفر، فلهم فيها قولان: أحدهما: أنها محكمة، والعمل على هذا باق، وهو قول ابن عباس. وابن المسيب، وابن جبير، وابن سيرين، وقتادة، والشعبي، والثوري، وأحمد في آخرين. والثاني: أنها منسوخة بقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «2» وهو قول زيد بن أسلم، وإليه يميل أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، قالوا: وأهل الكفر ليسوا بعدول. والأول أصح، لأن هذا موضع ضرورة كما يجوز في بعض الأماكن شهادة نساء لا رجل معهن بالحيض والنفاس والاستهلال.
قوله تعالى: إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ هذا الشرط متعلق بالشهادة، والمعنى: ليشهدكم اثنان إِن أنتم ضربتم في الأرض، أي: سافرتم. فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ فيه محذوفٌ، تقديره: وقد أسندتم الوصية إِليهما، ودفعتم إِليهما مالكم تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ خطابٌ للورثة إِذا ارتابوا. وقال ابن عباس: هذا من صلة قوله: «أو آخران من غيركم» أي: من الكفار، فأما إِذا كانا مسلمين، فلا يمين عليهما. وفي هذه الصلاة قولان «3» : أحدهما: صلاة العصر، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال شريح، وابن جبير، وإِبراهيم، وقتادة، والشعبي. والثاني: من بعد صلاتهما في دينهما، حكاه السدي عن ابن عباس «4» . وقال به. وقال الزجاج: كان الناس بالحجاز يحلفون بعد صلاة العصر، لأنه وقت اجتماع الناس. وقال ابن قتيبة: لأنه وقت يعظمه أهل الأديان.
قوله تعالى: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ أي: فيحلفان إِنِ ارْتَبْتُمْ أي: شككتم يا أولياء الميّت. ومعنى
__________
(1) سورة البقرة: 133.
(2) سورة الطلاق: 65.
(3) قال الإمام الطبري رحمه الله 5/ 111: وأولى القولين بالصواب عندنا، قول من قال: «تحبسونهما من بعد صلاة العصر» . وهي الصلاة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه. هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت، لقربه من غروب الشمس.
(4) السدي لم يسمع من ابن عباس، وهذا قول منكر، ليس بشيء.(1/596)
فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
الآية: إِذا قدم الموصى إِليهما بتركة المتوفي، فاتهمهما الوارث، استحلفا بعد صلاة العصر: أنهما لم يسرقا، ولم يخونا. فالشرط في قوله: «إِن ارتبتم» متعلق بتحبسونهما، كأنه قال: إِن إِرتبتم حبستموهما فاستحلفتموهما، فيحلفان بالله: لا نَشْتَرِي بِهِ أي: بأيماننا، وقيل: بتحريف شهادتنا، فالهاء عائدة على المعنى. ثَمَناً أي: عرضاً من الدنيا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي: ولو كان المشهود له ذا قرابة منا، وخصّ ذا القرابة، لميل القريب إِلى قريبه. والمعنى: لا نحابي في شهادتنا أحداً، ولا نميل مع ذي القربى في قول الزور وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنما أُضيفت إِليه، لأمره بإقامتها، ونهيه عن كتمانها، وقرأ سعيد بن جبير: «ولا نكتم شهادةً» بالتنوين «الله» بقطع الهمزة وقصرها، وكسر الهاء، ساكنة النون في الوصل. وقرأ سعيد بن المسيب، وعكرمة «شهادة» بالتنوين والوصل منصوبة الهاء. وقرأ أبو عمران الجوني «شهادة» بالتنوين وإِسكانها في الوصل «الله» بقطع الهمزة وقصرها مفتوحة الهاء، وقرأ الشعبي وابن السميفع «شهادة» بالتنوين وإِسكانها في الوصل «الله» بقطع الهمزة، ومدّها، وكسر الهاء. وقرأ أبو العالية، وعمرو بن دينار مثله، إِلاّ أنهما نصبا الهاء.
واختلف العلماء لأي معنىً وجبت اليمين على هذين الشاهدين، على ثلاثة أقوال: أحدها:
لكونهما من غير أهل الإسلام، روي هذا المعنى عن أبي موسى الأشعري. والثاني: لوصيّةٍ وقعت بخط الميِّت وفَقَدَ ورثتُهُ بعضَ ما فيها، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: لأن الورثة كانوا يقولون:
كان مال ميِّتنا أكثر، فاستخانوا الشاهدين، قاله الحسن، ومجاهد.
[سورة المائدة (5) : آية 107]
فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107)
قوله تعالى: فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً. قال المفسرون:
(484) لما نزلت الآية الأولى، دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عديًّا وتميماً، فاستحلفهما عند المنبر: أنهما لم يخونا شيئاً مما دفع إِليهما فحلفا، وخلَّى سبيلهما، ثم ظهر الإِناء الذي كتماه، فرفعهما أولياء الميّت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً.
ومعنى «عثر» : اطّلع أي: إِن عثر أهل الميت، أو مَن يلي أمره، على أن الشاهدين اللذين هما آخران من غيرنا اسْتَحَقَّا إِثْماً لميلهما عن الاستقامة في شهادتهما فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أي:
مقام هذين الخائنين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر والكسائي: «استُحِق» بضم التاء، الْأَوْلَيانِ على التثنية. وفي قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ قولان: أحدهما: أنهما الذمّيان. والثاني: الوليّان.
فعلى الأول في معنى اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أربعة أقوال: أحدها: استحق عليهم الإِيصاء، قال ابن الأنباري: المعنى: من القوم الذين استحق فيهم الإِيصاء، استحقه الأوليان بالميت، وكذلك قال
__________
عزاه المصنف للمفسرين، وأصله محفوظ بما تقدم سوى لفظ «عند المنبر» فهذا لم يرد في شيء من الروايات الصحيحة الموصولة بل ولا المرسلة، فهو واه.(1/597)
الزجاج: المعنى: من الذين استحقت الوصية أو الإِيصاء عليهم. والثاني: أنه الظلم، والمعنى: من الذين استحق عليهم ظلم الأولَيان فحذف الظلم، وأقام الأوليين مقامه، ذكره ابن القاسم أيضاً.
والثالث: أنه الخروج مما قاما به من الشهادة، لظهور خيانتهما. والرابع: أنه الإثم، والمعنى: استحق منهم الإثم، ونابت «على» عن «مِن» كقوله تعالى: عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ «1» أي: منهم. وقال الفراء:
«على» بمعنى «في» كقوله تعالى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ «2» أي: في ملكه، ذكر القولين أبو علي الفارسي.
وعلى هذه الأقوال مفعول «استُحق» محذوف مُقدّر.
وعلى القول الثاني في معنى اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ قولان: أحدهما: استحق منهم الأوليان، وهو اختيار ابن قتيبة. والثاني: جني عليهم الإثم، ذكره الزجاج.
فأما «الأوليان» فقال الأخفش: الأوليان: اثنان، واحدهما: الأولى، والجمع: الأولون: ثم للمفسرين فيهما قولان: أحدهما: أنهما أولياء الميت، قاله الجمهور، قال الزجاج: «الأوليان» في قول أكثر البصريين يرتفعان على البَدَلِ مما في «يقومان» والمعنى: فليقم الأوليان بالميت مقام هذين الخائنين. وقال أبو علي: لا يخلو الأوليان أن يكون ارتفاعهما على الابتداء، أو يكون خبر مبتدأ محذوف، كأنه قال: فآخران يقومان مقامهما هما الأوليان، أو يكون بدلاً من الضمير الذي في «يقومان» والتقدير: فيقوم الأوليان. والقول الثاني: أن الأوليان: هما الذّميان، والمعنى: أنهما الأوليان بالخيانة، ذكرهما ابن الأنباريّ، فعلى هذا يكون المعنى: يقومان، إِلا من الذين استحق عليهم. قال الشاعر:
فليتَ لنا مِنْ ماءِ زَمْزَمَ شَرْبَةً ... مُبَرَّدَةً باتَتْ على طهيان «3»
أي بدلاً من ماء زمزم.
وروى قرّة عن ابن كثير، وحفص عن «4» عاصم: «استحق» بفتح التاء والحاء «الأوليان» على التثنية، والمعنى: استحق عليهم الأوليان بالميت وصيته التي أوصى بها، فحذف المفعول. وقرأ حمزة، وأبو بكر عن عاصم: «استحق» برفع التاء، وكسر الحاء، «الأولين» بكسر اللام، وفتح النون على الجمع، والتقدير: من الأولين الذين استحق فيهم الإِثم، أي: جني عليهم، لأنهم كانوا أولين في الذكر، ألا ترى أنه قد تقدم ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ على قوله تعالى: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ. وروى الحلبي عن عبد الوارث «الأوَّلَين» بفتح الواو وتشديدها، وفتح اللام، وسكون الياء، وكسر النون، وهو تثنية:
أوَّل. وقرأ الحسن البصري: «استحق» بفتح التاء والحاء، «الأوّلان» تثنية «أوَّل» على البدل من قوله:
«فآخران» .
وقال ابن قتيبة: أشبه الأقوال بالآية أن الله تعالى أراد أن يعرِّفنا كيف يشهد بالوصية عند حضور الموت فقال: ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي: عدلان من المسلمين، وعلم أن من الناس من يسافر فيصحبه في سفره أهل الكتاب دون المسلمين، وينزل القرية التي لا يسكنها غيرهم، ويحضره الموت، فلا يجد من يشهده من المسلمين، فقال: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، أي: من غير أهل دينكم، فالذّمّيّان في السّفر
__________
(1) سورة المطففين: 2. [.....]
(2) سورة البقرة: 102.
(3) في «اللسان» الطهيان: كأنه اسم قلّة جبل، والطهيان: خشبة يبرد عليها الماء. ونسب البيت للأحول الكندي.
(4) وقع في الأصل «و» بدل «عن» والمثبت هو الصواب.(1/598)
ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
خاصّة إذا لم يوجد غيرهما، تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أراد: تحبسونهما من بعد صلاة العصر إِن ارتبتم في شهادتهما، وخشيتم أن يكونا قد خانا، أو بدَّلا فإذا حلفا، مضت شهادتهما، فإن عثر أي: ظهر على أنهما استحقا إِثماً، أي: حنثا في اليمين بكذب أو خيانة، فآخران، أي: قام في اليمين مقامهما رجلان من قرابة الميت الذين استحق منهم الأوليان، وهما الوليان يقال:
هذا الأولى بفلان، ثم يحذف من الكلام «بفلان» فيقال: هذا الأولى، وهذان الأوليان، و «عليهم» بمعنى: «منهم» فيحلفان بالله: لقد ظهرنا على خيانة الذميين، وكذبهما، وما اعتدينا عليهما، ولشهادتنا أصح، لكفرهما وإِيماننا، فيرجع على الذّميين بما اختانا، وينقض ما مضى من الحكم بشهادتهما تلك.
وقال غيره: لشهادتنا، أي: ليميننا أحق، وسميت اليمين شهادة، لأنها كالشهادة على ما يحلفُ عليه أنه كذلك. قال المفسرون: فلما نزلت هذه الآية قام عمرو بن العاص، والمطّلب بن أبي وَداعة السهميان، فحلفا بالله، ودُفِعَ الإناء إِليهما وإلى أولياء الميّت.
[سورة المائدة (5) : آية 108]
ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أي: ذلك الذي حكمنا به من ردّ اليمين، أَقرب إِلى إِتيان أهل الذّمّة بالشهادة على وجهها، أي: على ما كانت، وأقرب أن يخافوا أن تردَّ أيمان أولياء الميت بعد أيْمانهم، فيحلفون على خيانتهم، فيفتضحوا، ويغرموا، فلا يحلفون كاذبين إِذا خافوا ذلك. وَاتَّقُوا اللَّهَ أن تحلفوا كاذبين، أو تخونوا أمانة، واسمعوا الموعظة.
[سورة المائدة (5) : آية 109]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)
قوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ قال الزجّاج: نصب «يوم» محمول على قوله تعالى: وَاتَّقُوا اللَّهَ: واتقوا يوم جمعة للرسل. ومعنى مسألته للرسل توبيخ الذين أُرسلوا إِليهم. فأما قول الرسل:
لا عِلْمَ لَنا ففيه ستة أقوال «1» : أحدها: أنهم طاشت عقولهم حين زفرت جهنم، فقالوا: لا عِلْمَ لَنا ثم تُرَدُّ إِليهم عقولُهم، فينطلقون بحجتهم، رواه أبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، والسدي. والثاني: أن المعنى لا عِلْمَ لَنا إِلاّ علمٌ أنت أعلم به منا، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أنّ المراد بقوله تعالى: ماذا أُجِبْتُمْ: ماذا عملوا بعدكم، وأحدثوا، فيقولون:
لا عِلْمَ لَنا، قاله ابن جريج، وفيه بُعْد. والرابع: أن المعنى: لا عِلْمَ لَنا مع علمك، لأنك تعلم الغيب، ذكره الزجاج. والخامس: أن المعنى: لا عِلْمَ لَنا كعلمك، إِذ كنت تعلم ما أظهر القوم وما أضمروا، ونحن نعلم ما أظهروا، ولا نعلم ما أضمروا، فعلمك فيهم أنفذ من علمنا، هذا اختيار ابن الأنباري. والسادس: لا عِلْمَ لَنا بجميع أفعالهم إِذ كنا نعلم بعضها وقت حياتنا، ولا نعلم ما كان بعد وفاتنا، وإِنما يستحق الجزاء بما تقع به الخاتمة، حكاه ابن الأنباريّ. قال المفسّرون: إذا ردّ الأنبياء
__________
(1) صوب الإمام الطبري رحمه الله 5/ 126، القول الثاني.(1/599)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
العلم إِلى الله أُبْلِسَتِ الأممُ، وعلمت أن ما أتته في الدنيا غير غائب عنه، وأن الكل لا يخرجون عن قبضته.
قوله تعالى: عَلَّامُ الْغُيُوبِ قال الخطابي: العلاَّم: بمنزلة العليم، وبناء «فعَّال» بناء التكثير، فأما «الغيوب» فجمع غيب، وهو ما غاب عنك.
[سورة المائدة (5) : آية 110]
إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
قوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى قال ابن عباس: معناه: وإِذ يقول.
قوله تعالى: اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ في تذكيره النعم فائدتان: إِحداهما: إِسماع الأمم ما خصه به من الكرامة. والثانية: توكيد حجَّته على جاحده. ومن نعمه على مريم أنه اصطفاها وطهرها، وأتاها برزقها من غير سبب. وقال الحسن: المراد بذكر النعمة: الشكر. فأما النعمة، فلفظها لفظ الواحد، ومعناها الجمع. فإن قيل: لم قال هاهنا: فَتَنْفُخُ فِيها وفي آل عمران (فيه) «1» ؟
فالجواب: أنه جائِز أن يكون ذكر الطير على معنى الجميع، وأنَّث على معنى الجماعة، وجاز أن يكون «فيه» للطّير، «وفيها» للهيئة ذكره أبو علي الفارسي.
قوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ قرأ ابن كثير، وعاصم هاهنا، وفي «هود» و «الصف» :
إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، وقرأ في «يونس» : لَسِحْرٌ مُبِينٌ بألف. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، الأربعة «سحرٌ مبين» بغير ألف، فمن قرأ «سحر» أشار إِلى ما جاء به، ومن قرأ «ساحر» ، أشار إلى الشّخص.
[سورة المائدة (5) : آية 111]
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111)
وفي الوحي إلى الحواريين قولان: أحدهما: أنه بمعنى الإِلهام، قاله الفراء. وقال السدي: قذف في قلوبهم. والثاني: أنه بمعنى الأمر، فتقديره: أمرت الحواريين، و «إلى» صلة، قاله أبو عبيدة.
وفي قوله تعالى: وَاشْهَدْ قولان: أحدهما: أنهم يعنون الله تعالى. والثاني: عيسى عليه السّلام. وقوله تعالى: بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ أي: مخلصون للعبادة والتوحيد. وقد سبق شرح ما أهمل هاهنا فيما تقدم.
[سورة المائدة (5) : آية 112]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112)
__________
(1) سورة آل عمران: 49.(1/600)
قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
قوله تعالى: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ قال الزجاج: أي: هل يقدر. وقرأ الكسائي: «هل تستطيع» بالتاء، ونصْب الرب. قال الفراء: معناه: هل تقدر أن تسأل ربك. قال ابن الأنباري: ولا يجوز لأحدٍ أن يتوهم أن الحواريين شكُّوا في قدرة الله، وإِنما هذا كما يقول الإنسان لصاحبه: هل تستطيع أن تقوم معي، وهو يعلم أنه مستطيع، ولكنّه يريد: هل يسهل عليك. وقال أبو علي: المعنى: هل يفعل ذلك بمسألتك إِيّاه. وزعم بعضهم أنهم قالوا ذلك قبل استحكام إِيمانهم ومعرفتهم، فردَّ عليهم عيسى بقوله:
اتقوا الله، أن تنسبوه إِلى عجز، والأول أصح.
فأما «المائدة» فقال اللغويون: المائدة: كل ما كان عليه من الأخونة «1» طعام، فإذا لم يكن عليه طعام فليس بمائدة، والكأس: كل إِناء فيه شراب فإذا لم يكن فيه شراب، فليس بكأس، ذكره الزجاج.
قال الفراء: وسمعت بعض العرب يقول للطبق الذي تهدى عليه الهدية: هُوَ المُهْدَى، مقصور، ما دامت عليه الهدية، فإذا كان فارغاً رجع إِلى اسمه إِن كان طبقاً أو خواناً أو غير ذلك. وذكر الزجاج عن أبي عبيدة أن لفظها فاعلة، وهي في المعنى مفعولة، مثل عِيشَةٍ راضِيَةٍ. قال أبو عبيدة: وهي من العطاء، والممتاد: المفتعل المطلوب منه العطاء، قال الشاعر:
إِلى أمير المؤمنين الممتادِ «2»
وَمَادَ زيدٌ عَمْراً: إِذا أعطاه. قال الزجاج: والأصل عندي في «مائدة» أنها فاعلةٌ من: ماد يميد: إِذا تحرّك، فكأنها تميد بما عليها. وقال ابن قتيبة: المائدة: الطعام، من: مادني يميدني، كأنها تميد الآكلين، أي: تعطيهم، أو تكون فاعلة بمعنى: مفعول بها، أي: ميد بها الآكلون.
قوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: اتقوه أن تسألوه البلاء، لأنها إِن نزلت وكذّبتم، عُذبتم، قاله مقاتل. والثاني: أن تسألوه ما لم تسأله الأُمم قبلكم، ذكره أبو عبيد.
والثالث: أن تشكُّوا في قدرته.
[سورة المائدة (5) : آية 113]
قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
قوله تعالى: قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها هذا اعتذار منهم بيّنوا به سبب سؤالهم حين نهوا عنه.
وفي إِرادتهم للأكل منها ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أرادوا ذلك للحاجة، وشدة الجوع، قاله ابن عباس.
والثاني: ليزدادوا إِيماناً، ذكره ابن الأنباري. والثالث: للتبرك بها، ذكره الماورديّ. وفي قوله تعالى:
وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ثلاثة أقوال: أحدها: تطمئن إِلى أن الله تعالى قد بعثك إِلينا نبياً. والثاني: إِلى أن الله تعالى قد إختارنا أعواناً لك. والثالث: إِلى أن الله تعالى قد أجابك. وقال ابن عباس: قال لهم عيسى:
هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً، ثم لا تسألونه شيئاً إِلا أعطاكم؟ فصاموا، ثم سألوا المائدة.
فمعنى: وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في أنّا إِذا صمنا ثلاثين يوماً لم نسأل الله شيئاً إِلا أعطانا. وفي هذا العلم قولان: أحدهما: أنه علمٌ يحدث لهم لم يكن، وهو قول مَن قال: كان سؤالهم قبل استحكام معرفتهم. والثاني: أنه زيادة علم إِلى علم، ويقين إِلى يقين، وهو قول من قال: كان سؤالهم بعد
__________
(1) في «اللسان» أخاوين جمع خوان: وهو ما يوضع عليه الطعام عند الأكل.
(2) هذا الرجز لرؤبة كما في اللسان (ميد) . والممتاد: المطلوب منه العطاء.(1/601)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
معرفتهم. وقرأ الأعمش: «وتعلم» بالتاء، والمعنى: وتعلم القلوب أن قد صدقتنا. وفي قوله تعالى:
مِنَ الشَّاهِدِينَ أربعة أقوال: أحدها: من الشاهدين لله بالقدرة، ولك بالنبّوة. والثاني: عند بني إِسرائيل إِذا رجعنا إِليهم، وذلك أنهم كانوا مع عيسى في البرِيّة عند هذا السؤال. والثالث: من الشاهدين عند من يأتي من قومنا بما شاهدنا من الآيات الدالة على أنك نبي. والرابع: من الشاهدين لك عند الله بأداء ما بعثت به.
[سورة المائدة (5) : آية 114]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
قوله تعالى: تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وقرأ ابن محيصن، وابن السميفع، والجحدري:
«لأولانا وأخرانا» برفع الهمزة، وتخفيف الواو، والمعنى: يكون اليوم الذي نزلت فيه عيداً لنا، نعظِّمه نحن ومن بعدنا، قاله قتادة، والسدي. وقال كعب: أُنزلت عليهم يوم الأحد، فاتخذوه عيداً. وقال ابن قتيبة: عيداً، أي: مجمعاً. قال الخليل بن أحمد: العيد: كل يوم يجمع، كأنهم عادوا إِليه. وقال ابن الأنباري: سُمِّيَ عيداً للعودِ من الترح إِلى الفرح.
قوله تعالى: وَآيَةً مِنْكَ أي علامة منك تدل على توحيدك، وصحة نبوة نبيك. وقرأ ابن السميفع، وابن محيصن، والضحاك «وأنه منك» بفتح الهمزة، وبنون مشدّدة.
وفي قوله تعالى: وَارْزُقْنا قولان: أحدهما: ارزقنا ذلك من عندك. والثاني: ارزقنا الشكر على ما أنعمت به من إجابتك لنا.
[سورة المائدة (5) : آية 115]
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)
قوله تعالى: قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ قرأ نافع وعاصم وابن عامر «منزِّلها» بالتشديد، وقرأ الباقون خفيفة. وهذا وعدٌ بإجابة سؤال عيسى. واختلف العلماء: هل نزلت أم لا؟ على قولين «1» :
أحدهما: أنها نزلت، قاله الجمهور، فروى وهب بن منبِّه عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: لما رأى عيسى أنهم قد جدّوا في طلبها لبس جُبَّة من شعر، ثم توضأ، واغتسل، وصفَّ قدميه في محرابه حتى استويا، وألصق الكعب بالكعب، وحاذى الأصابع بالأصابع، ووضع يده اليمنى على اليسرى فوق صدره، وطأطأ رأسه خضوعاً، ثم أرسل عينيه بالبكاء، فما زالت تسيل دموعه على خده، وتقطر من أطراف لحيته حتى ابتلت الأرض من دموعه حيال وجهه، ثم رفع رأسه إِلى السماء، فقال: اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء، فبينما عيسى كذلك، هبطت عليهم مائدةٌ من السماء، سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة من تحتها، وغمامة من فوقها، وعيسى يبكي ويتضرَّع، ويقول: إِلهي اجعلها سلامةً، لا تجعلها عذاباً، حتى استقرَّت بين يديه، والحواريون من حوله، فأقبل هو وأصحابه حتى قعدوا حولها، وإِذا عليها منديلٌ مغطَّى، فقال عيسى: أيكم أوثق بنفسه وأقل بلاءً عند ربه فليأخذ
__________
(1) قال الإمام الطبري رحمه الله 5/ 135: والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال إن الله تعالى ذكره أنزل المائدة على الذين سألوا عيسى ذلك.(1/602)
هذا المنديل، وليكشف لنا عن هذه الآية. قالوا: يا روح الله أنت أولانا بذلك، فاكشف عنها، فاستأنف وضوا جديداً، وصلى ركعتين، وسأل ربه أن يأذن له بالكشف عنها، ثم قعد إِليها، وتناول المنديل، فإذا عليها سمكة مشوية، ليس فيها شوك، وحولها من كل البقل ما خلا الكرَّاث، وعند رأسها الخل، وعند ذنبها الملح، وحولها خمسة أرغفةٍ، على رغيف تمر، وعلى رغيف زيتون، وعلى رغيف خمس رمانات. فقال شمعون رأس الحواريين: يا روح الله أمِن طعام الدنيا هذا، أمِّن طعام الجنة؟ فقال عيسى: سبحان الله أما تنتهون! ما أخوفني عليكم. قال شمعون: لا وإِله بني إِسرائيل ما أردت بهذا سوءاً. قال عيسى: ليس ما ترون عليها من طعام الدنيا، ولا من طعام الجنة، إِنما هو شيءٌ ابتدعه الله، فقال له: «كن» فكان أسرع من طرفة عين. فقال الحواريون: يا روح الله إِنما نريد أن ترينا في هذه الآية آية، فقال: سبحان الله! ما اكتفيتم بهذه الآية؟! ثم أقبل على السمكة فقال: عودي بإذن الله حيةً طريةً، فعادت تضطرب على المائدة، ثم قال: عودي كما كنت، فعادت مشوية، فقال: يا روح الله كن أنت أول من يأكل منها، فقال: معاذ الله بل يأكل منها مَن سألها، فلما رأوا امتناعه، خافوا أن يكون نزولها عقوبة، فلما رأى عيسى ذلك دعا لها الفقراء والزَّمنى واليتامى، فقال: كلوا من رزق ربكم، ودعوة نبيكم، ليكون مهنؤها لكم، وعقوبتها على غيركم، فأكل منها ألف وسبعمائة إِنسان، يصدرون عنها شباعاً وهي كهيئتها حين نزلت، فصحَّ كل مريض، واستغنى كل فقير أكل منها، ثم نزلت بعد ذلك عليهم، فازدحموا عليها، فجعلها عيسى نوباً بينهم، فكانت تنزل عليهم أربعين يوماً، تنزل يوماً وتغبُّ «1» يوماً، وكانت تنزل عند ارتفاع الضحى، فيأكلون منها حتى إِذا قالوا، ارتفعت إِلى السماء وهم ينظرون إِلى ظلها في الأرض «2» . وقال قتادة: كانت تنزل عليهم بكرةً وعشية، حيث كانوا. وقال غيره:
نزلت يوم الأحد مرتين. وقيل: نزلت غدوة وعشية يوم الأحد، فلذلك جعلوه عيداً. وفي الذي كان على المائدة ثمانية أقوال: أحدها: أنه خبز ولحم، روي عن عمار بن ياسر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
(485) «نزلت المائدة من السماء خبزاً ولحما» .
__________
ضعيف جدا، شبه موضوع، والصواب وقفه. أخرجه الترمذي 3061 والطبري 13016 من حديث عمار مرفوعا، وقال الترمذي: رواه غير واحد عن سعيد به موقوفا، وهو أصح من المرفوع، ولا نعلم للمرفوع أصلا اه. قلت: إسناده واه، وله علل ثلاث: الأولى: رواه غير واحد موقوفا. الثانية: قتادة مدلس، وقد عنعن. الثالثة: خلاس كثير الإرسال والرواية عمن لم يلقه. وقد أخرجه الطبري 13018 عن قتادة عن خلاس عن عمار به موقوفا، ورجاله رجال الشيخين سوى خلاس روى له البخاري متابعة. وأخرجه الطبري 13015 من وجه آخر عن عمار، وفيه راو لم يسم. وأخرجه الطبري 13019 عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال ذكر لنا ... فذكره. وإسناده صحيح إلى قتادة، فلو كان هذا الحديث مرفوعا عند قتادة لما رواه بصيغة التمريض، ومن غير عزو لأحد. فالأشبه في هذا كونه موقوفا، والموقوف ضعيف جدا، شبه موضوع.
__________
(1) في «اللسان» : النّوب: جمع نوبة: وهي الفرصة والدّولة. والغبّ: ورد يوم، وظمأ آخر.
(2) قال ابن كثير رحمه الله 2/ 154: هذا أثر غريب جدا، قطّعه ابن أبي حاتم في مواضع من هذه القصة، وقد جمعته أنا له ليكون سياقه أتم وأكمل، والله سبحانه وتعالى- أعلم.
وكل هذه الآثار تدل على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل، أيام عيسى ابن مريم، إجابة من الله لدعوته، وكما دل على ذلك ظاهر السياق في القرآن العظيم.(1/603)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116)
والثاني: أنها سمكة مشوية، وخمس أرغفة، وتمر، وزيتون، ورمان. وقد ذكرناه عن سلمان.
والثالث: ثمرٌ من ثمار الجنة، قاله عمار بن ياسر، وقال قتادة: ثمرٌ من ثمار الجنة، وطعامٌ من طعامها.
والرابع: خبزٌ، وسمكٌ، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، وأبو عبد الرحمن السلمي.
والخامس: قطعةٌ من ثريد، رواه الضحاك عن ابن عباس. والسادس: أنه أنزل عليها كل شيء إِلا اللحم، قاله سعيد بن جبير. والسابع: سمكةٌ فيها طعم كلِّ شيءٍ من الطعام، قاله عطية العوفي.
والثامن: خبز أرز وبقل، قاله ابن السائِب.
والقول الثاني: أنها لم تنزل، روى قتادة عن الحسن أن المائِدة لم تنزل، لأنه لما قال الله تعالى:
فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قالوا: لا حاجة لنا فيها. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد، قال: أُنزلت مائدة عليها ألوانٌ من الطعام، فعرضها عليهم، وأخبرهم أنه العذاب إِن كفروا، فأبوها فلم تنزل. وروى ليث عن مجاهد قال: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لخلقه، لينهاهم عن مسألة الآيات لأنبيائه، ولم ينزل عليهم شيء، والأول أصح.
قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ أي: بعد إِنزال المائدة. وفي العذاب المذكور قولان:
أحدهما: أنه المسخ. والثاني: جنسٌ من العذاب لم يعذَّب به أحد سواهم. قال الزجاج: ويجوز أن يعجل لهم في الدنيا، ويجوز أن يكون في الآخرة.
وفي «العالمين» قولان: أحدهما: أنه عام. والثاني: عالمو زمانهم.
وقد ذكر المفسرون أن جماعة من أصحاب المائدة مسخوا. وفي سبب مسخهم ثلاثة أقوال:
(486) أحدها: أنهم أمروا أن لا يخونوا، ولا يدَّخِروا، فخانوا وادخروا، فمسخوا قردةً وخنازير، رواه عمار بن ياسر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
والثاني: أن عيسى خصَّ بالمائدة الفقراء، فتكلم الأغنياء بالقبيح من القول، وشكَّكوا الناس فيها، وارتابوا، فلما أمسى المرتابون بها، وأخذوا مضاجعهم، مسخهم الله خنازير، قاله سلمان الفارسي.
والثالث: أن الذين شاهدوا المائدة، ورجعوا إِلى قومهم، فأخبروهم، فضحك بهم من لم يشهد، وقالوا: إِنما سحر أعينكم، وأخذ بقلوبكم، فمن أراد الله به خيراً، ثبت على بصيرته، ومن أراد به فتنة، رجع إِلى كفره. فلعنهم عيسى، فأصبحوا خنازير، فمكثوا ثلاثة أيام، ثم هلكوا، قاله ابن عباس.
[سورة المائدة (5) : آية 116]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ في زمان هذا القول قولان:
أحدهما: أنه يقوله له يوم القيامة، قاله ابن عباس، وقتادة، وابن جريج.
__________
هو الحديث المتقدم، المرفوع ضعيف جدا.(1/604)
مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
والثاني: أنه قاله له حين رفعه إِليه، قاله السدي، والأول أصح.
وفي «إِذْ» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها زائِدة، والمعنى: وقال الله، قاله أبو عبيدة. والثاني: أنها على أصلها، والمعنى: وإذ يقول الله له، قاله ابن قتيبة. والثالث: أنها بمعنى: «إذا» ، كقوله تعالى:
وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا «1» والمعنى: إِذا. قال أبو النجم:
ثم جزاكَ الله عنِّي إِِذ جزى ... جنَّاتِ عَدْنٍ في السّماوات العلا
ولفظ الآية لفظ الاستفهام، ومعناها التوبيخ لِمن ادّعى ذلك على عيسى.
قال أبو عبيدة: وإِنما قال: «إِلهين» ، لأنهم إِذ أشركوا فعل ذكر مع فعل أنثى ذكَّروهما. فإن قيل: فالنصارى لم يتخذوا مريم إلهاً، فكيف قال الله تعالى ذلك فيهم؟ فالجواب: أنهم لما قالوا: لم تلد بشراً، وإِنما ولدت إِلهاً، لزمهم أن يقولوا: إِنها من حيث البعضية بمثابة مَن ولدته، فصاروا بمثابة من قاله.
قوله تعالى: قالَ سُبْحانَكَ أي: براءة لك من السوء ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ أي:
لست أستحق العبادة فأدعو الناس إِليها. وروى عطاء بن السائب عن ميسرة قال: لما قال الله تعالى لعيسى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ رُعِد كل مَفْصِل منه حتى وقع مخافة أن يكون قد قاله، وما قال: إِني لم أقل، ولكنه قال: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ. فإن قيل: ما الحكمة في سؤال الله تعالى له عن ذلك وهو يعلم أنه ما قاله؟ فالجواب: أنه تثبيت للحجة على قومه، وإِكذاب لهم في ادّعائهم عليه أنه أمرهم بذلك، ولإِنه إِقرارٌ من عيسى بالعجز في قوله: وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ وبالعبودية في قوله: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ.
قوله تعالى: تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي قال الزجاج: تعلم ما أُضمره، ولا أعلم ما عندك علمُه، والتأويل: تعلم ما أعلم وأنا لا أعلم ما تعلم.
[سورة المائدة (5) : آية 117]
ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117)
قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ قال مقاتل: وحِّدوه.
قوله تعالى: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً أي: على ما يفعلون ما كنت مقيماً فيهم، وقوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي فيه قولان: أحدهما: بالرفع إِلى السماء. والثاني: بالموت عند انتهاء الأجل. و «الرقيب» مشروحٌ في سورة (النساء) ، و «الشّهيد» في (آل عمران) .
[سورة المائدة (5) : آية 118]
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
قوله تعالى: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ قال الحسن، وأبو العالية: إِن تعذبهم، فبإقامتهم على كفرهم، وإِن تغفر لهم، فبتوبة كانت منهم. وقال الزجاج: علم عيسى أن منهم من آمن، ومنهم من أقام
__________
(1) سورة سبأ: 51.(1/605)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
على الكفر، فقال في جملتهم: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ أي: إِن تعذب من كفر منهم فإنهم عبادك، وأنت العادل فيهم، لأنك قد أوضحت لهم الحق، فكفروا، وإِن تغفر لهم، أي: وإِن تغفر لمن أقلع منهم، وآمَن، فذلك تفضّل منك، لأنه قد كان لك أن لا تغفر لهم بعد عظيم فريتهم، وأنت في مغفرتك لهم عزيز، لا يمتنع عليك ما تريد، حكيم في ذلك. وقال ابن الأنباري: معنى الكلام: لا ينبغي لأحدٍ أن يعترض عليك، فإن عذبتهم، فلا اعتراض عليك، وإِن غفرت لهم- ولست فاعلاً إِذا ماتوا على الكفر- فلا اعتراض عليك. وقال غيره: العفو لا ينقص عزّك، ولا يخرج عن حكمك.
(487) وقد روى أبو ذر قال: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قيام ليلةٍ بآيةٍ يردِّدها: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
[سورة المائدة (5) : الآيات 119 الى 120]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
قوله تعالى: قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ قرأ الجمهور برفع «اليوم» ، وقرأ نافع بنصبه على الظرف. قال الزجاج: المعنى: قال الله هذا لعيسى في يوم ينفع الصادقين صدقهم، ويجوز أن يكون على معنى: قال الله هذا الذي ذكرناه يقع في يوم ينفع الصادقين صدقهم. والمراد باليوم: يوم القيامة. وإِنما خصّ نفع الصدق به لأنه يوم الجزاء. وفي هذا الصدق قولان: أحدهما: أنه صدقهم في الدنيا ينفعهم في الآخرة. والثاني: صدقهم في الآخرة ينفعهم هنالك. وفي هذه الآية تصديقٌ لعيسى فيما قال.
قوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي: بطاعتهم، وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه. وفي قوله تعالى: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ تنبيهٌ على عبودية عيسى، وتحريضٌ على تعليق الآمال بالله وحده.
__________
ضعيف. أخرجه النسائي في «الكبرى» 11161 وأحمد 5/ 149 من حديث أبي ذر، وفي إسناده جسرة بنت دجاجة، وثقها ابن حبان والعجلي، وهما ممن يوثق المجاهيل، في حين قال البخاري وهو إمام هذا الفن:
عند جسرة عجائب، راجع «تهذيب التهذيب» 12/ 435.(1/606)
الجزء الثاني
فهرس الموضوعات
الموضوع: الصفحة 6- تفسير سورة الأنعام: 7 7- تفسير سورة الأعراف: 100 8- تفسير سورة الأنفال: 186 9- تفسير سورة التوبة: 230 10- تفسير سورة يونس: 314 11- تفسير سورة هود: 355 12- تفسير سورة يوسف: 411 13- تفسير سورة الرعد: 479 14- تفسير سورة إبراهيم: 503 15- تفسير سورة الحجر: 522 16- تفسير سورة النحل: 548.(2/5)
سورة الانعام
(فصل في نزولها:) روى مجاهد عن ابن عباس: أنّ سورة الأنعام مما نزل بمكّة. وهذا قول الحسن، وقتادة، وجابر بن زيد.
(488) وروى يوسف بن مهران عن ابن عبّاس، قال: نزلت سورة الأنعام جملة ليلا بمكّة.
وحولها سبعون ألف ملك.
(489) وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هي مكيّة، نزلت جملة واحدة، ونزلت ليلا وكتبوها من ليلتهم، غير ست آيات منها مدنيّات قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ إلى آخر الثّلاث آيات «1» ، وقوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «2» الآية. وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ «3» إلى آخر الآيتين. وذكر مقاتل نحو هذا. وزاد آيتين: قوله: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ «4» ، وقوله: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ «5» .
وروي عن ابن عباس، وقتادة قالا: هي مكّيّة، إلّا آيتين نزلتا بالمدينة قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. وقوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ «6» . وذكر أبو الفتح بن شيطاء: أنّها
__________
روي موقوفا ومرفوعا، والمرفوع لا يصح، والصحيح موقوف.
- أما الموقوف، فأخرجه الطبراني 12/ 12930 من طريق علي بن زيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس موقوفا، وإسناده ضعيف لضعف علي بن زيد بن جدعان، وورد من وجوه أخر موقوفا، وهو الراجح.
- وورد مرفوعا بنحوه عن جماعة من الصحابة فقد أخرجه الطبراني في «الأوسط» 6443 وابن مردويه كما في «تفسير ابن كثير» 2/ 159 من حديث أنس. وقال الهيثمي في «المجمع» 10992: رواه الطبراني عن شيخه عمر بن عبد الله بن عرس عن أحمد بن محمد السالمي ولم أعرفهما، وبقية رجاله ثقات ا. هـ.
قلت: ابن عرس توبع عند ابن مردويه، فانحصر الإسناد في أحمد السالمي، وقد تفرد به.
- وفي الباب من حديث ابن عمر عند الطبراني في «الصغير» 220 وقال الهيثمي في «المجمع» 10991: وفيه يوسف بن عطية الصفّار، وهو ضعيف اهـ. بل متروك. ومن حديث جابر عند الحاكم 2/ 315، وصححه، ورده الذهبي بقوله: لا والله لم يدرك جعفر السدي، وأظن هذا موضوعا اه.
موقوف، صدره له شواهد منها ما تقدم، وعجزه واه بمرة. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس، وروايته الكلبي، وهو ممن يضع الحديث، ولفظ «غير ست آيات ... » واه ليس بشيء.
__________
(1) سورة الأنعام: 151- 153.
(2) سورة الأنعام: 91.
(3) سورة الأنعام: 92. [.....]
(4) سورة الأنعام: 114.
(5) سورة الأنعام: 21.
(6) سورة الأنعام: 141.(2/7)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
مكية، غير آيتين نزلتا بالمدينة قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ، والتي بعدها.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنعام (6) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1)
فأمّا التّفسير، فقال كعب: فاتحة التوراة فاتحة الأنعام، وخاتمتها خاتمة هود وإنما ذكر السّماوات والأرض، لأنهما من أعظم المخلوقات. والمراد «بالجَعل» : الخلق. وقيل: إنّ «جعل» هاهنا: صلة والمعنى: والظلمات. وفي المراد بالظلمات والنور ثلاثة أقوال: أحدها: الكفر والإيمان، قاله الحسن.
والثاني: الليل والنهار، قاله السدي. والثالث: جميع الظّلمات والأنوار. قال قتادة: خلق السّماوات قبل الأرض، والظلماتِ قبل النور، والجنةَ قبل النار.
قوله تعالى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: المشركين بعد هذا البيان بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، أي:
يجعلون له عَدِيلاً، فيعبدون الحجارة المواتَ، مع إِقرارهم بأنه الخالق لِما وُصِف. يقال: عدلت هذا بهذا: إِذا ساويته به. قال أبو عبيدة: هو مقدَّم ومؤخَّر، تقديره: يعدلون بربهم. وقال النّصر بن شميل:
الباء: بمعنى «عن» .
[سورة الأنعام (6) : آية 2]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ يعني: آدم، وذلك أنه لما شك المشركون في البعث، وقالوا: من يحيي هذه العظام؟ أعلمهم أنه خلقهم من طين، فهو قادر على إِعادة خلقهم.
قوله تعالى: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ فيه ستة اقوال «1» : أحدها: أن الأجل الأول: أجل الحياة إلى الموت والأجل الثّاني: أجل الموت إلى البعث، روي عن ابن عباس، والحسن، وابن المسيب، وقتادة، والضحاك، ومقاتل. والثاني: أن الأجل الأول: النوم الذي تُقْبَضُ فيه الروح، ثم ترجع في حال اليقظة والأجل المسمى عنده: أجل موت الإِنسان. رواه العوفي عن ابن عباس.
والثالث: أن الأجل الأول: أجل الآخرة متى يأتي، والأجل الثاني: أجل الدنيا، قاله مجاهد في رواية.
والرابع: أن الأول: خلق الأشياء في ستة أيام، والثاني: ما كان بعد ذلك إلى يوم القيامة، قاله عطاء الخراساني. والخامس: أن الأول: قضاه حين أخذ الميثاق على خلقه، والثاني: الحياة في الدنيا، قاله
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 148: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معناه: ثم قضى أجل الحياة الدنيا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وهو أجل البعث عنده. وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب. لأنه تعالى ذكره نبّه خلقه على موضع حجته عليهم من أنفسهم فقال لهم: أيها الناس إن الذي يعدل به كفاركم الآلهة والأنداد هو الذي خلقكم فابتدأكم وأنشأكم من طين، فجعلكم صورا أجساما أحياء بعد إذ كنتم طينا جمادا، ثم قضى آجال حياتكم لفنائكم ومماتكم ليعيدكم ترابا وطينا كالذي كنتم قبل أن ينشئكم ويخلقكم، وأجل مسمى عنده لإعادتكم أحياء وأجساما كالذي كنتم قبل مماتكم. وذلك نظير قوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة: 28] .(2/8)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
ابن زيد، كأنه يشير إِلى أجل الذرية حين أحياهم وخاطبهم. والسادس: أن الأول: أجل من قد مات من قبل، والثاني: أجل من يموت من بعد، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ أي بعد هذا البيان تَمْتَرُونَ وفيه قولان: أحدهما: تشكّون قاله قتادة، والسدي. وفيما شكوا فيه قولان: أحدهما: الوحدانية. والثاني: البعث. والثاني: يختلفون: مأخوذ من المراء، ذكره الماورديّ.
[سورة الأنعام (6) : آية 3]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)
قوله تعالى: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ فيه أربعة اقوال «1» : أحدها: هو المعبود في السماوات وفي الأرض، قاله ابن الأنباري. والثاني: وهو المنفرد بالتدبير في السماوات وفي الأرض، قاله الزجاج. والثالث: وهو الله في السماوات، ويعلم سركم وجهركم في الأرض، قاله ابن جرير.
والرابع: أنه مقدَّم ومؤخَّر. والمعنى: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات والأرض، ذكره بعض المفسّرين.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 5]
وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)
قوله تعالى: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ نزلت في كفار قريش. وفي «الآية» قولان:
أحدهما: أنها الآية من القرآن. والثاني: المعجزة، مثل انشقاق القمر.
والمراد بالحق: القرآن. والأنباء: الأخبار. والمعنى: سيعلمون عاقبة استهزائهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 6]
أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)
قوله تعالى: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ القرن: اسم أهل كل عصر. وسمُّوا بذلك، لاقترانهم في الوجود: وللمفسرين في المراد بالقرن سبعة أقوال «2» :
(490) أحدها: أنه أربعون سنة، ذكره ابن سيرين عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم.
والثاني: ثمانون سنة، رواه أبو صالح عن ابن عبّاس.
__________
عزاه المصنف لابن سيرين عن النبي صلى الله عليه وسلم وهذا مرسل فهو واه، ولم أقف على إسناده، وهو منكر، والمحفوظ ما بعده.
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 160: أصح الأقوال أنه: المدعو الله في السماوات وفي الأرض، أي يعبده ويوحده ويقرّ له بالإلهية من في السماوات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رغبا ورهبا، إلا من كفر من الجن والإنس. وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي: هو إله من في السماء وإله من في الأرض وعلى هذا فيكون قوله يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ خبرا أو حالا.
(2) الراجح من هذه الأقوال هو القول الثالث: حيث ورد مرفوعا وهو حديث قوي.(2/9)
(491) والثالث: مائة سنة، قاله عبد الله بن بسر «1» المازني وأبو سلمة بن عبد الرحمن.
والرابع: مائة وعشرون سنة، قاله زُرارة بن أوفى، وإياس بن معاوية. والخامس: عشرون سنة، حكاه الحسن البصري. والسادس: سبعون سنة، ذكره الفراء. والسابع: أن القرن: أهل كل مدة كان فيها نبيٌّ، أو طبقة من العلماء، قلَّتِ السّنون، أو كثرت بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:
(492) «خيركم قرني» يعني: أصحابي «ثم الذين يلونهم» يعني: التابعين «ثم الذين يلونهم» يعني: الذين أخذوا عن التابعين. فالقرن: مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان فهو في كل قوم على مقدار أعمالهم.
واشتقاق القرن: من الاقتران. وفي معنى ذلك الاقتران قولان: أحدهما: أنه سمي قرنا، لأنه المقدار الذي هو أكثر ما يقترن فيه أهل ذلك الزمان في بقائهم. هذا اختيار الزجاج. والثاني: أنه سمي قرناً، لأنه يَقْرِنُ زماناً بزمانٍ، وأُمَّةً بأمَّةٍ، قاله ابن الأنباري. وحكى ابن قتيبة عن أبي عبيدة قال: يرون أن أقل ما بين القرنين: ثلاثون سنة.
قوله تعالى: مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: أعطيناهم ما لم نُعطِكم. يقال: مكَّنتُه ومكَّنتُ له: إذا أقدرته على الشيء باعطاء ما يصح به الفعل من العدة. وفي هذه الآية رجوع من الخبر إلى الخطاب. فأما السماء: فالمراد بها المطر. ومعنى «أرسلنا» : أنزلنا. و «المدرار» : مفعال، من درَّ يَدِرُّ والمعنى: نرسلها كثيرة الدَّرِّ. ومِفعال: من أسماء المبالغة، كقولهم: امرأة مذكار: إذا كانت كثيرة الولادة للذكور، وكذلك مئناث. فان قيل: السماء مؤنَّثَة، فلم ذكَّر مدراراً؟! فالجواب:
أن حكم ما انعدل من النعوت عن منهاج الفعل وبنائه، أن يلزم التذكير في كلِّ حال، سواء كان وصفاً لمذكّر أو مؤنّث كقولهم: امرأة مذكار، ومعطار وامرأة مذكر، ومؤنث: وهي كفور، وشكور. ولو
__________
ورد ذلك مرفوعا وهو حديث قوي. علقه البخاري في «التاريخ الكبير» 1/ 323 و «الصغير» 1/ 216 قال: قال داود بن رشيد حدثنا أبو حياة شريح بن يزيد الحضرمي عن إبراهيم بن محمد بن زياد عن أبيه عن عبد الله بن بسر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يعيش هذا الغلام قرنا» ، فعاش مائة سنة. وذكره الهيثمي في «المجمع» 16119 بأتم منه وقال رواه الطبراني والبزار باختصار إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليدركن قرنا» ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب الحضرمي، وهو ثقة اهـ.
وورد بنحوه عن الحسن بن أيوب الحضرمي قال: أراني عبد الله بن بسر شامة في قرنه فوضعت إصبعي عليها فقال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعه عليها وقال: «لتبلغن قرنا» أخرجه أحمد 4/ 189 والطبراني كما في «المجمع» 16120. قال الهيثمي: ورجال أحمد رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب، وهو ثقة، ورجال الطبراني ثقات اهـ. وانظر «الإصابة» 2/ 281- 282 (4565) .
الخلاصة هو حديث صحيح بمجموع طرقه وشواهده.
حديث صحيح. لكن لفظ «يعني ... » ليس من الحديث. أخرجه البخاري 2651 و 3650 و 6428 و 6695 ومسلم 214 و 215 و 2535 وأبو داود 4657، والترمذي 2222 والنسائي 7/ 17 و 18، والطيالسي 852 وأحمد 4/ 427 و 436 و 440 وابن حبان 6729. والبيهقي 10/ 123 و 160 وفي «الدلائل» 6/ 552. من حديث عمران بن حصين. وله شواهد.
__________
(1) وقع في المطبوع «بشر» والمثبت عن كتب الحديث والتراجم.(2/10)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
بُنيتْ هذه الأوصاف على الفعل، لقيل: كافرة، وشاكرة، ومُذْكِرَة فلما عدل عن بناء الفعل، جرى مجرى ما يستغني بقيام معنى التأنيث فيه عن العلامة كقولهم: النعلَ لبستُها، والفأسَ كسرتُها، وكان إيثارهم التذكير للفرق بين المبني على الفعل، والمعدول عن مِثْلِ الأفاعيل. والمراد بالمدرار:
المبالغة في اتصال المطر ودوامه يعني: أنها تَدِرُّ وقت الحاجة إليها لا أنها تدوم ليلاً ونهاراً، فتفسد، ذكره ابن الأنباري.
[سورة الأنعام (6) : آية 7]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
قوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ.
(493) سبب نزولها: أن مشركي مكة قالوا: يا محمد، والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله، ومعه أربعة من الملائكة، يشهدون أنه من عند الله، وأنك رسوله، فنزلت هذه الآية، قاله ابن السائب.
قال ابن قتيبة: والقرطاس: الصحيفة، يقال للرامي إذا أصاب الصحيفة: قَرْطَسَ. قال شيخنا أبو منصور اللغوي: القرطاس قد تكلموا به قديماً. ويقال: إن أصله غير عربي. والجمهور على كسر قافه، وضمها أبو رزين، وعكرمة، وطلحة، ويحيى بن يعمر.
فأما قوله تعالى: فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فهو توكيد لنزوله، وقيل: إنما علَّقه باللمس باليد إبعاداً له عن السحر، لأن السحر يُتَخَيَّلُ في المرئيات دون الملموسات. ومعنى الآية: إنّهم يدفعون الصّحيح.
[سورة الأنعام (6) : آية 8]
وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8)
قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ قال مقاتل:
(494) نزلت في النَّضْر بن الحارث، وعبد الله بن أبي أُمية، ونوفل بن خويلد.
و «لولا» بمعنى «هلاّ» أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ نصدقه: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً فعاينوه ولم يؤمنوا، لَقُضِيَ الْأَمْرُ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن المعنى: لماتوا، ولم يؤخروا طرفة عين لتوبة، قاله ابن عباس.
والثاني: لقامت الساعة، قاله عكرمة، ومجاهد. والثالث: لعجل لهم العذاب، قاله قتادة.
[سورة الأنعام (6) : آية 9]
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)
__________
لا أصل له. عزاه المصنف لابن السائب، وهو محمد بن السائب الكلبي، وهو ساقط الرواية، ممن يضع الحديث. وعزاه البغوي 2/ 110 للكلبي ومقاتل، ومقاتل أيضا يضع الحديث. وانظر «أسباب النزول» 422 للواحدي.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ابن سليمان حيث أطلق وهو كذاب وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم كما في «الدر» 3/ 8 عن محمد بن إسحاق قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم، فيما بلغني، فقال له زمعة بن الأسود بن المطلب، والنضر بن الحارث بن كلدة وعبدة بن عبد يغوث، وأبي بن خلف بن وهب والعاص بن وائل بن هشام: لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله في ذلك من قولهم.(2/11)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
قوله تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ أي: ولو جعلنا الرسول إليهم مَلكَاً، لجعلناه في صورة رجل، لأنهم لا يستطيعون رؤية المَلَك على صورته، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ أي: لشبَّهنا عليهم. يقال: ألبست الأمر على القوم، أُلبِسه أي: شبهته عليهم، وأشكلته. والمعنى: لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حتى يشكّوا، فلا يدرون أمَلَكٌ هو أم آدميٌ؟ فأضللناهم بما به ضلّوا قبل أن يُبعث المَلَك. وقال الزجاج: كانوا يلبسون على ضعفتهم في أمر النّبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: إنما هذا بشر مثلكم فقال تعالى: لو رأوا المَلَك رجلاً، لكان يلحقهم فيه من الَّلبْسِ مثلُ ما لحق ضعفتهم منه. وقرأ الزّهريّ، ومعاذ القارئ، وأبو رجاء: «وللبّسنا» ، بالتشديد، «عليهم ما يلبّسون» ، مشدّدة أيضا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 11]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
قوله تعالى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا أي: أحاط. قال الزجاج: الحيق في اللغة: ما اشتمل على الإِنسان من مكروه فعله، ومنه: وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «1» أي: لا ترجع عاقبة مكروهه إلا عليهم. قال السّدّيّ: وقع بهم العذاب الّذي استهزءوا به.
[سورة الأنعام (6) : آية 12]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12)
قوله تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ المعنى: فان أجابوك، وإلا ف قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ قال ابن عباس: قضى لنفسه أنه أرحم الراحمين. قال الزجاج: ومعنى كتب: أوجب ذلك إيجاباً مؤكداً، وجائز أن يكون كتب في اللوح المحفوظ وإنما خُوطِبَ الخلقُ بما يعقلون، فهم يعقلون أن توكيد الشيء المؤخَّر أن يحفظ بالكتاب. وقال غيره: رحمته عامة فمنها تأخير العذاب عن مستحقِّه، وقبول توبة العاصي.
قوله تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ اللام: لام القسم. كأنه قال: والله ليجمعنكم إلى اليوم الذي أنكرتموه. وذهب قوم إلى أن «إلى» بمعنى: «في» ثم اختلفوا، فقال قوم: في يوم القيامة. وقال آخرون: في قبوركم إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي: بالشرك، فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، لِما سبق فيهم من القضاء. وقال ابن قتيبة: قوله: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مردود إلى قوله: كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ الذين خسروا.
[سورة الأنعام (6) : آية 13]
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)
قوله تعالى: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ.
__________
(1) سورة فاطر: 43.(2/12)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
(495) سبب نزولها أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: قد علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة فنحن نجعل لك نصيباً في أموالنا حتى تكون من أغنانا رجلاً، وترجع عما أنت عليه، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس.
وفي معنى «سكن» قولان: أحدهما: أنه من السكنى. قال ابن الأعرابي: «سكن» بمعنى حلّ.
والثاني: أنه من السكون الذي يضاد الحركة. قال مقاتل: من المخلوقات ما يستقر بالنهار، وينتشر بالليل ومنها ما يستقر بالليل، وينتشر بالنهار. فان قيل: لم خص السكون بالذكر دون الحركة؟ فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن السكون أعم وجوداً من الحركة. والثاني: أن كل متحرك قد يسكن، وليس كل ساكن يتحرك. والثالث: أن في الآية إضماراً والمعنى: وله ما سكن وتحرك كقوله تعالى تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1» أراد: والبرد فاختصر.
[سورة الأنعام (6) : آية 14]
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
قوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا.
(496) ذكر مقاتل أن سبب نزولها، أن كفَّار قريش قالوا: يا محمد، ألا ترجع إلى دين آبائك؟
فنزلت هذه الآية. وهذا الاستفهام معناه الإنكار أي: لا أتخذ وليا غير الله أتولاه، وأعبده، وأستعينه.
قوله تعالى: فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الجمهور على كسر راء «فاطر» . وقرأ ابن أبي عبلة برفعها.
قال أبو عبيدة: الفاطر، معناه: الخالق. وقال ابن قتيبة: المبتدئ.
(497) ومنه «كل مولود يولد على الفطرة» أي: على ابتداء الخلقة، وهو الإقرار بالله حين أخذ العهد عليهم في أصلاب آبائهم. وقال ابن عباس: كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض، حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتُها، أي: أنا ابتدأتها. قال الزجاج: إن قيل:
كيف يكون الفطر بمعنى الخلق والانفطار الانشقاق في قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) «2» فالجواب: إنما يرجعان إلى شيء واحد، لأن معنى «فطرهما» : خلقهما خلقاً قاطعاً. والانفطار، والفطور: تقطُّعٌ وتشقُّقٌ.
قوله تعالى: وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قرأ الجمهور بضم الياء من الثاني ومعناه: وهو يرزق ولا
__________
باطل. ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 423 من رواية الكلبي عن ابن عباس. وهذه رواية ساقطة، الكلبي متروك كذاب. وقد روى عن ابن عباس تفسيرا موضوعا.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فخبره لا شيء.
حديث صحيح. أخرجه البخاري 1358 و 1385 و 1359. ومسلم 2658 2380، وأبو داود 4705 و 4706 والترمذي 3150، والطيالسي 2433 وأحمد 2/ 253 و 282 و 346 و 481. وابن حبان 128 و 129 من حديث أبي هريرة، وله شواهد.
__________
(1) سورة النحل: 81.
(2) سورة الانفطار: 1.(2/13)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
يُرزق، لأن بعض العبيد يرزق مولاه. وقرأ عكرمة والأعمش «ولا يَطعم» بفتح الياء. قال الزجاج: وهذا الاختيار عند البصراء بالعربية، ومعناه: وهو يَرزق ويُطْعِمُ ولا يأكل.
قوله تعالى: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ أي: أول مسلم من هذه الأمة وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قال الأخفش: معناه: وقيل لي: لا تكوننَّ، فصارت: أمرت، بدلاً من ذلك لأنه حين قال: أمرت، قد أخبر أنه قيل له.
[سورة الأنعام (6) : آية 15]
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
قوله تعالى: قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) زعم بعض المفسرين أنه كان يجب عليه أن يخاف عاقبة الذنوب، ثم نسخ ذلك بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «1» ، والصحيح أن الآيتين خبر، والخبر لا يدخله النسخ، وإنما هو معلق بشرط، ومثله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «2» .
[سورة الأنعام (6) : آية 16]
مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
قوله تعالى: مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ قرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم مَنْ يُصْرَفْ بضم الياء وفتح الراء، يعنون: العذاب. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «يَصرِف» بفتح الياء وكسر الراء الضمير قوله: إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي ومما يحسّن هذه القراءة قوله تعالى: فَقَدْ رَحِمَهُ، فقد اتفق إسناد الضميرين إلى اسم الله عزّ وجلّ، ويعني بقوله: يصرف العذاب يَوْمَئِذٍ، يعني: يوم القيامة، وَذلِكَ يعني: صرف العذاب.
[سورة الأنعام (6) : آية 17]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ الضر: اسم جامع لكل ما يتضرَّرُ به الإِنسان، من فقر ومرض وغير ذلك والخير: اسم جامع لكلّ ما ينتقع به الإِنسان. وللمفسرين في الضر والخير قولان:
أحدهما: أن الضر السقم والخير: العافية. والثاني: أنّ الضّرّ: الفقر، والخير: الغنى.
[سورة الأنعام (6) : آية 18]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)
قوله تعالى: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ القاهر: الغالب، والقهر: الغلبة. والمعنى: أنه قهر الخلق فصرّفهم على ما أراد طوعاً وكرهاً فهو المستعلي عليهم، وهم تحت التّسخير والتذليل.
[سورة الأنعام (6) : آية 19]
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
قوله تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً.
__________
(1) سورة الفتح: 3.
(2) سورة الزمر: 66.(2/14)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20)
(498) سبب نزولها: أن رؤساء مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد، ما نرى أحداً يصدِّقُك بما تقول، ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أنه ليس لك عندهم ذكر ولا صفة، فأرنا من يشهد أنك رسول الله فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ومعنى الآية: قل لقريش: أيُّ شيء أعظم شهادة؟ فان أجابوك، وإلا فقل: الله، وهو شهيد بيني وبينكم على ما أقول. وقال الزّجّاج: أمره الله تعالى أن يحتجّ عليهم بأنّ شهادة الله عزّ وجلّ في نُبُوَّته أكبر شهادة، وأن القرآن الذي أتى به، يشهد له أنه رسول الله، وهو قوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ ففي الإِنذار به دليل على نبوته، لأنه لم يأت أحد بمثله، ولا يأتي وفيه خبر ما كان وما يكون ووعد فيه بأشياء، فكانت كما قال. وقرأ عكرمة، وابن السميفع، والجحدري «وأَوحَى إليَّ» بفتح الهمزة والحاء «القرآن» بالنّصب فأمّا «الإنذار» ، فمعناه: التّخويف، ومعنى وَمَنْ بَلَغَ أي: من بلغ إليه هذا القرآن، فإني نذير له. قال القرظي: من بلغه القرآن فكأنّما رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وكلَّمه.
(499) وقال أنس بن مالك: لما نزلت هذه الآية، كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وكل جبار يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ.
قوله تعالى: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى هذا استفهام معناه الانكار عليهم. قال الفراء: وإنما قال: «أُخرى» ولم يقل: «آخر» لأن الآلهة جمع والجمع يقع عليه التأنيث، كما قال:
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى «1» . وقال: فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى «2» .
[سورة الأنعام (6) : آية 20]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ، في الكتاب قولان: أحدهما: أنه التوراة والإِنجيل وهذا قول الجمهور. والثاني: أنه القرآن.
وفي هاء يَعْرِفُونَهُ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إِلى النبي صلى الله عليه وسلم، قاله السدي.
(500) وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لعبد الله بن سلام: إن الله قد أنزل على نبيه بمكة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ، فكيف هذه المعرفة؟ فقال: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني، ولأَنَا أشد معرفة بمحمّد صلى الله عليه وسلم مني بابني. فقال عمر: وكيف ذاك؟ فقال: إني أشهد أنه رسول الله حقا، ولا أدري ما يصنع النساء «3» .
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس وراويته هو الكلبي وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 424 عن الكلبي والكلبي ممن يضع الحديث، فالخبر لا شيء.
باطل، عزاه السيوطي في «الدر» 3/ 12- 13 لأبي الشيخ وابن مردويه عن أنس، ولم أقف على إسناده وهو باطل لتفردهما به، ولأن السورة مكية وقد كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك في العهد المدني وليس في مكة.
عزاه السيوطي في «الدر» 1/ 271 للثعلبي من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن ابن عباس وهي رواية ساقطة. السدي هذا متروك متهم، والكلبي يضع الحديث. وورد من وجوه أخر واهية، لا تقوم بها حجة.
__________
(1) سورة الأعراف: 181.
(2) سورة طه: 52. [.....]
(3) أي ما أحدث النساء، فلعل الولد ليس من زوج المرأة.(2/15)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
والثاني: أنها ترجع إلى الدين والنبي. فالمعنى: يعرفون الإسلام أنّه دين الله عزّ وجلّ، وأن محمداً رسول الله، قاله قتادة. والثالث: أنها ترجع إلى القرآن. فالمعنى: يعرفون الكتاب الدال على صدقه ذكره الماوردي.
وفي الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ قولان: أحدهما: أنهم مشركو مكة. والثاني: كفّار أهل الكتابين.
[سورة الأنعام (6) : آية 21]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي: اختلق على الله الكذب في ادعاء شريك معه.
وفي «آياته» قولان: أحدهما: أنها محمد والقرآن، قاله ابن السائب. والثاني: القرآن، قاله مقاتل.
والمراد بالظلم المذكور في هذه الآية: الشّرك.
[سورة الأنعام (6) : آية 22]
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
قوله تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً انتصب «اليوم» بمحذوف تقديره: واذكر يوم نحشرهم. قال ابن جرير: والمعنى: لا يفلحون اليوم، ولا يوم نحشرهم. وقرأ يعقوب: «يحشرهم» «ثم يقول» بالياء فيهما. وفي الذين عني قولان: أحدهما: المسلمون والمشركون. والثاني: العابدون والمعبودون.
وقوله: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ سؤال توبيخ. والمراد بشركائهم: الأوثان وإِنما أضافها إليهم لأنّهم زعموا أنّها شركاء لله. وفي معنى تَزْعُمُونَ قولان: أحدهما: يزعمون أنهم شركاء مع الله. والثاني: يزعمون أنها تشفع لهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 23]
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23)
قوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ قرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «ثم لم تكن» بالتاء، «فتنتُهم» بالرفع. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم: «تكن» بالتاء أيضا، «فتنتَهم» بالنصب وقد رُويت عن ابن كثير ايضاً. وقرأ حمزة، والكسائي: «يكن» بالياء، «فتنتَهم» بالنصب. وفي «الفتنة» أربعة أقوال «1» : أحدها: أنها بمعنى الكلام والقول. قال ابن عباس، والضحاك: لم يكن كلامُهُم. والثاني: أنها المعذرة. قال قتادة، وابن زيد: لم تكن معذرتهم. قال ابن الأنباري: فالمعنى:
اعتذروا بما هو مُهْلِكٌ لهم، وسبب لفضيحتهم. والثالث: أنها بمعنى البلية. قال عطاء الخراساني: لم تكن بليتهم. وقال ابو عبيد: لم تكن بليتهم التي ألزمتهم الحجة، وزادتهم لائمة. والرابع: أنها بمعنى الافتتان. والمعنى: لم تكن عاقبة فتنتهم.
قال الزجاج: لم يكن افتتانهم بشركهم، وإقامتهم عليه، إلا أن تبرؤوا منه. ومثل ذلك في اللغة
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 166 والصواب من القول في ذلك أن يقال: معناه: ثم لم يكن قبلهم عند فتنتنا إياهم اعتذارا مما سلف منهم من الشرك بالله، إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فوصفت «الفتنة» موضع «القول» لمعرفة السامعين معنى الكلام. وإنما الفتنة التي هي الاختبار والابتلاء ولكن لما كان الجواب من القوم غير واقع هنالك إلا عند الاختبار، وضعت «الفتنة» التي هي الاختبار موضع الخبر عن جوابهم ومعذرتهم ا. هـ.(2/16)
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
أن ترى إنسانا يحب غاوياً، فاذا وقع في هَلَكَةٍ تبرأ منه فيقول: ما كانت محبتك لفلان إِلا أن انتفيت منه. قال: وهذا تأويل لطيف، لا يعرفه إلا من عرف معاني الكلام، وتصرُّفَ العربِ في ذلك. وقال ابن الأنباري: المعنى: أنهم افتتنوا بقولهم هذا، إذ كذبوا فيه، ونفوَا عن أنفسهم ما كانوا معروفين به في الدنيا.
قوله تعالى: إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، وابن عامر: «واللهِ ربِّنا» بكسر الباء. وقرأ حمزة، والكسائيّ، وخلف: بنصب الباء. وفي هؤلاء القوم الذين هذا وصفهم قولان «1» : أحدهما: أنهم المشركون. والثاني: المنافقون.
ومتى يحلفون؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا من كان مسلماً، قالوا:
تعالوا نكابر عن شركنا، فحلفوا، قاله ابن عباس. والثاني: أنهم إذا دخلوا النار، ورأوا أهل التّوحيد يخرجون، فحلفوا واعتذروا، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد. والثالث: أنهم إذا سئلوا: أين شركاؤكم؟
تبرؤوا، وحلفوا: ما كنا مشركين، قاله مقاتل.
[سورة الأنعام (6) : آية 24]
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي: باعتذارهم بالباطل. وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي: ذهب ما كانوا يدّعون ويختلقون من أن الاصنام شركاء لله، وشفعاؤهم في الآخرة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 26]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)
قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ.
(501) سبب نزولها: أن نفراً من المشركين، منهم عتبة، وشيبة، والنضر بن الحارث، وأُميَّةُ وأُبيّ ابنا خلف، جلسوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستمعوا إليه، ثم قالوا للنضر بن الحارث: ما يقول محمد؟ فقال: والذي جعلها بَِنيَّةً، ما أدري ما يقول؟ إلا أني أرى تحرك شفتيه، وما يقول إلا أساطير الأولين، مثلما كنت أحدثكم عن القرون الماضية وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
فأما «الأكنّة» ، فقال الزجاج: هي جمع كنان، وهو الغطاء مثل عنان وأعنّة.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 425. تعليقا بقوله: قال ابن عباس في رواية أبي صالح ... فذكره فهذه علة وثمّ علة ثانية: أبو صالح، اسمه باذام ضعفه غير واحد، ولم يلق ابن عباس وذكره الواحدي في «الوسيط» 2/ 261 بقوله: نزلت. من غير عزو لقائل.
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير، 2/ 164: وقال الضحاك عن ابن عباس: هذه في المنافقين، وفي هذا نظر فإن هذه الآية مكية والمنافقون إنما كانوا بالمدينة والتي نزلت في المنافقين آية المجادلة يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ..(2/17)
وأما: «أن يفقهوه» ، فمنصوب على انه مفعول له. المعنى: وجعلنا على قلوبهم أكنَّة لكراهة أن يفقهوه، فلما حذفت اللام، نصبت الكراهة ولما حذفت الكراهة، انتقل نصبُها إلى «أنْ» .
«الوقر» : ثِقَلُ السمع، يقال: في أذنه وَقْر، وَقد وُقِرَتِ الأذن تُوْقَر. قال الشاعر:
وكلامٌ سيّئ قد وُقِرَتْ ... أُذُني عنه وما بي من صَمَمْ «1»
والوقِر، بكسر الواو أن يُحَمَّل البعير وغيره مقدار ما يطيق، يقال: عليه وَقْر، ويقال: نخلة موقِر، وموقِرة، وإنما فُعل ذلك بهم مجازاة لهم باقامتهم على كفرهم، وليس المعنى أنهم لم يفهموه، ولم يسمعوه ولكنهم لما عدلوا عنه، وصرفوا فكرهم عما عليهم في سوء العاقبة، كانوا بمنزلة من لم يعلم ولم يسمع. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ أي: كل علامة تدل على رسالتك، لا يُؤْمِنُوا بِها. ثمّ أعلم الله عزّ وجلّ مقدار احتجاجهم وجدلهم، وأنهم إنما يستعملون في الاحتجاج أن يقولوا: إِنْ هذا، أي:
ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وفيها قولان:
أحدهما: أنها ما سُطِّر من أخبارهم وأحاديثهم. روى أبو صالح عن ابن عباس قال: أساطير الأولين: كذبهم، وأحاديثهم في دهرهم. وقال أبو الحسن الاخفش: يزعم بعضهم أن واحدة الأساطير: أسطورة. وقال بعضهم: أسطارة ولا أُراه إلا من الجمع الذي ليس له واحد، نحو عباديد ومذاكير وأبابيل. وقال ابن قتيبة: أساطير الأولين: أخبارهم وما سطر منها، أي: ما كتب، ومنه قوله تعالى: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ «2» أي: يكتبون، واحدها سطر، ثم أسطار، ثم أساطير جمع الجمع، مثل قول، وأقوال، وأقاويل.
والقول الثاني: أن معنى أساطير الأولين: الترهات. قال أبو عبيدة: واحد الأساطير: أسطورة، وإسطارة، ومجازها مجاز التُرهات. قال ابن الأنباري: الترهات عند العرب: طرق غامضة، ومسالك مشكلة، يقول قائلهم: قد أخذنا في ترهات البسابس، يعني: قد عدلنا عن الطريق الواضح إلى المشكل وعمّا يعرف إلى ما لا يعرف. و «البسابس» : الصحاري الواسعة، والتُّرَّهات: طرق تتشعب من الطريق الأعظم، فتكثر وتُشكِل، فجُعلت مثلا لما لا يصح وينكشف.
فان قيل: لم عابوا القرآن بأنه أساطير الأولين، وقد سطر الأولون ما فيه علم وحكمة، وما لا عيب على قائله؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنهم نسبوه إلى أنه ليس بوحي من الله. والثاني: أنهم عابوه بالإِشكال والغموض، استراحة منهم إلى البهت والباطل. فعلى الجواب الأول تكون «أساطير» من التسطير، وعلى الثاني تكون بمعنى الترهات، وقد شرحنا معنى التُّرَّهات.
قوله تعالى: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ في سبب نزولها قولان:
(502) أحدهما: أن أبا طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتباعد عمّا جاء
__________
أخرجه الحاكم 2/ 315 والواحدي 426 كلاهما عن حبيب بن أبي ثابت عن سعد بن جبير عن ابن عباس به، وحبيب مدلس وقد عنعن ورواه عبد الرزاق في «تفسيره» 785 والطبري 13173 و 13174 و 13175 من
__________
(1) البيت: للمثقب العبدي في قصيدة حكمية جيدة أثبتها صاحب «المفضليات» 293.
(2) سورة القلم: 1.(2/18)
به، فنزلت فيه هذه الآية، رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس، وهو قول عمرو بن دينار، وعطاء بن دينار، والقاسم بن مخيمرة.
(503) وقال مقاتل: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أبي طالب يدعوه إلى الإِسلام، فاجتمعت قريش إلى أبي طالب يريدون بالنبيّ صلى الله عليه وسلم سوءاً، فسألوا أبا طالب أن يدفعه إِليهم، فيقتلوه، فقال: ما لي عنه صبر فقالوا: ندفع إليك من شبابنا من شئت مكان ابن أخيك، فقال أبو طالب: حين تروح الإِبل، فان حنت ناقة إلى غير فصيلها دفعتُه إليكم، وقال:
والله لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بِجَمْعِهِم ... حَتَّى أُوَسَّدَ في التُّرَابِ دَفِينَا
فَاصْدَعْ بأَمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... وابْشِرْ وقَرَّ بذاكَ مِنْكَ عُيُونا
وَعَرضْتَ دِيناً لاَ مَحَالَةَ أنَّه ... مِنْ خَيْرِ أدْيانِ البريَّةِ دِينا
لَولا المَلاَمَةُ أو حَذَاري سُبَّةُ ... لَوَجَدْتَني سَمْحَاً بذَاكَ مُبِيْنَا «1»
فنزلت فيه هذه الآية (504) والثاني: أن كفار مكة كانوا ينهون الناس عن اتّباع النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ويتباعدون بأنفسهم عنه، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال ابن الحنفية، والضحاك، والسدّي. فعلى القول الأول، يكون قوله تعالى: «وهم» كنايةً عن واحد وعلى الثاني: عن جماعة. وفي هاء «عنه» قولان:
أحدهما: أنها ترجع إلى النّبي صلى الله عليه وسلم. ثم فيه قولان «2» . أحدهما: ينهون عن أذاه والثاني: عن اتِّباعه. والقول الثاني: أنها تَرْجِع إلى القرآن، قاله مجاهد، وقتادة، وابن زيد. وَيَنْأَوْنَ بمعنى
__________
طريق الثوري عن حبيب عمن سمع ابن عباس عن ابن عباس، وهذا أصح فالإسناد فيه راو مجهول ومع ذلك صححه الحاكم! وسكت عنه الذهب!. ولا يصح وما يأتي عن ابن عباس أرجح، وانظر «تفسير الشوكاني» 890 بتخريجنا.
عزاه المصنف لمقاتل، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 426 عن مقاتل بدون إسناد ومع ذلك فهو معضل، ومقاتل هو ابن سليمان متهم بالكذب والخبر لم يصح بكل حال وهو واه بمرة.
أخرجه الطبري 13163 والبيهقي 2/ 341 من طريق علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس، وفيه إرسال بينهما. وله شواهد عند الطبري عن ابن الحنفية 13162 وعن السدي 13164. وفي الباب روايات.
__________
(1) نسب المصنف هذه الأبيات لأبي طالب ولم يصح ذلك من جهة الإسناد كما تقدم.
قوله «غضاضة» : الغض من الشيء التنقص «والتوسد» كناية عن الموت.
(2) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 173: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قول من قال: تأويله وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم من سواهم من الناس وينأون عن اتباعه. وذلك أن الآيات قبلها جرت بذكر جماعة المشتركين العادين به. والخبر عن تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والإعراض عما جاءهم به من تنزيل الله ووحيه، فالواجب أن يكون قوله: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ خبرا عنهم، إذا لم يأتنا ما يدل على انصراف الخبر عنهم إلى غيرهم، بل ما قبل هذه الآية وما بعدها، يدل على صحة ما قلنا من أن ذلك خبر عن جماعة مشركي قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن يكون خبرا عن خاص منهم. وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: وإن ير هؤلاء المشركون يا محمد، كل آية لا يؤمنوا بها، حتى إذا جاءوك يجادلونك يقولون: «إن هذا الذي جئتنا به إلا أحاديث الأولين وأخبارهم» . وهم ينهون من استماع التنزيل. وينأون عنك فيبعدون منك ومن أتباعك اهـ.(2/19)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
يبعدون. وفي هاء «عنه» قولان: أحدهما: أنها راجعة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم. والثاني: إلى القرآن.
قوله تعالى: وَإِنْ يُهْلِكُونَ أي: وما يهلكون إِلَّا أَنْفُسَهُمْ بالتباعد عنه وَما يَشْعُرُونَ أنّهم يهلكونها.
[سورة الأنعام (6) : آية 27]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27)
قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ في معنى «وقفوا» ستة أقوال. أحدها: حُبِسُوا عليها، قاله ابن السائب. والثاني: عُرِضُوا عليها، قاله مقاتل. والثالث: عاينوها. والرابع: وقفوا عليها وهي تحتهم. والخامس: دخلوا إليها فعرفوا مقدار عذابها، تقول: وقفت على ما عند فلان، أي فهمته وتبيَّنته، ذكر هذه الأقوال الثلاثة الزجاج، واختار الأخير. وقال ابن جرير: عَلَى هاهنا بمعنى «في» .
السادس: جعلوا عليها وقفا، كالوقوف المؤبَّدة على سبلها، ذكره الماورديّ. والخطاب بهذه الآية للنّبي صلى الله عليه وسلم، والوعيد للكفار، وجواب «لو» محذوف، ومعناه: لو رأيتهم في تلك الحال، لرأيت عجباً.
قوله تعالى: وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم برفع الباء من «نكذبُ» والنون من «نكونُ» .
قال الزجاج: والمعنى أنهم تمنَّوا الرد، وضمنوا أنهم لا يكذِّبون. والمعنى: يا ليتنا نُرَدُّ، ونحن لا نكذب بآيات ربِّنا، رُدِدْنا أو لم نُردَّ، ونكون من المؤمنين، لأنّا قد عاينّا مالا نكذب معه أبداً. قال:
ويجوز الرفع على وجه آخر، على معنى «يا ليتنا نرد» ، يا ليتنا لا نكذب، كأنهم تمنوا الرد والتوفيق للتصديق. وقال الأخفش: إذا رفعت جعلته على مثل اليمين، كأنهم قالوا: ولا نكذب- واللهِ- بآيات ربِّنا، ونكون- والله- من المؤمنين. وقرأ حمزة إلا العجليَّ «1» ، وحفص عن عاصم، ويعقوب: بنصب الباء من «نكذبَ» ، والنون من «نكونَ» . قال مكي بن أبي طالب: وهذا النصب على جواب التمني، وذلك بإضمار «أن» ، حملاً على مصدر «نرد» ، فأضمرت «أن» لتكون مع الفعل مصدراً، فعطف بالواو مصدراً على مصدر. وتقديره: يا ليت لنا ردّا، وانتفاء من التكذيب، وكوناً من المؤمنين. وقرأ ابن عامر برفع الباء من «نُكذبُ» ، ونصب النون من «نكون» بالرّفع قد بيَّنا علته، والنصب على جواب التمني.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 28 الى 29]
بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
قوله تعالى: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ «بل» : ها هنا ردّ لكلامهم، أي: ليس الأمر على ما قالوا من أنهم لو ردُّوا لآمنوا. وقال الزجاج: «بل» استدراك وإيجاب بعد نفي تقول: ما جاء زيد بل عمرو.
وفي معنى الآية أربعة أقوال: أحدها: بدا ما كان يخفيه بعضهم عن بعض، قاله الحسن. والثاني:
بدا بنطق الجوارح ما كانوا يخفون من قبل بألسنتهم، قاله مقاتل. والثالث: بدا لهم جزاء ما كانوا
__________
(1) العجلي: هو أبو أحمد عبد الله بن صالح بن مسلم بن صالح العجلي الكوفي نزيل بغداد مقرئ مشهور ثقة.
أخذ القراءة عرضا عن حمزة الزيات وعن سليم عن حمزة أيضا، مات في حدود العشرين ومائتين.(2/20)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
يخفونه، قاله المبرد. والرابع: بدا للأتباع ما كان يُخفيه الرؤساء، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ قال ابن عباس: لعادوا إلى ما نُهوا عنه من الشرك، وإنهم لكاذبون في قولهم: وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. قال ابن الانباري: كذَّبهم الله في إخبارهم عن أنفسهم أنهم إن رُدُّوا آمنوا ولم يكذبوا، ولم يكذِّبْهم في التمني.
قوله تعالى: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا هذا إِخبار عن منكري البعث.
(505) قال مقاتل: لما أخبر النبيّ صلى الله عليه وسلم كفار مكة بالبعث، قالوا هذا. وكان عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يقول: هذا حكاية قولهم، لو ردوا لقالوا «1» .
[سورة الأنعام (6) : آية 30]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قال مقاتل: عُرِضُوا على ربهم قالَ أَلَيْسَ هذا العذاب بِالْحَقِّ. وقال غيره: أليس هذا البعث حقا؟ فعلى قول مقاتل: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بالعذاب، وعلى قول غيره: تَكْفُرُونَ بالبعث.
[سورة الأنعام (6) : آية 31]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31)
قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ إنما وُصِفُوا بالخسران، لأنهم باعوا الإيمان بالكفر، فعظم خسرانهم. والمراد بلقاء الله: البعث والجزاء والساعة: القيامة والبغتة: الفجأة. قال الزجاج:
كلُّ ما أتى فجأة فقد بغت يقال: قد بغته الأمر يَبْغَتُه بَغْتاً وبغتةً: إذا أتاه فجأة. قال الشاعر:
وَلكَِنَّهم بانُوا وَلَمْ أَخْشَ بَغْتَةً ... وَأَفْظَعُ شيءٍ حِينَ يَفْجَؤُكَ البَغْتُ «2»
قوله تعالى: يا حَسْرَتَنا الحسرة: التلهف على الشيء الفائت، وأهل التفسير يقولون: يا ندامتنا.
فإن قيل: ما معنى دعاء الحسرة، وهي لا تعقِلُ؟ فالجواب: أن العرب إذا اجتهدت في المبالغة في الإخبار عن عظيم ما تقع فيه، جعلته نداءً، فتدخِلُ عليه «يا» للتنبيه، والمراد تنبيه الناس، لا تنبيه المنادي. ومثله قولهم: لا أرينّك ها هنا. لفظه لفظ الناهي لنفسه، والمعنى للمنهي ومن هذا قولهم:
يا خَيْلَ الله اركبي، يراد: يا فرسان خيل الله. وقال سيبويه: إذا قلتَ: يا عجباه، فكأنك قلت: احضر وتعال يا عَجَبُ، فهذا زمانك. فأما التفريط فهو: التضييع. وقال الزجاج: التفريط في اللغة: تقدمه العجز. وفي المكني عنه بقوله: «فيها» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الدنيا، فالمعنى: على ما ضيعنا في الدنيا من عمل الآخرة، قاله مقاتل. والثاني: أنها الصَّفقة، لأن الخسران لا يكون إلّا في صفقة، وترك
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الحديث.
__________
(1) انظر «تفسير البغوي» 2/ 92 والقرطبي 6/ 377.
(2) البيت ليزيد بن ضبة، وضبة أمه، واسم أبيه مقسم، «مجاز القرآن» 1/ 193 و «اللسان» بغت.(2/21)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
ذكرها اكتفاءً بذكر الخسران قاله ابن جرير. والثالث: أنها الطاعة ذكره بعض المفسرين.
فأما الأوزار، فقال ابن قتيبة: هي الآثام، وأصل الوزر: الحمل على الظهر. وقال ابن فارس:
الوزر: الثقل. وهل هذا الحمل حقيقة؟ فيه قولان: أحدهما: أنه على حقيقته. قال عمير بن هانئ:
يحشر مع كل كافر عمله في صورة رجل قبيح، كلمَّا كان هَوْلٌ عظَّمه عليه، وزاده خوفا، فيقول: بئس الجليس أنت، ما لي ولك؟ فيقول: أنا عملك، طالما ركبتني في الدنيا، فلأركبنك اليوم حتى أُخزيَك على رؤوس الناس، فيركبُه ويتخطى به الناس حتى يقف بين يدي ربه، فذلك قوله: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ وهذا قول السدي، وعمرو بن قيس الملائي، ومقاتل. والثاني: أنه مثل، والمعنى: يحملون ثقل ذنوبهم، قاله الزجاج. قال. فجعل ما ينالهم من العذاب بمنزلة أَثْقَلِ ما يُتحَمَّل.
ومعنى أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ: بئس الشيء شيئا يزرونه، أي يحملونه.
[سورة الأنعام (6) : آية 32]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32)
قوله تعالى: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: وما الحياة الدنيا في سرعة انقطاعها، وقصر عمرها إلا كالشيء يلعب به. والثاني: وما أمر الدنيا والعمل لها إلا لعب ولهو، فأما فعل الخير، فهو من عمل الآخرة، لا من الدنيا. والثالث: وما أهل الحياة الدنيا إلا أهل لعب ولهو، لاشتغالهم عما أمروا به. واللعب: ما لا يُجدي نفعاً.
قوله تعالى: وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ اللام: لام القسم، والدار الآخرة: الجنة «أفلا يعقلون» فيعملون لها. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو وحمزة، والكسائي، «يعقلون» بالياء، في الأنعام والأعراف ويوسف ويس، وقرءوا في القصص بالتاء. وقرأ نافع كل ذلك بالياء، وروى حفص، عن عاصم كل ذلك بالتاء، إلا في يس فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ «1» ، بالياء وقرأ ابن عامر الذي في يس بالياء، والباقي بالتاء.
[سورة الأنعام (6) : آية 33]
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
قوله تعالى: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ في سبب نزولها أربعة أقوال:
(506) أحدها: أن رجلا من قريش يقال له: الحارث بن عامر، قال: والله يا محمد ما كذبتنا قط فنتَّهِمَك اليوم، ولكنا إن نتَّبعْك نُتَخَطَّفْ من أرضنا، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
وقال مقاتل: كان الحارث بن عامر يكذِّب النبي في العلانية، فاذا خلا مع أهل بيته، قال: ما محمد من أهل الكذب، فنزلت فيه هذه الآية «2» .
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وراوية أبي صالح هو الكلبي، وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا.
__________
(1) سورة يس: 67.
(2) عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، وذكره الواحدي 430.(2/22)
والثاني: أن المشركين كانوا إذا رأوا النبي صلى الله عليه وسلم قالوا فيما بينهم: إنه لَنبي، فنزلت هذه الآية قاله أبو صالح «1» .
(507) والثالث: أن أبا جهل قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم: إنا لا نكذبك، ولكن نُكذب الذي جئت به، فنزلت هذه الآية، قاله ناجية بن كعب.
(508) وقال أبو يزيد المدني: لقي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل، فصافحه أبو جهل فقيل له:
أتصافح هذا الصابئ؟ فقال: والله إني لأعلم أنه نبي، ولكن متى كنا تبعاً لبني عبد مناف؟ فأنزل الله هذه الآية.
(509) والرابع: أن الأخنس بن شريق لقي أبا جهل فقال الأخنس: يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد، أصادق هو، أم كاذب؟ فليس ها هنا من يسمع كلامك غيري. فقال أبو جهل: والله إن محمداً لصادق، وما كذب قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء، والسقاية، والحجابة، والنُّبوة، فماذا يكون لسائر قريش؟ فنزلت هذه الآية، قاله السّدّيّ، ذكره الطبريّ مطوّلا.
فأما الذي يقولون، فهو التّكذيب للنبيّ صلى الله عليه وسلم، والكفر بالله. وفي الآية تسلية للنبيّ صلى الله عليه وسلم وتعزية عما يواجهونه به.
قوله تعالى: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ قرأ نافع، والكسائي: «يُكْذِبُونَك» بالتخفيف وتسكين الكاف.
وفي معناها قولان: أحدهما: لا يُلْفُونَك كاذباً قاله ابن قتيبة. والثاني: لا يكذِّبون الشيء الذي جئت به، إنما يجحدون آياتِ الله، ويتعرَّضون لعقوباته. قال ابن الأنباري: وكان الكسائي يحتج لهذه القراءة بأن العرب تقول: كذبْتُ الرجل: إذا نسبْتَه إلى الكذب وصنعة الأباطيل من القول وأكذبتُه: إذا أخبرتَ أن الذي يحدث به كذب، ليس هو الصانع له. قال: وقال غير الكسائي: يقال: أكذبتُ الرجل: إذا أدخلتَه في جملة الكذابين، ونسبتَه إلى صفتهم، كما يقال: أبخلتُ الرجل: إذا نسبتَه إلى البخل، وأجبنتُه: إذا وجدتَه جبانا. قال الشاعر:
فَطَائِفَةٌ قَدْ أكْفَرُونِي بِحُبِّكُمْ ... وَطَائِفَةٌ قالوا مُسِيءٌ ومذنب «2»
__________
ورد موصولا ومرسلا. أخرجه الترمذي 3064 والحاكم 2/ 315 ح 3230 كلاهما عن ناجية بن كعب عن علي به، صححه الحاكم على شرطهما، وتعقبه الذهبي بقوله: لم يخرجا لناجية شيئا ا. هـ، وكرره الترمذي عن ناجية مرسلا، وكذا الطبري 13197 و 13198 وصوب الترمذي المرسل. والله أعلم. انظر والقرطبي 2195 بتخريجنا.
أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير «ابن كثير» 2/ 167 عن أبي يزيد مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
وأخرجه أبو الشيخ كما في «الدر المنثور» 3/ 18 عن أبي يزيد مرسلا نحوه.
أخرجه الطبري 13196 عن السدي مرسلا. وذكره الواحدي بقوله السدي. فذكره. وهذا ضعيف فالسدي فيه ضعف إن وصل الحديث فكيف إذا أرسله.
- الخلاصة: أكثر الأقوال أنها نزلت في شأن أبي جهل، فهذه الروايات تتأيد بمجموعها.
__________
(1) عزاه المصنف لأبي صالح، وليس بشيء.
(2) البيت للكميت بن زيد الأسدي من قصيدته الرائعة في مدح آل البيت. [.....](2/23)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة وابن عامر: «يكَذِّبونك» بالتشديد وفتح الكاف وفي معناها خمسة أقوال: أحدها: لا يكذِّبونك بحجة، وإنما هو تكذيب عِناد وبَهْتٍ، قاله قتادة، والسدي. والثاني: لا يقولون لك: إنك كاذب، لعلمهم بصدقك، ولكن يكذِّبون ما جئت به، قاله ناجية ابن كعب. والثالث: لا يكذِّبونك في السر، ولكن يكذِّبونك في العلانية، عداوةً لك، قاله ابن السائب، ومقاتل. والرابع: لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به مما في كتبهم: كذبت. والخامس:
لا يكذِّبونك بقلوبهم، لأنهم يعلمون أنك صادق، ذكر القولين الزجاج. وقال أبو علي: يجوز أن يكون معنى القراءتين واحداً وإن اختلفت اللفظتان، إلا أن «فعّلتُ» : إذا أرادوا أن ينسبوه إلى أمر أكثر من «فعلت» . ويؤكد أنَّ القراءتين بمعنىً، ما حكاه سيبويه أنهم قالوا: قلَّلتُ، وأقللت، وكثَّرتُ، وأكثرت بمعنىً. قال أبو علي: ومعنى «لا يكذِّبونك» : لا يقدرون أن ينسبوك إلى الكذب فيما أخبرتَ به مما جاء في كتبهم، ويجوز أن يكون معنى الحقيقة: لا يصادفونك كاذباً، كما تقول: أحمدت فلانا: إذا أصبتَه محموداً، لأنهم يعرفونك بالصدق والأمانة وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ بألسنتهم ما يعلمونه يقينا، لعنادهم. وفي «آيات الله» ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أنها محمد صلى الله عليه وسلم، قاله السدي. والثاني:
محمد والقرآن، قاله ابن السّائب. والثالث: القرآن، قاله مقاتل.
[سورة الأنعام (6) : آية 34]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
قوله تعالى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ هذه تعزية له على ما يلقى منهم. قال ابن عباس:
فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا رجاء ثوابي، وَأُوذُوا حتى نُشروا بالمناشير، وحُرقوا بالنار حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا بتعذيب من كذبهم.
قوله تعالى: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ فيه خمسة أقوال: أحدها: لا خُلْفَ لمواعيده، قاله ابن عباس. والثاني: لا مبدِّل لما أخبر به وما أمر به، قاله الزجاج. والثالث: لا مبدل لحكوماته وأقضيته النافذة في عباده، فعبّرت الكلمات عن هذا المعنى، كقوله تعالى: وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي: وجب ما قضي عليهم. فعلى هذا القول، والذي قبله، يكون المعنى: لا مبدل لحكم كلمات الله، ولا ناقض لما حكم به، وقد حكم بنصر أنبيائه بقول: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» . والرابع:
أن معنى الكلام معنى النهي، وإن كان ظاهره الإخبار فالمعنى: لا يُبدِّلَن أحد كلمات الله، فهو كقوله:
لا رَيْبَ فِيهِ. والخامس: أن المعنى: لا يقدر أحد على تبديل كلام الله، وإن زخرف واجتهد، لأن الله تعالى صانه برصين اللفظ، وقويم الحكم، أن يختلط بألفاظ أهل الزيغ، ذكر هذه الألفاظ الثلاثة ابن الأنباري.
قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي: فيما صبروا عليه من الأذى فنُصروا. وقيل: إن «مِن» صلة.
__________
(1) سورة المجادلة: 21.(2/24)
وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
[سورة الأنعام (6) : آية 35]
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35)
قوله تعالى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ.
(510) سبب نزولها: أنّ الحارث بن عامر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من قريش فقال: يا محمد، ائتنا بآية كما كانت الأنبياء تأتي قومها بالآيات، فإن فعلت آمنا بك، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
و «كبر» : بمعنى «عظم» . وفي إعراضهم قولان: أحدهما: عن استماع القرآن. والثاني: عن اتباع النبيّ صلى الله عليه وسلم. فأما «النفق» ، فقال ابن قتيبة: النفق في الأرض: المدخل، وهو السَّرب. والسُّلَّم في السماء: المصعد. وقال الزجاج: النفق: الطريق النافذ في الأرض. والنافقاء، ممدود: أحد جحِرة اليربوع يَخرِقه من باطن الأرض إلى جلدة الأرض، فاذا بلغ الجلدة أرقَّها، حتى إنْ رابه ريب، دفع برأسه ذلك المكان وخرج، ومنه سمي المنافق، لأنه أبطن غير ما أظهر، كالنافقاء الذي ظاهره غير بين، وباطنه حفر في الأرض. و «السلّم» مشتق من السلامة، وهو الشيء الذي يسلّمك إلى مصعدك.
والمعنى: فان استطعت هذا فافعل، وحذف «فافعل» ، لأن في الكلام دليلا عليه. وقال أبو عبيدة:
السلّم: السبب والمرقاة، تقول: اتخذتني سُلَّماً لحاجتك، أي: سببا. وفي قوله تعالى: فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ قولان: أحدهما: بآية قد سألوك إيّاها، وذلك أنهم سألوا نزول ملك الموت، ومثل آيات الأنبياء، كعصا موسى، وناقة صالح. والثاني: بآية هي أفضل من آيتك.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لو شاء أن يطبعهم على الهدى لطبعهم. والثاني: لو شاء لأنزل ملائكة تضطرُّهم إلى الإيمان. ذكرهما الزجاج. والثالث: لو شاء لآمنوا كلهم، فأخبر إنما تركوا الإيمان بمشيئته، ونافذ قضائه.
قوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: لا تجهل أنه لو شاء لجمعهم على الهدى. والثاني: لا تجهل أنه يؤمن بك بعضهم، ويكفر بعضهم. والثالث: لا تكونن ممن لا صبر له، لأن قلة الصبر من أخلاق الجاهلين.
[سورة الأنعام (6) : آية 36]
إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
قوله تعالى: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ أي: إنما يجيبك من يسمع، والمراد به سماع قبول.
وفي المراد بالموتى قولان: أحدهما: أنهم الكفار، قاله الحسن، ومجاهد وقتادة، فيكون المعنى: إنما يستجيب المؤمنون فأما الكفار، فلا يستجيبون حتى يبعثهم الله تعالى: ثم يحشرهم كفاراً، فيجيبون اضطراراً. والثاني: أنهم الموتى حقيقة، ضربهم الله تعالى مثلاً والمعنى: أن الموتى لا يستجيبون حتى يبعثهم الله، فكذلك الذين لا يسمعون.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس، وراويته هو الكلبي، وقد كذبه غير واحد، فالخبر لا شيء.(2/25)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
قوله تعالى: ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ يعني: المؤمنين والكافرين، فيجازي الكلّ.
[سورة الأنعام (6) : آية 37]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)
قوله تعالى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قال ابن عباس: نزلت في رؤساء قريش.
و «لولا» : بمعنى «هلاّ» وقد شرحناها في سورة النساء.
وقال مقاتل: أرادوا بالآية مثل آيات الأنبياء. وقال غيره: أرادوا نزول ملك يشهد له بالنبوَّة.
وفي قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ثلاثة أقوال: أحدها: لا يعلمون بأنّ الله سبحانه وتعالى قادر على إنزال الآية. والثاني: لا يعلمون ما عليهم من البلاء في إنزالها، لأنهم إن لم يؤمنوا بها، زاد عذابهم. والثالث: لا يعلمون المصلحة في نزول الآية.
[سورة الأنعام (6) : آية 38]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
قوله تعالى: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ قال ابن عباس: يريد كل ما دبَّ على الأرض. قال الزجاج:
وذكر الجناحين توكيد، وجميع ما خُلق لا يخلو إما أن يدبّ، وإمّا أن يطير.
وقوله تعالى: إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ قال مجاهد: أصناف مصنفة. وقال أبو عبيدة: أجناس يعرفون الله ويعبدونه. وفي معنى «أمثالكم» أربعة أقوال: أحدها: أمثالكم في كون بعضها يفقه عن بعض، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: في معرفة الله، قاله عطاء. والثالث: أمثالكم في الخلق والموت والبعث، قاله الزجاج. والرابع: أمثالكم في كونها تطلب الغذاء، وتبتغي الرزق، وتتوقَّى المهالك، قاله ابن قتيبة. قال ابن الانباري: وموضع الاحتجاج من هذه الآية أن الله تعالى ركَّب في المشركين عقولاً، وجعل لهم أفهاما ألزمهم بها أن يتدبَّروا أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم ويتمسكوا بطاعته، كما جعل للطير أفهاما يعرف بها بعضها إشارة بعض، وهدى الذَّكَرَ منها لإتيان الأنثى، وفي كل ذلك دليل على نفاذ قدرة المركب ذلك فيها.
قوله تعالى: ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ في الكتاب قولان: أحدهما: أنه اللوح المحفوظ.
روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس: ما تركنا شيئا إلا وقد كتبناه في أم الكتاب، وإلى هذا المعنى ذهب قتادة، وابن زيد. والثاني: أنه القرآن. روى عطاء عن ابن عباس: ما تركنا من شيء إلا وقد بيناه لكم.
فعلى هذا يكون من العام الذي أريد به الخاص، فيكون المعنى: ما فرطنا في شيء بكم إليه حاجة إلا وبيناه في الكتاب، إما نصاً، وإما مجملاً، وإما دلالة، كقوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ «1» أي: لكل شيء يحتاج إليه في أمر الدين.
قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فيه قولان «2» : أحدهما: أنه الجمع يوم القيامة.
__________
(1) سورة النحل: 89.
(2) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 188: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن كل دابة وطائر محشور إليه، وجائز أن يكون معنيا بذلك حشر القيامة، وجائز أن يكون معنيا به حشر الموت، وجائز أن يكون معنيا به الحشرات جميعا، ولا دلالة في ظاهر التنزيل، ولا في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم أي ذلك المراد بقوله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ إذ كان (الحشر) في كلام العرب الجمع، من ذلك قول الله تعالى ذكره جامعا خلقه إليه يوم القيامة، وجامعهم بالموت، كان أصوب القول في ذلك أن يعم بمعنى الآية ما عمه الله بظاهرها. وأن يقال: كل دابة وكل طائر محشور إلى الله بعد الفناء وبعد بعث القيامة، إذ كان الله تعالى ذكره قد عم بقوله: «ثم إلى ربهم يحشرون» ولم يخصص به حشر دون حشر. فإن قال قائل: فما وجه قوله وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بجناحيه وهل يطير الطائر إلا بجناحيه فما في الخبر عن طيرانه بالجناحين من الفائدة؟ قيل: قد قدمنا القول فيما مضى أن الله تعالى ذكره أنزل هذا الكتاب بلسان قوم، وبلغاتهم وما يتعارفونه بينهم ويستعملونه في منطقهم خاطبهم. فإذا كان من كلامهم إذا أرادوا المبالغة في الكلام أن يقولوا: (كلمت فلانا بفمي) ، و (مشيت إليه برجلي) و (ضربته بيدي) خاطبهم الله تعالى بنظير ما يتعارفونه في كلامهم، ويستعملونه في خطابهم، ومن ذلك قوله تعالى ذكره: إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً [ص: 23] .(2/26)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40)
(511) روى أبو ذر قال: «انتطحت شاتان عند النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا ذر، أتدري فيما انتطحتا؟
قلت: لا. قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما» .
(512) وقال أبو هريرة: يحشر الله الخلق يوم القيامة، البهائم والدواب والطير وكل شيء، فيبلغ من عدله أن يأخذ للجمَّاء من القرناء، ثم يقول: كوني تراباً، فيقول الكافر: يا ليتني كنت ترابا.
والثاني: أن معنى حشرها: موتها، قاله ابن عباس، والضّحّاك.
[سورة الأنعام (6) : آية 39]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم صُمٌّ عن القرآن لا يسمعونه، وَبُكْمٌ عنه لا ينطقون به فِي الظُّلُماتِ أي: في الشرك والضلالة. مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ فيموت على الكفر وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو الإسلام.
[سورة الأنعام (6) : آية 40]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40)
قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ قرأ ابن كثير، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة: «أرأيتم»
__________
حسن. أخرجه أحمد 5/ 173 والبزار 350 و 3451 «كشف» من حديث أبي ذر وفي إسناده ليث بن أبي سليم غير قوي، وبقية رجاله ثقات وقد توبع فقد أخرجه أحمد 5/ 162 والطبري 13226 وفيه راو لم يسم وأخرجه الطبري 13227 عن منذر الثوري عن أبي ذر. وهذا منقطع بين أبي ذر ومنذر الثوري.
والصواب الرواية المتقدمة حيث رواه منذر عن أشياخ له عن أبي ذر. وبكل حال الحديث حسن بطرقه وفي الباب أحاديث تعضده وانظر ما بعده، وانظر «الشوكاني» 894 بتخريجنا.
موقوف صحيح أخرجه عبد الرزاق في «التفسير» 786 ومن طريقه الطبري 13225 عن أبي هريرة موقوفا، وإسناده صحيح. وورد بعضه مرفوعا. أخرجه مسلم 2582 والترمذي 2420 وعبد الرزاق 34765 وأحمد 2/ 323 وابن حبان 8363 عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء) وله شواهد. انظر «تفسير الشوكاني» 895 و «تفسير القرطبي 2896 بتخريجنا.(2/27)
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43)
و «أرأيتكم» و «أرأيت» بالألف في كل القرآن مهموزاً وليَّن الهمزة نافع في الكل. وقرأ الكسائي بغير همز ولا ألف. قال الفراء: العرب تقول: أرأيتك، وهم يريدون: أخبرني.
فأمّا عذاب الله، ففي المراد به ها هنا قولان: أحدهما: أنه الموت، قاله ابن عباس. والثاني:
العذاب الذي كان يأتي الأمم الخالية، قاله مقاتل. فأما الساعة، فهي القيامة. قال الزجاج: وهو اسم للوقت الذي يصعق فيه العباد، وللوقت الذي يبعثون فيه.
قوله تعالى: أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ أي: أتدعون صنماً أو حجراً لكشفِ ما بكم؟! فاحتج عليهم بما لا يدفعونه، لأنهم كانوا إذا مسهم الضر دعوا الله.
وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ جواب لقوله تعالى: «أرأيتكم» ، لأنه بمعنى أخبروا، كأنه قيل لهم: إن كنتم صادقين، فأخبروا من تدعون عند نزول البلاء بكم؟.
[سورة الأنعام (6) : آية 41]
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)
قوله تعالى: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ قال الزجاج: أعلمهم أنهم لا يدعون في الشدائد إلا إياه وفي ذلك أعظم الحجج عليهم، لأنهم عبدوا الأصنام. فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ المعنى: فيكشف الضر الذي من أجله دعوتم، وهذا على اتساع الكلام مثل قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» ، أي: اهل القرية. وَتَنْسَوْنَ: يجوز أن يكون بمعنى «تتركون» ويجوز أن يكون المعنى: إنكم في ترككم دعاءهم بمنزلة من قد نسيهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 42]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
قوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ في الآية محذوف، تقديره: ولقد أرسلنا إلى أُمم من قبلك رسلا فخالفوهم، فأخذناهم بالبأساء وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الزمانة والخوف، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أنها البؤس، وهو الفقر، قاله ابن قتيبة. والثالث: أنها الجوع، ذكره الزجاج. وفي الضرَّاء ثلاثة أقوال: أحدها: البلاء، والجوع، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني:
النقص في الأموال والأنفس، ذكره الزجاج. والثالث: الاسقام والأمراض، قاله أبو سليمان.
قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ أي: لكي يتضرعوا. والتضرع: التذلل والاستكانة. وفي الكلام محذوف تقديره: فلم يتضرّعوا.
[سورة الأنعام (6) : آية 43]
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43)
قوله تعالى: فَلَوْلا معناه: «فهلاَّ» . والبأس: العذاب. ومقصود الآية: أن الله تعالى أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم أنه قد أرسل إلى قوم قبله بلغوا من القسوة أنهم أخذوا بالشدائد، فلم يخضعوا، وأقاموا على كفرهم، وزين لهم الشيطان ضلالتهم فأصرّوا عليها.
__________
(1) سورة يوسف: 82.(2/28)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
[سورة الأنعام (6) : آية 44]
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
قوله تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ قال ابن عباس: تركوا ما وعظوا به. فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ يريد رخاء الدنيا وسرورها. وقرأ أبو جعفر، وابن عامر: «فتَّحنا» بالتشديد هنا وفي الأعراف، وفي الأنبياء: «فُتِّحت» ، وفي القمر: «فتّحنا» ، والجمهور على تخفيفهن. قال الزجاج:
أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير، حتى إذا ظنوا أن ما كان نزل بهم، لم يكن انتقاماً، وما فُتح عليهم، باستحقاقهم، أخذناهم بغتة، أي: فاجأهم عذابنا.
وقال ابن الانباري: إنما أراد بقوله تعالى: «كل شيء» : التأكيد، كقول القائل: أكلنا عند فلان كلَّ شيء، وكنا عنده في كل سرور، يريد بهذا العموم تكثير ما يصفه والإطناب فيه، كقوله تعالى: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «1» . وقال الحسن: من وُسِّع عليه فلم ير أنه لم يُمكر به، فلا رأي له ومن قُتِّر عليه فلم ير أنه ينظر له، فلا رأي له، ثم قرأ هذه الآية، وقال: مُكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجاتهم ثم أُخذوا.
قوله تعالى: فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ في المبلس خمسة اقوال: أحدها: أنه الآيس من رحمة الله عزّ وجلّ، رواه الضحاك عن ابن عباس وقال في رواية أخرى: الآيس من كل خير. وقال الفراء:
المبلس: اليائس المنقطع رجاؤه، ولذلك قيل للذي يسكت عند انقطاع حجته، فلا يكون عنده جواب:
قد أبلس. قال العجَّاج:
يا صَاحِ هَلْ تعْرِفُ رَسْماً مُكْرَساً ... قَالَ نَعَمْ! أعْرِفُه! وأبْلَسَا «2»
أي: لم يَحِرْ جواباً. وقيل: المكرس: الذي قد بعرت فيه الإبل، وبوَّلت، فيركب بعضه بعضاً.
والثاني: أنه المفتضح. قال مجاهد: الإبلاس: الفضيحة. والثالث: أنه المهْلك، قاله السدي. والرابع:
أنه المجهود المكروب الذي قد نزل به من الشّر ما لا يستطيعه، قاله ابن زيد. والخامس: أنه الحزين النادم، قاله أبو عبيدة، وأنشد لرؤبة:
وحَضَرتْ يوم الخميس الأخماس ... وفي الوجوه صُفرةٌ وإِبلاس
أي: اكتئاب، وكسوف، وحزن. وقال الزجاج: هو الشديد الحسرة، الحزين، اليائس. وقال في موضع آخر: المبلس: السّاكت المتحيّر.
[سورة الأنعام (6) : آية 45]
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
قوله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا قال ابن السائب: دابرهم: الذي يتخلف في آخرهم.
والمعنى: أنهم استؤصلوا. وقال أبو عبيدة: دابرهم: آخرهم الذي يدبرهم: قال ابن قتيبة: هو كما
__________
(1) سورة النمل: 23.
(2) في «اللسان» كرس، تكرس الشيء تكارس أي تراكم وتلازب. وأبلس: سكت غما.(2/29)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
يقال: اجتُثَّ أصلهم. قال المفسرون: وإنما حمد نفسه على قطع دابرهم، لأن ذلك إنعام على رسلهم الذين كذبوهم، وعلّم الحمد على كفايته شرّ الظّالمين.
[سورة الأنعام (6) : آية 46]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46)
قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ أي: أذهبها وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ حتى لا تعرفون شيئا مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ؟ في هاء «به» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تعود على الفعل، والمعنى: يأتيكم بما أخذ الله منكم، قاله الزجاج. وقال الفراء: إذا كنيت عن الأفاعيل، وإن كثرتْ، وحَّدتَ الكناية، كقولك للرجل: إقبالك وإدبارك يؤذيني. والثاني: أنها تعود إلى الهدى، ذكره الفراء.
فعلى هذا تكون الكناية عن غير مذكور، ولكن المعنى يشتمل عليه، لأن من أُخذ سمعه وبصره وُختم على قلبه لم يهتد. والثالث: أنها تعود على السمع، ويكون ما عُطف عليه داخلاً معه في القصة، لأنه معطوف عليه، ذكره الزّجّاج. والجمهور يقرءون: مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ بكسر هاء «به» .
وروى المسيبَّي عن نافع: «بهُ انظر» : بالضم. قال أبو علي: من كسر، حذف الياء التي تلحق الهاء في نحو: بهي عيب، ومن ضم، فعلى قول من قال: فخسفنا بهو بدارهو الأرض، فحذف الواو.
قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ قال مقاتل: يعني تكون العلامات في أُمور شتى، فيخوفهم بأخذ الأسماع والأبصار والقلوب، وبما صُنع بالأُمم الخالية ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ، أي:
يعرضون فلا يعتبرون.
[سورة الأنعام (6) : آية 47]
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً قال الزجاج: البغتة: المفاجأة والجهرة: أن يأتيهم وهم يرونه. هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ أي: هل يهلك إلا أنتم ومن أشبهكم، لأنكم كفرتم معاندين، فقد علمتم أنكم ظالمون.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 48 الى 49]
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
قوله تعالى: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ أي: بالثواب ومنذرين بالعقاب وليس إرسالهم ليأتوا بما يقترحونه من الآيات. ثم ذكر ثواب من صدق، وعقاب من كذب في تمام الآية والتي بعدها.
وقال ابن عباس: يفسقون: بمعنى يكافرون.
[سورة الأنعام (6) : آية 50]
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)
قوله تعالى: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ.(2/30)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
(513) سبب نزولها: أن أهل مكة قالوا: يا محمد، لو أنزل الله عليك كنزاً فتستغني به، فانك فقير محتاج أو تكون لك جنة تأكل منها، فانك تجوع، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
قال الزّجّاج: وهذه الآية متّصلة بقوله تعالى: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ، فأعلمهم أنه لا يملك خزائن الله التي منها يرزق ويعطي، ولا يعلم الغيب فيخبرهم به إلا بوحي، ولا يقول: إنه مَلَكٌ، لأن الملك يشاهد من أمور الله تعالى ما لا يشاهده البشر. وقرأ ابن مسعود، وابن جبير، وعكرمة، والجحدري: «إني ملك» بكسر اللام. وفي الأعمى والبصير قولان:
أحدهما: أن الأعمى: الكافر، والبصير: المؤمن، قاله ابن عباس، وقتادة.
والثاني: الأعمى: الضال، والبصير: المهتدي، قاله سعيد بن جبير، ومجاهد.
وفي قوله تعالى: أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ قولان: أحدهما: فيما بُيِّن لكم من الآيات الدالة على وحدانيته وصدق رسوله. والثاني: فيما ضُرب لكم من مثل الأعمى والبصير وأنهما لا يستويان.
[سورة الأنعام (6) : آية 51]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)
قوله تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ قال الزجاج: يعني بالقرآن، وإنما ذكر الذين يخافون الحشر دون غيرهم، وإن كان مُنْذِراً لجميع الخلق، لأن الحجة على الخائفين الحشر أظهر، لاعترافهم بالمعاد، فهم أحد رجلين: إما مسلم، فيُنذَر ليؤديَ حق الله عليه في إسلامه، وإما كتابي، فأهل الكتاب مجمعون على البعث. وذِكر الولي والشفيع، لأن اليهود والنصارى ذكرت أنها أبناء الله وأحبّاؤه، فأعلم عزّ وجلّ أن أهل الكفر ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع. وقال غيره: ليس لهم من دونه ولي، أي: ليس لهم غير الله ولي ولا شفيع، لأن شفاعة الشافعين بأمره.
وقال أبو سليمان الدمشقي: هذه الآية متعلقة بقوله: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ «1» . روى سعد بن أبي وقّاص قال:.
[سورة الأنعام (6) : آية 52]
وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)
قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، روى سعد بن أبي وقاص قال:
(514) نزلت هذه الآية في ستة: فيّ، وفي ابن مسعود، وصهيب، وعمار، والمقداد، وبلال.
قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا لا نرضى أن نكون أتباعا لهؤلاء، فاطردهم عنك. فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك ما شاء الله أن يدخل، فنزلت هذه الآية.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهي رواية ساقطة واهية، وتقدم الكلام على ذلك مرارا.
حسن. أخرجه الطبري 13266 عن سعد وإسناده حسن وانظر ما بعده.
__________
(1) سورة الأنعام: 19.(2/31)
(515) وقال خباب بن الأرتِّ: نزلت فينا، كنا ضعفاء عند النبيّ صلى الله عليه وسلم يعلّمنا بالغداة والعشي ما ينفعنا، فجاء الأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، فقالا: إنا من أشراف قومنا، وإنا نكره أن يرونا معهم، فاطردهم إذا جالسناك. قال: «نعم» . فقالوا: لا نرضى حتى تكتب بيننا كتاباً، فأتُي بأديم ودواة، ودعا علياً ليكتب، فلما أراد ذلك، ونحن قعود في ناحية، إذ نزل جبريل بقوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ إلى قوله: فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، فرمى بالصحيفة ودعانا، فأتيناه وهو يقول: «سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة» . فدنونا منه يومئذ حتى وضعنا ركبنا على ركبته.
(516) وقال ابن مسعود: مرّ الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده خبَّاب، وصهيب، وبلال، وعمَّار، فقالوا: يا محمد، رضيتَ بهؤلاء، أتريد أن نكون تبعاً لهم؟! فنزلت: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ.
(517) وقال عكرمة: جاء عتبة، وشيبة ابنا ربيعة، ومطعم بن عدي والحارث بن نوفل، في أشراف بني عبد مناف، إلى أبي طالب فقالوا: لو أن ابن أخيك يطرد عنه موالينا وعبيدنا كان أعظم في صدورنا، وأدنى لاتِّباعنا إياه، فأتاه أبو طالب فحدثه بذلك، فقال عمر بن الخطاب: لو فعلت ذلك حتى ننظر ما الذي يريدون، فنزلت هذه الآيات، فأقبل عمر يعتذر من مقالته.
(518) وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن هذه الآيات نزلت في الموالي، منهم بلال، وصهيب، وخبّاب، وعمّار، ومهجع، وسلمان، وعامر بن فهيرة، وسالم مولى أبي حذيفة وأن قوله:
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ نزلت فيهم أيضا.
(519) وقد روى العوفي عن ابن عباس: أنّ أناسا من الأشراف قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: نؤمن لك، وإذا صلينا فأخِّر هؤلاء الذين معك، فليصلوا خلفنا. فعلى هذا، إنما سألوه تأخيرهم عن الصّفّ، وعلى
__________
ضعيف. أخرجه ابن ماجة 4127 والطبري 13261، والواحدي في «الوسيط» 2/ 247 وفي «أسباب النزول» 432 من حديث خباب بن الأرتّ وإسناده ضعيف أبو سعد قارئ الأزد وعبد الله بن عامر أبو الكنود كلاهما مجهول. وللمتن علة أخرى: وهي كون الخبر مدني والسورة مكية، ولذا استغربه الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 173 وقال: فالآية مكية، والخبر مدني اهـ قلت: قدوم الأقرع وعيينة كان في المدينة.
- وأصلح من ذلك كله ما أخرجه: مسلم 2413 والنسائي في «التفسير» 183 وابن ماجة 4128 وأبو يعلى 826 والطبري 13266 والواحدي 431 والحاكم 3/ 319 عن سعد بن أبي وقاص قال: نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنا وابن مسعود وبلال ورجل من هذيل، ورجلان لست أسميهما. فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم اطردهم لا يجترءون علينا فنزلت» اهـ. وانظر «تفسير الشوكاني» 897 و 798 بتخريجنا.
حديث حسن. أخرجه أحمد 3975 والبزار 2209 والطبراني 10520 والواحدي 433 من حديث ابن مسعود، وقال الهيثمي في «المجمع» 10997: رجال أحمد رجال الصحيح غير كردوس، وهو ثقة. اهـ.
ويشهد له ما تقدم عن سعد من حديث ابن مسعود. انظر «تفسير الشوكاني» 897 وابن كثير 2/ 172 و 173.
بتخريجنا.
أخرجه الطبري 13267 عن عكرمة مرسلا والمرسل من قسم الضعيف، وانظر «تفسير ابن كثير» 2/ 173.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس، وراويته الكلبي يضع الحديث، والمتن منكر جدا بذكر سلمان فإن إسلامه كان في المدينة، والسورة مكية.
أخرجه الطبري 13386 عن ابن عباس به، وإسناده ضعيف جدا، فيه عطية العوفي ضعيف، وعنه مجاهيل.(2/32)
الأقوال التي قبله، سألوه طردهم عن مجلسه.
قوله تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ في هذا الدعاء خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه الصلاة المكتوبة، قاله ابن عمر، وابن عباس. وقال مجاهد: هي الصلوات الخمس وفي رواية عن مجاهد، وقتادة قالا:
يعني صلاة الصبح والعصر. وزعم مقاتل أن الصلاة يومئذ كانت ركعتين بالغداة، وركعتين بالعشي ثم فرضت الصلوات الخمس بعد ذلك. والثاني: أنه ذكر الله تعالى، قاله إبراهيم النخعي، وعنه كالقول الأول. والثالث: أنه عبادة الله، قاله الضحاك. والرابع: أنه تعلم القرآن غدوة وعشية، قاله أبو جعفر.
والخامس: أنه دعاء الله بالتوحيد، والإخلاص له، وعبادته، قاله الزجاج.
وقرأ الجمهور: «بالغداة» وقرأ ابن عامر ها هنا وفي سورة الكهف أيضا: «بالغُدْوَةِ» بضم الغين وإسكان الدال وبعدها واو. قال الفراء: والعرب لا تدخل الألف واللام على «الغدوة» لأنها معرفة بغير ألف ولام، ولا تضيفها العرب يقولون: أتيتك غداة الخميس، ولا يقولون: غُدوة الخميس، فهذا دليل على أنها معرفة. وقال أبو علي: الوجه: الغداة، لأنها تستعمل نكرة، وتتعرف باللام وأما غُدوة، فمعرفة. وقال الخليل: يجوز أن تقول: أتيتك اليوم غُدوة وبُكرة، فجعلها بمنزلة ضحوة، فهذا وجه قراءة ابن عامر.
فان قيل: دعاء القوم كان متصلاً بالليل والنهار، فلماذا خص الغداة والعشي؟
فالجواب: أنه نبه بالغداة على جميع النهار، وبالعشي على الليل، لأنه إذا كان عمل النهار خالصا له، كان عمل الليل أصفى.
قوله تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قال الزّجّاج: أي يريدون الله، فشهد الله لهم بصحة النيات، وأنهم مخلصون في ذلك. وأما الحساب المذكور في الآية، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حساب الأعمال،
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 203- 204: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يطرد قوما كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي «والدعاء لله» يكون بذكره وتمجيده والثناء عليه قولا وكلاما، وقد يكون بالعمل له بالجوارح، الأعمال التي كان عليهم فرضها، وغيرها من النوافل التي ترضي عن العامل له عابده بما هو عامل له، وقد يجوز أن يكون القوم كانوا جامعين هذه المعاني كلها فوصفهم الله بذلك بأنهم يدعونه بالغداة والعشي، لأن الله قد سمى «العبادة» «دعاء» فقال تعالى ذكره وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر: 6] وقد يجوز أن يكون ذلك على خاص من الدعاء. ولا قول أولى بذلك بالصحة من وصف القوم بما وصفهم الله به: من أنهم كانوا يدعون ربهم بالغداة والعشي فيعمون بالصفة التي وصفهم بها ربهم ولا يخصون منها بشيء من دون شيء.
فتأويل الكلام إذا: يا محمد أنذر بالقرآن الذي أنزلته إليك، الذين يعلمون أنهم إلى ربهم محشورون فهم من خوف ورودهم على الله الذي لا شفيع لهم من دونه ولا نصير في العمل له دائبون إذا أعرض عن إنذارك واستماع ما أنزل الله عليك المكذبون بالله واليوم الآخر من قومك استكبارا على الله ولا تطردهم ولا تقصهم، فتكون ممن وضع الإقصاء في غير موضعه، فأقصى وطرد من لم يكن له طرده وإقصاؤه، وقرب من لم يكن له تقديمه بقربه وإدنائه فإن الذين نهيتك عن طردهم هم الذين يدعون ربهم فيسألون عفوه ومغفرته بصالح أعمالهم، وأداء ما ألزمهم من فرائضه، ونوافل تطوعهم، وذكرهم إياه بألسنتهم بالغداة والعشي يلتمسون بذلك القربة إلى الله، والدنو من رضاه ا. هـ.(2/33)
وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
قاله الحسن. والثاني: حساب الأرزاق. والثالث: أنه بمعنى الكفاية. والمعنى: ما عليك من كفايتهم، ولا عليهم كفايتك.
قوله تعالى: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ قال ابن الأنباري: عظم هذا الأمر على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخُوِّفَ بالدخول في جملة الظالمين، لأنه كان قد همّ بتقديم الرّؤساء على الضّعفاء.
[سورة الأنعام (6) : آية 53]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ المعنى: وكما ابتلينا قبلك الغني بالفقير، ابتلينا أيضاً بعضهم ببعض. و «فتنا» بمعنى: ابتلينا واختبرنا لِيَقُولُوا، يعني الكبراء: أَهؤُلاءِ
يعنون الفقراء والضعفاء مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بالهدى؟ وهذا استفهام معناه الانكار، كأنهم أنكروا أن يكونوا سبقوهم بفضيلة. قال ابن السائب: ابتلى الله الرؤساء بالموالي فاذا نظر الشريف إلى الوضيع قد آمن قبله، أنف أن يسلم، ويقول: سبقني هذا! قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ أي: بالذين يشكرون نعمته إذا منَّ عليهم بالهداية.
والمعنى: إنما يهدي الله من يعلم أنه يشكر. والاستفهام في «أليس» ، معناه التقرير، أي: إنه كذلك.
[سورة الأنعام (6) : آية 54]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
قوله تعالى: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال:
(520) أحدها: أنها نزلت في رجال أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوباً عظيمة، فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية، قاله أنس بن مالك.
(521) والثاني: أنها نزلت في الذين نُهي عن طردهم، فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم إذا رآهم بدأهم بالسّلام، وقال: «الحمد الله الذي جعل في أُمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام» ، قاله الحسن وعكرمة.
(522) والثالث: أنها نزلت في أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة، وجعفر، وعثمان بن مظعون، وأبي عبيدة، ومصعب بن عمير، وسالم، وأبي سلمة، والأرقم بن أبي الأرقم، وعمار، وبلال، قاله عطاء.
(523) والرابع: أن عمر بن الخطاب كان اشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأخير الفقراء، استمالة
__________
ليس له أصل عن أنس، وإنما ورد عن ماهان وهو أبو صالح الحنفي الكوفي أخرجه الطبري 13294 و 13295 عن ماهان مرسلا. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 436 بدون إسناد عن ماهان. وعزاه في «الدر» 3/ 26 للفريابي وعبد بن حميد ومسدد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ماهان، وتفرد المصنف بنسبته لأنس.
ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 435 بدون سند عن عكرمة مرسلا وسيأتي في سورة الكهف.
عزاه المصنف لعطاء، فهو مرسل، ولم أقف على إسناده، ولا يصح.
عزاه المصنف للكلبي، وهو ممن يضع الحديث، فخبره هذا لا شيء.(2/34)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
للرؤساء إلى الإسلام، فلما نزلت: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ، جاء عمر بن الخطّاب يعتذر من مقالته ويستغفر منها، فنزلت فيه هذه الآية، قاله ابن السائب.
(524) والخامس: أنها نزلت مبِّشرة باسلام عمر بن الخطاب فلما جاء وأسلم تلاها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكاه أبو سليمان الدمشقي.
فأما قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فمعناه: يصدِّقون بحججنا وبراهيننا.
قوله تعالى: فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ فيه قولان: أحدهما: أنه أُمر بالسلام عليهم تشريفا لهم وقد ذكرناه عن الحسن، وعكرمة. والثاني: أنه أُمر بابلاغ السلام إليهم عن الله تعالى، قاله ابن زيد. قال الزجاج: ومعنى السلام: دعاء للانسان بأن يسلم من الآفات. وفي السوء قولان: أحدهما: أنه الشرك.
والثاني: المعاصي.
وقد ذكرنا في سورة النساء معنى الجهالة.
قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة والكسائي: «أنه من عمل منكم سوءاً» «فانه غفور» بكسر الألف فيهما. وقرأ عاصم، وابن عامر: بفتح الألف فيهما. وقرأ نافع. بنصب ألف «أنه» وكسر ألف «فانه غفور» . قال أبو علي: من كسر ألف «إنه» جعله تفسيرا للرحمة ومن كسر ألف «فانه غفور» فلأن ما بعد الفاء حكمه الابتداء، ومن فتح ألف «أنه من عمل» جعل «أنَّ» بدلا من الرحمة، والمعنى: كتب ربكم «أنه من عمل» ، ومن فتحها بعد الفاء أضمر خبراً تقديره: فله «أنه غفور رحيم» والمعنى: فله غفرانه. وكذلك قوله تعالى: فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ «1» معناه: فله أن له نار جهنم، وأما قراءة نافع، فانه أبدل من الرحمة: واستأنف ما بعد الفاء.
[سورة الأنعام (6) : آية 55]
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي: وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وأعلامنا على المشركين، كذلك نبين لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل. قال ابن قتيبة: ومعنى تفصيلها:
إتيانها متفرقة شيئاً بعد شيء.
قوله تعالى: وَلِتَسْتَبِينَ وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «ولتستبين» بالتاء، «سبيل» بالرفع. وقرأ نافع، وزيد عن يعقوب: بالتاء أيضا، إلا أنهما نصبا السبيل. وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «وليستبين» بالياء، «سبيل» بالرفع. فمن قرأ وَلِتَسْتَبِينَ بالياء أو التاء، فلأن السبيل تذكر وتؤنث على ما بينا في آل عمران، ومن نصب اللام، فالمعنى: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين. وفي سبيلهم التي بُيِّنت له، قولان: أحدهما: أنها طريقهم في الشرك، ومصيرهم إلى الخزي، قاله ابن عباس. والثاني: أنها مقصودهم في طرد الفقراء عنه، وذلك إنما هو الحسد، لا إيثار مجالسته واتِّباعه، قاله أبو سليمان.
__________
لم أقف عليه، وأمارة الوضع لائحة عليه، فالمتن منكر، وليس له أصل.
__________
(1) سورة التوبة: 63.(2/35)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
فان قيل: كيف انفردت لام «كي» في قوله: «ولتستبين» وسبيلها أن تكون شرطاً لفعل يتقدمها أو يأتي بعدها؟ فقد أجاب عنه ابن الأنباري بجوابين: أحدهما: أنها شرط لفعل مضمر، يراد به: ونفعل ذلك لكي تستبين. والثاني: أنها معطوفة على لام مضمرة، تأويله: نفصّل الآيات لينكشف أمرهم، ولتستبين سبيلهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 56]
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56)
قوله تعالى: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأصنام. وفي معنى تَدْعُونَ قولان: أحدهما: تدعونهم آلهة. والثاني: تعبدون قاله ابن عباس. وأهواؤهم: دينهم. قال الزجاج: أراد إنما عبدتموها على طريق الهوى، لا على طريق البيّنة والبرهان. ومعنى «إذاً» معنى الشرط والمعنى: قد ضللت إن عبدتها. وقرأ طلحة، وابن أبي ليلى: «قد ضللت» بكسر اللام.
[سورة الأنعام (6) : آية 57]
قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57)
قوله تعالى: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي.
(525) سبب نزولها أن النضر بن الحارث وسائر قريش قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: يا محمد ائتنا بالعذاب الذي تَعِدُنا به، استهزاءً وقام النضر عند الكعبة وقال: اللهم إن كان ما يقول حقا، فائتنا بالعذاب فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس.
فأما البينة، فهي الدلالة التي تفصل بين الحق والباطل. قال الزجاج: أنا على أمر بيِّن، لا متبعٌ لهوى. قوله تعالى: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ في هاء الكناية، ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى الرب.
والثاني: ترجع إلى البيان. والثالث: ترجع إلى العذاب الذي طلبوه استهزاءً.
قوله تعالى: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي: ما بيدي. وفي الذي استعجلوا به قولان:
أحدهما: أنه العذاب قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أنه الآيات التي كانوا يقترحونها ذكره الزجاج. قوله تعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فيه قولان: أحدهما: أنه الحكم الذي يفصل به بين المختلفين بايجاب الثواب والعقاب. والثاني: أنه القضاء بانزال العذاب على المخالف.
قوله تعالى: يَقُصُّ الْحَقَّ قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع «يَقُصُّ الحق» بالصاد المشددة، من القصص والمعنى: أن كل ما أخبر به فهو حق. وقرأ أبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:
«يقضي الحق» من القضاء والمعنى: يقضي القضاء الحقّ.
__________
باطل. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهو من رواية الكلبي، وهذا إسناد موضوع. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 437 بدون سند عن الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.(2/36)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
[سورة الأنعام (6) : آية 58]
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)
قوله تعالى: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ أي: من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ قال ابن عباس: يقول: لم أمهلكم ساعة، ولأهلكتكم.
قوله تعالى: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: إن شاء عاجلهم، وإن شاء أخَّر عقوبتهم. والثاني: أعلم بما يؤول إليهم أمرهم، وأنه قد يهتدي منهم قوم، ولا يهتدي آخرون فلذلك يؤخّرهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 59]
وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)
قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ قال ابن جرير: المفاتح: جمع مفتح يقال: مفتح ومفتاح، فمن قال: مفتح، جمعه: مفاتح. ومن قال: مفتاح، جمعه: مفاتيح. وفي «مفاتح الغيب» سبعة أقوال:
أحدها: أنها خمس لا يعلمها إلا الله عزّ وجلّ.
(526) روى البخاري في أفراده من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله، لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غدٍ إلا الله، ولا تعلم نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى ينزل الغيث إلا الله» .
(527) قال ابن مسعود: أُوتي نبيُّكم علم كل شيء إلا مفاتيحَ الغيب.
والثاني: أنها خزائن غيب السماوات من الأقدار والأرزاق، قاله ابن عباس. والثالث: ما غاب عن الخلق من الثواب والعقاب، وما تصير إليه الأمور، قاله عطاء. والرابع: خزائن غيب العذاب، متى ينزل، قاله مقاتل. والخامس: الوُصلة إلى علم الغيب إذا اسْتُعْلم، قاله الزجاج. والسادس: عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال. والسابع: ما لم يكن، هل يكون، أم لا يكون؟ وما يكون كيف يكون، وما لا يكون إن كان، كيف يكون؟ فأما البَرُّ، فهو القفر.
وفي البحر قولان: أحدهما: أنه الماء، قاله الجمهور. والثاني: أنه القرى، قاله مجاهد.
قوله تعالى: وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها قال الزجاج: المعنى: أنه يعلمها ساقطة وثابتة، كما تقول: ما يجيئك أحد إلا وأنا أعرفه، ليس تأويله: اعرفه في حال مجيئه فقط. فأما ظلمات الأرض، فالمراد بها بطن الأرض.
وفي الرطب واليابس، خمسة أقوال: أحدها: أن الرطب: الماء، واليابس: البادية. والثاني:
الرّطب. ما ينبت، واليابس: ما لا يُنبِت. والثالث: الرطب: الحي، واليابس: الميت. والرابع:
الرطب: لسان المؤمن يذكر الله، واليابس: لسان الكافر لا يتحرك بذكر الله. والخامس: أنهما الشيء
__________
حديث صحيح. أخرجه البخاري 1039 و 4379 و 4627 و 4697 و 4778، وأحمد 2/ 24 و 52 و 58 و 85 و 86، وابن حبان 70 و 71 والطبراني 13246. من حديث ابن عمر.
جيد. أخرجه الطبري 13309 ك عن ابن مسعود، وإسناده قوي.(2/37)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61)
ينتقل من إحدى الحالتين إلى الأخرى، فهو يعلمه رطباً، ويعلمه يابساً.
وفي الكتاب المبين قولان: أحدهما: أنه اللوح المحفوظ قاله مقاتل. والثاني: أنه علم الله المتقَنُ ذكره الزجاج.
فان قيل: ما الفائدة في إِحصاء هذه الأشياء في كتاب؟ فعنه ثلاثة أجوبة، ذكرهن ابن الأنباري:
أحدها: أنه أحصاها في كتاب، لتقف الملائكة على نفاذ علمه. والثاني: أنه نبه بذلك عباده على تعظيم الحساب، وأعلمهم أنه لا يفوته ما يصنعون، لأن من يثبت ما لا ثواب فيه ولا عقاب، فهو إلى إثبات ما فيه ثواب وعقاب أسرع. والثالث: أن المراد بالكتاب: العلم فالمعنى: أنها مثبتة في علمه.
[سورة الأنعام (6) : آية 60]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ يريد به النوم، لأنه يقبض الأرواح عن التصرف، كما يقبض بالموت. وقال ابن عباس: يقبض أرواحكم في منامكم. وجرحتم: بمعنى كسبتم. ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ أي: يوقظكم فيه، أي: في النهار. لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي: لتبلغوا الأجل المسمى لانقطاع حياتكم، فدل باليقظة بعد النوم على البعث بعد الموت.
[سورة الأنعام (6) : آية 61]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61)
قوله تعالى: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً الحفظة: الملائكة، واحدهم: حافظ، والجمع: حفظة، مثل كاتب وكتبة، وفاعل وفعلة. وفيما يحفظونه قولان: أحدهما: أعمال بني آدم قاله ابن عباس. والثاني:
أعمالهم وأجسادهم، قاله السدي.
قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وقرأ حمزة: «توفاه رسلنا» وحجته أنه فعل مسند إلى مؤنث غير حقيقي، وإنما التأنيث للجمع، فهو مثل: وَقالَ نِسْوَةٌ «1» . وفي المراد بالرسل ثلاثة أقوال: أحدها:
أنهم أعوان مَلَك الموت، قاله ابن عباس. وقال النخعي: أعوانه يتوفَّون النفوس، وهو يأخذها منهم.
والثاني: أن المراد بالرسل: مَلَك الموت وحده، قاله مقاتل. والثالث: أنهم الحفظة، قاله الزجاج.
قوله تعالى: وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ قال ابن عباس: لا يضيِّعون.
فان قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وبين قوله تعالى: قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ «2» ؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه يجوز أن يريد بالرّسل ملك كالموت وحده، وقد يقع الجمع على الواحد. والثاني: أن أعوان مَلَك الموت يفعلون بأمره، فأضيف الكل إلى فعله. وقيل: تَوَفيّ أعوان ملك الموت بالنزع، وتوفِّي ملك الموت بأن يأمر الأرواح فتجيب، ويدعوها فتخرج، وتوفِّي الله تعالى بأن يخلق الموت في الميّت.
__________
(1) سورة يوسف: 30.
(2) سورة السجدة: 11.(2/38)
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
[سورة الأنعام (6) : آية 62]
ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62)
قوله تعالى: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ يعني العباد. وفي متولي الردِّ قولان: أحدهما: أنهم الملائكة، رَدَّتهم بالموت إلى الله تعالى. والثاني: أنه الله عزّ وجلّ، ردهم بالبعث في الآخرة. وفي معنى ردهم إلى الله تعالى، قولان: أحدهما: أنهم ردوا إلى المكان الذي لا يملك الحكم فيه إلا الله وحده.
والثاني: أنهم ردوا إلى تدبيره وحده لأنه لما أنشأهم كان منفرداً بتدبيرهم، فلما مكنهم من التصرف صاروا في تدبير أنفسهم، ثم كفهم عنه بالموت فصاروا مردودين إلى تدبيره.
قوله تعالى: أَلا لَهُ الْحُكْمُ يعني القضاء. وبيان سرعة الحساب، في سورة البقرة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 64]
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
قوله تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ قرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، وأبو جعفر: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ، مشدَّدَين. وقرأ يعقوب، والقزاز عن عبد الوارث: بسكون النون وتخفيف الجيم.
قال الزجاج: والمشدَّدة أجود للكثرة. وظلمات البر والبحر: شدائدها والعرب تقول لليوم الذي تلقى فيه شدة: يوم مظلم، حتى إنهم يقولون: يوم ذو كواكب، أي: قد اشتدت ظلمته حتى صار كالليل.
قال الشاعر:
فِدَىً لِبَنِي ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي ... إذا كَانَ يَوْماً ذا كَواكَب أشْنَعَا «1»
قوله تعالى: تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً أي: مظهرين الضراعة، وهي شدة الفقر إلى الشيء، والحاجة. قوله تعالى: وَخُفْيَةً قرأ عاصم إلا حفصا: «وخِفية» بكسر الخاء وكذلك في سورة الأعراف. وقرأ الباقون بضم الخاء، وهما لغتان. قال الفراء: وفيها لغة أخرى بالواو، ولا تصلح في القراءة:
خِفْوة، وخَفْوة. ومعنى الكلام، أنكم تدعونه في أنفسكم، كما تدعونه ظاهراً: «لئن أنجيتنا» ، كذلك قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، وأبو عمرو: «لئن أنجيتنا» ، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي:
«لئن أنجانا» بألف، لمكان الغيبة في قوله: «تدعونه» . وكان حمزة، والكسائي، وخلف، يميلون الجيم. قوله تعالى: مِنْ هذِهِ يعني: في أي شدة وقعتم، قلتم: «لئن أنجيتنا من هذه» . قال ابن عباس: و «الشّاكرون» ها هنا: المؤمنون. وكانت قريش تسافر في البر والبحر، فاذا ضلوا الطريق وخافوا الهلاك، دعَوُا الله مخلصين، فأنجاهم. فأما «الكرب» فهو الغم الذي يأخذ بالنّفس، ومنه اشتقّت الكربة.
[سورة الأنعام (6) : آية 65]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
__________
(1) البيت أنشده سيبويه في «الكتاب» 1/ 21 ونسبه لمقاس العائذي. وأراد باليوم يوما من أيام الحرب، وصفه بالشدة فجعله كالليل تبدو فيه الكواكب، إما لكثرة السلاح الصقيل فيه، وإما لما ذكره من النجوم.(2/39)
قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ فيه قولان:
أحدهما: أن الذي فوقهم: العذاب النازل من السماء، كما حُصب قوم لوط، وأصحاب الفيل. والذي من تحت أرجلهم: كما خُسف بقارون، قاله ابن عباس، والسدي، ومقاتل. وقال غيرهم: ومنه الطوفان، والريح، والصيحة، والرجفة. والقول الثاني: أن الذي من فوقهم: من قِبَل أمرائهم. والذي من تحتهم من سَفَلتهم، رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وقال في رواية أخرى: الذي من فوقهم: أئمة السوء والذي من تحت أرجلهم: عبيد السوء.
قوله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً قال ابن عباس: يَبُثُّ فيكم الأهواء المختلفة، فتصيرون فِرَقاً. قال ابن قتيبة: يلبسكم: من الالتباس عليهم. والمعنى: حتى تكونوا شِيعَاً، أي: فرقا مختلفين. ثم يذيق بعضكم بأس بعض بالقتال والحرب. وقال الزجاج: يلبسكم، أي: يخلط أمركم خلط اضطراب، لا خلط اتفاق. يقال: لَبَسْتُ عليهم الأمر، ألبسه: إذا لم أبيِّنه. ومعنى شيعاً: أي يجعلكم فرقاً، فاذا كنتم مختلفين، قاتل بعضكم بعضاً.
قوله تعالى: وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ أي: يقتل بعضكم بيد بعض.
وفيمن عُني بهذه الآية، ثلاثة أقوال: أحدها: أنها في المسلمين أهل الصلاة، هذا مذهب ابن عباس، وأبي العالية، وقتادة.
(528) وقال أُبي بن كعب في هذه الآية: هن أربع خلال، وكلُّهن عذاب، وكلُّهن واقع قبل يوم القيامة، فمضت اثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة، أُلبسوا شيعاً، وأذيق بعضهم بأس بعض. وثنتان واقعتان لا محالة: الخسف، والرجم.
والثاني: أن العذاب للمشركين، وباقي الآية للمسلمين، قاله الحسن.
(529) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين، ومنعني واحدة، سألته أن لا يصيبكم بعذاب أصابه مَن كان قبلكم، فأعطانيها، وسألته إن لا يسلِّط عليكم عدواً يستبيح بيضتكم، فأعطانيها، وسألته أن لا يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض، فمنعنيها» .
والثالث: أنها تهدُّدٌ للمشركين، قاله ابن جرير الطّبريّ، وأبو سليمان الدّمشقي.
__________
موقوف. أخرجه أحمد 5/ 135 عن أبي بن كعب موقوفا، وإسناده غير قوي، فيه أبو جعفر الرازي، وهو صدوق، لكنه سيء الحفظ. وذكره الهيثمي في «المجمع» 7/ 21 وقال رواه أحمد ورجاله ثقات.
صحيح. أخرجه مسلم 2890 وابن أبي شيبة 10/ 320 وأحمد 1/ 175 و 181 و 182، وأبو يعلى 734 وابن حبان 7237 من حديث سعد، وبعضهم اختصره. وأخرجه الطبري 3370 رواية نافع بن خالد الخزاعي عن أبيه أن النبي.. وفي الباب أحاديث منها: حديث ثوبان عند مسلم 2889 وأبو داود 4252 والترمذي 2176 وابن ماجة 3952 وأحمد 5/ 278 و 284 وابن حبان 7238 والبيهقي في «الدلائل» 6/ 526- 527 والبغوي 3910. وحديث خباب بن الأرت عند الترمذي 2175 والنسائي 3/ 216- 217 وأحمد 5/ 108 و 109 وابن حبان 7236 والمزي في تهذيب «الكمال» 14/ 447- 448 والطبراني 3621 و 3622 و 3624 و 3626. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح اهـ.(2/40)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
[سورة الأنعام (6) : آية 66]
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66)
قوله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ في هاء «به» ثلاثة أقوال: أحدها: أنها كناية عن القرآن. والثاني:
عن تصريف الآيات. والثالث: عن العذاب.
قوله تعالى: قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ فيه قولان:
أحدهما: لست حفيظاً على أعمالكم لأُجازيكم بها، إنما أنا منذر، قاله الحسن.
والثاني: لست حفيظاً عليكم، أخذكم بالإيمان، إنما أدعوكم إلى الله تعالى، قاله الزجاج.
فصل: وفي هذا القدر من الآية قولان: أحدهما: أنه اقتضى الاقتصار في حقهم على الإنذار من غير زيادة، ثم نسخ ذلك بآية السيف. والثاني: أن معناه: لست حفيظاً عليكم، إنما أُطالبكم بالظواهر من الإِقرار والعمل، لا بالأسرار فعلى هذا هو محكم.
[سورة الأنعام (6) : آية 67]
لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
قوله تعالى: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي: لكل خبر يخبر الله به وقت يقع فيه من غير خلف ولا تأخير. قال السدي: فاستقر نبأ القرآن بما كان يَعِدهم من العذاب يوم بدر. وقال مقاتل: منه في الدنيا يوم بدر، وفي الآخرة جهنّم.
[سورة الأنعام (6) : آية 68]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)
قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فيمن أريد بهذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها:
المشركون. والثاني: اليهود. والثالث: أصحاب الأهواء. والآيات: القرآن. وخوض المشركين فيه:
تكذيبهم به واستهزاؤهم، ويقاربه خوض اليهود، وخوض أهل الأهواء، والمراء، والخصومات.
قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي: فاترك مجالستهم، حتى يكون خوضهم في غير القرآن. وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ وقرأ ابن عامر: «يُنَسِّينَّكَ» ، بفتح النون، وتشديد السين، والنون الثانية. ومثل هذا: غَرّمْتُهُ وأغرمتُه. وفي التنزيل: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ «1» والمعنى: إذا أنساك الشيطان، فقعدت معهم ناسياً نَهْيَنَا لك، فلا تقعد بعد الذكرى. والذكر والذكرى: واحد. قال ابن عباس: قم إذا ذكرت والظّالمون:
المشركون.
[سورة الأنعام (6) : آية 69]
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
قوله تعالى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ في سبب نزولها ثلاثة أقوال:
(530) أحدها: أن المسلمين قالوا: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه
__________
عزاه المصنف لابن عباس ولم أقف عليه وهو لا شيء لخلوه عن الإسناد.
__________
(1) سورة الأعراف: 55.(2/41)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
فمنعناهم، لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام ولا أن نطوف بالبيت، فنزلت هذه الآية.
(531) والثاني: أن المسلمين قالوا: إنا نخاف الإثم إن لم ننههم عن الخوض، فنزلت هذه الآية.
(532) والثالث: أن المسلمين قالوا: لو قمنا عنهم إذا خاضوا، فانا نخشى الإثم في مجالستهم، فنزلت هذه الآية. هذا عن مقاتل، والأولان عن ابن عباس.
قوله تعالى: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ فيه قولان: أحدهما: يتقون الشرك. والثاني: يتقون الخوض. قوله تعالى: مِنْ حِسابِهِمْ يعني: حساب الخائضين. وفي «حسابهم» قولان: أحدهما: أنه كفرهم وآثامهم. والثاني: عقوبة خوضهم.
قوله تعالى: وَلكِنْ ذِكْرى أي: ولكن عليكم أن تذكروهم، وفيما تذكرونهم به، قولان:
أحدهما: المواعظ. والثاني: قيامكم عنهم. قال مقاتل: إذا قمتم عنهم، منعهم من الخوض الحياء منكم، والرغبة في مجالستكم. قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فيه قولان: أحدهما: يتقون الاستهزاء.
والثاني: يتقون الوعيد.
فصل: وقد ذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة، لأنها اقتضت جواز مجالسة الخائضين والاقتصار على تذكيرهم، ثم نسخت بقوله تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ «1» . والصحيح أنها محكمة، لأنها خبر، وإنما دلت على أن كل عبد يختص بحساب نفسه، ولا يلزمه حساب غيره.
[سورة الأنعام (6) : آية 70]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
قوله تعالى: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً فيهم قولان: أحدهما: أنهم الكفار.
والثاني: اليهود والنصارى. وفي اتخاذهم دينهم لعباً ولهواً، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه استهزاؤهم بآيات الله إذا سمعوها. والثاني: أنهم دانوا بما اشتَهوا، كما يلهون بما يشتهون. والثالث: أنهم يحافظون على دينهم إذا اشتَهوا، كما يلهون إذا اشتَهوا. قال الفراء: ويقال: إنه ليس من قوم إلا ولهم عيد، فهم يلهون في أعيادهم، إلّا أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم، فان أعيادهم صلاة وتكبير وبرٌ وخير.
فصل: ولعلماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية، قولان: أحدهما: أنه خرج مخرج
__________
ذكره البغوي في «تفسيره» 2/ 133 عن ابن عباس بدون إسناد ولم أقف على إسناده والظاهر أنه من رواية الكلبي أو الضحاك وكلاهما يروي عن ابن عباس تفسيرا واهيا.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث.
__________
(1) سورة النساء: 140. [.....](2/42)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
التّهديد، كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «1» . فعلى هذا هو محكم، وإلى هذا المعنى ذهب مجاهد. والثاني: أنه اقتضى المسامحة لهم والإعراض عنهم، ثم نسخ بآية السيف وإلى هذا ذهب قتادة، والسدي.
قوله تعالى: وَذَكِّرْ بِهِ أي: عظ بالقرآن. وفي قوله: أَنْ تُبْسَلَ قولان: أحدهما: لئلا تبسل نفس، كقوله تعالى: أَنْ تَضِلُّوا «2» . والثاني: ذكرّهم إبسال المبسلين بجناياتهم لعلَّهم يخافون.
وفي معنى «تبسل» سبعة اقوال: أحدها: تُسْلَم، رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، والسدي. وقال ابن قتيبة: تُسْلَم إلى الهلكة. قال الشاعر:
وإبسالي بَنّي بِغَيْرِ جُرْمٍ ... بَعَوْناه ولا بِدِمٍ مُرَاقِِ «3»
أي: بغير جرم أجرمناه والبَعْوُ: الجناية. وقال الزجاج: تُسْلَمُ بعملها غير قادرة على التخلص.
والمستبسل: المستسلم الذي لا يعلم أنه يقدر على التخلص. والثاني: تُفْضَح، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: تُدفع، رواه الضحاك عن ابن عباس. والرابع: تُهلَكُ، روي عن ابن عباس أيضاً.
والخامس: تُحبس وتُؤخذ، قاله قتادة، وابن زيد. والسادس: تُجزى، قاله ابن السائب، والكسائي.
والسابع: تُرتهن، قاله الفراء. وقال أبو عبيدة: تُرتهن وتسلم وأنشد:
هُنَالِكَ لا أرْجُو حَياةً تَسُرُّنِي ... سَمِيْرَ اللَّيالي مُبْسَلاً بالجَرَائِر «4»
سمير الليالي: أبَدَ الليالي. فأما الولي: فهو الناصر الذي يمنعها من عذاب الله. والعدل: الفداء.
قال ابن زيد: وإن تفتد كلَّ فداء لا يقبل منها. فأما الحميم، فهو الماء الحار. قال ابن قتيبة: ومنه سمي الحمّام.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 72]
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72)
قوله تعالى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أنعبد ما لا يضرنا إن لم نعبده، ولا ينفعنا إن عبدناه، وهي الأصنام. وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا أي: نرجع إلى الكفر بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ إلى الإسلام، فنكون كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ. وقرأ حمزة: «استهواه الشياطين» ، على قياس قراءته: «توفاه رُسْلُنا» . وفي معنى «استهوائها» قولان: أحدهما: أنها هوت به وذهبت، قاله ابن قتيبة. وقال أبو عبيدة: تُشبَّه له الشياطين، فيتبعها حتى تهوي به في الأرض، فتضلّه. والثاني: زيَّنت له هواه، قاله الزجاج. قال:
و «حيران» منصوب على الحال، أي: استهوته في حال حيرته. قال السّدّيّ: قال المشركون للمسلمين:
__________
(1) سورة المدثر: 11.
(2) سورة النساء: 176.
(3) البيت لعوف بن الأحوص الكلابي «مجاز القرآن» 1/ 194 و «اللسان» بسل.
(4) البيت للشنفرى وهو شاعر جاهلي من صعاليك العرب وفتاكهم «مجاز القرآن» 1/ 195، «اللسان» بسل.
قوله: سمير الليالي ويروى «سجيس الليالي» . وهما بمعنى: ومعنى «مبسلا بالجرائر» : أنه أسلم إلى عدوه بما جنى عليهم.(2/43)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
اتَّبِعوا سبيلنا، واتركوا دين محمد، فقال تعالى: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ فنكون كرجل كان مع قوم على طريق، فضلّ، فحيرته الشياطين، وأصحابه على الطريق يدعونه: يا فلان هلم إلينا، فانا على الطريق، فيأبى.
(533) وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الرّحمن بن أبي بكر الصديق، دعاه أبوه وأُمه إلى الإسلام فأبى. قال مقاتل: والمراد بأصحابه: أبواه «1» .
قوله تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى هذا رد على من دعا إلى عبادة الأصنام، وزجرٌ عن إجابته، كأنه قيل له: لا تفعل ذلك، لأن هدى الله هو الهدى، لا هدى غيره.
قوله تعالى: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ قال الزجاج: العرب تقول: أمرتك أن تفعل، وأمرتك لتفعل، وأمرتك بأن تفعل. فمن قال: «بأن» فالباء للالصاق. والمعنى: وقع الأمر بهذا الفعل، ومن قال: «أن تفعل» فعلى حذف الباء ومن قال: «لتفعل» فقد أخبر بالعلة التي لها وقع الامر. قال: وفي قوله: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وجهان: أحدهما: أُمرنا لأن نسلم، ولأن نقيم الصلاة. والثاني: أن يكون محمولاً على المعنى، لأن المعنى: أُمرنا بالإسلام، وبإقامة الصّلاة.
[سورة الأنعام (6) : آية 73]
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ فيه أربعة أقوال: أحدها: خلقهما للحق. والثاني: خلقهما حقاً. والثالث: خلقهما بكلامه وهو الحق. والرابع: خلقهما بالحكمة.
قوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قال الزجاج: الأجود أن يكون منصوباً على معنى:
واذكر يوم يقول كن فيكون، لأن بعده وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ فالمعنى: واذكر هذا وهذا. وفي الذي يقول له كن فيكون، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه يوم القيامة، قاله مقاتل. والثاني: ما يكون في القيامة. والثالث:
أنه الصور، وما ذكر من أمر الصور يدل عليه، قالهما الزجاج. قال: وخُصَّ ذلك اليوم بسرعة إيجاد الشيء، ليدل على سرعة أمر البعث.
قوله تعالى: قَوْلُهُ الْحَقُّ أي: الصدق الكائن لا محالة وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ.
وروى إسحاق بن يوسف الأزرق عن أبي عمرو «ننفخ» بنونين. ومعنى الكلام: أن الملوك يومئذ لا ملك لهم، فهو المنفرد بالملك وحده، كما قال: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «2» . وفي «الصور» قولان:
أحدهما: أنه قرن ينفخ فيه.
__________
باطل. عزاه المصنف لابن عباس، وهو من رواية أبي صالح كما في «تفسير القرطبي» 7/ 20 وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس وراويته الكلبي يضع الحديث، والمتن باطل.
__________
(1) قول مقاتل هذا باطل وهو من بدع التأويل.
(2) سورة الانفطار: 19.(2/44)
(534) روى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصور، فقال: «هو قرن ينفخ فيه. وقال مجاهد: الصّور كهيئة البوق. وحكى ابن قتيبة: أن الصور: القرن، في لغة قوم من أهل اليمن، وأنشد:
نحن نطحنا غَدَاةَ الجَمْعَيْن ... بالضَّابِحَاتِ في غُبارِ النَّقْعَيْن
نَطْحاً شَدِيدَاً لا كَنَطْحِ الصّورَيْن «1»
وأنشد الفراء:
لَوْلاَ ابنُ جَعْدَةَ لَم يُفْتَحْ قُهُنْدُزُكُم ... وَلاَ خُرَاسَانُ حتَّى يُنْفَخَ الصُّوْرُ «2»
وهذا اختيارُ الجمهور.
والثاني: أن الصور جمع صورة يقال: صورة وصور، بمنزلة سورة وسور، كسورة البناء والمراد نفخ الأرواح في صُوَرِ الناس، قاله قتادة، وأبو عبيدة. وكذلك قرأ الحسن، ومعاذ القارئ، وأبو مِجْلَز، وأبو المتوكل «في الصُّوَر» بفتح الواو. قال ثعلب: الأجود أن يكون الصور: القرن، لأنه قال عزّ وجلّ: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ثم قال: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى ولو كان الصُّوَر، كان: ثم نُفخ فيها، أو فيهن وهذا يدل على أنه واحد وظاهر القرآن يشهد أنه يُنفخ في الصُّور مرتين.
(535) وقد روى أهل التفسير عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الصّور قرن ينفخ فيه
__________
حسن صحيح. أخرجه أبو داود 4742 والترمذي 2430 و 3244 والنسائي في «الكبرى» 11312 و 11381 و 11456 وأحمد 2/ 162 و 192 والدارمي 2/ 325 وابن حبان 7312 والحاكم 2/ 436 و 506 و 4/ 560 وأبو نعيم في «الحلية» 7/ 243 والمزي في «تهذيب الكمال» 4/ 130 وابن المبارك في «الزهد» 1599.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وحسنه الترمذي كلهم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
هو بعض حديث الصور المطول. أخرجه الطبراني في «الطوال» 36، وأبو الشيخ في «العظمة» 388 و 389 و 390، والبيهقي في «البعث» 668 و 669، والطبري 2/ 330 و 331 و 17/ 110 و 24/ 30 و 61 و 30/ 26 و 31 و 32 وإسحاق بن راهويه كما في «المطالب العالية» 2991 من طرق عن إسماعيل بن رافع، وهو واه، فرواه تارة عن يزيد بن أبي زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة وتارة عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب عن أبي هريرة وتارة عن محمد بن يزيد ابن أبي زيادة عن رجل من الأنصار عن محمد بن كعب عن أبي هريرة، وتارة عن محمد بن كعب القرظي عن رجل من الأنصار عن أبي هريرة. وأيا كان فمداره على إسماعيل بن رافع، ولم يتابعه على هذا الحديث بطوله أحد، وهو واه. جاء في الميزان 872: ضعفة أحمد ويحيى وجماعة، وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر اهـ.
باختصار. وقد اضطرب فيه كما سبق. وقد نص الحفاظ على وهن هذا الحديث بطوله فقال الحافظ في «المطالب العالية» 2991: فيه ضعف ا. هـ. وقال البوصيري، في 1/ 21: تابعيه مجهول. وجاء في الفتح
__________
(1) الرجز في «غريب القرآن» : 26 بدون نسبة، والأول والثالث في «اللسان» صور. والضابحات: الخيل.
(2) البيت: بدون نسبة في «معاني القرآن» للفراء 1/ 240 واللسان: صور. وابن جعدة هو عبد الله بن جعدة بن هبيرة المخزومي. والقهندز: بضم القاف والهاء وسكون النون وضم الدال من لغة خراسان، يعنون بها الحصن أو القلعة. وقد استشهد الفراء وابن جرير على أن العرب تقول: نفخ في الصور، ونفخ الصور.(2/45)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
ثلاث نفخات: الأولى: نفخة الفزع. والثانية: نفخة الصعق. والثالثة: نفخة القيام لرب العالمين» . قال ابن عباس: وهذه النفخة المذكورة في هذه الآية هي الأولى، يعني: نفخة الصعق.
قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وهو ما غاب عن العباد مما لم يعاينوه، وَالشَّهادَةِ وهو ما شاهدوه ورأوه. وقال الحسن: يعني بذلك السر والعلانية.
[سورة الأنعام (6) : آية 74]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74)
قوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ في «آزر» أربعة أقوال: أحدها: أنه أسم أبيه، روي عن ابن عباس، والحسن، والسدي، وابن إسحاق. والثاني: أنه اسم صنم، فأما اسم أبي إبراهيم، فتارح، قاله مجاهد. فيكون المعنى: أتتخذ آزر أصناماً؟ فكأنه جعل أصناماً بدلاً من آزر، والاستفهام معناه الإنكار. والثالث: أنه ليس باسم، إنما هو سبّ بعيب، وفي معناه قولان: أحدهما: أنه المعوَّج، كأنه عابه بزيغه وتعويجه عن الحق، ذكره الفراء. والثاني: أنه المخطئ، فكأنّه قال: يا مخطئ أتتخذ أصناماً؟ ذكره الزجاج. والرابع: أنه لقب لأبيه، وليس باسمه، قاله مقاتل بن حيان. قال ابن الانباري:
قد يغلب على اسم الرجل لقبه، حتى يكون به أشهر منه باسمه. والجمهور على قراءة «آزر» بالنصب.
وقرأ الحسن، ويعقوب بالرفع. قال الزجاج: من نصب، فموضع «آزر» خفضٌ بدلاً من أبيه ومن رفع فعلى النداء.
[سورة الأنعام (6) : آية 75]
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ أي: وكما أريناه البصيرة في دينه، والحق في خلاف قومه، نريه مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ. وقيل: «نري» بمعنى أرينا. قال الزجاج: والملكوت بمنزلة المُلك، إلا أن الملكوت أبلغ في اللغة، لأن الواو والتاء يزادان للمبالغة ومثل الملكوت: الرغبوت والرهبوت.
قال مجاهد: ملكوت السماوات والأرض: آياتها تفرّجت له السماوات السبع، حتى العرشُ، فنظر فيهن، وتفرجت له الأرضون السبع، فنظر فيهن. وقال قتادة: ملكوت السّماوات: الشمس والقمر والنجوم، وملكوت الأرض: الجبال والشجر والبحار. وقال السدي: أُقيم على صخرة، وفتحت له السماوات والأرض، فنظر إلى ملك الله عزّ وجلّ، حتى نظر إلى العرش، وإلى منزله من الجنّة، وفتحت
__________
11/ 368- 369 عقب حديث 6518 ما ملخصه: وأخرجه عبد بن حميد وأبي يعلى في «الكبير» وعلي بن معبد في «الطاعة والمعصية» ومداره على إسماعيل بن رافع، واضطرب في سنده مع ضعفه، وأخرجه إسماعيل بن أبي زياد الشامي أحد الضعفاء في «تفسيره» عن محمد بن عجلان عن محمد القرظي واعترض مغلطاي على عبد الحق في تضعيفه الحديث بإسماعيل بن رافع، وخفي عليه أن الشامي أضعف منه، ولعله سرقه من إسماعيل فلزقه بابن عجلان وقد قال الدارقطني: يضع الحديث. وقد قال الحافظ ابن كثير: جمعه إسماعيل بن رافع من عدة آثار فساقه كله مساقا واحدا ا. هـ. وقد صحح الحديث من طريق إسماعيل بن رافع القاضي أبو بكر بن العربي في «سراجه» وتبعه القرطبي في «التذكرة» وقول عبد الحق في تضعيفه أولى، وضعفه قبله البيهقي اهـ كلام الحافظ، وتكلم عليه أيضا ابن كثير رحمه الله في «البداية والنهاية» 2/ 223 و 224.
وخلاصة القول: أنه حديث ضعيف بهذا التمام، وبعض ألفاظه في الصحيحين وغيرهما وبعضه في الكتاب المعتبرة وبعضه الآخر منكر لا يتابع عليه انظر «تفسير ابن كثير» 2/ 190.(2/46)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
له الأرضون السبع، حتى نظر إلى الصخرة التي عليها الأرضون.
قوله تعالى: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ هذا عطف على المعنى، لأن معنى الآية: نريه ملكوت السّماوات والأرض ليستدل به، وليكون من الموقنين. وفي ما يوقِن به ثلاثة أقوال: أحدها: وحدانية الله وقدرته. والثاني: نبوته ورسالته. والثالث: ليكون موقنا بعلم كل شيء حساً، لا خبراً.
[سورة الأنعام (6) : آية 76]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76)
قوله تعالى: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ قال الزجاج: يقال: جن عليه الليل، وأجنه الليل: إذا أظلم، حتى يستر بظلمته ويقال لكل ما ستر: جنّ، وأجنّ، والاختيار أن يقال: جنّ عليه الليل، وأجنه الليل.
الإشارة إلى بذء قصة إبراهيم عليه السلام: روى أبو صالح عن ابن عباس قال: وُلد إبراهيم في زمن نُمروذ، وكان لنمروذ كُهَّان، فقالوا له: يولد في هذه السنة مولود يفسد آلهة أهل الأرض، ويدعوهم إلى غير دينهم، ويكون هلاك أهل بيتك على يديه، فعزل النساء عن الرجال، ودخل آزر إلى بيته، فوقع على زوجته، فحملت، فقال الكهان لنمروذ: إن الغلام قد حمل به الليلة. فقال: كل من ولدت غلاما فاقتلوه. فلما أخذ أُم إبراهيم المخاضُ، خرجت هاربة، فوضعته في نهر يابس، ولفّته في خرقة، ثم وضعته في حَلْفاء، وأخبرت به أباه، فأتاه، فحفر له سرباً، وسد عليه بصخرة، وكانت أُمه تختلف إليه فترضعه، حتى شب وتكلم، فقال لأُمه: من ربي؟ فقالت: أنا. قال: فمن ربكِ؟ قالت:
أبوك. قال: فمن رب أبي؟ قالت: اسكت. فسكت، فرجعت إلى زوجها، فقالت: إن الغلام الذي كنا نتحدث أنه يغير دين أهل الأرض، ابنك. فأتاه، فقال له مثل ذلك. فلما جنَّ عليه الليل، دنا من باب السرب، فنظر فرأى كوكباً. قرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم «رأى» ، بفتح الراء والهمزة وقرأ أبو عمرو: «رَإى» بفتح الراء وكسر الهمزة، وقرأ أبن عامر، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم.
«رِإى» ، بكسر الراء والهمزة، واختلفوا فيها إذا لقيها ساكن، وهو آت في ستة مواضع: رَأَى الْقَمَرَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ وفي النحل وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا «1» وفي الكهف: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ «2» ، وفي الأحزاب: وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ «3» . وقرأ أبو بكر عن عاصم، وحمزة إلا العبسي، وخلف في اختياره: بكسر الراء وفتح الهمزة في الكل، وروى العبسي كسرة الهمزة أيضاً، وقرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو: وابن عامر، والكسائي: بفتح الراء والهمزة. فان اتصل ذلك بمكني، نحو: رآك، ورآه، ورآها فان حمزة، والكسائي، وخلف، والوليد عن ابن عامر، والمفضل، وأبان، والقزاز عن عبد الوارث، والكسائي عن أبي بكر: يكسرون الراء، ويميلون الهمزة.
وفي الكوكب الذي رآه قولان: أحدهما: أنه الزهرة، قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني:
المشتري، قاله مجاهد، والسدي.
قوله تعالى: قالَ هذا رَبِّي فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه على ظاهره. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: قال هذا ربي، فعبده حتى
__________
(1) سورة النحل: 85 و 86.
(2) سورة الكهف: 53.
(3) سورة الأحزاب: 22.(2/47)
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
غاب، وعبد القمر حتى غاب، وعبد الشمس حتى غابت واحتج أرباب هذا القول بقوله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي وهذا يدل على نوع تحيير، قالوا: وإنما قال هذا في حال طفولته على ما سبق إلى وهمه، قبل أن يثبت عنده دليل. وهذا القول لا يرتضى، والمتأهِلّون للنبوة محفوظون من مثل هذا على كل حال. فأما قوله: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي فما زال الأنبياء يسألون الهدى، ويتضرّعون في دفع الضّلال عنهم، كقولهم: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «1» ، ولأنه قد آتاه رشده من قبل، وأراه ملكوت السّماوات والأرض ليكون موقناً، فكيف لا يعصمه عن مثل هذا التحيير؟! والثاني: أنه قال ذلك استدراجاً للحجة، ليعيب آلهتهم ويريهم بغضها عند أفولها، ولا بد أن يضمر في نفسه: إما على زعمكم، أو فيما تظنون، فيكون كقوله: أَيْنَ شُرَكائِيَ «2» ، وإما أن يضمر: يقولون، فيكون كقوله تعالى: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا «3» ، أي: يقولان ذلك، ذكر نحو هذا أبو بكر بن الانباري، ويكون مراده استدراج الحجة عليهم، كما نقل عن بعض الحكماء أنه نزل بقوم يعبدون صنما، فأظهر تعظيمه، فأكرموه، وصدروا عن رأيه، فدهمهم عدو، فشاورهم ملِكهم، فقال: ندعو إلهنا ليكشف ما بنا، فاجتمعوا يدعونه، فلم ينفع، فقال: ها هنا إله ندعوه، فيستجيب، فدعَوُا الله، فصرف عنهم ما يحذرون، وأسلموا. والثالث: أنه قال مستفهما، تقديره: أهذا ربي؟ فأضمرت ألف الاستفهام، كقوله:
أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ «4» ؟ أي: أفَهُمُ الخالدون؟ قال الشاعر:
كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلام مِنَ الرَّبَابِ خَيَالاَ «5»
أراد: أكذبتك؟ قال ابن الأنباري: وهذا القول شاذ، لأن حرف الاستفهام لا يضمر إذ كان فارقاً بين الإخبار والاستخبار وظاهر قوله: هذا رَبِّي أنه إشارة إلى الصانع. وقال الزجاج: كانوا أصحاب نجوم، فقال: هذا ربي، أي هذا الذي يدبرني، فاحتج عليهم أن هذا الذي تزعمون أنه مدبر، لا نرى فيه إلّا مدَّبر. و «أفل» بمعنى: غاب يقال: أفل النجم يأفُل ويأفِل أفولاً.
قوله تعالى: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أي: حبَّ ربٍّ معبود، لأن ما ظهر وأفل كان حادثا مدبّرا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 77 الى 78]
فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ قال ابن قتيبة: سمي القمر قمراً لبياضه والأقمر: الأبيض وليلة قمراء، أي: مضيئة. فأما البازغ، فهو الطالع. ومعنى لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي: لئن لم يثبِّتني على الهدى. فان قيل: لم قال في الشمس: هذا، ولم يقل: هذه؟ فعنه أربعة أجوبه: أحدها: أنه رأى ضوء الشمس، لا عينها، قاله محمد بن مقاتل. والثاني: أنه أراد: هذا الطالع ربي، قاله الأخفش. والثالث: أن الشمس بمعنى الضياء والنور، فحمل الكلام على المعنى. والرابع: أن الشمس ليس في لفظها علامة من علامات التأنيث، وإنما يشبه لفظها لفظ المذكَّر، فجاز تذكيرها. ذكره والذي قبله ابن الأنباري.
__________
(1) سورة إبراهيم: 35.
(2) سورة النحل: 27.
(3) سورة البقرة: 127. [.....]
(4) سورة الأنبياء: 34.
(5) البيت للأخطل من قصيدة يهجو بها جريرا، ديوانه 41 و «اللسان» كذب.(2/48)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 79 الى 80]
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80)
قوله تعالى: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ قال الزجاج: جعلت قصدي بعبادتي وتوحيدي لله رب العالمين عزّ وجلّ. وباقي الآية قد تقدم.
وقوله تعالى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قال ابن عباس: جادلوه في آلهتهم، وخوَّفوه بها، فقال منكراً عليهم: أَتُحاجُّونِّي. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي: أَتُحاجُّونِّي وتَأْمُرُونِّي بتشديد النون. وقرأ نافع، وابن عامر بتخفيفها، فحذفا النون الثانية لالتقاء النونين. ومعنى أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ أي: في توحيده. وَقَدْ هَدانِ، أي: بيَّن لي ما به اهتديت. وقرأ الكسائي: «هداني» ، بامالة الدال. والإمالة حسنة فيما كان أصله الياء، وهذا من هدى يَهدي.
قوله تعالى: وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أي: لا أرهب آلهتكم، وذلك أنهم قالوا: نخاف أن تمسك آلهتنا بسوء، فقال: لا أخافها لأنها لا تضر ولا تنفع إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً فله أخاف وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي: عَلِمه علماً تاما.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 81 الى 82]
وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
قوله تعالى: وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ أي: من هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، ولا تخافون أنتم أنكم أشركتم بالله الذي خلقكم ورزقكم، وهو قادر على ضركم ونفعكم ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً أي: حجة فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أي: بأن يأمن العذاب، الموحّدُ الذي يعبد من بيده الضر والنفع؟ أم المشرك الذي يعبد ما لا يضر ولا ينفع؟ ثم بين الأحق من هو بقوله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أي: لم يخلطوه بشرك.
(536) روى البخاري، ومسلم في «صحيحيهما» من حديث ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية، شق ذلك على المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، وأينا ذلك؟ فقال: إنّما هو الشّرك، ألم تسمعوا ما قاله لقمان لابنه: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» ؟
__________
حديث صحيح. أخرجه البخاري 32 و 3428 و 3429 و 4776 و 6918 و 6937 ومسلم 124، والترمذي 3067 والنسائي في «الكبرى» 11390 والطيالسي 270 وأحمد 1/ 387 و 424 و 444، والطبري 13483 و 13484 و 13487. وابن حبان 253 وابن مندة في «الإيمان» 265 و 266 و 267 و 268 والبيهقي 10/ 185 من حديث ابن مسعود.
__________
(1) سورة لقمان: 13.(2/49)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
وفيمن عني بهذه الآية، ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إبراهيم وأصحابه، وليست في هذه الأمة، قاله علي بن أبي طالب. وقال في رواية أخرى: هذه الآية لإبراهيم خاصة، ليس لهذه الأمة منها شيء.
والثاني: أنه من هاجر إلى المدينة، قاله عكرمة. والثالث: أنها عامة، ذكره بعض المفسرين. وهل هي من قول ابراهيم لقومه، أم جواب من الله تعالى؟ فيه قولان.
[سورة الأنعام (6) : آية 83]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
قوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا يعني ما جرى بينه وبين قومه من الاستدلال على حدوث الكوكب والقمر والشمس، وعيبهم، إذ سووا بين الصغير والكبير، وعبدوا من لا ينطق، وإلزامه إياهم الحجة.
آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه إليها بالإلهام. وقال مجاهد: الحجة قول ابراهيم: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ؟
قوله تعالى: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عمرو وابن عامر: «درجاتِ من نشاء» ، مضافا. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائيّ دَرَجاتٍ، منوّنا، وكذلك قرءوا في (يوسف) . ثم في المعنى قولان: أحدهما: أن الرفع بالعلم والفهم والمعرفة. والثاني: بالاصطفاء للرسالة. قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ قال ابن جرير: حكيم في سياسة خلقه، وتلقينه أنبياءه الحج على أممهم المكذبة عَلِيمٌ بما يؤول إليه أمر الكلّ.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 87]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87)
قوله تعالى: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولداً لصلبه وَيَعْقُوبَ ولدا لإسحاق كُلًّا من هؤلاء المذكورين هَدَيْنا أي: أرشدنا.
قوله تعالى: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ في «هاء الكناية» ، قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى نوح رواه أبو صالح عن ابن عباس، واختاره الفراء، ومقاتل، وابن جرير الطبري. والثاني: إلى إبراهيم، قاله عطاء.
وقال الزجاج: كلا القولين جائز، لأن ذكرهما جميعاً قد جرى، واحتج ابن جرير للقول الأول بأن الله تعالى، ذكر في سياق الآيات لوطاً، وليس من ذرية إبراهيم، وأجاب عنه أبو سليمان الدمشقي بأنه يحتمل أن يكون أراد: ووهبنا له لوطاً في المعاضدة والنصرة، ثم قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ من أبين دليل على انه إبراهيم، لأن افتتاح الكلام إنما هو بذكر ما أثاب به إبراهيم. فأما «يوسف» فهو اسم أعجمي. قال الفراء: «يوسف» . بضم السين من غير همز، لغة أهل الحجاز، وبعض بني أسد يقول: «يؤسف» ، بالهمز، وبعض العرب يقول: «يوسِف» بكسر السين، وبعض بني عُقيل يقول:
«يوسَف» بفتح السين.
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: كما جزينا إبراهيم على توحيده وثباته على دينه، بأن(2/50)
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89)
رفعنا درجته، ووهبنا له أولاداً أنبياء أتقياء، كذلك نجزي المحسنين. فأما عيسى، وإلياس، واليسع، ولوطا، فأسماء أعجمية، وجمهور القرّاء يقرءون «اليسع» بلام واحدة مخففة، منهم ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو وابن عامر. وقرأ حمزة، والكسائيّ ها هنا وفي (ص) «إلِلْيَسَّعَ» بلامين مع التشديد. قال الفراء: وهي أشبه بالصواب، وبأسماء الأنبياء من بني إسرائيل، ولأن العرب لا تدخل على «يَفْعَل» ، إذا كان في معنى فلان، ألفاً ولاماً، يقولون: هذا يسع قد جاء، وهذا يعمر، وهذا يزيد، فهكذا الفصيح من الكلام. وأنشدني بعضهم.
وَجَدْنا الوَلِيْد بنَ اليَزْيِد مباركاً ... شَدِيْداً بأحْناءِ الخِلافَةِ كاهِلُه «1»
فلما ذكر الوليد بالألف واللام، أتبعه يزيد بالألف واللام، وكلٌ صواب. وقال مكي: من قرأه بلام واحدة، فالأصل عنده: يسع، ومن قرأه بلامين، فالأصل عنده: لَيْسَعُ، فأدخلوا عليه حرف التعريف. وباقي أسماء الأنبياء قد تقدم بيانها، والمراد بالعالمين: عالمو زمانهم.
قوله تعالى: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ «من» ها هنا للتبعيض. قال الزجاج: المعنى: هدينا هؤلاء، وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم. وَاجْتَبَيْناهُمْ مثل اخترناهم واصطفيناهم، وهو مأخوذ من جبيت الشيء:
إذا أخلصته لنفسك. وجبيت الماء في الحوض: إذا جمعته فيه. فأمّا الصّراط المستقيم، فهو التّوحيد.
[سورة الأنعام (6) : آية 88]
ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)
قوله تعالى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ قال ابن عباس: ذلك دين الله الذي هم عليه يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ. وَلَوْ أَشْرَكُوا يعني الأنبياء المذكورين لَحَبِطَ أي: لبطل وزال عملهم، لأنه لا يقبل عمل مشرك.
[سورة الأنعام (6) : آية 89]
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89)
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني الكتاب التي أنزلها عليهم. والحكم: الفقه والعلم فَإِنْ يَكْفُرْ بِها يعني بآياتنا. وفيمن أُشير إليه ب «هؤلاء» ثلاثة أقوال «2» : أحدها: أنهم أهل مكة، قاله ابن عباس، وسعيد بن المسيب، وقتادة. والثاني: أنهم قريش، قاله السدي. والثالث: أمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم، قاله الحسن.
__________
(1) البيت منسوب لابن ميادة الرماح بن أبرد، معاني القرآن 1/ 342. وأحناء: جمع الحنو هو الجهة والجانب.
الكاهل اسم لما بين الكتفين ويعبر بشدة الكاهل عن القوة.
(2) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 261: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: عني بقوله فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ، كفار قريش فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ يعني به الأنبياء الثمانية عشر الذين سماهم الله تعالى ذكره في الآيات قبل هذه الآية. وذلك أن الخبر في الآيات قبلها عنهم مضى، وفي التي بعدها عنهم ذكر، فما بينها بأن يكون خبرا عنهم أولى وأحق من أن يكون خبرا عن غيرهم. فتأويل الكلام إذا كان ذلك كذلك، فإن كفر قومك من قريش، يا محمد بآياتنا، وكذبوا وجحدوا حقيقتها فقد استحفظناها واسترعينا القيام بها رسلنا وأنبياءنا من قبلك الذين لا يجحدون حقيقتها ولا يكذبون بها ولكنهم يصدقون بها ويؤمنون بصحتها. ا. هـ.(2/51)
أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
قوله تعالى: فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قال أبو عبيدة: فقد رزقناها قوماً. وقال الزجاج: وكلنا بالإيمان بها قوماً. وفي هؤلاء القوم أربعة أقوال: أحدها: أنهم أهل المدينة من الأنصار، قاله ابن عباس، وابن المسيب، وقتادة، والسدي. والثاني: الأنبياء والصالحون، قاله الحسن. وقال قتادة: هم النبيُّون الثمانية عشر، المذكورون في هذا المكان، وهذا اختيار الزجاج، وابن جرير. والثالث: أنهم الملائكة، قاله أبو رجاء. والرابع: أنهم المهاجرون والأنصار.
[سورة الأنعام (6) : آية 90]
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)
قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ يعني النبيين المذكورين. وفي قوله تعالى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قولان: أحدهما: بشرائعهم وبسننهم فاعملْ، قاله ابن السائب. والثاني: اقتدِ بهم في صبرهم، قاله الزجاج. وكان ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وعاصم، يثبتون الهاء من قوله: «اقتده» في الوصل ساكنة. وكان حمزة، والكسائيّ وخلف، ويعقوب، والكسائي عن أبي بكر، واليزيدي في اختياره، يحذفون الهاء في الوصل. ولا خلاف في إثباتها في الوقف، وإسكانها فيه. قوله تعالى: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً يعني على القرآن. والذكرى: العظة. والعالمون ها هنا: الجنّ والإنس.
[سورة الأنعام (6) : آية 91]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)
قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ في سبب نزولها سبعة أقوال «1» :
__________
(1) قال الطبري في تفسيره 5/ 264: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال، عني بقوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مشركو قريش، وذلك أن ذلك في سياق الخبر عنهم أولا، فأن يكون ذلك أيضا خبرا عنهم أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود ولما يجر لهم ذكر يكون هذا به متصلا مع ماضي الخبر عمن أخبر الله عنه في هذه الآية، من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتاب، وليس ذلك مما تدين به اليهود، بل المعروف من دين اليهود: الإقرار بصحف إبراهيم وموسى، وزبور داود وإذا لم يأت بما روى من الخبر بأن قائل ذلك كان رجلا من اليهود، خبر صحيح متصل السند، ولا كان على أن ذلك كان كذلك من أهل التأويل إجماع، وكان الخبر من أول السورة ومبتدئها إلى هذا الموضع خبرا عن المشركين من عبدة الأوثان، وكان قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ موصولا بذلك غير مفصول منه لم يجز لنا أن ندعي أن ذلك مصروف عما هو به موصول إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر أو عقل. ولكني أظن أن الذين تأولوا ذلك خبرا عن اليهود، وجدوا قوله قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ فوجهوا تأويل ذلك إلى أن لأهل التوراة فقرأوه على وجه الخطاب لهم تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ فجعلوا ابتداء الآية خبرا عنهم إذا كانت خاتمتها خطابا لهم عندهم. وغير ذلك من التأويل والقراءة أشبه بالتنزيل، لما وصفت قبل من أن قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ في سياق الخبر عن مشركي العرب وعبدة الأوثان وهو به متصل فالأولى أن يكون ذلك خبرا عنهم. والأصوب من القراءة، في قوله: تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً منها. أن يكون بالياء لا بالتاء، على معنى: أن اليهود يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا، ويكون الخطاب بقوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ لمشركي قريش، وهذا هو المعنى الذي قصده كمجاهد إن شاء الله في تأويل ذلك، وكذلك كان يقرأ. اهـ.(2/52)
(537) أحدها: أن مالك بن الصيف رأس اليهود، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى، أتجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين» ؟ قال: نعم.
قال: «فأنت الحبر السمين» . فغضب، ثم قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس وكذلك قال سعيد بن جبير، وعكرمة: نزلت في مالك بن الصيف.
(538) والثاني: أن اليهود قالوا: يا محمد، أنزل الله عليك كتاباً؟ قال: «نعم» . قالوا: والله ما أنزل الله من السماء كتاباً، فنزلت هذه الآية، رواه الوالبي عن ابن عباس.
(539) والثالث: أن اليهود قالوا: يا محمد، إن موسى جاء بألواح يحملها من عند الله، فائتنا بآية كما جاء موسى، فنزل: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ، إلى قوله:
عَظِيماً «1» . فلما حدَّثهم بأعمالهم الخبيثة، قالوا: والله ما أنزل الله عليك ولا على موسى وعيسى، ولا على بشر، من شيء، فنزلت هذه الآية، قاله محمد بن كعب.
والرابع: أنها نزلت في اليهود والنصارى، آتاهم الله علما، فلم ينتفعوا به، قاله قتادة.
(540) والخامس: أنها نزلت في فنحاص اليهودي، وهو الذي قال: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قاله السدي.
(541) والسادس: أنها نزلت في مشركي قريش، قالوا: والله ما أنزل الله على بشر من شيء، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد.
والسابع: أن أولها، إلى قوله: مِنْ شَيْءٍ في مشركي قريش. وقوله تعالى: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى في اليهود، رواه ابن كثير عن مجاهد.
وفي معنى وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ثلاثة أقوال: أحدها: ما عظَّموا الله حق عظمته، قاله ابن
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 13539 من رواية جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير مرسلا، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 440 عن سعيد بن جبير بدون إسناد.
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس وهي رواية واهية فيه انقطاع بين علي الوالبي وابن عباس.
- أخرجه الطبري 13544 من رواية علي بن أبي طلحة عن ابن عباس. وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 438 من رواية الوالبي عن ابن عباس.
مرسل. أخرجه الطبري 13542 عن محمد بن كعب القرظي مرسلا والمرسل من قسم الضعيف.
مرسل. أخرجه الطبري 13541 عن السدي مرسلا، والمرسل من قسم الضعيف.
الخلاصة هذه الروايات وإن كانت ضعيفة أو مرسلة لكنها تتأكد بمجموعها ومع ذلك اختار ابن جرير القول الآتي، انظر التعليق على ذلك.
مرسل أخرجه الطبري 13547 عن مجاهد مرسلا والمرسل من قسم الضعيف.
__________
(1) سورة النساء: 153- 156.(2/53)
وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
عباس، والحسن، والفراء، وثعلب، والزجاج. والثاني: ما وصفوه حقّ صفته، قاله أبو العالية، واختاره الخليل. والثالث: ما عرفوه حق معرفته، قاله أبو عبيدة.
قوله تعالى: «يجعلونه قراطيس» معناه: يكتبونه في قراطيس. وقيل: إنما قال: قراطيس، لأنهم كانوا يكتبونه في قراطيس مقطَّعة، حتى لا تكون مجموعة، ليخفوا منها ما شاؤوا.
قوله تعالى: «يبدونها» قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «يجعلونه قراطيس يبدونها» و «يخفون» بالياء فيهن. وقرأ نافع، وعاصم، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: بالتاء فيهن. فمن قرأ بالياء، فلأن القوم غُيّب، بدليل قوله تعالى: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ. ومن قرأ بالتاء، فعلى الخطاب والمعنى: تبدون منها ما تحبون، وتخفون كثيراً، مثل صفة محمّد صلى الله عليه وسلم، وآية الرجم، ونحو ذلك مما كتموه.
قوله تعالى: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ في المخاطب بهذا قولان:
أحدهما: أنهم اليهود، قاله الجمهور. والثاني: أنه خطاب للمسلمين، قاله مجاهد. فعلى الأول:
عُلِّموا ما في التوراة وعلى الثاني: عُلِّموا على لسان محمّد صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: قُلِ اللَّهُ هذا جواب لقوله: مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ وتقديره: فإن أجابوك، وإلا فقل:
الله أنزله.
قوله تعالى: ثُمَّ ذَرْهُمْ تهديد. وخوضهم: باطلهم. وقيل: إن هذا أمر بالإعراض عنهم، ثم نسخ بآية السيف.
[سورة الأنعام (6) : آية 92]
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)
قوله تعالى: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ يعني القرآن. قال الزجاج: والمبارك: الذي يأتي من قِبَله الخير الكثير. والمعنى: أنزلناه للبركة والإنذار.
قوله تعالى: مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتاب.
قوله تعالى: وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى قرأ عاصم إلا حفصا: «ولينذر» بالياء فيكون الكتاب هو المنذر.
وقرأ الباقون: بالتاء، على الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. فأما أم القرى، فهي مكة. قال الزجاج: والمعنى: لتنذر أهل أم القرى. وفي تسميتها بأم القرى أربعة أقوال: أحدها: أنها سميت بذلك، لأن الأرض دُحيت من تحتها، قاله ابن عباس. والثاني: لأنها أقدمُها، قاله ابن قتيبة. والثالث: لأنها قبلة جميع الناس، يَؤُمُّونها. والرابع: لأنها كانت أعظم القرى شأناً، ذكرهما الزجاج.
قوله تعالى: وَمَنْ حَوْلَها قال ابن عباس: يريد الأرض كلها.
قوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ في هاء الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى القرآن. والثاني: إلى النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم. والمعنى: من آمن بالآخرة آمن به ومن لم يؤمن به، فليس إيمانه بالآخرة حقيقة، ولا يعتد به، ألا ترى إلى قوله: وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فدل على أنه أراد المؤمنين الذين يحافظون على الصّلوات.(2/54)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
[سورة الأنعام (6) : آية 93]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
قوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ اختلفوا فيمن نزلت على ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أن أولها، إلى قوله: وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ نزل في مُسيلمة الكذاب. وقوله تعالى:
وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ (542) نزل في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، كان قد تكلم بالإسلام، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأحايين فاذا أُملي عليه: «عزيز حكيم» كتب: «غفور رحيم» فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
هذا وذاك سواء. فلما نزلت: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) أملاها عليه، فلما انتهى إلى قوله: خَلْقاً آخَرَ عجب عبد الله بن سعد، فقال: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«كذا أنزلت عليَّ، فاكتبها» فشك حينئذ، وقال: لئن كان محمد صادقاً، لقد أوحي إليَّ كما أوحي إليه، ولئن كان كاذباً، لقد قلت كما قال، رواه أبو صالح عن ابن عباس. قال عكرمة: ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة.
والقول الثاني: أن جميع الآية في عبد الله بن سعد، قاله السّدّيّ.
__________
عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 442 عن ابن عباس من رواية الكلبي معلقا والكلبي متروك متهم. وأخرجه الطبري 13559 من مرسل عكرمة.
وكرره 13560 من مرسل السدي، وأخرجه الحاكم 3/ 45 والواحدي في «أسباب النزول» 442 من مرسل شرحبيل بن سعد. فالحديث بهذه الطرق مع اختلاف مخارجها. والله أعلم- ربما يتقوى ولكن لا تبلغ درجة ما يحتج به. انظر «تفسير الشوكاني» 912، و «تفسير القرطبي» 2929 بتخريجنا.
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى قال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ولا تمانع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال: «إني قد قلت مثل ما قال محمد» . وأنه ارتد عن إسلامه والتحق بالمشركين. فكان لا شك بذلك من قيله مفتريا كذبا وكذلك لا خلاف بين الجميع أن مسيلمة والعنسي الكذابين ادعيا على الله كذبا أنه بعثهما نبيين، وقال كل واحد منهما إن الله أوحى إليه. وهو كاذب في قيله. فإن كان ذلك كذلك، فقد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقا على الله كذبا. وقائلا في ذلك الزمان وفي غيره: «أوحى الله إلي» . وهو في قيله كاذب، لم يوح الله إليه شيئا. فأما التنزيل فإنه جائز أن يكون نزل بسبب بعضهم وجائز أن يكون نزل بسبب جميعهم. وجائز أن يكون عني به جميع المشركين من العرب. إذ كان قائلو ذلك منهم، فلم يغيروه. فعيّرهم الله بذلك. وتوعدهم بالعقوبة على تركهم نكير ذلك، ومع تركهم نكيره هم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم كاذبون، ولنبوته جاحدون، ولآيات الله وتنزيله دامغون، فقال لهم جل ثناؤه: «ومن أظلم ممن ادعى على النبوة كاذبا» وقال:
أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ومع ذلك يقول ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فينقض قوله بقوله، ويكذب بالذي تحققه وينفي ما يثبته، وذلك إذا تدبره العاقل الأريب علم أن فاعله من عقله عديم ا. هـ.(2/55)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
(543) والثالث: أنها نزلت في مسيلمة، والأسود العنْسيّ، قاله قتادة.
فان قيل: كيف أفرد قوله: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ من قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى وذاك مفترٍ أيضا؟
فعنه جوابان: أحدهما: أن الوصفين لرجل واحد، وصف بأمر بعد أمر ليدل على جرأته. والثاني: أنه خص بقوله: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ بعد أن عم بقوله: افْتَرى عَلَى اللَّهِ لأنه ليس كل مفترٍ على الله يدعي أنه أوحي إليه، ذكرهما ابن الأنباري.
قوله تعالى: سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي: سأقول. قال ابن عباس: يعنون الشّعر، وهم المستهزئون. وقيل: هو قول عبد الله بن سعد بن أبي سرح. قال الزجاج: وهذا جواب لقولهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا.
قوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فيهم ثلاثة أقوال:
(544) أحدها: أنهم قوم كانوا مسلمين بمكة، فأخرجهم الكفار معهم إلى قتال بدر، فلما أبصروا قلّة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا عن الإيمان فنزل فيهم هذا، قاله أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنهم الذين قالوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قاله أبو سليمان. والثالث: الموصوفون في هذه الآية، وهم المفترون والمدَّعون الوحي إليهم، ومماثلة كلام الله. قال الزجاج: وجواب «لو» محذوف، والمعنى: لو تراهم في غمرات الموت لرأيت عذاباً عظيماً. ويقال لكل من كان في شيء كبير: قد غمر فلاناً ذلك. قال ابن عباس: غمرات الموت: سكراته. قال ابن الانباري: قال اللغويون:
سميت غمرات لأن أهوالها يغمرن من يقعن به.
قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بالضرب، قاله ابن عباس.
والثاني: بالعذاب، قاله الحسن، والضحاك. والثالث: باسطوها لقبض الأرواح من الأجساد، قاله الفراء. وفي الوقت الذي يكون هذا فيه ثلاثة أقوال: أحدها: عند الموت. قال ابن عباس: هذا عند الموت، الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم، وملك الموت يتوفاهم. والثاني: يوم القيامة، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: في النار، قاله الحسن.
قوله تعالى: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ فيه إضمار «يقولون» وفي معناه قولان:
أحدهما: استسلموا لإخراج أنفسكم. والثاني: أخرجوا أنفسكم من العذاب إن قدرتم.
قوله تعالى: تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ قال أبو عبيدة: الهون: مضموم، وهو الهوان وإذا فتحوا أوله، فهو الرِّفق والدَّعة. قال الزجاج: والمعنى: تجزَون العذاب الذي يقع به الهوان الشّديد.
[سورة الأنعام (6) : آية 94]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
__________
ضعيف جدا. أخرجه الطبري 13561 عن قتادة مرسلا فهو ضعيف والمتن منكر، فالسورة مكية، وخبر مسيلمة مدني.
عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة لأن مدارها على الكلبي، وهو ممن يضع الحديث.(2/56)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
قوله تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى.
(545) سبب نزولها: أن النضر بن الحارث قال: سوف تشفع لي اللاَّت والعزى، فنزلت هذه الآية، قاله عكرمة.
ومعنى فرادى: وُحداناً. وهذا إخبار من الله تعالى بما يوبِّخ به المشركين يوم القيامة. قال أبو عبيدة: فرادى، أي: فرد فرد. وقال ابن قتيبة: فرادى: جمع فرد. وللمفسرين في معنى «فرادى» خمسة اقوال متقاربة المعنى: أحدها: فرادى من الأهل والمال والولد، قاله ابن عباس. والثاني: كل واحد على حدة، قاله الحسن. والثالث: ليس معكم من الدنيا شيء، قاله مقاتل. والرابع: كل واحد منفرد عن شريكه في الغيّ، وشقيقه، قاله الزجاج. والخامس: فرادى من المعبودين، قاله ابن كيسان.
قوله تعالى: كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فيه ثلاثة اقوال: أحدها: لا مال ولا أهل ولا ولد. والثاني:
حفاةً عراةً غرلاً. والغرل: القلف. والثالث: أحياءً. وخولناكم: بمعنى ملّكناكم. وَراءَ ظُهُورِكُمْ أي: في الدنيا. والمعنى أن ما دأبتم في تحصيله في الدنيا فني، وبقي الندم على سوء الاختيار. وفي شفعائهم، قولان: أحدهما: أنها الأصنام. قال ابن عباس: شفعاؤكم، أي: آلهتكم الذين زعمتم أنهم يشفعون لكم. وزَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ أي: عندكم شركاء. وقال ابن قتيبة: زعمتم أنهم لي في خلقكم شركاء. والثاني: أنها الملائكة كانوا يعتقدون شفاعتها، قاله مقاتل.
قوله تعالى: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، وأبو بكر عن عاصم: بالرفع. وقرأ نافع، والكسائي، وحفص عن عاصم: بنصب النون على الظرف. قال الزجاج:
الرفع أجود، ومعناه: لقد تقطَّع وصلكم، والنصب جائز ومعناه: لقد تقطع ما كنتم فيه من الشركة بينكم. وقال ابن الانباري: التقدير: لقد تقطع ما بينكم، فحذف «ما» لوضوح معناها. قال أبو علي:
الذين رفعوه، جعلوه اسماً، فأسندوا الفعل الذي هو «تقطَّع» إليه والمعنى: لقد تقطع وصلكم. والذين نصبوا، أضمروا اسم الفاعل في الفعل، والمضمر هو الوصل فالتقدير: لقد تقطع وصلكم بينكم.
وفي الذي كانوا يزعمون قولان: أحدهما: شفاعة آلهتهم. والثاني: عدم البعث والجزاء.
[سورة الأنعام (6) : آية 95]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى في معنى الفلق قولان: أحدهما: أنه بمعنى الخلق، فالمعنى: خالق الحب والنوى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك، ومقاتل. والثاني: أن الفلق بمعنى الشق. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنه فلق الحبة عن السنبلة، والنواة عن النخلة، روى هذا المعنى أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال الحسن، والسدي، وابن زيد. والثاني: أنه الشقان اللَّذان في الحب والنوى، قاله مجاهد، وأبو مالك. قال ابن السائب: الحب: ما لم يكن له نوى، كالبرّ
__________
ضعيف أخرجه الطبري 13577 عن عكرمة مرسلا فهو ضعيف. وذكره السيوطي في «أسباب النزول» 478 عن عكرمة مرسلا.(2/57)
فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
والشعير والنوى: مثل نوى التمر.
قوله تعالى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ قد سبق تفسيره في (آل عمران) .
قوله تعالى: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي: كيف تُصرفون عن الحقّ بعد هذا البيان.
[سورة الأنعام (6) : آية 96]
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96)
قوله تعالى: فالِقُ الْإِصْباحِ في معنى الفلق قولان قد سبقا. فأما الإصباح، فقال الأخفش: هو مصدر من أصبح. وقال الزجاج: الإصباح والصبح واحد. وللمفسرين في الإصباح، ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثاني: أنه إضاءة الفجر، قاله مجاهد. وقال ابن زيد: فلق الإصباح من الليل. والثالث: أنه نوَّر النهار، قاله الضحاك. وقرأ أنس بن مالك، والحسن، وأبو مجلز، وأيوب، والجحدري: «فالق الأَصباح» بفتح الهمزة. قال أبو عبيدة: ومعناه جمع صبح.
قوله تعالى: وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر: «جاعل» بألف، وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي: «وجعل» بغير ألف. «الليلَ» نصباً. قال أبو عليّ: من قرأ: «وجاعل» فلأجل «فالق» وهم يراعون المشاكلة. ومن قرأ: «جعل» فلأنّ «فاعلا» ها هنا. بمعنى: «فعل» بدليل قوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً. فأما السكن، فهو ما سكنْتَ إليه. والمعنى: أن الناس يسكنون فيه سكون راحة. وفي الحسبان قولان:
أحدهما: أنه الحساب، قاله الجمهور. قال ابن قتيبة: يقال: خذ من كل شيء بحسبانه، أي:
بحسابه. وفي المراد بهذا الحساب، ثلاثة أقوال: أحدها: أنهما يجريان إلى أجل جُعل لهما، رواه العوفي عن ابن عباس. والثاني: يجريان في منازلهما بحساب، ويرجعان إلى زيادة ونقصان، قاله السدي. والثالث: أن جريانهما سبب لمعرفة حساب الشهور، والأعوام، قاله مقاتل.
والقول الثاني: أن معنى الحسبان: الضياء، قاله قتادة. قال الماوردي: كأنه أخذه من قوله تعالى:
وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ «1» أي: ناراً. قال ابن جرير: وليس هذا من ذاك في شيء.
[سورة الأنعام (6) : آية 97]
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ جعل، بمعنى خلق. وإنما امتنَّ عليهم بالنجوم، لأن سالكي القفار وراكبي البحار، إنما يهتدون في الليل لمقاصدهم بها.
[سورة الأنعام (6) : آية 98]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني آدم فَمُسْتَقَرٌّ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ويعقوب، إلا رُويساً: بكسر القاف. وقرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي: بفتحها.
قال الزجاج: من كسر، فالمعنى: «فمنكم مستقِر» ومن نصب، فالمعنى: «فلكم مستقَرّ» . فأما مستودع،
__________
(1) سورة الكهف: 40.(2/58)
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
فبالفتح، لا غير. ومعناه على فتح القاف: «ولكم مستودع» وعلى كسرها «ومنكم مستودع» . وللمفسّرين في معنى المستقر والمستودع تسعة أقوال «1» : أحدها: فمستقر في الأرحام، ومستودع في الأصلاب، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، ومجاهد، وعطاء، والضحاك، والنخعي، وقتادة، والسدي، وابن زيد. والثاني: المستقر في الأرحام، والمستودع في القبر، قاله ابن مسعود. والثالث:
المستقر في الأرض، والمستودع في الأصلاب، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والرابع: المستقر والمستودع في الرحم، رواه قابوس عن أبيه عن ابن عباس. والخامس: المستقر حيث يأوي، والمستودع حيث يموت، رواه مقسم عن ابن عباس. والسادس: المستقر في الدنيا والمستودع في القبر. والسابع: المستقر في القبر، والمستودع في الدنيا، وهو عكس الذي قبله، رويا عن الحسن.
والثامن: المستقر في الدنيا، والمستودع عند الله تعالى، قاله مجاهد. والتاسع: المستقر في الأصلاب، والمستودع في الأرحام، قاله ابن بحر، وهو عكس الأول.
[سورة الأنعام (6) : آية 99]
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فَأَخْرَجْنا بِهِ أي: بالمطر. وفي قوله تعالى: نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ قولان: أحدهما: نبات كل شيء من الثمار، لأن كل ما ينبت، فنباته بالماء.
والثاني: رزق كل شيء وغذاؤه. وفي قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا مِنْهُ قولان: أحدهما: من الماء، أي:
به. والثاني: من النبات. قال الزجاج: الخَضِر بمعنى الأخضر يقال: اخضرَّ، فهو أخْضر، وخَضِر، مثل أعوَّر، فهو أعْوَر، وعَوِر.
قوله تعالى: نُخْرِجُ مِنْهُ أي: من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً كالسنبل والشعير. والمتراكب:
الذي بعضه فوق بعض. قوله تعالى: وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وروى الخفّاف عن أبي عمرو:
«قُنوان» بضم القاف وروى هارون عنه بفتحها. قال الفراء: معناه: ومن النخل ما قنوانه دانية وأهل الحجاز يقولون: «قِنوان» بكسر القاف وقيس يضمّونها وضبّة، وتميم يقولون: «قنيان» أنشدني المفضّل عنهم:
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 202: «فمستقر» أي في الأرحام و «مستودع» أي في الأصلاب وهذا القول هو الأظهر والله أعلم ا. هـ. وقال الطبري في «تفسيره» 5/ 286: وأولى التأويلات في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه عمّ بقوله: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ كل خلقه الذي أنشأ من نفس واحدة، فمستقرا ومستودعا ولم يخص من ذلك معنى دون معنى. ولا شك أن في بني آدام مستقرا في الرحم، ومستودعا في الصلب، ومنهم من هو مستقر على ظهر الأرض أو بطنها، ومستودع في أصلاب الرجال، ومنهم مستقر في القبر، مستودع على ظهر الأرض. فكلّ «مستقر» أو «مستودع» . بمعنى من هذه المعاني، فداخل في عموم قوله فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ومراد به، إلا أن يأتي خبر يجب التسليم له بأنه معنى به معنى دون معنى، وخاص دون عام. ا. هـ.(2/59)
فأثَّتْ أعَالِيْهِ وآدَتْ أصُوْلُه ... وَمَالَ بِقِنْيانٍ من البُسْرِ أحْمَرَا «1»
ويجتمعون جميعاً، فيقولون: «قِنو» و «قُنو» ولا يقولون: «قِني» ولا «قُني» وكلب تقول: «ومال بقنيان» . قلت: هذا البيت لامرئ القيس رواه أبو سعيد السكري: «ومال بِقِنوان» مكسورة القاف مع الواو، ففيه أربع لغات: قِنوان، وقُنوان، وقنيان، وقنيان و «أثّت» : كثرت ومنه: شعر أثيث.
و «آدت» : اشتدت. وقال ابن قتيبة: القنوان: عذوق النخل، واحدها: قنو، جمع على لفظ تثنية ومثله: صنو وصنوان في التثنية، وصنوان في الجميع. وقال الزجاج: قِنوان: جمع قِنو، وإذا ثنيته فهما قِنوان، بكسر النون. ودانية، أي: قريبة المتناول، ولم يقل: «ومنها قنوان بعيدة» لأن في الكلام دليلاً أن البعيدة السحيقة قد كانت غير سحيقة، فاجتزئ بذكر القريبة عن ذكر البعيدة كقوله تعالى:
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «2» . وقال ابن عباس: القُنوان الدانية: قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض.
قوله تعالى: وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ قال الزجاج: هو نسق على قوله: «خضراً» وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ المعنى: وأخرجنا منه شجر الزيتون والرمان وقد روى أبو زيد عن المفضّل: «وجنات» بالرفع.
قوله تعالى: مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: مشتبها في المنظر وغير متشابه في الطعم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: مشتبهاً ورقه، مختلفاً ثمره، قاله قتادة، وهو في معنى الأول. والثالث: منه ما يشبه بعضه بعضاً، ومنه ما يخالف. قال الزجاج: وإنما قرن الزيتون بالرمان، لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره. قال الشاعر.
بُورِكَ الميّت الغَريبُ كما بو ... رِكَ نَضْحُ الرُّمَّانِ والزَّيْتُونِ «3»
ومعناه: أن البركة في ورقه اشتمالُه على عوده كلِّه.
قوله تعالى: انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم:
انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ، وكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ، ولِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ: بالفتح في ذلك. وقرأ حمزة.
والكسائي، وخلف: بالضّمّ فيهنّ. قال الزّجّاج: يقال: ثمرة، ثمر، وثِمَار، وثُمُر فمن قرأ: «إلى ثُمُره» بالضم أراد جمع الجمع. وقال أبو علي: يحتمل وجهين: أحدهما: هذا، وهو أن يكون الثمر جمع ثمار، والثاني: أن تكون الثمر جمع ثمرة، وكذلك: أكمة، وأُكُم، وخشبة وخُشُب. قال الفراء:
يقول: انظروا إليه أول ما يَعْقِد، وانظروا إلى ينعه، وهو نضجه وبلوغه. وأهل الحجاز يقولون: يَنْعَ، بفتح الياء، وبعض أهل نجد يضمونها. قال ابن قتيبة: يقال: ينَعت الثّمر، وأينعت: إذا أدركت، وهو اليُنْع واليَنْع. وقرأ الحسن، ومجاهد، وقتادة، والأعمش، وابن محصن: «ويُنعِه» بضم الياء. قال الزجاج: الينع: النُضج. قال الشاعر:
__________
(1) البيت لامرئ القيس. ديوانه 67. «اللسان» قنا. وقوله: أثت أعاليه: عظمت والتفت من ثقل حملها. وقوله:
آدت أي تثنت ومالت.
(2) سورة النحل: 81.
(3) البيت منسوب إلى أبي طالب بن عبد المطلب «اللسان» نضح.(2/60)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
في قِبَابٍ حَوْلَ دَسْكَرَةٍ ... حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعا «1»
وبيَّن الله تعالى لهم بتصريف ما خلق، ونقله من حال إلى حال لا يقدر عليه الخلق، أنه كذلك يبعثهم.
قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قال ابن عباس: يصدِّقون أن الذي أخرج هذا النبات قادر على أن يحيي الموتى. وقال مقاتل: يصدّقون بالتّوحيد.
[سورة الأنعام (6) : آية 100]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ جعلوا، بمعنى وصفوا. قال الزجاج: نصبُ «الجن» من وجهين: أحدهما: أن يكون مفعولاً، فيكون المعنى: وجعلوا لله الجنَ شركاء ويكون الجن مفعولاً ثانيا، كقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «2» . والثاني: أن يكون الجن بدلاً من شركاء، ومفسراً للشركاء. وقرأ ابو المتوكل، وأبو عمران، وأبو حياة، والجحدري: «شركاء الجنُ» برفع النون وقرأ ابن عبلة، ومعاذ القارئ: «الجنِّ» بخفض النون. وفي معنى جعلهم الجن شركاء ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم أطاعوا الشياطين في عبادة الأوثان، فجعلوهم شركاء لله، قاله الحسن، والزجاج.
والثاني: قالوا: إن الملائكة بنات الله فهم شركاؤه، كقوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً فسمى الملائكة جنَّاً لاجتنانهم، قاله قتادة والسدي، وابن زيد. والثالث: أن الزنادقة قالوا: الله خالق النور والماء والدواب والأنعام، وإبليس خالق الظلمة والسباع والحيات والعقارب، وفيهم نزلت هذه الآية.
قاله ابن السائب «3» .
قوله تعالى: وَخَلَقَهُمْ في الكناية قولان: أحدهما: أنها ترجع إلى الجاعلين له الشركاء، فيكون المعنى: وجعلوا للذي خلقهم شركاء لا يخلقون. والثاني: أنها ترجع إلى الجن، فيكون المعنى: والله خلق الجن، فكيف يكون الشريك لله مُحدِثا؟ ذكرهما الزجاج.
قوله تعالى: وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ وقرأ نافع: «وخرّقوا» بالتشديد، للمبالغة والتكثير، لأن المشركين ادَّعوا الملائكةَ بناتِ الله، والنصارى المسيحَ. واليهود عزيراً. وقرأ ابن عباس، وأبو رجاء، وأبو الجوزاء: «وحرّفوا» بحاء غير معجمة وبتشديد الراء وبالفاء. وقرأ ابن السّميفع، والجحدريّ:
«وخارقوا» بألف وخاء معجمة قال السدي: أما «البنون» ، فقول اليهود، عزير ابن الله، وقول النصارى:
المسيح ابن الله، وأما «البنات» فقول مشركي العرب: الملائكة بناتُ الله. قال الفراء: خرّقوا، واخترقوا، وخلقوا، واختلقوا، بمعنى افتروا. وقال أبو عبيدة: خرقوا: جعلوا. قال الزّجّاج: ومعنى:
__________
(1) البيت منسوب إما للأحوص أو إلى يزيد بن معاوية. وهو في «اللسان» دسكر و «مجاز القرآن» 1/ 202.
الدسكرة: بناء كالقصر. كانت الأعاجم تتخذه للشرب والملاهي. [.....]
(2) سورة الصافات: 158.
(3) عزاه المصنف للكلبي، وهو ساقط العدالة، يضع الحديث، فخبره لا شيء.
- وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 443 عن الكلبي بدون إسناد.(2/61)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
«بغير علم» أنهم لم يذكروه من علم، إنما ذكروه تكذّبا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 101 الى 102]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
قوله تعالى: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ قال الزجاج: أي: من أين يكون له ولد، والولد لا يكون إلا من صاحبة؟! واحتج عليهم في نفي الولد بقوله تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فليس مثل خالق الأشياء، فكيف يكون الولد لمن لا مثل له؟! فاذا نُسب إليه الولد، فقد جعُل له مثل.
[سورة الأنعام (6) : آية 103]
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ في الإدراك قولان «1» : أحدهما: أنه بمعنى الإحاطة.
والثاني: بمعنى الرؤية. وفي «الأبصار» قولان: أحدهما: أنها العيون، قاله الجمهور. والثاني: أنها العقول، رواه عبد الرّحمن بن مهدي عن أبي حصين القارئ. ففي معنى الآية ثلاثة أقوال: أحدها: لا تحيط به الأبصار، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن المسيب، وعطاء. وقال الزجاج:
معنى الآية: الإحاطة بحقيقته، وليس فيها دفع للرؤية، لِما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرؤية، وهذا مذهب أهل السُنَّة والعلم والحديث. والثاني: لا تدركه الأبصار إذا تجلَّى بنوره الذي هو نوره، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثالث: لا تدركه الأبصار في الدنيا، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير في «تفسيره» 2/ 204- 205- 206. الآية لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ. فيه أقوال للأئمة من السلف أحدها: لا تدركه في الدنيا، وإن كانت تراه في الآخرة كما تواترت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد كما قال مسروق، عن عائشة أنها قالت: من زعم أن محمدا أبصر ربه فقد كذب. فإن الله يقول: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ. وقد خالفهما ابن عباس فعنه إطلاق الرؤية، وعنه أنه رآه بفؤاده مرتين. وقال آخرون: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ: أي جميعها، وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة. وقال آخرون من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من هذه الآية: أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة. فخالفوا أهل السنة والجماعة في ذلك، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله، أما الكتاب فقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وقال تعالى عن الكافرين كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ. قال الإمام الشافعي: فدلّ هذا على أن المؤمنين لا يحجبون عنه تبارك وتعالى وأما السنة فقد تواترت الأخبار أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات، وفي روضات الجنان. جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين. وقيل: المراد بقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أي العقول وهذا غريب جدا. وخلاف ظاهر الآية، وكأنه اعتقد أن الإدراك في معنى الرؤية والله أعلم. وقال آخرون: لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك، فإن الإدراك أحصن من الرؤية، ولا يلزم نفي الأحصن انتفاء الأعم. ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي، ما هو؟ فقيل: معرفة الحقيقة فإن هذا لا يعلمه إلا هو وإن رآه المؤمنون كما أن من رأى القمر فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته. فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى. وقال آخرون:
المراد بالإدراك الإحاطة، قالوا: ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم. قال الله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً. ونفي هذا الإدراك الخاص، لا ينفي الرؤية يوم القيامة، يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه- تعالى وتقدس وتنزه- فلا تدركه الأبصار ا. هـ.(2/62)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
الحسن، ومقاتل، ويدل على أن الآية مخصوصة بالدنيا، قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «1» فقيَّد النظر إليه بالقيامة، وأطلق في هذه الآية، والمطلق يحمل على المقيد. وقوله تعالى:
وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ فيه القولان: قال الزجاج: وفي هذا الإعلام دليل على أنَّ خَلْقَه لا يدركون الأبصار، أي: لا يعرفون حقيقة البصر، وما الشيء الذي صار به الإنسان يبصر من عينيه، دون أن يبصر من غيرهما من أعضائه فأعلم الله أن خلقاً من خلقه لا يدرك المخلوقون كنهه، ولا يحيطون بعلمه فكيف به عزّ وجلّ؟! فأما «اللطيف» ، فقال أبو سليمان الخطابي: هو البرّ بعباده، الذي يلطف لهم من حيث لا يعلمون، ويسبِّب لهم مصالحهم من حيث لا يحتسبون. قال ابن الاعرابي: اللطيف: الذي يوصل إليك أرَبَك في رِفق ومنه قولهم: لطف الله بك ويقال: هو الذي لَطُفَ عن أن يُدرَك بالكيفية.
وقد يكون اللطف بمعنى الدقة والغموض، ويكون بمعنى الصغر في نعوت الأجسام، وذلك مما لا يليق بصفات الباري سبحانه. وقال الأزهري: اللطيف من أسماء الله، معناه: الرفيق بعباده والخبير: العالم بكنه الشيء، المطّلع على حقيقته.
[سورة الأنعام (6) : آية 104]
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ البصائر: جمع بصيرة، وهي الدلالة التي توجب البصر بالشيء والعلم به. قال الزجاج: والمعنى: قد جاءكم القرآن الذي فيه البيان والبصائر فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ نفع ذلك وَمَنْ عَمِيَ فعلى نفسه ضرر ذلك، لأن الله عزّ وجلّ غني عن خلقه. وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أي: لست آخذكم بالإيمان أخذ الحفيظ والوكيل، وهذا قبل الأمر بالقتال.
(فصل:) وذكر المفسرون أن هذه الآية نسخت بآية السيف. وقال بعضهم: معناها: لست رقيباً عليكم، أحصي أعمالكم فعلى هذا لا وجه للنّسخ.
[سورة الأنعام (6) : آية 105]
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ قال الأخفش: وَكَذلِكَ معناها: وهكذا. وقال الزجاج: المعنى: وَمِثْلُ ما بيَّنَّا فيما تُلي عليك، نُبيِّن الآيات، قال ابن عباس: نصرِّف الآيات، أي نبيِّنها في كل وجه، ندعوهم بها مرَّة، ونخوفهم بها أُخرى. وَلِيَقُولُوا يعني أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن «دارست» . قال ابن الانباري: معنى الآية: وكذلك نصرف الآيات، لنلزمهم الحجة، وليقولوا:
دارست وإنما صرّف الآيات ليسعد قوم بفهمها والعمل بها، ويشقى آخرون بالإعراض عنها فمن عمل بها سعد، ومن قال: دارست، شقي. قال الزجاج: وهذه اللام في «ليقولوا» يسميها أهل اللغة لام الصيرورة. والمعنى: أن السّبب الذي أدّاهم إلى أن يقولوا: دارست!، هو تلاوة الآيات، وهذا كقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً «2» وهم لم يطلبوا بأخذه أن يعاديهم، ولكن كان عاقبة الأمر أن صار لهم عدواً وحزناً. ومثله أن تقول: كتب فلان الكتاب لحتفه، فهو لم يقصد أن يُهلك نفسه بالكتاب. ولكن العاقبة كانت الهلاك. فأما «دارست» فقرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «دارست»
__________
(1) سورة القيامة: 22- 23.
(2) سورة القصص: 8.(2/63)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
بالألف وسكون السين وفتح التاء ومعناها: ذاكرت أهل الكتاب. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي:
«درست» بسكون السين وفتح التاء، من غير ألف، على معنى: قرأت كتب أهل الكتاب. قال المفسرون: معناها: تعلمت من جبر، ويسار. وسنبين هذا في قوله: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ «1» إن شاء الله. وقرأ ابن عامر، ويعقوب: «درست» بفتح الراء والسين وسكون التاء من غير ألف. والمعنى: هذه الأخبار التي تتلوها علينا قديمة قد درست. أي: قد مضت وامّحت. وجميع من ذكرنا فتح الدال في قراءته. وقد روي عن نافع أنه قال: «دُرِسَت» برفع الدال وكسر الراء وتخفيف التاء، وهي قراءة ابن يعمر ومعناها قُرئت. وقرأ أبي بن كعب: «دَرُسَتْ» بفتح الدال والسين وضم الراء وتسكين التاء.
قال الزجاج: وهي بمعنى: «دَرَسَتْ» أي: امّحت إلا أن المضمومة الراء أشدّ مبالغة. وقرأ معاذ القارئ، وأبو العالية، ومورِّق: «دُرِّسْتَ» برفع الدال، وكسر الراء وتشديدها ساكنة السين. وقرأ ابن مسعود وطلحة بن مصرّف: «دَرَسَ» بفتح الراء والسين بلا ألف ولا تاء. وروى عصمة عن الأعمش:
«دارس» بألف.
قوله تعالى: وَلِنُبَيِّنَهُ يعني: التصريف لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ما تبين لهم من الحق فيقبلوه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 106 الى 107]
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ قال المفسرون: نسخ بآية السيف.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا فيه ثلاثة اقوال حكاها الزجاج: أحدها: لو شاء لجعلهم مؤمنين. والثاني: لو شاء لأنزل آية تضطرهم إلى الإيمان. والثالث: لو شاء لا ستأصلهم، فقطع سبب شركهم. قال ابن عباس: وباقي الآية نسخ بآية السيف.
[سورة الأنعام (6) : آية 108]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)
قوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ في سبب نزولها قولان:
(546) أحدهما: أنه لما قال للمشركين: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «2» قالوا: لتنتهينَّ يا محمد عن سبِّ آلهتنا وعيبها، أو لنهجونَّ إلهك الذي تعبده، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
__________
ضعيف. عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وأبو صالح غير ثقة في ابن عباس. وأخرجه الطبري 13742 من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، وفيه إرسال بينهما وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 444 من رواية الوالبي عن ابن عباس.
__________
(1) سورة النحل: 103.
(2) سورة الأنبياء: 98.(2/64)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109)
(547) والثاني: أن المسلمين كانوا يسبون أوثان الكفار، فيردون ذلك عليهم، فنهاهم الله تعالى أن يستسبوا لربهم قوماً جهلة لا علم لهم بالله، قاله قتادة.
ومعنى «يدعون» : يعبدون، وهي الأصنام. فَيَسُبُّوا اللَّهَ أي: فيسبوا من أمركم بعيبها، فيعود ذلك إلى الله تعالى، لا أنهم كانوا يصرحون بسب الله تعالى، لأنهم كانوا يقرون أنه خالقهم، وإن أشركوا به. وقوله تعالى: عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ، أي: ظلماً بالجهل. وقرأ يعقوب: «عُدُوّاً» ، بضم العين والدال وتشديد الواو. والعرب تقول في الظلم: عدا فلان عَدْواً وعُدُوّاً وعُدواناً. وعدا، أي: ظلم.
قوله تعالى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ أي: كما زينا لهؤلاء المشركين عبادة الأصنام، وطاعة الشيطان، كذلك زينا لكل جماعة اجتمعت على حق أو باطل عملهم من خير أو شر. قال المفسرون:
وهذه الآية نسخت بتنبيه الخطاب في آية السيف.
[سورة الأنعام (6) : آية 109]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)
قوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ في سبب نزولها قولان:
(548) أحدهما: أنه لما نزل في (الشعراء) : إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً «1» قال المشركون:
أنزلها علينا حتى والله نؤمن بها فقال المسلمون: يا رسول الله، أنزلها عليهم لكي يؤمنوا فنزلت هذه الآية رواه أبو صالح عن ابن عباس.
(549) والثاني: أن قريشاً قالوا: يا محمد، تخبرنا أنّ موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، فينفجر منها اثنتا عشرة عيناً، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة، فائتنا بمثل هذه الآيات حتى نصدَّقك: فقال: «أي شيء تحبون؟» قالوا: أن تجعل لنا الصفا ذهباً. قال: «فان فعلت تصدقوني؟» فقالوا: نعم، والله لئن فعلت لنتّبعنّك أجمعين. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو، فجاءه جبريل فقال: إن شئت أصبح الصّفا ذهبا، ولكني لم أرسل آية فلم يصدَّق بها، إلا أنزلت العذاب، وإن شئت تركتُهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اتركهم حتى يتوب تائبهم» ، فنزلت هذه الآية إلى قوله:
يَجْهَلُونَ، هذا قول محمد بن كعب القرظي.
وقد ذكرنا معنى جَهْدَ أَيْمانِهِمْ في (المائدة) وإنما حلفوا على ما اقترحوا من الآيات،
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 13743 عن قتادة مرسلا فهو ضعيف، وذكره الواحدي في «أسباب النزول» 445 عن قتادة مرسلا.
موضوع. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، ورواية أبي صالح هو الكلبي وكلاهما روى عن ابن عباس تفسير موضوعا.
ضعيف. أخرجه الطبري 13750 والواحدي 447 عن محمد بن كعب القرظي مرسلا ومع إرساله في إسناده أبو معشر نجيح السندي، وهو ضعيف فالخبر واه. وورد عن الكلبي، وهو لا شيء لأنه متروك متهم.
__________
(1) سورة الشعراء: 4.(2/65)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
كقولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً «1» .
قوله تعالى: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي: هو القادر على الإتيان بها دوني ودون أحد من خلقه وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها أي: يدريكم أنها. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر عن عاصم، وخلف في اختياره: بكسر الألف، فعلى هذه القراءة يكون الخطاب بقوله «يشعركم» للمشركين، ويكون تمام الكلام عند قوله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ ويكون المعنى: وما يدريكم أنكم تؤمنون إذا جاءت؟ وتكون «إنها» مكسورة على الاستئناف والإخبار عن حالهم. وقال أبو علي: التقدير: وما يشعركم إيمانهم؟
فحذف المفعولُ. والمعنى: لو جاءت الآية التي اقترحوها، لم يؤمنوا. فعلى هذا يكون الخطاب للمؤمنين. قال سيبويه: سألت الخليل عن قوله: «وما يشعركم إنها» فقلت: ما منعها أن تكون كقولك: ما يدريك أنه لا يفعل؟ فقال: لا يحسن ذلك في هذا الموضع إنما قال: وَما يُشْعِرُكُمْ ثم ابتدأ فأوجب، فقال: «إنها إذا جاءت لا يؤمنون» ولو قال: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ
كان ذلك عذراً لهم. وقرأ نافع، وحفص عن عاصم، وحمزة، والكسائي: «أنها» بفتح الألف فعلى هذا، المخاطب بقوله: وَما يُشْعِرُكُمْ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما:
وما يدريكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون. وفي قراءة أُبي: «لعلها إذا جاءت لا يؤمنون» . والعرب تجعل «أن» بمعنى «لعل» . يقولون: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئاً، أي: لعلك. قال عدي بن زيد:
أعَاذِلُ ما يُدْرِيْكِ أنَّ مَنِيَّتي ... إلى سَاعَةٍ في اليَوْمِ أو في ضُحَى غَدِ
أي: لعل منيتي. وإلى هذا المعنى ذهب الخليل، والفراء في توجيه هذه القراءة.
والثاني: أن المعنى: وما يدريكم أنها إذا جاءت يؤمنون، وتكون «لا» صلة كقوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ «2» وقوله تعالى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «3» ، ذكره الفراء ورده الزجاج واختار الأول. والأكثرون على قراءة: «يؤمنون» بالياء منهم ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، والكسائي، وحفص عن عاصم وقرأ ابن عامر، وحمزة: بالتاء، على الخطاب للمشركين. قال أبو علي: من قرأ بالياء، فلأنَّ الذين أقسموا غُيَّبٌ، ومن قرأ بالتاء، فهو انصراف من الغيبة إلى الخطاب.
[سورة الأنعام (6) : آية 110]
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
قوله تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ التقليب: تحويل الشيء عن وجهه. وفي معنى الكلام، أربعة أقوال: أحدها: لو أتيناهم بآية كما سألوا، لقلبنا أفئدتهم وأبصارهم عن الإيمان بها، وحُلْنا بينهم وبين الهدى، فلم يؤمنوا كما لم يؤمنوا بما رأوا قبلها، عقوبة لهم على ذلك. وإلى هذا المعنى ذهب ابن عباس، ومجاهد، وابن زيد. والثاني: أنه جواب لسؤالهم في الآخرة الرجوع إلى الدنيا فالمعنى:
لو رُدُّوا لحُلْنا بينهم وبين الهدى كما حُلْنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا، روى هذا المعنى ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: ونقلّب أفئدة هؤلاء وأبصارهم عن الإيمان بالآيات كما لم يؤمن أوائلهم
__________
(1) سورة الإسراء: 90.
(2) سورة الأعراف: 12.
(3) سورة الأنبياء: 95.(2/66)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
من الأمم الخالية بما رأوا من الآيات، قاله مقاتل. والرابع: أن ذلك التقليب في النار، عقوبة لهم، ذكره الماوردي.
وفي هاء «به» أربعة أقوال. أحدها: أنها كناية عن القرآن. والثاني: عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم. والثالث: عما ظهر من الآيات. والرابع: عن التقليب.
وفي المراد ب «أول مرة» ثلاثة أقوال: أحدها: أن المرة الأولى: دار الدنيا. والثاني: أنها معجزات الأنبياء قبل محمّد عليه السلام. والثالث: أنها صرف قلوبهم عن الإيمان قبل نزول الآيات أن لو نزلت والطغيان والعمه مذكوران في (البقرة) .
[سورة الأنعام (6) : آية 111]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ.
(550) سبب نزولها: أن المستهزئين أتوا رسولَ الله صلّى الله عليه وسلم في رهط من أهل مكة، فقالوا له: ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم: أحق ما تقول، أم باطل؟ أو أرنا الملائكة يشهدون لك أنك رسول الله، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلاً، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
ومعنى الآية: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ كما سألوا وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى فشهدوا لك بالنبوة وَحَشَرْنا أي: جمعنا: عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ في الدنيا قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، فأخبر أن وقوع الإيمان بمشيئته، لا كما ظنوا أنهم متى شاؤوا آمنوا، ومتى شاؤوا لم يؤمنوا. فأمّا قوله تعالى:
«قِبَلاً» ، فقرأ ابن عامر، ونافع: بكسر القاف وفتح الباء. قال ابن قتيبة: معناها: معاينة. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، وحمزة والكسائي: «قُبُلا» بضم القاف والباء. وفي معناها، ثلاثة أقوال: أحدها:
أنه جمع قبيل، وهو الصِّنْف فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء قبيلاً قبيلاً، قاله مجاهد، واختاره أبو عبيدة، وابن قتيبة. والثاني: أنه جمع قبيل أيضاً، إلا أنه: الكفيل فالمعنى: وحشرنا عليهم كل شيء، فكَفَلَ بصحة ما تقول، اختاره الفراء، وعليه اعتراض، وهو أن يقال: إذا لم يؤمنوا بانزال الملائكة، وتكليم الموتى، فَلأَنْ لا يؤمنوا بالكفالة التي هي قول، أولى. فالجواب: أنه لو كَفَلَت الأشياء المحشورة، فنطق ما لم ينطق، كان ذلك آية بينة. والثالث: أنه بمعنى المقابل، فيكون المعنى: وحشرنا عليهم كل شيء، فقابلهم، قاله ابن زيد. قال أبو زيد: يقال: لقيت فلاناً قِبَلاً وقَبَلاً وقُبُلاً وقبيلا وقبليّا ومقابلة، وكله واحد، وهو المواجهة. قال أبو علي: فالمعنى في القرآن- على ما قاله أبو زيد- واحد، وإن اختلفت الألفاظ.
قوله تعالى: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ فيه قولان: أحدهما: يجهلون أن الاشياء لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى. والثاني: أنهم يجهلون أنهم لو أوتوا بكل آية ما آمنوا.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، ورواية أبي صالح هو الكلبي وقد رويا عن ابن عباس تفسيرا موضوعا، راجع ترجمتهما في «الميزان» .(2/67)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
[سورة الأنعام (6) : آية 112]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا أي: وكما جعلنا لك ولأُمتك شياطين الإنس والجن أعداءً، كذلك جعلنا لمن تقدَّمك من الأنبياء وأُممهم والمعنى: كما ابتليناك بالأعداء، ابتلينا مَنْ قبلك، ليعظم الثواب عند الصبر على الأذى. قال الزّجّاج: «عدوّ» : في معنى أعداء، و «شياطين الإنس والجن» : منصوب على البدل من «عدو» ، ومفسر له ويجوز أن يكون: «عدواً» منصوب على أنه مفعول ثان، المعنى: وكذلك جعلنا شياطين الإنس والجن أعداءً لأُممهم «1» . وفي شياطين الإنس والجن ثلاثة أقوال: أحدها: أنهم مردة الإنس والجن، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: أن شياطين الإنس: الذين مع الإنس، وشياطين الجن: الذين مع الجن، قاله عكرمة، والسدي. والثالث: أن شياطين الإنس والجن: كفارهم، قاله مجاهد.
قوله تعالى: يُوحِي أصل الوحي: الإعلام والدلالة بِسَتر وإخفاء. وفي المراد به ها هنا ثلاثة أقوال: أحدها: أن معناه: يأمر. والثاني: يوسوس. والثالث: يشير.
وأما زُخْرُفَ الْقَوْلِ، فهو ما زُيِّن منه، وحُسِّن، ومُوِّه، وأصل الزخرف: الذهب. قال أبو عبيدة: كل شيء حسَّنته وزيَّنتَه وهو باطل، فهو زخرف. وقال الزجاج: «الزخرف» في اللغة: الزينة فالمعنى: أن بعضهم يزين لبعض الأعمال القبيحة و «غروراً» منصوب على المصدر وهذا المصدر محمول على المعنى، لأن معنى إيحاء الزخرف من القول: معنى الغرور، فكأنه قال: يَغرُّون غُروراً.
وقال ابن عباس: زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً: الأمانيُّ بالباطل. قال مقاتل: وَكّلَ إبليسُ بالإنس شياطين يُضِلُّونَهم، فاذا التقى شيطان الإنس بشيطان الجن قال أحدهما لصاحبه: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فأضللْ أنت صاحبك بكذا وكذا، فذلك وحي بعضهم إلى بعض. وقال غيره: إن المؤمن إذا أعيا شيطانه، ذهب إلى متمرد من الإنس، وهو شيطان الإنس، فأغراه بالمؤمن ليفتنه. وقال قتادة: إن من الجن شياطين، وإن من الإنس شياطين. وقال مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد عليَّ من شيطان الجن، لأنّي كإذا تعوَّذت من ذاك ذهب عني، وهذا يجرني إلى المعاصي عِياناً.
قوله تعالى: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ في هاء الكناية ثلاثة أقوال: أحدها: أنها ترجع إلى الوسوسة. والثاني: ترجع إلى الكفر. والثالث: إلى الغرور، وأذى النبيّين.
قوله تعالى: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ قال مقاتل: يريد كفار مكة وما يفترون من الكذب. وقال غيره: فذر المشركين وما يخاصمونك به مما يوحي إليهم أولياؤهم، وما يختلقون من كذب، وهذا القدر من هذه الآية منسوخ بآية السيف.
__________
(1) قال الحافظ ابن كثير «تفسيره» 2/ 211 الآية شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ: الشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر، ولا يعادي الرسل إلا الشياطين من هؤلاء وهؤلاء قبحهم الله ولعنهم.(2/68)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)
[سورة الأنعام (6) : آية 113]
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
قوله تعالى: وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أي: ولتميل والهاء: كناية عن الزخرف والغرور. والأفئدة: جمع فؤاد، مثل غراب وأغربة. قال ابن الأنباري: فعلنا بهم ذلك لكي تصغى إلى الباطل أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، «وليرضوا» الباطل، وَلِيَقْتَرِفُوا أي: ليكتسبوا، وليعملوا ما هم عاملون.
[سورة الأنعام (6) : آية 114]
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
قوله تعالى: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً.
(551) سبب نزولها: أن مشركي قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلم: اجعل بيننا وبينك حَكَمَاً إن شئت من أحبار اليهود، وإن شئت من أحبار النصارى، ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك، فنزلت هذه الآية، ذكره الماوردي.
فأما الحَكَمُ، فهو بمعنى الحاكم والمعنى: أفغير الله أطلب قاضيا بيني وبينكم؟! والْكِتابَ:
القرآن، و «المفصل» : المبين الذي بان فيه الحق من الباطل، والأمر من النهي، والحلال من الحرام.
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ فيهم قولان: أحدهما: علماء أهل الكتابين، قاله الجمهور. والثاني: رؤساء أصحاب النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلم، كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وأشباههم، قاله عطاء. قوله تعالى:
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ قرأ ابن عامر، وحفص عن عاصم: «منزّل» بالتشديد وخفّفها الباقون.
[سورة الأنعام (6) : آية 115]
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، ونافع: «كلمات» على الجمع وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي، ويعقوب، «كلمة» على التوحيد وقد ذكرت العرب الكلمة، وأرادت الكثرة يقولون: قال قُسّ في كلمته، أي: في خطبته، وزهير في كلمته، أي: في قصيدته. وفي المراد بهذه الكلمات ثلاثة أقوال: أحدها: أنها القرآن، قاله قتادة. والثاني: أقضيتُه وعداته. والثالث: وعده ووعيده وثوابه وعقابه. وفي قوله تعالى: صِدْقاً وَعَدْلًا قولان: أحدهما:
صدقاً فيما أخبر، وعدلاً فيما قضى وقدَّر. والثاني: صدقاً فيما وعد وأوعد، وعدلاً فيما أمر ونهى.
وفي قوله: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ قولان: أحدهما: لا يقدر المفترون على الزيادة فيها والنقصان منها.
والثاني: لا خُلف لمواعيده، ولا مغير لحكمه.
[سورة الأنعام (6) : آية 116]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116)
قوله تعالى: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ.
__________
لم أقف عليه، فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد. وذكره الماوردي في «تفسيره» 2/ 160 بدون سند ولا عزو لقائل.(2/69)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
(552) سبب نزولها: أن الكفار قالوا للمسلمين: أتأكلون ما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل ربُّكم؟
فنزلت هذه الآية، ذكره الفراء.
والمراد ب أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ: الكفار، وفي ماذا يطيعهم فيه أربعة أقوال: أحدها: في أكل الميتة. والثاني: في أكل ما ذبحوا للأصنام. والثالث: في عبادة الأوثان. والرابع: في اتباع ملل الآباء. وسَبِيلِ اللَّهِ: دينه. قال ابن قتيبة: ومعنى يَخْرُصُونَ: يحدسون ويوقعون ومنه قيل للحازر: خارص. فان قيل: كيف يجوز تعذيب من هو على ظنٍ من شركه، وليس على يقينٍ من كفره! فالجواب: انهم لما تركوا التماس الحجة، واتبعوا أهواءهم، واقتصروا على الظن والجهل، عُذِّبوا، ذكره الزّجّاج.
[سورة الأنعام (6) : آية 117]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ قال الزجاج: موضع «مَنْ» رفع بالابتداء، ولفظها لفظ الاستفهام والمعنى: إن ربك هو أعلم أيُّ الناس يَضل عن سبيله. وقرأ الحسن: «من يُضِل» بضم الياء وكسر الضاد، وهي رواية ابن أبي شريح. قال أبو سليمان: ومقصود الآية: لا تلتفت إلى قسم من أقسم أنه يؤمن عند مجيء الآيات، فلن يؤمن إلا من سبق له القدر بالإيمان.
[سورة الأنعام (6) : آية 118]
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.
__________
حديث قوي. ورد من وجوه متعددة بألفاظ متقاربة. فقد أخرجه أبو داود 1818 وابن ماجة 3173 والحاكم 4/ 113 و 231 والطبري 13813 و 13826 والبيهقي 9/ 241 من طرق عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس: إن المشركين قالوا للمسلمين ... الحديث. وهذا إسناد، رجاله ثقات، لكن رواية سماك عن عكرمة مضطربة، وقد صحح الحافظ ابن كثير هذا الإسناد، وكدا صححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي. وورد من وجه آخر نحوه، أخرجه النسائي في «التفسير» 191 والطبري 13815 عن هارون بن عنترة عن أبيه عن ابن عباس، وإسناده غير قوي لأجل هارون بن عنترة.
وله شاهد من مرسل الحضرمي، أخرجه الطبري 13818 ومن مرسل الضحاك 13820 لكن في الطريق جويبر بن سعيد، وهو متروك ولكن توبع جويبر برقم 13828. وله شاهد من مرسل مجاهد 13821 و 13822 ومن مرسل قتادة 13823 و 13825 من مرسل السدي. وله شاهد من مرسل عكرمة، أخرجه الطبري 13817 لكن فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يصح من هذا الوجه.
وورد بذكر اليهود بدل المشركين، أخرجه الترمذي 3069 من طريق زياد بن عبد الله البكائي عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس به. وإسناده ضعيف لضعف عطاء بن السائب، فإنه اختلط، وزياد لين الحديث وقد اضطرب عطاء فيه فقد أخرجه أبو داود 2819 والطبراني 13829 والطبري 12295، والبيهقي 9/ 240 كلهم عن عمران بن عيينة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «جاءت اليهود ... وذكر اليهود فيه نظر من وجوه ثلاثة. أحدها: أن اليهود لا يرون إباحة الميتة حتى يجادلوا. الثاني: أن الآية مكية.
الثالث: اضطراب الروايات عن ابن السائب. الخلاصة: ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الخبر ضعيف، وكون الذين جادلوا هم اليهود، ضعيف منكر والله أعلم. انظر «أحكام القرآن» 861 و «فتح القدير» 932 بتخريجنا.(2/70)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
(553) سبب نزولها: أن الله تعالى لما حرم الميتة، قال المشركون للمؤمنين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله، فما قتل الله لكم أحق أن تأكلوه مما قتلتم أنتم، يريدون الميتة، فنزلت هذه الآية، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
[سورة الأنعام (6) : آية 119]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
قوله تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا قال الزجاج: المعنى: وأي شيء يقع لكم في أن لا تأكلوا؟
وموضع «أن» نصب، لأن «في» سقطت، فوصل المعنى إلى «أن» فنصبها.
قوله تعالى: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: «فصَّل لكم ما حرم عليكم» مرفوعتان وقرأ نافع، وحفص عن عاصم، ويعقوب، والقزاز عن عبد الوارث: «فَصَّل» بفتح الفاء، «ما حَرَّم» بفتح الحاء، وقرأ حمزة، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم: «فَصَّل» بفتح الفاء، «ما حُرِّم» بضم الحاء. قال الزجاج: أي: فُصِّل لكم الحلال من الحرام، وأُحل لكم في الاضطرار ما حُرِّم.
وقال سعيد بن جبير: فُصِّل لكم ما حُرِّم عليكم، يعني: ما بُيِّن في (المائدة) من الميتة، والدم، إلى آخر الآية. «وإن كثيراً ليضَلون بأهوائهم» يعني: مشركي العرب يَضلون في أمر الذبائح وغيره، قرأ ابن كثير، وأبو عمرو: «ليضلون» ، وفي (يونس) : «ربنا ليَضِلوا» وفي (ابراهيم) : «أنداداً ليَضلوا» وفي (الحج) :
«ثاني عطفه ليَضل» وفي (لقمان) : «ليَضل عن سبيل الله بغير علم» وفي (الزمر) : «أنداداً ليَضل» ، بفتح الياء في هذه المواضع الستة وضمهن عاصم وحمزة، والكسائي. وقرأ نافع، وابن عامر: «ليَضَلون بأهوائهم» . وفي (يونس) «ليَضلوا» بالفتح وضما الأربعة الباقية. فمن فتح، أراد: أنهم هم الذين ضلوا ومن ضم، أراد: أنهم أضلوا غيرهم، وذلك أبلغ في الضلال، لأن كل مضلّ ضالّ؟ وليس كلّ ضال مضلّا.
[سورة الأنعام (6) : آية 120]
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
قوله تعالى: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ، في الإثم ها هنا ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الزنا، رواه أبو صالح عن ابن عباس فعلى هذا، في ظاهره وباطنه قولان: أحدهما:
أن ظاهره: الإعلان به، وباطنه: الاستسرار به، قاله الضحاك، والسدي. قال الضحاك: وكانوا يرون الاستسرار بالزنا حلالاً. والثاني: أن ظاهره نكاح المحرمات، كالأُمهات، والبنات، وما نكح الآباء.
وباطنه: الزنا، قاله سعيد بن جبير.
والثاني: أنه عام في كل إثم. والمعنى: ذروا المعاصي، سرَّها وعلانيتها وهذا مذهب أبي العالية، ومجاهد، وقتادة، والزجاج. وقال ابن الأنباري: المعنى: ذروا الإثم من جميع جهاته.
والثالث: أن الإثم: المعصية، إلّا أنّ المراد به ها هنا أمر خاصّ. قال ابن زيد: ظاهره ها هنا:
نزع أثوابهم، إذ كانوا يطوفون بالبيت عراة، وباطنه: الزّنا.
__________
عزاه المصنف لأبي صالح عن ابن عباس، وهذه الرواية واهية، لكن المتن محفوظ، انظر ما قبله.(2/71)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
[سورة الأنعام (6) : آية 121]
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ سبب نزولها مجادلة المشركين للمؤمنين في قولهم: أتأكلون مما قتلتم، ولا تأكلون ما قتل الله! على ما ذكرنا في سبب قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ هذا قول ابن عباس.
(554) وقال عكرمة: كتبت فارس إلى قريش: إن محمداً وأصحابه لا يأكلون ما ذبحه الله، ويأكلون ما ذبحوا لأنفسهم فكتب المشركون إلى أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، فوقع في أنفس ناسٍ من المسلمين من ذلك شيء، فنزلت هذه الآية.
وفي المراد بما لم يذكر اسم الله عليه أربعة أقوال: أحدها: أنه الميتة، رواه ابن جبير عن ابن عباس. والثاني: أنه الميتة والمنخنقة، إلى قوله تعالى: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ، روي عن ابن عباس.
والثالث: أنها ذبائح كانت العرب تذبحها لأوثانها، قاله عطاء. والرابع: أنه عام فيما لم يسمَّ الله عند ذبحه وإلى هذا المعنى ذهب عبد الله بن يزيد الخطمي، ومحمد بن سيرين.
(فصل:) فان تعمَّد ترك التسمية، فهل يباح؟ فيه عن أحمد روايتان «1» . وإن تركها ناسياً أُبيحت.
وقال الشافعي: لا يحرم في الحالين جميعاً. وقال شيخنا علي بن عبيد الله: فاذا قلنا: إن ترك التسمية عمداً يمنع الإباحة، فقد نُسخ من هذه الآية ذبائح أهل الكتاب بقوله تعالى: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ «2» . وعلى قول الشافعي: الآية محكمة.
قوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ يعني: وإنَّ أكلَ ما لم يُذكر عليه اسم الله لفسق، أي: خروج عن الحقّ والدّين. وفي المراد بالشياطين ها هنا قولان: أحدهما: أنهم شياطين الجن، روي عن ابن عباس الثاني: قوم من أهل فارس، وقد ذكرناه عن عكرمة. فعلى الأولى: وحيهم الوسوسة، وعلى الثاني:
وحيهم الرسالة. والمراد ب «أوليائهم» الكفار الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك أكل الميتة «3» . ثم
__________
ضعيف منكر. أخرجه الطبري 13809 عن عكرمة مرسلا فهو ضعيف، وكرره 13810 عن عكرمة بنحوه مرسلا أيضا، وذكره «فارس» منكر، وتقدم الراجح.
__________
(1) قال الإمام الموفق رحمه الله في «المفتي» 13/ 290- 291: التسمية على الذبيحة، المشهور من مذهب أحمد أنها شرط مع الذكر، وتسقط بالسهو، وروي ذلك عن ابن عباس، وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة وإسحاق، وممن أباح ما نسيت التسمية عليه: عطاء وطاوس وابن المسيب والحسن وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد وربيعة الرأي. وعن أحمد أنها مستحبة غير واجبة في عمد ولا سهو، وبه قال الشافعي. ولنا قول ابن عباس: من نسي التسمية فلا بأس، وروى سعيد بن منصور بإسناده عن راشد بن سعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ذبيحة المسلم، حلال، وإن لم يسم إذا لم يتعمد» . قال: ويفارق الصيد، لأن ذبحه في غير محل فاعتبرت التسمية تقوية له.
(2) سورة المائدة: 5. [.....]
(3) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 328 الآية وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال:
إن الله أخبر أن الشياطين يوحون إلى أوليائهم ليجادلوا المؤمنين في تحريمهم أكل الميتة، بما ذكرنا من جدالهم إياهم وجائز أن يكون الموحون كانوا شياطين الإنس يوحون إلى أولياء منهم. وجائز الجنسان أن يكون شياطين الجن أوحوا إلى أوليائهم من الإنس، وجائز أن يكون كلاهما تعاونا على ذلك، كما أخبر الله عنهما في الآية الأخرى التي يقول فيها: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً [الأنعام: 112] . بل ذلك الأغلب من تأويله عندي، لأن الله أخبر نبيه أنه جعل له أعداء من شياطين الجن والإنس كما جعل لأنبيائه من قبله، يوحي بعضهم إلى بعض المزيّن من الأقوال الباطلة ثم أعلمه أن أولئك الشياطين يوحون إلى أوليائهم من الإنس ليجادلوه ومن تبعه من المؤمنين فيما حرم الله من الميتة عليهم ا. هـ.(2/72)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
فيهم قولان: أحدهما: أنهم مشركو قريش. والثاني: اليهود وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
[سورة الأنعام (6) : آية 122]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122)
قوله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال:
(555) أحدها: أنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب، وأبي جهل، وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث، وحمزة لم يؤمن بَعْدُ، فأُخبر حمزةُ بما فعل أبو جهل، فأقبل حتى علا أبا جهل بالقوس، فقال له: أما ترى ما جاء به؟ سفَّه عقولنا، وسبَّ آلهتنا، فقال حمزة: ومن أسفهُ منكم؟
تعبدون الحجارة من دون الله؟! أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، فنزلت هذه الآية، هذا قول ابن عباس.
(556) والثاني: أنَّها نزلت في عمَّار بن ياسر، وأبي جهل، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال عكرمة.
(557) والثالث: في عمر بن الخطاب، وأبي جهل، قاله زيد بن أسلم، والضّحّاك.
والرابع: في النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأبي جهل، قاله مقاتل.
والخامس: أنها عامة في كل مؤمن وكافر، قاله الحسن في آخرين.
وفي قوله تعالى: كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ قولان: أحدهما: كان ضلا فهديناه، قاله مجاهد.
والثاني: كان جاهلاً، فعلَّمناه، قاله الماوردي. وقرأ نافع: «ميّتاً» بالتشديد قال أبو عبيدة: الميتة،
__________
لم أره مسندا. وذكره الواحدي في أسباب النزول 450 بدون إسناد عن ابن عباس فهو لا شيء لخلوه عن الإسناد، والصحيح عموم الآية.
واه. عزاه المصنف لابن عباس من رواية أبي صالح، وهي رواية ساقطة. وأخرجه الطبري 13842 عن عكرمة مرسلا، فهو ضعيف وفيه انقطاع وكرره 13841 عن عكرمة بنحوه مرسلا وفيه راو لم يسم.
والصحيح عموم الآية، ولا يصح تخصيصها بروايات واهية.
ضعيف. أخرجه الطبري 13840 عن الضحاك مرسلا، فهو ضعيف. وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 451 عن زيد بن أسلم مرسلا، ومع إرساله فيه مبشر بن عبيد وهو ممن يضع الحديث.(2/73)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
مخففة: من ميّتة، والمعنى واحد. وفي «النور» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه الهدى، قاله ابن عباس.
والثاني: القرآن، قاله الحسن. والثالث: العلم. وفي قوله تعالى: يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ثلاثة أقوال:
أحدها: يهتدي به في الناس، قاله مقاتل. والثاني: يمشي به بين الناس إلى الجنة. والثالث: ينشر به دينه في الناس، فيصير كالماشي! ذكرهما الماوردي.
قوله تعالى: كَمَنْ مَثَلُهُ المثل: صلة والمعنى: كمن هو في الظلمات. وقيل: المعنى: كمن لو شُبّه بشيء كان شبيهُه من في الظلمات. وقيل: المراد بالظّلمات ها هنا: الكفر.
قوله تعالى: كَذلِكَ زُيِّنَ أي: كما بقي هذا في ظلماته لا يتخلص منها، كذلك زين لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الشّرك والمعاصي.
[سورة الأنعام (6) : آية 123]
وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ: أي: وكما زينا للكافرين عملهم، فكذلك جعلنا في كل قرية أكابرَ مجرميها، وقيل معناه: وكما جعلنا فُسَّاق مكة أكابرها، فكذلك جعلنا فُسَّاق كل قرية أكابرها.
وإنما جعل الأكابر فُسَّاقَ كلِّ قرية، لأنهم أقرب إلى الكفر بما أعطوا من الرياسة والسعة. وقال ابن قتيبة: تقدير الآية: وكذلك جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر و «أكابر» لا ينصرف، وهم العظماء.
قوله تعالى: لِيَمْكُرُوا فِيها قال أبو عبيدة: المكر: الخديعة، والحيلة، والفجور، والغدر، والخلاف. قال ابن عباس: ليقولوا فيها الكذب. قال مجاهد: أجلسوا على كل طريق من طرق مكة أربعةً، ليصرفوا الناس عن الإيمان بمحمّد صلى الله عليه وسلم، يقولون للناس: هذا شاعر، وكاهن.
قوله تعالى: وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ أي: ذلك المكر بهم يحيق.
[سورة الأنعام (6) : آية 124]
وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)
قوله تعالى: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ.
(558) سبب نزولها: أن أبا جهل قال: زاحمتنا بنو عبد مناف في الشرف، حتى إذا صرنا كَفَرَسَيْ رِهَان، قالوا: منَّا نبيٌ يوحى إليه. والله لا نؤمن به ولا نَتَّبعِهُ أو أن يأتيَنَا وحي كما يأتيه، فنزلت هذه الآية، قاله مقاتل.
قال الزجاج: الهاء والميم تعود على الأكابر الذين جرى ذكرهم. وقال أبو سليمان: تعود على المجادلين في تحريم الميتة، قال مقاتل: والآية: انشقاق القمر، والدخان، قال ابن عباس في قوله تعالى: مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ قال: حتى يوحى إلينا، ويأتينا جبريل، فيخبرنا أن محمداً صادق. قال
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط الحديث، كذبه غير واحد. وأصل الحديث له شواهد واهية، دون ذكر نزول الآية.(2/74)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
الضحاك: سأل كل واحد منهم أن يختص بالرسالة والوحي.
قوله تعالى: «الله أعلم حيث يجعل رسالاته» وقرأ ابن كثير، وحفص عن عاصم: «رسالتَه» بنصب التاء على التوحيد والمعنى: أنهم ليسوا لها بأهل، وذلك أن الوليد بن المغيرة قال: والله لو كانت النبوة حقاً لكنتُ أولى بها منك، لأني أكبرُ منك سناً، وأكثرُ منك مالاً، فنزل قوله تعالى: «الله أعلم حيث يجعل رسالاته» . وقال أهل المعاني: الأبلغ في تصديق الرسل أن لا يكونوا قبل مبعثهم مطاعين في قومهم، لأن الطعن كان يتوجه عليهم، فيقال: إنما كانوا رؤساء فاتُّبِعوا، فكان الله أعلم حيث جعل الرسالة ليتيم أبي طالب، دون أبي جهل والوليد، وأكابر مكة.
قوله تعالى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ قال أبو عبيدة: الصَّغَار: أشد الذل. وقال الزجاج:
المعنى: هم، وإن كانوا أكابر في الدّنيا، فسيصيبهم صغار عند الله، أي: صغار ثابت لهم عند الله.
وجائز أن يكون المعنى: سيصيبهم عند الله صغار، وقال الفراء: معناه: صغار من عند الله، فحذفت «مِنْ» . وقال ابو رَوقْ: صغار في الدنيا، وعذاب شديد في الآخرة.
[سورة الأنعام (6) : آية 125]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125)
قوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ قال مقاتل: نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي جهل.
قوله تعالى: يَشْرَحْ صَدْرَهُ قال ابن الاعرابي: الشرح: الفتح. قال ابن قتيبة: ومنه يقال:
شرحتُ لك الأمر، وشرحتُ اللحم: إذا فتحتَه. وقال ابن عباس: «يشرحْ صدره» أي: يوسعْ قلبه للتوحيد والإيمان.
(559) وقد روى ابن مسعود أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ، فقيل له: يا رسول الله، وما هذا الشرح؟ قال: «نور يقذفه الله في القلب، فينفتح القلب» . قالوا: فهل لذلك من أمارة؟ قال: «نعم» . قيل: وما هي؟ قال: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله» .
قوله تعالى: ضَيِّقاً قرأ الأكثرون بالتشديد. وقرأ ابن كثير: «ضيقا» ، وفي (الفرقان) :
__________
متن باطل بأسانيد واهية. أخرجه عبد الرزاق في «تفسيره» 852 والطبري 13856 و 13857 والبيهقي في «الأسماء والصفات» 1/ 257 عن أبي جعفر المدائني مرسلا. ومع إرساله أبي جعفر المدائني ذكره الذهبي في «الميزان» 4608 وقال: قال أحمد وغيره: أحاديثه موضوعة. وورد من حديث ابن مسعود عند الحاكم 4/ 311 والبيهقي في الشعب 10552 وإسناده ضعيف لضعف عدي بن الفضل، وقد سكت عليه الحاكم، وقال الذهبي: ابن الفضل ساقط اهـ. وفيه المسعودي اختلط بأخرة. وأخرجه الطبري 13859 عن أبي عبيدة عن ابن مسعود، وإسناده منقطع، وفيه سعيد بن عبد الملك الحراني، وهو متروك روى أحاديث كذب. وكرره الطبري 13861 عن عبد الرحمن- هو المسعودي- عن ابن مسعود، وهذا معضل بينهما. فهذه روايات واهية ليست بشيء، والأشبه كونه من كلام أبي جعفر المدائني، حيث رواه الطبري عنه من طرق. انظر «تفسير الشوكاني» 940 بتخريجنا.(2/75)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
«ضَيْقاً» «1» بتسكين الياء خفيفة. قال أبو علي: الضَّيِّق، والضَّيْق: مثل الميّت، والميْت.
قوله تعالى: حَرَجاً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي: حَرَجاً بفتح الراء. وقرأ نافع، وابو بكر عن عاصم: بكسر الراء، قال الفراء: وهما لغتان. وكذلك قال يونس بن حبيب النحوي: هما لغتان، إلا أن الفتح أكثر على ألسنة العرب من الكسر، ومجراهما مجرى الدَّنَفِ والدَّنِفَ. وقال الزجاج: الحرج في اللغة: أضيق الضّيق.
قوله تعالى: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ قرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي:
«يصَّعد» بتشديد الصاد والعين وفتح الصاد من غير ألف. وقرأ أبو بكر عن عاصم: «يصّاعد» بتشديد الصاد وبعدها ألف. وقرأ ابن كثير: «يَصْعَد» بتخفيف الصاد والعين من غير ألف والصاد ساكنة، وقرأ ابن مسعود، وطلحة: «تصْعَدُ» بتاء من غير ألف. وقرأ أُبيُّ بن كعب: «يتصاعد» بألف وتاء. قال الزّجّاج: قوله تعالى: «كأنما يصّاعد في السماء» و «يصَّعَّد» ، أصله: «يتصاعد» ، و «يتصعد» ، إلا أن التاء تدغم في الصاد لقربها منها، والمعنى كأنه قد كُلِّف أن يَصْعَدَ إلى السماء إذا دعي إلى الإسلام من ضيق صدره عنه. ويجوز أن يكون المعنى: كأن قلبه يصعد في السماء نُبُوّاً عن الإسلام والحكمة. وقال الفراء: ضاق عليه المذهب، فلم يجد إلا أن يصعد في السماء، وليس يقدر على ذلك. وقال ابو علي:
«يَصَّعَّد» و «يَصّاعد» : من المشقة، وصعوبة الشيء، ومنه قول عمر: ما تَصَعَّدني شيء كما تصعدتني خطبة النكاح، أي: ما شق عليَّ شيء مشقتها.
قوله تعالى: كَذلِكَ أي: مثل ما قصصنا عليك. يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ وفيه خمسة أقوال:
أحدها: أنه الشيطان، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. يعني: أن الله يسلِّطه عليهم. والثاني: أنه المأثم، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: أنه مالا خير فيه، قاله مجاهد. والرابع: العذاب، قاله عطاء، وابن زيد، وأبو عبيدة. والخامس: أنه اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة، قاله الزجاج. وهذه الآية تقطع كلام القَدَريَّة، إذ قد صرحت بأن الهداية والإضلال متعلّقة بإرادة الله تعالى.
[سورة الأنعام (6) : آية 126]
وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
قوله تعالى: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه القرآن، قاله ابن مسعود. والثاني:
التوحيد، قاله ابن عباس. والثالث: ما هو عليه من الدِّين، قاله عطاء.
ومعنى استقامته: أنه يؤدِّي بسالكه إلى الفوز، قال مكي بن أبي طالب: و «مستقيماً» : نصب على الحال من «صراط» ، وهذه الحال يقال لها: الحال المؤكدة، لأن صراط الله، لا يكون إلا مستقيماً، ولم يؤت بها لتفرق بين حالتين، إذ لا يتغير صراط الله عن الاستقامة أبدا، وليست هذه الحال كالحال من قولك: «هذا زيد راكباً» ، لأن زيداً قد يخلو من الرّكوب.
[سورة الأنعام (6) : آية 127]
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)
قوله تعالى: لَهُمْ دارُ السَّلامِ يعني الجنة. وفي تسميتها بذلك أربعة أقوال: أحدها: أن السّلام،
__________
(1) سورة الفرقان: 13.(2/76)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
هو الله، وهي داره، قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة والسدي. والثاني: أنها دار السلامة التي لا تنقطع، قاله الزجاج. والثالث: أن تحية أهلها فيها السلام، ذكره أبو سليمان الدمشقي. والرابع: أن جميع حالاتها مقرونة بالسلام، ففي ابتداء دخولهم: ادْخُلُوها بِسَلامٍ «1» ، وبعد استقرارهم: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ
«2» . وقوله تعالى: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً «3» وعند لقاء الله سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ «4» ، وقوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ «5» . ومعنى: عِنْدَ رَبِّهِمْ أي:
مضمونة لهم عنده، وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أي: متولي إيصال المنافع إليهم، ودفع المضار عنهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من الطّاعات.
[سورة الأنعام (6) : آية 128]
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
قوله تعالى: «ويوم نحشرهم جميعاً» يعني الجن والإنس. وقرأ حفص عن عاصم: «يحشرهم» بالياء. قال أبو سليمان: يعني: المشركين وشياطينهم الذين كانوا يوحون إليهم بالمجادلة لكم فيما حرَّمه الله من الميتة. قوله تعالى: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ فيه إضمار، فيقال لهم: يا معشر والمعشر: الجماعة أمرهم واحد، والجمع: المعاشر. وقوله: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي: من إغوائهم وإضلالهم.
وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ يعني الذين أضلهم الجن: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ فيه ثلاثة أقوال:
(560) أحدها: أن استمتاع الإنس بالجن: أنهم كانوا إذا سافروا، فنزلوا وادياً، وأرادوا مبيتاً، قال أحدهم: أعوذ بعظيم هذا الوادي من شر أهله واستمتاع الجن بالإنس: أنهم كانوا يفخرون على قومهم، ويقولون: قد سدنا الإنس حتى صاروا يعوذون بنا، رواه أبو صالح عن ابن عباس، وبه قال مقاتل، والفراء.
والثاني: أن استمتاع الجن بالإنس: طاعتهم لهم فيما يغرونهم به من الضلالة والكفر والمعاصي.
واستمتاع الإنس بالجن: أن الجن زَيَّنَتْ لهم الأمور التي يهوَوْنَها، وشَّهوْها إليهم حتى سهل عليهم فعلها، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس، وبه قال محمد بن كعب، والزجاج.
والثالث: أن استمتاع الجن بالإنس: إغواؤهم إياهم. واستمتاع الإنس بالجن: ما يتلقَّون منهم من السحر والكهانة ونحو ذلك. والمراد بالجن في هذه الآية: الشياطين.
قوله تعالى: وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا فيه قولان: أحدهما: الموت، قاله الحسن، والسّدّيّ.
__________
عزاه المصنف لابن عباس من رواية الكلبي، وهي رواية ساقطة. وكذا عزاه لمقاتل، وهو متهم. وأخرجه الطبري 13893 عن ابن جريج قوله. ويأتي شيء من هذا في سورة الجن.
__________
(1) سورة الحجر: 46.
(2) سورة الرعد، 23- 24.
(3) سورة الواقعة: 26.
(4) سورة يس: 58.
(5) سورة الأحزاب: 44.(2/77)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
والثاني: الحشر، ذكره الماوردي. قوله تعالى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ قال الزجاج: المثوى: المقام و «خالدين» منصوب على الحال. المعنى: النار مقامكم في حال خلود دائم إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ هو استثناء من يوم القيامة، والمعنى: خالِدِينَ فِيها مذ يبعثون إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من مقدار حشرهم من قبورهم، ومدتهم في محاسبتهم. ويجوز أن تكون إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن يزيدهم من العذاب. وقال بعضهم: إلا ما شاء الله من كونهم في الدنيا بغير عذاب وقيل في هذا غير قول، ستجدها مشروحة في (هود) إن شاء الله.
[سورة الأنعام (6) : آية 129]
وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً في معناه أربعة اقوال «1» : أحدها: نجعل بعضهم أولياء بعض، رواه سعيد عن قتادة. والثاني: نُتْبِعُ بعضهم بعضاً في النار بأعمالهم من الموالاة، وهي المتابعة، رواه معمر عن قتادة. والثالث: نسلِّط بعضهم على بعض، قاله ابن زيد. والرابع: نكل بعضهم إلى بعض ولا نعينهم، ذكره الماوردي.
قوله تعالى: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: من المعاصي.
[سورة الأنعام (6) : آية 130]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)
قوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ
قرأ الحسن، وقتادة: «تأتكم» بالتاء، سُلٌ مِنْكُمْ
. واختلفوا في الرسالة إلى الجن على أربعة اقوال «2» : أحدها: أن الرسل كانت تبعث إلى الإِنس خاصة، وأن الله تعالى بعث محمّدا صلى الله عليه وسلم إلى الإِنس والجن، رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثاني: أن رسل الجن، هم الذين سمعوا القرآن، فولَّوا إلى قومهم منذرين، روي عن ابن عباس أيضاً. وقال مجاهد: الرسل من الإِنس، والنذر من الجن، وهم قوم يسمعون كلام الرسل، فيبلِّغون الجن ما
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 344: وأولى هذه الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال: معناه وكذلك نجعل بعض الظالمين لبعض أولياء لأن الله ذكر قبل هذه الآية ما كان من قول المشركين، فقال جل ثناؤه:
وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وأخبر جل ثناؤه: أن بعضهم أولياء بعض، ثم عقب خبره ذلك بخبره عن أن ولاية بعضهم بعضا بتوليته إياهم، فقال: وكما جعلنا بعض هؤلاء المشركين من الجن والإنس أولياء بعض يستمتاع بعضهم ببعض، كذلك نجعل بعضهم أولياء بعض في كل الأمور بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من معاصي الله ويعملونه. ا. هـ.
(2) قال ابن كثير في «تفسيره» 2/ 225 الآية لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ: هذا استفهام تقريرا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
، أي من جملتكم والرسل من الإنس فقط، وليس من الجن رسل، كما نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة، من السلف والخلف، وقال ابن عباس: الرسل من بني آدم ومن الجن نذر. وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلا، واحتج بهذه الآية الكريمة وفي الاستدلال بها على ذلك نظر، لأنها محتملة وليس بصريحة. وهي- والله أعلم- كقوله تعالى: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ أي المالح والحلو بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ إلى أن قال يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان يخرج من الملح لا من الحلو، وهذا واضح ولله الحمد. ا. هـ.(2/78)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
سمعوا. والثالث: أن الله تعالى بعث إليهم رسلاً منهم، كما بعث إلى الإِنس رسلاً منهم، قاله الضحاك ومقاتل وأبو سليمان، وهو ظاهر الكلام. والرابع: أن الله تعالى لم يبعث إليهم رسلاً منهم وإنما جاءتهم رسل الإِنس، قاله ابن جريج والفراء والزجاج. قالوا: ولا يكون الجمع في قوله تعالى: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
مانعاً أن تكون الرسل من أحد الفريقين، كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ، وإنما هو خارج من الملح وحده. وفي دخول الجن الجنة إذا آمنوا قولان: أحدهما: يدخلونها، ويأكلون ويشربون، قاله الضّحّاك. والثاني: ثوابهم أن يجاروا من النار ويصيروا تراباً، رواه سفيان عن ليث.
قوله تعالى: قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
أي: يقرءون عليكم كتبي، يُنْذِرُونَكُمْ
أي: يخوّفونكم بيوم القيامة.
وفي قوله تعالى: هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
قولان: أحدهما: أقررنا على أنفسنا بانذار الرسل لنا.
والثاني: شهد بعضنا على بعض بانذار الرسل إياهم. ثم أخبرنا الله تعالى بحالهم، فقال: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
أي: بزينتها وإمهالهم فيها شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
أي: أقروا أنهم كانوا في الدنيا كافرين. وقال مقاتل: ذلك حين شهدت عليهم جوارحهم بالشّرك والكفر.
[سورة الأنعام (6) : آية 131]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131)
قوله تعالى: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ قال الزجاج: ذلك الذي قصصنا عليك من أمر الرسل، وأمر عذاب من كذب، لأنه لم يكن ربك مهلك القرى بظلم، أي: لا يهلكهم حتى يبعث إليهم رسولاً. قال ابن عباس: «بظلم» أي: بشرك وَأَهْلُها غافِلُونَ لم يأتهم رسول.
[سورة الأنعام (6) : آية 132]
وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
قوله تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا أي: لكل عامل بطاعة الله أو بمعصيته درجات، أي: منازل يبلغها بعمله، إن كان خيراً فخيراً، وإن كان شراً فشراً. وإنما سميت درجات لتفاضلها في الارتفاع والانحطاط، كتفاضل الدرج.
قوله تعالى: عَمَّا يَعْمَلُونَ قرأ الجمهور بالياء وقرأ ابن عامر بالتاء على الخطاب.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 134]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
قوله تعالى: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ يريد: الغني عن خلقه ذُو الرَّحْمَةِ قال ابن عباس: بأوليائه وأهل طاعته. وقال غيره: بالكل. ومن رحمته تأخير الانتقام من المخالفين. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ بالهلاك وقيل: هذا الوعيد لأهل مكة وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ أي: ابتدأكم مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ يعني: آباءهم الماضين. إِنَّ ما تُوعَدُونَ به من مجيء السّعة والحشر لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: بفائتين. قال أبو عبيدة: يقال: أعجزني كذا، أي: فاتني وسبقني.(2/79)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
[سورة الأنعام (6) : آية 135]
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
قوله تعالى: عَلى مَكانَتِكُمْ وقرأ أبو بكر عن عاصم: «مكاناتكم» على الجمع. قال ابن قتيبة:
أي: على موضعكم، يقال: مكان ومكانة، ومنزل ومنزلة. وقال الزجاج: اعملوا على تمكنكم. قال:
ويجوز أن يكون المعنى: اعملوا على ما أنتم عليه. تقول للرجل إذا أمرته أن يثبت على حال: كن على مكانتك.
قوله تعالى: إِنِّي عامِلٌ أي: عامل ما أمرني به ربي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ. قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو. وابن عامر، وعاصم: «تكون» بالتاء. وقرأ حمزة، والكسائي: بالياء. وكذلك خلافهم في (القصص) ، ووجه التأنيث، اللفظ، ووجه التذكير، أنه ليس بتأنيث حقيقي. وعاقبة الدار: الجنة. والظالمون ها هنا: المشركون. فان قيل: ظاهر هذه الآية أمرهم بالاقامة على ما هم عليه، وذلك لا يجوز. فالجواب: أن معنى هذا الأمر المبالغة في الوعيد فكأنه قال: أقيموا على ما أنتم عليه، إن رضيتم بالعذاب، قاله الزجاج.
(فصل:) وفي هذه الآية قولان: أحدهما: أن المراد بها التهديد فعلى هذا هي محكمة. والثاني:
أن المراد بها ترك القتال، فعلى هذا هي منسوخة بآية السيف.
[سورة الأنعام (6) : آية 136]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)
قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ قال ابن قتيبة: ذرأ، بمعنى خلق. مِنَ الْحَرْثِ وهو الزرع. (والأنعام) : الإبل والبقر والغنم، وكانوا إذا زرعوا، خطوا خطاً، فقالوا: هذا لله، وهذا لآلهتنا، فإذا حصدوا ما جعلوه لله، فوقع منه شيء فيما جعلوه لآلهتهم، تركوه وقالوا: هي إليه محتاجة وإذا حصدوا ما جعلوه لآلهتهم، فوقع منه شيء في مال الله، أعادوه إلى موضعه. وكانوا يجعلون من الأنعام شيئا لله فاذا ولدت إناثها ميِّتاً أكلوه، وإذا ولدت أنعام آلهتهم ميِّتاً عظموه فلم يأكلوه. وقال الزجاج:
معنى الآية: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والانعام نصيباً، وجعلوا لشركائهم نصيباً، يدل عليه قوله تعالى: فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا، فدل بالإِشارة إلى النصيبين على نصيب الشركاء وكانوا إذا زكا ما لله، ولم يزكُ ما لشركائهم، ردوا الزاكي على أصنامهم، وقالوا: هذه أحوج، والله غني وإذا زكا ما للأصنام، ولم يزكُ ما لله، أقروه على ما به. قال المفسرون: وكانوا يَصرفون ما جعلوا لله إلى الضِّيفان والمساكين. فمعنى قوله: فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أي: إلى هؤلاء. ويصرفون نصيب آلهتهم في الزرع إلى النفقة على خُدَّامها. فأما نصيبها في الأنعام، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه كان للنفقة عليها أيضاً. والثاني: أنهم كانوا يتقربون به، فيذبحونه لها. والثالث: أنه البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. وقال الحسن: كان إذا هلك ما لأوثانهم غَرِموه، وإذا هلك ما لله لم يَغْرَمُوه. وقال(2/80)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
ابن زيد: كانوا لا يأكلون ما جعلوه لله حتى يذكروا عليه اسم أوثانهم، ولا يذكرون الله على ما جعلوه للأوثان. فأما قوله: «بزَعمهم» فقرأ الجمهور: بفتح الزاي وقرأ الكسائي، والأعمش: بضمها. وفي الزعم ثلاث لغات: ضم الزاي، وفتحها، وكسرها ومثله: السُّقط، والسَّقط والسِّقط والفَتْك والفُتْك، والفِتْك والزَّعم، والزُّعم، والزِّعم، قال الفراء: فتح الزاي في الزَّعم، لأهل الحجاز وضمها لأسد وكسرها لبعض قيس فيما يحكي الكسائيّ.
[سورة الأنعام (6) : آية 137]
وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137)
قوله تعالى: وَكَذلِكَ زَيَّنَ أي: ومثل ذلك الفعل القبيح فيما قسموا بالجهل زيَّن. قال ابن الأنباري: ويجوز أن يكون «وكذلك» مستأنفاً، غير مشارٍ به إلى ما قبله فيكون المعنى: وهكذا زيّن.
وقرأ الجمهور: «زَيَّن» بفتح الزاي والياء، ونصب اللام من «قَتْلَ» ، وكسر الدال من «أولادِهم» ، ورفع «الشّركاء» ووجه هذه القراءة ظاهر. وقرأ ابن عامر: بضم زاي «زين» ، ورفع اللام، ونصب الدال من «أولادهم» ، وخفض «الشركاء» . قال أبو علي: ومعناها: قتلُ شركائهم أولادَهمُ ففصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول به، وهذا قبيح، قليل في الاستعمال. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والحسن: «زُيِّن» بالرفع، «قتلُ» بالرفع أيضاً، «أولادِهم» بالجر، «شركاؤُهم» رفعاً. قال الفراء: رفع القتل إذا لم يسمَّ فاعله، ورفع الشركاء بفعل نواه، كأنه قال: زيَّنه لهم شركاؤهم. وكذلك قال سيبويه في هذه القراءة كأنه قيل: مَن زيَّنه؟ فقال: شركاؤهم. قال مكي بن أبي طالب: وقد روي عن ابن عامر أيضاً أنه قرأ بضم الزاي، ورفع اللام، وخفض الأولاد والشركاء فيصير الشركاء اسماً للأولاد، لمشاركتهم للآباء في النسب والميراث والدِّين.
وللمفسرين في المراد بشركائهم أربعة أقوال: أحدها: أنهم الشياطين، قاله الحسن، ومجاهد، والسدِّي. والثاني: شركاؤهم في الشرك، قاله قتادة. والثالث: قوم كانوا يخدمون الاوثان، قاله الفراء، والزجاج. والرابع: أنهم الغُواة من الناس، ذكره الماوردي. وإنما أضيف الشركاء إليهم، لأنهم هم الذين اختلقوا ذلك وزعموه.
وفي الذي زيَّنوه لهم من قتل أولادهم قولان: أحدهما: أنه وأدْ البنات أحياءً خيفة الفقر، قاله مجاهد. والثاني: أنه كان يحلف أحدهم أنه إن ولد له كذا وكذا غلاماً أن ينحر أحدهم، كما حلف عبد المطلب في نحر عبد الله، قاله ابن السائب، ومقاتل.
قوله تعالى: لِيُرْدُوهُمْ أي: ليهلكوهم. وفي هذه اللام قولان: أحدهما: أنها لام «كي» .
والثاني: أنها لام العاقبة، كقوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا «1» أي: آل أمرهم إلى الردى، لا أنهم قصدوا ذلك. قوله تعالى: وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ أي: ليخلطوا. قال ابن عباس: ليُدخلوا عليهم الشك في دينهم وكانوا على دين إسماعيل، فرجعوا عنه بتزيين الشّياطين.
__________
(1) سورة القصص: 8.(2/81)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
قوله تعالى: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ قال ابن عباس: كان أهل الجاهلية إذا دفنوا بناتهم قالوا: إن الله أمرنا بذلك فقال: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ أي: يكذبون وهذا تهديد ووعيد، فهو محكم، وقال قوم: مقصوده ترك قتالهم، فهو منسوخ بآية السيف.
[سورة الأنعام (6) : آية 138]
وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)
قوله تعالى: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ الحرث: الزرع، والحجر: الحرام والمعنى:
أنهم حرَّموا أنعاماً وحرثاً جعلوه لأصنامهم. قال ابن قتيبة: وإنما قيل للحرام: حجر، لأنه حُجر على الناس أن يصيبوه. وقرأ الحسن، وقتادة: «حُجْر» بضم الحاء. قال الفراء: يقال: حِجْر، وحُجْر، بكسر الحاء وضمها وهي في قراءة ابن مسعود: «حرج» ، مثل: «جذب» و «جبذ» . وفي هذه الأنعام التي جعلوها للأصنام قولان: أحدهما: أنها البحيرة، والسائبة، والوصيلة، والحام. والثاني: أنها الذبائح للأوثان، وقد سبق ذكرهما.
قوله تعالى: لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ هو كقولك: لا يذوقها إلا من نريد. وفيمن أطلقوا له تناولها قولان: أحدهما: أنهم منعوا منها النساء، وجعلوها للرجال، قاله ابن السائب. والثاني: عكسه، قاله ابن زيد. قال الزجاج: أعلم الله عزّ وجلّ أن هذا التحريم زعم منهم، لا حجة فيه ولا برهان. وفي قوله تعالى: وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الحام، قاله ابن عباس. والثاني:
البحيرة، كانوا لا يحجُّون عليها، قاله أبو وائل. والثالث: البحيرة، والسائبة، والحام، قاله السدي.
قوله تعالى: وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا هي قربان آلهتهم، يذكرون عليها اسم الأوثان خاصة. وقال أبو وائل. هي التي كانوا لا يحجُّون عليها وقد ذكرنا هذا عنه في قوله تعالى: حُرِّمَتْ ظُهُورُها، فعلى قوله، الصفتان لموصوف واحد. وقال مجاهد: كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها في شيء لا إن رُكِبوا ولا إن حملوا ولا إن حلبوا، ولا إن نتجوا. وفي قوله تعالى: افْتِراءً عَلَيْهِ قولان: أحدهما: أن ذكر أسماء أوثانهم وترك ذكر الله! هو الافتراء. والثاني: أن إضافتهم ذلك إلى الله تعالى، هو الافتراء لأنهم كانوا يقولون: هو حرّم ذلك.
[سورة الأنعام (6) : آية 139]
وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
قوله تعالى: وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعني بالأنعام: المحرمات عندهم، من البحيرة، والسائبة، والوصيلة. وللمفسرين في المراد بما في بطونها ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه اللبن،
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 358- 359: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عز وجل أخبر عن هؤلاء المشركين أنهم كانوا يقولون لما في بطون هذه الأنعام- يعني أنعامهم-: «هذا محرم على أزواجنا» و «الأزواج» إنما هي نساؤهم في كلامهم، وهن لا شك بنات من هن أولاده، وحلائل من هن أزواجه. وفي قوله الله عز وجل: وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا الدليل الواضح على أن تأنيث «الخالصة» كان لما وصفت من المبالغة في وصف ما في بطون الأنعام بالخلوصة للذكور، لأنه لو كان لتأنيث الأنعام لقيل: «ومحرمة على أزواجنا» ولكن لما كان التأنيث في «الخالصة» لما ذكرت، ثم لم يقصد في «المحرم» ما قصد في «الخالصة» من المبالغة، رجع فيها إلى تذكير «ما» واستعمال ما هو أولى به من صفته ا. هـ.(2/82)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
قاله ابن عباس، وقتادة. والثاني: الأجنَّة، قاله مجاهد. والثالث: الولد واللبن، قاله السدي، ومقاتل.
قوله تعالى: خالِصَةٌ لِذُكُورِنا قرأ الجمهور: «خالصة» على لفظ التأنيث. وفيها أربعة أوجه. أحدها: أنه إنما أُنثت، لأن الأنعام مؤنثة، وما في بطونها مثلها، قاله الفراء. والثاني: أن معنى «ما» التأنيث، لأنها في معنى الجماعة فكأنه قال: جماعة ما في بطون هذه الأنعام خالصة، قاله الزجاج. والثالث: أن الهاء دخلت للمبالغة في الوصف، كما قالوا: «علاّمة» و «نسّابة» .
والرابع: أنه أُجري مجرى المصادر التي تكون بلفظ التأنيث عن الأسماء المذكَّرة كقولك: عطاؤك عافية، والرخص نعمة، ذكرهما ابن الأنباري. وقرأ ابن مسعود، وأبو العالية، والضحاك، والأعمش، وابن أبي عبلة: «خالصٌ» بالرفع، من غير هاء. قال الفراء: وإنما ذُكِّر لتذكير «ما» . وقرأ ابن عباس، وأبو رزين، وعكرمة، وابن يعمر: «خالصُهُ» برفع الصاد والهاء على ضمير مذكَّر، قال الزجاج: والمعنى: ما خلص حياً. وقرأ قتادة: «خالصةً» بالنصب. فأما الذكور، فهم الرجال، والأزواج: النساء.
قوله تعالى: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً قرأ الأكثرون: «يكن» بالياء، «ميتة» بالنصب وذلك مردود على لفظ «ما» . والمعنى وإن يكن ما في بطون هذه الأنعام ميتة. وقرأ ابن كثير: «يكن» بالياء، «ميتةٌ» بالرفع.
وافقه ابن عامر في رفع الميتة غير أنه قرأ: «تكن» بالتاء. والمعنى: وإن تحدث وتقع، فجعل «كان» :
تامة لا تحتاج إلى خبر. وقرأ أبو بكر عن عاصم: «تكن» بالتاء، «ميتةً» بالنصب. والمعنى: وإن تكن الأنعام التي في البطون ميتة.
قوله تعالى: فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ يعني الرجال والنساء. سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ قال الزجاج:
أراد جزاء وصفهم الذي هو كذب.
[سورة الأنعام (6) : آية 140]
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)
قوله تعالى: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ وقرأ ابن كثير، وابن عامر: «قتَّلوا» بالتشديد. قال ابن عباس: نزلت في ربيعة، ومضر، والذين كانوا يدفنون بناتهم أحياءً في الجاهلية من العرب. وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم بنته مخافة السبي والفاقة، ويغذو كلبه. قال الزجاج: وقوله:
«سفهاً» منصوب على معنى اللام. تقديره: للسفه تقول: فعلت ذلك حذر الشر. وقرأ ابن السّميفع، والجحدريّ، ومعاذ القارئ: «سفهاء» برفع السين وفتح الفاء والهمزة بالمدّ وبالنصب والهمز.
قوله تعالى: بِغَيْرِ عِلْمٍ: أي: كانوا يفعلون ذلك للسفه من غير أن أتاهم علم في ذلك وحرَّموا ما رزقهم الله من الأنعام والحرث، وزعموا أن الله أمرهم بذلك.(2/83)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
[سورة الأنعام (6) : آية 141]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)
قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ فيه أربعة أقوال:
أحدها: أن المعروشات ما انبسط على وجه الأرض، فانتشر مما يعرَّش، كالكرم، والقرع، والبِطيخ وغير معروشات: ما قام على ساق، كالنخل، والزرع، وسائر الأشجار. والثاني: أن المعروشات: ما أنبته الناس وغير معروشات: ما خرج في البراري والجبال من الثمار، رويا عن ابن عباس. والثالث: أن المعروشات، وغير المعروشات: الكرم، منه ما عرش، ومنه ما لم يعرش، قاله الضحاك. والرابع: أن المعروشات: الكروم التي قد عُرّش عنبها، وغير المعروشات: سائر الشّجر الذي لا يعرّش، قاله أبو عبيدة.
والأُكُلُ: الثمر. وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً قد سبق تفسيره.
قوله تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ هذا أمر إباحة وقيل: إنما قدَّم الأكل لينهى عن فعل الجاهلية في زروعهم من تحريم بعضها.
قوله تعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ قرأ ابن عامر، وعاصم وأبو عمرو: بفتح الحاء، وهي لغة أهل نجد، وتميم. وقرأ ابن كثير، ونافع، وحمزة، والكسائي: بكسرها، وهي لغة أهل الحجاز، ذكره الفراء. وفي المراد بهذا الحق قولان «1» : أحدهما: أنه الزكاة، روي عن أنس بن مالك، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والحسن، وطاوس، وجابر بن زيد، وابن الحنفية، وقتادة في آخرين فعلى هذا، الآية محكمة. والثاني: أنه حق غير الزكاةُ فرض يوم الحصاد، وهو إطعام من حضر، وترك ما سقط من الزرع والثمر، قاله عطاء ومجاهد.
وهل نُسخ ذلك، أم لا؟ إن قلنا: إنه أمر وجوب، فهو منسوخ بالزكاة وإن قلنا: إنه أمر استحباب، فهو باقي الحكم. فان قيل: هل يجب إيتاء الحق يوم الحصاد؟ فالجواب: إن قلنا: إنه
__________
(1) قال الإمام ابن العربي في «أحكام القرآن» 2/ 282. الآية وَآتُوا حَقَّهُ: اختلف في تفسير هذا الحق على ثلاثة أقوال: الأول: أنه الصدقة المفروضة، قاله سعيد بن المسيب وغيره، ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية. الثاني: أنها الصدقة في المفروضة تكون يوم الحصاد وعند الصرام وهي إطعام من حضر والإيتاء لمن غير قاله مجاهد. الثالث: أن هذا منسوخ بالزكاة قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير. وقد زعم قوم أن هذا اللفظ مجمل ولم يحصلوا القول فيه، وحقيقة الكلام عليه: أن قوله آتُوا مفسر، وقوله حَقَّهُ مفسر في المؤتى، مجمل في المقدار. وإنما يقع النظر في رفع الإشكال الذي أنشأه احتمال هذه الأقوال. وقد بينا فيما سبق وجه أنه ليس في الماء حق سوى الزكاة، وتحقيقه في القسم الثاني من علوم القرآن، وفي سورة البقرة من هذا التأليف، وثبت أن المراد بذلك ها هنا الصدقة المفروضة. وقد أفادت هذه الآية وجوب الزكاة فيما سمى الله سبحانه، وأفادت بيان ما يجب فيه من مخرجات الأرض التي أجملها الله في قوله وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [البقرة: 267] وفسرها ها هنا، فكانت آية البقرة عامة في المخرج كله مجملة في القدر، فبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر بأن يبين للناس ما نزل إليهم.(2/84)
وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
إطعام من حضر من الفقراء، فذلك يكون يوم الحصاد وإن قلنا: إنه الزكاة، فقد ذُكرت عنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن الأمر بالإِيتاء محمول على النخيل، لأن صدقتها تجب يوم الحصاد. فأما الزروع، فالأمر بالإيتاء منها محمول على وجوب الإخراج إلا أنه لا يمكن ذلك عند الحصاد فيؤخَّر إلى زمان التنقية، ذكره بعض السلف. والثاني: أن اليوم ظرف للحق، لا للايتاء فكأنه قال: وآتوا حقه الذي وجب يوم حصاده بعد التنقية. والثالث: أن فائدة ذكر الحصاد أن الحق لا يجب فيه بنفس خروجه وبلوغه، إنما يجب يوم حصوله في يد صاحبه. وقد كان يجوز أن يتوهم أن الحق يلزم بنفس نباته قبل قطعه، فأفادت الآية أن الوجوب فيما يحصل في اليد، دون ما يتلف، ذكر الجوابين القاضي أبو يعلى.
وفي قوله تعالى: وَلا تُسْرِفُوا ستة أقوال «1» : أحدها: أنه تجاوز المفروض في الزكاة إلى حد يُجحف به، قاله أبو العالية، وابن جريج. وروى أبو صالح عن ابن عباس: أن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة، ثم قسمها في يوم واحد، فأمسى ولم يترك لأهله شيئا، فكره الله تعالى له ذلك، فنزلت: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ. والثاني: أنّ الإسراف: يمنع الصدقة الواجبة! قاله سعيد بن المسيب. والثالث: أنه الإِنفاق في المعصية، قاله مجاهد، والزهري. والرابع: أنه إشراك الآلهة في الحرث والأنعام، قاله عطيّة، وابن السائب. والخامس: أنه خطاب للسلطان لئلا يأخذ فوق الواجب من الصدقة، قاله ابن زيد. والسادس: أنه الإسراف في الأكل قبل أداء الزّكاة، قاله ابن بحر.
[سورة الأنعام (6) : آية 142]
وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
قوله تعالى: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً هذا نسق على ما قبله والمعنى: أنشأ جنّاتٍ وأنشأ حمولة وفرشاً. وفي ذلك خمسة أقوال: أحدها: أن الحمولة: ما حمل من الإبل، والفرشَ: صغارها، قاله ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وابن قتيبة. والثاني: أن الحمولة: ما انتفعت بظهورها، والفرش: الراعية، رواه الضحاك عن ابن عباس. والثالث: أن الحمولة: الإبل: والخيل، والبغال، والحمير، وكل شيء يُحمَل عليه. والفرش: الغنم: رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والرابع:
__________
(1) قال الطبري في «تفسيره» 5/ 371: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى بقوله: وَلا تُسْرِفُوا عن جميع معاني «الإسراف» ولم يخصص منها معنى دون معنى وإذ كان ذلك كذلك، وكان «الإسراف» في كلام العرب: الإخطاء بإصابة الحق في العطية، إما بتجاوز حده في الزيادة، وإما بتقصير عن حده الواجب، كان معلوما أن المفرق ماله مباراة، والباذل له للناس حتى أجحفت به عطيته، مسرف بتجاوزه حد الله إلى ما ليس له. وكذلك المقصر في بذله فيما ألزمه الله بذله فيه. وذلك كمنعه ما ألزمه إيتاءه منه أهل سهمان الصدقة إذا وجبت فيه، أو منعه من ألزمه الله نفقته من أهله وعياله وألزمه منها، وكذلك السلطان في أخذه من رعيته ما لم يأذن الله بأخذه. كل هؤلاء فيما فعلوا من ذلك مسرفون، داخلون في معنى من أتى ما نهى الله عنه من الإسراف بقوله: وَلا تُسْرِفُوا في عطيتكم من أموالكم ما يجحف بكم إذا كان ما قبله من الكلام أمرا من الله بإيتاء الواجب فيه أهله يوم حصاده. فإن الآية قد كانت تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب خاص من الأمور والحكم بها على العام، بل عامة آي القرآن كذلك، فكذلك قوله وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ا. هـ.(2/85)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
الحمولة: من الإبل، والفرش: من الغنم، قاله الضحاك. والخامس: الحمولة: الإبل والبقر. والفرش:
الغنم، وما لا يحمل عليه من الإبل، قاله قتادة. وقرأ عكرمة، وأبو المتوكل وأبو الجوزاء: «حُمولة» بضم الحاء.
قوله تعالى: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قال الزجاج: المعنى: لا تحرِّموا ما حرمتم مما جرى ذكره، وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي: طرقه. قال: وقوله تعالى: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من قوله تعالى: حَمُولَةً وَفَرْشاً. والزوج، في اللغة: الواحد الذي يكون معه آخر. قلت: وهذا كلام يفتقر إلى تمام، وهو أن يقال: الزوج: ما كان معه آخر من جنسه، فحينئذ يقال لكل واحد منهما: زوج.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 143 الى 145]
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
قوله تعالى: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ الضأن: ذوات الصوف من الغنم، والمعز: ذوات الشعر منها.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر: من «المعَز» بفتح العين. وقرأ نافع، وحمزة، وعاصم، والكسائي: بتسكين العين. والمراد بالأنثيين: الذكر والأنثى. قُلْ آلذَّكَرَيْنِ من الضأن والمعز حرم الله عليكم أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ منها؟ المعنى: فان كان ما حرّم الله عليكم الذكرين. فكل الذكور حرام، وإن كان حرم الأنثيين، فكل الإناث حرام، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فهي تشتمل على الذكور، وتشتمل على الإناث، وتشتمل على الذكور والإناث، فيكون كل جنين حراماً. وقال ابن الأنباري: معنى الآية: ألَحِقَكم التحريم من جهة الذّكرين، أم من جهة الأنثيين؟ فان قالوا: من جهة الذكرين حَرُم عليهم كل ذكر، وإن قالوا: من جهة الأنثيين، حرمت عليهم كل أُنثى، وإن قالوا: من جهة الرحم، حَرُمَ عليهم الذكر والأنثى. وقال ابن جرير الطبري: إن قالوا: حَرَّم الذكرين، أوجبوا تحريم كل ذكر من الضأن والمعز، وهم يستمتعون بلحوم بعض الذكران منها وظهوره، وفي ذلك فساد دعواهم. وإن قالوا: حرَّم الأنثيين أوجبوا تحريم لحوم كل أُنثى من ولد الضأن والمعز، وهم يستمتعون بلحوم بعض ذلك وظهوره. وإن قالوا: ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، فقد كانوا يستمتعون ببعض ذكورها وإناثها. قال المفسرون: فاحتج الله تعالى عليهم بهذه الآية والتي بعدها، لأنهم كانوا يحرِّمون أجناساً من النعم، بعضها على الرجال والنساء، وبعضها على النساء دون الرجال.
وفي قوله تعالى: آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ إبطال لما حرَّموه من البحيرة، والسائبة، والوصيلة والحام. وفي قوله تعالى: أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ، إبطال قولهم: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا.
قوله تعالى: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ قال الزجاج: المعنى: فسروا ما حرمتم بعلم، أي: أنتم لا علم(2/86)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
لكم، لأنكم لا تؤمنون بكتاب. أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أي: هل شاهدتم الله قد حرَّم هذا، إذا كنتم لا تؤمنون برسول؟
قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ قال ابن عباس: يريد عمرو بن لحي، ومن جاء بعده. والظّالمون ها هنا: المشركون.
[سورة الأنعام (6) : آية 145]
قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ نبْههم بهذا على أن التحريم والتحليل، إنما يثبت بالوحي، وقال طاوس، ومجاهد: معنى الآية: لا أجد محرماً مما كنتم تستحلون في الجاهلية إلا هذا. والمراد بالطاعم: الآكل. إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أي: إلا أن يكون المأكول ميتة. قرأ ابن كثير، وحمزة: «إلا أن يكون» بالياء، «ميتة» نصبا! وقرأ ابن عامر: «إلا أن تكون» بالتاء، «ميتةٌ» بالرفع على معنى: إلا أن تقع ميتةٌ، أو تحدث ميتةٌ. أَوْ دَماً مَسْفُوحاً قال قتادة: إنما حُرِّمَ المسفوحُ. فأما اللحم إذا خالطه دم، فلا بأس به. وقال الزجاج: المسفوح: المصبوب. وكانوا إذا ذَكَّوا يأكلون الدم كما يأكلون اللحم. والرجس: اسم لما يُستقذَر، وللعذاب. أَوْ فِسْقاً المعنى: أو أن يكون المأكول فسقا. أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي: رُفع الصوت على ذبحه باسم غير الله، فسمي ما ذُكر عليه غير اسم الله فسقاً والفسق: الخروج من الدين.
(فصل:) اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على قولين «1» :
__________
(1) قال الإمام الحافظ ابن عبد البر رحمه الله في «التمهيد» 1/ 139 ما ملخصه، بعد أن أسند حديث أبي هريرة «أكل كل ذي ناب من السباع حرام» : وهذا حديث ثابت مجتمع على صحته، وفيه من الفقه أن النهي عن أكل كل ذي ناب من السباع نهي تحريم، لا نهي أدب وإرشاد، وكل خبر جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه نهي، فالواجب استعماله على التحريم إلا أن يأتي معه أو في غيره دليل يبين أن المراد أنه ندب وأدب. وقد زعم بعض أصحابنا أنه نهى تنزه وتقذر، فإن أراد به نهي أدب فهذا ما لا يوافق عليه، وإن أراد أن كل ذي ناب من السباع يجب التنزه عنه كما يتنزه عن النجاسة فهذا غاية في التحريم. ولم يرده القائلون من أصحابنا. لأنهم استدلوا بظاهر هذه الآية قُلْ لا أَجِدُ ... وذكر أن من الصحابة من استعمل هذه الآية، ولم يحرم ما عداها، ويلزمه على أصله هذا أن يحل لحم الحمر الأهلية، وهو لا يقول هذا في لحم الحمر الأهلية. لأنه لا تعمل الزكاة عنده في لحومها ولا في جلودها، ولو لم يكن محرما إلا ما في هذه الآية لكانت الحمر الأهلية حلالا. وهو لا يقول به، ولا أحد من أصحابه، وهذه مناقضة، وكذلك يلزمه أن لا يحرم ما لم يذكر اسم الله عليه عمدا، ويستحل الخمر المحرمة عند جماعة المسلمين. وأظن قائل هذا القول من أصحابنا في أكل كل ذي ناب.
راعى اختلاف العلماء، ولا يجوز مراعاة الاختلاف عند طلب الحجة. لأن الاختلاف ليس منه شيء لازم دون دليل، وإنما الحجة اللازمة الإجماع لأن الإجماع يجب الانقياد إليه. فأما قوله تعالى قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ ... فقال قوم من فقهاء العراقيين، ممن يجيز نسخ القرآن بالسنة: إن هذه الآية منسوخة بالسنة. وقال آخرون: معنى الآية، أي لا أجد قد أوحي إلي في هذا الحال أي وقت نزول الآية. وقالت فرقة: الآية محكمة، ولا يحرم إلا ما فيها، وهو قول ابن عباس، وقد روي عنه خلافه في أشياء حرمها، يطول ذكرها وكذلك اختلف فكيه عن عائشة، وروي عن ابن عمر من وجه ضعيف، وهو قول الشعبي وسعيد بن جبير.
وأما سائر فقهاء المسلمين في جميع الأمصار فمخالفون لهذا القول متبعون للسنة في ذلك. وقال أكثر أهل العلم، والنظر من أهل الأثر: إن الآية محكمة غير منسوخة، وكل ما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم مضموم إليها، ولا فرق بين ما حرم الله عز وجل في كتابه أو على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم اه. [.....](2/87)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
أحدهما: أنها محكمة. ولأرباب هذا القول في سبب إحكامها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها خبر، والخبر لا يدخله النسخ. والثاني: أنها جاءت جواباً عن سؤال سألوه فكان الجواب بقدر السؤال، ثم حُرِّم بعد ذلك ما حُرِّم. والثالث: أنه ليس في الحيوان محرم إلا ما ذُكر فيها.
والقول الثاني: أنها منسوخة بما ذكر في (المائدة) من المنخنقة والموقوذة، وفي السُنَّةِ من تحريم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير. وقيل: إن آية (المائدة) داخلة في هذه الآية، لأنّ تلك الأشياء كلّها ميتة.
[سورة الأنعام (6) : آية 146]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146)
قوله تعالى: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وقرأ الحسن، والأعمش: «ظُفْرٍ» بسكون الفاء وهذا التحريم تحريم بلوى وعقوبة. وفي ذي الظفر ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ما ليس بمنفرج الأصابع، كالإبل، والنعام، والإوَزِّ، والبط، قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسّدّيّ. والثاني: أنّه الإبل فقط، قاله ابن زيد. والثالث: كل ذي حافر من الدواب، ومخلب من الطير، قاله ابن قتيبة. قال: وسمي الحافر ظفراً على الإستعارة والعرب تجعل الحافر والأظلاف موضع القدم، استعارة وأنشدوا:
سَأمْنْعُها أوْ سَوْفَ أجْعَلُ أمْرَهَا ... إلى مَلِكٍ أظلافُه لم تُشقَّق «1»
أراد قدميه وإنما الأظلاف للشاء والبقر. قال ابن الأنباري: الظّفر ها هنا، يجري مجرى الظفر للانسان. وفيه ثلاث لغات أعلاهن: ظُفُر ويقال: ظُفْر، وأُظفور. وقال الشاعر:
ألم تر أنَّ الموتَ أدْرَك مَنْ مَضَى ... فلم يُبْقِ منه ذا جناح وذا ظُفُر
وقال الآخر:
لقد كنتُ ذا نابٍ وظُفْرٍ على العِدَى ... فأصبحتُ ما يَخْشَوْنَ نابي ولا ظُفْري
وقال الآخر:
ما بين لُقمته الأولى إذا انحَدَرَتْ ... وبين أخرى تليها قِيْدُ أُظْفُور «2»
وفي شحوم البقر والغنم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه إنما حرّم من ذلك شحوم الثروب خاصة، قاله قتادة. والثاني: شحوم الثروب والكلى، قاله السدي، وابن زيد. والثالث: كل شحم لم يكن مختلطا
__________
(1) البيت غير منسوب في «مشكل القرآن» 116 وفي السمط 746 منسوب لعقفان بن قيس بن عاصم بن عبيد اليربوعي. وقوله: أظلافه لم تشقق: أي أنه منتعل مترفه، فلم تشقق قدماه.
(2) البيت غير منسوب في «اللسان» ظفر «أساس البلاغة» .(2/88)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
بعظم، ولا على عظم، قاله ابن جريج. وفي قوله تعالى: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه ما علق بالظهر من الشحوم، قاله ابن عباس. والثاني: الأَليْةَ، قاله أبو صالح، والسدي.
والثالث: ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما، قاله قتادة. فأما الحوايا، فللمفسرين فيها أقوال تتقارب معانيها. قال ابن عباس، والحسن، وابن جبير، ومجاهد، وقتادة، والسدي، وابن قتيبة: هي المباعر. وقال ابن زيد: هي بنات اللبن، وهي المرابض التي تكون فيها الأمعاء. وقال الفراء: الحوايا:
هي المباعر، وبنات اللبن، وقال الاصمعي: هي بنات اللبن، واحدها: حاوياء، وحاوية، وحَويّة. قال الشاعر:
أقْتُلُهم ولا أرى مُعاويه ... الجاحِظَ العَيْنِ العَظيمَ الحاويهْ «1»
وقال الآخر:
كأنَّ نقيق الحَبِّ في حاويائه ... فحيحُ الأفاعي أو نقيقُ العقارِب «2»
وقال أبو عبيدة: الحوايا اسم لجميع ما تحوّى من البطن، أي: ما استدار منها. وقال الزجاج:
الحوايا: اسم لجميع ما تحوّى من الأمعاء، أي: استدار. وقال ابن جرير الطبري: الحوايا: ما تحوّى من البطن. فاجتمع واستدار، وهي بنات اللبن، وهي المباعر، وتسمى: المرابض، وفيها الأمعاء.
قوله تعالى: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فيه قولان: أحدهما: أنه شحم البطن والألَيْة، لأنهما على عظم، قاله السدي. والثاني: كل شحم في القوائم، والجنب، والرأس. والعينين، والأذنين، فهو مما اختلط بعظم، قاله ابن جريج. واتفقوا على أن ما حملت ظهورهما حلال، بالاستثناء من التحريم. فأما ما حملت الحوايا، أو ما اختلط بعظم، ففيه قولان: أحدهما: أنه داخل في الاستثناء، فهو مباح والمعنى: وأُبيح لهم ما حملت الحوايا من الشّحم وما اختلط بعظم، وهذا قول الأكثرين. والثاني: أنه نسق على ما حرِّم، لا على الاستثناء فالمعنى: حرَّمنا عليهم شحومهما، أو الحوايا، أو ما اختلط بعظم، إلا ما حملت الظهور، فانه غير محرم، قاله الزجاج. فأما «أو» المذكورة هاهنا، فهي بمعنى الواو، كقوله تعالى آثِماً أَوْ كَفُوراً.
قوله تعالى: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ أي: ذلك التحريم عقوبة لهم على بغيهم. وفي بغيهم قولان:
أحدهما: أنه قتلهم الأنبياء، وأكلهم الربا. والثاني: أنه تحريم ما أحلّ لهم.
[سورة الأنعام (6) : آية 147]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ.
(561) قال ابن عباس: لمّا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين: «هذا ما أُوحي إليَّ أنَّه محرَّم على المسلمين وعلى اليهود» ، قالوا: فانك لم تصب، فنزلت هذه الآية.
__________
لم أقف على إسناده، وتفرد المصنف بذكره دليل وهنه.
__________
(1) البيت منسوب لعلي رضي الله عنه «اللسان» حوي.
(2) البيت منسوب إلى جرير وهو في ديوانه: 83 «واللسان» حوى.(2/89)