|
المؤلف: أبو زيد عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي (المتوفى: 875هـ)
المحقق: الشيخ محمد علي معوض والشيخ عادل أحمد عبد الموجود
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت
الطبعة: الأولى - 1418 هـ
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]
وكافر متذلّل لله عز وجل أَلاَ تراهم عند القحوط والأمراض وغيرِ ذلك كيف يخضعون للَّه ويتذللون؟!.
ت: قال الفخر «1» : فإنْ قيل: ما العبادة التي خلق اللَّه الجن والإنسَ لها؟ قلنا:
التعظيم لأمر اللَّه، والشفقةُ على خلق اللَّه فإنَّ هذين النوعينِ لم يَخْلُ شرعٌ منهما، وأَمَّا خصوص العبادات فالشرائع مختلفة فيها: بالوضع والهيئة، والقِلَّةِ والكَثْرَةِ، والزَّمان والمكان، والشَّرَائِطِ والأركان، انتهى، ونقل الثعلبيُّ وغيره «2» عن مجاهد: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أي: ليعرفوني، قال صاحب «الكَلِمِ الفارقية» : المعرفة باللَّه تملأ القلبَ مَهَابَةً ومخافَةً، والعينَ عَبْرَةً وعِبْرةً وحياءً وخَجْلَةً، والصَّدْرَ خُشُوعاً وَحُرْمَةً، والجوارحَ استكانةً وذِلَّةً وطاعةً وخدمةً، واللسانَ ذكراً وحمداً، والسمعَ إصغاءً وتفهّما، والخواطر في مواقف المناجاة خموداً، والوساوِسَ اضمحلالاً، انتهى.
وقوله سبحانه: مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ أي: أنْ يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم.
وقوله: أَنْ يُطْعِمُونِ أي: أنْ يطعموا خَلْقِيَ قاله ابن عباس «3» ، ويحتمل أن يريد: / أن ينفعوني، والْمَتِينُ: الشديد.
ت: ورُوِّينَا في «كتاب التِّرْمِذِيِّ» عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: يَا بْنَ آدَمَ، تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى، وأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإلاَّ تَفْعَلْ مَلأْتُ يَدَكَ شُغْلاً، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ» ، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، ورُوِّينَا فيه عن أنس قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ هَمَّهُ، جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ في قَلْبِهِ، وَجَمَعَ لَهْ شَمْلَهُ، وأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هَمَّهُ، جَعَل اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إلاَّ مَا قُدِّرَ لَهُ» «4» انتهى.
وقوله سبحانه: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا: يريد أهل مكّة، والذّنوب: الحظّ والنصيب،
__________
(1) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 200) .
(2) ذكره البغوي (4/ 235) .
(3) أخرجه الطبري (11/ 476) برقم: (32269) ، وذكره ابن عطية (5/ 183) .
(4) أخرجه الترمذي (4/ 642- 643) كتاب «صفة القيامة» باب: (30) (2466) ، وابن ماجه (2/ 1376) كتاب «الزهد» باب: الهم بالدنيا (4107) ، وأحمد (2/ 358) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
(5/307)
وأصله من الدَّلْوِ وذلك أَنَّ الذَّنُوبَ هو مِلْءُ الدَّلْوِ من الماء، وكذا قال أبو حيان «1» :
ذَنُوباً، أي: نصيبا، انتهى، وأَصْحابِهِمْ: يُرَادُ بهم مَنْ تقدم من الأمم المُعَذَّبَةِ، وباقي الآية وعيد بيّن.
__________
(1) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 141) .
(5/308)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
تفسير سورة «الطّور»
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9)
وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14)
أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
قوله عز وجل: وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ ... الآية، هذه مخلوقات أقسم الله- عز وجل- بها تنبيهاً على النظر والاعتبارِ بها، المؤَدِّي إلى توحيد اللَّه والمعرفة بواجب حَقِّه سبحانه قال بعض اللغويين: كُلُّ جبلٍ طُورٌ، فكأَنَّه سبحانه أقسم بالجبال، وقال آخرون:
الطور: كُلُّ جبل أجردَ لا ينبت شجراً، وقال نوف البكاليُّ: المراد هنا جبل طُورِ سَيْنَاءَ، وهو الذي أقسم اللَّه به لفضله على الجبال، والكتاب المسطور: معناه/ بإجماع:
المكتوبُ أسطاراً، واخْتَلَفَ الناس في هذا الكتاب المُقْسَمِ به، فقال بَعْضُ المُفَسِّرِينَ: هو الكتاب المُنْتَسَخُ من اللوح المحفوظ للملائكة لتعرفَ منه جميعَ ما تفعله وتصرفه في العالم، وقيل: هو القرآن إذ قد علم تعالى أَنَّه يتخلد في رَقٍّ منشور، وقيل: هو الكُتُبُ المُنَزَّلَةُ، وقيل: هو الكتاب الذي فيه أعمال الخلق، وهو الذي لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً، والرَّقُّ: الورق المُعَدَّةُ للكتب، وهي مُرَقَّقَةٌ فلذلك سُمِّيَتْ رَقًّا، وقد غلب الاستعمال على هذا الذي هو من جلود الحيوان، والمنشور خلاف المَطْوِيِّ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ: هو الذي ذُكِرَ في حديث الإسراء قال جبريل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: هَذَا الْبَيْتُ المَعْمُورُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لاَ يَعُودُونَ إلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ «1» ، وبهذا هي عمارته، وهو في السماء السابعة، وقيل: في السادسة، وقيل: إنَّه مقابلٌ للكعبة، لو وَقَعَ حجر منه، لَوَقَعَ على ظهر
__________
(1) أخرجه البخاري (6/ 348، 350) ، كتاب «بدء الخلق» باب: ذكر الملائكة (3207) ، وكتاب «مناقب الأنصار» باب: المعراج (3887) ، والنسائي (1/ 217، 220) ، كتاب «الصلاة» باب: فرض الصلاة وذكر اختلاف الناقلين في إسناد حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، واختلاف ألفاظهم فيه، وأحمد (3/ 148- 149) ، (4/ 208، 210) .
(5/309)
الكعبة، وقال مجاهد، وقتادة، وابن زيد: في كل سماء بيت معمور، وفي كل أرض كذلك، وهي كُلُّها على خط من الكعبة، وقاله علي بن أبي طالب «1» ، قال السُّهَيْلِيُّ:
والبيت المعمور اسمه «عريباً» ، قال وهب بن مُنَبِّهٍ: مَنْ قال: سبحانَ اللَّهِ وبحمده، كان له نور يملأ ما بين عريباً وحريباً، وهي الأرض السابعة، انتهى.
وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ: هو السماء، واختلف الناس في الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ فقال مجاهد وغيره «2» : المُوْقَدُ ناراً، ورُوِيَ أَنَّ البحرَ هو جَهَنَّمُ، وقال قتادة «3» : الْمَسْجُورِ:
المملوء، وهذا معروف من اللغة، ورَجَّحَهُ/ الطبريُّ «4» ، وقال ابن عباس «5» : هو الذي ذهب ماؤه، فالمسجور الفارغ، ورُوِيَ أَنَّ البحار يذهب ماؤها يومَ القيامة، وهذا معروف في اللغة، فهو من الأضداد، وقيل: يوقد البحر ناراً يَوْمَ القيامة، فذلك سجره، وقال ابن عباس أيضاً «6» : الْمَسْجُورِ: المحبوس ومنه ساجور الكلب، وهي القلادة من عود أو حديد تمسكه، وكذلك لولا أَنَّ البحر يُمْسِكُ لفاض على الأرض، والجمهور على أَنَّه بحر الدنيا، وقال منذر بن سعيد «7» : المُقْسَمُ به جهنم، وسمَّاها بحراً لِسَعَتِها وتموجها كما قال صلّى الله عليه وسلّم في الفرس: «وَإنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْراً» «8» ، والقسم واقع على قوله: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 186) عن مجاهد، وقتادة، وابن زيد.
(2) أخرجه الطبري (11/ 482) برقم: (32311) ، وذكره ابن عطية (5/ 186) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 146) ، وعزاه لابن جرير.
(3) أخرجه الطبري (11/ 483) برقم: (32313) ، وذكره ابن عطية (5/ 186) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 146) ، وعزاه لابن جرير.
(4) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 483) .
(5) أخرجه الطبري (11/ 483) برقم: (32314) ، وذكره ابن عطية (5/ 186) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 146) ، وعزاه للشيرازي في «الألقاب» من طريق الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء عن ذي الرمة.
(6) أخرجه الطبري (11/ 483) برقم: (32315) ، وذكره ابن عطية (5/ 186) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 145) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(7) ذكره ابن عطية (5/ 187) . [.....]
(8) أخرجه البخاري (5/ 284- 285) كتاب «الهبة» باب: من استعار من الناس الفرس، حديث (2627) ، (6/ 42) كتاب «الجهاد والسير» باب: الشجاعة في الحرب والجبن، حديث (282) (6/ 69) كتاب «الجهاد والسير» باب: اسم الفرس والحمار، حديث (2857) ، (6/ 78) ، باب: الركوب على الدابة الصعبة والفحولة من الخيل، حديث (2862) ، (6/ 83) باب: الفرس القطوف، حديث (2867) ، (6/ 143) كتاب «الجهاد والسير» باب: مبادرة الإمام عند الفزع، حديث (2968) ، باب: السرعة والركض في الفزع، حديث (2969) ، (10/ 609- 610) ، كتاب «الأدب» باب: المعاريض مندوحة على الكذب، حديث (6212) ، ومسلم (4/ 1802) ، كتاب «الفضائل» باب: في شجاعة النبي صلّى الله عليه وسلّم وتقدمه للحرب، حديث (49/ 2307) ، وأبو داود (2/ 715) ، كتاب «الأدب» باب: ما روي في
(5/310)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
لَواقِعٌ يريد: عذاب الآخرة واقع للكافرين قاله قتادة «1» ، قال الشيخ عبد الحق في «العاقبة» : وَيُرْوَى أَنَّ عمر بن الخطاب- رضي اللَّه عنه- سَمِعَ قارئاً يقرأ:
وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ قال: هذا قسم حقّ، فلمّا بلغ القارئ إلى قوله- عز وجل-: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ظنَّ أَنَّ العذاب قد وقع به فغشي عليه، انتهى، وتَمُورُ معناه: تذهب وتجيء بالرياح متقطعةً مُتَفَتِّتَةً، وسير الجبال: هو في أَوَّلِ الأمر، ثم تتفتَّتُ حتى تصير آخرا كالعهن المنفوش، ويُدَعُّونَ قال ابن عباس وغيره «2» : معناه:
يُدْفَعُونَ في أعناقهم بشدة وإهانة وتَعْتَعَةٍ، ومنه: يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون: 2] ، وفي الكلام محذوف، تقديره: يقال لهم: هذه النار التي كنتم بها تكذبون توبيخاً وتقريعاً لهم، ثم وقفهم سبحانه بقوله: أَفَسِحْرٌ هذا ... الآية: ثم قيل لهم على جهة قطع رجائهم:
اصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سواء عليكم، أي: عذابكم حتم، فسواء جَزَعُكُمِ/ وَصَبْرُكُمْ، لا بدّ من جزاء أعمالكم.
[سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 20]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
وقوله سبحانه: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ... الآية: يحتمل أَنْ يكونَ من خطاب أهل النار، فيكون إخبارُهم بذلك زيادةً في غَمِّهِمْ وسُوءِ حالهم، نعوذ باللَّه من سخطه! ويحتمل، وهو الأظهر، أن يكون إخبارا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومعاصريه، لما فَرَغَ من ذكر عذاب الكفار عَقَّبَ بذكر نعيم المتقين- جعلنا اللَّه منهم بفضله- ليبين الفرقَ، ويقعَ التحريضُ على الإيمان، والمتقون هنا: مُتَّقُو الشرك لأَنَّهم لا بُدَّ من مصيرهم إلى الجنات، وكلما زادت الدرجة في التقوى قَوِيَ الحصولُ في حكم الآية، حتّى إنّ المتقين
__________
الرخصة في ذلك، حديث (4988) ، والترمذي (4/ 171- 172) ، كتاب «الجهاد» باب: ما جاء في الخروج عند الفزع، حديث (1685- 1686- 1687) ، وابن ماجه (2/ 926) ، كتاب «الجهاد» باب:
الخروج في النفير، حديث (2772) ، وأحمد (3/ 147، 180، 185، 271، 274، 291) ، وأبو داود الطيالسي (2/ 121) - منحة رقم: (2438) ، وأبو يعلى (5/ 336) رقم: (2962) ، والبيهقي (10/ 25) كتاب «السبق والرمي» باب: ما جاء في تسمية البهائم والدواب (10/ 200) ، كتاب «الشهادات» باب: من سمى المرأة قارورة، من حديث أنس بن مالك.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(1) أخرجه الطبري (11/ 484) برقم: (32319) .
(2) أخرجه الطبري (11/ 484) برقم: (32329) ، وذكره ابن عطية (5/ 187) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 146) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(5/311)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
على الإطلاق هم في هذه الآية قطعاً على اللَّه تعالى بحكم خبره الصادق، وقرأ جمهور الناس: «فاكهين» «1» ومعناه: فَرِحِينَ مسرورين، وقال أبو عُبَيْدَةَ: هو من باب: «لاَبِنٌ» و «تَامِرٌ» ، أي: لهم فاكهة «2» ، قال ع «3» : والمعنى الأَوَّلُ أبرع، وقرأ خالد فيما روى أبو حاتم: «فَكِهِينَ» «4» والفَكِهُ والفاكه: المسرور المتنعم.
وقوله تعالى: بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ أي: من إنعامه ورضاه عنهم.
وقوله تعالى: وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ هذا متمكن في مُتَّقِي المعاصي، الذي لا يدخل النارَ وَوَقاهُمْ مشتق من الوقاية، وهي الحائل بين الشيء وبين ما يضرُّه.
وقوله: كُلُوا وَاشْرَبُوا أي: يقال لهم: كلوا واشربوا، وهَنِيئاً نُصِبَ على المصدر.
وقوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ معناه: أَنَّ رُتَبَ الجنة ونعيمها بحسب الأعمال، وأَمَّا نَفْسُ دخولها فهو برحمة اللَّه وفضلِهِ، وأعمالُ العباد الصالحاتُ لا تُوجِبُ على اللَّه تعالى التنعيمَ إيجاباً لكِنَّهُ سبحانه قد جعلها أَمارةً على مَنْ سبق في علمه تنعيمه، وعَلَّقَ الثوابَ والعِقَابَ بالتكسب الذي في الأعمال، والحُورُ: جمع حَوْرَاءُ، وهي البيضاء القويةُ بياضِ بياضِ/ العَيْنِ وَسَوَادِ سَوَادِها، والعِينُ: جمع عَيْنَاءُ، وهي كبيرة العينين مع جمالهما، وفي قراءة ابن مسعود والنَّخَعِيِّ: «وَزَوَّجْنَاهُمْ بِعِيسٍ عِينٍ» «5» قال أبو الفتح: العيساء:
البيضاء.
[سورة الطور (52) : الآيات 21 الى 28]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25)
قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 188) ، و «البحر المحيط» (8/ 145) ، و «الدر المصون» (6/ 197) .
(2) ذكره ابن عطية (5/ 188) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 188) .
(4) ينظر: مصادر القراءة السابقة.
(5) ينظر: «المحتسب» (2/ 290) ، و «مختصر الشواذ» ص: (146) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 188) ، وقال: وحكى أبو عمرو عن عكرمة أنه قرأ «بعيس عين» على إضافة «عيس» إلى «عين» .
(5/312)
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ اختُلِفَ في معنى الآيةِ، فقال ابن عباس، وابن جبير، والجمهور: أخبر اللَّه تعالى أَنَّ المؤمنين الذين اتبعتهم ذريتهم في الإيمان يلحق الأبناء في الجنة بمراتب الآباء، وإنْ لم يكن الأبناء في التقوى والأعمال كالآباء كرامةً للآباء «1» ، وقد ورد في هذا المعنى حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فجعلوا الحديثَ تفسيراً للآية، وكذلك وردت أحاديث تقتضي أَنَّ اللَّه تعالى يرحم الآباء رعياً للأبناء الصالحين، وقال ابن عباس أيضاً والضَّحَّاكُ. معنى الآية: أَنَّ اللَّه تعالى يلحق الأبناء الصغار بأحكام الآباء المؤمنين، يعني في الموارثة والدفن في مقابر المسلمين، وفي أحكام الآخرة في الجنة «2» ، وقال منذر بن سعيد: هي في الصغار لا في الكبار «3» قال ع «4» : وأرجح الأقوال في هذه الآية القول الأَوَّل لأَنَّ الآياتِ كلَّها في صفة إحسان اللَّه تعالى إلى أهل الجنة، فذكر من جملة إحسانِهِ سبحانه أَنَّه يرْعَى المحسنَ في المسيء، ولفظة أَلْحَقْنا تقتضي أَنَّ لِلْمُلْحَقِ بعضَ التقصير في الأعمال.
ت: وأظهرُ مَنْ هذا ما أشار إليه الثعلبيُّ في بعض أنقاله: أَنَّ اللَّه تعالى يجمع لعبده المؤمن ذُرِّيَّتَهُ في الجنة، كما كانوا في الدنيا، انتهى، ولم يتعرَّضْ لذكر الدرجات في هذا التأويل، وهو أحسن لأَنَّهُ قد تقرَّرَ أَنَّ رفع الدرجات هي بأعمال العاملين، والآياتُ/ والأحاديث مُصَرِّحَةٌ بذلك، ولما يلزم على التأويل الأَوَّلِ أَنْ يكونَ كلّ من دخل الجنة مع آدم ع في درجةٍ واحدة إذ هم كُلُّهم ذرِّيَّتُهُ، وقد فتحتُ لك باباً للبحث في هذا المعنى منعني من إتمامه ما قصدته من الاختصار، وباللَّه التوفيق.
وقوله: وَما أَلَتْناهُمْ أي: نقصناهم، ومعنى الآية أَنَّ اللَّه سبحانهُ يُلْحِقُ الأبناء بالآباء، ولا يُنْقِصُ الآباء من أجورهم شيئاً، وهذا تأويل الجمهور، ويحتمل أَنْ يريدَ: مِنْ عمل الأَبناء من شيء من حسن أو قبيح، وهذا تأويل ابن زيد «5» ، ويُؤيِّدُهُ قوله سبحانه:
كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ والرهين: المُرْتَهِنُ، وفي هذه الألفاظ وعيد، وأمددتُ الشيءَ: إذا سرّبْتُ إليه شيئا آخر يكثره أو يكثر لديه.
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 487) برقم: (32338) ، و (11/ 488) برقم: (32339) ، وذكره البغوي (4/ 239) ، وابن عطية (5/ 189) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 241) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 148) ، وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 189) .
(3) ينظر: المصدر السابق.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 189) .
(5) أخرجه الطبري (11/ 491) برقم: (32364) ، وذكره ابن عطية (5/ 190) . [.....]
(5/313)
وقوله: مِمَّا يَشْتَهُونَ إشارة إلى ما رُوِيَ من أَنَّ المُنَعَّمَ إذا اشتهى لحماً نزل ذلك الحيوان بين يديه على الهيئة التي اشتهاه فيها، وليس يكون في الجنة لحم يحتز، ولا يُتَكَلَّفُ فيه الذبح، والسلخ، والطبخ، وبالجملة لا كلفة في الجنة، ويَتَنازَعُونَ معناه:
يتعاطون ومنه قول الأخطل: [البسيط]
نَازَعْتُهُ طَيِّبَ الَّراحِ الشَّمُولِ وَقَد ... صَاحَ الدَّجَاجُ وَحَانَتْ وَقْعَةُ السَّارِي «1» ،
قال الفخر «2» : ويحتمل أنْ يقال: التنازع: التجاذُبُ، وحينئذ يكون تجاذُبُهُمْ تجاذبَ مُلاَعَبَةٍ، لا تجاذب منازعة، وفيه نوعُ لَذَّةٍ، وهو بيان لما عليه حال الشُرَّابِ في الدنيا فإنَّهم يتفاخرون بكثرة الشرب، ولا يتفاخرون بكثرة الأكل، انتهى، والكأس: الإِناء فيه الشراب، ولا يقال في فارغ كأس قاله الزَّجَّاج «3» ، واللغو: السَّقَطُ من القول، والتأثيم:
يلحق خَمْرَ الدنيا في نفس شُرْبِهَا وفي الأفعال التي تكون من شاربيها، وذلك كُلُّه/ مُنْتَفٍ في الآخرة.
ت: قال الثعلبيُّ: وقال ابن عطاء: أيُّ لغوٍ يكون في مجلس: مَحَلُّهُ جَنَّةُ عدن، والساقي فيه الملائكة، وشربُهم على ذكر اللَّه، ورَيحانُهم تحيَّةٌ من عند اللَّه، والقومُ أضياف اللَّه.
وَلا تَأْثِيمٌ أي: فعل يُؤْثِمُهُمْ، وهو تفعيل من الإثم، أي: لا يأثمونَ في شربها، انتهى، واللؤلؤ المكنون أجملُ اللؤلؤ لأَنَّ الصون والكَنُّ يُحَسِّنُهُ، قال ابن جبير: أراد الذي في الصّدَفِ لم تنله الأيدي «4» ، وقيل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا كَانَ الْغِلْمَانُ كَاللُّؤْلُؤ المَكْنُونِ فَكَيْفَ المَخْدُومُونَ؟ قال: هُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» «5» .
ت: وهذا تقريب للأفهام، وإلاَّ فجمال أهلِ الجَنَّةِ أَعْظَمُ من هذا، يَدُلُّ على ذلك أحاديث صحيحة ففي «صحيح مسلم» من حديث أبي هريرةَ- رضي الله عنه- قال:
__________
(1) ينظر: البيت في «ديوانه» (142) ، و «جمهرة أشعار العرب» (725) ، والقرطبي (17/ 46) ، و «روح المعاني» (27/ 34) ، و «البحر المحيط» (8/ 147) .
والساري: الذي يمشي ليلا.
(2) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 218) .
(3) ينظر: «معاني القرآن» (5/ 63) .
(4) ذكره البغوي (4/ 240) ، وابن عطية (5/ 190) .
(5) أخرجه الطبري (11/ 492) برقم: (32369) ، (32370) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 149) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وابن المنذر.
(5/314)
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ أَوَّلَ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ- وفي رِوَايَةٍ: «مِنْ أُمَّتِي» عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ على أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ في السَّمَاءِ إضَاءَةً» «1» ، وفي رواية:
«ثُمَّ هُمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَنَازِلُ» الحديثَ، وفي «صحيح مسلم» أيضا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ في الجَنَّةَ لَسُوقاً يَأْتُونَهَا كُلَّ جُمْعَةٍ، فَتَهُبُّ رِيحُ الشَّمَالِ، فَتَحْثُو في وُجُوهِهِمْ وَثِيَابِهِمْ، وَيَزْدَادُونَ حُسْناً وَجَمَالاً، فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُوهُمْ: واللَّهِ، لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمَالاً! فَيَقُولُونَ: وَأَنْتُمْ واللَّهِ، لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنَا حُسْناً وَجَمَالاً» «2» ، انتهى، وقد أشار الغَزَّاليُّ وغيره إلى طَرَفٍ من هذا المعنى، لَمَّا تكلَّم على رؤية العارفين للَّه سبحانه في الآخرة، قال بعد كلام: ولا يَبْعُدُ أَنْ تكونَ ألطاف الكشف والنظر في الآخرة متواليةً إلى غير نهاية، فلا يزالُ النعيمُ واللَّذَّةُ متزايداً أبَدَ الآبادِ، وللشيخ أبي الحسن الشاذلي هنا كلام حسن قال: لو كُشِفَ عن نور المؤمن لعبد من دون اللَّه، ولو كُشِفَ عن نور المؤمن العاصي لطبق السماء والأرض، / فكيف بنور المؤمن المطيع؟! نقل كلامه هذا ابن عطاء اللَّه وابن عَبَّاد، انظره.
ثم وصف تعالى عنهم أَنَّهُم في جملة تنعمهم يَتَساءَلُونَ أي: عن أحوالهم وما نال كُلَّ واحد منهم، وأَنَّهم يتذكرون حالَ الدنيا وخشيتَهم عذابَ الآخرة، والإشفاقُ أشدّ الخشية ورقّة القلب، والسَّمُومِ: الحارّ، ونَدْعُوهُ: يحتمل أَنْ يريد: الدعاءَ على بابه، ويحتمل أنْ يريد نعبده، وقرأ نافع والكسائيُّ: «أَنَّهُ» - بفتح الهمزة-، والباقون بكسرها «3» والْبَرُّ الذي يبرّ ويحسن.
__________
(1) أخرجه البخاري (6/ 367) كتاب «بدء الخلق» باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (3245، 3246، 3254) ، (6/ 417) ، كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: خلق آدم وذريته (3327) ، ومسلم (4/ 2178) ، (2180) ، كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب: أول زمرة تدخل الجنة على هيئة القمر ليلة البدر، وصفاتهم وأزواجهم (14/ 2834) - مكرر، (15- 16/ 2834) ، والترمذي (4/ 678) ، كتاب «صفة الجنة» باب: في صفة أهل الجنة (2537) ، وأحمد (20، 230، 231، 232، 247، 253، 257، 316، 502، 507) ، وابن ماجه (2/ 1449) ، كتاب «الزهد» باب: صفة الجنة (4333) ، وابن حبان (16/ 436) ، كتاب «إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة» باب: وصف الجنة وأهلها (7420) ، (16/ 463- 464) ، كتاب «إخباره صلّى الله عليه وسلّم عن مناقب الصحابة» باب: وصف الجنة وأهلها (7436- 7437) ، والحميدي (2/ 483- 484) (1143) ، والدارمي (2/ 333- 334) ، كتاب «الرقائق» باب: في أول زمرة يدخلون الجنة، وابن المبارك في «الزهد» (1/ 549) (1575) ، (1/ 552) (1585) مثله ونحوه.
قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
(2) أخرجه مسلم (4/ 2178) ، كتاب «الجنة وصفة نعيمها» باب: في سوق الجنة وما ينالون فيها من النعيم (13/ 2833) .
(3) ينظر: «السبعة» (613) ، و «الحجة» (6/ 227) ، و «معاني القراءات» (3/ 34) ، و «شرح الطيبة» (6/ 23) ، و «العنوان» (181) ، و «حجة القراءات» (683) ، و «شرح شعلة» (590) ، و «إتحاف» (2/ 497) .
(5/315)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
[سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 34]
فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33)
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34)
وقوله سبحانه: فَذَكِّرْ أمر لنبيّه ع بإدامة الدعاء إلى الله عز وجل، ثم قال مؤنساً له: فَما أَنْتَ: بإِنعام اللَّه عليك ولُطْفِهِ بك- كاهِنٌ ولا مجنون.
وقوله سبحانه: أَمْ يَقُولُونَ أي: بل يَقُولُونَ شاعِرٌ ... الآية: رُوِيَ أَنَّ قريشاً اجتمعت في دار الندوة، فكثرت آراؤهم في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حَتَّى قال قائل منهم: تَرَبَّصُوا به رَيْبَ المَنُونِ، أي: حوادِثَ الدهر، فَيَهْلِكَ كما هَلَكَ من قبله من الشُّعَرَاءِ: زُهَيْرٌ، والنَّابِغَةُ، وَالأَعْشَى، وغيرُهم، فافترقوا على هذه المقالة، فنزلت الآية في ذلك، والتَّرَبُّصُ: الانتظار، والمنون: من أسماء الموت، وبه فسر ابن عباس «1» ، وهو أيضاً من أسماء الدهر، وبه فَسَّرَ مجاهد «2» ، والرَّيْبُ هنا: الحوادث والمصائب: ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّما فَاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي يَرِيبُنِي مَا رَابَهَا» «3» الحديثَ.
وقوله: قُلْ تَرَبَّصُوا وعيد في صيغة أمر.
وقوله سبحانه: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا الأحلام: العقول، وقوله: بِهذا يحتمل أنْ يشيرَ إلى هذه المقالة: هو شاعر، ويحتمل أَنْ يشير إلى ما هم عليه من الكُفْرِ وعبادة/ الأصنام، وتَقَوَّلَهُ معناه: قال عن الغير أَنَّهُ قاله، فهي عبارة عن كَذِبٍ مخصوص، ثم عَجَّزَهُمْ سبحانه بقوله: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ والضمير في مِثْلِهِ عائد على القرآن.
وقوله: إِنْ كانُوا صادِقِينَ
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 494) برقم: (32376) ، وذكره ابن عطية (5/ 191) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 243) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 150) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري (11/ 494) برقم: (32375) ، وذكره ابن عطية (5/ 191) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 150) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(3) أخرجه مسلم (4/ 1902- 1903) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب: فضائل فاطمة بنت الرسول- عليه الصلاة والسلام- (93، 95/ 2449) ، وأحمد (4323، 4326، 328، 332) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (2/ 41) .
(5/316)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
ت: أي: في أَنَّ محمداً تَقَوَّلَهُ قاله الثعلبيّ.
[سورة الطور (52) : الآيات 35 الى 36]
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36)
وقوله سبحانه: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ قال الثعلبيُّ: قال ابن عباس: من غير أَبٍ ولا أُمٍّ، فهم كالجماد لا يعقلون، ولا تقوم للَّه عليهم حُجَّةٌ، أليسوا خُلِقُوا من نطفة وعلقة، وقال ابن كَيْسَانَ: أَمْ خلقوا عَبَثاً، وَتُرِكُوا سُدًى من غير شيء، أي: لغير شيء لا يؤمرون ولا يُنْهَوْنَ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ: لأَنفسهم، فلا يأتمرون لأمر اللَّه، انتهى، وعَبَّرَ ع «1» : عن هذا بأَنْ قال: وقال آخرون: معناه: أمْ خُلِقُوا لغير عِلَّةِ ولا لغاية عقاب وثواب فهم لذلك لا يسمعون ولا يتشرَّعون.
ت: وقد يحتمل أَنْ يكونَ المعنى: أم خُلِقُوا من غير شيء خَلَقَهُمْ، أي: من غير مُوجِدٍ أَوْجَدَهُمْ، ويَدُلُّ عليه مقابلته بقوله: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ وهكذا قال الغَزَّاليُّ في «الإِحياء» ، قال: وقوله عز وجل: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي: من غير خالق، انتهى بلفظه من كتاب، آداب التلاوة قال الغَزَّالِيُّ: ولا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الآيةَ تَدُلُّ أَنَّه لا يُخْلَقُ شَيْءٌ إلاَّ من شيء! انتهى، وقال الفخر «2» : قوله تعالى: مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ فيه وجوه، المنقول منها: أم خُلِقُوا من غير خالق، [وقيل: أَمْ خُلِقُوا لا لغير شيء عَبَثاً] «3» ، وقيل: أم خلقوا من غير أَبٍ وأُمِّ، انتهى، وأحسنها الأَوَّلُ كما قال الغَزَّالِيُّ، واللَّه أعلم بما أراد سبحانه، وفي الصحيح عن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قال: «سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَقْرَأُ في الْمَغْرِبِ بالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هذه الآيَةَ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ إلى قَوْلِهِ: الْمُصَيْطِرُونَ- كَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ» ، وفي رواية: «وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا/ وَقَرَ الإِيمَانُ في قَلْبِي» «4» انتهى، وأسند أبو بكر ابن الخطيب في «تاريخه» عن جُبَيْرِ بن مطعم قال: «أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في فِدَاءِ أَهْلِ بَدْرٍ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ في الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَكَأَنَّمَا تَصَدَّعَ قَلْبِي حِينَ سَمِعْتُ القرآن» انتهى.
[سورة الطور (52) : الآيات 37 الى 43]
أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41)
أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 192) .
(2) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 223) .
(3) سقط في: د. [.....]
(4) أخرجه البخاري (8/ 469) ، كتاب «التفسير» برقم: (4854) .
(5/317)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
وقوله سبحانه: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ بمنزلة قوله: أم عندهم الاستغناء في جميع الأمور؟ والمصيطر: القاهر، وبذلك فسر ابن عباس «1» الآية، والسُّلَّمُ: السبب الذي يُصْعَدُ به، كان ما كان من خشب، أو بناء، أو حبال، أو غير ذلك، والمعنى: ألهم سُلَّمٌ إِلى السماء يستمعون فيه، أي: عليه أو منه، وهذه حروف يَسُدُّ بعضُها مَسَدَّ بعض، والمعنى:
يستمعون الخبر بِصِحَّةِ ما يدعونه، فليأتوا بالحُجَّةِ المبينة في ذلك.
وقوله سبحانه: أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ الآية، قال ابن عباس «2» : يعني أَمْ عندهم اللوحُ المحفوظ، فَهُمْ يَكْتُبُونَ: ما فيه، ويخبرون به، ثم قال: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً: بك وبالشرع، ثم جزم الخبر بأنَّهم هُمُ الْمَكِيدُونَ أي: هم المغلوبون، فَسَمَّى غَلَبَتَهُمْ كيداً إذ كانت عقوبةُ الكَيْدِ، ثم قال سبحانه: أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ: يعصمهم ويمنعهم من الهلاك، قال الثعلبيُّ: قال الخليل: ما في سورة الطور كُلِّها من ذكر «أم» كُلُّه استفهام لهم، انتهى.
ثم نَزَّهَ تعالى نفسه: عَمَّا يُشْرِكُونَ به.
[سورة الطور (52) : الآيات 44 الى 49]
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)
وقوله: وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً أي: قطعةً يقولون لشدة معاندتهم هذا سَحابٌ مَرْكُومٌ:
بعضُه على بعض، وهذا جوابٌ لقولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [الشعراء: 187] وقولهم: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً [الإسراء: 92] يقول: لو فعلنا هذا بهم لما/ آمنوا، ولقالوا: سحاب مركوم.
وقوله تعالى: فَذَرْهُمْ، وما جرى مَجْرَاهُ من الموادعة- منسوخ بآية السيف،
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 496) برقم: (32386) ، وذكره ابن عطية (5/ 193) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 150) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(2) ذكره البغوي (4/ 242) ، وذكره ابن عطية (5/ 193) .
(5/318)
والجمهورُ أَنَّ يومهم الذي فيه يُصْعَقُونَ، هو يوم القيامة، وقيل: هو موتهم واحداً واحداً، ويحتمل أن يكون يوم بدر لأَنَّهُمْ عُذِّبُوا فيه، والصعق: التعذيب في الجملة، وإنْ كان الاستعمالُ قد كَثُرَ فيما يصيب الإنسانَ من الصَّيْحَةِ المُفْرِطَةِ ونحوه، ثُمَّ أخبر تعالى بِأَنَّ لهم دُونَ هذا اليوم، أي: قبله عَذاباً واخْتُلِفَ في تعيينه، فقال ابن عباس وغيره «1» : هو بدر ونحوه، وقال مجاهد «2» : هو الجُوعُ الذي أصابهم، وقال البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وابن عباس أيضاً «3» : هو عذاب القبر، وقال ابن زيد «4» : هي مصائب الدنيا، إذْ هي لهم عذاب.
ت: ويحتمل أَنْ يكونَ المراد الجميع قال الفخر «5» : إنْ قلنا إنَّ العذابَ هو بدر فالذين ظلموا هم أهل مَكَّةَ، وإنْ قلنا: العذابُ هو عذابُ القبر، فالذين ظلموا عامٌّ في كل ظالم، انتهى.
ثم قال تعالى لنبيِّهِ: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا أي: بمرأى ومنظر، نرى ونَسْمَعُ ما تقول، وأَنَّك في حفظنا وحيطتنا كما تقول: فلان يرعاه المَلِكُ بعين، وهذه الآية ينبغي أَنْ يُقَرِّرَهَا كُلُّ مؤمن في نفسه فإنها تُفَسِّحُ مضايق الدنيا.
وقوله سبحانه: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قال أبو الأحوص «6» : هو التسبيح المعروف، يقول في كل قيام: سبحان اللَّهِ وبحمدِهِ، وقال عطاء «7» : المعنى حين تقومُ من كُلِّ مجلس.
ت: وفي تفسير أحمدَ بن نصر الداوديّ قال: وعن ابن المُسَيِّبِ قال: حَقٌّ على كل مسلم أنْ يقول حين يقومُ إِلى الصلاة: سبحان اللَّهِ وبحمده لقولِ اللَّه سبحانه لِنَبِيِّهِ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ، انتهى، / وقال ابن زيد «8» : هي صلاة النوافل، وقال
__________
(1) ذكره البغوي (4/ 243) ، وابن عطية (5/ 194) .
(2) أخرجه الطبري (11/ 499) برقم: (32398) ، وذكره البغوي (4/ 243) ، وابن عطية (5/ 194) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 245) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 151) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(3) أخرجه الطبري (11/ 499) برقم: (32394) ، (32395) ، وذكره ابن عطية (5/ 194) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 150) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(4) أخرجه الطبري (11/ 499) برقم: (32399) ، وذكره ابن عطية (5/ 194) .
(5) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 235) .
(6) أخرجه الطبري (11/ 500) برقم: (32401) ، وذكره ابن عطية (5/ 194) ، وابن كثير في «تفسيره» (5/ 194) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 151) ، وعزاه لابن أبي شيبة.
(7) ذكره البغوي (4/ 243) ، وابن عطية (5/ 194) ، وابن كثير في «تفسيره» (5/ 194) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 151) ، وعزاه للفريابي، وابن المنذر.
(8) ذكره ابن عطية (5/ 194) .
(5/319)
الضَّحَّاكُ «1» : هي الصلوات المفروضة، وَمَنْ قال هي النوافل جعلَ أدبار النجوم رَكْعَتَيِ الفجر، وعلى هذا القول جماعة كثيرة من الصحابة والتابعين، وقد رُوِيَ مرفوعاً، ومَنْ جعله التسبيحَ المعروفَ جعل قوله: حِينَ تَقُومُ مثالاً، أي: حين تقومُ وحينَ تَقْعُدُ، وفي كل تَصَرُّفِكَ، وحكى منذر عن الضَّحَّاكِ أَنَّ المعنى: حين تقومُ في الصلاة [بعد] تكبيرة الإحرام، فقل: «سُبْحَانَكَ اللهمّ، وبحمدك، وتبارك اسمك» «2» الحديث.
__________
(1) ينظر: المصدر السابق.
(2) أخرجه أبو داود (1/ 265) ، كتاب «الصلاة» باب: من رأى الاستفتاح بسبحانك وبحمدك (775) ، والترمذي (2/ 9- 10) ، كتاب «الصلاة» باب: ما يقول عند افتتاح الصلاة (242) ، وابن ماجه (2/ 264) ، كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب: افتتاح الصلاة (804) ، والنسائي (2/ 132) ، كتاب «الافتتاح» باب: نوع آخر من الذكر بين افتتاح الصلاة وبين القراءة (899) ، وأحمد (3/ 50، 69) ، (1/ 282) ، كتاب «افتتاح الصلاة» باب: ما يقال بعد افتتاح الصلاة، وابن خزيمة (1/ 238) جماع أبواب الأذان والإقامة، باب: إباحة الدعاء بعد التكبير وقبل القراءة ... (467) .
(5/320)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3)
تفسير سورة «النّجم»
وهي مكّيّة بإجماع وهي أوّل سورة أعلن بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وجهر بقراءتها في الحرم، والمشركون يستمعون، وفيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجنّ والإنس غير أبي لهب، فإنّه رفع حفنة من تراب إلى جبهته، وقال: يكفيني هذا.
ت: والذي خرّجه البخاريّ في صحيحه عن ابن مسعود: «فسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وسجد من خلفه إلّا رجلا رأيته أخذ كفّا من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافرا، وهو أميّة بن خلف» «1» انتهى، وسبب نزولها أنّ المشركين قالوا: إنّ محمّدا يتقوّل القرآن، ويختلق أقواله، فنزلت السورة في ذلك.
[سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3)
قوله عز وجل: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى الآية، قال الحسن وغيره: النجم المُقْسَمُ به هنا: اسمُ جنس، أراد به النجوم «2» ، ثم اختلفوا في معنى هَوى فقال جمهور المفسرين: هَوَى للغروب، / وهذا هو السابق إلى الفهم من كلام العرب، وقال ابن عباس في كتاب الثعلبيِّ «3» : هوى في الانقضاض في إثر العفريت عند استراق السمع، وقال مجاهد وسفيان «4» : النجم في قسم الآية: الثُّرَيَّا، وسُقُوطُهَا مع الفجر هو هوِيُّها، والعرب لا تقول: النجم مطلقاً إِلاَّ للثُّرَيَّا، والقسم واقع على قوله: مَا ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى.
__________
(1) أخرجه البخاري (8/ 480) ، كتاب «التفسير» باب: فاسجدوا لله واعبدوا (4863) . [.....]
(2) ذكره ابن عطية (5/ 195) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 195) .
(4) أخرجه الطبري (11/ 503) برقم: (32414) ، (32415) ، وذكره ابن عطية (5/ 196) ، وابن كثير (4/ 246) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 154) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(5/321)
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
- ص-: إِذا هَوى أبو البقاء: العامل في الظرف فِعْلُ الَقَسَمِ المحذوفِ، أي:
أقسم بالنجم وَقْتَ هَوِيِّهِ، وجوابُ القَسَمِ: مَا ضَلَّ، انتهى، قال الفخر «1» : أكثر المفسرين لم يُفَرِّقُوا بين الغَيِّ والضلال، وبينهما فرق فالغيُّ: في مقابلة الرُّشْدِ، والضلال أَعَمُّ منه، انتهى. وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى: يريد محمّدا صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه لا يتكلم عن هواه، أي:
بهواه وشهوته، وقال بعض العلماء: وما ينطقُ القرآنَ المُنَزَّلَ عن هوى.
ت: وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية كما ترى.
[سورة النجم (53) : الآيات 4 الى 10]
إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8)
فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)
وقوله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى يراد به القرآن بإجماع.
ت: وليس هذا الإِجماع بصحيح، ولفظُ الثعلبيِّ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ أي: ما نُطْقُهُ في الدِّينِ إلاَّ بوحي، انتهى، وهو أحسن إِنْ شاء اللَّه، قال الفخر «2» : الوحي اسم، ومعناه: الكتاب، أو مصدر وله معانٍ: منها الإرسال، والإِلهام، والكتابة، والكلام، والإِشارة، فإنْ قلنا: هو ضمير القرآن فالوحي اسم معناه الكتاب، ويحتمل أنْ يُقَالَ:
مصدر، أي: ما القرآن إلاَّ إرْسَالٌ، أي: مُرْسَلٌ، وَإِنْ قلنا: المراد من قوله: إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ قولُ محمد وكلامُه فالوحي حينئذ هو الإلهام، أي: كلامه مُلْهَمٌ من اللَّه أو مرسل، انتهى، والضمير في عَلَّمَهُ لنبِيِّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والمعلّم هو جبريل ع قاله ابن عباس وغيره «3» ، أي: عَلَّم محمداً القرآن، وذُو مِرَّةٍ معناه: ذو قُوَّة قاله قتادة وغيره «4» ومنه قوله ع: «لاَ تَحِلَّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِىّ» «5» .
وَأصْلُ المِرَّةِ مِنْ مَرَائِرِ الْحَبْلِ، وهي فتله وإحكام عمله.
__________
(1) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 241) .
(2) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 241) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 196) .
(4) ينظر: المصدر السابق.
(5) أخرجه أبو داود (1/ 514) ، كتاب «الزكاة» باب: من يعطى من الصدقة وحد الغنى (1634) ، والترمذي (3/ 33) كتاب «الزكاة» باب: ما جاء من لا تحل له الصدقة (652) ، وابن ماجه (1/ 589) ، كتاب «الزكاة» باب: من سأل عن ظهر غنّى (1839) ، والحاكم (1/ 407) نحوه، والنسائي (5/ 99) ، كتاب «الزكاة» باب: إذا لم يكن له دراهم وكان له عدلها (2597) ، وابن حبان (3/ 102) - الموارد (806) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (4/ 110) (7155) .
قال الترمذي: حديث عبد الله بن عمر حديث حسن.
(5/322)
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15)
وقوله: فَاسْتَوى قال الربيع والزَّجَّاج، المعنى: فاستوى جبريل في الجو، وهو إذ ذاك بالأفق الأعلى إذ رآه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِحِراءَ، قد سَدَّ الأفق، له ستمائة جناحٍ، وحينئذ دنا من محمّد ع حتى كان قابَ قوسين، وكذلك رآه نزلةً أخرى في صفته العظيمة، له ستمائة جناح عند السِّدْرَةِ.
وقوله: ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى قال الجمهور: المعنى: دنا جبريل إلى محمد في الأرض عند حِرَاءَ، وهذا هو الصحيح أَنَّ جميع ما في هذه الآيات من الأوصاف هو مع جبريل، ودَنا أعمّ من فَتَدَلَّى فَبَيَّنَ تعالى بقوله: فَتَدَلَّى هيئَةَ الدُّنُوِّ كيف كانت، وقابَ:
معناه: قَدْر، قال قتادة وغيره «1» : معناه: من طرف العود إلى طرفه الآخر، وقال الحسن ومجاهد «2» : من الوتر إلى العود في وسط القوس عند المِقْبَضِ.
وقوله: أَوْ أَدْنى معناه: على مقتضى نظر البشر، أي: لو رَآه أَحَدُكُمْ لقال في ذلك: قوسان أو أدنى من ذلك، وقيل: المراد بقوسين، أي: قَدْرَ الذراعين، وعن ابن عباس «3» : أنَّ القوس في الآية ذراعٌ يُقَاسُ به، وذكر الثعلبيُّ أَنَّهَا لُغَةُ بعض الحجازيين.
وقوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
قال ابن عباس «4» : المعنى: فأوحى اللَّهُ إلى عبده محمد ما أوحى، وفي قوله: مَا أَوْحى
إبهام على جهة التفخيم والتعظيم قال عياض: ولما كان ما كاشفه ع من ذلك الجبروتِ، وشَاهَدَهُ من عجائب/ الملكوت، لا تُحِيطُ به العباراتُ، ولا تستقِلُّ بحمل سماع أدناه العقولُ- رَمَزَ عنه تعالى بالإيماء والكناية الدَّالَّةِ على التعظيم، فقال تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى
وهذا النوع من الكلام يسميه أَهْلُ النقد والبلاغة بالوحي والإشارة، وهو عندهم أبلغ أبواب الإيجاز، انتهى.
[سورة النجم (53) : الآيات 11 الى 15]
ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15)
__________
(1) ذكره البغوي (4/ 246) ، وابن عطية (5/ 197) .
(2) أخرجه الطبري (11/ 507- 508) برقم: (32440، 32442) ، وذكره البغوي (4/ 246) ، وابن عطية (5/ 197) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 158) ، وعزاه لآدم بن أبي إياس، والفريابي، والبيهقي.
(3) ذكره ابن عطية (5/ 198) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 157) ، وعزاه للطبراني، وابن مردويه، والضياء.
(4) أخرجه الطبري (11/ 509) برقم: (32454) ، وذكره البغوي (4/ 246) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 158) ، وعزاه للنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(5/323)
وقوله سبحانه: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى المعنى: لم يُكَذِّبْ قلبُ محمد الشيء الذي رأى، بل صَدَّقَهُ وتحقَّقَهُ نظراً قال أهل التأويل منهم ابن عباس وغيره «1» : رأى محمد الله بفؤاده، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «جَعَلَ اللَّهُ نُورَ بَصَرِي في فُؤَادِي، فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ بِفُؤَادِيَ» ، وقال آخرون من المتأولين: المعنى: ما رأى بعينه لم يُكَذِّبْ ذلك قلبُه، بل صدقه وتحققه، وقال ابن عباس فيما روِي عنه «2» : إنَّ محمداً رأى رَبَّه بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وأنكرت ذلك عَائِشَةُ، وقالت: أنا سَأَلْتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ هذه الآياتِ فَقَالَ لِي: «هُوَ جِبْرِيلُ فِيهَا كُلِّها» قال ع «3» : وهذا قول الجمهور، وحديث عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قاطعٌ بكُلِّ تأويل في اللفظ لأَنَّ قول غيرها إنَّما هو مُنْتَزَعٌ من ألفاظ القرآن.
وقوله سبحانه: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى قرأ حمزة والكسائيُّ «أَفَتَمْرُونَهُ» - بفتح التاء دون ألف «4» -، أي: أفتجحدونه.
ت: قال الثعلبيُّ: واختار هذه القراءة أبو عبيد: قال إنَّهم لا يمارونه، وإنَّما جحدوه، واخْتُلِفَ في الضمير في قوله: وَلَقَدْ رَآهُ حسبما تقدم، فقالت عائشة والجمهور «5» : هو عائد على جبريل، ونَزْلَةً معناه: مَرَّة أخرى، فجمهور العلماء أَنَّ المَرْئِيَّ هو جبريل ع في/ المرتين، مَرَّةً في الأرض بحراءَ، ومرَّةً عند سدرة المنتهى ليلة الإسراء، رآه على صورته التي خُلِقَ عليها، وسِدْرَةُ المُنْتَهَى هي: شجرة نَبْقٍ في السماء السابعة، وقيل لها: سدرة المنتهى لأَنَّها إليها ينتهي عِلْمُ كُلِّ عالم، ولا يعلم ما وراءها صَعَداً إلّا الله عز وجل، وقيل: سُمِّيَتْ بذلك لأَنَّها إليها ينتهي مَنْ مات على سنّة النبي صلّى الله عليه وسلّم قال ع «6» : وهم المؤمنون حقًّا من كل جيل.
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 511) برقم: (32466) ، وذكره البغوي (4/ 246) ، وذكره ابن عطية (5/ 198) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 160) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، عن أبي العالية.
(2) أخرجه الطبري (11/ 511) برقم: (32467) ، وذكره البغوي (4/ 247) ، وابن عطية (5/ 198) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 250) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 159) ، وعزاه لابن مردويه. [.....]
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 198) .
(4) ينظر: «السبعة» (614) ، و «الحجة» (6/ 230) ، و «معاني القراءات» (3/ 37) ، و «شرح الطيبة» (6/ 24) ، و «العنوان» (182) ، و «حجة القراءات» (685) ، و «شرح شعلة» (591) ، و «إتحاف» (500- 501) .
(5) أخرجه الطبري (11/ 512) برقم: (32475) ، وذكره ابن عطية (5/ 199) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 251)
(6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 198) .
(5/324)
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25)
وقوله سبحانه: عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى قال الجمهور: أراد سبحانه أَنْ يُعَظِّمَ مَكانَ السدرة، ويُشَرِّفَهُ بِأَنَّ جنة المأوى عندها، قال الحسن «1» : هي الجنة التي وعد بها المؤمنون.
[سورة النجم (53) : الآيات 16 الى 25]
إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20)
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25)
وقوله سبحانه: إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشى أي: غَشِيَها من أمر اللَّه ما غشيها، فما يستطيع أحد أَنْ يصفَها، وقد ذكر المُفَسِّرُون في وصفها أقوالاً هي تَكَلُّفٌ في الآية لأَنَّ اللَّه تعالى أبهم ذلك، وهم يريدون شرحه، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ» «2» .
وقوله تعالى: مَا زاغَ الْبَصَرُ قال ابن عباس «3» : معناه: ما جال هكذا ولا هكذا.
وقوله: وَما طَغى معناه: ولا تجاوز المَرْئِيَّ، وهذا تحقيق للأمر، ونفيٌ لوجوه الريب عنه.
وقوله: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى قال جماعة: معناه: لقد رأى الكبرى من آياتِ رَبِّهِ، أي: مِمَّا يمكنُ أنْ يراها البشر، وقال آخرون: المعنى: لقد رأى بَعْضاً من آيات رَبِّهِ الكبرى، وقال ابن عباس وابن مسعود «4» : رأى رفرفاً أخضرَ من الجنة، قد سدّ الأفق.
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 517) عن ابن عبّاس برقم: (32511) ، وذكره ابن عطية (5/ 199) .
(2) أخرجه البخاري (1/ 547- 548) ، كتاب «الصلاة» باب: كيف فرضت الصلوات في الإسراء؟ (349) ، (6/ 431- 432) ، كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: ذكر إدريس عليه السلام (3342) .
(3) أخرجه الطبري (11/ 518) برقم: (32525) ، وذكره ابن عطية (5/ 200) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 452) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 162) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه.
(4) أخرجه الطبري (11/ 519) برقم: (32531) عن ابن مسعود، وذكره ابن عطية (5/ 200) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 162) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبخاري، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي معا في «الدلائل» .
(5/325)
ت: وزاد الثعلبيُّ: وقيل: المعراج، وما رأى في تلك الليلة في مسراه في عوده وبدئه دليله قوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا ... [الإسراء: 1] الآية، قال عِيَاضٌ:
/ وقوله تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى انحصرت الأفهام عن تفصيل ما أوحى، وتاهت الأحلامُ في تعيين تلك الآيات الكبرى، وقد اشتملت هذه الآيات على إعلام الله بتزكية جملته ع وعِصْمَتِهَا من الآفات في هذا المسرى، فزكى فؤادَه ولسانَه وجوارِحَه فقلبه بقوله تعالى: مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى [النجم: 11] ، ولسانَهُ- عليه السلام- بقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] ، وبصرَهُ بقوله تعالى: مَا زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى اهـ.
ولما فرغ من ذكر عظمة اللَّه وقدرته قال على جهة التوقيف: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ... الآية، أي: أرأيتم هذه الأوثان وحقارَتَها وبُعْدَهَا عن هذه القدرة والصفات العَلِيَّةِ، واللات: صنم كانتِ العربُ تعظمه، والعُزَّى: صخرة بيضاءُ كانت العرب أيضاً تعبُدُها، وأمَّا مناة: فكانت بالمشلل من قديد، وكانت أعظم هذه الأوثان عندهم، وكانت الأوس والخزرج تهل لها، ووقف تعالى الكُفَّارَ على هذه الأوثان، وعلى قولهم فيها: إنها بنات اللَّه، فكأَنَّه قال: أرأيتم هذه الأوثانَ وقولَكُمْ: هي بناتُ اللَّه أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى ثم قال تعالى على جهة الإنكار: تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أي: عوجاء قاله مجاهد «1» ، وقيل: جائرة قاله ابن عباس «2» ، وقال سفيان «3» : معناه: منقوصة، وقال ابن زيد «4» :
معناه: مخالفة، والعرب تقول: ضِزْتُهُ حَقَّهُ أَضِيزُهُ بمعنى: منعته، وضِيزَى من هذا التصريف قال أبو حيان «5» : والثَّالِثَةَ الْأُخْرى صفتان لمناة للتأكيد، قيل: وأُكِّدَتْ بهذين الوصفين لِعَظَمِهَا عندهم، وقال الزمخشري: والأخرى ذَمٌّ، وهي المتأخرة الوضيعة المقدارِ، وتُعُقِّبَ/ بأنَّ أخرى مُؤنث آخر، ولم يُوضَعَا لِلذَّمِ ولا للمدح.
ت: وفي هذا التعقب تعسف، والظاهر أَنَّ الوصفين معاً سِيقَا مَسَاقَ الذَّمِّ لأَنَّ هؤلاءِ الكُفَّارِ لم يكتفوا بضلالهم في اعتقادهم ما لا يجوز في اللات والعزى، إِلى أَنْ
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 522) برقم: (32546) ، وذكره البغوي (4/ 250) ، وابن عطية (5/ 201) .
(2) أخرجه الطبري (11/ 522) برقم: (32549) ، وذكره البغوي (4/ 250) ، وابن عطية (5/ 201) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 164) ، وعزاه لابن جرير.
(3) أخرجه الطبري (11/ 522) برقم: (32550) ، وذكره ابن عطية (5/ 201) .
(4) أخرجه الطبري (11/ 522) برقم: (32551) ، وذكره ابن عطية (5/ 201) .
(5) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 160) .
(5/326)
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
أضافوا إلى ذلك مَنَاةَ الثالثة الأخرى الحقيرة، وكُلُّ أصنامهم حقير، انتهى.
ثم قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ يعني: إنْ هذه الأوصافُ من أَنَّها إناث، وَأَنَّها آلهة تعْبَدُ، ونحو هذا- إلاَّ أَسماءٌ، أي: تسميات اخترعتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل اللَّه بها برهاناً ولا حُجَّةً، وما هو إلاَّ اتِّباعُ الظن، وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وهَوَى الأنفس هو إرادتها الملذة لها، وإِنَّما تجد هوى النفس أبداً في ترك الأفضل لأَنَّها مجبولةٌ بطبعها على حُبِّ الملذ، وإِنَّما يَرْدَعُها وَيَسُوقُها إلى حُسْنِ العاقبة العقلُ والشرع.
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى فيه توبيخ لهم، إِذْ يفعلون هذه القبائِحَ والهدى حاضر، وهو محمد وشرعه، والإنسان في قوله: أَمْ لِلْإِنْسانِ اسم جنس، كأَنَّه يقول: ليست الأشياءُ بالتمني والشهوات، وإِنَّما الأمر كُلُّه للَّه، والأعْمَالُ جاريةٌ على قانون أمره ونهيه، فليس لكم- أَيُّهَا الكَفَرَةُ- مُرَادُكُمْ في قولكم: هذه آلهتنا، وهي تشفعُ لنا، وتُقَرِّبُنَا إِلى اللَّه زُلْفَى، ونحو هذا فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى أي: له كل أمرهما:
مُلْكاً، ومقدوراً، وتَحْتَ سلطانه، قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب «عيوب النفس» : ومن عيوب النفس كثرةُ التَّمَنِّي، والتَّمَنِّي هو الاعتراضُ على اللَّه عَزَّ وجلَّ في قضائه وقَدَرِهِ، ومداواتُها/ أَنْ يعلم أَنَّه لا يدري ما يعقبه التمني، أيجرُّهُ إلى خير أو إلى شَرٍّ؟ فإذا تَيَقَّنَ إبهام عاقبة تمنيه، أَسْقَطَ عن نفسه ذلك، ورَجَعَ إلى الرِّضَا والتسليم، فيستريح، انتهى.
[سورة النجم (53) : الآيات 26 الى 32]
وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)
وقوله سبحانه: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ ... الآية: رَدٌّ على قريش في قولهم: الأوثان شفعاؤنا، وَكَمْ للتكثير، وهي في موضع رفع بالابتداء، والخبر لاَ تُغْنِي والغِنَى جَلْبُ النفع ودَفْعُ الضُّرِّ بحسب الأمر الذي يكون فيه الغناء.
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني: كفّار العرب.
(5/327)
وقوله: وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي: في المُعْتَقَدَاتِ، والمواضع التي يريد الإنسان أن يحرّر ما يَعْقِلُ ويعتقد فَإنَّهَا مواضع حقائق، لا تنفعُ الظنونُ فيها، وَأَمَّا في الأحكام وظواهرها فيجتزئ فيها بالمظنونات.
ثم سَلَّى سبحانه نَبِيَّه وأمره بالإعراض عن هؤلاء الكَفَرَةِ.
وقوله: عَنْ ذِكْرِنا قال الثعلبيُّ: يعني القرآن.
وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الآية متصلة في معنى التسلية، ومتضمنة وعيداً للكافرين، ووعداً للمؤمنين، والحُسْنَى: الجنة ولا حسنى دونها، وقد تقدم نقلُ الأقوال في الكبائر في سورة النساء وغيرها، وتحريرُ القول في الكبائر أَنَّها كُلُّ معصيةٍ يوجد فيها حَدٌّ في الدنيا أو تَوَعُّدٌ عليها بِالنَّارِ في الآخرة، أو لعنة، ونحو هذا.
وقوله: إِلَّا اللَّمَمَ هو استثناء يَصِحُّ أنْ يكونَ مُتَّصِلاً، وإنْ قدرته مُنْقَطِعاً ساغ ذلك، وبِكُلٍّ قد قيل، واخْتُلِفَ في معنى اللَّمَمَ فقال أبو هريرة، وابن عباس، والشَّعْبِيُّ، وغيرهم «1» : اللمم: صِغَارُ الذنوب التي لا حَدَّ فيها ولا وَعِيدَ عليها لأَنَّ الناسَ لا يتخلَّصُونَ من مُوَاقَعَةِ هذه الصغائر، ولهم مع ذلك الحُسْنَى/ إذا اجتنبوا الكبائر، وتظاهر العلماءُ في هذا القول، وكَثُرَ المائِلُ إليه، وحُكِيَ عن ابن المُسَيِّبِ أَنَّ اللمم: ما خطر على القلب، يعني بذلك لمَّةَ الشيطان «2» ، وقال ابن عباس «3» : معناه: إلاَّ ما أَلَمُّوا به من المعاصي الفَلْتَةُ والسَّقْطَةُ دون دوام ثم يتوبون منه، وعنِ الحسن بن أبي الحسن «4» أَنَّهُ قال:
في اللَّمَّةِ من الزنا، والسَّرِقَةِ، وشرب الخمر ثم لا يعود، قال ع «5» : وهذا التأويلُ يقتضي الرِّفْقَ بالناس في إدخالهم في الوعد بالحسنى إذ الغالب في المؤمنين مواقعة
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 528) عن ابن عبّاس برقم (32584) ، وذكره ابن عطية (5/ 204) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 256) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 166) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير. [.....]
(2) ذكره البغوي (4/ 253) ، وابن عطية (5/ 204) .
(3) أخرجه الطبري (11/ 228) برقم: (32577) ، وذكره البغوي (4/ 252) ، وابن عطية (5/ 204) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 256) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 166) ، وعزاه لعبد بن حميد عن أبي صالح.
(4) أخرجه الطبري (11/ 527) برقم: (32570) ، وذكره البغوي (4/ 252) ، وابن عطية (5/ 204) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 256) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 166) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.
(5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 204) .
(5/328)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)
المعاصي، وعلى هذا أنشدوا، وقد تَمَثَّلَ به النبي صلّى الله عليه وسلّم: [الرجز]
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا «1»
وقوله سبحانه: إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ يريد: خلق أبيهم آدم، ويحتمل أَنْ يرادَ به إنشاء الغذاء، وأجِنَّةٌ: جمع جنين.
وقوله سبحانه: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ظاهره النهيُ عن تزكية الإنسانِ نَفْسَهُ، ويحتمل أَنْ يكونَ نهياً عن أنْ يُزَكِّيَ بعضُ الناسِ بعضاً، وإذا كان هذا، فَإنَّما يُنْهَى عن تزكية السمعة والمدح للدنيا أو القطع بالتزكية، وأَمَّا تزكيةُ الإمامِ والقُدْوَةِ أحداً لِيُؤْتَمَّ به أو ليتهمم الناسَ بالخير، فجائز، وفي الباب أحاديثُ صحيحة، وباقي الآية بَيِّنٌ.
ت: قال صاحِبُ «الكَلِمِ الفارِقِيَّةِ» : أَعْرَفُ الناسِ بنفسه أَشَدُّهُمْ إيقاعاً للتهمة بِها في كل ما يبدو ويظهرُ له منها، وأجهلهم بمعرفتها وخفايا آفاتها وكوامن مكرها مَنْ زَكَّاها، وأَحْسَنَ ظَنَّهُ بها لأَنَّها مُقْبِلَةٌ على عاجل حظوظها، مُعْرِضَةٌ عنِ الاستعداد لآخرتها، انتهى، وقال ابن عطاء اللَّه: أَصْلُ كل معصيةٍ وغفلة- وشهوة/- الرضا عن النفس، وأصل كل طاعة، ويقظة، وعِفَّةٍ- عَدَمُ الرضا منك عنها قال شارحه ابن عُبَّاد: الرضا عن النفس:
أصل جميع الصفات المذمومة، وعَدَمُ الرضا عنها أصلُ الصفات المحمودة، وقدِ اتَّفق على هذا جميعُ العارفين وأرباب القلوب وذلك لأَنَّ الرضا عن النفس يوجب تغطيةَ عيوبِهَا ومساويها، وعَدَمَ الرضا عنها على عكس هذا كما قيل: [الطويل]
وَعَيْنُ الرِّضَا عَنْ كُلِّ عَيْبٍ كَلِيلَةٌ ... وَلَكِنَّ عَيْنَ السُّخْطِ تبدي المساويا
انتهى.
[سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 38]
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38)
وقوله تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى ... الآية، قال مجاهد، وابن زيد، وغيرهما «2» :
__________
(1) أخرجه الحاكم (2/ 469) ، والترمذي (5/ 396- 397) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة النجم (3284) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه الطبري (11/ 530) عن مجاهد برقم: (32595) وعن زيد ابن زيد برقم: (32596) ، وذكره ابن عطية (5/ 205) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 168) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(5/329)
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)
نزلت في الوليد بن المغيرة المخزوميِّ وذلك أنّه سمع قراءة النبي صلّى الله عليه وسلّم ووعظه فقرب من الإسلام، وطمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في إسلامه، ثم إنَّه عاتبه رجلٌ من المشركين، وقال له: أتترك ملّة آبائك؟! ارجع إلى دينك، واثبت عليه، وأَنا أتَحَمَّلُ لك بكلِّ شيء تخافه في الآخرة، لكن على أَنْ تعطيني كذا وكذا من المال، فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عَمَّا هَمَّ به من الإسلام، وأعطى بعضَ ذلك المالَ لذلك الرجل، ثم أمسك عنه وشَحَّ، فنزلت الآية فيه، وقال السُّدِّيُّ «1» : نزلت في العاصي بن وائل قال ع «2» : فقوله: وَأَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى على هذا- هو في المال، وقال مقاتل «3» في كتاب الثعلبيِّ: المعنى: أعطى الوليدُ قليلا من الخير بلسانه، ثم أَكْدى، أي: انقطع ما أعطى، وهذا بَيِّنٌ من اللفظ، والآخر يحتاج إلى رواية، وتَوَلَّى معناه: أدبر وأعرض عن أمر اللَّه، وأَكْدى معناه: انقطع عطاؤه، وهو مشبه بالذي/ يحفر في الأرض فإنَّه إذا انتهى في حفر بئر ونحوه إلى كُدْيَةٍ، وهي ما صَلُبَ من الأرض- يَئِسَ من الماء، وانقطع حفرُهُ، وكذلك أجبل إذا انتهى في الحفر إلى جبل، ثم قيل لمن انقطع: عمله أكدى وأجبل.
ت: قال الثعلبيُّ: وأصله من الكُدْيَةِ، وهو حجر في البئر يؤيس من الماء قال الكسائِيُّ: تقول العرب: أَكْدَى الحَافَرُ وأَجْبَلَ: إذا بَلَغَ في الحَفْرِ إلى الكُدْيَةِ والجَبَلِ، انتهى.
وقوله عز وجل: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى معناه: أَعَلِمَ من الغيب أَنَّ مَنْ تحمَّل ذنوبَ آخر انتفع بذلك المُتَحَمَّلُ عنه فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وله فيه بصيرة؟! أم هو جاهل، لم يُنَبَّأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وَفَّى بما أُرْسِلَ بِه، من أَنَّهُ لا تَزِرُ وازرة، أي: لا تحملُ حَامِلَةٌ حَمْلَ أخرى وفي البخاري وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى: وفى ما فُرِضَ عليه «4» ، انتهى.
[سورة النجم (53) : الآيات 39 الى 41]
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41)
وقوله سبحانه: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى وما بعده، كل ذلك معطوف على قوله: أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى والجمهور أَنَّ قوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى
__________
(1) ذكره البغوي (4/ 253) ، وابن عطية (5/ 205) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 205) .
(3) ذكره البغوي (4/ 253) ، وابن عطية (5/ 205) .
(4) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 469) ، كتاب «التفسير» باب: سورة النجم.
(5/330)
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54)
مُحْكَمٌ لا نسخَ فيه، وهو لفظ عام مخصص.
وقوله: وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى أي: يراه اللَّه، ومَنْ شاهد تلك الأُمُورَ، وَفِي عَرْضِ الأعمال على الجميع تشريفٌ للمحسنين وتوبيخٌ للمسيئين، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ سَمَّعَ بِأَخِيهِ فِيمَا يَكْرَهُ، سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «1» .
وفي قوله تعالى: ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى وعيد للكافرين، ووعد للمؤمنين.
[سورة النجم (53) : الآيات 42 الى 54]
وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46)
وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54)
وقوله سبحانه: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى أي: مُنْتَهَى الخلق ومصيرُهم، اللَّهمَّ أطلعنا على خيرك بفضلك، ولا تفضحْنا بين خلقك، / وجُدْ علينا بسترك في الدارين! وَحُقَّ لعبد يعلم أَنَّه إلى ربه منتهاه أَنْ يرفض هواه ويزهدَ في دنياه، ويُقْبِلَ بقلبه على مولاه ويقتدي بنبيٍّ فَضَّلَهُ اللَّهُ على خلقه وارتضاه ويتأمل كيف كان زهده صلّى الله عليه وسلّم في دنياه وإِقباله على مولاه قال عياض في «شفاه» : وأما زهده صلّى الله عليه وسلّم، فقد قدمنا من الأخبار أثناء هذه السيرة ما يكفي، وحَسْبُكَ من تقلُّله منها وإِعراضِهِ عَنْهَا وعن زَهْرَتِها، وقد سِيقَتْ إليه بحذافيرها، وترادفت عليه فتوحاتها- أنّه توفّي صلّى الله عليه وسلّم ودِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ «2» ، وهو يدعو، ويقول:
__________
(1) أخرجه البخاري (13/ 138) ، كتاب «الأحكام» باب: من شاق شاق الله عليه (7152) ، ومسلم (4/ 2289) ، كتاب «الزهد والرقائق» باب: من أشرك في عمله غير الله (49/ 2986) ، والترمذي (3/ 395) ، كتاب «النكاح» باب: ما جاء في الوليمة (1097) نحوه، ورواه البخاري من طريق صفوان، وجندب، ومسلم من طريق ابن عبّاس، والترمذي من طريق ابن مسعود، وأحمد (3/ 40) من طريق أبي سعيد الخدري (4/ 313) ، (5/ 45) من طريق أبي بكرة.
(2) أخرجه البخاري (4/ 302) كتاب «البيوع» باب: شراء النبي بالنسيئة، حديث (2069) ، وأحمد (3/ 133) ، والنسائي (7/ 288) كتاب «البيوع» باب: الرهن في الحضر، وابن ماجه (2/ 815) ، كتاب «الرهون» باب: (1) ، حديث (2437) ، والترمذي (3/ 519- 520) ، كتاب «البيوع» باب: ما جاء في الرخصة في الشراء إلى أجل، حديث (1215) ، وأبو يعلى (5/ 394) (3061) ، وأبو الشيخ في أخلاق النبي (ص: 263) ، والبيهقي (6/ 36) ، كتاب «الرهن» باب: جواز الرهن، كلهم من حديث قتادة عن أنس، أنه مشى إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بخبز شعير، وإهالة سنخة، ولقد رهن النبي صلّى الله عليه وسلّم درعا له بالمدينة، عند يهودي وأخذ منه شعيرا لأهله، ولقد سمعته يقول: ما أمسى عند آل محمّد صلّى الله عليه وسلّم صاع بر ولا صاع حب، وإن عنده لتسع نسوة. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(5/331)
«اللَّهُمَّ اجعل رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً» .
وفي «صحيح مسلم» عن عائشة- رضي اللَّه عنها- قالت: ما شبع آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ تِبَاعاً حتى مضى لِسَبِيلِهِ «1» .
وعنها- رضي اللَّه عنها- قالت: «لَمْ يَمْتَلِىءْ جَوْفُ نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم شِبَعاً قَطُّ، وَلَمْ يَبُثَّ شكوى إلى أَحَدٍ، وَكَانَتِ الْفَاقَةُ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنَ الغنى، وَإِنْ كَانَ لَيَظَلُّ جَائِعاً يَلْتَوِي طُولَ لَيْلَتِهِ مِنَ الْجُوعِ، فَلاَ يَمْنَعُهُ ذَلِكَ صِيَامَ يَوْمِهِ، وَلَوْ شَاءَ سَأَلَ رَبَّهُ جَمِيعَ كُنُوزِ الأَرْضِ وَثِمَارِهَا وَرَغْدِ عَيْشِهَا، وَلَقَدْ كُنْتُ أَبْكِي لَهُ رَحْمَةً مِمَّا أرى بِهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِي على بَطْنِهِ ممّا به من الجوع، وأقول: نفسي لَكَ الْفِدَاءُ لَوْ تَبَلَّغْتَ مِنَ الدُّنْيَا بِمَا يَقُوتُكَ! فَيَقُولُ: يَا عَائِشَةُ، مَا لِي وَلِلدُّنْيَا! إخْوَانِي مِنْ أُولي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ صَبَرُوا على مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْ هذا، فَمَضَوْا على حَالِهِمْ، فَقَدِمُوا على رَبِّهِمْ فَأَكْرَمَ مَآبَهُمْ، وَأَجْزَلَ ثَوَابَهُمْ، فَأَجِدُنِي أَسْتَحِيي إنْ تَرَفَّهْتُ فِي مَعِيشَتِي/ أنْ يُقَصِّرَ بِي غَداً دُونَهُمْ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ هُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنَ اللُّحُوقِ بإخْوَانِي وأَخِلاَّئِي، قَالَتْ: فَمَا أَقَامَ بَعْدُ إلاَّ أَشْهُراً حتى تُوُفِّيَ- صلواتُ اللَّهُ وسَلاَمُهُ عليه-» انتهى، وباقي الآية دَلالة على التوحيد واضحة، والنَّشْأَةَ الْأُخْرى: هي إعادة الأجسام إلى الحشر بعد البِلَى، وأَقْنى معناه: أَكْسَبَ ما يُقْتَنَى تقول: قنيت المالَ، أي: كسبْته، وقال ابن عباس: أَقْنى: قنَّع «2» ، قال ع «3» : والقناعة خير قُنْيَةٍ، والغِنَى عرض زائل، فلله درّ ابن عبّاس! والشِّعْرى: نجم في السماء، قال مجاهد وابن زيد «4» : هو مرزم الجَوْزاء، وهما شِعْرَيَانِ: إحداهما الغُمَيْصَاءُ، والأُخرى العَبُور لأَنَّها عَبَرَتِ المجرَّةَ، وكانت خُزَاعَةُ مِمَّنْ يَعْبُدُ هذه الشعْرَى العَبُورَ، ومعنى الآية: وَأَنَّ اللَّه سبحانه رَبُّ هذا المعبودِ الذي لكم وعاداً الْأُولى: اختلف في معنى وصفها بالأُولى، فقال الجمهور:
سُمِّيتْ «أولى» بالإضافة إلى الأمم المتأخِرة عنها، وقال الطبريُّ «5» وغيره: سُمِّيتْ أولى لأَنَّ ثَمَّ عاداً آخرةً، وهي قبيلة كانت بمكَّةَ مع العماليق، وهم بنو لقيم بن هزال، والله
__________
(1) أخرجه مسلم في «صحيحه» (4/ 2882) ، كتاب «الزهد والرقائق» باب: (25/ 2971) ، بهذا اللفظ.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 208) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 171) ، وعزاه للفريابي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....]
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 208) .
(4) أخرجه الطبري (11/ 537) عن مجاهد برقم: (32637) وعن ابن زيد برقم: (32640) ، وذكره ابن عطية (5/ 208) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 259) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 172) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وأبي الشيخ.
(5) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 537) .
(5/332)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58)
أعلم، وقرأ الجمهور «1» : «وَثَمُودَا» بالنصب عطفاً على «عاداً» «وقومَ نوحٍ» عطفاً على «ثمود» .
وقوله: مِنْ قَبْلُ لأَنَّهم كانوا أَوَّلَ أُمَّة كَذَّبت من أهل الأرض، والْمُؤْتَفِكَةَ:
قرية قومِ لوطٍ أَهْوى أي: طرحها من هواء عالٍ إلى سفل.
[سورة النجم (53) : الآيات 55 الى 58]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58)
وقوله سبحانه: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى مخاطبة للإنسان الكافر كأَنَّه قيل له: هذا هو اللَّه الذي له هذه الأفعال، وهو خالِقُكَ المُنْعِمُ عليكَ بكُلِّ النِّعَمِ، ففي أَيّها تشك وتتمارى؟! معناه: تتشكك، وقال مالك الغفاريُّ: إنَّ قوله: أَلَّا تَزِرُ إلى قوله:
تَتَمارى هو في صحف إِبراهيم وموسى.
وقوله سبحانه: هذا نَذِيرٌ يحتمل أَنْ يشير إلى نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وهو قول قتادة وغيره «2» ، وهذا هو الأشبه، ويحتمل أنْ يشير إلى القرآن، وهو تأويل قوم، ونَذِيرٌ يحتمل أَنْ يكونَ بناء اسم فاعل، ويحتمل أَنْ يكون مصدراً، ونُذُر جمع نذير.
وقوله تعالى: أَزِفَتِ الْآزِفَةُ معناه: قربت القريبة، والآزفة: عبارة عن القيامة بإجماعٍ من المفسرين، وأَزِفَ معناه قَرُبَ جدًّا قال كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ: [البسيط]
بَانَ الشَّبَابُ وَآهَا الشَّيْب قَدْ أَزِفَا ... ولا أرى لشباب ذاهب خلفا «3» ،
وكاشِفَةٌ يحتمل أَنْ تكون صفة لمؤنث التقدير: حال كاشفة ونحو هذا التقدير، ويحتمل أَنْ تكونَ بمعنى: كاشف قال الطبريُّ «4» والزَّجَّاج: هو من كشف السّرّ، أي:
__________
(1) وقرأها غير مصروفة حمزة، وعاصم، والحسن وعصمة.
ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 208) ، و «البحر المحيط» (8/ 166) ، و «معاني القراءات» (3/ 40) ، و «العنوان» (182) ، و «حجة القراءات» (688) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 503) .
(2) أخرجه الطبري (11/ 540) برقم: (32656) ، وذكره البغوي (4/ 256) ، وذكره ابن عطية (5/ 209) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 172) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر.
(3) وبعده:
عاد السواد بياضا في مفارقه ... لا مرحبا ها بذا اللون الذي ردفا
ينظر: «ديوانه» (70) ، «المحرر الوجيز» (5/ 210) .
(4) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 541) .
(5/333)
أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
ليس من دون الله من يكشف وَقْتَهَا ويعلمه، وقال منذر بن سعيد «1» : هو من كشف الضُّرّ ودفعه، أي: ليس مَنْ يكشف خطبها وهولها إلّا الله.
[سورة النجم (53) : الآيات 59 الى 62]
أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
وقوله سبحانه: أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ ... الآية، روى سعد بن أَبي وَقَّاص أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِنَّ هذا الْقُرْآنَ أُنْزِلَ بِخَوْفٍ، فَإذَا قَرَأْتُمُوهُ فَابْكُوا، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوا» ذكره الثعلبيّ، وأخرج الترمذي والنسائيّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قَالَ: «لاَ يَلِجُ النَّارَ مَنْ بكى مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، حتى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْعِ، وَلاَ يَجْتَمِعُ غُبَارٌ في سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ في مَنْخِرٍ أبَدًا» قال النسائيُّ: ويروى: «في جَوْفٍ أبَدًا» : «وَلاَ يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالإيمَانُ في قَلْبٍ أَبَدًا» «2» قال الترمذي: وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عَيْنَانِ لاَ تَمَسُّهُمَا النَّارُ: عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ في سَبِيلِ اللَّهِ» «3» انتهى من «مصابيح/ البَغَوِيِّ» . قال أبو عمر بن عبد البر: رُوِيَ عنِ النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «إيَّاكُمْ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإنَّهُ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيَذْهَبُ بِنُورِ الْوَجْهِ» «4» انتهى من «بهجة المجالس» ، وروى الترمذيُّ عن أبي هريرة قال:
قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ يَأْخُذُ عَنِّي هؤلاء الكَلِمَاتِ فَيَعْمَلَ بِهِنَّ، أو يعلّم من يعمل بهنّ؟
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 209) .
(2) أخرجه النسائي (6/ 12) ، كتاب «الجهاد» باب: فضل من عمل في سبيل الله على قدمه (3108) ، و «الكبرى» (3/ 9) كتاب «الجهاد» باب: فضل من عمل في سبيل الله على قدميه (4316/ 3) ، والترمذي (4/ 171) ، كتاب فضائل «الجهاد» باب: ما جاء في فضل الغبار في سبيل الله (1633) ، وأحمد (2/ 505) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (1/ 490) (800) ، والحاكم (4/ 65) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
(3) أخرجه الترمذي (4/ 175) ، كتاب «فضائل الجهاد» باب: ما جاء في فضل الحرس في سبيل الله (1639) .
قال الترمذي: حديث حسنٌ غريبٌ، لا نعرفه إِلا من حديث شعيب بن رزيق.
(4) أخرجه الترمذي (5/ 551) ، كتاب «الزهد» باب: من اتقى المحارم فهو أعبد الناس (2305) عن أبي هريرة نحوه.
قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث جعفر بن سليمان، والحسن، ولم يسمع من أبي هريرة شيئا اهـ.
وأخرجه ابن ماجه (2/ 1403) ، كتاب «الزهد» باب: الحزن والبكاء (4193) ، و (2/ 1410) ، كتاب «الزهد» باب: الورع والتقوى (4217) ، نحوه من طريق آخر عن أبي هريرة.
(5/334)
فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَعَدَّ خَمْسَاً، وَقَالَ: اتَّقِ الْمَحَارِمَ، تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وارض بِمَا قَسَّمَ اللَّهُ لَكَ، تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إلى جَارِكَ، تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، تَكُنْ مُسْلِماً، وَلاَ تُكْثِرِ الضَّحِكَ فَإنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ يُمِيتُ الْقَلْبَ» «1» انتهى، والسامد: اللاعب اللاهي، وبهذا فسَّرَ ابن عباس وغيره من المفسرين «2» ، وسمد بلغة حمير: غَنِيَ، وهو كُلُّه معنى قريب بعضُه من بعض، ثم أمر تعالى بالسجود له والعبادة تخويفا وتحذيرا، وهاهنا سجدةٌ في قول كثير من العلماء، ووردت بها أحاديثُ صحاح، ولم يَرَ مالك بالسجود هنا، وقال زيد بن ثابت: إنَّهُ قَرَأ بها عند النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَلَمْ يَسْجُدْ «3» . قال ابن العربيِّ في «أحكامه» «4» : وكان مالكٌ يَسْجُدُهَا في خاصَّة نَفْسِهِ، انتهى.
__________
(1) انظر السابق.
(2) أخرجه الطبري (11/ 542) برقم: (32664) ، وذكره البغوي (4/ 257) ، وابن عطية (5/ 210) .
(3) أخرجه النسائي (2/ 160) ، كتاب «الافتتاح» باب: ترك السجود في «النجم» (960) ، وأبو داود (1/ 446) ، كتاب «الصلاة» باب: من لم ير السجود في «المفصل» (1403) . [.....]
(4) ينظر: «أحكام القرآن» (4/ 1735) .
(5/335)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
تفسير سورة «القمر»
وهي مكّيّة بإجماع إلّا آية واحدة، قوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ... الآية. ففيها خلاف، والجمهور أنّها أيضا مكية.
[سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)
حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
قوله سبحانه: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ معناه: قربت الساعة، وهي القيامة، وأمرها مجهول التحديد، وكل ما يُرْوَى في عمر الدنيا من التحديد فضعيف.
وقوله: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ إخبار عمَّا وقع وذلك أَنَّ قريشاً سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم/ آيةً فَأَرَاهُمُ اللَّهُ انشقاق الْقَمَرِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم وَجَمَاعَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالكُفَّارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: اشهدوا «1» .
__________
(1) أخرجه البخاري (7/ 221) ، كتاب «مناقب الأنصار» باب: انشقاق القمر (3869، 3871) ، (8/ 483- 484) ، كتاب «التفسير» باب: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا (4884- 4885) ، ومسلم (4/ 2158) ، كتاب «صفات المنافقين» باب: انشقاق القمر (43، 45/ 2800) ، وأحمد (3/ 275) مثله، ونحوه عن ابن مسعود رضي الله عنه.
وفي الباب عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه نحوه، أخرجه البخاري (7/ 221) ، كتاب «مناقب الأنصار» باب: انشقاق القمر (3868) ، (8/ 484) كتاب «التفسير» باب: وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا (4867- 4868) .
ومسلم (4/ 2159) كتاب: صفات المنافقين وأحكامهم باب: انشقاق القمر (46- 47/ 2802) .
وفي «الصحيحين» نحوه عن عبد الله بن عبّاس: أخرجه البخاري (8/ 484) ، كتاب «التفسير» باب:
وَانْشَقَّ الْقَمَرُ وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا (4866) ، ومسلم (4/ 2159) ، كتاب «صفات المنافقين وأحكامهم» باب: وانشقاق القمر (48/ 2803) .
(5/336)
وقوله: وَإِنْ يَرَوْا: جاء اللفظ مستقبلاً، لينتظمَ ما مضى وما يأتي، فهو إخبار بأنَّ حالهم هكذا.
وقوله: مُسْتَمِرٌّ: قال الزَّجَّاجُ: قيل معناه: دائم متمادٍ، وقال قتادة وغيره «1» :
معناه: مارٌّ ذاهب عن قريب يزول، ثم قال سبحانه على جهة جزم الخبر: وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ كأَنَّه يقول: وكل شيء إِلى غاية عنده سبحانه، ومُزْدَجَرٌ معناه: موضع زجر.
وقوله: فَما تُغْنِ النُّذُرُ: يحتمل أنْ تكون «ما» نافية، ويحتمل أنْ تكون استفهاميَّة.
ثم سَلَّى سبحانه نِبِيَّه ع بقوله: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي: لا تذهب نفسك عليهم حسراتٍ، وتَمَّ القولُ في قوله: عَنْهُمْ ثم ابتدأ وعيدَهم بقوله: يَوْمَ والعامل في [يَوْمَ] قوله يَخْرُجُونَ وقال الرُّمَّانِيُّ: المعنى: فتولّ عنهم، واذكر يوم «2» ، وقال الحسن: المعنى: فتَولَّ عنهم إلى يوم «3» .
وقرأ الجمهور «4» : «نُكُرِ» - بضم الكاف- قال الخليل: النُكُر: نعت للأمر الشديد والرجل الداهية، وخَصَّ الأبصارَ بالخشوع، لأَنَّهُ فيها أظهرُ منه في سائر الجوارح، وكذلك سائر ما في نفس الإنسان من حياء أَو صلف أو خوف ونحوه إنّما يظهر في الأبصار، والْأَجْداثِ: جمع جَدَثٍ وهو القبر، وشَبَّهَهُمْ سبحانه بالجراد المنتشر، وقد شبههم سبحانه في آية أخرى بالفراش المبثوث، وفيهم من كل هذا شَبَهٌ، وذهب بعض المفسرين إلى أَنَّهم أَوَّلاً كالفراش حين يَمُوجُ بعضُهم في بعض ثم في رتبة أُخرى كالجراد إذا توجَّهُوا نحو المَحْشَرِ والداعي، والمُهْطِعُ: المُسْرِعُ في مشيه نحو الشيء مع هَزٍّ ورَهَقٍ ومَدِّ بَصَرٍ نحو المَقْصِدِ، إِمَّا لخوف، / أو طمع ونحوه قال أبو حيان «5» : مُهْطِعِينَ أي:
مسرعين، وقيل: فاتحين آذانهم للصوت، انتهى.
ويَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ لما يرون من مخايل هوله وعلامات مشقته.
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 548) برقم: (32722) ، وذكره البغوي (4/ 458) ، وابن عطية (5/ 212) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 263) .
(2) ذكره ابن عطية (5/ 212) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 212) .
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 212) ، و «البحر المحيط» (8/ 173) ، و «الدر المصون» (6/ 222) .
(5) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 174) .
(5/337)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
[سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 15]
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15)
وقوله سبحانه: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ ... الآية: وعيدٌ لقريشٍ، وضَرْبُ مَثَلٍ لهم.
وقوله: وَازْدُجِرَ: إخبار من الله عز وجل أنّهم زجروا نوحا ع بالسَّبِّ والنَّجْهِ «1» والتخويف، قاله ابن زيد «2» .
وقوله: فَانْتَصِرْ أي: فانتصر لي منهم بأن تهلِكَهُمْ.
وقوله: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ قال الجمهور: هذا مجاز وتشبيه لأَنَّ المطر كأَنَّه من أبواب، وهذا مبدأ الانتصار من الكفار، والمُنْهَمِرُ: الشديد الوقوع الغزِيرُ، وقرأ الجمهور «3» : فَالْتَقَى الْماءُ يعني: ماءَ السماء وماءَ العيون.
وقوله سبحانه: عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أي: قد قُضِيَ وَقُدِّرَ في الأزل، وذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ: هي السفينة، والدَّسُرُ: المسامير، واحدها: دِسار وهذا هو قول الجمهور، وقال مجاهد «4» : الدُّسُرُ: أضلاع السفينة، قال العراقيُّ: والدِّسَار أيضاً: ما تُشَدُّ به السفينة، انتهى.
وقوله تعالى: تَجْرِي بِأَعْيُنِنا معناه: بحفظنا وتحتَ نظرٍ مِنَّا، قال البخاريّ: قال قتادة: أبقى الله عز وجل سفينةَ نوح حتَّى أدركها أَوائِلُ هذه الأُمَّةِ، انتهى، وقرأ جمهور «5» الناس: جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ مبنيًّا للمفعول، قال مكيُّ: قيل: «مَنْ» يرادُ بها نوحٌ والمؤمنون لأنَّهم كُفِروا من حيثُ كُفِرَ بهم، فجزاهم اللَّه بالنجاة، وقُرِىء شاذّا: «كفر»
__________
(1) النّجه: استقبالك الرجل بما يكره، وردك إياه عن حاجته، وقيل: هو أقبح الرد.
ينظر: «لسان العرب» (4359) .
(2) أخرجه الطبري (11/ 551) برقم: (32740) ، وذكره ابن عطية (5/ 214) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 263) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 214) ، و «البحر المحيط» (8/ 175) ، و «الدر المصون» (6/ 226) .
(4) أخرجه الطبري (11/ 553) برقم: (32756) ، وذكره ابن عطية (5/ 214) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 264) .
(5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 215) ، و «البحر المحيط» (8/ 176) ، و «الدر المصون» (6/ 227) .
(5/338)
فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)
مبنيًّا للفاعل، والضمير في تَرَكْناها قالَ مَكِّيّ: هو عائد على هذه الفِعْلَةِ والقِصَّةِ، وقال قتادة وغيره «1» : هو عائد على السفينة، / ومُدَّكِرٍ أصله: مذتكر أبدلوا من التَّاءِ دالاً، ثم أدغموا الذَّالَ في الدَّالِ، وهذه قراءة الناس، قال أبو حاتم: ورويت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بإسناد صحيح.
[سورة القمر (54) : الآيات 16 الى 19]
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19)
وقوله تعالى: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ: توقيف لكفار قريش، والنذر: هنا جمع نذير، وهو المصدر، والمعنى: كيف كان عاقبةُ إنذاري لمن لم يحفل به كأنتم أيّها القوم؟
ويَسَّرْنَا الْقُرْآنَ أي: سَهَّلْناه وقَرَّبْناه، والذِّكْرُ: الحفظ عن ظهر قلب قال ع «2» :
يُسِّرَ بما فيه من حُسْنِ النظم وشَرَفِ المعاني، فله حلاوةٌ في القلوب، وامتزاجٌ بالعقول السليمة.
وقوله: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ: استدعاءٌ وحَضٌّ على ذكرِهِ وحفظِهِ لتكونَ زواجرُهُ وعلومُهُ حاضرةً في النفس، فللَّه دُرُّ مَنْ قبِل وهدي.
ت: وقال الثعلبيُّ: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي: من مُتَّعظ.
وقوله: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ الآية: ورد في بعض الأحاديث في تفسير هذه الآية: يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ: يوم الأربعاء، ومستمر معناه: متتابع.
[سورة القمر (54) : الآيات 20 الى 41]
تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24)
أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29)
فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34)
نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41)
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 554) برقم: (32761) ، وذكره البغوي (4/ 261) ، وابن عطية (5/ 214) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 264) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 180) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 215) . [.....]
(5/339)
وقوله: تَنْزِعُ النَّاسَ معناه: تقلعهم من مواضعهم قَلْعاً فتطرحهم، ورُوِيَ عن مجاهد أَنَّ الريحَ كانت تُلْقِي الرجلَ على رأسه فيتفتت رأسُهُ وعُنُقُهُ، وما يلي ذلك من بدنه «1» ، قال ع «2» : فلذلك حسن التشبيه بأعجاز النخل وذلك أَنَّ المنقلع هو الذي ينقلع من قعره، وقال قوم: إنَّما شَبَّههم بأعجاز النخل لأَنَّهُمْ كانوا يحتفرون حفراً ليمتنعوا فيها من الريح، فكأَنَّه شَبَّهَ تلك الحُفَرَ بعد النزع بحفر أعجاز النخل، والنَّخْلُ: تُذَكَّرُ وتُؤَنَّثُ، وفائدة تكرار قوله: فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ التخويفُ وَهَزُّ النفوسِ، وهذا موجود في تَكْرَارِ الكلام كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أَلاَ هَلْ/ بَلَّغْتُ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ» «3» ونحوه، و [قول] ثمود لصالح: أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ: هو حسد منهم، واستبعادٌ منهم أنْ يكونَ نوعَ البشر يفضل هذا التفضيلَ، ولم يعلموا إِنَّ الفضلَ بِيَدِ اللَّه يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء، ويفيض نورَ الهدى على مَنْ رَضيَهُ، وقولهم: إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ أي: في ذهاب وانتلاف عن الصواب، وَسُعُرٍ معناه: في احتراق أنفس واستعارها حنقاً، وقيل: في جنون يقال: ناقة مسعورة إذا كانت خفيفةَ الرأس هائمةً على وجهها، والأَشَرُ: البَطَرُ، وقرأ الجمهور «4» : سَيَعْلَمُونَ بالياء، وقرأ حمزة وحفص: «سَتَعْلَمُونَ» بالتاء من فوق على معنى: قل لهم يا صالح.
ثم أمر اللَّه صالحا بارتقاب الفرج والصبر.
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 559) برقم: (32786) ، وذكره ابن عطية (5/ 216) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 182) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 216) .
(3) تقدم تخريجه.
(4) وقراءة الجمهور هي قراءة علي بن أبي طالب، وقرأ بالتاء من فوق ابن عامر وحمزة، وابن وثاب، وطلحة، والأعمش.
وأما حفص فقرأ بقراءة الجمهور، وليس كما ذكر المصنف متابعة لابن عطية، وإنما قراءته بالتاء من طريق هبيرة عن حفص.
ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 217) ، و «الحجة» (6/ 243) ، و «معاني القراءات» (3/ 43) ، و «شرح الطيبة» (6/ 27) ، و «حجة القراءات» (689) ، و «العنوان» (183) ، و «شرح شعلة» (592) ، و «إتحاف» (2/ 507) ، و «التخريجات النحوية» (258) .
(5/340)
ت: وقال الثعلبيُّ: فَارْتَقِبْهُمْ أي: انتظرهم ما يصنعون، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ وبين الناقة، لها شِرْبٌ ولهم شِرْبٌ يوم معلوم، ومُحْتَضَرٌ: معناه:
محضور مشهود متواسى فيه، وقال مجاهد «1» : كُلُّ شِرْبٍ أي: من الماء يوماً ومن لبن الناقة يوماً محتضر لهم، فكأَنَّه أنبأهم بنعمة الله سبحانه عليهم في ذلك، وصاحِبَهُمْ:
هو قدار بن سالف، وفَتَعاطى مطاوع «عاطى» فكأَنَّ هذه الفعلة تدافعها الناس، وأعطاها بعضُهم بعضاً فتعاطاها هو، وتناول العَقْرَ بيده قاله ابن عباس «2» ، وقد تقدم قَصَصُ القوم، و «الهشيم» : ما تفتَّت وتَهَشَّمَ من الأشياء، والْمُحْتَظِرِ: معناه: الذي يصنع حظيرة، قاله ابن زيد وغيره «3» ، وهي مأخوذة من الحَظَرِ وهو المنع، والعرب وأهلُ البوادي يصنعونها للمواشي وللسُّكْنَى/ أيضاً من الأَغصان والشجر المُورِقِ، والقصب، ونحوه، وهذا كُلُّه هشيمٌ يتفتت، إمَّا في أَوَّل الصنعة، وإمَّا عند بِلى الحظيرة وتساقُطِ أجزائها، وقد تقدم قَصَصُ قوم لوط، والحاصب: مأخوذ من الحصباء.
وقوله: فَتَمارَوْا معناه: تشككوا، وأهدى بعضُهم الشكّ إلى بعض بتعاطيهم الشبه والضلال، والنذر: جمع نذير، وهو المصدر، ويحتمل أَنْ يُرَادَ بالنذر هنا وفي قوله:
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ- جمع نذير، الذي هو اسم فاعل.
وقوله سبحانه: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ قال قتادة «4» : هي حقيقةً جَرَّ جبريل شيئاً من جناحه على أعينهم فاستوت مع وجوههم، قال أبو عُبَيْدَةَ: مطموسة بجلدة كالوجه، وقال ابن عباس والضَّحَّاك «5» : هذه استعارة وإنَّما حجب إدراكهم فدخلوا المنزل ولم يروا شيئاً فجعل ذلك كالطمس.
وقوله: بُكْرَةً قيل: عند طلوع الفجر.
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 561) برقم: (32791) ، وذكره البغوي (4/ 262) ، وابن عطية (5/ 218) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 265) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 182) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير.
(2) أخرجه الطبري (11/ 561) برقم: (32793) ، وذكره ابن عطية (5/ 218) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 182) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(3) أخرجه الطبري (11/ 562) برقم: (32800) عن الضحاك، وذكره ابن عطية (5/ 218) .
(4) أخرجه الطبري (11/ 564) برقم: (32806) ، وذكره ابن عطية (5/ 218) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 183) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(5) أخرجه الطبري (11/ 564) : (32805) عن ابن عبّاس، وعن الضحاك برقم: (32808) ، وذكره البغوي (4/ 263) عن الضحاك، وابن عطية (5/ 218) .
(5/341)
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
وقوله: فَذُوقُوا: يحتمل أنْ يكون من قول اللَّه تعالى لهم، ويحتمل أَنْ يكونَ من قول الملائكة، وَنُذُرِي: جمع المصدر، أي: وعاقبة إنذاري، ومُسْتَقِرٌّ أي: دائم استقر فيهم حَتَّى يُفْضِيَ بهم إلى عذاب الآخرة، وآلَ فِرْعَوْنَ: قومه وأتباعه.
[سورة القمر (54) : الآيات 42 الى 48]
كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
وقوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يحتمل أنْ يريد آل فرعونَ، ويحتمل أن يكون قوله:
وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ [القمر: 41]- كلاماً تامًّا-، ثم يكون قوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يعود على جميع من ذُكِرَ من الأمم.
وقوله تعالى: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ خطاب لقريش على جهة التوبيخ.
وقوله: أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ أي: من العذاب فِي الزُّبُرِ أي: في كتب اللَّه المُنَزَّلَةِ قاله ابن زيد وغيره «1» .
ثم قال تعالى لنبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم: أَمْ يَقُولُونَ/ نَحْنُ: واثقون بجماعتنا، منتصرون بقوَّتِنا على جهة الإعجاب سَيُهْزَمُونَ، فلا ينفع جمعُهم، وهذه عِدَةٌ من اللَّه تعالى لرسوله أَنَّ جَمْعَ قريشٍ سَيُهْزَمُ، فكان كما وعد سبحانه قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-:
كنت أقول في نفسي: أَيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ؟! فَلَمَّا كان يومُ بدرٍ رأيتُ رسولَ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم يثب في الدرع، وهو يقول: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «2» والجمهور على أَنَّ الآية نزلت بِمَكَّةَ، وقول مَنْ زعم أَنَّها نزلت يومَ بدر ضعيف، والصواب أَنَّ الوعد نُجِّزَ يوم بدر، قال أبو حيان «3» : وَيُوَلُّونَ: الجمهور بياء الغيبة، وعن أبي عمرو بتاء الخطاب، والدُّبُرُ: هنا اسم جنس، وحسن إفرادَهُ كونُهُ فاصلةً، وقد جاء مجموعاً في آية أُخرى، وهو الأصل، انتهى.
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 567) برقم: (32821) ، وابن عطية (5/ 220) .
(2) أخرجه الطبري (11/ 567) برقم: (32823) ، وذكره البغوي (4/ 238) ، وابن عطية (5/ 220) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 266) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 184) ، وعزاه لابن أبي حاتم، والطبراني في «الأوسط» ، وابن مردويه.
(3) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 181) .
(5/342)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
ثم أضرب سبحانه تهميماً بأمر الساعة التي هي أَشَدُّ عليهم من كُلِّ هزيمة وقَتْلٍ، فقال: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وأَدْهى: أفعل من الداهية، وهي الرَّزِيَّةُ العُظْمَى تنزل بالمرء، وَأَمَرُّ من المرارة.
ت: وقال الثعلبيُّ: الداهية الأَمَرُّ: الشديد الذي لا يُهْتَدَى للخلاص منه، انتهى.
ثم أخبر تعالى عن المجرمين أَنَّهم في الدنيا في حيرة وانتلاف، وفقد هدى، وفي الآخرة في احتراق وتسعُّر، وقال ابن عباس «1» : المعنى: في خسران وجُنُونٍ، والسُّعُرُ:
الجنون، وأكثر المفسرين على أَنَّ المجرمين هنا يراد بهم الكفّار، والسّحب: الجرّ.
[سورة القمر (54) : الآيات 49 الى 55]
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
وقوله سبحانه: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ قرأ جمهور الناس: كُلَّ بالنصب، وقالوا: المعنى: إنَّا خلقنا كُلَّ شيء بقدر سابق، وليست خلقنا في موضع الصفة لشيء، / وهذا مذهب أهل السُّنَّةِ وهذا المعنى يقتضى أَنَّ كُلَّ شيء مخلوق إلاَّ ما قام عليه الدليل أَنَّه ليس بمخلوق كالقرآن والصفات.
ت: قال الثعلبيُّ: قال ابن عباس «2» : خَلَقَ اللَّه الخَلْقَ كُلَّهم بقدر، وَخَلَقَ الخيرَ والشَّرَّ، فخيرُ الخير: السعادةُ، وَشَرُّ الشَّرِّ: الشقاوة.
وقوله سبحانه: وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ قال ع «3» : أي: إلاَّ قولة واحدة، وهي «كن» .
ت: قوله: إلاَّ قوله فيه قَلَقٌ ما، وكأَنَّه فَهِمَ أَنَّ معنى الآية راجع إلى قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] وعبارة الثعلبيِّ:
أي: وما أمر الساعة إلاَّ واحدة، أي: إلاَّ رجفة واحدة، قال أبو عبيد: هي نعت للمعنى
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 221) .
(2) أخرجه الطبري (11/ 569) برقم: (32842) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 185) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر. [.....]
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 221) .
(5/343)
دون اللفظ، مجازه: وما أمرنا إلاَّ مرة واحدة كن فيكون كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ، أي: كخطف بالبصر، فقيل له: إنَّه يعني الساعةَ، فقال: الساعة وجميع ما يريد، انتهى، وكلام أبي عبيد عندي حَسَنٌ.
والأشياع: الفِرَقُ المتشابهة في مذهب، أو دين، ونحوهِ، الأَوَّلُ شيعةٌ للآخر، والآخرُ شيعة للأَوَّلِ، وكُلُّ شيء فعلته الأُمَم المُهْلَكَةُ في الزبر، أي: مكتوب محفوظ عليهم إلى يوم الحساب قاله ابن عباس وغيره «1» ، ومُسْتَطَرٌ أي: مسطّر، وقرأ الجمهور «2» :
ونَهَرٍ- بفتح النون والهاء- على أَنَّه اسم الجنس يريد به الأنهار، أو على أَنَّه بمعنى:
وَسَعَةٍ في الأرزاق والمنازل، قال أبو حيان «3» : وقرأ الأعمش «وَنُهُرٍ» - بضم النون والهاء- جمع نَهْرٍ ك «رَهُنٍ» وَ «رَهْنٍ» انتهى.
وقوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ يحتمل أنْ يريدَ به الصّدقَ الذي هو ضِدُّ الكَذِبِ، أي: المقعد الذي صدقوا في الخبر به، ويحتمل أنْ يكون من قولك: عود صدق، أي:
جيد، وَرَجُلٌ/ صِدْقٌ، أي: خير، والمليك المقتدر: اللَّه تعالى.
ت: وقال الثعلبيُّ: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ أي: في مجلس حَقٍّ لا لَغْوَ فيه ولا تأثيمَ، وهو الجنة عند مليك مقتدر، وعِنْدَ: إشارة إلى القربة والرُّتْبَةِ، انتهى.
- ص-: قال أبو البقاء: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ: بدل من قوله: فِي جَنَّاتٍ انتهى، قال المُحَاسِبِيُّ: وإذا أخذ أهلُ الجنة مجالسَهم، واطمأنوا في مقعد الصدق الذي وعده اللَّه لهم، فهم في القُرْبِ من مولاهم سبحانه على قدر منازلهم عنده، انتهى من كتاب «التَّوَهُّمِ» ثم قال المُحَاسِبيُّ بإثْرِ هذا الكلام: فلو رأيتهم، وقد سمعوا كلامَ ربهم، وقد داخل قلوبَهم السرورُ، وقد بلغوا غايةَ الكرامة ومنتهى الرضا والغِبْطَةِ، فما ظَنُّك بنظرهم إلى العزيز العظيم الجليل الذي لا تقع عليه الأوهام ولا تحيطُ به الأفهام، ولا تحده الفِطَنُ، ولا تكيِّفه الفِكَرُ، الأَزَلِيُّ القديم، الذي حارت العقول عن إدراكه، وكَلَّتِ الألسن عن كُنْهِ صفاته؟! انتهى.
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 222) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 186) ، وعزاه لابن المنذر.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 222) ، و «البحر المحيط» (8/ 182) ، و «الدر المصون» (6/ 234) .
(3) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 182) ، وفيه أيضا: أنها قراءة زهير الفرقبي وأبي نهيك، وأبي مجلز، واليماني.
وينظر: «المحتسب» (2/ 300) .
(5/344)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5)
تفسير سورة الرحمن
عزّ وجلّ، وهي مكّيّة في قول الجمهور
[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5)
قوله عز وجل: الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ الرحمن: بناء مبالغة من الرحمة، وقوله:
عَلَّمَ الْقُرْآنَ تعديد نعمةٍ، أي: هو مَنَّ به، وعَلَّمَهُ الناسَ، وخَصَّ حُفَّاظَهُ وَفَهَمَتَهُ بالفضل قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» «1» ، ومن الدليل على أَنَّ القرآنَ غيرُ مخلوقٍ، أَنَّ اللَّه تعالى ذكر القرآن في كتابه في أربعة وخمسين موضعاً ما فيها موضِعٌ صَرَّحَ/ فيه بلفظ الخلق، ولا أشار إليه، وذكر الإنسانَ على الثُّلُثِ من ذلك في ثمانيةَ عَشَرَ موضعاً كُلُّها نَصَّتْ على خلقه، وقد اقترن ذكرُهُمَا في هذه السورة على هذا النحو، والإنسان هنا اسم جنس قاله الزَّهْرَاوِيُّ وغيره، قال الفخر «2» : الرَّحْمنُ: مبتدأ خبره الجملة الفعلية التي هي عَلَّمَ الْقُرْآنَ، انتهى، والْبَيانَ: النُّطْقُ والفهم والإبانة عن ذلك بقولٍ قاله الجمهور، وبذلك فُضِّلَ الإنسان من سائر الحيوان، وكلّ المعلومات داخلة في
__________
(1) أخرجه البخاري (8/ 692) ، كتاب «فضائل القرآن» باب: خيركم من تعلم القرآن وعلمه (5027- 5028) ، وأبو داود (1/ 460) ، كتاب «الصلاة» باب: في ثواب قراءة القرآن (1452) ، والترمذي (5/ 173- 174) ، كتاب «فضائل القرآن» باب: ما جاء في تعليم القرآن (2907- 2908) ، وابن ماجه (1/ 76- 77) «المقدمة» باب: فضل من تعلم القرآن وعمله (211) ، وأحمد (1/ 85، 69) ، والدارمي (2/ 437) ، كتاب «فضائل القرآن» باب: خياركم من تعلم القرآن وعلمه عن عثمان بن عفان.
وفي الباب عن علي رضي الله عنه: أخرجه الترمذي (5/ 175) ، كتاب «تفسير القرآن» باب: ما جاء في تعليم القرآن (2909) ، وأحمد (1/ 153) ، والدارمي (2/ 437) ، كتاب «فضائل القرآن» باب: خياركم من تعلم القرآن.
قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه من حديث علي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلا من حديث عبد الرحمن بن إسحاق.
(2) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (15/ 75) .
(5/345)
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
البيان الذي عَلّمه الإنسان، فمن ذلك البيان: كونُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ: وهذا ابتداء تعديد نِعَمٍ، قال قتادة «1» : بِحُسْبانٍ: مصدر كالحساب، وقال أبو عبيدةَ معمر بن المثنى والضَّحَّاك «2» : هو جمع حساب، والمعنى: أَنَّ هذين لهما في طلوعهما وغروبهما وقطعهما البروجَ وغيرِ ذلك حساباتٌ شَتَّى، وهذا مذهب ابن عباس وغيرِهِ «3» ، وقال قتادة:
الحسبان «4» : الفلك المستدير، شَبَّهَهُ بحُسْبَان الرَّحَى، وهو العود المستدير الذي باستدارته تستدير المطحنة.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 6 الى 13]
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10)
فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)
وقوله سبحانه: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ قال ابن عباس وغيره «5» : النجم: النباتُ الذي لا ساقَ له. قال ع «6» : وسُمِّيَ نَجْماً لأَنَّه نَجَمَ، أي: ظَهَر، وهو مناسب للشجر نسبةً بَيِّنَةً، وقال مجاهد وغيره: النجم: اسم الجنس من نجوم السماء «7» : قال- عليه السلام «8» -: والنسبة التي لها من السَّمَاءِ هي التي للشَّجَرِ من الأرض لأَنَّهُمَا في ظاهرهما، وسُمِّيَ الشَّجَرَ من اشتجار غصونه، وهو تداخُلُها، قال مجاهد «9» : وسجودهما عبارة عن التذلّل والخضوع.
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 573) برقم: (32862) ، وذكره ابن عطية (5/ 224) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 190) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 224) .
(3) أخرجه الطبري (11/ 573) برقم: (32860) ، وذكره البغوي (4/ 267) ، وابن عطية (5/ 224) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 190) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه.
(4) أخرجه الطبري (11/ 574) عن مجاهد برقم: (32867) .
(5) أخرجه الطبري (11/ 575) برقم: (32869) ، وذكره ابن عطية (5/ 224) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 270) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 191) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة» عن ابن رزين، والحاكم وصححه.
(6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 224) .
(7) أخرجه الطبري (11/ 575) برقم: (32873) ، وذكره البغوي (4/ 267) ، وابن عطية (5/ 224) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 270) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 191) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(8) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 224) . [.....]
(9) ذكره ابن عطية (5/ 224) .
(5/346)
وقوله سبحانه: وَوَضَعَ/ الْمِيزانَ: يريد به العدل قاله أكثرُ الناسَ.
وقوله: أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ وقوله: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ، وقوله: وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ يريد به الميزانَ المعروفَ وأَلاَّ هو بتقدير لئلاَّ، أو مفعول من أجله، وفي مصحف ابن مسعود «1» : «لاَ تَطْغَوا في المِيزَانِ» وقرأ بلال بن أبي بُردَةَ «2» : «تَخْسِرُوا» - بفتح التاء وكسر السين- من خَسَرَ، ويقال: خَسَرَ وَأَخْسَرَ بمعنى نَقَصَ، وأفسد كَجَبَرَ وأَجْبَرَ.
والأنام: قال الحسن بن أبي الحَسَنِ «3» : هم الثقلان، الإنْسُ والْجِنُّ، وقال ابن عباس، وقتادة وابن زيد والشَّعْبِيُّ «4» : هم الحيوانُ كلُّه.
وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ وذلك أَنَّ طَلْعَهَا في كُمٍّ وفروعَها أيضاً في أكمامٍ مِنْ ليفِهَا، والكُمُّ من النَّبَاتِ: كلُّ ما التف على شَيْءٍ وَسَتَرَهُ: ومنه كمائم الزَّهْرِ، وبه شُبِّهَ كُمُّ الثوب.
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ: هو الْبُرُّ والشَّعِيرُ وما جرى مجراه، قال ابن عباس «5» :
العَصْفُ: التِّبْنُ، واخْتُلِفَ في الرَّيْحَان، فقال ابن عَبَّاس وغيره «6» : هو الرِّزْق، وقال الحسن: هو رَيْحَانُكُمْ «7» هذا، وقال ابن زيد وقتادة «8» : الريحانُ هو كلّ مشموم طيّب، قال
__________
(1) ينظر: «الكشاف» (4/ 444) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 225) .
(2) ينظر: «الشواذ» ص: (149) ، و «المحتسب» (2/ 303) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 225) ، و «البحر المحيط» (8/ 188) ، و «الدر المصون» (6/ 237) .
(3) أخرجه الطبري (11/ 577) برقم: (32893) ، وذكره ابن عطية (5/ 225) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 192) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(4) أخرجه الطبري (11/ 577) برقم: (32891) ، عن ابن عبّاس، وعن قتادة برقم: (32895) ، وعن ابن زيد (11/ 578) برقم: (32896) ، وذكره ابن عطية (5/ 225) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 270) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 192) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(5) أخرجه الطبري (11/ 577) برقم: (32904) ، وذكره البغوي (4/ 268) ، وابن عطية (5/ 225) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 271) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 192) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(6) أخرجه الطبري (11/ 580) برقم: (32915) ، وذكره البغوي (4/ 268) ، وابن عطية (5/ 225) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 192) ، وعزاه لابن جرير.
(7) أخرجه الطبري (11/ 580) برقم: (32922) ، وذكره البغوي (4/ 268) ، وابن عطية (5/ 225) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 271) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 192) ، وعزاه لابن جرير.
(8) أخرجه الطبري (11/ 580) برقم: (32923) ، عن ابن زيد، وذكره ابن عطية (5/ 225) .
(5/347)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)
ع «1» : وفي هذا النوع نعمة عظيمة، ففيه الأزهار، والمِنْدَلُ والعقاقير، وغير ذلك، وقرأ الجمهور «2» : «وَالرَّيْحَانُ» بالرفع عطفاً على «فاكهة» وقرأ حمزة والكسائيُّ:
«وَالرَّيْحَانِ» بالخفض عطفاً على «العَصْف» ، ف «الريحان» على هذه القراءة: الرزق، ولا يدخل فيه المشمومُ إلاَّ بتكَلُّفٍ، و «ريحان» أصله «رَوْحَان» فهو من ذوات الواو و «الآلاء» : النِّعَمُ، والضمير في قوله: رَبِّكُما للجن والإنس اللَّذَيْن تضمَّنهما لفظُ الأَنامِ، وأيضاً ساغ تقديمُ ضميرهما عليهما لذكر/ الإنسان والجانِّ عَقِبَ ذلك، وفيه اتساع، وقال منذر بن سَعِيدٍ: خُوطِبَ مَنْ يعقِلُ لأَنَّ المخاطبة بالقرآن كُلِّه هي للإنس والجن «3» ، وعن جابر قال: «قرأ علينا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سُورَةَ الرحمن، حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: «مَالي أَرَاكُمْ سُكُوتاً؟! لَلْجِنُّ كَانُوا أَحْسَنَ رَدًّا مِنْكُمْ مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيةَ مِنْ مَرَّةٍ: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ إلاَّ قَالُوا: لاَ بشيء من نعمك ربّنا نكذّب» «4» .
[سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 21]
خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)
مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21)
وقوله سبحانه: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ الآية: اخْتُلِفَ في اشتقاقِ «الصَّلْصَال» فقيل: هو من صلّ: إذا أنتن، فهي إشارة إلى
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 225) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 225) ، و «البحر المحيط» (8/ 188- 189) ، و «السبعة» (619) ، و «الحجة» (6/ 245) ، و «إعراب القراءات» (2/ 333) ، و «معاني القراءات» (3/ 44) ، و «شرح الطيبة» (6/ 29) ، و «العنوان» (184) ، و «حجة القراءات» (690) ، و «شرح شعلة» (593) ، و «إتحاف» (2/ 509) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 226) .
(4) أخرجه الترمذي (5/ 399) ، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الرحمن (3291) ، والحاكم في «المستدرك» (2/ 473) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (2/ 232) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 189) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وأبي الشيخ في «العظمة» ، وابن مردويه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
قال الترمذي: هذا حديث غريبٌ لا نعرفه إِلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمّد، قال أحمد بن حنبل: كان زهير بن محمّد الذي وقع بالشام ليس هو الذي يروى عنه بالعراق كأنه رجل آخر قلبوا اسمه، يعني لما يرون عنه من المناكير، وسمعت محمّد بن إسماعيل البخاري يقول: أهل الشام يروون عن زهير بن محمّد مناكير، وأهل العراق يروون عنه أحاديث مقاربة. اهـ من كلام الترمذي.
قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.
(5/348)
الحَمْأَةِ، وقال الجمهور: هو من صَلَّ: إذَا صَوَّتَ، وذلك في الطين لجودته، فهي إشارة إلى ما كان في تربة آدم من الطين الحُرِّ وذلك أَنَّ اللَّه تعالى خلقه من طين مختلِفٍ، فمرَّةً ذكر في خلقه هذا، ومرَّةً هذا، وكُلُّ ما في القرآن صفاتٌ ترددتْ على التراب الذي خُلِقَ منه، و «الفَخَّارُ» : الطين الطَّيِّبُ إذا مَسَّهُ الماء فخر، أي: رَبَا وَعَظُمَ، والجانُّ: اسم جنس كالجِنَّةِ، قال الفخر: وفي الجانِّ وجه آخر: أنَّه أبو الجنِّ، كما أَنَّ الإنسان هنا أبو الإنْسِ خُلِقَ من صَلْصَالٍ، ومَنْ بعده خُلِقَ من صُلْبِهِ. كذلك الجَانُّ هنا أبو الجَنِّ خُلِقَ من نارٍ، ومَنْ بعده من ذرِّيَّتِهِ، انتهى، و «المارج» : اللهب المُضْطَرِبْ من النار، قال ابن عباس «1» :
وهو أحسنُ النَّارِ المختلِطِ من ألوانٍ شتى، قال أبو حيَّان «2» : المَارِجُ المختلِطُ من أصْفَر، وأخضَرَ، وأحْمَرَ، انتهى.
وكَرَّرَ سبحانه قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ تأكيداً وتنبيهاً للنفوس، وتحريكاً لها، وهذه طريقة من الفصاحة معروفة، وهي من كتاب اللَّه في مواضع وفي حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، / وفي كلام العرب، وذهب قوم إلى أَنَّ هذا التكرار إنَّما هو لما اختلفت النعم المذكورة كَرَّرَ التوقيفَ مع كُلِّ واحدة منها، قال ع «3» : وهذا حسَنٌ، وقال الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: التكرار لِطَرْدِ الغَفْلَةِ، وللتأكيد «4» ، وخَصَّ سبحانه ذكرَ المَشْرِقَيْنِ والمغربين بالتشريف في إضافة الرب إليهما لعظمهما في المخلوقات.
ت: وتحتمل الآية أَنْ يرادَ المشرقين والمغربين وما بينهما كما هو في «سورة الشعراء» واختلف الناس في الْبَحْرَيْنِ قال ع «5» : والظاهر عندي أَنَّ قوله تعالى: الْبَحْرَيْنِ يريد بهما نَوْعَي الماءِ العَذْبِ والأُجِاجِ، أي: خلطهما في الأرض، وأرسلهما متداخلين في وضعهما في الأرض، قريب بعضهما من بعض، ولا بَغْيَ، قال ع «6» : وذكر الثعلبيُّ في مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ألغازاً وأقوالاً باطنةً يجب ألّا يلتفت إلى شيء منها.
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 584) برقم: (32945) ، وذكره ابن عطية (5/ 226) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 271) . [.....]
(2) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 189) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 226) .
(4) ذكره ابن عطية (5/ 226) .
(5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 227) .
(6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 227) .
(5/349)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
ت: ولا شَكَّ في اطِّرَاحِهَا، فمنها نقله عن الثوريِّ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ: فاطمة وعليٌّ، اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ: الحَسَنُ والحُسَيْنُ، ثم تمادى في نحو هذا مِمَّا كان الأولى به تركُهُ، ومَرِجَ الشَّيْءُ، أي: اختلط، و «البَرْزَخُ» : الحاجز، قال البخاريُّ لاَّ يَبْغِيانِ: لا يختلطان، انتهى، قال ابن مسعود «1» : وَالْمَرْجانُ: حجر أحمر، وهذا هو الصواب، قال عطاء الخراسانيّ «2» : وهو البسذ «3» .
[سورة الرحمن (55) : الآيات 22 الى 25]
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)
وقوله سبحانه: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ قال جمهور من المتأولين: إنما يخرُج ذلك من «الأُجَاجِ» في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة فلذلك قال:
مِنْهُمَا.
ت: وهذا بناء على أَنَّ الضمير في مِنْهُمَا للعذب وللمالح، وأَمَّا على قول/ مَنْ قال: إنَّ البحرين بَحْرُ فَارِسَ والرُّومِ، أو بَحْر القُلْزُمِ وبَحْرُ الشَّامِ- فلا إشكالَ- إذْ كُلُّها مالحةٌ، وقد نقل الأخفش عن قوم أَنَّهُ يخرج اللؤلؤ والمرجان من المالح ومن العذب، وليس لِمَنْ رَدَّهُ حُجَّةٌ قاطعة، ومَنْ أَثْبَتَ أولى مِمَّنْ نفى، قال أبو حيَّان «4» :
والضمير في مِنْهُمَا يعود على البحرين، يعني: العَذْبَ والمَالِحَ، والظاهرُ خروجُ اللؤلؤِ والمَرْجَانِ منهما، وحكاه الأخفَشُ عن قوم، انتهى، والجَوَارِي: جمع جارية، وهي السُّفُنُ، وقرأ حمزة وأبو بكر «5» : «المنْشِئَاتُ» - بكسر الشين-، أي: اللواتي أنشأْنَ جَرْيَهُنَّ، أي: ابتدأْنَهُ، وقرأ الباقون- بفتح الشين-، أي: أنشأها اللَّهُ أو الناس، وقال مجاهد:
الْمُنْشَآتُ: ما رُفِعَ قِلْعُهُ من السفن كَالْأَعْلامِ، أي: كالجبال «6» .
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 589) برقم: (32995) ، وذكره ابن عطية (5/ 228) .
(2) أخرجه الطبري (11/ 589) برقم: (32990) عن كعب الأحبار، وذكره البغوي (4/ 269) .
(3) البسّذ: نوع من الجوهر. وهي كلمة غير عربية.
ينظر: «لسان العرب» (279) .
(4) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 190) .
(5) ينظر: «السبعة» (620) ، و «الحجة» (6/ 247) ، و «إعراب القراءات» (2/ 337) ، و «معاني القراءات» (3/ 46) ، و «شرح الطيبة» (6/ 30) ، و «العنوان» (184) ، و «حجة القراءات» (691) ، و «شرح شعلة» (593) ، و «إتحاف» (2/ 510) .
(6) أخرجه الطبري (5/ 591) برقم: (33000) ، وذكره ابن عطية (5/ 228) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 272) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 196) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير.
(5/350)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
ت: ولفظ البخاريّ: الْمُنْشَآتُ: ما رُفِعَ قِلْعُهُ من السفن، فأَمَّا ما لا يرفع قلعه، فليس بمنشآت، انتهى.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 26 الى 28]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28)
وقوله سبحانه: كُلُّ مَنْ عَلَيْها أي: على الأرض فانٍ والإشارة بالفناء إلى جميع الموجودات على الأرض من حيوان وغيره، والوجه: عبارة عن الَّذَاتِ، لأَنَّ الجارحة منفيَّةٌ في حَقِّه سبحانه قال الداوديُّ: وعن ابن عباس ذُو الْجَلالِ: قال: ذو العظمة والكبرياء، انتهى.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 29 الى 36]
يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)
وقوله سبحانه: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: مِنْ مَلَكٍ، وإنس، وجنٍّ، وغيرهم، لا غنى لأحد منهم عنه سبحانه، كُلُّهم يَسْأَله حاجَتَهُ، إمَّا بلسانِ مقاله، وإمَّا بلسانِ حاله.
وقوله سبحانه: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أي: يُظْهِرُ شأناً من قدرته التي قد سبقت في الأَزَلِ في ميقاته من الزمان، من إحياءٍ وإماتةٍ، ورِفْعَةٍ وخَفْضٍ، وغيرِ ذلك من الأمور التي/ لا يعلم نهايتها إلاَّ هو سبحانه، و «الشأن» : هو اسم جنس للأمور، قال الحسين بن الفضل «1» : معنى الآية: سَوْقُ المقادير إلى المواقيت وفي الحديث: «أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قَرَأَ هذه الآيَةَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هذا الشَّأْنُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: يَغْفِرُ ذَنْبَاً، وُيُفَرِّجُ كَرْباً، وَيَرْفَعُ قَوْماً، وَيَضَعُ آخَرِينَ» «2» وذكر النَّقَّاش أَنَّ سبب هذه الآيةِ قولُ اليهود: استراح اللَّهُ يَوْمَ السَّبْتِ، فَلاَ يُنَفِّذُ فِيهِ شيئا.
وقوله تعالى: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ: عبارة عن إتيان الوقت الذي قَدَّرَ فيه، وقضى أَنْ ينظرَ في أُمور عباده، وذلك يوم القيامة، وليس المعنى: أَنَّ ثَمَّ شغلاً يتفرَّغ منه إذْ لا يشغله سبحانه شأنٌ عن شأن، وإنَّما هي إشارةُ وعيدٍ وتهديد، قال البخاريّ: وهو
__________
(1) ذكره البغوي (4/ 270) ، وابن عطية (5/ 229) .
(2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 197) ، وعزاه إلى البزار.
(5/351)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
معروفٌ في كلام العرب يقال: لأَفْرُغَنَّ لَكَ، وما به شغل، انتهى، والثَّقَلانِ: الإِنس والجن يقال: لكل ما يَعْظُمُ أمرُه: ثَقَلٌ، وقال جعفرُ بْنُ محمَّدٍ الصَّادِقُ: سُمِّيَ الإنْسُ والجِنُّ ثَقَلَيْنِ لأَنَّهما ثَقُلاَ بالذنوبِ «1» ، قال ع «2» : وهذا بارعٌ ينظر إلى خلقهما من طين ونار، واختلف الناسُ في معنى قوله تعالى: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا ... الآية:
فقال الطبريُّ «3» : قال قوم: المعنى: يُقَالُ لهم يومَ القيامة: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ ... الآية، قال الضَّحَّاك: وذلك أَنَّهُ يَفِرُّ الناسُ في أقطار الأرض، والجِنُّ كذلك لما يَرَوْنَ من هول يوم القيامة، فيجدون سَبْعَةَ صفوف من الملائكة، قد أحاطَتْ بالأرض، فيرجعون من حيثُ جاؤوا، فحينئذٍ يقال لهم: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
«4» ، وقال بعض المفسِّرين: هي مخاطبةٌ في الدنيا، والمعنى: إنِ استطعتم الفِرَارَ مِنَ المَوْتِ بأنْ تَنْفُذُوا من أقطار السموات والأرض، فانفذوا.
/ ت: والصوابُ الأول.
وقوله: فَانْفُذُوا: صيغة أمر، ومعناه: التعجيز، و «الشُّوَاظُ» : لَهَبُ النار قاله ابن عباس وغيره «5» ، قال أبو حَيَّان «6» : الشُّوَاظُ: هو اللهب الخالصُ بغَيْرِ دُخَانٍ، انتهى، و «النُّحَاسُ» : هو المعروف قاله ابن عباس وغيره «7» ، أي: يُذَابُ ويُرْسَلُ عليهما، ونحوه في البخاريِّ، قال- ص-: وقال الخليل: «النُّحَاسُ» هنا هو: الدُّخَانُ الذي لا لَهَبَ له، ونقله أيضا أبو البقاء وغيره، انتهى.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 37 الى 45]
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)
__________
(1) ذكره البغوي (4/ 271) ، وابن عطية (5/ 230) . [.....]
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 230) .
(3) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 594) .
(4) أخرجه الطبري (11/ 594) برقم: (33017) ، وذكره ابن عطية (5/ 230) .
(5) أخرجه الطبري (11/ 596) برقم: (33028) ، وذكره ابن عطية (5/ 230) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 274) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 198) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(6) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 193) .
(7) ذكره ابن عطية (5/ 231) .
(5/352)
وقوله سبحانه: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ: جواب «إِذا» محذوفٌ مقصودٌ به الإِبهام كأَنَّه يقول: فإذا انشقَّتِ السماءُ، فما أَعْظَمَ الهَوْلَ! قال قتادة «1» : السماءُ اليومَ خَضْرَاءُ، وهي يوم القيامة حَمْرَاءُ، فمعنى قوله: وَرْدَةً أي: مُحْمَرَّةً كالوَرْدَةِ، وهي النُّوَّارُ المعروفُ وهذا قول الزَّجاجِ وغيره.
وقوله: كَالدِّهانِ قال مجاهدٌ وغيره «2» : هو جمع دُهْنٍ وذلك أَنَّ السماء يعتريها يومَ القيامة ذَوْبٌ وتَمَيُّعٌ من شِدَّةِ الهَوْلِ، وقال ابن جُرَيْجٍ «3» : من حَرِّ جَهَنَّمَ، نقله الثعلبيُّ، وقيل غير هذا.
وقوله: فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ قال قتادة وغيره «4» : هي مواطنُ فلا تعارُضَ بين الآيات.
وقوله سبحانه: فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ قال ابن عباس «5» : يُؤْخَذُ كُلُّ كافر بناصيته وقدَمَيْهِ، ويطوى، ويُجمَعُ كالحَطَبِ، ويلقى كذلك في النار، وقيل: المعنى: أَنَّ بعضَ الكفرة يُؤْخَذُونَ بالنواصي، وبعضُهم يُسْحَبُونَ، ويُجَرُّون بالأقدام.
وقوله تعالى: هذِهِ جَهَنَّمُ أي: يقال لهم على جهة التوبيخ، وفي مصحف ابن مسعود «6» : «هذه جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمَا بِهَا تُكَذِّبَانِ لاَ تَمُوتَانِ فِيهَا وَلاَ تَحْيَيَانِ» .
وقوله سبحانه: يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ المعنى: / أَنَّهم يتردَّدون بين نارِ جهنَّم وَجَمْرِهَا، وبين حميمٍ، وهو ما غُلِيَ في جهنَّم من مائع عذابها، وآنَ الشَّيْءُ: حَضَرَ، وآنَ اللَّحْمُ أو ما يُطْبَخُ أوْ يغلى: نَضِجَ وتناهى حرّه، وكونه من الثاني أبين.
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 598) برقم: (33054) ، وذكره البغوي (4/ 272) ، وابن عطية (5/ 231) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 275) .
(2) أخرجه الطبري (11/ 599) برقم: (33057) ، وذكره ابن عطية (5/ 231) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 275) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 199) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(3) ذكره البغوي (4/ 272) .
(4) ذكره ابن عطية (5/ 232) .
(5) ذكره ابن عطية (5/ 232) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 275) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 200) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث والنشور» .
(6) وزاد ابن خالويه فيها: «تصليانها» لا تموتان ... ، ينظر: «الشواذ» ص: (150) ، و «الكشاف» (4/ 451) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 232) .
(5/353)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57)
[سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 57]
وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)
فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57)
وقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ أي: موقِفَهُ بينَ يَدَيْ ربه، وقيل في هذه الآية: إنَّ كُلَّ خائف له جَنَّتَانِ.
ت: قال الثعلبي: قال محمد بن علي الترمذي: جَنَّةٌ لخوفه من ربِّه، وجنَّةٌ لتركه شهوَته، و «الأَفْنَان» : يحتمل أنْ تكون جمع «فَنَنٍ» ، وهو الغُصْن، وهذا قولُ مجاهد «1» ، فكأَنَّهُ مدَحَهَا بظلالِهَا وتَكَاثُفِ أغصانها، ويحتمل أنْ تكونَ جمع «فَنٍّ» ، وهو قول ابن عباس «2» ، فكأَنَّه مدحها بكثرة فواكهها ونعيمها، وزَوْجانِ معناه: نَوْعَانِ.
ت: ونقل الثعلبيُّ عنِ ابنِ عَبَّاس «3» قال: ما في الدنيا شجرةٌ حُلْوَةٌ ولا مُرَّةٌ إلاَّ وهي في الجنة، حتى الحنظل إلّا أنّه حلو انتهى.
ومُتَّكِئِينَ: حالٌ، وقرأ الجمهور «4» : عَلى فُرُشٍ- بضم الراء-، وروي في الحديث «أنّه قيل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هَذِهِ الْبَطَائِنُ مِنْ إسْتَبْرَقٍ، فَكَيْفَ الظَّوَاهِرُ؟! قَالَ: هِيَ مِنْ نُورٍ يَتَلأَلأُ» ، والإِستبرقُ: ما خَشُنَ وحَسُنَ من الدِّيبَاجِ، والسُّنْدُسُ: ما رَقَّ منه، وقد تقدَّم القولُ في لفظ الإِسْتَبَرقِ، والضميرُ في قوله: فِيهِنَّ لِلْفُرُشِ، وقيل: للجنات، إذِ الجنتان جناتٌ في المعنى، و «الجنى» : ما يجنى من الثمار، ووصفه بالدُّنُوِّ لأَنَّه يدنو إلى مشتهيه، فيتناوله كيف شاء من قيام، أو جلوس، أو اضطجاع، رُوِيَ معناه في الحديث، وقاصِراتُ الطَّرْفِ: هُنَّ الحور، قَصَرْنَ ألحاظَهُنَّ على أزواجهن: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ أي: لم يفتضَّهنَّ لأَنَّ الطَّمْثَ دم الفرج.
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 604) برقم: (33100) ، وذكره البغوي (4/ 274) ، وابن عطية (5/ 233) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 277) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 203) ، وعزاه لابن جرير.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 233) . [.....]
(3) ذكره البغوي (4/ 274) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 277) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 204) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عبّاس رضي الله عنه.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 233) ، و «البحر المحيط» (8/ 195) ، و «الدر المصون» (6/ 246) .
(5/354)
كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
وقوله: وَلا جَانٌّ قال مجاهد: الجن قد/ تُجَامِعُ نساءَ البَشَرِ مع أزواجهن «1» إذا لم يذكر الزوجُ اسمَ اللَّه، فنفى سبحانَهُ في هذه الآية جميع المجامعات.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 58 الى 61]
كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)
وقوله تعالى: كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ الآية، الياقوتُ والمَرْجَان هي من الأشياء التي قد بَرَعَ حُسْنُهَا، واستشْعَرَتِ النفوسُ جلالتها، فوقع التشبيه بها فيما يشبه، ويحسن بهذه المُشَبَّهَاتِ، فالياقوتُ في املاسه وشُفُوفِهِ، ولو أدخلْتَ فيه سِلْكاً، لرأيته من ورائه، وكذلك المرأة من نساء الجنة يُرَى مُخُّ ساقها من وراء العَظْم، والمَرْجَانُ في املاسِّه وجمالِ منظره.
وقوله سبحانه: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ: آيةُ وَعْدٍ وبَسْطٍ لنفوسِ جميعِ المؤمنين لأَنَّها عامَّةٌ قال ابن المُنْكَدِرِ، وابن زيد، وجماعةٍ من أهْلِ العلم «2» : هي لِلْبَرِّ والفاجر، والمعنى: أَنَّ جزاءَ مَنْ أحْسَنَ بالطاعةِ أَنْ يُحْسَنَ إليه بالتنْعِيمِ، وحكى النقّاش أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَسَّرَ هذه الآية: هَلْ جَزَاءُ التَّوْحِيدِ إلاَّ الجَنَّةُ «3» .
ت: ولو صَحَّ هذا الحديثُ، لوجَبَ الوقوفُ عنده، ولكنَّ الشأن في صِحَّتِهِ، قال الفخر «4» : قوله تعالى: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ فيه وجوهٌ كثيرةٌ، حتى قيل:
إنَّ في القرآن ثلاثَ آيات، في كل واحدة منها مائةُ قَوْلٍ، إحداها: قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] وثانيتُهَا: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الإسراء: 8] وثالثتها: هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ ولنذكر الأشهر منها والأقرب.
أما الأشهر فوجوه:
أحدها: هل جزاء التوحيدِ إلاَّ الجنةُ، أي: هل جزاءُ مَنْ قال: لا إله إلا اللَّه إلّا دخول الجنّة.
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 607) برقم: (33121) ، وذكره البغوي (4/ 275) ، وابن عطية (5/ 234) .
(2) ذكره ابن عطية (5/ 234) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 208) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والبخاري في «الأدب» ، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «شعب الإيمان» عن محمّد بن الحنفية.
(3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 207) ، وعزاه إلى الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» ، والبغوي في «تفسيره» ، والديلمي في «مسند الفردوس» .
(4) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (15/ 115) .
(5/355)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
ثانيها: هل جزاءُ الإحسان في الدنيا إلاَّ الإحسانُ في الآخرة.
ثالثها: هل جزاء/ مَنْ أحسنَ إليكم بالنعم في الدنيا إلاَّ أَنْ تَحْسِنُوا له العبادَةَ والتقوى.
وأمَّا الأقرب فهو التعميم، أي: لأنَّ لفظ الآية عامٌّ، انتهى.
[سورة الرحمن (55) : الآيات 62 الى 78]
وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)
حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)
وقوله سبحانه: وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ قال ابْنُ زَيْدٍ وغيره: معناه أَنَّ هاتين دون تَيْنِكَ في المنزلة والقُرْبِ، فالأُولَيَانِ للمقرَّبين، وهاتان لأصْحَابِ اليَمِينِ «1» ، وعن ابن عباس «2» :
أَنَّ المعنى: أَنَّهُمَا دونهما في القرب إلى المُنَعَّمِينَ، وأَنَّهُما أفضلُ من الأُولَيَيْنِ، قال ع «3» : وأكثر الناس على التأويل الأول.
ت: واختار الترمذيُّ الحكيمُ التأويلَ الثاني، وأطنب في الاحتجاج له في «نوادر الأصول» له، وخَرَّجَ البخاريُّ هنا عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا ... » الحديث، وفيه: «إنَّ في الجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلاً، في كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْل مَا يَرَوْنَ الآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ المؤمن» «4» انتهى، ومُدْهامَّتانِ معناه: قد علا لَوْنَهُمَا دُهْمَةٌ وَسَوَادٌ في النظرة والخضرة،
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 610) برقم: (33140) ، وذكره ابن عطية (5/ 234) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 279) .
(2) ذكره ابن عطية (5/ 235) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 235) .
(4) أخرجه البخاري (8/ 491) ، كتاب «التفسير» باب: ومن دونهما جنتان (4878) باب: حور مقصورات في الخيام (4880) ، (13/ 433) ، كتاب «التوحيد» باب: قول الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ
(7444) ، ومسلم (1/ 163) ، كتاب «الإيمان» باب: إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم، برقم: (296/ 180) ، وابن ماجه (1/ 66- 67) «المقدمة» باب: فيما أنكرت الجهمية (186) ، والترمذي (4/ 581) ، كتاب «صفة الجنة» باب: ما جاء في صفة غرف الجنة (2528) ، والدارمي (2/ 333) .
(5/356)
ة، قال البخاريُّ: مُدْهامَّتانِ: سودَاوَانِ من الرِّيِّ «1» ، انتهى، والنَّضَّاخَةُ: الفَوَّارَةُ التي يَهِيجُ ماؤُها، وكَرَّرَ النخلَ والرُّمَّانَ، وهما من أفضل الفاكهة تشريفاً لهما، وقالت أُمُّ سَلَمَةَ: «قلتُ: يا رسول اللَّه، أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: خَيْراتٌ حِسانٌ قالَ:
خَيْرَاتُ الأَخْلاَقِ، حِسَانُ الْوُجُوهِ» وَقُرِىَء شاذّاً: «خَيِّرَاتٌ» - بِشَدِّ الياء المكسورة «2» -.
ت: وفي «صحيح البخاريّ» من حديث أنس عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لَرَوْحَة في سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ في الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قَيْدِ سَوْطِهِ خَيْرٌ/ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امرأة مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطلعت إلَى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَتْهُ رِيحاً، وَلَنَصِيفُهَا على رَأْسِهَا- يعني الخِمَارَ- خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» «3» .
وقوله سبحانه: مَقْصُوراتٌ أي: محجوبَاتٌ مَصُونَاتٌ في الخيام، وخيامُ الجَنَّةِ بُيُوتُ اللؤلؤ، قال عمر بن الخَطَّاب- رضي اللَّهُ عنه «4» -: هي دُرٌّ مُجَوَّفٌ، ورواه ابن مَسْعَودٍ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم. قال الداوديُّ: وعن ابن عباس «5» : والخيمة لؤلؤة مجوّفة فرسخ في فرسخ،
__________
(1) ينظر: «صحيح البخاري» (8/ 487) كتاب: «التفسير» ، باب: سورة الرحمن قال ابن حجر: وصله الفريابي.
(2) قرأ بها أبو عثمان النهدي، وأبو بكر بن حبيب السهمي.
ينظر: «الشواذ» ص: (151) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 235) .
(3) أخرجه البخاري (6/ 17) ، كتاب «الجهاد والسير» ، باب الغدوة والروحة في سبيل الله وقاب قوس أحدكم في الجنة (2792) باب: الحور العين وصفتهن (2796) ، (11/ 425) كتاب «الرقاق» ، باب:
صفة الجنة والنار (6568) ، ومسلم (3/ 1499) ، كتاب «الإمارة» باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله (112/ 1880) .
وفي الباب من حديث أبي هريرة: أخرجه البخاري (6/ 17) ، كتاب «الجهاد والسير» باب: الغدوة والروحة في سبيل الله، وقاب قوس أحدكم في الجنة (2793) ، مسلم (3/ 1500) ، كتاب «الإمارة» باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله (114/ 1882) .
وفي الباب من حديث سهل بن سعد: أخرجه البخاري (6/ 17) ، كتاب «الجهاد والسير» باب: الغدوة والروحة في سبيل الله، وقاب قوس أحدكم في الجنة (2794) ، (6/ 100) باب: فضل رباط يوم في سبيل الله (2892) ، (11/ 236) كتاب «الرقاق» باب: مثل الدنيا في الآخرة (6415) ، ومسلم (3/ 1500) كتاب «الإمارة» باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله (113/ 8181) ، والترمذي (4/ 188) ، كتاب «فضائل الجهاد» باب: ما جاء في فضل المرابط (1664) ، والترمذي (4/ 188) ، والنسائي (6/ 15) ، كتاب «الجهاد» باب: فضل غدوة في سبيل الله (3118) ، وابن ماجه (2/ 921) كتاب «الجهاد» باب: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله (2756) ، وأحمد (5/ 339) .
(4) أخرجه الطبري (11/ 616) برقم: (33199) ، وذكره ابن عطية (5/ 236) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 210) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي الأحوص. [.....]
(5) أخرجه الطبري (11/ 616) برقم: (33197) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 280) ، والسيوطي في «الدر-
(5/357)
لها أربعة آلاف مِصْرَاعٍ، انتهى.
و «الرَّفْرَفُ» : ما تدلى من الأَسِرَّةِ من عالي الثياب والبُسُطِ، وقاله ابن عَبَّاس وغيره «1» ، وما يتدلى حول الخِبَاءِ مِنَ الْخِرْقَةِ الهَفَّافَةِ يُسَمَّى رَفْرَفاً، وكذلك يُسَمِّيه الناسُ اليومَ، وقيل غَيْرُ هذا، وما ذكرناه أصْوَبُ، والعَبْقَرِيُّ: بُسُطٌ حِسَانٌ، فيها صُوَرٌ وغَيْرُ ذلك، تُصْنَعُ بعَبْقَر، وهو موضعٌ يُعْمَلُ فيه الوشْيُ والدِّيبَاجُ ونحوه، قال ابن عباس: العَبْقَرِيُّ «2» :
الزَّرَابِيُّ «3» ، وقال ابن زيد «4» : هي الطَّنَافِس»
، قال الخليل والأصمعيُّ: العَرَبُ إذا استحسنَتْ شيئاً واستجادَتْهُ قالَتْ: عَبْقَرِيٌّ، قال ع «6» : ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في عُمَرَ: «فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ» «7» .
وقوله سبحانه: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ: هذا الموضعُ مِمَّا أُرِيدَ فيه
__________
المنثور» (6/ 210) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا في «صفة الجنة» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» .
(1) أخرجه الطبري (11/ 619) برقم: (33225) ، وذكره البغوي (4/ 278) ، وابن عطية (5/ 236) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 213) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(2) أخرجه الطبري (11/ 620) برقم: (33235) ، وذكره ابن عطية (5/ 236) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 280) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 214) ، وعزاه لعبد بن حميد.
(3) وهي جمع زربية، وهو نوع من الثياب محبّر منسوب إلى موضع، وقال المؤرخ: زرابي البيت:
ألوانه ... وقيل: هي البسط العراض. وقيل: ما بها خملة.
ينظر: «عمدة الحفاظ» (2/ 156) .
(4) أخرجه الطبري (11/ 620) برقم: (33241) ، وذكره ابن عطية (5/ 236) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 213) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(5) جمع طنفسة: بكسر الطاء والفاء، وبضمهما، وبكسر الطاء وفتح الفاء، وهي: البساط الذي له خمل رقيق.
ينظر: «النهاية» (3/ 140) .
(6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 237) .
(7) أخرجه البخاري (7/ 23) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب: قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت متخذا خليلا (3664) ، ومسلم (4/ 1861) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب: من فضائل عمر رضي الله تعالى عنه (17- 18/ 2392) ، وأحمد (2/ 368، 450) عن أبي هريرة.
وفي الباب عن ابن عمر رضي الله عنهما: أخرجه البخاري (7/ 50) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب: مناقب عمر بن الخطاب رضي الله عنه (3682) ، ومسلم (4/ 1862) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب: فضائل عمر رضي الله عنه (19/ 2393) ، وأحمد (2/ 27، 28، 39، 89، 104، 107) .
(5/358)
بالاسم مُسَمَّاهُ، والدعاءُ بهاتَيْنِ الكلمتَيْنِ حَسَنٌ مَرْجُوُّ الإجابة، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «ألظّوا ب:
«يا ذا الجلال والإكرام» «1» .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.
__________
(1) أخرجه الترمذي (5/ 239) ، كتاب «الدعوات» باب: (92) (3524) ، وأحمد (4/ 177) .
قال الترمذي: هذا حديث غريب.
(5/359)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)
تفسير سورة الواقعة
وهي مكّيّة بإجماع ممّن يعتدّ بقوله روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم/ أنّه قال: «من دام على قراءة سورة الواقعة، لم يفتقر» أو قال:
«لم تصبه فاقة أبدا» «1» ، قال ع «2» : لأنّ فيها ذكر القيامة، وحظوظ الناس في الآخرة، وفهم ذلك غنى لا فقر معه، ومن فهمه شغل بالاستعداد.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7)
قوله سبحانه: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ الآية، الواقعةُ: اسْمٌ من أسماء القيامة قاله ابن عباس «3» ، وقال الضَّحَّاكُ «4» : الواقعة: الصيحة، وهي النفخة في الصور، وكاذِبَةٌ:
يحتمل أَنْ يكون مصدراً، فالمعنى: ليس لها تكذيب ولا رَدٌّ ولا مَثْنَوِيَّةٌ وهذا قول مجاهد والحسن «5» ، ويحتمل أَنْ يكونَ صفة لِمُقَدَّر، كأَنَّهُ قال: ليس لوقعتها حال كاذبة.
وقوله سبحانه: خافِضَةٌ رافِعَةٌ قال قتادة وغيره «6» : يعني القيامة تَخْفضُ أقواماً إلى النار، وترفع أقواماً إلى الجنة، وقيل: إنَّ بانفطار السموات والأرض والجبال وانهدام هذه
__________
(1) أخرجه الشجري في «أماليه» (2/ 238) ، وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (1/ 112) باب: ثواب من قرأ سورة الواقعة (151) .
قال ابن الجوزي: قال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر، وشجاع والسري لا أعرفهما.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 238) .
(3) أخرجه الطبري (11/ 622) برقم: (33245) ، وذكره ابن عطية (5/ 238) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 215) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(4) أخرجه الطبري (11/ 622) برقم: (33244) ، وذكره ابن عطية (5/ 238) . [.....]
(5) أخرجه الطبري (11/ 622) برقم: (33246) عن قتادة، وذكره ابن عطية (5/ 238) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 282) .
(6) أخرجه الطبري (11/ 623) برقم: (33250) ، وذكره ابن عطية (5/ 239) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 216) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.
(5/360)
فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
البنية، ترتفعُ طائفةٌ من الأجرام، وتَنْخَفِضُ أُخْرَى، فكأَنَّها عبارة عن شِدَّةِ هول القيامة.
ت: والأَوَّلُ أبين، وهو تفسير البخاريِّ، ومعنى رُجَّتِ: زُلْزِلَتْ وَحُرِّكَتْ بعنف قاله ابن عباس «1» ، ومعنى بُسَّتِ: فُتَّتْ كما تُبَسُّ البَسِيسَةُ وهي السَّوِيقُ قاله ابن عباس وغيره «2» ، وقال بعض اللغويين: «بست» معناه: سيِّرَتْ، والهباء: ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة، ولا يكاد يرى إلا في الشمس إذا دخلتْ من كُوَّةٍ قاله ابن عباس وغيره «3» ، والمُنْبَثُّ- بالثاء المثلثة-: الشائع في جميع الهواء، والخطاب في قوله: وَكُنْتُمْ لجميع العالم، والأزواج: الأنواع، قال قتادة «4» : هذه منازل الناس يوم القيامة.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 8 الى 12]
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
وقوله سبحانه: فَأَصْحابُ/ الْمَيْمَنَةِ: ابتداء، وما ابتداء ثان، وأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ: خبرُ مَا، والجملة خبر الابتداء الأوَّلِ، وفي الكلام معنى التعظيم كما تقول: زيد ما زيد، ونظير هذا في القرآن كثير، والميمنة أظهر ما في اشتقاقها أَنَّها من ناحية اليمين، وقيل من اليمْن، وكذلك المشأمة: إمَّا أَنْ تكونَ من اليد الشُّؤْمى، وإمَّا أَنْ تكونَ من الشؤم، وقد فُسِّرَتِ الآيةُ بهذين المعنيين.
وقوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ: ابتداء، والسَّابِقُونَ الثاني: قال سيبويه: هو خبر الأَوَّلِ، وهذا على معنى تفخيم الأمر وتعظيمه، وقال بعض النحاة: السابقون الثاني نَعْتٌ للأوَّلِ، ومعنى الصفة أَنْ تقولَ: والسابقون إلى الإيمان السابقونَ إلى الجنة والرحمة أَولئك، وَيَتَّجِهُ هذا المعنى على الابتداء والخبر.
وقوله: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ: ابتداء وخبر، وهو في موضع الخبر على قول مَنْ
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 623) برقم: (33254) ، وذكره ابن عطية (5/ 239) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 282) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 216) ، وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري (11/ 624) برقم: (33258) ، وذكره ابن عطية (5/ 239) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 282) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 216) ، وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) ذكره ابن عطية (5/ 239) .
(4) أخرجه الطبري (11/ 626) برقم: (33273) ، وذكره ابن عطية (5/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 217) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(5/361)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25)
قال: السَّابِقُونَ الثاني صفة، والْمُقَرَّبُونَ: معناه: مِنْ اللَّه سبحانه في جَنَّةِ عَدَنٍ، فالسابقون معناه: الذين قد سبقت لهم السعادة، وكانت أعمالُهُمْ في الدنيا سبقاً إلى أعمال البِرِّ وإلى ترك المعاصي، فهذا عمومٌ في جميع الناس، وخَصَّصَ المفسرون في هذه أشياء تفتقر إلى سند قاطع، ورُوِيَ أَنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم سُئِلَ عَنِ السَّابِقِينَ؟ فَقَالَ: «هُمُ الَّذِينَ إذَا أُعْطُوا الْحَقَّ قَبِلُوهُ، وَإذَا سُئِلُوهُ بَذَلُوهُ، وَحَكَمُوا لِلنَّاسِ بِحُكْمِهِمْ لأَنْفُسِهِمْ» والمقربون عبارة عن أعلى منازل البشر في الآخرة، قال جماعة من أهل العلم: هذه الآية متضمنة أَنَّ العالم يوم القيامة على ثلاثة أصناف.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 25]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17)
بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22)
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25)
وقوله سبحانه: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ/ مِنَ الْآخِرِينَ الثُّلَّةُ: الجماعة، قال الحسن بن أبي الحسن وغيره «1» : المراد: السابقون من الأمم والسابقون من هذه الأُمَّةِ، ورُوِيَ أَنَّ الصحابة حَزِنُوا لِقِلَّةِ سابقي هذه الأُمَّةِ على هذا التأويل، فنزلت الآية: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ [الواقعة: 39- 40] فَرَضُوا، ورُوِيَ عن عائشة «2» أَنَّها تأوَّلَتْ: أَنَّ الفرقتين في أُمَّةِ كُلِّ نبيٍّ هي في الصدر ثلة وفي آخر الأمة قليل، وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فيما روي عنه: «الفِرْقَتَانِ في أُمَّتِي، فَسَابِقُ أَوَّلِ الأُمَّةِ ثُلَّةٌ، وَسَابِقُ سَائِرِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ قليلٌ» قال السهيليُّ: وَأَمَّا آخِرُ مَنْ يدخل الجنة، وهو آخِرُ أهل النار خروجاً منها، فرجل اسمه جُهَيْنَةُ، فيقول أهل الجنة: تعالوا نسأَله فعند جهينةَ الخبر اليقين، فيسألونه: هل بَقِيَ في النار أَحَدٌ بعدك مِمَّنْ يقول: لا إله إلا اللَّه؟ وهذا حديث ذكره الدَّارَقُطْنِيُّ من طريق مالك بن أنس، يرفعه بإسناد إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذكره في كتاب رواة مالك بن أنس- رحمه اللَّه «3» -، انتهى.
وقوله تعالى: عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ أي: منسوجة بتركيب بعض أجزائها على
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 626) برقم: (33276) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 283) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 217) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن جرير.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 241) .
(3) قال الشوكاني في «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» (511) (128) : قال في «الذيل» : هذا حديث باطل.
(5/362)
بعض، كحلق الدِّرْعِ، ومنه وَضِينُ الناقة وهو حِزَامُهَا قال ابن عباس «1» : مَوْضُونَةٍ:
مرمولة بالذهب، وقالَ عِكْرَمَةُ «2» : مُشَبَّكَةٌ بالدُّرِّ والياقوت يَطُوفُ عَلَيْهِمْ: للخدمة وِلْدانٌ: وهم صغار الخَدَمَةِ، ووصفهم سبحانه بالخلد، وإنْ كان جميعُ ما في الجنة كذلك، إشارةً إلى أَنَّهُم في حال الولدان مُخَلَّدُونَ، لا تكبر لهم سِنٌّ، أي: لا يحولون من حالة إلى حالة وقاله ابن كيسان، وقال الفَرَّاء: مُخَلَّدُونَ معناه: مقرطون بالخلدات وهي ضرب من الأقراط والأَوَّلُ أصوب، / لأَنَّ العربَ تقول للذي كَبُرَ ولم يَشِبْ: إِنَّهُ لَمُخَلَّدٌ، والأكواب: ما كان من أواني الشرب لا أَذُنَ له ولا خُرْطُومَ، قال قتادة «3» : ليست لها عُرًى، والإبريق: ماله خرطوم، والكأس: الآنية المُعَدَّةُ للشرب بشريطةِ أَنْ يكونَ فيها خمر، ولا يقال لآنية فيها ماء أو لبن كأس.
وقوله: مِنْ مَعِينٍ قال ابن عباس «4» : معناه من خمر سائلة جارية معينة.
وقوله: لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْها ذهب أكثر المفسرينَ إلى أنّ المعنى: لا يلحق رؤوسهم الصداعُ الذي يَلْحَقُ من خمر الدنيا، وقال قوم: معناه: لا يفرقون عنها بمعنى لا تقطعُ عنهم لَذَّتُهُمْ بسببٍ من الأسباب، كما يفرق أهل خمر الدنيا بأنواعٍ من التفريق، وَلا يُنْزِفُونَ معناه: لا تذهب عقولُهم سكراً قاله مجاهد وغيره «5» ، والنزيف: السكران، وباقي الآية بَيِّنٌ، وَخصَّ المكنون باللؤلؤ لأَنه أصفى لوناً وأبعدُ عن الغير، وسألتْ أُمُّ سَلَمَةَ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ هَذَا التَّشْبِيهِ، فَقَالَ: «صَفَاؤُهُنَّ كَصَفَاءِ الدُّرِّ في الأصداف الّذي لا تمسّه الأيدي» «6» وجَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: إنَّ هذه الرتبَ والنعيمَ هي لهم بحسب أعمالهم لأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ المنازل والقسم في الجنة هي مقتسمة على قدر الأعمال، ونفس
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 628) برقم: (33281) ، وذكره ابن عطية (5/ 241) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 286) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 219) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» .
(2) أخرجه الطبري (11/ 628) برقم: (33285) ، وذكره ابن عطية (5/ 241) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 286) .
(3) أخرجه الطبري (11/ 630) برقم: (33303) ، وذكره ابن عطية (5/ 242) .
(4) أخرجه الطبري (11/ 630) برقم: (33305) ، وذكره ابن عطية (5/ 242) .
(5) أخرجه الطبري (11/ 630) برقم: (33316) ، وذكره ابن عطية (5/ 242) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 286) . [.....]
(6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (11/ 633) برقم: (33330) ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (7/ 122) في حديث طويل.
قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه سليمان بن أبي حاتم وابن عدي.
(5/363)
إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38)
دخول الجنة هو برحمة اللَّه وفضله، لا بعمل عامل كما جاء في الصحيح «1» .
[سورة الواقعة (56) : الآيات 26 الى 38]
إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30)
وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35)
فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38)
وقوله تعالى: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً قال أبو حيان «2» : «إلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً» الظاهر أَنَّ الاستثناءَ مُنْقَطِعٌ لأَنَّهُ لا يَنْدَرِجُ في اللغو والتأثيم، وقيل مُتَّصِلٌ، وهو بعيد، انتهى، قال الزّجّاج «3» : وسَلاماً مصدر، كأَنَّهُ يذكر أَنَّهُ يقول بعضهم لبعض: سلاماً سلاماً.
ت: قال الثعلبيُّ: والسِّدْرُ: شجر النبق ومَخْضُودٍ أي: مقطوع الشوك، قال- عليه السلام «4» : ولأهل تحرير النظر هنا إشارةٌ في أَنَّ هذا الخضد بإزاء أعمالهم التي سلموا منها إذ أهل اليمين تَوَّابُونَ لهم سلام، وليسوا بسابقين، قال الفخر: وقد بان لي بالدليل أَنَّ المراد بأصحاب اليمين: الناجون الذين أذنبوا وأسرفوا، وعفا اللَّه تعالى عنهم بسبب أدنى حَسَنَةٍ لا الذين غلبت حسناتُهُم وكَثُرَتْ، انتهى.
والطلح (من العِضَاهِ) شَجَرٌ عظيم، كثيرُ الشوك، وصفه في الجنة على صفة مباينة لحال الدنيا، ومَنْضُودٍ معناه: مُرَكَّبٌ ثمره بعضُه على بعض من أرضه إلى أعلاه، وقرأ علي- رضي اللَّه عنه- وغيره: «وَطَلْعٍ» «5» فقيل لعليِّ: إنَّما هو: «وطَلْحٍ» فقال: ما للطلح والجنة؟! قيل له: أَنُصْلِحُهَا في المصحف؟ فقال: إنَّ المصحفَ اليومَ لا يهاج ولا يغيّر.
__________
(1) روي في هذا المعنى أناس من الصحابة، فقد أخرج الإمام مسلم (4/ 2170، 2171) ، كتاب «صفات المنافقين» باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله، بل برحمة الله تعالى (71، 76/ 2816- 2817) ، و (77- 78/ 2818) عن أبي هريرة، وعائشة، وجابر رضي الله عنهم.
وأخرجه أحمد (2/ 256، 336، 343، 344، 385، 386، 390، 469، 473، 509، 519، 524) عن أبي هريرة (3/ 394) عن جابر، (3/ 52) عن أبي سعيد.
(2) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 206) .
(3) ينظر: «معاني القرآن» (5/ 112) .
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 243) .
(5) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (151) ، و «الكشاف» (4/ 461) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 244) ، وزاد نسبتها إلى جعفر بن محمّد.
وينظر: «البحر المحيط» (8/ 206) ، و «الدر المصون» (6/ 259) ، وزادا نسبتها إلى عبد الله بن مسعود.
(5/364)
وقال عليُّ أيضاً وابن عباس «1» : الطلح الموز، والظل الممدود: معناه: الذي لا تنسخه شمس، وتفسير ذلك في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ الجَوَادُ المُضَمَّر في ظِّلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ لاَ يَقْطَعْها» «2» ، واقرؤوا إنْ شِئْتُمْ: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ، إلى غير هذا من الأحاديث في هذا المعنى.
ت: وفي «صحيحي البخاريّ ومسلم» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ في الجَنَّةِ شَجْرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّهَا مِائَةَ سَنَةٍ لاَ يَقْطَعُهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أوْ تَغْرُبُ» »
انتهى.
وَماءٍ مَسْكُوبٍ أي: جارٍ في غير أُخْدُودٍ.
لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ أي: لا مقطوعة بالأزمان كحال فاكهة الدنيا، ولا ممنوعةٌ بوجه من الوجوه التي تمتنع بها فاكهةُ الدنيا، والفُرُشُ: الأَسِرَّةُ وعن أبي سعيد الخُدْرِيِّ «4» : إنَّ في ارْتِفَاعِ السَّرِيرِ مِنْهَا مَسِيرَةَ خَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ.
ت: وهذا إنْ ثبت فلا بُعْدَ/ فيه، إذْ أحوال الآخرة كلها خَرْقُ عادة، وقال أبو عبيدةَ وغيره: أراد بالفرش النساء «5» ، ومَرْفُوعَةٍ معناه: في الأقدار والمنازل، وأَنْشَأْناهُنَّ معناه: خلقناهن شيئاً بَعْدَ شيء وقال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم في تفسير هذه الآية: «هنّ
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 636) عن ابن عبّاس برقم: (33350) ، وعن علي رضي الله عنه برقم:
(33355) ، وذكره ابن عطية (5/ 244) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 288) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 222) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم.
(2) أخرجه البخاري (11/ 424) كتاب «الرقاق» باب: صفة الجنة والنار (6553) ، ومسلم (4/ 2176) ، كتاب «الجنة وصفة نعيمها وأهلها» باب: إنَّ في الجَنَّةِ شَجْرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ في ظلها مائة عام لا يقطعها (2828) عن أبي سعيد الخدري.
(3) وهم المؤلف فجعل الحديثين حديثا واحدا، فالطرف الأول: «إن في الجنة ... لا يقطعها» في «الصحيحين» كما قال. وانظر السابق.
أما الطرف الثاني: فقد أخرجه البخاري (6/ 17) ، كتاب «الجهاد والسير» باب: الغدوة والروحة في سبيل الله وقاب قوس أحدكم في الجنة (2793) ، (6/ 368) ، كتاب «بدء الخلق» باب: ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة (2353) ، وأحمد (2/ 482) عن أبي هريرة، والترمذي (4/ 181) ، كتاب «فضائل الجهاد» باب: ما جاء في فضل الغدوّ والرواح في سبيل الله (1651) ، وأحمد (3/ 141، 153، 157، 207، 263، 264) عن أنس رضي الله عنه.
قال الترمذي: هذا حديث صحيح.
(4) تقدم تخريجه.
(5) ذكره ابن عطية (5/ 244) .
(5/365)
عّجائِزُكُنَّ في الدُّنْيَا عُمْشاً رُمْصاً جَعَلَهُنَّ اللَّهُ بَعْدَ الْكِبَرِ أَتْرَاباً» «1» ، وَقَالَ لِلْعَجُوزِ: «إنَّ الْجَنَّةَ لاَ يَدْخُلُهَا الْعَجُوزُ، فَحَزِنَتْ، فَقَالَ: إنَّكِ إذَا [دَخَلْتِ الْجَنَّةَ أُنْشِئْتِ خَلْقاً آخَرَ «2» » .
وقوله سبحانه: فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً قيل: معناه: دائمة البكارة، متى عاود الوطء] «3» وجدها بكراً، والعُرُبُ: جمع عَرُوبٍ، وهي المُتَحَبِّبَةُ إلى زوجها بإِظهار محبته قاله ابن عباس «4» ، وعبر عنهنَّ ابن عباس أيضاً بالعواشق «5» ، وقال زيد: العروب: الحسنة الكلام «6» .
ت: قال البخاريُّ: والعروب يسميها أَهْلُ مَكَّةَ العَرِبَةَ، وأهل المدينة: الغَنِجَة، وأَهل العراق: الشَّكِلَة، انتهى.
وقوله: أَتْراباً معناه: في الشكل والقَدِّ، قال قتادة «7» : أَتْراباً يعني: سِنًّا واحدة، ويُرْوَى أَنَّ أَهل الجنة هم على قَدِّ ابن أربعةَ عَشَرَ عاماً في الشباب، والنُّضْرَةِ، وقيل: على مثال أبناء ثلاثٍ وثلاثين سنةً، مُرْداً بيضاً، مُكَحَّلِينَ، زاد الثعلبيُّ: على خَلْقِ آدَم، طولُه ستون ذراعا في سبعة أذرع.
__________
(1) أخرجه الترمذي (5/ 402) ، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الواقعة (3296) ، من حديث أنس رضي الله عنه.
قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة ويزيد بن أبان الرقاشي يضعفان الحديث، ومن طريق عائشة رضي الله عنها: أخرجه الطبري (11/ 641) (33042) نحوه.
(2) أخرجه الترمذي في «الشمائل» (197، 199) (241) ، والغزالي في «الإحياء» (3/ 129) .
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 224) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في «البعث» عن الحسن.
وفي الباب عن عائشة، ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 422) ، كتاب «صفة الجنة» باب: فيمن يدخل الجنة من عجائز الدنيا.
قال الهيثمي: رواه الطبراني في «الأوسط» ، وفيه مسعد بن اليسع وهو ضعيف.
(3) سقط في: د. [.....]
(4) أخرجه الطبري (11/ 642) برقم: (33406) ، وذكره البغوي (4/ 284) ، وابن عطية (5/ 245) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 292) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 225) ، وعزاه لابن جرير.
(5) أخرجه الطبري (11/ 641) برقم: (33405) ، وذكره ابن عطية (5/ 245) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 292) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 225) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي.
(6) أخرجه الطبري (11/ 642) برقم: (33415) ، وذكره البغوي (4/ 284) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 292) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 226) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(7) أخرجه الطبري (11/ 644) ، برقم: (33435) ، وذكره ابن عطية (5/ 245) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 225) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(5/366)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
[سورة الواقعة (56) : الآيات 39 الى 50]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43)
لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
وقوله سبحانه: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ قال الحسن بن أبي الحسن وغيره: الأولون سالف الأُمَمِ، منهم جماعةٌ عظيمة أصحابُ يمين، والآخِرُونَ: هذه الأُمَّةُ، منهم جماعة عظيمة أهلُ يمين «1» ، قال ع «2» : بل جميعهم إلاَّ مَنْ كان مِنَ السابقين، وقال قوم من المتأولين: هاتان الفرقتان في أُمَّةِ محمد، ورَوَى ابن عبّاس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «الثُّلَّتَانِ مِنْ أُمَّتِي» «3» ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «إنَّ أُمَّتِي ثُلُثَا أَهْلِ الجَنَّةِ، وَالنَّاسُ يَوْمَئِذٍ عِشْرُونَ وَمِائَةُ صَفٍّ، وَإِنَّ أُمَّتِي مِنْ ذَلِكَ ثَمَانُونَ صَفًّا» «4» انتهى.
وقوله سبحانه: وَأَصْحابُ الشِّمالِ ... الآية: في الكلام معنى الإنحاء عليهم/ وتعظيم مصائبهم، والسَّمُومُ: أشد ما يكون من الحَرِّ اليابس الذي لا بَلَلَ معه، والحميم: السخن جِدًّا من الماء الذي في جهنم، واليَحْمُومُ: هو الدخانُ الأسودُ يُظِلُّ أهلَ النار قاله ابن عباس «5» والجمهور، وقيل: هو سرادق النار المحيط بأهلها فإنَّهُ يرتفع من كل ناحية حتى يُظِلَّهُم، وقيل: هو جبل في النار أسود.
وقوله: وَلا كَرِيمٍ معناه: ليس له صفة مدح، قال الثعلبيُّ: وعن ابن المُسَيِّبِ وَلا كَرِيمٍ أي: ولا حسن «6» نظيره من كل زوج كريم، وقال قتادة: لاَّ بارِدٍ: النزل وَلا كَرِيمٍ: المنظر «7» ، وهو الظِلُّ الذي لا يغني من اللهب، انتهى، والمترف: المنعّم
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 644) ، برقم: (33438) ، وذكره ابن عطية (5/ 245) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 245) .
(3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 227) موقوفا على ابن عبّاس، وعزاه إلى عبد الرزاق، وابن المنذر، وابن مردويه.
(4) أخرجه نعيم بن حماد في زياداته على كتاب «الزهد» (113) (379) .
(5) أخرجه الطبري (11/ 646) ، برقم: (33450) ، وذكره ابن عطية (5/ 246) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 294) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 228) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه.
(6) ذكره البغوي (4/ 286) .
(7) أخرجه الطبري (11/ 648) برقم: (33464) ، وذكره البغوي (4/ 286) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 294) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 228) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر.
(5/367)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63)
في سرف، وتخوض، ويُصِرُّونَ معناه: يعتقدون اعتقادا لا ينزعون عنه، والْحِنْثِ:
الإثم، وقال الثعلبيُّ: وَكانُوا يُصِرُّونَ: يقيمون عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ أي: الذنب، انتهى، ونحوهُ للبخاريِّ، وهو حَسَنٌ نحو ما في الرسالة، قال قتادة وغيره «1» : والمراد بهذا الإثم العظيم: الشركُ، وباقي الآية في استبعادهم للبعث، وقد تقدم بيانه.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 51 الى 57]
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)
هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57)
وقوله سبحانه: ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ: مخاطبة لكفّار قريش ومن كان في حالهم، ومِنْ في قوله: مِنْ زَقُّومٍ لبيان الجنس، والضمير في مِنْهَا عائد على الشجر، والضمير في عَلَيْهِ عائد على المأكول، والْهِيمِ قال ابن عباس وغيره «2» :
جمع «أهيم» وهو الجمل الذي أصابه الهُيَامُ- بضم الهاء-، وهو داء مُعْطِشٌ يشرب الجملُ حتى يموتَ أو يسقمَ سَقَماً شديداً، وقال قوم هو: جمع «هائم» وهو أيضاً من هذا المعنى لأَنَّ الجملَ إذا أصابه ذلك الداءُ، هام على/ وجهه وذهب، وقال ابن عباس أيضاً وسفيان الثوري «3» : الْهِيمِ: الرمال التي لا تُرْوَى من الماء، والنزل أول ما يأكل الضيف، والدِّينِ: الجزاء.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 58 الى 63]
أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62)
أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63)
وقوله سبحانه: أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ الآية: وليس يوجد مفطورٌ، يخفى عليه أَنَّ المَنِيَّ الذي يخرُجُ منه ليس له فيه عمل ولا إرادة ولا قدرة، وقرأ الجمهور: «قَدَّرْنَا» وقرأ ابن كثير وحده «4» : «قَدَرْنَا» بتخفيف الدال، فيحتمل أَنْ يكونَ المعنى فيهما: قضينا وأثبتنا، ويحتمل
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 648) برقم: (33474) ، وذكره ابن عطية (5/ 246) ، وابن كثير في «تفسيره» (5/ 295) .
(2) أخرجه الطبري (11/ 650) ، برقم: (33477) ، وذكره ابن عطية (5/ 246) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 295) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 228) ، وعزاه للطستي.
(3) أخرجه الطبري (11/ 651) ، برقم: (33485) ، عن سفيان، وذكره ابن عطية (5/ 247) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 229) ، وعزاه لسفيان بن عيينة في جماعة عن ابن عبّاس رضي الله عنهما. [.....]
(4) ينظر: «السبعة» (623) ، و «الحجة» (6/ 261) ، و «إعراب القراءات» (2/ 347) ، و «حجة القراءات»
(5/368)
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
أَنْ يكون بمعنى: سَوَّيْنَا، قال الثعلبيُّ عنِ الضحاك «1» : أي: سَوَّيْنَا بين أهل السماء وأهل الأرض.
وقوله: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي: على تبديلكم إنْ أردناه، وأَنْ نُنْشِئَكُمْ بأوصاف لا يصلها علمُكُم، ولا يُحيطُ بها فكركم، قال الحسن «2» : من كونهم قردةً وخنازيرَ لأَنَّ الآية تنحو إلى الوعيد، والنَّشْأَةَ الْأُولى: قال أكثر المفسرين: إشارة إلى خلق آدم، وقيل: المراد: نشأة الإنسان في طفولته، وهذه الآية نَصٌّ في استعمال القياس والحَضِّ عليه، وعبارة الثعلبي: ويقال: النَّشْأَةَ الْأُولى نطفة، ثم عَلَقَةٌ، ثم مُضْغَةٌ، ولم يكونوا شيئاً فَلَوْلا أي: فهلا تذكرون أَنِّي قادر على إعادتكم كما قَدَرْتُ على إبدائكم، وفيه دليل على صِحَّةِ القياس لأَنَّهُ عَلَّمَهُمْ سبحانه الاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، انتهى.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 64 الى 74]
أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)
أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
وقوله سبحانه: أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أي: زرعاً يتم أَمْ نَحْنُ: وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «لاَ تَقُلْ: زَرَعْتُ، وَلَكِنْ قُلْ حَرَثْتُ، ثُمَّ تَلاَ أَبُو هُرَيْرَةَ هَذِهِ الآية» «3» والحطام: اليابس المُتَفَتِّتُ من النبات الصائر إلى ذهاب، وبه شبّه حطام الدنيا/ وتَفَكَّهُونَ قال ابن عباس وغيره «4» : معناه تعجبون، أي: ممّا نزل بكم، وقال ابن
__________
(696) ، و «العنوان» (185) ، و «شرح الطيبة» (6/ 37) ، و «شرح شعلة» (596) ، و «إتحاف» (2/ 516) ، و «معاني القراءات» (3/ 51) .
(1) ذكره البغوي (4/ 287) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 295) .
(2) ذكره البغوي (4/ 287) ، وابن عطية (5/ 248) .
(3) أخرجه السهمي في «تاريخ جرجان» (411) (716) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 211- 212) (5217) ، وابن جرير الطبري في «تفسيره» (11/ 652) ، برقم: (652) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 230) ، وزاد نسبته إلى البزار، وأبي نعيم.
(4) أخرجه الطبري (11/ 653) ، برقم: (33493) ، وذكره ابن عطية (5/ 249) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 296) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 230) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.
(5/369)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80)
زيد «1» : معناه: تتفجعون، قال ع «2» : وهذا كله تفسير لا يَخُصُّ اللفظة، والذي يخص اللفظةَ هو تطرحون الفكاهةَ عن أنفسكم، وقولهم: إِنَّا لَمُغْرَمُونَ قبله محذوف تقديره: يقولون، وقرأ عاصم الجَحْدَرِيُّ «3» : «أَإنَّا لَمُغْرَمُونَ» بهمزتين على الاستفهام، والمعنى يحتمل أَنْ يكونَ: إنا لمغرمون من الغرام، وهو أَشَدُّ العذاب، ويحتمل: إنَّا لمحملون الغرم، أي: غرمنا في النفقةَ، وذَهَبَ زَرْعُنَا، وقد تَقَدَّمَ تفسيرُ المحروم، وأَنَّهُ الذي تبعد عنه مُمْكِنَاتُ الرزق بعد قُرْبها منه، وقال الثعلبيُّ: المحروم ضد المرزوق، انتهى، والْمُزْنِ: هو السحاب، والأجاج: أشدّ المياه ملوحة، وتُورُونَ معناه:
تقتدحون من الأزند تقول: أوريتُ النارَ من الزِّنَادِ، والزنادُ: قد يكون من حجر وحديدة، ومن شجر، لا سيما في بلاد العرب، ولا سيما في الشجر الرَّخْوِ كالمَرَخِ والعفار والكلخ، وما أشبهه، ولعادة العرب في أزنادهم من شجر قال تعالى: أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أي: التي تقدح منها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ نَحْنُ جَعَلْناها: يعني نار الدنيا تَذْكِرَةً للنار الكبرى، نارِ جهنم قاله مجاهد وغيره «4» ، والمتاع: ما يُنْتَفَعُ به، والمُقْوِينَ: في هذه الآية الكائنين في الأرض القَوَاءِ، وهي الفَيَافي، ومن قال معناه:
للمسافرين فهو نحو ما قلناه، وهي عبارة ابن عباس «5» - رضي اللَّه عنه- تقول: أَقْوَى الرَّجُلُ: إذا دَخَلَ في الأرض القواء.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 80]
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)
وقوله سبحانه: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ الآية: قال بعض النحاة: «لا» زائدة،
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 249) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 296) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 251) .
(3) وقرأ بها الأعمش، وأبو بكر.
ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 249) ، و «البحر المحيط» (8/ 211) ، و «الدر المصون» (6/ 264) ، و «حجة القراءات» (697) .
(4) أخرجه الطبري (11/ 656) ، برقم: (33511) ، وذكره البغوي (4/ 288) ، وابن عطية (5/ 249) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 296) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 230) ، وعزاه لهناد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(5) أخرجه الطبري (11/ 656) ، برقم: (33514) ، وذكره ابن عطية (5/ 250) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 297) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 230) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(5/370)
والمعنى: فأقسم، وزيادتها في بعض المواضع معروفة، وقرأ الحسن وغيره: «فَلأُقْسِمُ» من غير ألف، وقال بعضهم: «لا» نافية كأَنَّهُ قال: فلا صِحَّةَ لما يقوله الكفار، ثم ابتدأ:
أقسم بمواقع النجوم، والنجوم: هنا قال ابن عباس وغيره»
: هي نجوم القرآن وذلك أَنَّهُ روي أَنَّ القرآن نزل في ليلة القدر إلى سماء الدنيا، وقيل: إلى البيت المعمور جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم نُجُوماً مُقَطَّعَةً مدة من عشرين سنةً، قال ع «2» : ويؤيده عودُ الضمير على القرآن في قوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ وقال كثير من المفسرين: بلِ النجوم هنا هي الكواكب المعروفة، ثم اختلف هؤلاء في مواقعها، فقيل:
غروبها وطلوعها، وقيل: مواقعها عند انقضاضها إثْرَ العفاريت.
[وقوله:] وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ: تأكيد.
وقوله: لَوْ تَعْلَمُونَ: اعتراض.
وقوله: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ: هو الذي وقع القسم عليه.
وقوله: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ الآية: المكنون: المصون قال ابن عباس وغيره «3» :
أراد الكتابَ الذي في السماء، قال الثعلبيُّ: ويقال: هو اللوح المحفوظ.
وقوله: لاَّ يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ يعني: الملائكة، وليس في الآية على هذا التأويل تَعَرُّضٌ لحكم مَسِّ المصحف لسائر بني آدم، وقال بعض المتأولين: أراد بالكتاب مصاحِفَ المسلمين، ولم تكن يومئذ، فهو إخبار بغيب مضمنه النهي، فلا يَمَسُّ المصحفَ من بني آدم إلاَّ الطاهرُ من الكفر والحَدَثِ وفي كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن حَزْمٍ: «لاَ يَمَسَّ القرآنَ إلاَّ طَاهِرٌ» «4» ، وبِهِ أخذ مالك، وقرأ سليمان «5» : إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ- بكسر الهاء-.
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 658) ، برقم: (33528) ، وذكره البغوي (4/ 289) ، وذكره ابن عطية (5/ 251) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 298) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 231) ، وعزاه لابن مردويه.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 251) .
(3) أخرجه الطبري (11/ 659) ، برقم: (33533) ، وذكره ابن عطية (5/ 251) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 298) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 232) ، وعزاه لآدم، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «المعرفة» . [.....]
(4) تقدم.
(5) وقرأ بها أبان بن تغلب.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (152) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 252) ، و «البحر المحيط» (8/ 214) ، و «الدر المصون» (6/ 268) .
(5/371)
أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)
[سورة الواقعة (56) : الآيات 81 الى 84]
أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)
وقوله تعالى: أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ: / يعني القرآن المتضمن البعث، ومُدْهِنُونَ معناه: يلاينُ بعضُكم بعضاً، ويتبعه في الكفر مأخوذ من الدُّهْنِ للينه واملاسِّه، وقال ابن عباس «1» : المُدَاهَنَةُ: هي المهاودة فيما لا يَحِلُّ، والمُدَارَاةُ: هي المهاودة فيما يَحِلُّ، ونقل الثعلبيُّ أَنَّ أدهن وداهن بمعنى واحد، وأصله من الدُّهْنِ، انتهى.
وقوله سبحانه: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ: أجمع المفسرون على أَنَّ الآيةَ توبيخ للقائلين في المطر الذي ينزله اللَّه تعالى رزقاً للعباد: هذا بِنَوْءِ كذا، والمعنى:
وتجعلون شُكْرَ رزقكم، وحكى الهيثم بن عدي أَنَّ من لغة أزد شنوءة: ما رزق فلان بمعنى ما شكر، وكان عليٌّ يقرأ «2» : «وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ» وكذلك قرأ ابن عباس «3» ، ورويت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد أخبر اللَّه سبحانه فقال: وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ [ق: 9، 10، 11] فهذا معنى قوله: أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ أي: بهذا الخبر، قال ع «4» : والمنهيُّ عنه هو أَنْ يعتقد أَنَّ للنجوم تأثيراً في المطر.
وقوله سبحانه: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ يعني: بلغت نفسُ الإنسان، والحُلْقُومُ:
مجرى الطعام، وهذه الحال هي نزع المرء للموت.
وقوله: وَأَنْتُمْ إشارة إلى جميع البشر حينئذ، أي: وقتَ النزع تَنْظُرُونَ: إليه، وقال الثعلبيُّ: وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ إلى أمري وسلطاني، يعني: تصريفه سبحانه في الميت، انتهى، والأَوَّلُ عندي أحسن، وعزاه الثعلبيّ لابن عبّاس.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 85 الى 87]
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 661) ، برقم: (33551) ، عن مجاهد، وذكره ابن عطية (5/ 252) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 233) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(2) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (152) ، و «المحتسب» (2/ 310) ، و «الكشاف» (4/ 469) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 252) ، و «البحر المحيط» (8/ 214) ، و «الدر المصون» (6/ 269) .
(3) ينظر: مصادر القراءة السابقة.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 253) .
(5/372)
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ أي: / بالقدرة والعلم، ولا قدرةَ لكم على دفع شيء عنه، وقيل: المعنى: وملائكتنا أقربُ إليه منكم، ولكن لا تبصرونهم، وعلى التأويل الأَوَّل من البصر بالقلب.
فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ أي: مملوكين أَذِلاَّءَ، والمدين: المملوك، هذا أَصَحُّ ما يقال في هذه اللفظة هنا، ومَنْ عبَّرَ عنها بمُجَازَى أو بُمُحَاسَبٍ، فذلك هنا قلق، والمملوك مُقَلَّبٌ كيف شاء المالكُ، ومن هذا الملك قول الأخطل: [الطويل]
رَبَتْ وَرَبَا فِي حَجْرِهَا ابن مَدِينَةٍ ... تَرَاهُ على مِسْحَاتِهِ يَتَرَكَّلُ «1»
أراد ابن أَمَةٍ مملوكة، وهو عبد يخدم الكرم، وقد قيل في معنى البيت: [إِنَّه] أراد أَكَّاراً حضرياً، فنسبه إلى المدينة، فمعنى الآية: فهل لا ترجعون النفسَ البالغة الحلقوم إِنْ كنتم غير مملوكين مقهورين؟.
وقوله: تَرْجِعُونَها سَدَّ مَسَدَّ الأجوبة، والبيانات التي تقتضيها التحضيضات.
[سورة الواقعة (56) : الآيات 88 الى 90]
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90)
وقوله تعالى: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ الآية، ذكر سبحانه في هذه الآيةِ حال الأزواج الثلاثةَ المذكورين في أَولِ السورة، وحال كلّ امرئ منهم، فَأَمَّا المرءُ من السابقين المقربين، فَيَلْقَى عند موته رَوْحاً وريحاناً، والرَّوْحَ: الرحمة والسعة والفرح ومنه: [وَلا تَيْأَسُوا مِنْ] رَوْحِ اللَّهِ [يوسف: 87] والريحان: الطيب، وهو دليل النعيم، وقال مجاهد «2» : الريحان: الرزق، وقال الضَّحَّاكُ «3» : الريحان الاستراحة، قال ع «4» :
الريحان ما تنبسط إليه النفوس، ونقل الثعلبيُّ عن أبي العالية قال: لا يفارق أحد من
__________
(1) البيت في «ديوانه» (224) .
وينظر: «البحر المحيط» (8/ 214) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 253) ، ويتركل: يفتت ما اجتمع من الرمل بقدميه، وهنا يقصد: رمل الكرم الذي زرعت فيه أم الخمرة، واصفا مهارة صاحب هذا الكرم.
(2) أخرجه الطبري (11/ 666) ، برقم: (33579) ، وذكره البغوي (4/ 291) ، وابن عطية (5/ 254) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 300) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 239) ، وعزاه لهناد بن السري، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(3) أخرجه الطبري (11/ 665) برقم (33577) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية (5/ 254) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 240) وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 254) .
(5/373)
فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
المقربين الدنيا حتى يُؤْتَى بغصنٍ من ريحان الجنة فَيَشُمُّهُ، ثم يُقْبَضُ روحه فيه، ونحوه عن الحسن «1» ، انتهى.
فإنْ أردت يا أخي اللحوق بالمقربين والكون في زمرة السابقين، فاطرح عنك دنياك وأقبلْ/ على ذكر مولاك، واجعل الآن الموت نصب عينيك، قال الغزاليُّ: وإنَّما علامةُ التوفيق أَنْ يكون الموت نصبَ عينيك، ولا تغفل عنه ساعة، فليكنِ الموتُ على بالك يا مسكين فإنَّ السير حاثٌّ بك، وأنت غافل عن نفسك، ولعلك قد قاربت المنزلَ، وقطعت المسافة فلا يكن اهتمامُك إلاَّ بمبادرة العمل، اغتناماً لكل نَفَسٍ أمهلتَ فيه، انتهى من «الإحياء» ، قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: ما مِنْ مَيِّتٍ يموت، إلاَّ عرض عليه أهل مجلسه: إنْ كان من أهل الذِّكْرِ فمن أهل الذكر، وإِنْ كان من أهل اللهو فمن أهل اللهو، انتهى «2» .
[سورة الواقعة (56) : الآيات 91 الى 96]
فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
وقوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ: عبارة تقتضي جملةَ مدحٍ وصفةَ تخلُّصٍ، وحصولَ عالٍ من المراتب، والمعنى: ليس في أمرهم إلاَّ السلامُ والنجاةُ من العذاب وهذا كما تقول في مدح رجل: أَمَّا فلان فناهيك به، فهذا يقتضي جملةً غيرَ مفصلة من مدحه، وقدِ اضطربت عباراتُ المُتَأَوِّلِينَ في قوله تعالى: فَسَلامٌ لَكَ فقال قوم: المعنى: فيقال له سلام لك إنَّكَ من أصحاب اليمين، وقال الطبريُّ «3» : فَسَلامٌ لَكَ: أنت من أصحاب اليمين، وقيل: المعنى: فسلام لك يا محمد، أي: لا ترى فيهم إلاَّ السلامة من العذاب.
ت: ومن حصلت له السلامةُ من العذاب فقد فاز دليله فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [آل عمران: 185] قال ع «4» : فهذه الكاف في لَكَ إمَّا أن تكون للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو الأظهر، ثم لكل مُعْتَبِرٍ فيها من أُمَّتِهِ، وإمَّا أَنْ تكونَ لمن يخاطب من
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 666) برقم (33582) عن أبي العالية، وعن الحسن برقم (33581) ، وذكره البغوي (4/ 291) ، وابن عطية (5/ 254) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 300) عن أبي العالية، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 240) ، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية.
(2) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (329) ، برقم: (939) .
(3) ينظر: «تفسير الطبري» (11/ 667) .
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 254) . [.....]
(5/374)
أصحاب اليمين، وغيرُ هذا- مِمَّا قيل- تَكَلُّفٌ، ونقل الثعلبيُّ/ عن الزَّجَّاج: فَسَلامٌ لَكَ أي: إنَّك ترى فيهم ما تحب من السلامة، وقد علمتَ ما أَعَدَّ اللَّه لهم من الجزاء بقوله:
فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ الآيات ...
والمكذبون الضالُّون: هم الكفار، أصحابُ الشمال والمشأَمة، والنُّزُلُ: أول شيء يقدم للضيف، والتصلية: أنْ يباشر بهم النار، والجحيم معظم النار وحيث تراكمها.
إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ المعنى: إنَّ هذا الخبرَ هو نفس اليقين وحقيقتُه.
وقوله تعالى: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ عبارة تقتضي الأمر بالإِعراض عن أقوال الكفار وسائر أمور الدنيا المختصة بها، وبالإقبال على أمور الآخرة وعبادة اللَّه تعالى، والدعاء إليه.
ت: وعن جابر بن عبد اللَّه قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ [الْعَظِيمِ] وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ في الْجَنَّةِ» «1» . رواه الترمذي، والنسائِيُّ، والحاكمُ، وابنُ حِبَّانَ في «صحيحيهما» ، وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، وعند النسائِيِّ:
«شَجَرَةَ» بدل «نَخْلَةَ» ، وعنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ مِمَّا تَذْكُرُونَ مِنْ جَلاَلِ اللَّهِ التَسْبِيحَ، وَالتَّهْلِيلَ، وَالتَّحْمِيدَ يَنْعَطِفْنَ حَوْلَ الْعَرْشِ، لَهُنَّ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحْلِ، تُذَكِّرُ بِصَاحِبِهَا، أَمَا يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ أَوْ لاَ يَزَالَ لَهُ مَنْ يذكّر به» «2» ، ورواه
__________
(1) أخرجه الترمذي (5/ 511) ، كتاب «الدعوات» باب: (60) (3464) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 207) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ثواب من قال: سبحان الله العظيم (10663/ 1) ، والحاكم (1/ 501- 502) ، وابن حبان في «صحيحه» (3/ 109) ، كتاب «الرقاق» باب: الأذكار، ذكر تفضل الله جلّ وعلا بالأمر بغرس النخيل في الجنان لمن سبحه معظما له (826) ، ذكر الخبر المدحض قول من زعم أن هذا الخبر تفرد به حجاج الصواف (827) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير عن جابر. اهـ.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي، وقال: على شرط البخاري فقط اهـ.
وللحديث شاهد من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، أخرجه البزار (3079) - كشف.
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 97) ، رواه البزار وإسناده جيد.
(2) أخرجه ابن ماجه (2/ 1252) ، كتاب «الأدب» باب: فضل التسبيح (3809) ، والحاكم (1/ 500) .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي وقال: موسى بن سالم: قال أبو حاتم: منكر الحديث.
قال البوصيري في «الزوائد» : هذا إسناد صحيح رجاله ثقات، وأخو عوف اسمه عبيد الله بن عتبة.
(5/375)
أيضاً ابن المبارك في «رقائقه» عن كعب، وفيه أيضاً عن كعب أَنَّهُ قال: «إنَّ لِلْكَلاَمِ الطَّيِّبِ حَوْلَ الْعَرْشِ دَوِيًّا كَدَوِيِّ النَّحْلِ يُذَكِّرْنَ بِصَاحِبِهِنَّ» انتهى، وعن أبي هريرةَ «أَنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم مَرَّ بِهِ وَهُوَ يَغْرِسُ غَرْساً فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا الَّذِي تَغْرِسُ؟ قُلْتُ: غِرَاساً، قَالَ: أَلاَ أَدُلُّكَ عَلَى غِرَاسٍ خَيْرٍ مِنْ هذا؟ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إله إلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ يُغْرَسْ لَكَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ/ شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ» روى هذين الحديثين ابن ماجه واللفظ له، والحاكم في «المستدرك» ، وقال في الأول: صحيحٌ على شرط مُسْلِمٍ، انتهى من «السلاح» ، ورَوَى عُقْبَةُ بن عامر قال: «لَمَّا نزلتْ: فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: اجْعَلُوهَا في رُكُوعِكُمْ فَلَمَّا نَزَلَتْ: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَالَ: اجْعَلُوهَا في سُجُودِكُمْ» «1» ، فيحتمل أنْ يكونَ المعنى: سبح اللَّه بذكر أسمائه العلا، والاسم هنا بمعنى: الجنس، أي:
بأسماء ربك، والعظيم: صفة للرب سبحانه، وقد يحتمل أَنْ يكون الاسم هنا واحداً مقصوداً، ويكون «العظيم» صفة له، فكأَنَّه أمره أَنْ يسبِّحَهُ باسمه الأعظم، وإنْ كان لم يَنُصَّ عليه، ويؤيِّدُ هذا ويشير إليه اتصالُ سورة الحديد وأوَّلُها فيها التسبيح، وجملة من أسماء اللَّه تعالى، وقد قال ابن عباس «2» : اسم اللَّه الأعظم موجود في سَتِّ آيات من أَوَّلِ سورة الحديد، فتأمَّل هذا، فإنَّهُ من دقيق النظر، وللَّه تعالى في كتابه العزيز غوامضُ لا تكاد الأذهان تدركها.
__________
(1) أخرجه أبو داود (1/ 292) ، كتاب «الصلاة» باب: ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده (869) ، وابن ماجه (1/ 287) ، كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب: التسبيح في الركوع والسجود (887) ، وأحمد (4/ 155) ، والدارمي (1/ 299) ، كتاب «الصلاة» باب: ما يقال في الركوع، وابن خزيمة (1/ 303) ، جماع أبواب الأذان والإقامة باب: الأمر بتعظيم الرب جلّ وعلا في الركوع (600) ، والبيهقي (2/ 86) ، كتاب «الصلاة» باب: القول في الركوع، والحاكم (1/ 225) ، (2/ 477) ، وابن حبان (5/ 225) ، كتاب «الصلاة» باب: صفة الصلاة (1899) .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه على ذلك الذهبي.
في «نصب الراية» (1/ 376) قال الزيلعي: قال يعني الحاكم: وقد اتفقا على الاحتجاج بروايته غير إياس بن عامر، وهو صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 255) .
(5/376)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
تفسير سورة الحديد
وهي مدنيّة ويشبه صدرها أن يكون مكيّا روي عن ابن عبّاس «1» : أنّ اسم الله الأعظم هو في سَتِّ آيات من أَوَّلِ سورة الحديد، وروي أنّ الدعاء بعد قراءتها مستجاب.
[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)
قوله عز وجل: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ: قال أكثر المفسرين: التسبيح هنا هو التنزيه المعروف في قولهم: سبحان اللَّهِ، وهذا عندهم إخبار بصيغة الماضي مضمنه الدوامُ والاستمرارُ، ثم اختلفوا: هل هذا التسبيح حقيقةٌ أو مجاز على معنى أَنَّ أثر الصنعة فيها تُنَبِّهُ الرائي على التسبيح؟ قال الزَّجَّاجُ «2» وغيره: والقول بالحقيقة أحسن، وهذا كله في الجمادات، وأَمَّا ما يمكن التسبيح منه فقول واحد: إن تسبيحهم حقيقة.
وقوله تعالى: هُوَ الْأَوَّلُ [أي] : [الذي] ليس لوجوده بداية مُفْتَتَحَةٌ وَالْآخِرُ:
الدائم الذي ليس له نهاية منقضية، قال أبو بكر الوَرَّاق: هُوَ الْأَوَّلُ: بالأزلية وَالْآخِرُ: بالأبديَّة.
وَالظَّاهِرُ: معناه بالأدِلَّةِ ونظر العقول في صنعته.
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 256) .
(2) ينظر: «معاني القرآن» (5/ 121) .
(5/377)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
وَالْباطِنُ: بلطفه وغوامضِ حكمته وباهِرِ صفاته التي لا تصل إلى معرفتها على- ما هي عليه- الأوهامُ، وباقي الآية تقدم تفسيرُ نظيره.
وقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ معناه: بقدرته وعلمه وإحاطته، وهذه آية أجمعت الأُمَّةُ على هذا التأويل فيها، وباقي الآية بيّن.
[سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 9]
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)
وقوله سبحانه: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... الآية: أمر للمؤمنين بالثبوت على الإيمان، ويُرْوَى أَنَّ هذه الآية نزلت في غزوة العُسْرَةِ، قاله الضَّحَّاكُ «1» ، وقال: الإشارة بقوله: فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا إلى عثمانَ بن عفان، يريد: ومَنْ في معناه كعبد الرحمن بن عوف، وغيره.
وقوله: مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ: تزهيد وتنبيه على أَنَّ الأَموال إنَّما تصير إلى الإنسان من غيره، ويتركها لغيره، وليس له من ذلك إِلاَّ ما أكل فأفنى، أو تصدق فأمضى، ويروى أَنَّ رجلاً مَرَّ بأعرابيٍّ له إبل فقال له: يا أَعرابيُّ، لِمَنْ هذه الإبل؟ قال: هي للَّه عندي، فهذا مُوَفَّقٌ مصيب إنْ صحب قوله عمله.
وقوله سبحانه: وَما لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ... الآية: توطئةٌ لدعائهم (رضي اللَّه عنهم) لأَنَّهُمْ أهل هذه/ الرُّتَبِ الرفيعة، وإذا تقرر أَنَّ الرسولَ يدعوهم، وأَنَّهم مِمَّنْ أخذ اللَّه ميثاقهم- فكيف يمتنعون من الإيمان؟.
وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: إن دمتم على إيمانكم، والظُّلُماتِ: الكفر، والنُّورِ: الإيمان، وباقي الآية وعد وتأنيس.
[سورة الحديد (57) : الآيات 10 الى 11]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
وقوله تعالى: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 258) .
(5/378)
[المعنى: وما لكم أَلاَّ تنفقوا في سبيل اللَّه، وأَنتم تموتون وتتركون أموالكم، فناب منابَ هذا القول قوله: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ] وفيه زيادة تذكير باللَّه وعبرة، وعنه يلزم القولُ الذي قدرناه.
وقوله تعالى: لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ ... الآية: الأشهر في هذه الآية أَنَّها نزلت بعد الفتح، واخْتُلِفَ في الفتح المشار إليه فقال أبو سعيد الخُدْرِيُّ والشَّعْبِيُّ «1» : هو فتح الحديبية، وقال قتادة، ومجاهد، وزيد بن أسلم «2» : هو فتح مكة الذي أزال الهجرة، قال ع «3» : وهذا هو المشهور الذي قال فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ» «4» ، وحكم الآية باقٍ غابرَ الدهر مَنْ أنفق في وقت حاجة
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 674) ، برقم: (33610) عن أبي سعيد الخدري، وذكره البغوي (4/ 294) عن الشعبي، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 249) عن أبي سعيد الخدري، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم في «الدلائل» من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري.
(2) أخرجه الطبري (11/ 673- 674) ، برقم: (33604- 33605) عن قتادة، وزيد بن أسلم، وذكره ابن عطية (5/ 259) ، والسيوطي (6/ 248- 249) عن قتادة، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 259) .
(4) ورد ذلك من حديث ابن عبّاس، وعائشة، ومجاشع بن مسعود، وصفوان بن أمية، ويعلى بن أمية التيمي، وقول ابن عمر، وقول عمر، وحديث أبي سعيد الخدري.
فأما حديث ابن عبّاس: فأخرجه البخاري (6/ 45) في «الجهاد» باب: وجوب النفير (2825) ، (6/ 219) باب: لا هجرة بعد الفتح (3077) ، ومسلم (3/ 1487) ، في «الإمارة» باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير، وبيان معنى: لا هجرة بعد الفتح (85/ 1353) ، وأبو داود (2/ 6) ، في «الجهاد» باب: في الهجرة هل انقطعت (2480) ، والنسائي (7/ 146) ، في «البيعة» باب:
الاختلاف في انقطاع الهجرة، والترمذي (1590) ، وأحمد (1/ 266، 315، 316، 344) ، وعبد الرزاق (5/ 309) (9713) ، والدارمي (2/ 239) ، في «السير» باب: لا هجرة بعد الفتح، وابن حبان (7/ 4845) ، والطبراني في «الكبير» (11/ 30- 31) (10944) ، وابن الجارود في «المنتقى» (1030) ، والبيهقي (5/ 195) ، و (9/ 16) ، وفي «دلائل النبوة» (5/ 108) ، والبغوي في «شرح السنة» بتحقيقنا (4/ 179) (1996) ، و (5/ 520) (2630) من طريق منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عبّاس مرفوعا به.
وتابعه إبراهيم بن يزيد عن عمرو بن دينار عن طاوس، أخرجه الطبراني (11/ 18) (10898) .
وأخرجه الطبراني (10/ 413) (10844) ، عن شيبان عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عبّاس.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وأما حديث عائشة: أخرجه البخاري (6/ 220) في «الجهاد» باب: لا هجرة بعد الفتح (3080) (7/ 267) ، في «مناقب الأنصار» باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة (3900) (70/ 620) ، في-
(5/379)
السبيل، أعظم أجراً مِمَّن أنفق مع استغناء السبيل، والْحُسْنى: الجنة، قاله مجاهد
__________
«المغازي» باب: (53) (4312) ، ومسلم (3/ 1488) في «الإمارة» باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير ... (86- 1864) ، وأبو يعلى (4952) ، واللفظ لمسلم، ولأبي يعلى من طريق عطاء عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الهجرة؟ فقال: «لا هجرة بعد الفتح ... » الحديث.
وفي لفظ البخاري عن عطاء قال: زرت عائشة مع عبيد بن عمير. فسألها عن الهجرة؟ فقالت: لا هجرة لليوم، كان المؤمن يفر أحدهم بدينه إلى الله وإلى رسوله مخافة أن يفتن عليه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، فالمؤمن يعبد ربه حيث شاء، ولكن جهاد ونية.
وهكذا: أخرجه البيهقي (9/ 17) .
وأما حديث مجاشع بن مسعود: أخرجه البخاري (6/ 137) في «الجهاد» باب: البيعة في الحرب ألا يفروا.. (2962- 2963) ، (6/ 219) ، باب: لا هجرة بعد الفتح (3078- 3079) ، و (7/ 619) ، في «المغازي» باب: (53) (4305، 4308) ، ومسلم (3/ 1487) ، في «الإمارة» باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام والجهاد والخير (83- 84/ 1863) ، وأحمد (3/ 468- 469) ، و (5/ 71) ، والحاكم (3/ 316) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (3/ 252) ، والبيهقي (9/ 16) ، وفي «الدلائل» (5/ 109) من طريق أبي عثمان النهدي، حدثني مجاشع قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم بأخي بعد الفتح، فقلت:
يا رسول الله، جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة. قال: «ذهب أهل الهجرة بما فيها» ، فقلت: على أي شيء تبايعه؟ قال: «أبايعه على الإسلام، والإيمان، والجهاد» ، فلقيت معبدا بعد- وكان أكبرهما- فسألته؟ فقال: صدق مجاشع.
وأما حديث صفوان بن أمية: أخرجه النسائي (7/ 145) في «البيعة» باب: الاختلاف في انقطاع الهجرة، وأحمد (3/ 401) عن وهيب بن خالد عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن صفوان بن أمية، قال:
قلت: يا رسول الله إنهم يقولون: إن الجنة لا يدخلها إلّا مهاجر. قال: «لا هجرة بعد فتح مكة، ولكن جهاد ونية. فإذا استنفرتم فانفروا» .
وأخرجه أحمد (3/ 401) ، و (6/ 465) عن الزهري عن صفوان بن عبد الله بن صفوان عن أبيه، أن صفوان بن أمية بن خلف قيل له: هلك من لم يهاجر. قال: فقلت: لا أصل إلى أهلي حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فركبت راحلتي، فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا رسول الله، زعموا أنه هلك من لم يهاجر.
قال: «كلا أبا وهب، فارجع إلى أباطح مكة» .
وأما حديث يعلى بن أمية: أخرجه النسائي (7/ 141) ، في «البيعة» باب: البيعة على الجهاد، (7/ 145) ، في ذكر الاختلاف في انقطاع الهجرة، وأحمد (4/ 323- 324) ، والطبراني في «الكبير» (22/ 257) (664- 665) ، والبيهقي (9/ 16) من طريق ابن شهاب عن عمرو بن عبد الرحمن بن أمية، أن أباه أخبره: أن يعلى قال: جئت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأبي يوم الفتح. فقلت: يا رسول الله، بايع أبي على الهجرة. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أبايعه على الجهاد وقد انقطعت الهجرة» .
وأما حديث أبي سعيد الخدري: أخرجه أحمد (3/ 22) ، و (5/ 187) ، والطيالسي (601، 967، 2205) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 109) ، عن أبي البختري الطائي يحدث عن أبي سعيد الخدري، قال: لما نزلت هذه السورة: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ ... قرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى ختمها وقال: «الناس خير، وأنا وأصحابي خير» ، وقال: «لا هجرة بعد الفتح. ولكن جهاد ونية» ، فحدثت به مروان بن الحكم وكان على المدينة فقال له مروان: كذبت، وعنده رافع بن
(5/380)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
وقتادة «1» ، والقرض: السلف، والتضعيفُ من اللَّه تعالى هو في الحسنات، وقد مَرَّ ذِكْرُ ذلك، والأجر الكريم الذي يقترن به رضى وإقبال، وهذا معنى الدعاء ب «يا كريم» العفو، أي: إنّ مع عفوه رضى وتنعيما.
[سورة الحديد (57) : الآيات 12 الى 13]
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13)
وقوله سبحانه: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ... الآية، العامل في يَوْمَ قوله: وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ والرؤية هنا رؤية عينٍ، والجمهور أَنَّ النورَ هنا هو نور حقيقة، وقد روي في هذا عن ابن عباس وغيره «2» آثار مضمنها: أَنَّ كل مؤمن ومُظْهِرٍ للإيمان، يُعْطَى/ يومَ القيامة نوراً فَيُطْفَأُ نُورُ كُلِّ منافقٍ، ويبقى نورُ المؤمنين، حتى إِنَّ منهم مَنْ نورُه يضيء كما بين مكّة وصنعاء رفعه قتادة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم «3» ، ومنهم مَنْ نوره كالنخلة السحوق، ومنهم مَنْ نورُه يضيء ما قَرُبَ من قدميه قاله ابن مسعود «4» ، ومنهم مَنْ يَهُمُّ بالانطفاء مرة وَيَبِينُ مرة على قدر المنازل في الطاعة والمعصية، قال
__________
- خديج، وزيد بن ثابت، وهما قاعدان معه على السرير، فقال أبو سعيد: لو شاء هذان لحدثاك، ولكن هذا يخاف أن تنزعه من عرافة قومه، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة، فسكتا، فرفع مروان عليه الدّرة ليضربه، فلما رأيا ذلك قالا: صدق.
أما قول ابن عمر: فأخرجه البخاري (7/ 267) ، في «مناقب الأنصار» باب: هجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة (3899) ، و (7/ 620) في «المغازي» باب: (53) (4309، 4311) ، من طريق عطاء عن ابن عمر كان يقول: لا هجرة بعد الفتح.
وفي لفظ آخر: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: إني أريد أن أهاجر إلى الشام. قال: لا هجرة، ولكن جهاد، فانطلق فاعرض نفسك، فإن وجدت شيئا وإلّا رجعت.
وأما قول عمر: أخرجه النسائي (7/ 146) ، في «البيعة» باب: الاختلاف في انقطاع الهجرة، وأبو يعلى في «مسنده» (186) عن شعبة عن يحيى بن هانىء عن نعيم بن دجاجة قال: سمعت عمر يقول: لا هجرة بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(1) أخرجه الطبري (11/ 675) ، برقم: (33612) ، وذكره ابن عطية (5/ 260) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 248) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر. [.....]
(2) ذكره ابن عطية (5/ 261) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 251) ، وعزاه لابن جرير، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث» .
(3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 250) ، وعزاه إلى عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(4) أخرجه الحاكم موقوفا على ابن مسعود رضي الله عنه (2/ 478) ، ومثل هذا له حكم الرفع لأن ليس-
(5/381)
الفخر «1» : قال قتادة «2» : ما من عبد إلاَّ وينادى يوم القيامة: يا فلان، هذا نورك، يا فلان، لا نورَ لك، نعوذ باللَّه من ذلك! واعلم أَنَّ العلمَ الذي هو نور البصيرة أولى بكونه نوراً من نور البصر، وإذا كان كذلك ظهر أَنَّ معرفة اللَّه تعالى هي النورُ في القيامة، فمقادير الأنوار يومَ القيامة على حسب مقادير المعارف في الدنيا، انتهى، ونحوه للغزالي، وخَصَّ تعالى بين الأيدي بالذكر لأَنَّهُ موضع حاجة الإنسان إلى النور، واخْتُلِفَ في قوله تعالى:
وَبِأَيْمانِهِمْ فقال بعض المتأولين: المعنى: وعن أيمانهم، فكأَنَّه خَصَّ ذكر جهة اليمين تشريفاً، وناب ذلك مَنَابَ أَنْ يقول: وفي جميع جهاتهم، وقال جمهور المفسرين:
المعنى: يسعى نورُهم بين أيديهم، يريد الضوء المنبسط من أصل النور، وَبِأَيْمانِهِمْ:
أصله، والشيءُ الذي هو مُتَّقَدٌ فيه، فتضمن هذا القولُ أَنَّهم يحملون الأنوار، وكونهم غير حاملين أكرم أَلاَ ترى أَنَّ فضيلةَ عباد بن بشر وأسيد بن حضير إنَّما كانت بنور لا يحملانه، هذا في الدنيا، فكيف بالآخرة؟! ت: وفيما قاله ع «3» : عندي نظر، وأَيضاً فأحوال الآخرة لا تُقَاسُ على أحوال الدنيا!.
وقوله تعالى: بُشْراكُمُ أي: يقال لهم: بشراكم جَنَّاتٌ أي دخولُ جنات.
ت: وقد جاءت- بحمد اللَّه- آثار بتبشير هذه الأُمَّةِ المحمديَّةِ، وخَرَّجَ ابن ماجة قال: أخبرنا جُبَارة بن المغلِّس، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن أبي بردة، عن أبيه قال: قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا جَمَعَ [اللَّهُ] الخَلاَئِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَذِنَ لأمّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم في السُّجُودِ، فَسَجَدُوا طَوِيلاً، ثُمَّ يُقَالُ: ارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ، فَقَدْ جَعَلْنَا عِدَتَكُمْ فِدَاءَكُمْ مِنَ النَّارِ» «4» ، قال ابن ماجه: وحدَّثنا جُبَارَةُ بْنُ المُغَلِّسِ، حدثنا كِثِيرُ بن سليمان: عن أنس بن مالك، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ هذه الأُمَّةَ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، عَذَابُهَا بِأَيْدِيهَا، فَإذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دُفِعَ إلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ رَجُلٌ مِنَ المُشْرِكِينَ فَيُقَالُ: هذا فداؤك من
__________
مما يقال بالرأي، وابن جرير (11/ 676) (33616) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 250) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي، وقال: بل على شرط البخاري فقط.
(1) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (29/ 194) عن مجاهد.
(2) ذكره ابن كثير في «تفسيره» عن جنادة بن أمية (4/ 308) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 250) ، وعزاه لابن المنذر عن يزيد بن شجرة.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 261) .
(4) أخرجه ابن ماجه (2/ 1434) ، كتاب «الزهد» باب: صفة محمّد صلّى الله عليه وسلّم (4291) ، قال البوصيري في «الزوائد» : هذا إسناد ضعيف لضعف جبارة بن المغلس.
(5/382)
النَّارِ» «1» ، وفي «صحيح مسلم» : «دَفَعَ اللَّهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقُولُ: هذا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ» انتهى من «التذكرة» «2» .
وقوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ قيل: يَوْمَ هو بدل من الأول، وقيل:
العامل فيه «اذكر» ، قال ع «3» : ويظهر لي أَنَّ العاملَ فيه قوله تعالى: ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ويجيء معنى الفوز أَفْخَمَ كأَنَّهُ يقول: إنَّ المؤمنين يفوزون بالرحمة يومَ يعتري المنافقين كذا وكذا، لأَنَّ ظهورَ المرء يومَ خمول عَدُوِّه ومُضَادِّهِ أَبْدَعُ وأَفْخَمُ، وقول المنافقين هذه المقالةَ المحكية، هو عند انطفاء أنوارهم، كما ذكرنا قبل، وقولهم:
«انْظُرُونَا» معناه: انتظرونا، وقرأ حمزة وحده «4» : «انظرونا» - بقطع الألف وكسر/ الظاء- ومعناه أَخِّرُونا ومنه: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ومعنى قولهم أَخِّرونا، أي: أخِّروا مشيَكم لنا حَتَّى نلتحق فنقتبسَ من نوركم، واقتبس الرجل: أخذ من نور غيره قَبَساً، قال الفخر «5» :
القَبَسُ: الشعلة من النار والسراج، والمنافقون طَمِعُوا في شيء من أنوار المؤمنين، وهذا منهم جهل لأَنَّ تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا، وهم لم يقدموها، قال الحسن: يُعْطَى يومَ القيامة كُلُّ أحد نوراً على قَدْرِ عمله، ثم يؤخذ من حجر جهنم ومِمَّا فيها من الكلاليب والحسك ويُلْقَى على الطريق، ثم تمضي زمرة من المؤمنينَ، وُجُوهُهُم كالقمر ليلةَ البدر، ثم تمضي زمرة أخرى كأضواء كوكب في السماء، ثم على ذلك، ثم تغشاهم ظلمة تطفئ نورَ المنافقين، فهنالك يقول المنافقون للذين آمنوا: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ، انتهى.
وقوله تعالى: قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ يحتمل أنْ يكون من قول المؤمنين [لهم] ، [ويحتمل أنْ يكون من قول] «6» الملائكة، والقول لهم: فَالْتَمِسُوا نُوراً: هو على معنى
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (2/ 1434) ، كتاب «الزهد» باب: صفة أمة محمّد صلّى الله عليه وسلّم (4292) ، وأحمد (4/ 408) .
قال البوصيري في «الزوائد» : هذا إسناد ضعيف لضعف كثير وجبارة، وقد أعله البخاري، قد تقدم في الحديث الذي قبله.
(2) ينظر: «التذكرة» للقرطبي (2/ 567- 568) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 261) .
(4) ينظر: «السبعة» (626) ، و «الحجة» (6/ 269) ، و «إعراب القراءات» (2/ 350) ، و «حجة القراءات» (699) ، و «العنوان» (186) ، و «شرح شعلة» (598) ، و «شرح الطيبة» (6/ 39) ، و «إتحاف» (2/ 521) ، و «معاني القراءات» (3/ 55) .
(5) ينظر: «الفخر الرازي» (29/ 169) .
(6) سقط في: د. [.....]
(5/383)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
التوبيخ لهم، أي: إنَّكم لا تجدونه، ثم أعلم تعالى أَنَّهُ يضرب بينهم في هذه الحال بسورٍ حاجز، فيبقى المنافقون في ظُلْمَةٍ وعذاب.
وقوله تعالى: باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ أي: جهة المؤمنين وَظاهِرُهُ: جهة المنافقين، والظاهر هنا: البادي ومنه قول الكُتَّابِ: من ظاهر مدينة كذا، وعبارة الثعلبيِّ: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ: وهو حاجز بين الجنة والنار، قال أبو أمامة الباهليُّ «1» : فيرجعون إلى المكان الذي قُسِّمَ فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم، وقد ضُرِبَ بينهم/ بسور، قال قتادة «2» : حائط بين الجنة والنار، له باب باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ، يعني: الجنة، وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ يعني النار، انتهى، قال- ص-: قال أبو البقاء: الباء في بِسُورٍ زائدة، وقيل: ليست بزائدة، قال أبو حيان «3» : والضمير في باطِنُهُ عائدٌ على الباب، وهو الأظهر لأَنَّهُ الأقرب، وقيل: على سور، أبو البقاء: والجملة صفة ل «باب» أو ل «سور» ، انتهى.
[سورة الحديد (57) : الآيات 14 الى 15]
يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
وقوله تعالى: يُنادُونَهُمْ معناه: ينادي المنافقون المؤمنين: أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ: في الدنيا، فيردّ المؤمنون عليهم: بَلى: كنتم معنا، ولكن عَرَّضْتُمْ أنفسكم للفتنة، وهي حُبُّ العاجل والقتال عليه، قال مجاهد «4» : فتنتم أنفسكم بالنفاق وتَرَبَّصْتُمْ معناه هنا:
بإيمانكم فأبطأتم به، حَتَّى مُتُّم، وقال قتادة «5» : معناه: تربصتم بنا وبمحمّد صلّى الله عليه وسلّم الدوائرَ، وشككتم، والارتياب: التشكك، والأماني التي غرتهم هي قولهم: سَيَهْلَكُ محمد هذا العام، سَتَهْزِمُهُ قريش، ستأخذه الأحزاب ... إلى غير ذلك من أمانيهم، وطول الأمل:
__________
(1) ذكره ابن كثير في «تفسيره» (4/ 308) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 250) ، وعزاه لابن المبارك، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه، والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن أبي إمامة الباهلي.
(2) أخرجه الطبري (11/ 678) ، برقم: (33621) ، وذكره ابن عطية (5/ 262) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 252) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(3) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 221) .
(4) أخرجه الطبري (11/ 679) ، برقم: (33629) ، وذكره ابن عطية (5/ 263) .
(5) أخرجه الطبري (11/ 679) ، برقم: (33631) ، وذكره ابن عطية (5/ 263) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 309) .
(5/384)
غرار لكل أحد، وأمر اللَّه الذي جاء هو: الفتح وظهور الإسلام، وقيل: هو موتهم على النفاق الموجب للعذاب، والْغَرُورُ: الشيطان بإجماع المتأولين، وينبغي لكل مؤمن أَنْ يعتبر هذه الآيةَ في نفسه، وتسويفَه في توبته، واعلم أيها الأخ أَنَّ الدنيا غَرَّارة للمقبلين عليها، فإنْ أردت الخلاص والفوز بالنجاة، فازهدْ فيها، وأقبلْ على ما يعنيك من إصلاح دينك والتزود لآخرتك، وقد روى ابن المبارك في «رقائقه» عن أبي الدرداء أَنَّهُ قال- يعني لأصحابه-: لَئِنْ حَلَفْتُم لي على رجل منكم/ أَنَّه أزهدكم، لأحلفنَّ لكم أنَّه خيركم «1» ، وروى ابن المبارك بسنده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «يَبْعَثُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِهِ كَانَا عَلَى سِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، أَحَدُهُمَا مَقْتُورٌ عَلَيْهِ، وَالآخَرُ مَوَسَّعٌ عَلَيْهِ [فَيُقْبِلُ المَقْتُورُ عَلَيْهِ] «2» إلَى الجَنَّةِ، وَلاَ يَنْثَنِي عَنْهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى أَبْوَابِهَا، فَيَقُولُ حَجَبَتُهَا: إلَيْكَ إلَيْكَ! فَيَقُولُ: إذَنْ لاَ أَرْجِعَ، قال: وَسَيْفُهُ في عُنُقِهِ فَيَقُولُ: أُعْطِيتُ هذا السَّيْفَ في الدُّنْيَا أُجَاهِدُ بِهِ، فَلَمْ أَزَلْ مُجَاهِداً بِهِ حتى قُبِضْتُ وَأَنَا على ذَلِكَ، فَيَرْمِي بِسَيْفِهِ إلَى الخَزَنَةِ، وَيَنْطَلِقُ، لاَ يُثْنُونَهُ وَلاَ يَحْبِسُونَهُ عَنِ الجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا، فَيَمْكُثُ فِيهَا دَهْراً، ثُمَّ يَمُرُّ بِهِ أَخُوهُ المُوَسَّعُ عَلَيْهِ فَيَقُولُ لَهُ: يَا فُلاَنُ، مَا حَبَسَكَ؟! فَيَقُولُ: مَا خُلِّيَ سَبِيلِي إلاَّ الآن، وَلَقَدْ حُبِسْتُ مَا لَوْ أَنَّ ثَلاَثَمِائَةِ بِعِيرٍ أَكَلَتْ خَمْطاً، لاَ يَرِدْنَ إلاَّ خِمْساً وَرَدْنَ على عِرْقِي لَصَدَرْنَ مِنْهُ رِيًّا «3» » انتهى.
وقوله تعالى: فَالْيَوْمَ لاَ يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ ... الآية: استمرارٌ في مخاطبة المنافقين قاله قتادة وغيره «4» .
وقوله تعالى: هِيَ مَوْلاكُمْ قال المفسرون: معناه: هي أولى بكم، وهذا تفسير بالمعنى، وإنَّما هي استعارة لأَنَّها من حيثُ تَضُمُّهم وتباشِرُهم هي تواليهم وتكون لهم مكانَ المولى، وهذا نحو قول الشاعر: [الوافر]
.............. ... تحيّة بينهم ضرب وجيع «5»
__________
(1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (193) ، برقم: (550) .
(2) سقط في: د.
(3) أخرجه ابن المبارك في الزهد (195) ، برقم: (556) .
(4) أخرجه الطبري (11/ 680) ، برقم: (33638) ، وذكره ابن عطية (5/ 263) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 253) ، وعزاه لعبد بن حميد.
(5) عجز بيت وصدره:
وخيل قد دلفت لها بخيل ... ........
وهو لعمر بن معد يكرب في «ديوانه» ص: (149) ، و «خزانة الأدب» (9/ 252، 257، 258، 261، -
(5/385)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
[سورة الحديد (57) : آية 16]
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16)
وقوله تعالى: أَلَمْ يَأْنِ: ابتداء معنى مستأنف، ومعنى أَلَمْ يَأْنِ: ألم يَحِنْ يقال: أنى الشَّيْءُ يأني إذَا حَانَ، وفي الآية معنى الحَضِّ والتقريع، قال ابن عباس: عُوتِبَ المؤمنون بهذه الآية «1» ، وهذه الآية كانت سَبَبَ توبة الفُضَيْلِ وابن المبارك، والخشوع:
الإخبات والتضامن/ وهي هيئة تظهر في الجوارحَ متى كانت في القلب ولذلك خَصَّ تعالى القلبَ بالذكر، وروى شداد بن أوس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ الخُشُوعُ» «2» .
وقوله تعالى: لِذِكْرِ اللَّهِ أي: لأجل ذكر اللَّه تعالى ووحيه، أو لأجل تذكير اللَّه إيَّاهم وأوامره فيهم، والإشارة في قوله: أُوتُوا الْكِتابَ إلى بني إسرائيل المعاصرين لموسى ع ولذلك قال: مِنْ قَبْلُ وَإنَّما شَبَّه أهل عصر نبيٍّ [بأهل عصر نبيٍّ] .
وقوله: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ قيل: معناه: أَمد الحياة، وقيل: أمد انتظار القيامة، قال الفخر «3» : وقال مقاتل بن حيان: الأمد هنا: الأمل، أي: لما طالت آمالُهم، لا جَرَمَ قَسَتْ قلوبهم، انتهى، وباقي الآية بيّن.
[سورة الحديد (57) : الآيات 17 الى 19]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
__________
262، 263) ، و «شرح أبيات سيبويه» (2/ 200) ، و «الكتاب» (3/ 50) ، و «نوادر أبي زيد» ص:
(150) ، وبلا نسبة في «أمالي ابن الحاجب» (1/ 345) ، و «الخصائص» (1/ 368) ، و «شرح المفصّل» (2/ 80) ، و «الكتاب» (2/ 323) ، و «المقتضب» (2/ 20، 4/ 413) .
(1) ذكره البغوي (4/ 297) ، وابن عطية (5/ 264) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 310) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 254) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(2) أخرجه الطبراني (7/ 354) ، برقم: (7183) من طريق عمران القطان عن قتادة عن الحسن عن شداد بن أوس به.
قال الهيثمي في «المجمع» : عمران بن داود القطان ضعفه ابن معين، والنسائي، ووثقه أحمد، وابن حبان.
(3) ينظر: «تفسير الرازي» (29/ 200) . [.....]
(5/386)
وقوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها ... الآية، مخاطبة لهؤلاء المؤمنين الذين نُدِبُوا إلى الخشوع، وهذا ضرب مَثَلٍ، واستدعاء إلى الخير برفق وتقريب بليغ، أي: لا يبعد عندكم أَيُّها التاركون للخشوع رُجُوعُكُمْ إليه وتلبسكم به، فإنَّ اللَّه يحيي الأرضَ بعد موتها، فكذلك يفعل بالقلوب، يرُدُّهَا إلى الخشوع بعد بُعْدِهَا عنه، وترجع هي إليه إذا وقعت الإنابةُ والتَّكَسُّبُ من العبد بعد نفورها منه، كما يحيي الأرضَ بعد أَنْ كانت ميتة، وباقي الآية بين، والْمُصَّدِّقِينَ: يعني به المتصدقين، وباقي الآية بين.
ت: وقد جاءت آثار صحيحة في الحَضِّ على الصدقة، قد ذكرنا منها جملة في هذا المختصر، وأسند مالك في «الموطأ» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قال: «يَا نِسَاءَ المُؤْمِنَاتِ، لاَ تَحْقِرَنَّ إحْدَاكُنَّ لِجَارَتِهَا، وَلَوْ كُرَاعَ شَاةٍ مُحْرَقاً» «1» وفي «الموطأ» عنه صلّى الله عليه وسلّم/ «رُدُّواْ السَّائِلَ وَلَوْ بِظَلِفٍ مُحْْرَّقٍ» «2» قال ابن عبد البر في «التمهيد» : ففي هذا الحديث الحَضُّ على الصدقة بكل ما أمكن من قليل الأشياء وكثيرها، وفي قول الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] : أوضح الدلائل في هذا الباب، وتصدقت عائشةُ- رضي اللَّه عنها- بحبتين من عنب، فنظر إليها بَعْضُ أهل بيتها فقالت: لا تَعْجَبْنَ فكم فيها من مثقال ذرة، ومن هذا الباب قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اتَّقُوا النَّارَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طيّبة» «3» وإذا كان الله عز وجل يُرْبي الصدقاتِ، ويأخذ الصدقةَ بيمينه فَيُرَبِّيَهَا، كما يُرَبِّي أَحَدُنَا فَلَوَّه أَوْ فَصِيلَهُ- فما بالُ مَنْ عَرَفَ هذا يَغْفُلُ عنه! وما التوفيق إلاَّ باللَّه، انتهى من «التمهيد» ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» قال: أخبرنا حرملة بن عمران أَنَّهُ سَمِعَ يزيد بن أبى حَبِيبٍ يحدّث
__________
(1) أخرجه البخاري (10/ 459) ، كتاب «الأدب» باب: لا تحقرن جارة جارتها (6017) ، ومسلم (2/ 714) ، كتاب «الزكاة» باب: الحث على الصدقة ولو بالقليل (90/ 1030) ، والترمذي (4/ 441) ، كتاب «الولاء والهبة» باب: في حث النبي صلّى الله عليه وسلّم على التهادي (2130) ، وأحمد (2/ 264، 432، 493، 506) ، والبيهقي (41/ 177) كتاب «الزكاة» باب: التحريض على الصدقة وإن قلت، (6/ 169) ، كتاب «الهبات» باب: التحريض على الهبة والهدية صلة بين الناس.
(2) أخرجه النسائي (5/ 81) ، كتاب «الزكاة» باب: رد السائل (2565) ، وأحمد (4/ 70) ، والبيهقي (4/ 177) ، وابن حبان (3/ 723) - الموارد (825) ، وابن خزيمة (4/ 111) (2472) .
(3) أخرجه البخاري (3/ 332) ، كتاب «الزكاة» باب: اتقوا النار ولو بشق تمرة، والقليل من الصدقة (1417) (11/ 408) كتاب «الرقاق» باب: من نوقش الحساب عذب (6540) ، (13/ 482) ، كتاب «التوحيد» باب: كلام الرب عز وجل يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم (7512) ، ومسلم (2/ 703) ، كتاب «الزكاة» باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة، فإنها حجاب من النار (66، 77، 78، 68/ 1016) ، وابن حبان (2/ 220) ، كتاب «البر والإحسان» باب: حسن الخلق (473) ، (2/ 440) كتاب «الرقاق» باب: الخوف والتقوى (666) ، (7/ 43) ، كتاب «الصلاة» باب: صلاة الجمعة (2804) ، وأحمد (4/ 256) ، والنسائي (5/ 75) ، كتاب «الزكاة» باب: القليل من الصدقة (2553) .
(5/387)
أَنَّ أبا الخَيْرِ حدَّثه: أنَّه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «كلّ امرئ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ» «1» قال يزيد: فكان أبو الخير لا يخطئه يومٌ إلاَّ تصدق فيه بشيء، ولو كَعْكَةً أو بصلة أو كذا، انتهى، والصِّدِّيقُونَ: بناء مبالغة من الصدق أو من التصديق على ما ذكر الزَّجَّاج «2» .
وقوله تعالى: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ: اخْتُلِفَ في تأويله فقال ابن مسعود وجماعة:
وَالشُّهَداءُ: معطوف على: الصِّدِّيقُونَ والكلامُ متَّصل، ثم اختلفتْ هذه الفرقةُ في معنى هذا الاتصال، فقال بعضها: وَصَفَ اللَّه المؤمنين بأَنَّهم صديقون وشهداء، فَكُلُّ مؤمن شهيد/ قاله مجاهد «3» ، وروى البَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ أَنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مُؤْمِنُو أُمَّتِي شُهَدَاءُ، وَتَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية «4» وإنّما خصّ صلّى الله عليه وسلّم ذكر الشهداء السبعة تشريفاً لهم لأَنَّهُم في أعلى رتب الشهادة أَلاَ ترى أَنَّ المقتولَ في سبيل اللَّه مخصوصٌ أيضاً من السبعة بتشريف ينفرد به، وقال بعضها: الشُّهَداءُ هنا: من معنى الشاهد لا من معنى الشهيد، فكأَنَّه قال: هم أهل الصدق والشهداءُ على الأمم، وقال ابن عباس، ومسروق، والضحاك «5» : الكلام تامٌّ في قوله: الصِّدِّيقُونَ، وقوله: وَالشُّهَداءُ: ابتداءٌ مستأنف،
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 147- 148) ، وأبو يعلى (3/ 300- 301) رقم (1766) ، وابن خزيمة (4/ 94) رقم: (2431) ، وابن حبان (817) - موارد، والحاكم (1/ 416) ، والبيهقي (4/ 177) ، كتاب «الزكاة» باب: التحريض على الصدقة وإن قلّت، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 181) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 402) - بتحقيقنا، كلهم من طريق ابن المبارك وهو في «الزهد» له ص: (227) رقم (645) عن حرملة بن عمران عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«الرجل في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس وكان أبو الخير لا يأتي عليه يومٌ إلاَّ تصدق فيه بشيء ولو كَعْكَةً ولو بصلة.
وقال الحاكم: صحيحٌ على شرط مسلمٍ ولم يخرِّجاه، ووافقه الذهبي وصححه ابن خزيمة، وابن حبان.
وقال الهيثمي في «المجمع» (3/ 113) : رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجال أحمد ثقات.
وصححه السيوطي في «الجامع الصغير» (6282) ، وقال المناوي في «الفيض» (5/ 13) : وقال- أي الذهبي- في «المهذب» : إسناده قوي.
(2) ينظر: «معاني القرآن» (5/ 126) .
(3) أخرجه الطبري (11/ 683) ، برقم: (33652) ، وذكره البغوي (4/ 298) ، وابن عطية (5/ 265) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 312) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 256) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد.
(4) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 256) ، وعزاه لابن جرير.
(5) أخرجه الطبري (11/ 683) عن ابن عبّاس برقم: (33646) ، وعن مسروق برقم: (33647) ، وعن الضحاك برقم: (33650) ، وذكره البغوي (4/ 298) ، وابن عطية (5/ 266) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 311) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 256) ، وعزاه لابن جرير.
(5/388)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
ثم اختلفتْ هذه الفرقةُ في معنى هذا الاستئناف، فقال بعضها: معنى الآية: والشهداءُ بأنَّهم صديقون حاضرون عند ربهم، وعَنَى بالشهداء الأنبياء- عليهم السلام-.
ت: وهذا تأويل بعيد من لفظ الآية، وقال بعضها: قوله: وَالشُّهَداءُ ابتداء يريد به الشهداءَ في سبيل اللَّه، واستأنف الخبر عنهم بأَنَّهم: عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ فكأَنَّه جعلهم صِنْفاً مذكوراً وحده.
ت: وأبينُ هذه الأقوال الأوَّلُ، وهذا الأخيرُ، وإنْ صَحَّ حديث البَرَاءِ لم يُعْدَلْ عنه، قال أبو حيان «1» : والظاهر أَنَّ الشُّهَداءُ مبتدأ خبره ما بعده، انتهى.
وقوله تعالى وَنُورُهُمْ قال الجمهور: هو حقيقة حسبما تقدم.
[سورة الحديد (57) : آية 20]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)
وقوله سبحانه: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ هذه الآيةُ وعظ، وتبيين لأمر الدنيا وَضَعَةِ منزلتها، والحياة الدنيا في هذه الآية: عبارة عن الأشغال والتصرفاتِ والفكرِ/ التي هي مختصة بالحياة الدنيا، وأَمَّا ما كان من ذلك في طاعة اللَّه تعالى، وما كان في الضرورات التي تقيم الأود وتعينُ على الطاعات- فلا مدخلَ له في هذه الآية، وتأملْ حالَ الملوك بعد فقرهم، يَبِنْ لك أنّ جميع ترفههم لَعِبٌ ولهو، والزينة: التحسين الذي هو خارج عن ذات الشيء، والتفاخرُ بالأموال والأنساب وغيرُ ذلك على عادة الجاهلية، ثم ضرب اللَّه عز وجل مَثَلَ الدنيا، فقال: كَمَثَلِ غَيْثٍ ... الآية: وصورة هذا المثالِ أَنَّ الإنسانَ ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك، فيشُبُّ في النعمة، ويقوى، ويكسب المال والولد، ويغشاه الناسُ، ثم يأخذُ بعد ذلك في انحطاطٍ، ويشيب، ويضعف ويسقم، وتصيبه النوائب في ماله وذريته، ويموتُ، ويضمحلُّ أَمرهُ، وتصيرُ أمواله لغيره، وتتغير رُسُومُه فأمره مِثْلُ مطر أصاب أرضاً، فنبت عن ذلك الغيثِ نباتٌ معجب أنيق، ثم هاج، أي: يبس، واصْفَرَّ، ثم تحطم، ثم تفرق بالرياح واضمحل.
وقوله: أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي: الزراع فهو من كَفَرَ الحَبَّ، أي: ستره، وقيل:
يحتمل أَنْ يعني الكفار باللَّه، لأَنَّهم أَشَدُّ إعجابا بزينة الدنيا، ثم قال تعالى:
__________
(1) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 222) .
(5/389)
وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ ... الآية: كأنَّه قال: والحقيقة هاهنا، وذكر العذابَ أَوَّلاً تَهَمُّمَاً به من حيث الحذر في الإنسان، ينبغي أَنْ يكونَ أولاً، فإذا تحرز من المخاوف مَدَّ حينئذ أمله، فذكر تعالى ما يحذر قبل ما يطمع فيه، وهو المغفرة والرضوان، وعبارة الثعلبيِّ:
ثُمَّ يَهِيجُ أي: يجفُّ وَفِي الْآخِرَةِ/ عَذابٌ شَدِيدٌ: لأعداء اللَّه وَمَغْفِرَةٌ: لأوليائه، وقال الفَرَّاءُ وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ أي: إمَّا عذاب شديد، وإمَّا مغفرة وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ: هذا تزهيد في العمل للدنيا، وترغيبٌ في العمل للآخرة، انتهى، وهو حسن، وعن طارق قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نِعْمَتِ الدَّارُ الدُّنْيَا لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا لآِخِرَتِهِ، وَبِئْسَتِ الدَّارُ لِمَنْ صَدَّتْهُ عَنْ آخِرَتِهِ، وَقَصَّرَتْ بِهِ عَنْ رِضَا رَبِّهِ، فَإذَا قَالَ الْعَبْدُ: قَبَّحَ اللَّهُ الدُّنْيا قَالَتِ الدُّنْيَا: قَبَّحَ اللَّهُ أَعْصَانَا لِرَبِّهِ» «1» . رواه الحاكم في «المستدرك» ، انتهى من «السلاح» ، ولا يشك عاقل أَنَّ حُطَامَ الدنيا مُشْغِلٌ عنِ التأهب للآخرة قال أبو عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم» : وقد رُوِيَ مرفوعاً: «لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةٌ، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي المَالُ» «2» قال أبو عمر: ثم نقول: إنَّ الزهد في الحلال، وترك الدنيا مع القدرة عليها- أفضلُ من الرغبة فيها في حلالها، وهذا ما لا خلافَ فيه بين علماء المسلمين قديماً وحديثاً، والآثار الواردة عنِ الصحابة والتابعين، ومَنْ بعدهم من علماء المسلمين في فضل الصبر والزهد فيها، وفَضْل القناعة، والرضا بالكفاف، والاقتصارِ على ما يكفي دون التكاثر الذي يُلْهِي ويُطْغِي-: أكثر من أَنْ يحيط بها كتاب، أو يشمل عليها باب، والَّذِينَ زوى اللَّه عنهم الدنيا من الصحابة، أكثرُ من الذين فتحها عليهم أضعافاً مضاعفةً، وقد روينا عن عبد الرحمن بن عوف أَنَّهُ لما حضرته الوفاةُ بَكَى بُكَاءً شديداً، وقال: كان مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ خيراً مِنِّي تُوُفِّيَ وَلَمْ يَتْرُكْ ما يُكَفَّنُ فيه، / وَبَقِيتُ بعده حتى أَصَبْتُ من الدنيا وأصابت مِنِّي، ولا أحسبني إلاَّ سَأُحْبَسُ عن أصحابي بما فتح اللَّهُ عليَّ من ذلك، وجعل يبكي حتى
__________
(1) أخرجه الحاكم (4/ 312) .
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي، وقال: بل منكر، وعبد الجبار لا يعرف، روى عنه يحيى بن أيوب العابد.
(2) أخرجه الترمذي (4/ 569) ، كتاب «الزهد» باب: ما جاء أن فتنة هذه الأمة في المال (2336) ، وابن حبان (8/ 128) - الموارد (2470) ، والنسائي كما في «التحفة» (8/ 309) (11129) ، والحاكم (4/ 318) .
قال الترمذي: حديث حسن صحيح غريب، إنما نعرفه من حديث معاوية بن صالح.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
قال ابن الجوزي في «العلل المتناهية» (2/ 798) ، وهذا حديث لا يصحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال العقيلي: ليس له أصل من وجه يثبت. اهـ.
(5/390)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)
فاضتْ نفسه، وفارق الدنيا رحمة اللَّه عليه، فإنْ ظَنَّ ظانٌّ جاهل أَنَّ الاستكثار من الدنيا ليس به بأس، أو غلب عليه الجهل فَظَنَّ أَنَّ ذلك أفضل من طلب الكفاف منها، وشُبِّهَ عليه بقول اللَّه تعالى: وَوَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى [الضحى: 8] فيما عَدَّده سبحانه على نبيّه صلّى الله عليه وسلّم من نعمه عنده- فَإنَّ ذلك ليس كما ظَنَّ بل ذلك غنى القلب، دَلَّتْ على ذلك الآثارُ الكثيرة كقوله عليه السلام: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ العَرَضِ، وَإنَّما الغِنَى غِنَى النّفس» «1» انتهى.
[سورة الحديد (57) : الآيات 21 الى 23]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23)
وقوله سبحانه: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ... الآية: لما ذكر تعالى المغفرة التي في الآخرة، ندب في هذه الآية إلى المسارعة إليها والمسابقة، وهذه الآية حُجَّةٌ عند جميع العلماء في الندب إلى الطاعات، وقدِ استدلَّ بها بعضُهم على أَنَّ أَوَّلَ أوقات الصلوات أَفضلُ لأَنَّهُ يقتضي المسارعةَ والمسابقةَ، وذكر سبحانه العَرْضَ من الجنة إذِ المعهودُ أَنَّهُ أَقَلُّ من الطول، وقد ورد في الحديث: «أَنَّ سَقْفَ الجَنَّةِ الْعَرْشُ» وورد في الحديث: «أَنَّ السموات السَّبْعَ في الكُرْسِيِّ كَالدِّرْهَمِ في الْفَلاَةِ، وَأَنَّ الْكُرْسِيَّ في الْعَرْشِ كَالدِّرْهَمِ في الْفَلاَةِ» «2» .
ت: أيها الأخ، أَمَرَكَ المولى سبحانه بالمسابقة والمسارعة رحمةً منه وفضلاً، فلا تغفلْ عن امتثال أمره وإجابة دعوته: [الخفيف]
السِّبَاقَ السِّبَاقَ قَوْلاً وَفِعْلاً ... حَذَرَ النَّفْسِ حَسْرَةَ/ الْمَسْبُوقِ
ذكر صاحبُ «معالم الإيمان، وروضات الرضوان» في مناقب صلحاء القيروان، قال:
ومنهم أبو خالد عبد الخالق المتعبد، كان كثيرَ الخوف والحزن، وبالخوف مات رأى يوماً خَيْلاً يسابق بها، فتقدمها فرسان، ثم تقدم أَحَدُهُمَا على الآخر، ثم جَدَّ التالي حتى سَبَقَ الأول، فتخلَّلَ عبد الخالق الناسَ حَتَّى وصلَ إلى الفرس السابق، فجعل يُقَبِّلُهُ ويقول: بارك اللَّه فيك، صَبَرْتَ فظفرت، ثم سقط مغشيّا عليه، انتهى.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه.
(5/391)
وقوله سبحانه: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ ... الآية: قال ابن زيد وغيره «1» : المعنى: ما حدث من حادث، خيرٍ وشَرٍّ، فهذا على معنى لفظ أصاب، لا على عُرْفِ المصيبة فإنَّ عُرْفَهَا في الشر، وقال ابن عباس «2» ما معناه: أَنَّه أراد عرف المصيبة، فقوله: فِي الْأَرْضِ يعني: بالقحوط، والزلازل، وغير ذلك وفِي أَنْفُسِكُمْ: بالموت، والأمراض، وغير ذلك.
وقوله: إِلَّا فِي كِتابٍ معناه: إلاَّ والمصيبة في كتاب ونَبْرَأَها معناه: نخلقها يقال: برأ اللَّهُ الخلق، أي: خلقهم، والضميرُ عائد على المصيبة، وقيل: على الأرض، وقيل: على الأنفس قاله ابن عباس وجماعة «3» ، وذكر المهدويُّ جوازَ عود الضمير على جميع ما ذُكِر، وهي كُلُّها معانٍ صِحَاحٌ.
إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ: يريد تحصيلَ الأشياءِ كلها في كتاب، وقال الثعلبي:
وقيل المعنى: إنَّ خَلْقَ ذلك وحِفْظَ جميعه، على اللَّه يسير، انتهى.
وقوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا معناه: فَعَلَ اللَّهُ هذا كُلَّه، وأَعلمكم به ليكونَ سَبَبَ تسليتكم وقِلَّةَ اكتراثكم بأمور الدنيا، فلا تحزنوا على فائت، ولا تفرحوا الفَرَحَ المبطر بما آتاكم/ منها، قال ابن عباس «4» : ليس أحد إلاَّ يحزنُ أو يفرحُ، ولكن مَنْ أصابته مصيبةٌ فليجعلها صبراً، ومَنْ أصابه خير فليجعله شكراً وفي «صحيح مسلم» عن أبي سعيد وأبي هريرةَ، أَنَّهُمَا سَمِعَا رسولَ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ وَصَبٍ وَلاَ نَصَبٍ، وَلاَ سَقَمٍ وَلاَ حَزَنٍ، حَتَّى الهَمِّ يَهُمُّهُ- إلاَّ كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ» «5» ، وفي «صحيح مسلم» عن
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 686) ، برقم: (33662) ، وذكره ابن عطية (5/ 268) . [.....]
(2) ذكره ابن عطية (5/ 268) .
(3) أخرجه الطبري (11/ 685) ، برقم: (33657) ، وذكره ابن عطية (5/ 268) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 257) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس.
(4) أخرجه الطبري (11/ 687) ، برقم: (33666) ، وذكره ابن عطية (5/ 268) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 257) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، والبيهقي في «شعب الإيمان» .
(5) أخرجه البخاري (10/ 107) ، كتاب «المرضى» باب: ما جاء في كفارة المريض وقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ (5641- 5642) ، ومسلم (4/ 1992، 1993) ، كتاب «البر والصلة والآداب» باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها (52/ 2573) ، وأحمد (2/ 303، 335) ، (3/ 18- 19، 48) عن أبي هريرة، (2/ 303، 335) ، (3/ 18- 19، 48) عن أبي سعيد، والبيهقي (3/ 373) ، كتاب «الجنائز» باب: ما ينبغي لكل مسلم أن يستشعره من
(5/392)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
عائشة قالت: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا فَوْقَهَا، إلاَّ كُتِبَتْ لَهُ بِهَا دَرَجَةٌ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا خِطِيئَةٌ» «1» ، وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرةَ قال:
لَمَّا نَزَلَتْ: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] بَلَغَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مبلغا شديدا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا، فَفِي كُلِّ مَا يُصَابُ بِهِ المُسْلِمُ كَفَّارَةٌ حَتَّى النَّكْبَةِ يُنْكَبُهَا وَالشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا» «2» ، انتهى، وقد تقدم كثير في هذا المختصر من هذا المعنى، فالله المسئول أَنْ ينفع به كُلَّ مَنْ حَصَّله أو نظر فيه.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ: يدلُّ على أَنَّ الفرحَ المنهيَّ عنه إنَّما هو ما أَدَّى إلى الاختيال والفخر، وأَمَّا الفَرَحُ بنعم اللَّه المقترن بالشكر والتواضع، فَإنَّه لا يستطيع أَحَدٌ دَفْعَهُ عن نفسه، ولا حرجَ فيه، واللَّه أعلم.
[سورة الحديد (57) : الآيات 24 الى 27]
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)
وقوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ قال بعضهم: هو خبر مبتدإ محذوف تقديره: هم الذين يبخلون، وقال بعضهم: هو في موضع نصب صِفَةً ل كُلَّ، وإنْ كان نكرةً فهو يُخَصَّصُ نوعاً ما فيسوغُ لذلك وصفه بالمعرفة، وهذا مذهبُ الأخفش، والْكِتابَ هنا: اسم جنس لجميع الكتب المُنَزَّلَةِ، وَالْمِيزانَ: العدل/ في تأويل الأكثرين.
__________
- الصبر على الأمراض والأوجاع والأحزان، لما فيها من الكفارات والدرجات، عنهما جميعا، وابن الشجري في «أماليه» (2/ 279) عن أبي سعيد، والبخاري في «الأدب المفرد» (145) (488) .
(1) أخرجه البخاري (10/ 107) كتاب «المرضى» باب: ما جاء في كفارة المريض، وقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ (5640) ، ومسلم (4/ 1992/ 1993) ، كتاب «البر والصلة والآداب» باب: ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن أو نحو ذلك، حتى الشوكة يشاكها (46، 51/ 2572) . والبيهقي (3/ 373) ، كتاب «الجنائز» باب: ما ينبغي لكل مسلم أن يستشعره من الصبر على جميع ما يصيبه من الأمراض والأوجاع، والأحزان لما فيها من الكفارات، والدرجات، وأحمد (6/ 247، 248) ، وابن الشجري في «الأمالي» (2/ 279) .
(2) ينظر: السابق.
(5/393)
وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ عَبَّرَ سبحانه عن خلقه الحديدَ بالإنزال كما قال:
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ [الزمر: 6] الآية، قال جمهورٌ من المفسرين: الحديد هنا أراد به جِنْسَهُ من المعادن وغيرها، وقال حُذَّاقٌ من المفسرين: أراد به السلاح، ويترتب معنى الآية بأَنَّ اللَّه أخبر أَنَّهُ أرسل رُسُلاً، وأنزل كتباً، وعدلاً مشروعاً، وسلاحاً يُحَارَبُ به مَنْ عاند، ولم يقبل هدى اللَّه إذْ لم يبقَ له عذر، وفي الآية- على هذا التأويل- حَضٌّ على القتال في سبيل اللَّه وترغيبٌ فيه.
وقوله: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ يقوِّي هذا التأويل.
وقوله: بِالْغَيْبِ معناه: بما سمع من الأَوصاف الغائبة عنه فآمن بها، وباقي الآية بين.
وقوله سبحانه: وقَفَّيْنا معناه: جئنا بهم بعد الأولِينَ، وهو مأخوذ من القفا، أي:
جيء بالثاني في قَفَا الأَوَّلِ، فيجيء الأول بين يدي الثاني، وقد تقدم بيانه.
وقوله سبحانه: وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً: الجعل في هذه الآية بمعنى الخلق.
وقوله: ابْتَدَعُوها: صفة لرهبانية، وخَصَّها بِأَنَّها ابْتُدِعَتْ لأََنَّ الرأفة والرحمةَ في القلب، لا تَكَسُّبَ للإنسان فيها، وَأَمَّا الرهبانيةُ فهي أفعال بدن مع شيء في القلب، ففيها موضعٌ لِلتَّكَسُّبِ، ونحو هذا عن قتادة «1» ، والمراد بالرأفة والرحمة حُبُّ بعضهم في بعض وتوادُّهُم، والمراد بالرهبانية: رَفْضُ النساء، واتخاذ الصوامع والديارات، والتفردُ للعبادات، وهذا هو ابتداعهم، ولم يَفْرِضِ اللَّه ذلك عليهم، لكنهم فعلوا ذلك ابتغاءَ رضوان اللَّه هذا تأويل جماعة، وقرأ ابن مسعود «2» : / «مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ لَكِنِ ابتدعوها» وقال مجاهد «3» : المعنى: كتبناها عليهم ابتغاءَ رضوان اللَّه، فالاستثناء على هذا مُتَّصِلٌ، واخْتُلِفَ في الضمير الذي في قوله: فَما رَعَوْها مَنِ المراد به؟ فقال ابن زيد وغيره «4» : هو عائد على الذين ابتدعوا الرهبانِيَّة، وفي هذا التأويل لزومُ الإتمام لِكُلِّ مَنْ بدأ بتطوّع ونفل، وأنّه
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 690) ، برقم: (33673) ، وذكره ابن عطية (5/ 270) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 270) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 270) .
(4) أخرجه الطبري (11/ 692) ، برقم: (33678) ، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، وذكره ابن عطية (5/ 270) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 259) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه، وابن نصر.
(5/394)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
يلزمُه أَنْ يرعاه حَقَّ رعيه، وقال الضَّحَّاكُ وغيره «1» : الضمير للأخلاف الذي جاؤوا بعد المبتدعين لها، ورُوِّينَا في «كتاب الترمذيِّ» عن كثير بن عبد اللَّه المُزَنِيِّ، عن أبيه، عن جدّه: «أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لبِلال بن الحارث: اعْلَمْ، قَالَ: مَا أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
اعْلَمْ يَا بِلاَلُ! قَالَ: مَا أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَنَّهُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً مِنْ سُنَّتِي قَدْ أُمِيتَتْ بَعْدِي، فَإنَّ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ بِهَا، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً، وَمَنِ ابتدع بِدْعَةَ ضَلاَلَةٍ، لاَ يَرْضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهَا- كَانَ عَلَيْهِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِ النَّاسِ شَيْئاً» «2» . قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، انتهى.
[سورة الحديد (57) : الآيات 28 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ قالت فرقة: الخطاب بهذه الآية لأهل الكتاب، ويؤيده الحديث الصحيح: «ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مرتين: رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وَآمَنَ بي» الحديث «3» ، وقال آخرون: الخطاب للمؤمنين من هذه الأمة، ومعنى آمِنُوا بِرَسُولِهِ أي: اثبتوا على ذلك ودوموا عليه، يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ أي: نصيبين بالإضافة إلى ما كان الأمم قبل يعطونه، قال أبو موسى: كِفْلَيْنِ: ضعفين بلسان الحبشة، والنور هنا: إمَّا أَنْ يكونَ وعداً بالنور الذي/ يسعى بين الأيدي يومَ القيامة، وإمَّا أَنْ يكون استعارة للهُدَى الذي يمشي به في طاعة اللَّه.
وقوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ...
الآية: رُوِيَ أَنَّه لما نزل هذا الوعدُ المتقدم للمؤمنين، حسدهم أهلُ الكتاب على ذلك، وكانتِ اليهودُ تُعَظِّمُ دِينَهَا وأَنْفُسَهَا، وتزعم أَنَّهم أحِبَّاءُ اللَّه وأهلُ رضوانه، فنزلت هذه الآية مُعْلِمَةً أَنَّ اللَّه فعل ذلك، وأعلم به ليعلمَ أَهل الكتابِ أَنَّهم ليسوا كما يزعمون، و «لا» في قوله: لِئَلَّا زائدة، وقرأ ابن عباس والجَحْدَرِيُّ «4» : «لِيَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ» ، وروى إبراهيم
__________
(1) أخرجه الطبري (11/ 692) ، برقم: (33681) عن ابن عبّاس رضي الله عنهما، وذكره ابن عطية (5/ 270) .
(2) أخرجه الترمذي (5/ 45) ، كتاب «العلم» باب: ما جاء في الأخذ بالسنة، واجتناب البدع (2677) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن وللحديث شواهد في الصحيح.
(3) تقدم تخريجه. [.....]
(4) وقرأ بها عبد الله.
(5/395)
التيمي عن ابن عباس: «كَيْ يَعْلَمَ» وروي عن حِطَّانَ الرُّقَاشِيِّ أنه قرأ «1» : «لأَنْ يَعْلَمَ» .
وقوله تعالى: أَلَّا يَقْدِرُونَ معناه: أَنَّهم لا يملكون فضلَ اللَّه، ولا يدخل تحت قُدَرهم، وباقي الآية بيّن.
__________
- ينظر: «الشواذ» (153) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 271) ، و «البحر المحيط» (8/ 227) ، وزاد نسبتها إلى ابن مسعود، وعكرمة، وعبد الله بن سلمة، وهي في «الدر المصون» (6/ 282) .
(1) ينظر: مصادر القراءة السابقة.
(5/396)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
تفسير سورة المجادلة
وهي مدنيّة إلّا أنّ النقّاش حكى أنّ قوله تعالى:
ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ ... الآية، مكّيّ
[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
قوله عز وجل: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ... الآية: اختلف الناس في اسم هذه المرأة على أقوال، واختصار ما رواه ابن عباس والجمهور «أَنَّ أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ الأَنْصَارِيَّ، أخا عبادة بن الصامت، ظَاهَرَ من امرأته خَوْلَةَ بنت خُوَيْلِدٍ، وكان الظهارُ في الجاهلية يُوجِبُ عندهم فُرْقَةً مُؤَبَّدَةً، فلما فعل ذلك أوس جاءت زوجته رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَوساً أَكَلَ شَبَابِي، وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِي، فَلَمَّا كَبِرْتُ وَمَاتَ أهلي، ظاهر منّي! فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: / مَا أَرَاكِ إلاَّ حُرِّمْتِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَفْعَلْ فَإنِّي وَحِيدَةٌ لَيْسَ لي أهل سواه، فراجعها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بِمِثْلِ مَقَالَتِهِ فَرَاجَعَتْهُ، فَهَذَا هُوَ جِدَالُهَا، وَكَانَتْ في خِلاَلِ جِدَالِهَا تَقُولُ: اللَّهُمَّ إَلَيْكَ أَشْكُو حَالِي وانفرادي وَفَقْرِي إلَيْهِ» ، وَرُوِيَ أَنَّها كَانَتْ تَقُولُ: اللَّهُمَّ، إنَّ لي مِنْهُ صِبْيَةً صِغَاراً، إنْ ضَمَمْتُهُمْ إلَيْهِ ضَاعُوا، وَإنْ ضَمَمْتُهُمْ إليَّ جَاعُوا، فَهَذَا هُوَ اشتكاؤها إلَى اللَّهِ، فَنَزَلَتِ الآية،
(5/397)
فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أَوْسٍ، وأَمَرَهُ بِالتَّكْفِيرِ، فَكَفَّرَ بِالإطْعَامِ، وَأَمْسَكَ أَهْلَهُ» «1» قال ابن العربي في «أحكامه» «2» : والأشبه في اسم هذه المرأة أَنَّها خَوْلَةُ بِنْتُ ثَعْلَبَةَ، امرأةُ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وعلى هذا اعتمد الفخر قال الفخر «3» : هذه الواقعة تَدُلُّ على أَنَّ مَنِ انقطع رجاؤه من الخلق، ولم يبق له في مُهِمِّة أحدٌ إلاَّ الخالق- كفاه اللَّهُ ذلك المهم، انتهى، والمحاورة: مراجعةُ القولِ ومعاطاته، وفي مصحف ابن مسعود «4» : «تُحَاوِرُكَ في زَوْجِهَا» والظِّهَارُ: قولُ الرجلِ لامرأته: أنتِ عليَّ كَظَهْرِ أُمِّي، يريد في التحريم كَأَنَّها إشارة إلى الركوبِ، إذ عُرْفُهُ في ظهور الحيوان، وكان أهلُ الجاهلية يفعلون ذلك، فَرَدَّ اللَّه بهذه الآية على فعلهم، وأخبر بالحقيقة من أَنَّ الأُمَّ هي الوالدة، وأَمَّا الزوجةُ فلا يكونُ حكمُهَا حُكْمَ الأُمِّ، وجعل اللَّه سبحانه القول بالظهار مُنْكَراً وزوراً، فهو مُحَرَّمٌ، لَكِنَّهُ إذَا وقع لزم هكذا قال فيه أهل العلم، لكنَّ تحريمه تحريمُ المكروهات جدًّا، وقد رَجَّى اللَّه تعالى بعده بأَنَّهُ عَفُوٌّ غفور مع الكَفَّارَةِ.
وقوله سبحانه: ثُمَّ يَعُودُونَ ... الآية.
ت: اخْتُلِفَ في معنى العَوْدِ، والعود في «المُوَطَّإ» : العزم على/ الوطء والإمساك مَعاً، وفي «المُدَوَّنَةِ» : العزمُ على الوطء خاصَّةً.
وقوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا، قال الجمهور: وهذا عامٌّ في نوع المسيس الوطء والمباشرة، فلا يجوز لِمُظَاهِرٍ أَنْ يطأَ، ولا أَنْ يُقَبِّلَ أو يَلْمَسَ بيده، أو يفعَلَ شيئاً من هذا النوع إلاَّ بعد الكفارة وهذا قول مالك رحمه اللَّه.
وقوله تعالى: ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ: إشارة إلى التحذير، أي: فَعَلَ ذلك عظةً لكم لتنتهوا عن الظهار.
وقوله سبحانه: فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ: قال الفخر «5» : الاستطاعة فوق الوسع والوسع فوق الطاقة، فالاستطاعة هي أَنْ يتمكَّنَ الإنسان من الفعل على سبيل السهولة، انتهى،
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/ 265) ، كتاب «الطلاق» باب: في الظهار، حديث (2213) .
(2) ينظر: «أحكام القرآن» (4/ 1745) .
(3) ينظر: «تفسير الرازي» (29/ 218) .
(4) ينظر: «الشواذ» ص: (154) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 273) .
(5) ينظر: «تفسير الرازي» (29/ 227) .
(5/398)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
وفروع الظهار مُسْتَوفَاةً في كتب الفقه، فلا نطيل بذكرها.
وقوله سبحانه: ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... الآية: إشارة إلى الرخصة والتسهيل في النقل من التحرير إلى الصوم والإطعام، ثم شَدَّدَ سبحانه بقوله: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أي: فالتزموها، ثم تَوَعَّدَ الكافرين بقوله: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 7]
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا ... الآية: نزلت في قوم من المنافقين واليهود، كانوا يتربّصون برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبالمؤمنين الدوائرَ، ويتمنَّون فيهم المكروهَ، ويتناجون بذلك وكُبِتَ الرجل: إذا بَقِيَ خَزْيَانَ يُبْصِرُ ما يكره، ولا يَقْدِرُ على دفعه، وقال قوم منهم أبو عبيدة: أصله كبدوا، أي: أصابهم داء في أكبادهم، فأُبْدِلَتِ الدَّالُ تاءً، وهذا غير قويّ، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ: منافقوا الأمم الماضية، ولفظ البخاريِّ:
كُبِتُوا: أُحْزِنُوا.
وقوله تعالى: وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ/ مُهِينٌ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ: العامل في يَوْمَ قوله: مُهِينٌ، ويحتمل أنْ يكون فعلاً مُضْمَراً تقديره: اذكر.
وقوله تعالى: إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ أي: بعلمه وإحاطته وقُدْرَتِهِ، وعبارة الثعلبيِّ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ: يعلم ويسمع نجواهم، يدل على ذلك افتتاح الآية وخاتمتُها، انتهى.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 8 الى 10]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ ... الآية، قال ابن
(5/399)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
عبّاس «1» : نزلت في اليهود والمنافقين، وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ: هو قولهم: السَّامُ عليكم، يريدون الموتَ، ثم كشف اللَّه تعالى خُبْثَ طَوِيَّتِهِمْ والحُجَّةَ التي إليها يسترحون، وذلك أَنَّهُمْ كانوا يقولون: لو كان محمد نبيًّا لعذبنا بهذه الأقوال التي تسيئه، وجَهِلُوا أَنَّ أمرهم مُؤَخَّرٌ إلى عذاب جهنم.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ ... الآية: وصِيَّةٌ منه سبحانه للمؤمنين أَلاَّ يتناجوا بمكروه، وذلك عامٌّ في جميع الناس إلى يوم القيامة.
وقوله: إِنَّمَا النَّجْوى أي: بالإِثم مِنَ الشَّيْطانِ وقرأ نافع وأهل المدينة «2» :
«ليحزن» - بضم الياء وكسر الزاي- والفعل مُسْنَدٌ إلى الشيطان، وقرأ أبو عمرو وغيره:
«لِيَحْزُنَ» - بفتح الياء وضم الزاي-، ثم أخبر تعالى أَنَّ الشيطان أو التناجي الذي هو منه، ليس بضارٍّ أحداً إلاَّ أَنْ يكونَ ضُرَّ بإذن اللَّه، أي: بأمره وقَدَرِهِ، ثم أمر بتوكّل المؤمنين عليه تبارك وتعالى.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 11 الى 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
وقوله تعالى: «يا أيّها الّذين آمنوا إذا قيل لكم تفسّحوا في المجلس ... » الآية، وقرأ عاصم «3» : «في المَجَالِسِ» قال زيد بن أسلم وقتادة «4» : هذه الآية نزلت بسبب تضايق الناس
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 14) برقم: (33760) عن مجاهد، و (12/ 15) عن ابن عبّاس برقم:
(33764) ، وذكره ابن عطية (5/ 276) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 270) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(2) وقرأ بقراءة أبي عمرو- الحسن، وعاصم.
ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 278) .
(3) يعني: جعله عاما في المجالس، وأما قراءة الباقين على التوحيد، فمعناها: في مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة.
ينظر: «السبعة» (629) ، و «الحجة» (6/ 280) ، و «إعراب القراءات» (2/ 355) ، و «حجة القراءات» (704) ، و «العنوان» (187) ، و «شرح الطيبة» (6/ 46) ، و «شرح شعلة» (600) ، «إتحاف» (2/ 527) ، و «معاني القراءات» (3/ 60) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 18) ، برقم: (33776) عن قتادة، وذكره البغوي (4/ 319) ، وابن عطية (5/ 278) .
(5/400)
في مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم وذلك أَنَّهُمْ كانوا يتنافسون في القُرْبِ منه وسَمَاعِ/ كلامه والنظر إليه، فيأتي الرجلُ الذي له الحَقُّ والسِّنُّ والقَدَمُ في الإسلام، فلا يجد مكاناً، فنزلت بسبب ذلك، وروى أبو هريرة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لاَ يَقُمْ أَحَدٌ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَجْلِسَ فِيهِ الرَّجُلُ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ» «1» . قال جمهور العلماء: سببُ نزولِ الآية مجلس النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم الحكم مُطَّرِدٌ في سائر المجالس التي هي للطاعات ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أَحَبُّكُمْ إلَى اللَّهِ أَلْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ في الصَّلاَةِ، وَرُكَباً في المَجَالِسِ» «2» ، وهذا قول مالك رحمه اللَّه، وقال: ما أرى الحكم إلاَّ يَطَّرِدُ في مجالس العلم ونحوها غَابِرَ الدهر قال ع «3» : فالسنة المندوبُ إليها هي التفسُّحُ، والقيامُ منهيّ عنه في حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، حيثُ نهى أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ فَيَجْلِسَ الآخَرُ مَكَانَهُ «4» .
ت: وقد روى أبو دَاوُدَ في «سننه» عن سَعِيدِ بْنِ أبي الحَسَنِ قال: «جَاءَنَا أَبُو بَكْرَةَ في شَهَادَةٍ، فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ فَأَبَى أَنْ يَجْلِسَ فِيهِ، وقال: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نَهَى عَنْ ذَلِكَ، وَنَهَى أَنْ يَمْسَحَ الرَّجُلُ يَدَهُ بِثَوْبِ مَنْ لَمْ يَكْسُهُ» «5» وروى أبو داودَ عن ابن عمر قال: جَاءَ رَجُلٌ إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَذَهَبَ لِيَجْلِسَ فيه، فنهاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» «6» انتهى، قال ع «7» : فَأَمَّا القيام إجلالاً فجائز بالحديث، وهو قوله ع حين أقبل سعد بن معاذ: «قُومُوا إلَى سَيِّدِكُمْ» «8» . وواجب على المُعَظَّمِ أَلاَّ يُحِبَّ ذَلِكَ ويأخذ الناس به لقوله ع: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ النَّاسُ قِيَاماً، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» «9» .
ت: وفي الاحتجاج بقضية/ سعد نظر لأَنَّها احْتَفَّتْ بِها قرائن سوّغت ذلك
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه أبو داود (1/ 236) ، كتاب «الصلاة» باب: تسوية الصفوف، حديث (672) . [.....]
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 279) .
(4) تقدم تخريجه.
(5) تقدم.
(6) أخرجه أبو داود (2/ 674) ، كتاب «الأدب» باب: في الرجل يقوم للرجل من مجلسه (4827) .
(7) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 290) .
(8) أخرجه البخاري (7/ 475) ، كتاب «المغازي» باب: مرجع النبي صلّى الله عليه وسلّم من الأحزاب (4121) ، ومسلم (3/ 1388) ، كتاب «الجهاد والسير» باب: جواز قتال من نقض العهد (64/ 11768) ، وأحمد (3/ 22، 71) ، والبيهقي (9/ 97) ، كتاب «السير» باب: نزول أهل الحصن أو بعضهم على حكم الإمام أو غير الإمام، إذا كان المنزول على حكمه مأمونا.
(9) تقدم.
(5/401)
انظر السير، وقد أطنب صاحب المدخل في الإنحاء والرَّدِّ على المجيزين للقيام، والسلامةُ عندي تركُ القيام.
وقوله تعالى: يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ معناه: في رحمته وَجَنَّتِهِ.
- ص-: يَفْسَحِ مجزوم في جواب الأمر، انتهى، وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا معناه:
ارتفعوا، وقوموا فافعلوا ذلك ومن «رياض الصالحين» للنوويِّ: وعن عمرو بن شُعَيْب، عن أبيه، عن جَدِّه، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لاَ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ اثْنَيْنِ إلاَّ بِإذْنِهِمَا» «1» رواه أبو داودَ، والترمذيُّ وقال: حديث حسن، وفي رواية لأبي داودَ: «لاَ يَجْلِسْ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلاَّ بِإذْنِهِمَا» وعن حُذَيْفَةَ- رضي اللَّه عنه- أَنَّ رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: «لَعَنَ مَنْ جَلَسَ وَسَطَ الحَلْقَةِ» «2» ، رواه أبو داود بإسناد حسن، وروى الترمذيُّ عن أبي مِجْلِزٍ أَنَّ رَجُلاً قَعَدَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ، فَقَالَ حذيفة: «ملعون على لسان محمّد صلّى الله عليه وسلّم، أو لعن الله على لسان محمّد صلّى الله عليه وسلّم مَنْ جَلَسَ وَسَطَ الْحَلْقَةِ» «3» قال الترمذيُّ: حديث حسن صحيح، انتهى.
وقوله سبحانه: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ ... الآية: قال جماعة: المعنى: يرفع اللَّه المؤمنين العلماءَ درجاتٍ فلذلك أمر بالتفسُّح من أجلهم، وقال آخرون: المعنى: يرفع اللَّه المؤمنين والعلماءَ الصنفينِ جميعاً درجاتٍ، لَكِنَّا نعلمُ تفاضُلَهم في الدرجات من مواضعَ أُخَرَ فلذلك جاء الأمر بالتفسح عامّا بالتفسح عامًّا للعلماء وغيرهم، وقال ابن مسعود وغيره «4» :
«يرفع الله الذين آمنوا مِنكُمْ» وهنا تَمَّ الكلامُ، ثم ابتدأ بتخصيص العلماء بالدرجات، ونصبهم بإضمار فعلٍ، فللمؤمنين رفع على هذا/ التأويل، وللعلماء درجات، وعلى هذا التأويل قال مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشَّخِّيرِ «5» : فَضْلُ العلمِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ فَضْلِ العِبَادَةِ، وخيرُ دِينِكُمُ الوَرَعُ، وروى البخاريُّ وغيره عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مثل ما
__________
(1) أخرجه أبو داود (5/ 175) ، كتاب «الأدب» باب: في الرجل يجلس بين الرجلين (4845) ، والترمذي (5/ 89) ، كتاب «الأدب» باب: ما جاء في كراهية الجلوس بين الرجلين بغير إذنهما (2752) ، وأحمد (2/ 213) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(2) أخرجه أبو داود (2/ 674) ، كتاب «الأدب» باب: الجلوس وسط الحلقة (4826) ، والترمذي (5/ 90) ، كتاب «الأدب» باب: ما جاء في كراهية القعود وسط الحلقة (2753) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(3) انظر الحديث السابق.
(4) ذكره ابن عطية (5/ 279) .
(5) أخرجه الطبري (12/ 19) ، وابن عطية (5/ 279) .
(5/402)
بَعَثَنِي اللَّهُ بهِ مِنَ الهدى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ قَبِلَتِ الماء، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ المَاءَ فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا، وَسُقُوا، وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أخرى إنَّما هِيَ قِيَعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءَ، وَلا تُنْبِتُ كَلأً فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ» انتهى «1» .
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ روي عن ابن عباس وقتادة في سببها: أَنَّ قوماً من شباب المؤمنين وأغْفَالِهِمْ كَثُرَتْ مناجاتُهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم في غير حاجة، وكان صلّى الله عليه وسلّم سَمْحاً، لا يَرُدُّ أحداً، فنزلت هذه الآية مُشَدِّدَةً عليهم «2» ، وقال مقاتل: نزلتْ في الأغنياء لأنّهم غلبوا الفقراء على مناجاة النبي صلّى الله عليه وسلّم ومجالسته «3» ، قال جماعة من الرواة: نُسِخَتْ هذه الآيةُ قبل العمل بها، لكنِ استقر حُكْمُهَا بالعزم عليه، وصَحَّ عن عليٍّ أَنَّهُ قال: ما عَمِلَ بها أَحَدٌ غيري، وأنا كنتُ سَبَبَ الرخصة والتخفيفِ عن المسلمين، قال: ثم فهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَنَّ هذه الْعِبَادَةَ قد شَقَّتْ/ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ لي: يَا عَلِيُّ، كَمْ ترى أَنْ يَكُونَ حدُّ هذه الصَّدَقَةِ؟ أَتَرَاهُ دِينَاراً؟
قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَنِصْفُ دِينِارٍ؟ قُلْتُ: لاَ، قَالَ: فَكَمْ؟ قُلْتُ: حَبَّةٌ مِنْ شَعِيرٍ، قَالَ: إنَّكَ لَزَهِيدٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الرُّخْصَةَ «4» ، يريد لِلْوَاجِدِينَ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَجِدْ فَالرُّخْصَةُ لَهُ ثَابِتَةٌ بقوله:
«فَإنْ لَمْ تَجِدُوا» قال الفخر «5» : قوله عليه السلام لعليٍّ: «إنَّكَ لَزَهِيدٌ» معناه: إنك قليل المال، فقدّرت على حسب حالك، انتهى.
__________
(1) أخرجه البخاري (1/ 211) ، كتاب «العلم» باب: فضل من علم وعلّم (79) ، ومسلم (4/ 1787) ، كتاب «الفضائل» باب: بيان مثل ما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم من الهدى والعلم (15/ 2282) ، والنسائي في «الكبرى» (3/ 427) ، كتاب «العلم» باب: مثل من فقه في دين الله تعالى (5843/ 1) .
(2) ذكره البغوي (4/ 310) ، وابن عطية (5/ 279) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 272) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. [.....]
(3) ذكره البغوي (4/ 310) ، وابن عطية (5/ 279) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 272) ، وعزاه لابن أبي حاتم.
(4) أخرجه الترمذي (5/ 406- 407) ، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة المجادلة، حديث (3300) ، وقال: حسن غريب.
(5) ينظر: «الفخر الرازي» (29/ 237) .
(5/403)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
[سورة المجادلة (58) : الآيات 13 الى 18]
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17)
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18)
وقوله سبحانه: أَأَشْفَقْتُمْ ... الآية: الإشفاق: هنا الفزع من العجز عن الشيء المتصدق به، أو من ذهاب المال في الصدقة.
وقوله: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ... الآية: المعنى: دوموا على هذه الأعمال التي هي قواعِدُ شرعكم، ومَنْ قال: إنْ هذه الصدقة منسوخة بآية الزكاة فقوله ضعيف.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا: نزلت في قوم من المنافقين، تولوا قوماً من اليهود، وهمُ المغضوب عليهم، قال الطبري «1» : مَّا هُمْ مِنْكُمْ: يريد به المنافقين وَلا مِنْهُمْ أي: ولا من اليهود، وهذا التأويل يجري مع قوله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ [النساء: 143] كالشاة العائرة بين الغنمين، وتحتمل الآية تأويلاً آخرَ، وهو أَنْ يكونَ قوله: مَّا هُمْ يريد به اليهودَ وَلا مِنْهُمْ يريد به المنافقين، وَيَحْلِفُونَ: يعني المنافقين، وقرأ الحسن: اتّخذوا إيمانكم- بكسر الهمزة «2» -، والجُنَّةُ: ما يُتَسَتَّرُ به، ثم أخبر تعالى عن المنافقين في هذه الآية أَنَّهُ ستكون لهم أيمان يومَ القيامة بين يدي اللَّه تعالى، يخيل إليهم بجهلهم أَنَّها تنفعهم، وتُقْبَلُ منهم، وهذا هو حسابهم أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أي: على شيء نافع لهم.
[سورة المجادلة (58) : الآيات 19 الى 22]
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
__________
(1) ينظر: «تفسير الطبري» (12/ 23) .
(2) ينظر: «المحتسب» (2/ 315) ، و «البحر المحيط» (8/ 236) ، و «الدر المصون» (6/ 290) .
(5/404)
وقوله تعالى: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ معناه: تَملَّكَهُمْ من كل جهة، / وغلب على نفوسهم، وحُكِيَ أَنَّ عمر قرأ: «اسْتَحَاذَ» «1» ، ثم قضى تعالى على مُحَادِّه بِالذُّلِّ، وباقي الآية بَيِّنٌ.
وقوله سبحانه: لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... الآية: نَفَتْ هذه الآيةُ أَنْ يُوجَدَ مَنْ يؤمن باللَّه حَقَّ الإيمان، ويلتزم شُعَبَهُ على الكمال- يوادّ كافرا أو منافقا، وكَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ: معناه: أثبته وخلقه بالإيجاد.
وقوله: أُولئِكَ: إشارة إلى المؤمنين الذين يقتضيهم معنى الآية لأَنَّ المعنى:
لكنك تجدهم لا يوادُّونَ مَنْ حادَّ اللَّه.
وقوله تعالى: بِرُوحٍ مِنْهُ معناه: بهدى منه ونور وتوفيق إلهي ينقدح لهم من القرآن وكلام النبي صلّى الله عليه وسلّم و «الحزب» : الفريق، وباقي الآية بيّن.
__________
(1) حكاه القراء في كتاب «اللغات» ، كما في «المحرر الوجيز» (5/ 281) ، و «البحر المحيط» (8/ 237) ، و «الدر المصون» (6/ 290) .
(5/405)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4)
تفسير سورة الحشر
وهي مدنيّة باتّفاق وهي سورة بني النضير وذلك أنّهم كانوا عاهدوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهم يرون أنّه لا تردّ له راية، فلمّا كان شأن أحد وما أكرم الله به المسلمين، ارتابوا، وداخلوا قريشا، وغدروا، فلما رجع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أحد حاصرهم حتى أجلاهم عن أرضهم، فارتحلوا إلى بلاد مختلفة: خيبر، والشام، وغير ذلك، ثم كان أمر بني قريظة مرجعة من الأحزاب.
[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الآية:
تقدم الكلام في تسبيح الجمادات والَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: هم بنو النضير.
و [قوله] : لِأَوَّلِ الْحَشْرِ: قال الحسن بن أبي الحسن وغيره «1» : يريد حَشْرَ القيامة، أي: هذا أَوَّلُهُ والقيامُ من القبور آخره، وقال عكرمة وغيره «2» : المعنى: / لأول موضع
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 283) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 28) ، برقم: (33815) عن قتادة، وذكره ابن عطية (5/ 284) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 277) ، وعزاه للبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث» عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.
(5/406)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
الحشر، وهو الشام وذلك أَنَّ أكثرهم جاء إلى الشام، وقد رُوِيَ أَنَّ حشرَ القيامة هو إلى بلاد الشام.
وقوله سبحانه: مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا: يريد لمنعتهم وكثرة عددهم.
وقوله تعالى: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ أي: كُلَّما هدم المسلمون من تحصينهم في القتال هدموا هم من البيوت ليجبروا الحصن.
ت: والحاصل أَنَّهم يخربون بيوتهم حِسًّا ومعنى أَمَّا حِسًّا فواضح، وأَمَّا معنى فبسوء رأيهم وعاقبة ما أضمروا من خيانتهم وغدرهم، وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ: من الوطن لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا: بالسبي والقتل، قال البخاريُّ: والجلاء:
الإخراج من أرض إلى أرض، انتهى.
[سورة الحشر (59) : الآيات 5 الى 7]
ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7)
وقوله تعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ ... الآيةُ سببُهَا قولُ اليهود: ما هذا الإفساد يا محمد وأنت تنهى عن الفساد؟! فَرَدَّ اللَّهُ عليهم بهذِهِ الآية، قال ابن عباس وجماعة من اللغويين «1» : اللِّينَةُ من النخيل: ما لم يكن عجوةً، وقيل غير هذا.
- ص-: أصل «لِينَة» : لونة، فقلبوا الواوَ ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها، وجمعه لِينٌ كَتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، قال الأخفش: واللينة كأنَّها لونٌ من النخل، أي: ضرب منه، انتهى.
وقوله عز وجل: وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ ... الآية، إعلام بأَنَّ ما أخذ لبني النضير ومن فدك، هو خاصّ بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وليس على حكم الغنيمة التي يوجف عليها ويقاتل فيها بل على حكم خُمُسِ الغنائم وذلك أَنَّ بني النضير لم يُوجَفْ عليها ولا قوتلت كبير قتال، فأخذ منها صلّى الله عليه وسلّم قُوتَ عيالِهِ، وقَسَمَ سائرها في المهاجرين، وأدخل معهم أبا دُجَانَةَ وسَهْلَ بن حنيف/ من الأنصار لأَنَّهما شكيا فقراً، والإيجاف: سرعة السير، والوجيف دون التقريب يقال: وَجَفَ الفرسُ وأوجفه الراكب.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 32) ، برقم: (33843) ، وذكره البغوي (4/ 316) ، وابن عطية (5/ 285) .
(5/407)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
وقوله تعالى: مَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى ... الآية: أهل القرى في هذه الآية: هم أهل الصفراء والينبوع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب، وذلك أَنَّها فُتِحَتْ في ذلك الوقت من غير إيجاف، وأعطى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جميعَ ذلك للمهاجرين، ولم يحبس منها لنفسه شيئاً، ولم يعط الأنصار شيئاً لغناهم، والقُرْبَى في الآية: قرابته صلّى الله عليه وسلّم مُنِعُوا الصدقةَ فَعُوِّضُوا من الفيء.
وقوله سبحانه: كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ: مخاطبة للأنصار لأَنَّهُ لم يكن في المهاجرين في ذلك الوقت غَنِيٌّ، والمعنى: كي لا يتداول ذلك المالَ الأغنياءُ بتصرفاتهم، ويبقى المساكينُ بلا شيءٍ، وقد مضى القولُ في الغنائم في سورة الأنفال، ورُوِيَ أَنَّ قوماً من الأنصار تكلّموا في هذه القرى المفتحة، وقالوا: لنا منها سَهْمُنَا، فنزل قوله تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ... الآية: فَرَضُوا بذلك، ثم اطَّرَدَ بعد معنى الآية في أوامر النبي صلّى الله عليه وسلّم ونواهيه، حَتَّى قال قوم: إنَّ الخمر مُحَرَّمَةٌ في كتاب اللَّه بهذه الآية، وانتزع منها ابن مسعود لعنة الواشمة، الحديث «1» .
ت: وبهذا المعنى يحصل التعميم للأشياء في قوله تعالى: مَّا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] .
[سورة الحشر (59) : الآيات 8 الى 9]
لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
وقوله تعالى: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ: بيان لقوله: وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وكرر لام الجر، لما كانت الجملة الأولى مجرورةً باللام ليبيِّنَ أَنَّ البدل إنَّما هو منها، ثم/ وصفهم تعالى بالصفة التي تقتضي فقرهم، وتُوجِبُ الشفقة عليهم، وهي إخراجهم من ديارهم وأموالهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً: يريد به الآخرة والجنة: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي: في الأقوال والأفعال والنِّيَّاتِ وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ: هم الأنصار- رضي اللَّه عن جميعهم-، والضمير في مِنْ قَبْلِهِمْ للمهاجرين، والدار هي المدينة، والمعنى:
تبوؤوا الدار مع الإيمان، وبهذا الاقتران يتضح معنى قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِمْ فتأمله، قال- ص-: وَالْإِيمانَ منصوب بفعل مُقَدَّرٍ، أي: واعتقدوا الإيمان، فهو من عطف
__________
(1) تقدم تخريجه.
(5/408)
الجمل كقوله: [من الرجز]
عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً ... ......
انتهى، وقيل غير هذا، وأثنى اللَّه تعالى في هذه الآية على الأنصار بِأَنَّهُمْ يحبون المهاجرين، وبأَنَّهم يؤثرون على أنفسهم، وبأَنَّهم قد وُقُوا شُحَّ أنفسهم.
ت: وروى الترمذيُّ عن أنس قال: «لمّا قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المَدِينَةَ أَتَاهُ المُهَاجِرُونَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْماً أَبْذَلَ لِكَثِيرٍ وَلاَ أَحْسَنَ مُوَاساةً في قلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أظهرهم لقد كفونا المئونة، وَأَشْرَكُونَا في الْمِهْنَةِ، حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يذهبوا بالأجر كلّه، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لاَ، مَا دَعَوتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ» «1» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، انتهى، والحاجة: الحسد في هذا الموضع قاله الحسن «2» ، ثم يَعُمُّ بعدُ وُجُوهاً، وقال الثعلبيُّ: حاجَةً أي: حَزَازَةً، وقيل: حسداً مِمَّا أُوتُوا أي: مما أعطي المهاجرون من أموال بَنِي النضير والقرى، انتهى.
وقوله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ: صفة للأنصار، وجاء الحديث الصحيح من غير ما طريق، أَنَّها نزلت/ بسبب رجل من الأنصار وصنيعه مع ضيفِ رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم إذْ نَوَّمَ صبيانه، وَقَدَّمَ للضيف طعامَه، وأطفأتْ أهلُه السراجَ، وأوهما الضيفَ أَنَّهُمَا يأكلان معه، وباتا طاويين فلمَّا غدا الأنصاريُّ على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال له: «لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ فِعْلِكُمَا الْبَارِحَةَ» «3» ونزلت الآية في ذلك، قال صاحب «سلاح المؤمن» : الرجل الأنصاريّ
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/ 671) ، كتاب «الأدب» باب: في شكر المعروف (4812) ، والترمذي (4/ 653) ، كتاب «صفة القيامة» باب: (44) (2487) ، والحاكم في «المستدرك» (2/ 63) ، والبيهقي (6/ 183) ، كتاب «الهبات» باب: شكر المعروف.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه الطبري (12/ 41) ، برقم: (33875) ، وذكره ابن عطية (5/ 287) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 337) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 288) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(3) أخرجه البخاري (8/ 500) ، كتاب «التفسير» باب: «والذين تبوؤوا الدار والإيمان» (4889) ، والحاكم (4/ 130) ، والبيهقي (4/ 185) ، كتاب «الزكاة» باب: ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وابن الشجري في «أماليه» (1/ 283) .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. قلت: وهو وهم من الحاكم فقد أخرجه البخاري كما بينا.
(5/409)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)
الذي أضاف هو، أبو طلحة انتهى، قال الترمذي الحكيم في كتاب «ختم الأولياء» له:
حدثنا أبي قال: حدثنا عبد اللَّه بن عاصم: حدثنا الجمانيُّ: حدثنا صالح المُرِّيُّ عن أبي سعيدٍ الخدريِّ قال: قال رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ بُدَلاَءَ أُمَّتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلاَ صَلاَةٍ إنَّما دَخَلُوهَا بِسَلاَمَةِ الصُّدُورِ، وَسَخَاوَةِ الأَنْفُسِ، وَحُسْنِ الخُلُقِ، والرَّحْمَةِ بِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ» «1» انتهى، والإيثار على النفس أكرم خلق، قال أبو يزيد البسطاميُّ: قدم علينا شاب من بَلْخٍ حاجًّا فقال لي: ما حَدُّ الزهد عندكم؟ فقلت: إذَا وَجَدْنَا أَكَلْنَا، وَإذَا فَقَدْنَا صَبَرْنَا، فقال: هكذا عندنا كلابُ بلخ! فقلت له: فما هو عندكم؟! فقال: إذا فقدنا صَبْرَنَا، وَإذَا وجدنا آثرنا، ورُوِيَ أَنَّ سبب هذه الآية أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم، لَمَّا فَتَحَ هذه الْقُرَى قَالَ لِلاٌّنْصَارِ: «إنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُمْ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَمْوَالِكْمْ وَدِيَارِكُمْ وَشَارَكْتُمُوهُمْ في هذه الْغَنِيمَةِ، وَإنْ شِئْتُمْ أَمْسَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ وَتَرَكْتُمْ لَهُمْ هذه الغَنِيمَةَ فَقَالُوا: بَلْ نَقْسِمُ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا، وَنَتْرُكُ لَهُمْ هذه الغَنِيمَةَ، فنزلت الآية، والخصاصة: الفاقَةُ والحاجةُ، وشُحُّ النفس: هو/ كثرةَ طَمَعِهَا. وضبطها على المال، والرغبةُ فيه، وامتدادُ الأمل هذا جماع شُحِّ النفس. وهو داعية كُلِّ خلق سوء، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَقَرَى الضَّيْفَ، وَأَعْطَى في النَّائِبَةِ- فَقَدْ بَرِىءَ من الشُّحِّ» ، وَإلى هذا الذي قلناه ذهب الجمهور والعارفون بالكلام، وقيل في الشح غير هذا، قال ع «2» : وشُحُّ النفس فَقْرٌ لا يذهبه غِنَى المالِ، بل يزيده، وينصب به ويُوقَ مِنْ وقى يَقِي، وقال الفخر:
اعلم أَنَّ الفرق بين الشُّحِّ والبخل هو أَنَّ البخل نفس المنع، والشُّحُّ هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المَنْعَ، ولَمَّا كان الشُّحُّ من صفات النفس لا جَرَمَ، قال اللَّه تعالى: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي: الظافرون بما أرادوا، قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه اللَّه عن أخذه، ولم يمنع شيئاً أمره اللَّه تعالى بإعطائه- فقد وقي شحّ نفسه «3» ، انتهى.
[سورة الحشر (59) : الآيات 10 الى 14]
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)
__________
(1) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 439) ، (10892) ، وذكره الهندي في «كنز العمال» (12/ 188) ، وزاد نسبته إلى الحكيم، وابن أبي الدنيا في كتاب «السخاء» ، وذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (2/ 259) (2202) ، شاهدا. [.....]
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 288) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 42) ، برقم: (33886) ، وذكره البغوي (4/ 320) ، وابن عطية (5/ 288) .
(5/410)
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ ... الآية: قال جمهور العلماء: أراد مَنْ يجيء من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة، وقال الفرَّاءُ: أراد الفرقة الثالثة من الصحابة، وهي مَنْ آمن في آخر مُدَّةِ النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله: يَقُولُونَ: حال فيها الفائدة، والمعنى: والذين جاؤوا قائلين كذا، وروت أُمُّ الدرداء، وأبو الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ كان يقول: «دَعْوَةُ المُسْلِمِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مَوَكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ قَالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ مِثْلُهُ» «1» رواه مسلم، انتهى، قال ع «2» : ولهذه الآية قال مالك وغيره: إِنَّه مَنْ كان له في أحدٍ من/ الصحابة رأيُ سوءٍ أو بغض، فلا حَظَّ له في فَيْءِ المسلمين، وقال عبد اللَّه بن يزيد: قال الحسن: أدركت ثلاثمائةٍ مِنْ أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم منهم سبعون بَدْرِيًّا كُلُّهم يحدثني أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ» «3» فالجماعة أَلاَّ تَسُبّوا الصحابة، ولا تماروا في دينِ اللَّه، ولا تُكَفِّرُوا أَحداً من أَهْلِ التوحيد بذنب، قال عبد اللَّه: فَلَقِيتُ أبا أمامة وأبا الدرداء وواثلةَ وأَنَساً، فكلُّهم يحدثني عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بمثل حديث الحسن، والغِلُّ: الحقد والاعتقاد الرديء.
وقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ ... الآية: نزلَتْ في عبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبيٍّ ابن سلول، ورفاعةَ بن التابوت وقومٍ من منافقي الأنصار كانوا بعثوا إلى بني النضير، وقالوا لهم: اثبتوا في معاقلكم، فإنَّا مَعَكُمْ كيفما تقلبت حالُكم، وكانوا في ذلك كاذبين، وإنَّما أرادوا بذلك أَنْ تقوى نُفُوسُهُمْ عسى أَنْ يثبتوا حَتَّى لا يقدر النبي صلّى الله عليه وسلّم عليهم، فيتمَّ مرادهم، وجاءت الأفعال غيرَ مجزومة في قوله: لا يَخْرُجُونَ ولا يَنْصُرُونَهُمْ لأَنَّها راجعةٌ إلى حكم القسم، لا إلى حكم الشرط، والضمير في
__________
(1) أخرجه مسلم (4/ 2095) كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل الدعاء للمسلمين بظهر الغيب (86، 87/ 2732) ، (88/ 2733) ، (2732/ مكرر) ، وابن ماجه (2/ 966، 977) كتاب: المناسك، باب فضل دعاء الحاج (2895) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 288) .
(3) أخرجه أبو داود (2/ 655) ، كتاب «السنة» باب: الخوارج (4758) .
(5/411)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
صُدُورِهِمْ يعود على اليهود والمنافقين، والضمير في قوله: لاَ يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً لبني النضير وجميع اليهود، هذا قول جماعة المفسرين، ومعنى الآية: لا يبرزون لحربكم، وإنَّما/ يقاتلون متحصنين بالقُرَى والجدران للرعب والرهب الكائن في قلوبهم.
وقوله تعالى: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي: في غائلتهم وإحَنِهِمْ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً أي: مجتمعين وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أي: متفرقة قال ع «1» : وهذه حال الجماعة المتخاذلة، وهي المغلوبةُ أبداً في كُلِّ ما تحاول، واللفظة مأخوذة من الشتات، وهو التفرق ونحوه.
[سورة الحشر (59) : الآيات 15 الى 17]
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
وقوله تعالى: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قال ابن عباس «2» : همْ بنو قينقاع، لأنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير، والوَبَالُ: الشِّدَّةُ والمكروه، وعاقبة السوء والعذاب الأليم: هو في الآخرة.
وقوله سبحانه: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ معناه: أَنَّ هاتينِ الفرقتين من المنافقين وبني النضير، كمثل الشيطان مع الإنسان فالمنافقونَ مَثَلُهُمُ الشيطان، وبنو النضير مثلهم الإنسان، وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين «3» إلى أَنَّ الشيطانَ والإنسانَ في هذه الآية اسما جنس، فكما أَنَّ الشيطان يغوي الإنسان، ثم يَفِرُّ عنه بعد أَنْ يُوَرِّطَهُ كذلك أغوى المنافقون بني النضير وحَرَّضُوهم على الثبوت، ووعدوهم النصرَ، فَلَمَّا نَشَبَ بنو النضير، وكشفوا عن وجوههم- تركهم المنافقون في أسوأ حال، وذهب قوم من رواة القصص إلى أَنَّ هذا في شيطانٍ مخصوصٍ مع عابد مخصوص، اسمه «بَرْصِيصَا» ، اسْتُودِعَ امرأة جميلةً، وقيل: سِيقَتْ إليه لِيَشْفِيهَا بدعائه من الجنون، فَسَوَّلَ له الشيطانُ الوقوعَ عليها، فحملت منه، فَخَشِيَ الفضيحة، فسَوَّلَ له قَتْلَهَا وَدَفْنَهَا، ففعل، ثم شهّره، فلمّا استخرجت المرأة،
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 290) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 46) ، برقم: (33900) ، وذكره البغوي (4/ 322) ، وابن عطية (5/ 290) ، وابن كثير (4/ 340) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 48) ، برقم: (33906) ، وابن عطية (5/ 290) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 297) ، وعزاه لعبد بن حميد.
(5/412)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
وحُمِلَ العابدُ شَرَّ حَمْلٍ، / وَصُلِبَ- جَاءَهُ الشيطانُ فَقَالَ له: اسجد لي سجدةً وأنا أُخَلِّصُكَ، فسجد له، فقال له الشيطان: هذا الذي أردتُ منك أَنْ كفرتَ بربك، إنِّي بريء منك، فضرب اللَّه تعالى هذا المَثَلَ ليهودِ بني النضير والمنافقين، وهذا يحتاج إلى صِحَّةِ سَنَدٍ، والتأويل الأول هو وجه الكلام.
ت: قال السهيلي: وقد ذكر هذه القصةَ هكذا القاضي إسماعيلُ وغيره من طريق سفيان عن عمرو بن دينار، عن عُرْوَةَ بنِ عَامِرِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ الزُّرْقِيِّ، عنِ النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أنَّ رَاهِباً كَانَ في بَنِي إسرائيل» «1» فذكر القصة بكمالها، ويقال: إنَّ اسمَ هذا الراهب «بَرْصِيصَا» ، ولم يذكر اسمه القاضي إسماعيل، انتهى، قال ع «2» : وقول الشيطان: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رياءً من قوله، وليست على ذلك عقيدته، ولا يعرف اللَّه حَقَّ معرفته، ولا يحجزه خوفُه عن سُوءٍ يوقع فيه ابنَ آدم من أول إلى آخر فَكانَ عاقِبَتَهُما يعني: الشيطان والإنسان على ما تقدم من حملها على الجنس أو الخصوص.
[سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 20]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ... الآية:
هذه آية وعظ وتذكير، وتقريبٍ للآخرة، وتحذيرٍ مِمَّنْ لا تخفى عليه خافيةٌ، وقوله تعالى:
لِغَدٍ: يريد يوم القيامة، والذين نسوا اللَّه: هم الكفار، والمعنى: تركوا اللَّه وغفلوا عنه، حَتَّى كانوا كالناسين، فعاقبهم بأَنْ [جعلهم] «3» ينسون أنفسهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بالذنب، قال سفيان «4» : المعنى: حَظَّ أنفسهم، ويُعْطِي لفظُ الآية أَنَّ مَنْ عرف نفسه ولم يَنْسَهَا عَرَفَ رَبَّهُ تعالى، وقد قال عليُّ بن أبي طالبٍ «5» ، - رضي اللَّه عنه-: اعْرِفْ نفسك تَعْرِفْ ربك، وروي عنه أَيضاً أَنَّه قال: مَنْ لم يعرفْ نفسه، لم يعْرف ربه.
__________
(1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 296) ، وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في «مكائد الشيطان» ، وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 290) .
(3) سقط في: د.
(4) أخرجه الطبري (12/ 50) ، برقم: (33911) ، وابن عطية (5/ 291) .
(5) ذكره ابن عطية (5/ 291) .
(5/413)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
[سورة الحشر (59) : الآيات 21 الى 24]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
وقوله/ سبحانه: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ ... الآية: موعظةٌ للإنسان، وَذَمٌّ لأخلاقه وإعراضه وغفلته عن تَدَبُّرِ كلام خالقه، وإذا كان الجبلُ، على عِظَمِهِ وقُوَّتِهِ، لو أُنْزِلَ عليه القرآن وفَهِمَ منه ما فَهِمَهُ الإنسان، لخشع واستكان، وتصدَّع، خشيةً للَّه تعالى-:
فالإِنسانُ على حقارته وضَعْفِهِ أولى بذلك، وضرب اللَّه سبحانه هذا المثل ليتفكر فيه العاقلُ، ويخشعَ ويلينَ قلبُهُ.
وقوله سبحانه: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ الآية: لما قال تعالى: مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، جاء بالأوصاف العَلِيَّةِ التي تُوجِبُ لمخلوقاته هذه الخشيةَ، وقرأ الجمهور «1» : «القُدُّوسُ» - بضم القاف- من تَقَدَّسَ إذا تطهَّرَ وتنزَّه.
وقوله: السَّلامُ أي: ذو السلام لأَنَّ الإيمان به وتوحيدَه وأفعاله هي لمن آمنَ سلام كلّها، والْمُؤْمِنُ: اسم فاعل من آمن بمعنى أمن من الأمن، وقيل: معناه:
المصدّق عباده المؤمنين، والْمُهَيْمِنُ: معناه: الحفيظ والأمين قاله ابن عبّاس «2» ، والْجَبَّارُ: هو الذي لا يدانيه شيءٌ، ولا تُلْحَقُ رتبته، قال الفخر «3» : وفي اسمه تعالى:
الْجَبَّارُ وجوه:
أحدها: أَنَّه فَعَّالٌ من جَبَرَ إذا أغنى الفقيرَ وجبر الكسير.
والثاني: أنْ يكون الجبار من جَبَرَهُ إذا أكرهه قال الأزهريُّ: وهي لغة تميم، وكثيرٌ من الحجازيين يقولونها بغير ألف في الإكراه، وكان الشافعيُّ رحمه اللَّه يقول: جَبَرَهُ السلطانُ على كذا بغير ألف، وجعل الفرَّاءُ الْجَبَّارُ بهذا المعنى من أجبر بالألف، وهي
__________
(1) وقرأ بها أبو السمال بفتح القاف، ورويت عن الكسائيّ. قال أبو الفتح: فعول في الصفة قليل، وذكر سيبويه في الصفة السّبّوح، والقدّوس.
ينظر: «المحتسب» (2/ 317) ، و «مختصر الشواذ» ص: (155) ، وذكر ابن عطية في «المحرر الوجيز» (5/ 292) أنها رويت عن أبي ذر. وزاد أبو حيان (8/ 249) نسبتها إلى: أبي دينار الأعرابي. [.....]
(2) أخرجه الطبري (12/ 53) ، برقم: (33925) ، وذكره ابن عطية (5/ 292) .
(3) ينظر: «تفسير الفخر الرازي» (29/ 255) .
(5/414)
اللغة المعروفة في الإكراه، انتهى، والْمُتَكَبِّرُ: معناه: الذي له التكبّر حقّا والْبارِئُ بمعنى: الخالق، والْمُصَوِّرُ: هو الذي يوجد الصورَ، وباقي الآية بَيِّنٌ، وروى معقل بن يسار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم/ أَنَّه قال: مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَقَرَأَ ثَلاَثَ آياتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ-: وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، حَتَّى يُمْسِي، وَإنْ مَاتَ في ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيداً، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتَلْكَ الْمَنْزِلَةِ» «1» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، انتهى.
__________
(1) أخرجه الترمذي (5/ 182) ، كتاب «فضائل القرآن» باب: (22) (2922) .
قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
(5/415)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
تفسير سورة الممتحنة
وهي مدنيّة بإجماع
[سورة الممتحنة (60) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ ... الآية:
المراد بالعدو هاهنا: كُفَّارُ قريش، وسبب نزول هذه الآية حَاطِبُ بن أبي بلتعة وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أرادَ الخروجَ إلى مَكَّةَ عامَ الحديبية.
ت: بل عام فتح مَكَّةَ، فكتب حاطبٌ إلى قوم من كُفَّارِ مَكَّةَ يخبرهم بقصد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يكن ذلك منه ارتداداً، فنزل الوحي مخبرا بما صنع حاطب، فبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم عَلِيًّا والزبيرَ وثالثاً- قيل هو المقداد- وقال: انطلقوا حَتَّى تأتُوا روضة خاخ، فإنَّ بها ظغينةً معها كتابٌ من حاطبٍ إلى المشركين، فخذوه منها، وخَلُّوا سبيلها، فانطلقوا حَتَّى وجدوا المرأة، فقالوا لها: أَخْرِجِي الكتابَ، فقالت: ما معي كتاب! ففتشوا رحلها فما وجدوا شيئاً فقال عليّ: ما كذب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا كُذِّب، واللَّهِ، لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِينَّ الثِّيَابَ، فقالَتْ: أَعْرِضُوا عَنِّي، فَحَلَّتْهُ مِنْ قُرُونِ رأسها، فجاؤوا به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ لِحَاطِبٍ: مَنْ كَتَبَ هَذَا؟ فَقَالَ: أنا يا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ على مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تعجل عليّ فو الله، مَا كَفَرْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَمَا/ فَعَلْتُ ذَلِكَ ارتدادا عَن دِينِي وَلاَ رَغْبَةً عَنْهُ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ إلاَّ وَلَهُ «1» بِمَكَّةَ مَنْ يَمْنَعُ عَشِيرَتَهُ، وَكُنْتُ امرأ مُلْصَقاً فِيهِمْ، وَأَهْلِي بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، فَخَشِيتُ عَلَيْهِمْ فَأَرَدْتُ أن أتّخذ عندهم
__________
(1) في د: الأول.
(5/416)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
يدا، فصدّقه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: لاَ تَقُولُوا لِحَاطِبٍ إلاَّ خَيْراً» «1» وروي أنّ حاطبا كتب: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُرِيدُ غَزْوَكُمْ في مِثْلِ اللَّيْلِ وَالسَّيْلِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ، لَوْ غَزَاكُمْ وَحْدَهُ، لَنُصِرَ عَلَيْكُمْ، فَكَيْفَ وهو في جمع كثير؟! - ص-: وتُلْقُونَ مفعوله محذوف، أي: تلقون إليهم أخبارَ الرسول وأسراره، وبِالْمَوَدَّةِ: الباء للسبب، انتهى.
وقوله تعالى: أَنْ تُؤْمِنُوا: مفعول من أجله، أي: أخرجوكم من أجل أنْ آمنتم بربكم.
وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ: شرط، جوابُهُ متقدم في معنى ما قبله، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط، والتقدير: إنْ كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاءَ مرضاتي، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياءَ، وجِهاداً منصوب على المصدر، وكذلك ابْتِغاءَ ويجوزُ أنْ يكونَ ذلك مفعولاً من أجله، والمرضاة: مصدر كالرضى وتُسِرُّونَ حال من تُلْقُونَ، ويجوز أنْ يكون في موضع خبر ابتداء، كأَنَّهُ قال: أنتم تُسِرُّونَ، ويصحّ أن يكون فعلا ابتدئ به القول.
وقوله تعالى: أَعْلَمُ يحتمل أنْ يكون أفعل، ويحتمل أنْ يكون فعلاً لأَنَّكَ تقول:
علمت بكذا فتدخل الباء.
- ص-: والظاهر أَنَّه أفعل تفضيل ولذلك عُدِّيَ بالباء، انتهى، وسَواءَ يجوز أنْ يكون مفعولاً ب ضَلَّ على تعدي «ضل» ، ويجوز أنْ يكون ظرفاً/ على غير التعدي لأَنَّهُ يجيء بالوجهين، والأوَّلُ أحسن في المعنى، والسواء: الوسط، والسَّبِيلِ: هنا شرع الله وطريق دينه.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 2 الى 3]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
وقوله سبحانه: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً ... الآية: أخبر تعالى أَنَّ مُدَارَاةَ هؤلاء الكفرة غيرُ نافعة في الدنيا، وأَنَّها ضارَّةٌ في الآخرة ليبين فساد رأي مصانعهم،
__________
(1) أخرجه البخاري (6/ 166) ، كتاب «الجهاد والسير» باب: الجاسوس (3007) ، وأطرافه (3081، 3983، 4274، 4890، 6259، 6939) ، ومسلم (4/ 1941- 1942) ، كتاب «فضائل الصحابة» باب: من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم، وقصة حاطب من أبي بلتعة (161، 161/ 2494) ، وأبو داود (2/ 54) ، كتاب «الجهاد» باب: في حكم الجاسوس إذا كان مسلما (2650) ، والترمذي (5/ 697) ، كتاب «المناقب» باب: (59) (3864) .
(5/417)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
فقال: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي: إنْ يتمكنوا منكم وتحصلوا في ثقافهم ظهرت عداوتهم، وانبسطت إليكم أيديهم بِضَرَرِكُمْ وَقَتْلِكُمْ، وانبسطت ألسنتُهم بسبِّكم، وأَشَدُّ من هذا كله إنَّما يقنعهم أَنْ تكفروا، وهذا هو ودهم، ثم أخبر تعالى أنَّ هذه الأرحامَ التي رغبتم في وصلها، ليستْ بنافعة يومَ القيامة، فالعامل في يَوْمَ قوله تَنْفَعَكُمْ، وقيل: العامل فيه يَفْصِلُ وهو مِمَّا بعده لا مِمَّا قبله، وعبارةُ الثعلبيِّ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ أي: قرابتكم منهم وَلا أَوْلادُكُمْ: الذين عندهم بمكة يَوْمَ الْقِيامَةِ: إذا عصيتم اللَّه من أجلهم يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ: فيدخل المؤمنون الجنة، والكافرون النارَ، انتهى.
ت: وهذه الآيةُ تُنظر إلى قوله تعالى: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى ... [سبأ: 37] الآية: واعلم أنَّ المال والسبب النافع يوم القيامة، ما كان لِلَّهِ وقُصِدَ به العونُ على طاعة اللَّه، وإلاَّ فهو على صاحبه وَبَالٌ وطولُ حساب، قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد اللَّه بن الحارث يُحَدِّثُ عن أبي كثير، عن عبد اللَّه بن عمرو بن/ العاصي أَنَّه سمعه يقول: ويجمعون- يعني ليوم القيامة- فيقال: أين فقراء هذه الأمة ومساكينُها؟ فيبرزون، فَيُقَالُ: ما عندكم؟
فيقولون: يا رَبَّنَا، ابْتُلِينَا فَصَبِرْنَا، وأنت أعلم، أحسبه، قال: ووليت الأموال والسلطانَ غَيْرَنا، فيقال: صدقتم، فيدخلون الجنة قبل سائر الناس بزمان، وتبقى شِدَّةُ الحساب على ذَوِي السلطان والأموال، قال: قلت: فأين المؤمنون يومئذ؟ قال: توضع لهم كراسيُّ من نور، ويُظَلِّلُ عليهم الغمامُ، ويكون ذلك اليومُ أقصرَ عليهم من ساعة من نهار، انتهى، وفي قوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ: وعيد وتحذير.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 4 الى 5]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
وقوله تعالى: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ أي: قدوة فِي إِبْراهِيمَ: الخليل وَالَّذِينَ مَعَهُ: قيل: مَنْ آمن به مِنَ الناس، وقال الطبريُّ وغيره «1» : الَّذِينَ مَعَهُ: هم الأنبياء المعاصرون له أو قريباً من عصره، قال ع «2» : وهذا أرجح لأَنَّهُ لم يرو أنّ لإبراهيم
__________
(1) ينظر: «تفسير الطبري» (12/ 59) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 295) .
(5/418)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
أتباعاً مؤمنين في وقتِ مكافحته نمروداً، وفي البخاريِّ: أنه قال لسارةَ حين رحل بها إلى الشام مهاجراً من بلد النمرود: ما على الأرض مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ غيري وغيرُك، وهذه الأُسْوَةُ مُقَيَّدَةٌ في التبري من المشركين وإشراكهم، وهو مُطَّرِدٌ في كل مِلَّةٍ، وفي نبينا مُحَمَّدٍ- عليه السلام- أسوةٌ حسنةٌ على الإطلاق في العقائد وفي أحكام الشرع كُلِّها.
وقوله: كَفَرْنا بِكُمْ: أي: كذبناكم في عبادتكم الأصنامَ.
وقوله: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ يعني: تأسوا بإبراهيم، إلاَّ في استغفاره لأبيه، فلا تتأسوا به فتستغفروا للمشركين، لأَنَّ استغفاره إنَّما كانَ عَنْ موعدةِ وعدها/ إيَّاهُ وهذا تأويل قتادة، ومجاهد، وعطاءِ الخُرَاسَانِيِّ وغيرهم «1» .
وقوله: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا إلى قوله: إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هو حكاية عن قول إبراهيم والذين معه، وهذه الألفاظ بَيِّنَةٌ مِمَّا تقدم في آي القرآن.
وقوله: رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا فِتْنَةً قيل: المعنى: لا تغلبهم علينا، فنكونَ لهم فتنةً وسَبَبَ ضلالةٍ نحا هذا المنحى قتادةُ وأبو مِجْلَزٍ»
، وقد تقدم مُسْتَوفًى في سورة يونس، وقال ابن عباس «3» : المعنى: لا تسلِّطْهم علينا فيفتنونا عَنْ أدياننا، فكأَنَّه قال: لا تجعلنا مفتونين، فَعَبَّرَ عن ذلك بالمصدر، وهذا أرجح الأقوال لأَنَّهُمْ إنَّما دعوا لاًّنْفُسِهِم، وعلى منحى قتادة: إنما دعوا للكفار، أَمَّا أَنَّ مقصدَهم إنما هو أَنْ يندفع عنهم ظهورُ الكُفَّارِ الذي بسببه فِتَنُ الكُفَّارِ، فجاء في المعنى تحليق بليغ.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 6 الى 7]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7)
وقوله تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ [فِيهِمْ] «4» أي: في إبراهيم والذين معه، وباقي الآية
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 60) عن مجاهد برقم: (33941) وعن قتادة برقم: (33943) ، وذكره ابن عطية (5/ 295) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 348) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 304) ، وعزاه لعبد بن حميد.
(2) أخرجه الطبري (12/ 61) ، برقم: (33947) ، وذكره ابن عطية (5/ 296) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 348) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 304) ، وعزاه لعبد بن حميد.
(3) أخرجه الطبري (12/ 61) ، برقم: (33948) ، وذكره ابن عطية (5/ 296) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 348) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 304) ، وعزاه لابن المنذر، والحاكم وصححه.
(4) سقط في: د.
(5/419)
لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
بَيِّنٌ، وروي أَنَّ هذهِ الآياتِ لما نزلت، وَعَزَمَ المؤمنون على امتثالها، وَصَرْمِ حِبَالِ الكَفَرَةِ- لحقهم تَأَسُّفٌ وهمٌّ من أَجل قراباتهم إذ لم يؤمنوا، ولم يهتدوا، حَتَّى يكونَ بينهم التوادُدُ والتواصُلُ، فنزلت: عَسَى اللَّهُ ... الآية: مؤنسةً في ذلك، ومُرْجِيةً أَنْ يقعَ، فوقع ذلك بإسلامهم في الفتح، وصار الجميعُ إخواناً، وعسى من اللَّه واجبةُ الوقوع.
ت: قد تقدم تحقيقُ القولِ في عَسَى في سورة القصص، فأغنى عن إعادته.
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 8 الى 11]
لاَّ يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
وقوله تعالى: لاَّ يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ.... الآية: اختلف في هؤلاء الذين لم يَنْهَ عنهم أنْ يُبَرُّوا، فقيل: أراد المؤمنين التاركين للهجرة، وقيل: خُزَاعَةَ وقبائلَ من العرب، كانوا مظاهرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم/ ومُحِبِّينَ لظهوره، وقيل: أراد النساءَ والصبيان من الكَفَرَةِ، وقيل: أراد مِنْ كُفَّارِ قريش مَنْ لم يقاتلْ ولا أخرج، ولم يُظْهِرْ سُوءاً وعلى أَنَّها في الكفار فالآية منسوخةٌ بالقتال، والذين قاتلوا في الدين وأخرجوهم هم مَرَدَةُ قريش.
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ الآيةُ نزلَتْ إثرَ صلح الحديبية وذلك أَنَّ ذلك الصلحَ تَضَمَّنَ أَنَّ مَنْ أتى مُسْلِماً من أهل مَكَّةَ، رُدَّ إليهم، سَواءٌ كان رجلاً أو امرأةً، فَنَقَضَ اللَّهُ تعالى من ذلك أَمْرَ النساء بهذه الآية، وحكم بأَنَّ المهاجرة المؤمنةَ لا تردّ إلى دار الكفر، وفَامْتَحِنُوهُنَّ: معناه: جربوهن واستخبروا حقيقةَ ما عندهنَّ.
وقوله تعالى: اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ إشارة إلى الاسترابة ببعضهنَّ.
ت: وقوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ ... الآية: العلم هنا: بمعنى الظن، وذكر اللَّه تعالى العِلَّةَ في أَلاَّ يُرَدَّ النساءُ إلى الكُفَّارِ وهو امتناعُ الوطء وحُرْمَتُهُ.
(5/420)
وقوله تعالى: وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ... الآية: أمر بأَنْ يؤتى الكُفَّارُ مهورَ نسائهم التي هاجرنَ مؤمناتَ، ورفع سبحانه الجناحَ في أَنْ يتزوجنَ بصدقاتٍ هي أجورهِن، وأمر المسلمين بفراق الكافراتِ وأَلاَّ يتمسكوا بعصمهن، فقيل: الآية في عابداتِ الأوثان ومَنْ لا يجوزُ نكاحُها ابتداءً، وقيل: هي عامَّةٌ نُسِخَ منها نساءُ أهل الكتاب، والعِصَمُ: جمع عِصْمَة، وهي أسباب الصحبة والبقاء في الزوجية، وأمر تعالى أَنْ يسأل أيضاً المؤمنون: ما أنفقوا؟ فرُوِيَ عنِ ابن شهاب أَنَّ قريشاً لَمَّا/ بلغهم هذا الحكم، قالوا: نحن لا نرضى بهذا الحكم، ولا نَلْتَزِمُهُ، ولا ندفع لأحد صَدَاقاً، فنزلت بسبب ذلك هذه الآيةُ الأخرى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ ... الآية: فأمر اللَّه تعالى المؤمنين أنْ يدفعوا إلى مَن فَرَّتْ زوجتُه ففاتتْ بنفسها إلى الكُفَّارِ صَدَاقَهُ الذي أنفق، واخْتُلِفَ: مِنْ أَيِّ مَالٍ يُدْفَعُ إليه الصَّدَاقُ؟ فقال ابن شهاب «1» : يُدْفَعُ إليه من الصدقات التي كانت تُدْفَعُ إلى الكفار بسبب مَنْ هاجر من أزواجهم، وأزال اللَّه دفعها إليهم حين لم يرضوا حكمه، قال ع «2» : وهذا قول صحيح يقتضيه قوله: فَعاقَبْتُمْ وقال قتادة «3» وغيره: يُدْفَعُ إليه من مغانم المغازي، وقال هؤلاء: التعقيب هو الغزو والمغنم، وقال ابن شهاب «4» أيضاً: يدفع إليه مِنْ أيِّ وجوه الفيء أمكن، والمعاقبة في هذه الآية ليستْ بمعنى مجازاة السوء بسوءٍ، قال الثعلبي: وقرأ مجاهد: «فَأَعْقَبْتُمْ» «5» وقال: المعنى: صنعتم بهم كما صنعوا بكم، انتهى، قال ع «6» : أي: وذلك بأنْ يفوت إليكم شيء من أزواجهم، وهكذا هو التعاقب على الجَمَلِ والدَّوَابِّ أنْ يركبَ هذا عقبة وهذا عقبة، ويقال: عاقب الرجلُ صاحِبَه في كذا، أي: جاء فِعْلُ كُلِّ واحد منهما بعقب فعل الآخر، وهذه الآية كلّها قد ارتفع حكمها.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 71) ، برقم: (33994) ، وذكره ابن عطية (5/ 298) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 293) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 309) ، وعزاه لعبد بن حميد، وأبي داود في «ناسخه» ، وابن جرير، وابن المنذر.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 298) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 72) ، برقم: (34000) ، وذكره ابن عطية (5/ 298) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 293) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 309) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد. [.....]
(4) أخرجه الطبري (12/ 72) ، برقم: (34003) ، وذكره ابن عطية (5/ 298) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 352) .
(5) وقرأ بها الحسن.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (156) ، و «المحتسب» (2/ 320) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 298) .
(6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 298) .
(5/421)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 12 الى 13]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)
وقوله عز وجل: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ ... الآية: هذه بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على الصَفَا، وهي كانت في المعنى بَيْعَةِ الرجال قَبْلَ فرض القتال.
ت: وخرَّج البخَاريُّ بسنده عن عائشة أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كَانَ/ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ إلَيْهِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ بهذه الآية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ الآية «1» .
وكذا روى البخاريُّ من طريق ابن عباس أَنَّهُ ع تَلاَ عَلَيْهِنَّ الآيةَ يَوْمَ الْفِطْرَ عَقِبَ الصَّلاَةِ «2» ، وَنَحْوُهُ عن أُمِّ عطيةَ في البخاري: «وَقَرَأَ عَلَيْهِنَّ الآيَةَ أيْضاً في ثَانِي يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ» «3» وكلام ع: يُوهِمُ أَنَّ الآيةَ نزلت في بيعة النساء يومَ الفتح، وليس كذلك وإنَّما يريد أَنَّه أعاد الآيةَ على مَنْ لم يبايعه من أهل مَكّة لِقُرْبِ عهدهم بالإسلام، واللَّه أعلم، والإتيان بالبهتان: قال أكثر المفسرين: معناه أنْ تَنْسِبَ إلى زوجها ولداً ليس منه، قال ع «4» : واللفظ أَعَمُّ من هذا التخصيص.
وقوله تعالى: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ: يعم جميع أوامر الشريعة، فَرْضَهَا وَنَدْبَهَا، وفي الحديث: «أَنَّ جَمَاعَةَ نُسْوَةٍ قُلْنَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نُبَايِعُكَ عَلَى كَذَا وَكَذَا الآية، فلمّا فرغن قال صلّى الله عليه وسلّم: فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ، فَقُلْنَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَرْحَمُ بِنَا مِنَّا لأَنْفُسِنَا» «5» .
وقوله تعالى: فَبايِعْهُنَّ أي: أمض لَهُنَّ صفقة الإيمان بأنْ يُعْطِينَ ذلك من أنفسهن، ويُعْطَيْنَ عليه الجَنَّةَ، واخْتُلِفَ في هيئة مبايعته صلّى الله عليه وسلّم النساءَ بعد الإجماع على أَنَّهُ لم تَمَسَّ يَدُهُ يَدَ امرأة أجنبيَّةٍ قَطُّ والمرويُّ عن عائشةَ وغيرِها: «أَنَّهُ بَايَعَ بِاللِّسَانِ قَوْلاً، وقال: إنّما قولي
__________
(1) أخرجه البخاري (8/ 504) ، كتاب «التفسير» باب: إذا جاءك المؤمنات مهاجرات (4891) ، (7/ 52) ، كتاب «المغازي» باب: غزوة خيبر (4182) ، ومسلم (3/ 1489) ، كتاب «الإمارة» باب: كيفية بيعة النساء (88/ 1866) ، وابن ماجه (2/ 959- 960) ، كتاب «الجهاد» باب: بيعة النساء (2875) ، وأحمد (6/ 270) .
(2) أخرجه البخاري (4895) .
(3) أخرجه البخاري (4892) .
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 299) .
(5) أخرجه ابن ماجه (2/ 959) ، كتاب «الجهاد» باب: بيعة النساء (2874) .
(5/422)
لمائة امرأة كقولي لامرأة واحدة» «1» .
وقَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: هم اليهود في قول ابن زيد وغيره «2» ، ويأسهم من الآخرة: هو يأسهم من نعيمها مع التصديق بها، وقال ابن عباس «3» : قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: في هذه الآية/ كُفَّارُ قريش.
وقوله: كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ: على هذا التأويل هو على ظاهره في اعْتِقَادِ الكَفَرَةِ إذَا مَاتَ لَهُمْ حَمِيمٌ قَالوا: هَذَا آخِرُ العَهْدِ به لا يبعث أبدا.
__________
(1) ينظر: حديث عائشة السابق في المبايعة.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 300) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 300) .
(5/423)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
تفسير سورة الصفّ
وهي مدنيّة في قول الجمهور وقيل: مكّيّة والأوّل أصحّ: لأنّ معاني السّورة تعضده ويشبه أن يكون فيها المكّيّ والمدنيّ.
[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3)
قوله تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ قد تقدَّمَ تفسيرُه، واخْتُلِفَ في السببِ الذي نزلتْ فيه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ فقال ابن عباس وغيره: نزلتْ بسببِ قَوْمٍ قالوا: لَوْ عَلِمْنَا أَحَبَّ العَمَلِ إلى اللَّهِ تعالى لسَارَعْنَا إليه، ففرضَ اللَّهُ الجهادَ وأعلَمَهُمْ بفَضْلِه وأَنَّهُ يُحِبُّ المقَاتِلينَ في سبيله كالبنيانِ المَرْصُوصِ، فَكَرِهَهُ قَوْمٌ منهم، وفَرُّوا يومَ الغزوِ فَعَاتَبَهُمُ اللَّهُ تعالى بهذه الآية «1» ، وقال قتادة والضحاك: نزلتْ بسببِ جماعةٍ من شبابِ المسلمينَ كانوا يَتَحَدَّثُونَ عن أنفسِهم في الغزو بما لم يفعلوا «2» ، قال ع «3» : وحُكْمُ هذهِ الآيةِ بَاقٍ غَابِرَ الدهرِ، وكلَّ مَنْ يقولُ ما لا يفعلُ فهو مَمْقُوتُ الكلامِ، والقولُ الأولُ يَتَرَجَّح بِمَا يأتي [من أمْرِ] «4» الجهادِ والقتالِ، والمقتُ البغضُ، مِن أجل ذنبٍ، أو رِيبَةٍ، أو دناءة يصنعها الممقوت، وقول المرء
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 79) ، برقم: (34043) ، وذكره ابن عطية (5/ 301) ، وابن كثير (4/ 358) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 317) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن مردويه.
(2) أخرجه الطبري (12/ 79) ، برقم: (34046) ، (34048) ، وذكره البغوي (4/ 337) ، وابن كثير (4/ 358) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 301) . [.....]
(4) في د: بأمر.
(5/424)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
مَا لا يفعلُ مُوجِبٌ مَقْتَ اللَّهِ تعالى، ولذلك فرَّ كثيرٌ من العلماءِ عَنِ الوَعْظِ والتذكيرِ وآثرُوا السكوتَ، /- قلت-: وهَذا بحسَبِ فِقْهِ الحالِ إنْ وَجَدَ الإنْسانُ مَنْ يكفِيه هذه المئونة في وقتهِ، فَقَدْ يَسَعُه السكوتُ وإلا فَلاَ يسعُه، قال الباجي في «سنن الصالحين» له: قال الأصمعي: بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَ الحكماءِ كَانَ يقول: إني لأَعظكُم وإنّي لَكَثيرُ الذنوبِ، وَلَوْ أن أحَداً لاَ يَعِظُ أخاه حَتَّى يُحْكِمَ أَمْرَ نَفْسِهِ لتُرِكَ الأَمْرُ بالخيرِ، واقْتُصِرَ عَلى الشَّرِّ، ولكنَّ محادثةَ الإخوانِ حياةُ القلوبِ وجَلاَء النُّفُوسِ وتَذْكِيرٌ مِنَ النسيانِ، وقال أبو حازم: إني لأعظ الناسَ وما أنا بموضعٍ للوَعْظِ «1» ، ولكنْ أريدُ به نَفْسِي، وقَالَ الحسنُ لمطرف: عِظْ أصْحَابَكَ، فَقَالَ: إنِّي أخافُ أنْ أقولَ ما لا أفعل فقالَ: رحمك اللَّه وأيُّنَا يَفْعَلُ ما يقول، وَدَّ الشيطانُ أنه لَو ظَفَرَ منكم بهذهِ فَلَمْ يأمُرْ أحدٌ منكم بمعروف، ولم ينه عن منكر، انتهى.
[سورة الصف (61) : الآيات 4 الى 9]
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ ... الآية، قال معاذ بن جبل: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ فَقَدْ وَجَبَتْ له الجنة، وَمَنْ سَأَلَ اللَّهَ القَتْلَ مِنْ نَفْسِهِ صَادِقاً، ثُمَّ مَاتَ أو قتل فإنّ له أجر شهيد» «2» ،
__________
(1) في د: للموعظ.
(2) أخرجه أبو داود (2/ 25) ، كتاب «الجهاد» باب: فيمن سأل الله تعالى الشهادة (2541) ، والترمذي (4/ 183) ، كتاب «فضائل الجهاد» باب: ما جاء فيمن سأل الشهادة (1654) مختصرا، والنسائي (6/ 25- 26) ، كتاب «الجهاد» باب: ثواب مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ (3141) ، وابن ماجه (2/ 933- 934) ، كتاب «الجهاد» باب: القتال في سبيل الله سبحانه (2792) ، والحاكم (2/ 77) ، وابن حبان (10/ 478- 479) ، كتاب «السير» باب: فضل «الجهاد» : ذكر إيجاب الجنة لمن قاتل في سبيل الله قل ثباته فيه أو كثر (4618) مختصرا، وأخرجه البيهقي (9/ 170) ، كتاب «السير» باب: تمني الشهادة ومسألتها، وأحمد (5/ 230- 231، 235، 243- 244) ، وعبد الرزاق في «المصنف» (5/ 255) ، كتاب «الجهاد» باب: الفرار من الزحف (9534) ، والدارمي (2/ 201) ، كتاب «الجهاد» باب: مَنْ قَاتَلَ في سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ. -
(5/425)
مختصر رواه أبو داود والترمذيُّ والنسائيُّ وابن ماجه، واللفظ لأبي داود، وقال الترمذي:
هَذَا حديثٌ صحيحٌ انتهى من «السلاح» ، ثُمَّ ذَكَرَ تعالى مقَالَةَ مُوسَى، وذلك ضربُ مَثَلٍ للمؤمنينَ ليحذَرُوا مَا وَقَعَ فيه هؤلاء من العصيانِ وقولِ الباطل.
وقوله: لِمَ تُؤْذُونَنِي أي: بتعنيتِكم وعصيانِكم واقْتِرَاحَاتِكُم، وأسْنَدَ الزيغَ إليهم لكونهِ فعلَ حطيطَةٍ، وهذا بخلافِ قوله تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا [التوبة: 118] فَأَسْنَدَ التَّوْبَةَ إليه سبحانَه لِكَوْنِهَا فعلَ رِفْعَةٍ، و «زاغ» معناه مَالَ وصار عرفها في الميل عن الحق، وأَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ معناه طَبَعَ عليْهَا وكثُرَ مَيْلُها عنِ الحقِّ وهذهِ هي العُقُوبَةُ عَلَى الذَّنْبِ بِالذَّنْبِ.
وقوله: وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ قال عياض في «الشفا» : سَمَّى اللَّه تعالى نبيَّه في كتابه محمداً وأحمدَ فأما اسمه أحمد، ف «أَفْعَلُ» مبالغةً من صفةِ الحَمْدِ، ومُحَمَّد «مُفَعَّل» من كثرةِ الحمدِ، وسمى أمَّته في كتب أنبيائِه بالحمَّادينَ ثم في هذين الاسمين من عجائب خصائصِه سبحانه وبدائع آياته أنه سبحانه حَمَى أن يتسمَّى بهما أَحَدٌ قَبْلَ زمانِه، أما أحمد الذي أتى في الكتب وبشَّرَتْ به الأنبياء فمنع سبحانه أن يَتَسَمَّى به أحد غيرُه حتى لا يدخلَ بذلكَ لَبْسٌ عَلى ضعيفِ القلبِ وكذلك محمَّد أيضاً لم يَتَسَمَّ به أحد من العرب ولا غيرهم إلى أن شَاعَ قبيل وجوده صلّى الله عليه وسلّم وميلادِه أَنَّ نبيًّا يبعثُ اسمهُ محمد فسمَّى قومٌ قليلٌ من العرب أبناءَهم بذلك رجاءَ أَنْ يكونَ أحدُهم هو، وهُم محمد بن أحيحة الأوسي، ومحمد بن مسلمة الأنصاري، ومحمد بن براء البكري، ومحمد بن سفيان باليمن، ويقولون: بل محمد بن اليحمد من الأزد، ومحمد بن سوادة منهم لا سابعَ لهم، ولم يَدَّعِ أحد من هؤلاء النبوَّة أو يظهرْ عليْهِ سببٌ يشكِّكُ الناس، انتهى، وروى أنس بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قَالَ: «لاَ تُسَمُّوا أَوْلاَدَكُمْ مُحَمَّداً ثُمَّ تَلْعَنُونَهُمْ» «1» ، رواه الحاكم/ في «المستدركِ» ، انتهى من «السلاح» .
وقوله سبحانه: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ ... الآية: يحتمل أن يريد «عيسى» ويحتمل
__________
- قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، وله إسناد صحيح على شرط الشيخين مختصرا.
وفي الباب: شاهد عن عمرو بن عنبسة، أخرجه أحمد (4/ 387) ، (6/ 443- 444) عن أبي الدرداء.
(1) ذكره الهيثمي في «المجمع» (8/ 51) ، وقال: رواه أبو يعلى، والبزار، وفيه الحكم بن عطية، وثقه ابن معين، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال «الصحيح» .
(5/426)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
أن يريد محمّدا صلّى الله عليه وسلّم لأنه تقدّم ذكره، ت: والأول أظهر.
[سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 12]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ ... الآية: نَدْبٌ وَحَضٌّ على الجِهادِ بهذهِ التجارةِ التي بَيَّنَهَا سبحانه، وهي أن يبذلَ المرءُ نفسَه ومالَه، ويأخذ ثمناً جنةَ الخلدِ، وقرأ ابن عامر «1» وحده: «تُنَجِّيكُمْ» - بفتحِ النونَ وَشَدِّ الجيم-.
وقوله: تُؤْمِنُونَ معناه: الأمر، أي: آمنوا، قال الأخفش: ولذلكَ جاء «يَغْفِرْ» مجزُوماً، وفي مصحفِ ابن مسعودٍ: «آمِنُوا باللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجَاهِدُوا» . وقوله: ذلِكُمْ إشارة إلى الجهاد والإيمان، وخَيْرٌ هنا يحتملُ أَن يكونَ للتفضِيل، فالمَعْنَى: من كل عمل، ويحتملُ أن يكون إخباراً أنَّ هذا خيرٌ في ذاتهِ، ومَساكِنَ عَطْفٌ عَلَى جَنَّاتٍ وَطِيبُ المسَاكِنِ، سِعَتُها وجمالُها، وقيل: طِيبُها المعرفة بدوام أمرها.
[سورة الصف (61) : الآيات 13 الى 14]
وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
وقوله سبحانه: وَأُخْرى تُحِبُّونَها ... الآية، قال الأخفش، وَأُخْرى هي في موضع خَفْضٍ عطفاً على تِجارَةٍ، وهَذَا قَلِقٌ، وقد ردَّه الناس، لأنَّ هذه الأُخْرَى ليستْ مِمَّا دَلَّ عليه سبحانه إنما هي مما أُعْطِيَ ثمناً وجزاءً على الإيمانِ والجهادِ بالنفس والمَالِ، وقَالَ الفَرَّاء: وَأُخْرى في موضِع رفعٍ، وقيل: في موضع نصبٍ بإضمار فعل تقديرُه:
ويدخلكم جناتٍ ويمنحْكُم أُخْرَى وهي النصرُ والفتحُ القريب، وقصةُ عِيسَى مع بني إسرائيل قد تقدَّمت.
وقوله تعالى: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ قِيلَ ذلك قبل محمد- عليه السلام-/ وَبَعْدَ فترةٍ منْ رفعِ عِيسَى رَدَّ اللَّهُ الكَرَّةَ لمنْ آمن بهِ فَغَلبُوا الكَافرينَ الذين قَتَلُوا صَاحِبَه الذي ألقيَ عَلَيْهِ الشَّبَهُ، وقيل: المعنى فأصبحوا ظاهرين بالحجةِ.
__________
(1) ينظر: القرطبي (18/ 57) ، وابن عطية (5/ 304) ، و «البحر المحيط» (8/ 260) .
(5/427)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
تفسير سورة الجمعة
وهي مدنيّة
[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
قوله تعالى: يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تقدَّم القولُ في مثلِ ألفاظِ الآيةِ، والمرادُ بالأمِّيِّينَ جميعُ العربِ، واخْتُلِفَ في المعنيين بقوله تعالى: وَآخَرِينَ مِنْهُمْ فقال أبو هريرةَ وغيره: أراد فارس «1» «وقد سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: مَنِ الآخَرُونَ؟ فَأَخَذَ بيدِ سُلَيْمَانَ، وقال: لَوْ كَانَ الدِّينُ في الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلاَءِ» خرَّجه مسلم والبخاريّ «2» ، وقال ابن زيدٍ ومجاهدٌ والضحاكُ وغيرهم: أرادَ جميعَ طوائِفِ الناس «3» ، فقوله: مِنْهُمْ على هذين القولين إنما يُرِيدُ في البشريةِ والإيمانِ، وقال مجاهد أيضاً وغيره: أراد التابعين من أبناء العرب، فقوله: مِنْهُمْ يُرِيدُ في النَّسَبِ والإيمان.
وقوله: لَمَّا يَلْحَقُوا نَفْيٌ لما قَرُبَ مِنَ الحَالِ، والمَعْنَى أنهم مُزْمِعُونَ أنْ يلحقوا، فهي «لَمْ» زِيدَتْ عَلَيْهَا «ما» تأكيدا.
والَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ هم بنو إسرائيل الأحبارُ المعاصرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وحُمِّلُوا معناه كُلِّفُوا القيامَ بأوامرِها ونواهيها، فهذا كما حُمِّلَ الإنسانُ الأمانَةَ، وذكر تعالى أنهم لم يحملوها، أي: لم يُطِيعُوا أمْرَها ويَقِفُوا عند حدودها حين كذّبوا نبيّه محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، والتوراة
__________
(1) أخرجه البخاري حديث (4897) .
(2) تقدم تخريجه.
(3) أخرجه الطبري (12/ 90- 91) ، برقم: (34088) ، (34089) عن ابن زيد، ومجاهد، وغيرهم، وذكره ابن عطية (5/ 307) ، والبغوي (4/ 339) ، وابن كثير (4/ 363) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 321) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد، وعزاه لابن المنذر عن الضحاك.
(5/428)
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
تنطقُ بنبوتهِ، فكان كلُّ حَبْرٍ لم ينتَفِعْ بما حُمِّلَ كَمَثَلِ حِمَارٍ عليه أسفارٌ، وفي مصحف ابن مسعود «1» «كَمَثَلِ حِمَارٍ» بِغَيْرِ تعريفٍ، والسِّفْرُ الكتَابُ المجتمعُ الأوراقِ منضدة.
وقوله: بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ التقدير: بِئْسَ المثلُ مثلُ القومِ الذين كذبوا بآياتِ اللَّه، - ص-: وَرُدَّ بأَنَّ فيه حذف الفاعلِ ولا يجوزُ، والظاهرُ أنَّ مَثَلُ الْقَوْمِ فاعل بِئْسَ، والَّذِينَ كَذَّبُوا هو المخصوصُ بالذَّمِّ على حذف مضافٍ أي: مثل الذين كذّبوا، انتهى.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 6 الى 8]
قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
وقوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ ... الآية، رُوِيَ أنها نزلتْ بسبب أنَّ يهودَ المدينةِ لَمَّا ظَهَرَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، خَاطَبُوا يهودَ خيبرَ في أمره، وذكرُوا لهم نبوَّتَه، وقالوا إن رأيتم اتَّبَاعَهُ أطَعْنَاكُمْ وإنْ رأيتم خِلاَفَه خَالَفْنَاه معكم، فجاءهَم جوابُ أهْلِ خيبرَ يقولونَ: نحن أبناءُ إبراهيمَ خليلِ الرحمن وأبناءُ عزيرِ بنُ اللَّهِ ومنا الأنبياءُ، ومتى كَانَتْ النبوةُ في العرب؟، نحن أحقُّ بالنبوةِ من محمدِ، ولا سبيلَ إلى اتباعهِ، فنزلتِ الآيةَ بمعنى:
أنكم إذا كنتم منَ اللَّهِ بهذه المنزلةِ فَقُرْبُهُ وفراقُ هذه الحياةِ الخسيسةِ أحبُّ إليكم، فَتَمَنَّوْا الموتَ إن كنتم تَعْتَقِدُون في أنفسِكم هذه المنزلة، ثم أخبر تعالى أنهم لا يتمنونه أبداً لعلمِهم بسوءِ حالِهم، ورَوَى كثيرٌ من المفسرينَ أن اللَّه- جَلَّتْ قُدْرَتُه- جَعَلَ هذه الآيةَ معجزةً لمحمدٍ نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم فِيهم، فَهِيَ آيةٌ باهرةٌ وأعلَمَه أنه إن تمنى أحدٌ منهمُ الموتَ في أيام معدوداتٍ مات وفارق الدنيا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تَمَنّوُا الموتَ، على جهةِ التعجيزِ وإظهار الآيةِ، فما تَمَنَّاهُ أحد منهم خَوْفاً/ من الموتِ وثقة بصدق نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ الآية، النداء: الأذانُ، وكان على الجِدَارِ في مسجدِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وفي «مصنف أبي داودَ» : كَانَ بَيْنَ يَدَي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (156) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 307) ، و «البحر المحيط» (8/ 263) ، و «الدر المصون» (6/ 316) .
(5/429)
وهو عَلى المنبر أذَانُ، ثم زادَ عثمانُ النداءَ عَلَى الزوراء ليسمعَ الناسُ.
ت: وفي البخاريّ والترمذيِّ وصححه عن السائبِ بن يزيد قَالَ: كَانَ النداءُ يومَ الجمعةِ أوَّلُه إذا جَلَسَ الإمام على المنبر على عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكرٍ وعمرَ، فلما تَوَلَّى عثمانُ وكثرَ الناسُ، زَادَ الأذَانَ الثالثَ فأَذَّنَ به على الزَّورَاءِ «1» ، فَثَبَتَ الأَمْرُ على ذلك «2» ، قِيل: فقوله «الثالثَ» يَقْتَضِي أنَّهمُ كَانُوا ثلاثةً، وفي طريقٍ آخرَ «الثاني» بدَلَ «الثالث» وهو يَقْتَضِي أَنَّهُمَا اثنانِ، انتهى، وخرَّجَ مسلم عن أبي هريرةَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من اغتسل، ثمَّ أَتَى الجُمُعَةَ، فصلى مَا قُدِّرَ لَهُ، ثم أَنْصَتَ لِلإمَامِ حتى يَفْرُغَ مِنْ خُطْبَتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَعَهُ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأخرى، وَفَضَلُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ» «3» انتهى، وخرَّجَهُ البخاريُّ من طريقِ سُلَيْمَان.
وقوله: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قال ابن هشام: «من» مرادفةِ «في» ، انتهى.
وقوله تعالى: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ... الآية، السعِيُ في الآيةِ لاَ يُرَادُ به الإسْرَاعُ في المشي، وإنما هو بمعنى قوله: وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا مَا سَعى [النجم: 39] فالسَّعْيُ هو بالنِّيةِ والإرَادَةِ والعَمَلِ مِنْ وُضُوءٍ، وغُسْلٍ، وَمَشْيٍ، ولُبْسِ ثوبٍ كُلُّ ذلكَ سَعْيٌ، وَقَدْ قَالَ مالكٌ وغيره: إنما تُؤْتَى الصلاةُ بالسَّكِينَةِ، ت: وهو نصُّ الحديثِ الصحيحِ، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم في الصلاة: / «فَلاَ تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأْتُوهَا [و] عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ» ، ت:
والظاهرُ أنَّ المرادَ بالسعيِ هُنا المُضِيُّ إلى الجمعةِ، كما فسَّره الثعلبيُّ، ويدلُّ على ذلكَ إطلاقُ العلماءِ لفظَ الوجوبِ عَلَيْهِ، فيقولونَ السَّعْيُ إلَى الجمعةِ واجبٌ، ويدلُّ عَلَى ذلك قراءةُ عمرَ وعليٍّ وابنِ مسعودٍ وابن عمر وابنِ عباس وابن الزبير وجماعة من التابعين «4» :
__________
(1) الزّوراء: دار عثمان بن عفان بالمدينة. وقيل: موضع عند سوق المدينة قرب المسجد.
ينظر: «مراصد الاطلاع» (674) .
(2) أخرجه البخاري (2/ 461) ، كتاب «الجمعة» باب: التأذين عند الخطبة (916) ، وأبو داود (1/ 352- 353) ، كتاب «الصلاة» باب: النداء يوم الجمعة (1087) ، والترمذي (2/ 392) ، كتاب «الصلاة» باب:
ما جاء في أذان الجمعة (516) ، والنسائي (3/ 100- 101) ، كتاب «الجمعة» باب: الأذان للجمعة (1392) ، (1393- 1394) نحوه، وابن ماجه (1/ 359) ، كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب: ما جاء في الأذان يوم الجمعة (1135) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(3) تقدم تخريجه.
(4) ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (157) ، و «المحتسب» (2/ 322) ، و «الكشاف» (4/ 534) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 309) ، و «البحر المحيط» (8/ 265) . [.....]
(5/430)
«فَامْضُوا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ» وقال ابن مسعود: لَوْ قَرَأْتُ: فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ لأَسْرَعْتُ حَتَّى يَقَع رِدَائي، وقال العِرَاقِيُّ: فَاسْعَوْا معناه بَادِروا، انتهى، وقوله: إِلى ذِكْرِ اللَّهِ هو وعظُ الخطبةِ قاله ابن المسيب، ويؤيدُه قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «إذَا كَانَ يومُ الجمعةِ، كَانَ على كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ المَسْجِدِ ملائكة يكتبون الأوّل فالأوّل، فإذا جلس [الإما] م طَوُوُا الصُّحُفَ، وجَاؤُوا يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» الحديثُ خَرَّجَهُ البخاريُّ ومسلم، واللفظُ لمسلمٍ، والخُطْبَةُ عِنْدَ الجمهورِ شَرْطٌ في انعقادِ الجمعةِ» «1» ، وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «إنَّ اللَّهَ- عزَّ وجلَّ- يَبْعَثُ الأيَّامَ يومَ القيامةِ على هَيْئَتِهَا، وَيْبَعَثُ الجُمُعَةَ زَهْرَاءَ مُنِيرَةً، أَهْلُهَا مُحِفُّونَ بِهَا كالْعَرُوسِ تهدى إلَى كرِيمَها، تُضِيءُ لهم يَمْشُونَ في ضَوْئِهَا أَلْوَانُهُمْ كالثَّلْجِ بَيَاضاً، وَرِيحُهُمْ يَسْطَعُ كَالْمِسْكِ، يَخُوضُونَ في جِبَالِ الكَافُورِ، يَنْظُرُ إلَيْهِمُ الثَّقَلاَنِ، مَا يَطْرِفُونَ تَعَجُّباً، يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ لاَ يُخَالِطُهُمْ إلاَّ المُؤَذِّنُونَ المُحْتَسِبُونَ» خَرَّجَهُ القاضِي الشريفُ أبو الحسنِ علي بن عبد اللَّهِ بن إبراهيمَ الهاشميّ، قال صاحبُ «التذكرة» «2» : وإسنادهُ صحيح، انتهى.
وقوله سبحانه: ذلِكُمْ إشارةٌ إلى السعي وتَرْكِ/ البَيْعِ.
وقوله: فَانْتَشِرُوا أجمعَ الناسُ على أنَّ مُقْتَضَى هذا الأمْرِ الإباحةُ، وكذلك قوله:
«وابتَغُوا من فضل اللَّه» أنَّه الإبَاحَة في طلب المعاش، مثلَ قوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة: 2] إلا ما روي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ذلكَ الفضْلُ المُبْتَغى هو عيادةُ مريضٍ، أو صِلَةُ صديقٍ، أو اتِّباعُ جنازةٍ» ، قال ع «3» : وفي هذا ينبغي أنْ يكونَ المرءُ بقيةَ يومِ الجمعةِ، ونحوه عن جعفر بن محمد، وقال مكحول: الفضلُ المبْتَغَى: العلمُ فينبغي أن يطلب إثر الجمعة.
__________
(1) إنما اشترط تقديم الخطبتين، لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يفعلها إلا كذلك مع خبر: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، ولإجماع السلف والخلف على ذلك.
ومخالفة الحسن البصري باجتهاده في جوازها بعد الصلاة، شاذة مردودة، لأنها بعد انعقاد الإجماع فهي غير معتبرة، ولأنها شرط، والشرط مقدم على المشروط، وقال الشيخ الرملي: وللتمييز بين الفرض والنفل، وليدرك الصلاة من يدرك الخطبة، ولظاهر قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ، أباح الانتشار بعدها، ولو جاز تأخيرها لما أباح الانتشار.
وقال في «شرح المهذب» : ثبتت صلاته صلّى الله عليه وسلّم بعد الخطبتين، وروى الشيخان عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب يوم الجمعة خطبتين يجلس بينهما.
(2) ينظر: «التذكرة» (1/ 262) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 309) .
(5/431)
وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً ... الآية، قال معاذ بن جبل: مَا شَيْءٌ أنجى مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ «1» : رواه الترمذيُّ واللفظُ له، وابنُ ماجه، والحاكمُ في «المستدرك» وقال صحيح الإسناد، انتهى من «السلاح» .
وقوله سبحانه: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً ... الآية، نزلت بسبب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانَ قائِماً على المنبرِ يَخْطُبُ يومَ الجمعةِ، فأقبلت عِيرٌ مِنَ الشَامِ تحملُ مِيرةً، وصاحبُ أمْرِهَا دِحْيَةُ بن خليفةَ الكلبي، قال مجاهد: وكانَ مِن عُرْفِهِمْ أن تَدْخُلَ عِيرُ المدينةِ بالطَّبْلِ والمعازفِ، والصياحِ سروراً بها، فدخلتْ العيرُ بمثلِ ذلكَ، فانْفَضَّ أهْلُ المسجدِ إلى رؤيةِ ذلك وسماعه وتركوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قائماً عَلَى المنبرِ، ولم يَبْقَ معه غَيْر اثنَيْ عَشَرَ رَجُلاً «2» ، قال جابر بن عبد اللَّه: أنا أحَدُهُم، قال ع «3» : ولم تَمُرَّ بِي تَسْمِيتُهم في ديوانٍ فيما أذْكُرُ الآنَ، إلا أنِّي سمعتُ أبي- رحمه اللَّه- يقولُ: همُ العشرةُ المشهودُ لهم بالجنةِ، واخْتُلِفَ في الحادِيَ عَشَرَ، فقيل: عمارُ بن ياسر، وقيل: ابن مسعودٍ، ت: وفي تقييد أبي الحسنِ الصغير: والاثْنَا عَشَر الباقون «4» همُ الصحابةُ العَشَرَةُ، والحادِيَ عَشَرَ: بلالٌ، واخْتُلِفَ في الثاني عشر، فقيل: عمار بن ياسر، وقيل:
ابن مسعود، انتهى، قال السهيلي: وجَاءَتْ تسميةُ الاثْنَي عَشَرَ في حديثِ مُرْسَلٍ رواه أسد بن عمرو والدُ موسى بن أسد، وفيه: أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لَمْ يَبْقَ معه إلا أبو بكرٍ وعُمَرُ وعثمانُ حتى العشرةِ، وقَال: وبلالٌ وابن مسعود، وفي روايةٍ: عمارُ بَدلَ ابنِ مسعودٍ، وفي «مَرَاسِيلِ أبي داودَ» ذكر السببَ الذي من أجله تَرَخَّصُوا، فقال: إن الخطبةَ يوم الجمعةِ كَانَتْ بعدَ الصلاةِ فَتَأَوَّلُوا- رضي اللَّه عنهم- أنهم قَدْ قَضَوْا مَا عَلَيْهِمْ، فَحوِّلَتْ الخطبةُ بعد
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (2/ 1245) ، كتاب «الأدب» باب: فضل الذكر (3790) ، عن أبي الدرداء أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم، وأرضاها عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ من إعطاء الذهب والورق، ومن أَنْ تُلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟» قالوا: وما ذاك يا رسول الله! قال: «ذكر الله» .
وقال معاذ بن جبل: «ما عمل امرؤ بعمل أنجى له من عذاب الله عزّ وجل من ذكر الله» .
وأخرجه الترمذي (5/ 459) (3377) نحوه، قال الترمذي: وقد روى بعضهم هذا الحديث عن عبد الله بن سعيد مثل هذا الإسناد وروى بعضهم عنه فأرسله، وأخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 496) ، وقال: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
(2) أخرجه الطبري (12/ 99) ، برقم: (34146) ، وذكره ابن عطية (5/ 309) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 331) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 309) .
(4) في د: الباقين.
(5/432)
ذلك قبلَ الصلاةِ، فهذا الحديثُ وإن كانَ مرسلا فالظن الجميل بأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم يُوجِبُ أنْ يكونَ صحيحاً، واللَّه أعلم انتهى، وروي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَال: «لَوْلاَ هؤلاءِ لَقَدْ كَانَتِ الحِجَارَةُ سُوِّمَتْ على المُنَفضِّينَ من السماءِ» ، وفي حديثٍ آخر: «والَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ تَتَابَعْتُمْ حتى لاَ يبقى أَحَدٌ لسَالَ بِكُمُ الوَادِي نَاراً «1» ، قَالَ البخاريُّ: انْفَضُّوا معناه تَفَرَّقُوا، انتهى، وقرأ ابن مسعود «2» : «وَمِنَ التِّجَارَةِ لِلَّذِينَ اتقوا وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» وإنما أعاد الضميرَ في قوله: إِلَيْها على التجارةِ وَحْدَهَا لأنَّهَا أهَمُّ، وهي كَانَتْ سَبَبَ اللَّهوِ، - ص-: وقرىء «3» «إلَيْهِمَا» بالتثنيةِ.
__________
(1) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 235- 236) ، برقم: (6495) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 310) .
(3) ينظر: «الكشاف» (4/ 537) ، و «البحر المحيط» (8/ 265) ، و «الدر المصون» (6/ 318) .
(5/433)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
تفسير سورة «المنافقون»
وهي مدنيّة بإجماع ونزلت في غزوة بني المصطلق، بسبب أنّ ابن أبيّ ابن سلول كانت له في تلك الغزوة أقوال منكرة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3)
[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ] «1» قوله عز وجل: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ... الآية/ فَضَحَ اللَّهُ سرائرَ المنافقين بهذهِ الآية، وذلك أنهم كانوا يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم: نَشْهَد إِنَّكَ لَرَسُولِ اللَّهِ وهم في إخبارِهم هَذَا كَاذِبُونَ لأَنَّ حَقِيقَةَ الكذبِ أن يُخْبِرَ الإنْسَانُ بِضِدِّ مَا في قَلْبِهِ، وهذِه كَانَتْ حالُهُم وقَرَأَ الناس: «أيْمَانِهِم» جمعُ يمينٍ، وقرأ الحسنُ «2» :
«إيَمَانَهُمْ» - بِكَسْرِ الهمزةِ-، والجُنَّةُ: مَا يُتَسَتَّرُ به في الأَجْرَامِ والمعَانِي.
وقوله: ذلِكَ إشَارَةٌ إلى فعلِ اللَّهِ بِهِمْ في فَضْحِهُم وتَوْبِيخِهم، ويحتملُ أنْ تكونَ الإشارةُ إلى سوء ما عَمِلوا، فالمعنَى سَاءَ عَمَلُهُمْ بأنْ كَفَرُوا بَعْدَ إيمان.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 4 الى 6]
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)
__________
(1) سقط في: د.
(2) قال أبو الفتح: هذا على حذف المضاف، أي: اتخذوا إظهار إيمانهم جنة.
ينظر: «المحتسب» (2/ 322) ، و «الكشاف» (4/ 539) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 311) ، و «البحر المحيط» (8/ 267) .
(5/434)
وقوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ هذا توبيخٌ لهم إذ كَانَ مَنْظَرُهم يَرُوقُ جَمَالاً وقولُهُم يَخْلِبُ بَيَاناً لكنَّهم كالخشبِ المُسَنَّدَة إذْ لاَ أفْهَامَ لهم نافعةً، وكانَ عبدُ اللَّه بْنُ أُبَي ابن سَلُولَ مِنْ أبْهَى المنافقينَ، وأطولِهِم، ويدلّ على ذلك أنه لَمْ يوجَدْ قميصٌ يكْسُو العباسَ غيرُ قَميصِه، قال الثعلبيُّ: تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ لاسْتِوَاءِ خَلْقِهَا وطُول قَامَتِهَا وحُسْنِ صُورَتِها، قَال ابن عباس: وَكَانَ عَبْدُ اللَّه بن أُبَيٍّ جَسِيماً صَبِيحاً فَصِيحاً ذَلِقَ اللِّسَانِ، فَإذَا قَالَ سَمِعَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قوله «1» ، ووصفهم اللَّه تعالى بتمام الصورةِ وحُسْنِ الإبَانَةِ، ثم شبَّهَهُم بالخُشُبِ المسنَّدَةِ إلى الحائِط، لا يَسْمَعُونَ وَلاَ يَعْقِلُونَ أشْبَاحٌ بِلاَ أَرْوَاحٍ، وأجْسَامٌ بِلاَ أحْلاَم، انتهى.
وقوله تعالى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هَذَا أيضاً فَضْحٌ لِمَا كَانُوا يُسِرُّونَه مِنَ الخَوْفِ/ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَقَّعَونَ أن يأمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عَنِ اللَّهِ بِقَتْلِهِمْ، قال مقاتل: فكانوا متَى سَمِعُوا نُشْدَانَ ضالةٍ، أو صِيَاحاً بأيِّ وَجْهِ، أو أُخْبِرُوا بِنُزُولِ وَحْيٍ طَارَتْ عقُولُهم حتَى يسْكُنَ ذِلَك ويكونَ في غَيْرِ شأنهم، ثم أخبرَ تعالى بأنهم همُ العدوُّ وحَذَّرَ منهم.
وقوله تعالى: قاتَلَهُمُ اللَّهُ دُعَاء يَتَضَمَّنُ الإقْصَاءَ والمنابذة لهم، وأَنَّى يُؤْفَكُونَ معناهُ كَيْفَ يُصْرَفُونَ.
وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ ... الآية، سبب نزولها أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم غَزَا بني المُصْطَلِق، فَازْدَحَمَ أَجيرٌ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ يُقَالُ لَهُ «جَهْجَاهٌ» مَعَ سِنَانِ بْنِ وَبَرَةَ الجُهَنِيِّ، حَلِيفٌ لِلأَنْصَارِ، عَلَى الْمَاءِ فَكَسَعَ جهجاه سنانا فتثاورا، ودَعَا جَهْجَاهُ: يَا للْمُهَاجِرِينَ، وَدَعَا سِنَانٌ: يَا للأنصار، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَقَال: مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ؟ فَلَمَا أُخْبِرَ بالقصةِ، قال: دَعُوهَا فَإنَّهَا مُنْتِنَةٌ، فقال عبد اللَّه بن أُبَيٍّ: أَوَقَدْ فَعَلُوهَا؟ واللَّهِ، مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُ جَلاَبِيبِ قُرَيْشٍ إِلاَّ كَمَا قَالَ الأَوَّلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، وقال: لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، ثُمَّ قَال: لِمَنْ معه مِنَ المنافقينَ:
إنَّما يُقيمُ هؤلاءِ المهاجرونَ مَعَ محمدٍ بِسَبَبِ مَعُونَتِكمْ لَهم، ولَوْ قَطَعْتُمْ ذَلِكَ عنهم لَفَرُّوا، فَسَمِعَهَا منه زيد بن أرقم، فأخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بذلك، فعاتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبدَ اللَّه بن أُبَيٍّ عِنْدَ رجالٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فبلغَه ذلك، فَجَاءَ وَحَلَفَ مَا قَالَ ذلك، وحَلَفَ معَهُ قَوْمٌ مِنَ/ المُنَافِقِينَ، وكَذَّبُوا زيدا، فصدّقهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَبَقِيَ زَيْدٌ في منزلهِ لاَ ينصرفُ حَيَاءً مِنَ الناسِ فَنَزَلَتْ هذهِ السورةُ عِنْد ذَلِكَ، فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلَى زَيْدٍ وقال لهُ: لَقَدْ صَدَقَكَ اللَّهُ يا زيد،
__________
(1) ذكره البغوي (4/ 348) .
(5/435)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
فَخَزِيَ عِنْدَ ذَلِكَ عبدُ اللَّه بن أُبَيٍّ ومَقَتَه الناسُ ولاَمه المؤْمِنونَ من قومِه، وقال له بعضهم:
امض إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واعْتَرِفْ بذنبكَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ، فلوى رَأْسَهُ إنْكَاراً لهذا الرَّأْيِ، وقال لهم: لقد أشَرْتُمْ علي بالإيمان فآمنتُ، وأَشَرْتُمْ علي بأنْ أعطِيَ زَكَاةَ مالِي فَفَعَلتُ، وَلَمْ يَبْقَ لكم إلا أن تأمروني بالسجود لِمحمَّدٍ، فهذا قَصَصُ هذه السورة مُوجَزاً، وقَرأَ نافعٌ والمفضَّل عن عاصم: «لَوَوْا» - بتخفيف الواوِ- وقرأ الباقون بتشديدِها.
وقوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ ... الآية، رويَ أنه لما نزلتْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة: 80] قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لأَزِيدَنَّ على السبعينَ، وفي حديثٍ آخَرَ: لَوْ عَلِمْتُ أنِّي لَوْ زِدْتُ على السبعينَ لَغَفَرَ لَهُمْ لَزِدْتُ، وفي هذا الحديثِ دليلٌ عَلَى رَفْضِ دليلِ الخطابِ، فَلَمَّا فعل ابْنُ أُبَيٍّ وأصحابهُ مَا فَعَلُوا شَدَّدَ اللَّه عليهم في هذه الآيةِ، وأَعْلَم أَنَّه لَنْ يَغْفِرَ لهم دون حدّ في الاستغفار.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 7 الى 8]
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)
وقوله تعالى: هُمُ الَّذِينَ إشارةٌ إلى ابن أُبَيٍّ ومَنْ قَالَ بقوله، ثم سفه تعالى أحلامَهم في أن ظَنُّوا أنَّ إنْفَاقَهم هو سَبَبُ رزقِ المهاجرينَ، ونَسَوا أن جَرَيَانِ الرزقِ بِيَدِ اللَّهِ تعالى إذَا انْسَدَّ بابٌ انْفَتَحَ غَيْرُه ثم أعْلَمَ تعالى أنَّ العزةَ لِلَّهِ ولرسولهِ وللمؤمنِين، وفي ذلكَ وعيدٌ وَرُوِي/ أن عبدَ اللَّه بن عبدِ اللَّه بن أُبَيٍّ وكَانَ رَجُلاً صَالِحاً لَمَّا سَمِعَ الآيةَ، جَاءَ إلى أبيه فَقَالَ له: أنْتَ واللَّهِ يا أبَتِ الذليلُ، ورَسُولُ اللَّهِ العزيزُ، وَوَقَفَ عَلَى بَابِ السِّكَّةِ التي يَسْلُكُها أبوه، وجَرَّدَ السَّيْفَ وَمَنَعَهُ الدُّخُولَ، وقال: واللَّهِ لاَ دَخَلْتَ إلى مَنْزِلِكَ إلاَّ أنْ يأْذَنَ في ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ، وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ في أذَلِّ حال، وبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَبَعَثَ إلَيْهِ أنْ خَلِّهِ يَمْضِي إلى مَنْزِلِهِ، فقال: أمّا الآن، فنعم.
[سورة المنافقون (63) : الآيات 9 الى 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ...
الآية، الإلهاءُ: الاشْتِغَالُ بِمَلَذ وَشَهْوَةٍ، وذكرُ اللَّه هنا عامٌّ في الصلوات، والتوحيدِ،
(5/436)
والدعاء، وغيرِ ذلكَ مِنْ مَفْرُوضٍ، ومنْدُوبٍ، وكذلك قوله تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَّا رَزَقْناكُمْ عامٌّ من المفرُوضِ والمندوبِ قاله جماعة من المفسرينَ، قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب «عيوب النفس» : وَمِنْ عيوبِها تضييعُ أوقاتِها بالاشْتِغَالِ بما لا يَعْنِي مِنْ أُمورِ الدُّنْيا، والخَوْضِ فيها مَعَ أهلِها، ومُدَاوَاتُها أنْ يَعْلَمَ أنَّ وَقْتَه أعزُّ الأشياءِ فَيَشْغَلَه بِأَعَزّ الأَشْيَاءِ، وهو ذِكْرُ اللَّهِ، والمُدَاوَمَةُ على الطاعةِ ومطالبةُ الإخْلاَصِ من نفسهِ فإنَّه رُوِيَ عنِ النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يَعْنِيهِ» «1» وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ مَنْصُورٍ: عَلَيْكَ بنفسِكَ فَإنْ لَمْ تَشْغَلْها شَغَلَتْكَ، انتهى.
وقولهُ: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ طَلَبٌ لِلْكَرَّةِ والإمهَالِ، وسَمَّاه قَرِيباً لأنّه آتٍ، وأيْضاً فإنَّما يتمنى ذلك لِيقْضِيَ فيه العملَ الصالحَ فَقَطْ/ وليس يتّسع الأمل حينئذ لطلب العيش ونظرته. وقوله: وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ ظاهرَه العمُومُ، وقال ابن عباس: هو الحج «2» وَرَوَى الترمذيُّ عنه أنَّه قال: مَا مِنْ رَجُلٍ لاَ يُؤَدِّي الزَّكَاةَ وَلاَ يَحُجُّ إلاَّ طَلَبَ الْكَرَّةَ عِنْدَ مَوْتِهِ «3» ، قَال الثعلبيُّ: قَال ابن عباس: إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ يريدُ مِثْلَ آجالِنَا في الدنيا «4» ، انتهى، وقرأ أبو عمرو «5» : «وَأَكُونَ» ، وفي قوله تعالى: وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها حَضٌّ عَلَى المُبَادَرَةِ ومُسَابَقَةِ الأَجَلِ بالعملِ الصالح.
__________
(1) تقدم تخريجه. [.....]
(2) أخرجه الطبري (12/ 110- 111) ، بأرقام (34181- 34182، 34185) ، وذكره ابن عطية (5/ 315) ، والبغوي (4/ 351) ، وابن كثير (4/ 373) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 341) ، وعزاه لابن المنذر.
(3) أخرجه الترمذي (5/ 418) ، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة المنافقون (3316) ، وابن جرير (12/ 110) (34182) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 340) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني.
(4) ذكره الفخر الرازي (10/ 17) .
(5) ينظر: «السبعة» (637) ، و «إعراب القراءات» (2/ 369) ، و «حجة القراءات» (710) ، و «العنوان» (191) ، و «شرح الطيبة» (6/ 56) ، و «شرح شعلة» (603) ، و «إتحاف» (2/ 540) ، و «معاني القراءات» (3/ 71) .
(5/437)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
تفسير سورة «التّغابن»
وهي مدنيّة وقال آخرون: مكّيّة إلا من قوله- عزّ وجلّ-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ إلى آخر السورة، فإنه مدنيّ.
[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ أي: في أصْلِ الخِلْقَةِ «1» ، وهذا يَجْرِي مع قول المَلَكِ: يَا رَبِّ، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، الحَدِيثَ، وذَلِكَ في بطنِ أمهِ، وقيل: الآيةُ تعديدُ نِعَمٍ، فقولُه: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ هَذِهِ نعمةُ الإيجَاد، ثم قال: فَمِنْكُمْ كافِرٌ أي: بهذِه النِّعْمَةِ لجهلهِ باللَّهِ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ باللَّهِ، والإيمانُ بهِ شُكْرٌ لنعمتِه، فالإشَارةُ عَلى هذَا التأويلِ في الإيمانِ والكفرِ، هي إلى اكتسابِ العَبْدِ وهذا قولُ جماعة، وقيلَ غير هذا.
وقوله تعالى: خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي: لم يخلقْها عَبَثاً ولاَ لغيرِ مَعْنى.
وقوله تعالى: فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ هو تعديدُ نِعَمٍ، والمرادُ الصورةُ الظاهرة، وقيل:
المرادُ صورةُ الإنسانِ المعنويَّةِ من حيثُ هو إنسانٌ مُدْرِكٌ عاقلٌ، والأولُ أجْرَى على لغةِ العرب.
__________
(1) في د: الحقيقة.
(5/438)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
[سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 10]
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
وقوله تعالى: أَلَمْ يَأْتِكُمْ جَزْمٌ أصْلُه «يأتيكم» والخطابُ في هذهِ الآيةِ لقريشٍ، ذُكِّرُوا بِمَا حَلَّ بِعَادٍ وثمودَ، وغيرهم ممن سَمِعَتْ قريشٌ بِأخبارِهم، وَوَبَالُ الأمْرِ: مكروهُه وما يسوء منه.
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُ إشارة إلى ذَوْقِ الوَبَالِ، وباقي الآية بَيِّنٌ.
وقوله تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا يريدُ قُريشاً، ثم هِي بَعْدُ تَعُمّ كلَّ كافرٍ بالبعثِ، ولا تُوجَدُ (زَعَمَ) مستعملةً في فصيحِ الكلامِ إلا عبَارَةً عَنِ الكَذِبِ، أو قولِ انْفَرَدَ به قائله.
وقوله سبحانه: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا هذه الآيةُ دعاء من اللَّهِ، وتبليغٌ وتحذيرٌ مِنْ يَوْمِ القِيَامَةِ، والنُّورُ القرآنُ ومعانيه، ويومُ الجَمْعِ هو يومَ القيامَةِ، وهُو يومُ التغابُنِ يَغْبِنُ فِيهِ المؤمِنُونَ الكافرينَ، نَحا هذا المَنْحَى مُجَاهِد وغيره «1» .
[سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 13]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
وقوله تعالى: مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ يحتملُ أَنْ يريدَ المصائِبَ التي هي رَزَايا، ويحتملُ أنْ يريدَ جميعَ الحوادثِ من خيرِ وشر، والكلُّ بإذْنِ اللَّهِ، والإذنُ هنا عبارةٌ عَنِ العلم والإرادة وتمكين الوقوع.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 115) ، برقم: (34191) ، وذكره ابن عطية (5/ 319) ، وابن كثير (4/ 375) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 334) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد.
(5/439)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
وقوله سبحانه: وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ قال فيه المفسرون: المعنَى ومَنْ آمنَ وعَرَفَ أنَّ كلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءِ اللَّه وقَدَرَه وَعِلْمِهِ، هانتْ عَلَيْهِ مصيبتُه وسلَّم لأمْرِ اللَّه تعالى.
وقوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ إلى آخر الآية، وعيد وتبرئة للنبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة التغابن (64) : الآيات 14 الى 15]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ إلى آخر السورةِ قرآنٌ مدنيٌّ واخْتُلِفَ في سَبَبهِ، فقال عطاء بن أبي ربَاح: إنَّه نَزَلَ في عَوْفِ بن مَالكٍ الأشّجَعِيِّ وذلك أَنَّهُ أراد غَزْواً مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فاجْتَمَعَ أَهْلُهُ وأولاده، وتَشَكَّوْا إلَيْه فِرَاقَهُ، فَرَقَّ لهُمْ فَثَبَّطُوهُ ولم/ يَغْزُ، ثم إنّه نَدِمَ وهَمَّ بمعاقبتِهم، فنزلتِ الآية «1» بسببه محذِّرةً مِن الأَزْوَاجِ والأولاد وفتنتِهم. ثم صَرَفَ تَعالَى عَنْ معاقبتهِم بقوله: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وقال بعضُ المفسرينَ: سببُ الآيةِ أنَّ قوماً آمنُوا وثَبَّطَهُمْ أزْوَاجُهم وأولادُهم عَنْ الهِجرةِ فَلَمْ يُهَاجِروا إلا بَعْدَ مدةٍ، فَوَجَدُوا غيرَهم قد تَفَقَّه في الدين، فَنَدِمُوا وهَمُّوا بمعاقبةِ أزواجِهِم وأولادِهم، ثم أَخْبَرَ تعالى أن الأمْوَالَ والأولادَ فتنةٌ تَشْغَلُ المرءَ عَنْ مَرَاشِدِهِ، وتَحْمِلُه مِنَ الرَّغْبَةِ في الدنيا عَلَى مَا لاَ يَحْمَدُه في آخرتِه، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الوَلَدُ مَبْخَلَةٌ مُجْبَنَةٌ» «2» ، وخَرَّجَ أبو داود حديثاً في مصنفه «أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانَ يَخْطُبُ يَوْمَ الجمعةِ عَلى المِنْبَرِ حَتَّى جَاءَ الحَسَنُ والحسينُ عليهما قميصان أحمرانَ يجرانِهما، يعثران ويقومان، فنزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنِ المنبرِ حَتَّى أخَذَهُمَا، وصَعِدَ بِهِمَا، ثم قرأ: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ ...
الآية، وقال: إني
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 177) ، برقم: (34201) ، وذكره ابن عطية (5/ 320) .
(2) رواه ابن ماجه عن عبد الله بن سلام قال: جاء الحسن والحسين يستبقان إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فضمهما إليه، وذكره، وللعسكري والحاكم عن الأسود بن خلف أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ حسنا فقبله، ثم أقبل عليهم فقال:
إن الولد مجبنة مبخلة، وأحسبه قال: مجهلة، وللعسكري أيضا: عن أشعث بن قيس قال: مررت على النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال لي: «ما فعلت بنت عمّك» قلت: نفست بغلام، وو الله لوددت أن لي به سبعة، فقال:
«أما لئن قلت إنهم لمجبنة مبخلة، وإنهم لقرة العين وثمرة الفؤاد» ، وله أيضا عن عمر بن عبد العزيز، قال: زعمت المرأة الصالحة خولة ابنة حكيم، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج وهو يحتضن حسنا أو حسينا، وهو يقول: «إنكم لتجبّنون وتجهّلون، وإنكم لمن ريحان الله» ، وأخرجه أبو يعلى والبزار بسند ضعيف عن أبي سعيد بلفظ: «الولد ثمرة القلب، وإنه مبخلة مجبنة محزنة» .
ينظر: «كشف الخفاء» (2/ 470) .
(5/440)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
رأيتُ هذينِ فَلَمْ أصْبِرْ، ثم أخَذَ في خُطْبَتِهِ» «1» ، قال ع «2» : وهذهِ ونحوُها هِي فتنةُ الفُضَلاَءِ، فأما فتنةُ الجُهَّالِ الفَسَقَةِ فَمُؤَدِّيَةٌ إلى كلِ فعلٍ مُهْلِكٍ، وفي «صَحِيحَي البخاري ومسلم» عن أبي ذرٍ قال: انتهيتُ إلى النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وَهُوَ يَقُول: «هم الأخْسَرُونَ، وَرَبِّ الكَعْبَةِ، هُمُ الأخْسَرُونَ، وَرَبِّ الكَعْبَةِ، قُلْتُ: مَا شَأْنِي أيرى فيَّ شَيْئاً؟ فَجَلَسْتُ وَهُوَ يَقُولُ فَمَا استطعت أنْ أسْكُتَ وتَغَشَّانيَ مَا شَاء اللَّهُ فَقُلْتُ: مَنْ هُمْ بأبي أنتَ وأمي يا رسولِ اللَّهِ؟
قال: هُمُ الأكْثَرُونَ مَالاً إلاَّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وهَكَذَا وَهَكَذَا» «3» وفي رواية: «إن الأَكْثَرينَ هم الأقَلُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ إلاَّ مَنْ قال بالمال، هكذا وهكذا، - وأشار ابن شهاب بين يديه وعن يمينه وعن شماله-، وقليل ما هم» انتهى، واللفظ للبخاريّ.
[سورة التغابن (64) : الآيات 16 الى 18]
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
وقوله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ تَقَدَّمَ الخلافُ هَلْ هذه الآيةُ نَاسِخَةٌ لقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] أو ليست بناسخة، بل هي مبيّنة لها،
__________
(1) أخرجه أبو داود (1/ 358) ، كتاب «الصلاة» باب: الإمام يقطع الخطبة للأمر يحدث (1109) ، والترمذي (5/ 659) ، كتاب «المناقب» باب: مناقب الحسن والحسين عليهما السلام (3774) ، والنسائي (3/ 108) ، كتاب «الجمعة» باب: نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من خطبته وقطعه كلامه ورجوعه إليه يوم الجمعة (1413) ، (3/ 192) ، كتاب «العيدين» باب: نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة (1585) ، وابن ماجه (2/ 1190) ، كتاب «اللباس» باب: لبس الأحمر للرجال (3600) ، وأحمد (5/ 354) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 320) .
(3) أخرجه البخاري (11/ 63) ، كتاب «الاستئذان» باب: من أجاب بلبيك وسعديك (6268) ، (11/ 533) ، كتاب «الأيمان والنذور، باب: كيف كان يمين النبي صلّى الله عليه وسلّم (6639) ، ومسلم (2/ 686) ، كتاب «الزكاة» باب: تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة (30/ 990) ، والترمذي (3/ 3) ، كتاب «الزكاة» باب: ما جاء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في منع الزكاة من التشديد (617) ، والنسائي (5/ 10) ، كتاب «الزكاة» باب:
التغليظ في حبس الزكاة (2440) ، وأحمد (5/ 152، 158- 159) ، والبيهقي (4/ 97) ، كتاب «الزكاة» باب: جماع أبواب صدقة البقر السائمة، (10/ 27) ، كتاب «الأيمان» باب: الحلف بالله عز وجل أو اسم من أسماء الله عز وجل، وابن خزيمة (4/ 9) ، كتاب «الزكاة» باب: صفات ألوان عذاب مانع الزكاة إلى يوم القيامة، قبل الفصل بين الخلق، نعوذ بالله من عذابه (2251) ، والحميدي (1/ 77) ، برقم:
(140) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (7/ 364) .
قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(5/441)
وأن المَعْنَى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ فِيمَا اسْتَطَعْتُمْ وهذا هو الصحيح، قال الثعلبي: قال الربيع بن أنس: مَا اسْتَطَعْتُمْ أيْ: جَهْدَكُمْ، وقيل: معناه: إذا أمْكَنَكُمْ الجهادُ والهجرةُ، فَلا يُفْتِنَنَّكُمُ المَيْلُ إلى الأمْوالِ والأوْلاَدِ، واسْمَعُوا ما تُوعظونَ به، وأطِيعُوا فيما تؤمَرُون به «1» ، انتهى.
وقوله سبحانه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ تَقَدَّم الكلامُ عليه، وأسْنَد أبو بكر بن الخطيب من طريقِ أبي هريرةَ وأبي سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «السَّخَاءُ شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ، وأَغْصَانُها في الدُّنْيَا، فَمَنْ كَانَ سَخِيًّا أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْهَا فَلَمْ يَتْرُكْهُ الغُصْنُ حتى يُدْخِلَهُ الجَنَّةَ، والشُّحُّ شَجَرَةٌ في النَّارِ وَأَغْصَانُهَا في الأَرْضِ، فَمَنْ كَانَ شَحِيحاً، أَخَذَ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا، فَلَمْ يَتْرُكْهُ الغُصْنُ حتى يُدْخِلَهُ النَّارَ» «2» انتهى، وَباقِي الآية بيّن.
__________
(1) ذكره ابن كثير (4/ 377) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 346) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر.
(2) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (7/ 434- 435) (10875) عن جعفر بن محمّد عن أبيه عن جده، و (10877) عن أبي هريرة، وذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (1/ 545) ، وزاد نسبته إلى الديلمي في «الأفراد» .
(5/442)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
تفسير سورة الطّلاق
وهي مدنيّة
[سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)
[بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ] «1» قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ أي: إذا أرَدْتُم طلاقَهُنَّ قاله الثعلبيّ وغيره: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وطَلاَقُ النساء حَلُّ/ عِصْمَتِهِنَّ، وصورَةُ ذلك وتَنْويعِه مِما لا يَخْتَصُّ بالتفسيرِ، ومعنى فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي: لاسْتِقْبَالِ عِدَّتِهِن، وعبارةُ الثعلبيِّ: أي:
لِطُهْرِهِنَّ الذي يُحْصِينَه مِنْ عِدَّتِهِنَّ، وهُو طُهْرٌ لَمْ يجامعْهَا فيه، انتهى، قال ع «2» :
ومعنى الآيةِ أنْ لاَ يُطَلِّقَ أحَدٌ امرأتَه إلا في طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّها فِيهِ، وهَذَا على مَذْهَبِ مالكٍ ومن قال بقوله القائلينَ بأن الأَقْرَاءَ عندَهم هي الأطْهَارُ، فَيُطَلِّقُ عَنْدَهم المُطَلِّقُ في طُهْرٍ لم يمسَّ فيه، وتَعْتَدُّ به المرأةُ، ثم تَحِيضُ حَيْضَتَيْنِ تَعْتَدّ بالطهْرِ الذي بَيْنَهُمَا ثُمَّ تُقِيمُ في الطُّهْرِ الثَّالِثِ مُعَتَدَّةً بِهِ، فإذا رأت أوّلَ الحَيْضَةِ الثالثةِ حَلَّتْ، وَمَنْ قَالَ بأنَّ الأَقْرَاءَ: الحَيْضُ وَهُمْ العِرَاقِيُّونَ، قَالَ: لِعِدَّتِهِنَّ مَعْنَاهُ أنْ تُطَلَّقَ طَاهِراً فَتَسْتَقْبِلُ بِثَلاَثِ حَيْضٍ كَوامِلٌ فإذَا رَأَتْ الطُّهْرَ بَعْدَ الثالثة، حَلَّتْ، والأَصْلُ في مَنْعَ طَلاَقِ الحَائِضِ حَدِيثِ ابنِ عمرَ، ثم أمر تَعَالى بإحْصَاء العِدَّةِ لِمَا يَلْحَقُ ذلك من أحكام الرَّجْعَةِ والسُّكْنَى، والميراثِ، وغيرُ ذلك، وعبارة الثعلبي: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ أي: احْفَظُوا عَدَدَ قُرُوئِها الثلاثةِ وَنَحْوَه تفسيرُ ابن العربيّ قال:
__________
(1) سقط في: د. [.....]
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 323) .
(5/443)
قوله تعالى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ معْنَاهُ احْفَظُوا الوَقْتَ الَّذِي وَقَعَ فِيه الطَّلاَقُ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذلكَ من الأحكامِ، انتهى من «أحكامه» ، ثم أخبرَ تعالى بأنهنّ أحَقُّ بسكنى بيوتِهن التي طُلِّقْنَ فيها فَنَهَى سبحانَه عن إخراجِهنَّ وعَنْ خُروجِهنّ، وسنةُ ذلك ألا تَبِيتَ عَن بيتِها ولا تَغِيبَ عنهُ نهاراً إلا في ضرورةٍ ومَا لا خَطْبَ لَه من جائِز/ التصرُّفِ، وذلك لحفظِ النَّسَبِ والتحرُّزِ بالنسَاء، واختُلِفَ في معنى قوله تعالى: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فقال الحسن وغيره: ذلك الزِّنَا فَيُخْرَجْنَ للحَدِّ «1» ، وقال ابن عباس: ذلك البَذَاءُ عَلَى الأَحْمَاءِ، فَتَخْرُجَ ويَسْقُطَ حَقُّها مِنَ المسكنِ، وتلزم الإقامَة في مسكنٍ تَتَّخِذُه حفظاً للنسبِ «2» ، وفي مصحف «3» أبَيٍّ «إلا أنْ يَفْحُشْنَ عَلَيْكُمْ» وعبارةُ الثعلبيّ: عن ابن عباسٍ: «إلا أنْ تَبْذُوَ عَلَى أهْلِهَا فَيَحِلُّ لَهُمْ إخْرَاجُهَا» ، انتهى، وهو معنى ما تقدم، وقرأ الجمهور: «مُبَيِّنَة» - بكسر الياءِ-، تقول بَانَ الشيءُ وَبَيَّنَ بمعنًى واحدٍ إلا أن التضعيفَ للمبَالَغَةِ، وقرأ عاصم «4» :
«مُبَيَّنة» - بفتح الياءِ-.
وقوله سبحانه: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارَةٌ إلى جميع أوامِرِه في هذه الآيةِ.
وقوله تعالى: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً قال قتادة وغيره: يريد به الرَّجْعَةَ، أي: أحْصُوا العدةَ وامْتَثِلُوا مَا أُمِرْتُمْ به تَجِدُوا المُخَلِّصَ إن ندمتم فإنكم لا تدرونَ لعلّ الرَّجْعَةَ تكونُ بَعْدُ «5» .
وقوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يريدُ به آخر القروء، فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وهُو حُسْنُ العِشْرَةِ، أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [وهُو] أداء جَميعِ الحقوقِ، والوَفاءُ بالشُّروطِ حَسَبَ نَازِلَةٍ نَازِلَةٍ، وعبارة الثعلبي: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي: أشْرَفْنَ على انْقِضَاء عدتهن، انتهى وهو حسن.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 125- 126) ، برقم: (34252) ، و (34255) ، وذكره ابن عطية (5/ 323) ، وابن كثير (4/ 378) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 352) ، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 323) ، وابن كثير (4/ 378) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 352) ، وعزاه لعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن مردويه.
(3) ينظر: «الكشاف» (4/ 555) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 323) .
(4) ينظر: «العنوان» (192) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 323) ، وإنما قرأ بها عاصم من رواية أبي بكر، وكذلك قرأ بها ابن كثير.
(5) أخرجه الطبري (12/ 128) ، بأرقام (34264، 34266) ، وذكره ابن عطية (5/ 323) ، وابن كثير (4/ 378) .
(5/444)
وقوله تعالى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ يريدُ: على الرَّجْعَةِ وذلك شَرْطٌ في صحة الرَّجْعَةِ، وتَمْنَعُ المرأةُ الزَّوْجَ مِنْ نَفْسِهَا حَتّى يُشْهِدَ، وقال ابن عباس: عَلَى الرَّجْعَةِ والطلاقِ مَعَاً «1» ، قال النخعي: العَدْلُ مَنْ لم تظهرْ منه رِيبة «2» ، والعدلُ حَقِيقَة/ الذي لا يخاف إلا اللَّهَ.
وقوله سبحانه: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ أمْرٌ للشهودِ.
وقوله: ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ إشارةٌ إلى إقامة الشهادةِ وذلك أنّ فُصُولَ الأَحْكَامِ تدور على إقامة الشهادةِ.
وقوله سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ قال بعض رواة الآثار، نزلتْ هذه الآيةُ في عَوْفِ بن مالك الأشجعي أُسِرَ ولدُه وقُدِرَ عليه رزقُه، فَشَكَا ذلكَ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فَأَمَرَه بالتَّقْوَى، فلم يلبثْ أن تَفَلَّتَ ولدُه وأخَذَ قطيعَ غَنَمٍ للقومِ الذين أسَرُوه، فَسَأَلَ عوف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أتَطِيبُ لَهُ تِلْكَ الغَنَمُ؟ فقال: نَعَمْ «3» ، قال أبو عمر بن عَبْدِ البَرِّ: قال النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «أبى اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- أنْ يَجْعَلَ أرْزَاقَ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ إلاَّ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُونَ» «4» وقال ع لابن مسعود: «لاَ يَكْثَرْ هَمُّكَ، يَا عَبْدَ
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 129) ، برقم: (34276) ، وذكره ابن عطية (5/ 324) .
(2) ذكره ابن عطية (5/ 324) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد.
(3) أخرجه الحاكم (2/ 492) .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. اهـ.
قال الذهبي- معقبا على كلام الحاكم-: بل منكر وعباد رافضي جبل، وعبيد متروك، قاله الأزدي. اهـ.
(4) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (1/ 34- 35) ، بلفظ: «أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يعلم» ، وقال في «التمييز» تبعا للأصل: أخرجه الديلمي من حديث أبي هريرة من رواية عمر بن راشد وهو ضعيف جدا، وقال البيهقي: ضعيف بالمرة، وأورده ابن الجوزي في «الموضوعات» ، وزاد في الأصل: ورواه القضاعي في «مسنده» فقال: اجتمع أبو بكر، وعمر، وأبو عبيدة، فتماروا في شيء، فقال لهم علي: انطلقوا بنا إلى رسول الله، فلما وقفوا عليه قالوا: يا رسول الله، جئنا نسألك عن شيء، فقال: «إن شئتم، فسألوا، وإن شئتم خبرتكم بما جئتم له» ، فقال لهم: «جئتم تسألوني عن الرزق من أين يأتي؟ وكيف يأتي؟» ، فذكر: أبي الله- الحديث المذكور-، ورواه الديلمي كما في «الدرر» عن أبي هريرة: بلفظ: «أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب» ، ورواه العسكري، وابن ماجه بسند ضعيف عن علي رفعه إنما تكون الصنيعة إلى ذي دين أو حسب، وجهاد الضعفاء الحج، وجهاد المرأة حسن التّبعل لزوجها، والتودد نصف الإيمان، وما علل أمر على اقتصاد، واستنزلوا الرزق بالصدقة، وأبي الله إلا أن يجعل أرزاق عباده المؤمنين من حيث لا يحتسبوا. قال النجم: ولا يصح شيء منها انتهى. وأقول: الحديث بطرقه معناه صحيح وإن كان ضعيفا، ففي التنزيل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ والمعنى: كما قال البيهقي وغيره: - أبي الله أن يجعل أرزاق
(5/445)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
الله ما يقدّر يكن وما ترزق يأتك «1» ، وعنه صلّى الله عليه وسلّم «اسْتَنْزِلُوا الرِّزْقَ بالصَّدَقَة» «2» ، انتهى من كتابه المسمى ب «بهجة المَجَالسِ وأنس المجالس» .
وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ هذهِ الآياتُ كلُّها عِظةٌ لجميعِ الناسِ، ومعنى حَسْبُهُ: كَافِيهِ. وقال ابن مسعود: هذه أكْثَرَ الآيات حَضًّا على التفويضِ للَّه «3» .
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ بَيَانٌ، وَحَضٌّ عَلى التوكلِ، أي: لا بُدَّ مِنْ نفوذِ أمرِ اللَّهِ توكلتَ أيُّهَا المرءُ أوْ لَمْ تَتَوَكَّلْ قاله مسروق فإنْ توكلتَ على اللَّهِ كَفَاكَ وَتَعَجَّلَتِ الراحةُ والبَرَكةُ، وإن لم تتوكَّلْ وَكَلَكَ إلى عَجْزِكَ وَتَسَخَّطَكَ، وأمرُه سبحانَه في الوجهين نَافِذٌ.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 6]
وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6)
وقوله سبحانه: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ ... الآية، «اللائي» جمعُ «التي» واليائساتُ من المحيض على مراتبَ مَحَلُّ بَسْطِها كُتُبُ الفِقْهِ، وروى إسماعيلُ بْنُ خالدٍ أنَّ قَوْماً منهم أُبَيُّ بن كعبٍ وخَلاَّدُ بْنُ النُّعْمَانِ، لما سمعوا قوله تعالى: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: 228] قالوا: يا رسول الله
__________
عباده من حيث يحتسبون، وهو كذلك، فإن الله تعالى يرزق عباده على حيث يحتسبون تارة كالتجارة والحراثة، وتارة يرزقهم من حيث لا يحتسبون، كالرجل يصيب معدنا، أو ركازا، أو يرث قريبا له يموت، أو يعطيه أحد مالا من غير استشراف نفس ولا سؤال، وآية وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ ليس فيها حصر فليتأمل!!.
(1) ذكره العجلوني في «كشف الخفاء» (2/ 523) ، وقال: رواه أبو نعيم عن خالد بن رافع، وهو مختلف في صحبته، والأصبهاني في «ترغيبه» عن مالك بن عمرو المغافري مرسلا، ولأبي نعيم أيضا عن أنس قال: خدمت النبي صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين، فما لامني فيما نسيت ولا فيما ضيّعت، فإن لامني بعض أهله قال:
دعوه، فما قدّر فهو كائن، وفي رواية: خدمت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عشر سنين، وكان بعض أهله إذا قال لي شيئا قال: دعوه، فما قدّر سيكون.
(2) انظر الحديث قبل السابق.
(3) أخرجه الطبري (12/ 132) ، برقم: (34297) ، وذكره ابن عطية (5/ 324) . [.....]
(5/446)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
فما عِدَّةُ مَنْ لاَ قَرْءَ لَهَا مِنْ صِغَرٍ أو كِبَرٍ «1» ، فنزلَتْ هذه الآية، فقالَ قائلٌ منهم: فَمَا عِدَّةُ الحَامِلِ فنزلَتْ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وهُو لفظٌ يَعُمُّ الحواملَ المطلقاتِ والمعْتَدَّاتِ من الوَفَاةِ، والارتيابُ المذكورُ قيلَ: هو بأمر الحَمْلِ.
وقوله سبحانه: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ ... الآية، أمْرٌ بإسكانِ المطلقاتِ ولاَ خِلاَفَ في ذلك في التي لَمْ تُبَتَّ وأمَّا المَبْتُوتَةُ فَمَالكٌ يَرَى لَها السُّكْنَى لمكانِ حِفْظِ النسب، ولا يَرَى لها نَفَقَةً لأنَّ النفقةَ بإزَاء الاسْتِمْتَاعِ، وقال الثعلبيُّ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ أي: في مساكِنِكم التي طلقتموهنَّ فِيها، انتهى، والوُجْدُ السِّعَةُ في المالِ، وأما الحَامِلُ فَلا خِلاَفَ في وُجُوبِ سُكْنَاها ونفقتِها بُتَّتْ أوْ لَمْ تُبَتَّ لأَنَّها مُبَيَّنة في الآيةِ، وأَنما اخْتَلَفُوا في نفقةِ الحامِل المُتَوفَّى عَنْهَا زوجُها، هَلْ يُنْفَقُ عَلَيْهَا مِنْ التِّرْكَةِ، أمْ لاَ، وكذلكَ النَّفَقَةُ على المُرْضِعِ المطلقةِ وَاجِبَةٌ، وبَسْطُ ذلك في كتبِ الفقه.
وقوله سبحانه: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ أي ليأمُرْ كلُّ واحدٍ صاحبَه بخيرٍ، ولْيَقْبَلْ كلُّ أحَدٍ مَا أُمِرَ بهِ من المعروف.
وقوله سبحانه: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ أي: تَشَطَّطت «2» المرأة في الحدِّ الذي يكونُ أُجْرَةً على الرِّضَاعِ، فللزَّوْجِ أن يسترضع/ بما فيه رفقه أَلاَّ يقبلَ المولودُ غَيْرَ أمِّه، فَتُجْبَرُ هِي حِينَئِذٍ عَلى رَضَاعِه بأجْرَةِ مثلها ومثل الزوجِ في حالهما وغناهما.
ت: وهذا كله في المطلقة البائِنِ، قال ابن عبد السلام من أصحابنا: الضمير في قوله تعالى: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ عائِدٌ على المطلقاتِ وكَذَلِكَ قوله تعالى: وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ [البقرة: 233] وأمَّا ذَاتُ الزوج أو الرَّجْعِية، فَيَجِبُ عليها أنْ ترضِعَ مِنْ غَيْر أجْرٍ إلا أنْ تكون شريفة فلا يلزمها ذلك، انتهى.
[سورة الطلاق (65) : الآيات 7 الى 11]
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11)
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 325) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 358) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر من طريق الثوري.
(2) الشّطط: مجاوزة القدر في بيع أو طلب أو احتكام أو غير ذلك من كلّ شيء.
ينظر: «لسان العرب» (2263) .
(5/447)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
وقوله سبحانه: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ ... الآية، عَدَلَ بَيْنَ الأزواج لِئَلاَّ تَضِيعَ هي ولا يُكَلَّفَ هو ما لا يُطِيقُ، ثُم رجَّى تعالى باليُسْرِ تِسْهِيلاً على النفوس وتطييباً لها.
وقوله سبحانه: وَكَأَيِّنْ الثعلبي: وكأين، أي: وَكَمْ مِنْ قَرْيَة، عَتَتْ أي:
عَصَتْ.
وقوله: فَحاسَبْناها قال ع «1» : قال بعضُ المتأولينَ: الآيةُ في أحوالِ الآخِرَةِ، أي: ثمَّ هُو الحسابُ والتعذيبُ والذَوْقُ وخَسَارُ العَاقِبَةِ، وقال آخرونَ: ذلك في الدنيا، ومعنى فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً أي: لم تُغْتَفَرْ لهم زَلَّةٌ، بل أُخِذَتْ بالدقائق من الذنوب، ثم نَدَبَ تعالى أولي الألباب إلى التقوى تحذيراً.
وقوله تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا اخْتُلِفَ في تقديرِه، وأبْيَنُ الأقوالِ فيه معنى أنْ يكونَ الذكرُ القرآن، والرسول محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، والمِعْنَى وأرْسَلَ رسولاً لكنَّ الإيجازَ اقتضَى اختصارَ الفعلِ الناصب للرسول ونحا هذا المنحى السدي، وسائر الآية بيّن «2» .
[سورة الطلاق (65) : آية 12]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)
وقوله سبحانه: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ لا خلافَ بين العلماءِ أن السموات سَبْعٌ وأمّا/ الأرْضُ فالجمهورُ: على أنها سَبْع أَرْضِينَ، وهو ظاهرُ هذهِ الآيةِ، وإنما المماثلة في العدد، ويبيّنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في الحديثِ الصحيحِ: «مَنْ غَصَبَ شِبْراً مِنْ أرْضٍ طَوَّقَه اللَّه مِنْ سَبْعِ أرضِينَ» ، إلى غير هذا مما وردت به الرواياتُ، ورُوِيَ عن قومٍ مِنَ العلماءِ أنهم قَالوا: الأرضُ واحِدَةٌ وهي مماثلةٌ لكلِّ سَماءٍ بانْفِرَادِها في ارتفاع جُرْمِها، وفي أن فيها عَالماً يعبُدُ اللَّهَ كما في كلِّ سَمَاءٍ عَالَمٌ يعبُد اللَّه.
وقوله سبحانه: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ الأمْرُ هنا يعُمُّ الوحيَ وجميعَ ما يأمُرُ به سبحانه
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 327) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 144) ، برقم: (34369) ، وذكره ابن عطية (5/ 327) .
(5/448)
من تَصْرِيف الرياحِ، والسحابِ، وغير ذلك من عجائب صنعه لاَ إله غيرُه، وبَاقِي السُّورَةِ وعظ وحضّ على توحيد الله- عز وجل-.
وقوله: عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عُمُومٌ معناه الخُصُوصُ في المقدوراتِ.
وقوله: بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً عموم على إطلاقه.
(5/449)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
تفسير سورة التّحريم
وهي مدنيّة بإجماع
[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ... الآية، وفي الحديثِ مِنْ طُرُقٍ ما معناه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جاءَ إلى بيتِ حَفْصَةَ، فوجَدَها قد مرَّتْ لزيارة أبيها، فدعا صلّى الله عليه وسلّم جاريَتَهُ مَارِيَّةَ، فَقَالَ مَعَها، فَجَاءَتْ حَفْصَةُ وَقَالَت: يا نبيَّ اللَّه! أفِي بَيْتِي وعلى فِرَاشِي؟
فقال لها صلّى الله عليه وسلّم: مترضِّياً لها: «أيُرْضِيكِ أنْ أُحَرِّمَها؟ قَالَتْ: نَعَمْ فقال: إنِّي قَدْ حَرَّمْتُهَا» ، قال ابن عباس: وقالَ مَعَ ذلكَ: واللَّهِ، لاَ أَطَؤُهَا أَبَداً، ثم قال لها: لاَ تُخْبِرِي بِهَذَا أَحَداً «1» ، ثم إنَّ حَفْصَةَ قَرَعَتْ الجِدَارَ الَّذِي بَيْنَهَا وَبْيْنَ عَائِشَةَ، وَأَخْبَرَتْهَا لِتُسِرَّهَا بالأَمْرِ، وَلَمْ تَرَ في إفْشَائِهِ إلَيْهَا حَرَجاً، واستكتمتها، / فَأَوْحَى اللَّهُ بِذَلِكَ إلى نَبِيِّهِ، ونزلَتِ الآيةُ، وفي حديثٍ آخَرَ عن عائشةَ أنَّ هذا التحْرِيمَ المذكورَ في الآية إنَّما هُو بِسَبَبِ العَسَلِ الذي شربه صلّى الله عليه وسلّم عِنْدَ زينبَ بِنْتِ جَحْشٍ، فَتَمالأتْ عائشةُ وحفصةُ وسَوْدَةُ عَلى أنْ تَقُولَ له مَنْ دَنَا مِنْهَا: إنّا نَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أأكَلْتَ مَغَافِيرَ يَا رَسُولَ اللَّه؟ والمَغَافِيرَ: صَمْغُ العُرْفُطِ، وَهُوَ حُلْوٌ كَرِيهُ الرَّائِحَةِ، فَفَعَلْنَ ذَلِكَ، فَقَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أَكَلْتُ مَغَافِيرَ، وَلَكِنِّي شَرِبْتُ عَسَلاً، فقلْنَ له: جرست نحله العرفط «2» ؟ فقال: صلّى الله عليه وسلّم لاَ أشْرَبُه أبَداً، وكانَ يَكْرَهُ أنْ تُوجَدَ مِنْهُ رَائحةٌ كَرِيهةٌ، فدخلَ بعد ذلك على زينبَ فَقَالَتْ: أَلا أسْقِيكَ مِنْ ذَلِكَ العَسَلِ؟ فقال:
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 148- 149) ، برقم: (34392) ، (34397) ، وذكره ابن كثير (4/ 386) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 367) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(2) العرفط: شجر الطلح، وله صمغ كريه الرائحة، فإذا أكلته النحل حصل في عسلها من ريحه.
ينظر: «المنهاج» (3/ 218) .
(5/450)
لاَ حَاجَةَ لِي بِهِ، قالتْ عائشةُ: تَقُولُ سَوْدَةُ حِينَ بَلَغَنَا امتناعه: وَاللَّهِ، لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، فَقُلْتُ لَها: اسكتي، قال ع «1» : والقولُ الأوَّلُ أن الآيةِ نزلتْ بسبب مارية أصَحُّ وأوْضَحُ، وعليه تَفَقَّه الناسُ في الآية، ومَتَى حَرَّمَ الرَّجُلُ مَالاً أو جاريةً فليسَ تحريمُه بشيءٍ ت: والحديثُ الثَّانِي هو الصحيحُ خَرَّجَه البخاريُّ ومسلمُ وغيرهما، ودَعَا اللَّهُ تعالى نبيَّه باسْم النبوَّةِ الذي هو دالٌّ على شَرَفِ مَنْزِلَتِه وَفَضِيلَتِه التي خَصَّهُ بِهَا، وقرَّره تعالى كالمُعَاتِبِ له على تحريمِه عَلى نفسِه مَا أحلَّ اللَّهُ له، ثم غَفَرَ لَه تَعَالَى مَا عَاتَبه فيه ورَحِمَه.
وقوله تعالى: قَدْ فَرَضَ اللَّهُ أي: بيَّنَ وأثْبَتَ، فقال قوم من أهل العلم: هذه إشارَةٌ إلى تَكْفِيرِ التَّحْرِيمِ، وقال آخرونَ هي: إشارَةٌ إلى تكفيرِ اليمينِ المُقْتَرِنَةِ بالتحريمِ، والتَّحِلَّةُ مَصْدَرُ وزنها «تَفْعِلَة» وأدْغِمَ لاِجْتِمَاعِ/ المثلينِ، وأحالَ في هذه الآيةِ على الآيةِ التي فسَّر فِيها الإطْعَامَ في كفارةِ اليمينِ باللَّهِ تَعَالى، والمَوْلَى المُوَالِي النَّاصِرُ.
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ يعني حَفْصَةَ حَدِيثاً قال الجمهورُ الحديثُ هو قولُهُ في أمر ماريةَ، وقال آخرونَ: بلْ هو قولُه: إنَّمَا شَرِبْتُ عَسَلاً.
وقوله تعالى: عَرَّفَ بَعْضَهُ المَعْنَى مَعَ شَدِّ الراءِ: أعْلَمَ بِهِ وأَنَّب عليه وأعْرَض عن بعض، أي: تَكُرُّماً وَحَيَاءً وحُسْنَ عشرةٍ، قال الحسن: ما اسْتَقْصَى كريمٌ قط «2» ، والمخاطبة بقوله: إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ هي لحفصةَ وعائشةَ، وفي حديثِ البخاريّ، وغيره عن ابن عباس قال: قلت لعمر: من اللتان تظاهرتا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ قال: حفصةُ وعائشةُ «3» .
وقوله: صَغَتْ قُلُوبُكُما معناه مَالَتْ، والصُّغْيُ الميلُ، ومنه أَصْغَى إليه بأُذُنِه، وأصْغَى الإنَاءَ، وفي قراءة ابن مسعود «4» : «فَقَدْ زَاغَتْ قُلُوبُكُما» والزيغُ: الميلُ وعُرْفُه في خِلاَفِ الحَقّ، وجَمَعَ القلوبَ مِن حيثُ الاثنانِ جَمْعٌ، - ص-: قُلُوبُكُما القياسُ فيه:
قلباكما مُثَنَّى، والجمعُ أكْثَرُ استعمالاً وحسْنُه إضافَتُه إلى مثنًى، وهو ضميرُهما لأنَّهُمْ كَرِهُوا اجتماعَ تَثْنِيَتَيْنِ، انتهى، ومعنى الآيةِ إن تُبْتُما فَقَدْ كَانَ مِنكُمَا مَا يَنْبَغِي أنْ يُتَابَ منه، وهذا الجوابُ الذي للشَّرْطِ هُو متقدمٌ في المعنى، وإنما تَرتَّبَ جَوَاباً في اللفظِ، وَإِنْ تَظاهَرا معناه: تَتَعَاوَنَا وأصل: تَظاهَرا تتظاهرا، ومَوْلاهُ أي: ناصره، وَجِبْرِيلُ
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 330) .
(2) ذكره البغوي (4/ 364) ، وابن عطية (5/ 331) .
(3) تقدم.
(4) ينظر: «الكشاف» (4/ 566) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 331) ، و «البحر المحيط» (8/ 286) ، و «الدر المصون» (6/ 335) .
(5/451)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
ومَا بعدَه يحتملُ أنْ يكونَ عَطْفاً على اسمِ اللَّهِ، ويحتملُ أنْ يكونَ جبريلُ رَفْعاً بالابتداء وما بعده عطف عليه وظَهِيرٌ هُو الخَبَرُ، وخَرّجَ البخاريّ بسنده عن أنس قال: قال عمر:
اجتمع نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم في الغِيرَةِ عليه فقلتُ لَهُنَّ: عسى ربُّه إنْ طَلَّقَكُنَّ أنْ يبدله أزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ، فنزلت هذه الآية «1» ، انتهى، وقانِتاتٍ معناه مُطِيعَات، والسائحاتُ قِيل: معناه:
صَائِمَاتٌ، وقيل: معناه: / مُهَاجِرَاتٌ، وقيل: معناه ذَاهِبَاتٌ في طَاعَةِ اللَّهِ، وشُبِّه الصَّائِمُ بالسائِحِ من حيثُ يَنْهَمِلُ السائِحُ وَلا يَنْظُرُ في زادٍ ولاَ مَطْعَمٍ، وكذلك الصائم يُمْسِك عن ذلك، فيستوي هو والسائِح في الامْتِنَاعِ، وشَظَفِ العَيْشِ لِفَقْدِ الطَّعَام.
[سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 9]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ... الآيةُ، قُوا معناه اجْعَلُوا وِقَايَةً بينكم وبينَ النارِ، وقوله: وَأَهْلِيكُمْ معناه بالوَصِيَّةِ لهم والتقويم والحَمْلِ على طاعةِ اللَّه، وفي الحديثِ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً قَال: يا أهْلاَهُ صَلاَتَكُمْ، صِيَامَكُمْ، [زَكَاتَكُمْ] ، مِسْكِينَكُمْ، يَتِيمَكُمْ» «2» ت: وفي «العتبية» عن مالكٍ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ اللَّهَ أذِنَ لي أنْ أتَحَدَّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنَ المَلاَئِكَةِ، إنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ وَعَاتِقِهِ لَمَخْفِقَ الطَّيْرِ سَبْعِينَ عَاماً» «3» ، انتهى، وباقي الآية في غَايَةِ الوضوحِ، نَجَانَا اللَّهُ مِنْ عَذَابه بِفَضْلِه، والتوبةُ فَرْضٌ على كلِّ مسلمٍ، وهي الندمُ على فَارِطِ المعصيةِ، والعَزْمُ عَلى تَرْكِ مِثلِها في المستقبل، هذا من المتمكن، وأما غيرُ المتمكِّنِ كالمَجْبُوبِ في الزِّنَا فالندمُ وحدَه يكفيه، والتوبةُ عِبادَةٌ كالصَّلاَةِ، وغيرها، فإذا تَابَ العبدُ وَحَصَلَتْ توبتُه بشروطِها وقبلت، ثم عَاوَدَ الذنبَ فتوبتُه الأولَى لا تفسدُها عَوْدَةٌ بل هي كسَائِرِ مَا تَحَصَّلَ من
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 155) ، برقم: (34425) ، (34427) ، وذكره ابن عطية (5/ 332) ، وذكره ابن كثير (4/ 390) .
(2) ذكره الزيلعي في «تخريج الأحاديث والآثار» (4/ 66) ، وقال: غريب.
(3) تقدم تخريجه.
(5/452)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
العباداتِ، والنَّصُوح بناءَ مبالغةٍ من النُّصْحِ، أي: توبة نَصَحَتْ صَاحِبها، وأرْشَدَتْه، وعن عمرَ: التوبةَ النصوحُ: هي أن يتوبَ ثم لا يعودُ ولا يريدُ أن يعودَ «1» ، وقال أبو بكر الوَرَّاق، هي أن تَضِيقَ عليكَ الأرْضُ بما رَحُبَتْ كتوبةِ الذين خُلِّفُوا. ورُوِيَ/ في معنى قولِه تعالى:
«يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ» أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تضرّع مرّة إلى الله- عز وجل- في أمْرِ أُمَّتِهِ، فأوحَى اللَّه إلَيْهِ إنْ شِئْتَ جَعَلْتُ حِسَابَهُمْ إلَيْكَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ، أَنْتَ أَرْحَمُ بِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تعالى: إذَنْ لا أخزيك فيهم «2» .
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يَحْتَمِل: أن يكونَ معطوفاً عَلى النبيِّ فيخرجُ المؤمِنونَ من الخزي، ويحتملُ: أنْ يَكُونَ مبتدأ، ونُورُهُمْ يَسْعى: جملةٌ هِي خبرُه، وقولهم: أَتْمِمْ لَنا نُورَنا قال الحسنُ بن أبي الحسن: هو عند ما يَرَوْنَ مِنِ انْطِفَاءِ نورِ المنافقين «3» حَسْبَمَا تقدم تفسيرُه، وقيل: يقوله من أُعْطِي منَ النور بقدر ما يَرَى موضعَ قدميه فقط، وباقي الآية بيَّن مما تقدم في غيرِ هذا الموضع.
[سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)
وقوله سبحانه: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ ... الآية، هذَانِ المَثَلاَنِ اللذانِ للكفارِ والمؤمنينَ معناهما: أنَّ مَنْ كَفَرَ لا يُغْنِي عنه مِنَ اللَّهِ شيءٌ ولا ينفعُه سَبَبٌ، وإنَّ مَنْ آمنَ لا يدفعُه عَنْ رِضْوَانِ اللَّهِ دافعٌ وَلُوْ كَانَ في أسوأِ مَنْشَأٍ وأخسِّ حالٍ، وقول من قال: إنَّ في المثلين عبرة لأزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم بعيدٌ. قال ابن عباس وغيره: «خَانَتَاهُمَا» : أي في الكُفْرِ «4» ، وفي أن امرأةَ نوحٍ كانَتْ تقول للناس: إنَّه مجنُونٌ، وأن امرأةَ لوطٍ كانت تنمّ
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 156) ، برقم: (34444) ، والبغوي (4/ 367) ، وابن عطية (5/ 334) ، وابن كثير (4/ 392) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 376) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وهناد، وابن منيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه وابن مردويه، والبيهقي في «شعب الإيمان» . [.....]
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 334) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 159) ، برقم: (34457- 34458) ، وذكره ابن عطية (5/ 334) ، وابن كثير (4/ 392) .
(4) ذكره ابن عطية (5/ 335) ، وابن كثير (4/ 393) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 377) ، وعزاه
(5/453)
إلى قَوْمِها خَبَر أضْيَافِه، قال ابن عباس: وَمَا بَغَتْ زَوْجَةُ نَبِيٍّ قَطُّ «1» ، وامرأة فرعون اسمُها آسية، وقولها: وَعَمَلِهِ تعني كُفْرَهُ ومَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلاَلَةِ.
وقوله: الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها الجمهورُ أنه فَرْجُ الدِّرْعِ، وقال قوم: هو الفَرْجُ الجَارِحَةُ وإحْصَانُه صَوْنُه.
وقولُه سبحانه: فَنَفَخْنا فِيهِ عبارةٌ عَنْ فِعل جبريلَ، / ت: وقد عَكَسَ- رحمه اللَّه- نَقْلَ ما نَسَبَهُ للجمهورِ في سورةِ الأنبياءِ فقال: المَعْنَى واذْكُرِ الَّتي أحصنتْ فَرْجَها وهو الجارِحَة المعروفةُ، هذا قولُ الجمهورِ، انظر بقيةَ الكلامِ هناك.
وقوله سبحانه: مِنْ رُوحِنا إضافةُ مخلوقٍ إلى خالقٍ، ومملوك إلى مالكٍ، كما تقول بَيْتُ اللَّهِ، ونَاقَةُ اللَّهِ، وكذلك الرُّوحُ الجنسُ كلُّه هو روح اللَّه، وقرأ الجمهور «2» :
وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها بالجَمْعِ فَيُقَوِّي أنْ يريدَ التوراةَ، ويحتملُ أنْ يريدَ أمْرَ عيسَى، وَقَرَأ الجحدري «3» : «بِكَلِمِة» فَيُقَوِّي أنْ يريدَ أمْرَ عيسى، ويحتملُ أنْ يريدَ التوراةَ، فتكونُ الكلمةُ اسْمُ جنسٍ، وقرأ نافع «4» وغيره: «وكِتَابِهِ» وقرأ أبو عمرو وغيره: «وَكُتُبِهِ» - بضم التاء- وَالجَمْعِ، وذلك كلَّه مرادٌ بهِ التوراةُ والإنْجِيلُ، قال الثعلبيُّ: واختار أبو حاتم قراءةَ أبي عمرٍو بالجَمْعِ لعمومِها، واختار أبو عبيدة قِراءَة الإفْرَادِ لأن الكتَابَ يُرَادُ به الجنسُ، انتهى وهو حَسَنٌ، وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ أي: من القوم القانتينَ وهم المطيعونَ العابِدونَ، وقد تقدّم بيانه.
__________
لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه من طرق عن ابن عبّاس.
(1) أخرجه الطبري (12/ 161) ، برقم: (34462، 34464) ، وذكره البغوي (4/ 368) ، وابن عطية (5/ 335) ، وابن كثير (4/ 393) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 377) ، وعزاه لابن المنذر.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 335- 336) ، و «البحر المحيط» (8/ 290) ، و «الدر المصون» (6/ 339) .
(3) وقرأ بها مجاهد، والحسن.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (159) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 336) ، و «البحر المحيط» (8/ 290) ، و «الدر المصون» (6/ 339) .
(4) وقرأ بها ابن كثير، وابن عامر، وعاصم في رواية أبي بكر، والكسائيّ، وحمزة. وقرأ بقراءة أبي عمرو- حفص عن عاصم، وخارجة عن نافع.
ينظر: «السبعة» (641) ، و «الحجة» (6/ 304) ، و «إعراب القراءات» (2/ 376) ، و «حجة القراءات» (715) ، و «العنوان» (193) ، و «شرح الطيبة» (6/ 61) ، و «إتحاف» (2/ 549) ، و «معاني القراءات» (3/ 78) .
(5/454)
تفسير سورة الملك
[وهي] مكّيّة بإجماع وكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرؤوها عند أخذ مضجعه رواه جماعة مرفوعا «1» ، وروي أنّها تنجّي من عذاب القبر «2» ، وتجادل عن صاحبها، حتى لا يعذّب «3» ، وروى ابن عبّاس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «وددت أنّ سورة «تبارك الّذي بيده الملك» في قلب كلّ مؤمن» «4» ، ت: وقد خرّج مالك في «الموطّأ» : أنّها تجادل عن صاحبها وخرّج أبو داود/ والترمذيّ والنسائي، وأبو الحسن بن صخر، وأبو ذر الهرويّ، وغيرهم أحاديث في فضل هذه السورة نحو ما تقدّم، ولولا ما قصدته من الاختصار لنقلتها هنا، ولكن خشية الإطالة منعتني من جلب كثير من الآثار الصحيحة، في هذا المختصر، وانظر الغافقي فقد استوفى
__________
(1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 381) ، وعزاه إلى ابن مردويه.
(2) أخرج الترمذي في هذا المعنى حديثا (5/ 164) ، كتاب «فضائل القرآن» باب: ما جاء في فضل سورة الملك (2890) عن عبد الله بن عبّاس، بلفظ: ضرب بعض أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خباءه على قبر وهو لا يحسب أنّه قبر، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ حتّى ختمها، فأتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله، إنّي ضربت خبائي على قبر، وأنا لا أحسب أنّه قبر، فإذا فيه إنسان يقرأ سورة تبارك الملك حتّى ختمها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هي المانعة، هي المنجية تنجيه من عذاب القبر» .
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.
(3) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (2/ 498) عن عبد الله بن عبّاس، بلفظ: «يؤتى الرجل في قبره، فتؤتى رجلاه فتقول رجلاه: ليس لكم على ما قبلي سبيل، كان يقوم يقرأ سورة الملك، ثم يؤتى من قبل صدره، أو قال: بطنه، فيقول: ليس لكم على ما قبلي سبيل، كان يقرأ بي سورة الملك، ثم يؤتى رأسه فيقول: ليس لكم على ما قبلي سبيل، كان يقرأ بي سورة الملك، قال: فهي المانعة تمنع من عذاب القبر، وهي في التوراة سورة الملك من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطنب» .
والبيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 494) (2509) ، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(4) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 565) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 380) ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه، وعبد بن حميد، والطبراني.
قال الحاكم: هذا إسناد عند اليمانيين صحيح ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي في قوله ذلك، وقال: لحفص واه.
(5/455)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
نقل الآثار في فضل هذه السورة.
[سورة الملك (67) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
قوله تعالى: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ تَبارَكَ من البركة وهي التزيّد في الخيرات، قال الثعلبي: تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ أي: تَعَالَى وتَعَاظَمَ وَقَالَ الحسنُ:
تَقَدَّسَ الذي بيده الملكُ في الدنيا والآخرة «1» ، وقال ابن عباس: بِيَدِهِ الْمُلْكُ: يُعِزُّ مَنْ يَشاء ويذل من يشاء «2» . انتهى.
[سورة الملك (67) : الآيات 2 الى 5]
الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَّا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5)
وقوله سبحانه: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ ... الآية، الموتُ والحياةُ مَعْنَيَانِ يَتَعَاقَبَانِ جِسْمَ الحيوانِ، يَرْتَفِعُ أحدهما بحلُولِ الآخَرِ، وما جاء في الحديثِ الصحيح من قوله- عليه الصلاة والسلام-: «يُؤتَى بِالمَوْتِ يَوْمَ القِيَامَةِ في صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُذْبَحُ عَلَى الصِّرَاطِ» «3» الحديث، فقال أهْلُ العِلْمِ: إنَّما ذَلِكَ تِمْثَالُ كَبْشٍ يُوقِعُ اللَّهُ العِلْمَ الضَّرُورِيَّ لأَهْلِ الدَّارَيْنِ أَنَّه الموتُ الذي ذَاقُوه في الدنيا، ويكونُ ذلك التمثالُ حَامِلاً للموتِ، لاَ عَلى أنه يَحُلُّ الموتُ فيه فَتَذْهَبُ عنهُ حياةٌ، ثم يَقْرِنُ اللَّه تعالى في ذلك التمثالِ إعْدَامَ الموتِ.
وقوله سبحانه: لِيَبْلُوَكُمْ أي: جَعَلَ لَكُمْ هاتينِ الحالتَيْنِ ليبلوَكم، أي: ليختبرَكم في حالِ الحياةِ ويُجَازِيكُم بَعْدَ الممات، وقال أبو قتادة، ونحوه عن ابن عمر، قلت:
يا رسول اللَّه، مَا مَعْنى قولِه/ تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا؟ فَقَال: يقول: أَيُّكُمْ أحْسَنُ عَقلاً، وأشَدُّكم للَّهِ خَوْفاً، وأحْسَنُكم في أمْرِه ونهيهِ نَظَراً، وإن كَانُوا أقلَّكم تطوُّعاً «4» ، وقال ابن عباس وسفيان الثوري والحسن: أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أزهدكم في
__________
(1) ذكره القرطبي (18/ 134) .
(2) ذكره القرطبي (18/ 134) ، وابن عطية (5/ 337) . [.....]
(3) تقدم تخريجه.
(4) ذكره ابن عطية (5/ 337) .
(5/456)
الدنيا «1» ، قال القرطبي «2» : وقال السدي: (أحْسَنُكُمْ عَمَلاً) ، أي: أكثَركم للموت ذِكْراً، وله أحْسَنُ استعداداً، ومِنْه أشَدُّ خوفاً وحذَراً، انتهى من «التذكرة» ، وللَّه در القائل: [الطويل]
وَفِي ذِكْرِ هَوْلِ المَوْتِ وَالقَبْرِ والبلى ... عَنِ الشُّغْلِ باللَّذَّاتِ لِلْمَرْءِ زَاجِرُ
أَبَعْدَ اقتراب الأَرْبَعِينَ تَرَبُّصٌ ... وَشَيْبٌ فَذَاكَ مُنْذِرٌ لَكَ ذَاعِرُ
فَكَمْ في بُطُونِ الأَرْضِ بَعْدَ ظُهُورِهَا ... مَحَاسِنُهُمْ فِيهَا بَوَالٍ دَوَاثِرُ
وَأَنْتَ عَلَى الدّنْيَا مُكِبٌّ مُنَافِس ... لِخُطَّابِهَا فِيهَا حَرِيصٌ مُكَاثِرُ
على خَطَرٍ تُمْسِي وَتُصْبِحُ لاَهِياً ... أَتَدْرِي بِمَاذَا لَوْ عَقَلْتَ تُخَاطِرُ
وَإنَّ امرأ يسعى لِدُنْيَاه جَاهِداً ... وَيَذْهَلُ عَنْ أُخْرَاهُ لاَ شَكَّ خَاسِرُ
كَأَنَّكَ مُغْتَرٌّ بِمَا أَنْتَ صَائِرٌ ... لِنَفْسِكَ عَمْداً أوْ عَنِ الرُّشْدِ جَائِرُ
فَجِدَّ وَلاَ تَغْفُلْ فَعَيْشُكَ زَائِلٌ ... وَأَنْتَ إلى دَارِ المَنِيَّةِ صَائِرُ
وَلاَ تَطْلُبِ الدُّنْيَا فَإنَّ طِلاَبَهَا ... وَإنْ نِلْتَ مِنْهَا ثَرْوَةً لَكَ ضَائِرُ
وَكَيْفَ يَلَذُّ العَيْشَ مَنْ هُوَ مُوقِنٌ ... بِمَوْقِفِ عَدْلٍ يَوْمَ «3» تُبْلَى السَّرَائِرُ
لَقَدْ خَضَعَتْ واستسلمت وَتَضَاءَلَتْ ... لِعِزَّةِ ذي العرش الملوك الجبابر
انتهى،، وطِباقاً قال الزَّجَّاجُ: هو مصدرٌ، وقيل: جمعُ طَبَقَةٍ، أو جَمْعُ طَبَقِ، والمعنى: بعضُها فوق بعض، وقال إبان بن ثعلب: سمعتُ أعْرابياً يذُمّ رَجُلاً فقال: شَرُّهُ طِبَاقُ/ وَخَيْرُه غَيْر باقٍ، وما ذَكره بعضُ المفسرينَ في السموات منْ أنَّ بعضَها مِن ذَهَبٍ وفضةٍ وياقوتٍ ونحوِ هذا، ضعيفٌ لم يَثْبُتْ بذلك حديث.
وقوله سبحانه: مَّا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ معناه من قِلَّةِ تَنَاسُبٍ، ومنْ خروجٍ عن إتقانٍ، قال بعض العلماء: خَلْقُ الرحمن، معنيٌّ بهِ السموات وإيَّاها أرادَ بقوله:
هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ وبقوله: يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ ... الآية، وقال آخرون: بلْ يعني بهِ جَميعَ مَا خَلَقَ سبحانه من الأشياء فإنَّها لاَ تَفَاوُتَ فيها، ولا فطورَ جاريةً عَلى غَيْرِ إتْقَانٍ، قال منذر بن سعيد: أمَرَ اللَّهُ تعالى بالنظرِ إلى السماءِ وخَلْقِها، ثم أمرَ بتكريرِ النظرِ، وكذلك جميعُ المخلوقاتِ مَتَى نَظَرَها ناظرٌ لِيَرَى فيها خَلَلاً أو نَقْصاً فإنَّ بصره ينقلب خاسئا
__________
(1) ذكره البغوي (4/ 369) عن الحسن.
(2) ينظر: «تفسير القرطبي» (18/ 135) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 382) ، وعزاه لابن أبي الدنيا، والبيهقي في «شعب الإيمان» .
(3) في د: حين.
(5/457)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
حَسِيراً، وَرَجْعُ البصرِ: ترديدُه في الشيءِ المبْصَرِ، وكَرَّتَيْنِ معناه مرتين، والخاسئ المبْعَدُ عن شيءٍ أرَادَه، وحَرَصَ عليه، ومنه قوله تعالى: اخْسَؤُا فِيها [المؤمنون:
108] وكذلكَ البصرُ يحرصُ على رؤيةِ فطورٍ أو تفاوتٍ، فلا يَجِدُ ذلك، فينقلبَ خاسِئاً، والحسيرُ العَيِيُّ الكالُّ.
وقوله تعالى: بِمَصابِيحَ يعني: النجومَ، قال الفخر «1» : ومعنى السَّماءَ الدُّنْيا أي: القريبةُ مِنَ الناسِ، وليسَ في هذهِ الآيةِ ما يدلُّ عَلى أنّ الكواكبَ مركوزةٌ في السماء الدنيا، وذلك لأَنَّ السموات إذا كَانَتْ شَفَّافَةً فالكواكبُ سَواءٌ كَانَتْ في السماءِ الدنيا، أو كانَتْ في سموات أخْرَى فَوقَها، فهي لا بد أنْ تَظْهَرَ في السماء الدنيا، وتَلُوحُ فِيها، فَعَلَى كِلاَ التَّقْدِيرَيْنِ فالسَّماء «2» الدُّنْيَا مُزَيَّنَةٌ بها، انتهى.
وقوله: وَجَعَلْناها معناه وجَعَلْنَا مِنْها ويُوجِبُ/ هذا التأويلُ في الآيةِ أنَّ الكواكبَ الثابتةَ، والبروجَ، وكلَّ ما يُهْتَدَى به في البرِّ والبحرِ لَيْسَت براجمةٍ، وهذا نصّ في حديثِ السير قال الثعلبي: رُجُوماً لِلشَّياطِينِ يُرْجَمُونَ بِها إذَا اسْتَرَقُوا السّمْعَ فلا تُخْطِئُهُم، فمنهم مَنْ يُقْتَلُ ومنهم من يُخْبَلُ، انتهى.
[سورة الملك (67) : الآيات 6 الى 11]
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10)
فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11)
وقوله تعالى: وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ قال ع «3» : تضمنتِ الآيةُ أنَّ عذابَ جهنمَ للكفارِ المُخَلّدِينَ، وقد جاءَ في الأثر: أنه يَمُرُّ على جهنَم زَمانٌ تُخْفِق أبوابَها، قد أخْلَتْها الشفاعةُ، والذي يقال في هذا أن جهنَّمَ اسْمٌ تُخْتَصُّ به الطبقةُ العُلْيَا من النارِ، ثم قَدْ تُسَمَّى الطبقاتُ كلها باسْمِ بَعْضِها، فالتي في الأثرِ هي الطبقةُ العُلْيَا لأنَّها مَقَرُ العُصَاةِ من المؤمنينَ، وَالَّتي في هذهِ الآية هي جهنمَ بأسرها، أي: جميعُ الطبقاتِ، والشَّهِيقُ أقْبَحُ ما يكونُ من صوتِ الحمارِ، فاشْتِعَالُ النار وغَلَيَانُها يُصَوِّتُ مِثْل ذلك.
وقوله: تَكادُ تَمَيَّزُ أي يُزَايِلُ بَعْضُها بَعْضاً لشدّة الاضطراب، ومِنَ الْغَيْظِ
__________
(1) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 53) .
(2) في د: في السماء.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 339) .
(5/458)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20)
معناه: على الكَفَرَةِ باللَّهِ، والفَوْجُ: الفريقُ من الناس، وظاهر الآية أَنَّه لا يُلْقَى في جهنَّمَ أحَدٌ إلا سُئِلَ عَلى جهة التوبيخ.
وقوله سبحانه: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ يحتملُ أنْ يكونَ من قولِ الملائكةِ، ويحتملُ أنْ يكونَ من تمامِ كَلاَمِ الكفارِ للنُّذُرِ، قال الفخر «1» : وقوله- تعالى- عنهم: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ قيل إنما جَمَعُوا بين السَّمْعِ والعَقْلِ [لأن مَدَارَ التكليف على أدلة السمع والعقل] ، انتهى.
[سورة الملك (67) : الآيات 12 الى 20]
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20)
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يحتملُ معنيين: أحدُهما بالغَيْبِ الذي/ أُخْبِروا بهِ مِن النَّشْرِ والحشر والجنة والنار، فآمنوا بذلك وخَشُوا ربَّهم فيه ونحا إلى هذا قتادة «2» ، والمعنى الثاني: أنهم يَخْشَوْنَ ربهم إذا غَابُوا عن أعْيُنِ الناس، أي: في خلَواتِهم في صلاتهم وعباداتهم.
وقوله تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ ... الآية، خطاب لجميع الخلق، وذَلُولًا بمعنى مذلولة، ومَناكِبِها قال مجاهد: هي الطُّرُقُ والفجاجُ «3» ، وقال البخارِي: مَناكِبِها:
جَوَانِبُها، قال الغزالي- رحمه اللَّه-: جَعَلَ اللَّهُ سبحانَه الأَرْضَ ذَلُولاً لِعِبَادِه لاَ لِيَسْتَقِرُّوا في مناكِبها، بلْ لِيَتَّخِذُوهَا مَنْزِلاً فَيَتزَوَّدُونَ منها مُحْتَرِزِينَ من مصائدِها ومَعَاطبِها، ويتحقَّقُون أنّ العُمْرَ يَسِيرُ بهم سَيْرَ السفينةِ بِرَاكِبِها، فالناسُ في هَذَا العَالَمِ سُفْرُ وأوَّلُ منازلِهم المَهْدُ، وآخرُها اللحدُ، والوَطَنُ هو الجنَّةُ أو النَّارُ، والعُمْرُ مسافة السّفر، فسنوه مراحله، وشهوره
__________
(1) ينظر: «تفسير الرازي» (30/ 57) .
(2) ذكره ابن عطية (5/ 340) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 169) ، برقم: (34505) ، وذكره البغوي (4/ 371) ، وابن عطية (5/ 341) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 384) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(5/459)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
فَرَاسِخُه، وأيامُه أمْيَالُه، وأنْفَاسُه خُطُواتُه، وطَاعَتُه بضاعتُه، وأوقَاتُه رؤوس أموالِه، وشَهَواتُه وأغْرَاضُه قطاع طريقِه، وربحه الفوز بلقاء الله- عز وجل- في دار السلام مع المُلْكِ الكبيرِ والنَّعِيمِ المقيم، وخسرانه البعد من الله- عز وجل- مع الأنْكَالِ والأَغْلاَلِ والعذاب الأليمِ في دَرَكَاتِ الجحيم، فالغافلُ عن نَفسِ واحدٍ من أنْفَاسِهِ، حتى يَنْقَضِيَ في غَيْرِ طاعةٍ تُقُرِّبُه إلى اللَّهِ تعالى زُلْفَى مُتَعَرِّضٌ في يوم التَّغابُن لغَبِينَةٍ وحَسْرَةٍ مَا لها مُنْتَهَى، ولهذا الخطرِ العظيمِ والخَطْبِ الهائلِ شَمَّر المُوفَّقُونَ عن ساقِ الجِدِّ، وَوَدَّعُوا بالكليةِ ملاذَّ النَّفْسِ، واغْتَنَمُوا بَقايَا العُمْرِ، فَعَمَّرُوها بالطاعاتِ، بِحَسَبِ تَكَرُّرِ الأوقَاتِ، انتهى، قال الشيخُ أبو مدين- رحمه اللَّه-: عُمْرُكَ نَفَسٌ وَاحِدٌ فَاحْرِصْ [أنْ يَكُونَ] لَكَ/ لاَ عليك، انتهى، والله الموفّق بفضله، والنُّشُورُ: الحياة بعد الموت، وتَمُورُ معناه: تَذْهَبُ وتَجِيءُ، كما يَذْهَبُ التراب المَوَارُ في الرِّيحِ، والحَاصِبُ البَرْدُ ومَا جَرى مَجْرَاه، والنَّكِيرُ مَصْدَرٌ بمعنى الإنْكَارِ، والنَّذِيرُ كذَلِكَ ومنه قول حسان بن ثابت: [الوافر]
فَأُنْذِرُ مِثْلَهَا نُصْحاً قُرَيْشاً ... مِنَ الرحمن إنْ قَبِلَتْ نَذِيرِي «1»
ثم أحال- سبحانه- على العِبْرَةِ في أمْرِ الطير وما أحكمَ من خِلْقَتِها، وذلك بيَّنَ عجز الأصنام والأوثان عنه، وصافَّاتٍ جَمْع صَافَّة، وهي التي تَبْسُطَ جَنَاحَها وتَصُفُّه، وقَبْضُ الجَنَاحِ ضَمُّه إلى الجنبِ، وهاتان حالتَان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى.
[سورة الملك (67) : الآيات 21 الى 24]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
وقوله سبحانه: أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ هذا أيضاً توقيفٌ على أمْرٍ لاَ مَدْخَل للأصنامِ فيه.
وقوله سبحانه: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ قال ابن عباس والضحاك ومجاهد:
نزلَتْ مثَلاً للمؤمنينَ والكافرين على العمومِ «2» ، وقال قتادةُ: نزلت مُخْبِرةً عن حال القِيَامَةِ، وأنَّ الكفارَ يَمْشُونَ على وجوهِهم، والمؤمنينَ يمشون على استقامة «3» ، كما جاء
__________
(1) البيت في «ديوانه» (245) ، وفيه فأردف بدل فأنذر.
(2) أخرجه الطبري (12/ 171) ، برقم: (34510، 34512) ، وذكره ابن عطية (5/ 342) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 171- 172) ، برقم: (34513، 34515) ، وذكره البغوي (4/ 372) ، وابن عطية (5/ 342) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 385) ، وعزاه لعبد بن حميد، وعبد الرزاق، وابن المنذر. [.....]
(5/460)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
في الحديث، ويُقالُ: أكَبَّ الرجلُ إذا دَرَّ وجهه إلى الأرض، وكبّه غيره، قال- عليه الصلاة والسلام-: «وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلاَّ حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ» «1» فَهَذَا الفِعْلُ على خلافِ القَاعِدَة المعلومةِ لأَنَّ «أَفْعَلْ» هنا لا يتعدّى، و «فَعَلَ» يَتَعَدَّى، ونظيرُه قَشَعَتِ الرِّيحُ السَّحَابَ فانْقَشَعَ، وقال- ص-: مُكِبًّا حالٌ وهو مِنْ أَكَبَّ غَيْرَ مُتَعَدٍّ، وَكَبَّ متعدٍ، قال تعالى: فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل: 90] والهَمْزَةُ فيه للدخولِ في الشيءِ، أو للصيرورَةِ، ومطاوع/ كَبَّ: انْكَبّ، تَقُولُ كَبَبْتُه فانْكَبَّ، قال بَعْضُ الناس:
ولاَ شَيْءَ من بناءِ «أفْعَلَ» مطاوعاً، انتهى، وأَهْدى في هذه الآية أفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ الهُدَى.
[سورة الملك (67) : الآيات 25 الى 30]
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)
وقوله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يريدونَ أمْرَ القيامةِ والعذابِ المتوعَّدِ به، ثم أمرَ سبحانه نبيه ع أنْ يخبرَهم بأنَّ علمَ القيامةِ والوعدَ الصدقَ مما تفرَّدَ اللَّهُ- سبحانه- بعلمهِ.
وقوله سبحانه: فَلَمَّا رَأَوْهُ الضميرُ للعَذَابِ الذي تَضَمَّنَه الوعدُ، وهذهِ حكايةُ حَالٍ تأتِي، والمَعْنى: فإذا رأوه.
وزُلْفَةً معناه قريبا، قال الحسن: عيانا «2» .
وسِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا معناهُ: ظَهَرَ فيها السوءُ.
وتَدَّعُونَ معناه: تَتَدَاعَوْنَ أمْرَه بينكم، وقال الحسن: تدعون أنَّه لاَ جَنَّةَ ولاَ نار «3» ، ورُوِيَ في تأويل قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ ... الآية، أنَّهم كانوا يدعون على محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابَه بالهلاكِ، فقال اللَّه تعالى لنبيه: قلْ لهم: أرأيتم
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه الطبري (12/ 172- 173) ، برقم: (34516- 34517) ، وذكره ابن عطية (5/ 343) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 343) .
(5/461)
إنْ أهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ معي أو رحمَنا، فمن يُجِيرُكُم مِنْ العذاب الذي يُوجِبُه كفرُكم؟، ثم وَقَفَهم سبحانه على مِيَاهِهِم التي يَعيشُونَ منها، إنْ غَارَتْ، أي: ذَهَبَتْ في الأرضِ، مَنْ يَجِيئُهم بماءٍ كثيرٍ كافٍ؟ - ص-: والغَوْرُ: مَصْدَرٌ بمعنى الغَائِر، انتهى، والمَعِينُ: فَعِيلٌ مِنْ مَعَنَ المَاءُ إذا كَثُرَ، وقالَ ابن عباس: معين عذب «1» :
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 174) ، برقم: (34524) ، وذكره ابن عطية (5/ 344) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 386) ، وعزاه لعبد بن حميد.
(5/462)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
تفسير سورة القلم
وهي مكّيّة بلا خلاف
[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
قوله عز وجل: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ ن حَرْفٌ مقطع في قول الجمهور، فيدخُلُه من الاخْتِلاَفِ ما يَدْخُلُ أوائِلَ السُّورِ، ويختصُّ هذَا الموضعُ مِنَ الأقوال، بأنْ قَالَ مُجاهِدٌ وابن عباس: ن اسْمُ الحوتِ الأعْظَمِ/ الَّذِي عَلَيْه الأَرضُونَ السَّبْعُ فِيما يُرْوَى «1» ، وقال ابن عباس أيضاً وغيره: ن اسمُ الدَّوَاةِ «2» ، فَمَنْ قَال بأنه اسْمُ الحوتِ جَعَلَ [القَلَمَ] القَلَمَ الذي خلقَه اللَّهُ وأمَرَهُ بِكَتْبِ الكائناتِ، وجَعَلَ الضميرَ في يَسْطُرُونَ للملائِكَةِ، ومَنْ قَال بأنَّ ن اسْمٌ للدَّوَاةِ جَعَلَ القَلم هَذَا القلمَ المتعارفَ بأيْدِي الناسِ نَصَّ على ذَلِكَ ابنُ عَبّاسٍ وَجَعَل الضميرَ في يَسْطُرُونَ للنَّاسِ فَجَاء القَسَمُ على هذا بمجموع أمْرِ الكِتَابِ الذي هو قِوَامٌ للعلومِ والمعَارِفِ، وأمورِ الدنيا، والآخِرَةِ، فَإنَّ القَلَمَ أخُو اللسانِ، وعَضُدُ الإنْسَانِ، ومَطِيَّةُ الفِطْنَةِ، ونِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَامَّة، ورَوَى معاويةُ بن قرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ن لوح من نور» .
__________
(1) ذكره البغوي (4/ 374) ، وابن عطية (5/ 345) ، وابن كثير (4/ 400) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 387) ، وعزاه لابن جرير، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عبّاس، (6/ 388) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد.
(2) أخرجه الطبري (12/ 176) ، برقم: (34538- 34539) ، وذكره ابن عطية (5/ 345) ، وابن كثير (4/ 401) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 388) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر
(5/463)
وقالَ ابنُ عباسٍ أيضاً وغيره: ن هو حَرْفٌ من حروفِ الرحمن «1» ، وقالوا إنَّه تَقَطَّع في القرآن الر وحم ون، ويَسْطُرُونَ: معناه: يكْتُبُونَ سُطُوراً، فإنْ أرَادَ الملائكةَ فهُوَ كَتْبُ الأَعْمَالِ وَمَا يؤْمَرُون به، وإنْ أرادَ بني آدم فهي الكُتُبُ المنزلةُ والعلومَ وما جَرَى مَجْرَاهَا، قال ابن العربي في «أحكامه» : رَوَى الوليدُ بن مُسْلِمٍ عَنْ مالكٍ عَنْ سُمَيٍّ مولى أبي بكر عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: سمعتُ رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم يقولُ:
«أوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ القَلَمَ، ثُمَّ خَلَق النّونَ، وهي الدوَّاةُ، وذَلِكَ قَوْلُه: ن وَالْقَلَمِ ثم قَالَ لَهُ: اكتب قَالَ: وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: مَا كَانَ وَمَا هُو كَائِنٌ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، قال: ثُمَّ خَتَمَ العَمَلَ، فَلَمْ يَنْطِقْ وَلاَ يَنْطِقُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، ثُمَّ خَلَقَ العَقْلَ، فَقَالَ الجَبَّارُ: مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أعْجَبَ إليَّ مِنْكَ، وعِزَّتِي لأكَمِّلَنَّكَ فِيمَنْ أَحْبَبْتُ، وَلأَنْقُصَنَّكَ فِيمَنْ أَبْغَضْتُ، / قَالَ: ثُمَّ قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلاً أَطْوَعُهُمْ لِلَّهِ وأعْمَلُهُمْ بِطَاعَتِهِ» «2» ، انتهى، ت: وهذا الحديثُ هُوَ الذي يُعَوَّلُ عليهِ في تفسير الآيةِ، لصحته، واللَّه سبحانه أعلم.
وقوله تعالى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ هو جواب القسم، وما هُنَا عَاملةٌ لها اسْمٌ وَخَبَرٌ، وكذلِك هي متَى دَخَلَتِ البَاءُ في الخَبَرِ، وقوله: بِنِعْمَةِ رَبِّكَ اعْتِرَاضٌ، كما تقولُ لإنْسَانٍ: أنْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ فاضلٌ، وسَبَبُ الآيةِ هُوَ مَا كَانَ من قريش في رميهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالجُنُونِ، فَنَفَى اللَّهُ تعالى ذلك عنه، وأخبره بأنَّ له الأَجْرَ، وأنَّه على الخُلُقِ العظيمِ تَشْريفاً له، وَمَدْحاً واخْتُلِفَ في معنى مَمْنُونٍ فَقَال أكْثَرُ المفسرينَ: هو الوَاهِنُ المنْقَطِعُ، يقال: حَبْل مَنِينُ أي: ضعيفٌ، وقال آخرون: معناه: غير مَمْنُونٍ عَلَيْكَ، أي: لا يُكَدِّرُه مَنٌّ بِه، وفي الصحيحِ: سُئِلَتْ عائشةُ- رضي اللَّه عنها- عن خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقَالَتْ: «كَانَ خُلقُهُ القُرْآنَ» ، وقال الجُنَيْدُ: سمّي خلقُه عَظِيماً إذ لَمْ تَكُنْ له همةٌ سِوَى اللَّهِ تعالى عَاشَرَ الخَلْقَ بخُلُقِه، وزَايَلَهُمْ بِقَلْبهِ فكانَ ظاهرُه مَعَ الخلقِ، وباطِنهُ مع الحق، وفي وَصِيَّةِ بعض الحكماء: عليكَ بالخُلُقِ مَعَ الخَلْقِ، وبالصِّدقِ مَعَ الحقِّ، وحسْنُ الخلقِ
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 345) .
(2) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (13/ 40) .
قال الشوكاني في «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» (479) .
قال ابن عدي: باطل منكر آفته محمّد بن وهب الدمشقي.
وقال في الميزان: صدق ابن عدي في أن هذا الحديث باطل، وقد أخرجه الدارقطني في «الغرائب» من طريقه.
ورواه ابن عساكر عن أبي هريرة مرفوعا، والخطيب عن علي مرفوعا. اهـ من كلام الشوكاني.
(5/464)
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
خير كلّه، وقال ع: «إنَّ المؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ، صَائِمِ النَّهَارِ» وَجَاءَ في حُسْنِ الخُلُقِ آثارٌ كثيرةٌ مَنَعَنَا مِنْ جَلْبِها خَشْيَةُ الإطَالةِ، وقد رَوَى الترمذيُّ عَنْ أبي هريرةَ قال: «سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مَا يُدْخِلُ النَّاسَ الجَنَّةَ؟ فقَال: تَقْوَى اللَّهِ وحُسْنُ الخُلُقِ، وسُئِلَ عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ/ النَّارَ؟ فَقَالَ: الفَمُ وَالْفَرْجُ» «1» ، قَالَ أبو عيسى:
هذَا حديثٌ صحيحٌ غَرِيبٌ، انتهى، ورَوى الترمذيّ عن أبي الدرداء أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَا مِنْ شَيْءٍ أَثْقَلَ في مِيزَانِ المُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ من خُلُقٍ حَسَنٍ، وإنَّ اللَّهَ لَيَبْغَضُ الفَاحِشَ البَذِيَّ» «2» ، قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسَنٌ صحيحٌ، انتهى، قَال أبو عمر في «التمهيد» :
قال الله- عز وجل- لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ قَال المفسرونَ: كان خلقُهُ مَا قَالَ اللَّهُ سبحانَه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] انتهى.
وقَوْلهُ تعالى: فَسَتُبْصِرُ أي: أنْتَ وأمَّتكَ، وَيُبْصِرُونَ أي: هم، بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ قال الأخفش: والعاملُ في الجملةِ المسْتَفْهَمُ عَنْها الإبصَارُ، وأمّا البَاءُ فقال أبو عبيدةَ معمر وقتادةُ: هي زائدةٌ والمعنى: أيكم المفتونُ «3» ، قال الثعلبيّ: المفْتُونُ المَجْنُونُ الذي فَتَنَهُ الشيطانُ، انتهى.
[سورة القلم (68) : الآيات 8 الى 11]
فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)
وقوله تعالى: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ يعني: قريشاً، وذلك أنهم قَالُوا في بعضِ الأوْقَاتِ للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لَوْ عَبَدْتَ آلهتَنَا وعَظَّمْتَها لَعَبَدْنَا إلهك وعظمناه، وودّوا أن يداهنهم النبي صلّى الله عليه وسلّم ويميلَ إلى مَا قالوا، فَيمِيلُوا هُمْ أيضاً إلى قَولهِ ودِينِهِ، والإدْهَانُ الملايَنَةُ فيما لاَ
__________
(1) أخرجه الترمذي (4/ 363) ، كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في حسن الخلق (2004) ، وابن حبان (6/ 99) - الموارد، (1923) ، والحاكم في «المستدرك» (4/ 324) ، وابن ماجه (2/ 1418) ، كتاب «الزهد» باب: ذكر الذنوب (4246) ، والبخاري (89) (2991) ، وأحمد (2/ 392) .
قال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه أبو داود (2/ 669) ، كتاب «الأدب» باب: في حسن الخلق (4799) مختصرا، والترمذي (4/ 362) ، كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في حسن الخلق (2002) ، وأبو نعيم في «الحلية» (5/ 243) مختصرا.
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(3) ذكره ابن عطية (5/ 346) .
(5/465)
يَحِلُّ، والمُدَارَاةُ الملاينة فيما يحل.
وقوله: فَيُدْهِنُونَ معطوفٌ وليس بجَوابٍ، لأنَّه لَوْ كَانَ لَنُصِبَ، والحلاّفُ المردِّد لِحَلفِهِ الذي قد كثرَ منه، والمُهينُ الضَّعِيفُ الرأيِ، والعَقْلِ قاله مجاهد «1» ، وقال ابن عباس: المهينُ الكذَّابُ «2» ، والهمَّازُ الذي يَقَعُ في النّاسِ بلسَانِه «3» ، قال منذر بن سعيد:
وبعَيْنِهِ وإشارَتِه، / والنَّمِيمُ مَصْدَرٌ كالنَّمِيمَةِ، وهو نَقْلَ مَا يَسْمَعُ مما يسوءُ ويُحَرِّشُ النفوسَ، قال أبو عمر بن عبد البر في كتابهِ المسمّى ب «بهجة المجالس» قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ كَفَّ عَنْ أعْرَاضِ المُسْلِمِينَ لِسَانَه أقَالَه اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَثَرَتَه» «4» ، وقال- عليه الصَّلاةُ والسّلام-:
«شراركم أيّها الناس المشّاءون بالنَّمِيمَةِ، المُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، البَاغُونَ لأَهْلِ البِرِّ العثرات» «5» انتهى، وروى حذيفة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ قَتَّاتٌ» «6» ، وهو النَّمَّامُ، وذَهَبَ كثيرٌ مِنَ المفسِّرِينَ إلى أنَّ هذهِ الأوْصَافَ هي أجْنَاس لَمْ يُرَدْ بها رجلٌ بعينهِ، وقالت طائفة: بَلْ نزلت في معيَّنٍ، واختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو الوليدُ بن المغيرة،
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 347) ، وابن كثير (4/ 403) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 392) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر.
(2) أخرجه الطبري (12/ 183) ، برقم: (34581) ، وذكره البغوي (4/ 377) ، وذكره ابن عطية (5/ 347) ، وابن كثير (4/ 403) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 347) . [.....]
(4) تقدم تخريجه.
(5) أخرجه أحمد (4/ 227) .
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 96) : رواه أحمد وفيه شهر بن حوشب، وقد وثقه غير واحد، وبقية رجال أحمد أسانيده رجال «الصحيح» .
(6) أخرجه مسلم (1/ 101) ، كتاب «الإيمان» باب: بيان غلظ تحريم النميمة، حديث (168/ 105) ، وأحمد (5/ 391، 396، 398، 406) من طريق واصل الأحدب، عن أبي وائل عن حذيفة بن اليمان، أنه بلغه: أن رجلا كان ينم الحديث، فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا يدخل الجنة نمام» .
وللحديث طريق آخر عن حذيفة، وفيه قتات بدل نمام، أخرجه البخاري (10/ 487) ، كتاب «الأدب» باب: ما يكره من النميمة، حديث (6056) ، ومسلم (1/ 11) ، كتاب «الإيمان» باب: بيان غلظ تحريم النميمة (169/ 105) ، وأبو داود (2/ 684) ، كتاب «الأدب» باب: في القتات، حديث (4871) ، والترمذي (4/ 329) ، كتاب «البر والصلة» باب: ما جاء في النمام، حديث (2026) ، وأحمد (5/ 382، 389، 392، 402، 404) ، والبيهقي (8/ 166) ، كتاب «قتال أهل البغي» باب: ما على من رفع إلى السلطان ما فيه ضرر، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 523) - بتحقيقنا، والطبراني في «الصغير» (1/ 203) ، وفي «الكبير» (3/ 186) ، برقم: (3020) ، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 179) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (11/ 237) من طريق همام بن الحارث عن حذيفة مرفوعا.
(5/466)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32)
وقيل هو: الأخْنَسُ بن شريق، ويؤيد ذلكَ أنه كانَتْ له زَنَمَةٌ في حَلْقِه كَزَنَمَةِ «1» الشَّاةِ، وأيضاً فكانَ من ثَقِيفٍ مُلْصَقاً في قُرَيْشٍ، وقيل: هو أبو جهلٍ، وقيل: هو الأسودُ بن عَبْدِ يَغُوثَ، قال ع «2» : وظاهرُ اللفظ عمومُ مَنِ اتَّصَفَ بهذهِ الصفاتِ، والمخاطبَةُ بهذا المعنى مستمرة بَاقِيَ الزَّمانِ، لا سيما لولاة الأمور.
[سورة القلم (68) : الآيات 12 الى 15]
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
وقوله تعالى: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ قَالَ كثيرٌ مِنَ المفسرينَ: الخيرُ هُنَا المالُ فَوَصَفه بالشُّحِّ، وقال آخرونَ: بل هُوَ عَلى عُمُومهِ في الأموالِ والأَعْمَالِ الصالحاتِ، والمُعْتَدِي المتجاوِزُ لحدودِ الأَشْيَاءِ، والأثِيمُ فَعِيلٌ مِن الإثْمِ، والعُتُلُّ: القويُّ البنيةِ، الغَليظُ الأَعْضَاءِ، القَاسِي القَلْبِ، البَعيدُ الفَهْمِ، الأَكُولُ الشَّرُوبُ، الذي هو بالليلِ جِيفَةٌ وَبِالنَّهارِ حِمَارُ، وكلُّ ما عبر به المفسرونَ عَنه مِنْ خِلاَلِ النقصِ، فَعَنْ هذه الَّتِي ذَكَرْتُ/ تَصْدُرُ، وقد ذكر النقاش أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم فَسَّر العتلَّ بِنَحْوِ هذا، وهذهِ الصفاتُ كثيرةُ التَّلازُمِ، والزَّنِيمُ في كلام العرب:
المُلْصَقُ في القومِ ولَيْسَ منهم ومنه قول حَسَّان: [الطويل]
وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ في آلِ هَاشِمٍ ... كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ القَدَحُ الفَرْدُ
فَقَالَ كثيرٌ من المفسرينَ: هو الأخْنَسُ بن شريقٍ، وقال ابن عباس: أرادَ بالزنيم أنَّ له زَنَمَةً في عُنُقِهِ «3» ، وكان الأَخنسُ بهذه الصفةِ، وقيل: الزّنيم: المريب القبيح الأفعال.
[سورة القلم (68) : الآيات 16 الى 32]
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)
فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25)
فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30)
قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32)
وقوله: سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ معناه: على الأَنْفِ. قال ابن عبّاس: هو الضّرب
__________
(1) زنمة الشاة: هنة معلقة في حلقها تحت لحيتها، وخص بعضهم به العنز.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 347) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 186) ، برقم: (34614) ، وذكره البغوي (4/ 378) ، وذكره ابن عطية (5/ 348) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 394) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(5/467)
بالسَّيْفِ في وَجْهِهِ وعَلَى أنْفِه «1» ، وَقَدْ حَلَّ ذَلِكَ به يومَ بَدْرٍ، وقيل: ذلك الوَسْمُ هو في الآخرةِ، وقال قتادة وغيره: معناه سَنَفْعَلُ به في الدنيا مِنَ الذَّمِّ لهُ والمَقْتِ والاشْتِهَارِ بالشر، ما يَبْقَى فِيه وَلاَ يَخْفَى به، فيكونُ ذلكَ كالْوَسِمِ عَلَى الأنف «2» .
وقوله سبحانه: إِنَّا بَلَوْناهُمْ يريد: قريشاً، أي: امتحنّاهم، وأَصْحابَ الْجَنَّةِ فيما ذُكِرَ كانوا إخوةً، وكانَ لأَبِيهم جَنَّةٌ وحَرْثٌ يَغْتَلُّه، فَكَان يُمْسِكُ منه قُوتَه، وَيَتَصَدَّقُ على المساكين بِبَاقِيهِ، وقيل: بلْ كَانَ يَحْمِلُ المساكِينَ مَعَه في وَقْتِ حَصَادِهِ وجَذِّه فَيُجْدِيهم منه، فماتَ الشيخُ، فقال ولدُه: نَحْنُ جَماعَةٌ وفِعْلُ أبينَا كَانَ خطأً فَلْنَذْهَبْ إلى جنَّتِنَا، ولا يَدْخُلَنَّها عَلَيْنَا مِسْكِينٌ، ولا نُعْطِي منها شيئاً، قَال: فَبَيَّتُوا أمْرَهُمْ وَعَزْمَهُمْ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهَا طائفاً من نارِ أو غيرِ ذلكَ، فاحْتَرَقَتْ، فقيلَ: فأصْبَحَتْ سَودَاء، وقيل: بَيْضَاء كالزَّرْعِ اليَابِسِ المَحْصُودِ، فلما أصْبَحوا إلى جنتهم لم يَرَوْهَا فَحسبوا أنهم قَد أَخْطَؤُوا الطريقَ، ثم تَبَيَّنُوها فعلموا أنَّ اللَّهَ/ أَصَابَهُم فِيها، فتَابوا حينئذٍ فَكَانُوا «3» مُؤمنِينَ أهْلَ كِتَابٍ، فَشَبَّه اللَّهُ قُرَيْشاً بهم في أنّه امتحنهم بالمصَائِبِ، في دنياهم لعدم اتّباعهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم، ثُمَّ التوبةُ مُعَرَّضَةٌ لِمَنْ بَقِيَ منهم.
وقوله تعالى: لَيَصْرِمُنَّها أي: ليجذّنّها، ومُصْبِحِينَ معناه: دَاخِلينَ في الصباح.
وقوله تعالى: وَلا يَسْتَثْنُونَ [أي: لا يَنْثَنُونَ] «4» عن رأْيِ مَنْعِ المساكين، وقَالَ مجاهد: معناه ولاَ يَقُولُونَ إنْ شَاءَ اللَّه «5» . والصَّرِيمُ، قال جماعة: أرادَ بهِ اللَّيْلَ مِنْ حيثُ اسْوَدَّتْ جَنَّتُهم، وقَالَ ابن عباس: الصَّرِيمُ: الرَّمَادُ الأسْوَدُ بِلُغَةِ خُزَيْمَةَ، وقولهم: إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ يَحْتَمِلُ أنْ يكُونَ مِنْ صرام النخلِ، ويحتملُ أنْ يريدَ إنْ كُنْتُمْ أهْلَ عزم وإقْدَامٍ على رأيكم، من قولك سيف صارم «6» ، ويَتَخافَتُونَ: معناه يَتَكَلَّمُونَ كَلاَماً خَفِيًّا، وكان هذا التخافتُ خَوْفاً مِنْ أنْ يَشْعُرَ بهمُ المساكينُ، وكان لفظُهم الذي يتخافتون به: أَنْ لاَّ يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 188) ، برقم: (34628) ، وذكره البغوي (4/ 379) ، وابن عطية (5/ 349) ، وابن كثير (4/ 405) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 394) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(2) ذكره البغوي (4/ 379) ، وابن عطية (5/ 349) ، وابن كثير (4/ 405) .
(3) في ط: وكانوا.
(4) سقط في: د.
(5) ذكره ابن عطية (5/ 349) .
(6) ذكره البغوي (4/ 379) ، وابن عطية (5/ 349) ، وابن كثير (4/ 406) .
(5/468)
كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
وقوله: عَلى حَرْدٍ يَحْتَمِلُ أنْ يريدَ عَلى مَنْعٍ، من قولهم: حَارَدَتِ الإبِلُ إذا قَلَّتْ ألبانُها فمنَعتْهَا، وحَارَدَتِ السنةُ إذا كَانَتْ شَهْبَاء لاَ غَلَّةَ لها، ويحتملُ أن يريدَ بالحَرْدِ الغَضَبَ، يقال حَرَدَ الرجلُ حَرْداً إذَا غَضِبَ، قال البخاريّ قَالَ قتادة: عَلى حَرْدٍ [أي:
على جدٍّ] «1» في أنفسهم، انتهى «2» .
وقوله تعالى: قادِرِينَ يحتملُ أن يكون من القُدْرَةِ، أي: قادرون في زعمهِم ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِن التَّقْدِيرِ الذي هو تَضْيِيقٌ، كأنّهم قَدْ قَدَرُوا عَلَى المسَاكِينِ، أي ضَيَّقُوا عليهم، فَلَمَّا رَأَوْها أي: مُحْتَرِقَةً قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ طريقَ جَنَّتِنَا فَلَما تَحقَّقُوها/ عَلِمُوا أَنها قَدْ أصيبتْ فقالوا: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ أي: قَدْ حُرِمْنَا غَلَّتَها وبَرَكَتها، فقال لهم أعدلهُم قَوْلاً وعَقْلاً وخُلُقاً وهو الأوسَط أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ قِيلَ هي عبارةٌ عَنْ تعظيمِ اللَّهِ والعَمَلِ بطاعتهِ سبحانَه، فَبادَرَ القَوْمُ عَنْدَ ذَلِكَ وَتَابُوا وسبَّحُوا، واعترفُوا بظلمِهم في اعتقادهم مَنْعَ الفقراءِ، ولاَمَ بعضُهم بَعْضاً واعترفوا بأنهم طَغَوا، أي: تَعَدَّوْا مَا يَلْزَم مِنْ مُوَاسَاةِ المساكينِ، ثم انصرفوا إلى رَجَاءِ اللَّه سبحانَه وانتظارِ الفَضْلِ من لَدُنْهُ في أن يُبْدِلَهُمْ، بِسَبَبِ تَوْبَتِهم، وإنابتِهم خَيْراً من تلك الجنة، قال الثعلبي: قال ابن مسعود: بلغني أن القومَ لما أخلصوا وعلم الله صدقهم أبدلهم الله- عز وجل- بها جنةً يقال لها الحَيَوَانُ، فيها عِنَبٌ يَحْمِلُ البغلُ العنقُودَ منها «3» ، وعن أبي خالد اليماني أَنه رأَى تلكَ الجنةَ ورَأَى كُلَّ عُنْقُودٍ منها كالرَّجُلِ الأسْوَدِ القائِم، انتهى،، وقدرةُ اللَّه أعْظَمُ فلا يُسْتَغْرَبُ هذا إنْ صَحّ سنده.
[سورة القلم (68) : الآيات 33 الى 43]
كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37)
إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42)
خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43)
وقوله سبحانه: كَذلِكَ الْعَذابُ أي: كَفِعْلِنَا بأهْلِ الجنةِ نَفْعَلُ بِمَنْ تعدَّى حدودَنا.
وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أي: أعْظَم مما أصَابَهُمْ، إنْ لَمْ يتوبوا في الدنيا.
__________
(1) سقط في: د.
(2) أخرجه الطبري (12/ 191) ، برقم: (34644) ، وذكره البغوي (4/ 380) ، وابن كثير (4/ 406) . [.....]
(3) ذكره البغوي (4/ 381) .
(5/469)
ثم أخْبَر تعالى ب إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ فَرُوِيَ أنه لما نزلت هذه الآيةُ قَالَتْ قريشٌ: إنْ كَانَ ثَمَّ جَنَّاتِ نعيمٍ فَلَنَا فِيها أكْبَرُ الحَظِّ، فنزلتْ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ الآية تَوْبِيخاً لهم.
أَمْ لَكُمْ كِتابٌ مُنَزَّلٌ من عندِ اللَّهِ تَدْرُسُونَ فيه أنَّ لَكُمْ مَا تَخْتَارُونَ مِنَ النعيمِ، ف إِنَّ معمولة ل تَدْرُسُونَ وكُسِرَتِ الهمزَةُ مِنْ إِنَّ لدخولِ اللامِ في الخبرِ، وهي في معنى (أن) - بفتح الألِف- وقرىء شاذاً «1» : «أنَّ لَكُمْ» بالفتح، وقرأ الأعرج «2» : «أنّ/ لَكُمْ فِيهِ» على الاستفهام، ثم خَاطَب تعالى الكفارَ بقولهِ: أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ كأنه يقُولُ هل أقْسَمْنَا لكم قَسَماً فهو عَهْدٌ لكم بأنَّا نُنَعِّمُكُمْ في يومِ القيامة، وما بعدَه، وقرأ الأعرج «3» : «آن لكم لما تحكمون» على الاستفهامِ، أيضاً.
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ أي: ضَامِنٌ ت: قال الهروي: وقوله: أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ أي مُؤكَّدَة، انتهى.
وقوله تعالى: فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ قيل: هو استدعاءٌ وتوقيفٌ في الدنيا، أي:
لِيُحْضِرُوهُم حَتَّى يُرَى هلْ هُمْ بحالِ مَنْ يَضُرُّ وينفعُ أم لا؟ وقيلَ: هو استدعاءٌ وتوقيف على أن يأتوا بهم يومَ القيامةِ يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وقرأ ابن عباس «4» : «تُكْشَفُ» - بضم التاء- على مَعْنَى: تُكْشَفُ القيامةُ والشدةُ والحالُ الحاضرة، وقرأ ابن عباس «5» أيضاً:
«تَكْشِفُ» - بفتح التاء- على أنَّ القيامةَ هي الكاشِفَةُ، وهذه القراءة مفسِّرَة لقراءَةِ الجماعةِ، فما وَرَدَ في الحديثِ والآيةِ مِنْ كَشْفِ الساقِ فهو عبارة عَنْ شدةِ الهول.
وقوله- جلت عظمته-: وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ وفي الحديثِ الصحيحِ: «فَيَخِرُّونَ للَّهِ سُجّداً أجْمَعونَ ولا يبقى أحَدٌ كَانَ يسجدُ في الدنيا رياءً ولا سمعةً ولاَ نِفَاقاً إلا صَارَ ظهرُهُ طَبَقاً وَاحِداً كُلَّما أرَادَ أنْ يسجد خرّ على قفاه» «6» ، الحديث، وفي
__________
(1) قرأ بها الأعرج، كما ذكر ابن خالويه في «مختصر الشواذ» ص: (160) ، وقرأ بها طلحة، والضحاك، كما في «الدر المصون» (6/ 357) .
(2) ينظر: «مختصر الشواذ» ص (160) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 352) و «البحر المحيط» (8/ 309) ، و «الدر المصون» (6/ 357) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 352) ، و «البحر المحيط» (8/ 309) .
(4) ينظر: «المحتسب» (2/ 160) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 353) .
(5) ينظر: مصادر القراءة السابقة.
(6) أخرجه البخاري (8/ 531) ، كتاب «التفسير» باب: يوم يكشف عن ساق (4919) نحوه. -
(5/470)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
الحديثِ: «فَيَسْجُدُ كُلُّ مُؤْمِنٍ، وَتَرْجِعُ أصْلاَبُ المُنَافِقِينَ والكُفَّارِ، كَصَيَاصِي البَقَرِ، عَظْماً وَاحِداً فَلا يَسْتَطِيعُونَ سُجُودًا» الحديث.
وقوله تعالى: وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يريد في دَارِ الدنيا، وَهُمْ سالِمُونَ مما نالَ عَظَامَ ظهورِهم مِنَ الاتِّصَال والعتوّ.
[سورة القلم (68) : الآيات 44 الى 52]
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48)
لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)
وقوله سبحانه: فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ الآية، وَعِيدٌ وتهديدٌ والحديثُ المشَارُ إليه/ هو القرآن، وباقي الآية بيّن مِمّا ذُكِرَ في غير هذا الموضع، ثم أمَرَ اللَّه- تعالى- نبيَّه بالصَّبْرِ لِحُكْمِهِ وأنْ يَمْضِيَ لِمَا أُمِرَ بهِ من التبليغِ واحْتِمالِ الأذَى والمشقة، ونُهِيَ عَنِ الضَّجَرِ والعَجَلَةِ التي وَقَعَ فيها يونُسَ صلّى الله عليه وسلّم ثم اقْتَضَبَ القصَّةَ وذَكَرَ ما وَقَعَ في آخرها من ندائِه من بطن الحوت، وَهُوَ مَكْظُومٌ أي: وَهُو كَاظِمٌ لحُزْنِه ونَدَمِه، وقال الثعلبيّ، ونحوُه في البخاري: وَهُوَ مَكْظُومٌ أي: مملوءٌ غَمًّا وكَرْبَاً، انتهى وهُوَ أقْرَبُ إلى المعنى، وقال النَّقَّاشُ: المكظومُ الذي أُخِذَ بِكَظْمِه، وهي مَجَارِي القلبِ، وقرأ ابن مسعود «1» وغيره: «لَوْلاَ أَنْ تَدَارَكَتْهُ نِعْمَةُ» والنعمة التي تداركته هي الصَّفْحُ والاجتباء الذي سَبَقَ له عَنْدَ الله- عز وجل- لَنُبِذَ بِالْعَراءِ أي: لَطُرِحَ بالعرَاءِ وهُوَ الفَضَاءُ الَّذِي لاَ يُوارِي فيه جَبَلٌ ولاَ شَجَرٌ وقد نبذ يونس ع بالعَرَاءِ وَلَكِنْ غَيْر مَذْمُومٍ، وجاء في الحديث عن أسماء بِنْتِ عُمَيْسٍ قالَتْ: «عَلَّمَنِي رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم كلمات أقولهنّ عند
__________
- ومن طريق أخرى غير هذه، أخرج الحاكم حديثا في هذا المعنى (4/ 589، 592) في حديث طويل.
قال الحاكم: رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات، غير أنهما لم يخرجا أبا خالد الدالاني في «الصحيحين» ، لما ذكر في انحرافه عن السنة في ذكر الصحابة، فأما الأئمة المتقدمون فكلهم شهدوا لأبي خالد بالصدق، والإتقان، والحديث صحيح ولم يخرجاه، وأبو خالد الدالاني ممن يجمع حديثه في أئمة أهل الكوفة.
قال الذهبي: ما أنكره حديثا على جودة إسناده!! وأبو خالد شيعي منحرف.
(1) وقرأ بها ابن عبّاس وأبي بن كعب.
ينظر: «مختصر الشواذ» (ص: 161) ، و «الكشاف» (4/ 596) ، و «البحر المحيط» (8/ 311) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 354) ، و «الدر المصون» (6/ 359) .
(5/471)
الكَرْبِ أَوْ في الكَرْبِ، اللَّه اللَّه رَبِّي لاَ أُشْرِكُ بِه شَيْئاً» «1» رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وأخرجَهُ الطبرانيُّ في كتاب «الدعاء» ، انتهى من «السلاح» ، ثم قال تعالى لنبيه:
وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ المعنى يكادُوْنَ مِنَ الغَيْظِ والعداوةِ يُزْلِقُونَه فَيُذْهِبُونَ قدمَه مِنْ مَكَانِها، ويُسْقِطُونَه، قال عياض: وقَدْ رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال: كلُّ مَا في القرآن: «كاد» فَهُو مَا لاَ يَكُونُ، قال تعالى: يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ [النور: 43] ولم يذهبها وأَكادُ أُخْفِيها [طه: 15] وَلَمْ يَفْعَلْ، انتهى ذكره إثرَ قَوْلِه تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ [الإسراء: 73] . وقرأ الجمهور: «لَيُزْلِقُونَكَ» /- بِضَمِّ اليَاءِ- مِنْ: أزْلَقَ، ونَافِعٌ بِفَتْحِها «2» ، من: زُلِقَتِ الرّجْلُ، وفي هذا المعنى قولُ الشاعر:
[الكامل]
يَتَقَارَضُونَ إذَا التقوا في مَجْلِس ... نَظَراً يَزِلُّ مَوَاطِىءَ الأَقْدَامِ «3»
وَذَهَبَ قَوْمٌ من المفسرينَ على أن المعنى: يأخذونَك بالعَيْنِ، وقال الحسَنُ: دَوَاءُ مَنْ أَصَابَتْهُ العينُ أن يقرأَ هذهِ الآيةَ «4» ، والذِّكْرُ في الآيةِ: القرآنُ.
__________
(1) أخرجه أبو داود (1/ 477) ، كتاب «الصلاة» باب: في الاستغفار (1525) ، والنسائي (6/ 166) - «الكبرى» ، كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول إذا غلبه أمر (10484/ 22- 10485/ 23) ، وابن ماجه (2/ 1277) ، كتاب «الدعاء» باب: الدعاء عند الكرب (3882) ، وأحمد (6/ 369) .
(2) ينظر: «السبعة» (647) ، و «الحجة» للقراء السبعة (6/ 312) ، و «إعراب القراءات» (2/ 382) ، و «حجة القراءات» (718) .
(3) البيت في «الكشاف» (4/ 597) ، و «البحر المحيط» (8/ 311) ، والقرطبي (18/ 166) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 354) ، «اللسان» (زلق) .
(4) ذكره البغوي (4/ 385) ، وابن عطية (5/ 355) .
(5/472)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
تفسير سورة «الحاقّة»
[وهي] مكّيّة بإجماع
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
قوله عز وجل: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ المُرَادُ بالحاقَّةِ: القيامةُ، وهي اسْمُ فاعلٍ مِنْ حَقَّ الشَّيءُ يَحِقُّ لأنَها حَقَّتْ لِكُل عَامِلٍ عملَه، قال ابن عباس وغيره: سُمِّيَت القيامةَ حَاقَّةً لأنَّها تُبْدِي حَقَائِقَ الأشياء «1» ، والْحَاقَّةُ: مبتدأ ومَا مبتدأُ ثانٍ، والحاقَّةُ الثانية خَبَرُ مَا والجملةُ خَبَرُ الأُولى، وهذا كما تقول: زَيْدٌ مَا زَيْدٌ على معنى التعظيمِ له، وإبْهام التعظيمِ أيضاً ليتخَيَّلَ السّامِعُ أقْصَى جُهْدَه.
وقوله: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ مبالغة في هذا المعنى: أي: أن فيها مَا لَمْ تَدْرِه مِنْ أهْوَالِها، وتَفَاصِيلِ صِفَاتِها، ثم ذكرَ تعالى تكذيبَ ثَمُودَ وَعَادٍ بهذَا الأَمْرِ الذي هو حَقُّ مشيراً إلى أنْ مَنْ كَذَّبَ بِذَلِكَ يَنزلُ به ما نزل بأولئك، والقارعة: من أسماء القيامة أيضاً لأنها تَقْرَعُ القلوبَ بصدمتها.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 5 الى 17]
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
وقوله سبحانه: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ قال قتادة: معناه: بالصَّيْحَةِ التي خَرَجَتْ عن حدِّ كل صيحةٍ «2» ، وقيل: المعنى بسَبَبِ الفِئَةِ الطاغيةِ، وقيل: بسببِ الفعلة الطاغية، وقال ابن زيد ما معناه: الطاغيةُ مصدرٌ كالعَاقِبة، فكأنه قال بطغيانهم «3» وقاله أبو
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 356) . [.....]
(2) ذكره البغوي (4/ 386) ، وذكره ابن عطية (5/ 356) ، وذكره ابن كثير (4/ 412) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 207) ، رقم: (34722) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 357) .
(5/473)
عبيدة، وَيُقَوِّي هذا قوله تعالى: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها [الشمس: 11] وأوْلَى الأقوال وأصوبُها الأوَّلُ، وباقي/ الآيةِ تقدم تفسيرُ نظيرهِ، وما في ذلك من القصص، والعَاتِيَةُ:
معناه الشديدةُ المخالِفَة، فكانت الريحُ قد عَتَتْ على خُزَّانِها بخلافِها، وعلى قومِ عادٍ بشدتها، ورُوِيَ عن عليٍّ وابن عباس أنهما قَالا: لَمْ ينزلْ من السماء قطرةُ ماءٍ قط إلا بمكيالٍ عَلَى يدِ مَلَكٍ، ولا هبتْ ريحٌ إلاَّ كذلك إلاَّ ما كَانَ مِنْ طوفانِ نوحٍ، وريحِ عادٍ، فإنَّ اللَّه أَذِنَ لهما في الخروج دونَ إذن الخزّان «1» ، وحُسُوماً: قال ابن عباس وغيره:
معناه كَامِلَةً تِبَاعاً لم يتخللْها غيرُ ذلك «2» ، وقال ابن زيد: حُسُوماً جمعُ حَاسِمٍ، ومعناه أنَّ تلكَ الأَيامَ قطعَتْهُم بالإهلاكِ «3» ، ومنه حَسَمَ العِلَلَ، ومنه الحُسَامُ، والضميرُ في قوله:
فِيها صَرْعى يُحتملُ عُوْدُه على الليالي والأيامِ، ويُحْتَمَلُ عودُه على ديارِهم، وقيل: على الريح، - ص-: «ومن قِبَلَه» النْحويانِ وعاصمٌ في روايةٍ- بكَسْرِ القافِ وفَتْحِ الباء- أي:
أجنادُه وأهلُ طاعتهِ، وقرأ الباقون «4» : «قَبْلَه» ظَرْفَ زمانٍ، انتهى.
وقوله: بِالْخاطِئَةِ صفةٌ لمحذوفٍ، أي: بالفعلةِ الخاطئةِ، وال «رابية» النَّامِيَة التي قد عَظُمَتْ جِدًّا، ومنه رِبَا المالِ، ومنه اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [ٍالحج: 5] ، ثم عدد تعالى على الناس نعمه في قوله: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ يعني في وقتِ الطوفانِ الذي كانَ على قوم نوح، والْجارِيَةِ سفينةُ نوحٍ قاله منذر بن سعيد «5» ، والضميرُ في: لِنَجْعَلَها
عائِدٌ على الجاريةِ أو على الفعلة.
وقوله تعالى: وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
: عبارةٌ عن الرجلِ الفَهِمِ المُنَوَّرِ القلبِ الذي يسمعُ القرآنَ فيتلقاه بِفَهْمٍ وتدبُّرٍ، قال أبو عمران الجوني: واعِيَةٌ
عَقَلَتْ عَنِ اللَّهِ تعالى، وقال الثعلبيُّ: المعنى: لِتَحْفَظَهَا كلُّ أذُنٍ فتكونَ عِظَةً لِمَنْ يأتي بعدُ، تقول وَعَيْتَ العِلْمَ إذا
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 207- 208) ، رقم: (34727) ، (34728) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 357) ، وذكره ابن كثير (4/ 413) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 405) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عبّاس.
(2) أخرجه الطبري (12/ 208) ، رقم: (34732) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 357) ، وذكره ابن كثير (4/ 412) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 406) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن ابن عبّاس.
(3) أخرجه الطبري (12/ 209) ، رقم: (34745) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 357) .
(4) ينظر: «السبعة» (648) ، و «الحجة» (6/ 314) ، و «إعراب القراءات» (2/ 385) ، و «حجة القراءات» (718) ، و «معاني القراءات» (86) ، و «العنوان» (196) ، و «شرح شعلة» (606) ، و «شرح الطيبة» (6/ 66) ، و «إتحاف» (2/ 557) .
(5) ذكره ابن عطية (5/ 358) .
(5/474)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
حَفِظْتَه، انتهى، ثم/ ذَكَّر تعالى بأمر القيامةِ، وقرأ الجمهور «1» : «وَحُمِلَتْ» بتخفيفِ الميمِ بمعنى: حَمَلَتْهَا الريح أو القدرة، وفَدُكَّتا معناه سُوِّيَ جميعُها، وانشقاقُ السماءِ هو تَفَطُّرُهَا وتميُّزُ بعضِها من بعضٍ، وذلك هو الوَهْيُ الذي ينالُها، كما يقال في الجدرات الباليةِ المتشققةِ واهيةٌ، والملَكُ اسْمُ الجنسِ يريدُ به الملائكةَ، وقال جمهور من المفسرين:
الضميرُ في أَرْجائِها عائدٌ على السَّمَاءِ أي: الملائِكَة على نواحيها، والرجاء الجَانِبُ مِنْ البئر أو الحائط ونحوه، وقال الضحاكُ وابنُ جبير وغيرهما: الضميرُ في: أَرْجائِها عائدٌ عَلى الأرْضِ «2» ، وإنْ كان لم يتقدم لها ذكرٌ قريبٌ لأنَّ القصةَ واللفظَ يَقْتَضِي إفهَام ذلك، وفَسَّرُوا هذه الآيةَ بما رُوِيَ من أن اللَّه تعالى يأمر ملائِكَةَ سَمَاءِ الدنيا، فيقفونَ صَفًّا على حَافَّاتِ الأرضِ، ثم يأمرُ ملائكة السماءِ الثانية فَيَصُفُّونَ خلفَهم، ثم كذلك ملائكةُ كُلّ سماءٍ، فكلما نَدَّ أحدٌ من الجنِ أو الإنسِ، وَجَدَ الأرضَ قد أُحِيطَ بها، قالوا: فهذا تفسير هذه الآية وهو أيضاً معنى قوله: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر: 22] وهو تفسير: «يَوْمَ التناد يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ» [غافر: 32- 33] على قراءةِ من شَدَّدَ الدال، وهو تفسيرُ قوله: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ... [الرحمن: 33] الآية، واختلفَ الناسُ في الثمانيةِ الحاملينَ للعرشِ، فقال ابن عباس: هي ثمانيةُ صفوفٍ مِنَ الملائكة لا يَعْلَم أَحَدٌ عِدَّتَهم «3» ، وقال ابن زيدِ: هُمْ ثمانيةُ أمْلاَكٍ على هيئةِ الوُعُولِ «4» ، وقال جماعة من المفسرين: هم على هيئة الناسِ أرجلُهم تَحْتَ الأرْضِ السابعةِ، ورؤوسهم وكواهلهم فَوْقَ السماءِ السابعةِ، قال الغَزَّالِيُّ في «الدرة الفاخرة» : هم ثمانيةُ أمْلاَكٍ قَدَمُ المَلَكِ منهم مسيرةُ عشرينَ ألْفَ سنةٍ، انتهى، والضميرُ في قوله: فَوْقَهُمْ قيل: هو للملائكَةِ/ الحَمَلَةِ، وقيل: للعالم كلّه.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 18 الى 29]
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22)
قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27)
ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)
__________
(1) وقرأ ابن عبّاس، والأعمش، وابن أبي عبلة، وابن مقسم بتشديد الميم.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (161) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 379) ، و «البحر المحيط» (8/ 317) ، و «الدر المصون» (6/ 363) ، و «التخريجات النحوية» (238) .
(2) ذكره ابن عطية (5/ 359) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 215- 216) ، رقم: (34788، 34790) بنحوه، وذكره البغوي (4/ 388) ، وذكره ابن عطية (5/ 359) ، وذكره ابن كثير (4/ 414) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 409) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(4) أخرجه الطبري (12/ 216) ، رقم: (34792) بنحوه. وذكره ابن عطية (5/ 359) .
(5/475)
وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ خطابٌ لجميعِ العَالَمِ، وفي الحديثِ الصحيحِ:
«يُعْرَضُ النَّاسُ ثَلاَثَ عَرْضَاتٍ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ، فَعِنْدَهَا تَتَطَايَرُ الصُّحُفُ في الأَيْدِي، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ، وآخِذٌ بِشِمَالِهِ» «1» ، قال الغَزَّالِيُّ: يَجِبُ على كُلِّ مُسْلِمٍ البِدَارُ، إلى مُحَاسَبَةِ نفسِه كما قال عمرُ- رضي اللَّه عنه-: حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوهَا قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا «2» ، وإنَّمَا حِسَابُهُ لِنَفْسِهِ، أَنْ يَتُوبَ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ قَبْلَ المَوْتِ تَوْبَةً نَصُوحاً، وَيَتَدَارَكَ مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ تَقْصِيرٍ في فَرَائِضِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- ويردَّ المظالمَ حَبَّةً حَبَّةً، ويستحلَّ كلَّ مَنْ تَعَرَّضَ له بلسانِه ويدِه، وسوء ظِنّه بقلبِه، ويُطَيِّبَ قلوبَهم حتى يموتَ، ولم يَبْقَ عليه فريضة ولا مظلمة، فهذا يدخل بغيرِ حِسَابٍ، إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى، انتهى من آخِر «الإحياء» ، ونَقَلَ القرطبيُّ في «تذكرَتِه» هذه الألفاظَ بعينها.
وقوله: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ معناه تَعَالُوا، وقَوْله: اقْرَؤُا كِتابِيَهْ هُو استبشارٌ وسرورٌ- ص-: هاؤُمُ «ها» بمعنَى خُذْ، قَالَ الكسائي: والعربُ تقول: هَاءِ يَا رَجُلُ، وللاثنين رجلين أو امرأتين: هَاؤُمَا، وللرجال: هَاؤُمْ، وللمرأَةِ: هَاءِ بهمزة مكسورة من غير ياء، وللنساء: هَاؤُنَّ، وزعم القُتَبِيُّ أَنَّ الهمزةَ بَدَلٌ من الكافِ، وهو ضعيفٌ، إلا أنْ يعني أنها تحلُّ محلَّها في لغةِ مَنْ قال: هَاكَ وهَاكِ، وهَاكُمَا وهَاكُمْ وَهَاكُنَّ، فذلكَ مُمْكِنٌ، لا أَنَّه بَدَلٌ صناعيٌّ لأَنّ الكافَ/ لاَ تُبْدَلُ من الهمزةِ ولا الهمزةُ منها. انتهى.
وقوله: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ عبارةٌ عن إيمانه بالبعث وغيره، وظَنَنْتُ هنا واقَعةٌ موقع: تَيَقَّنْتُ، وهي في مُتَيَقَّنٍ لم يقعْ بَعْدُ ولا خرج إلى الحسِّ، وهذا هُو باب الظنِّ الذي يوقع موقعَ اليقين، وراضِيَةٍ بمعنى مَرْضِيَّة، والقُطُوفُ: جمع قَطْفٍ وهو ما يُجْتَنَى من الثمارِ، ويقطفُ، ودنوُّها هُوَ أَنهَا تأتي طوع التّمنّي فيأكلها القائم والقاعد
__________
(1) أخرجه الترمذي (4/ 617) ، كتاب «صفة القيامة» باب: ما جاء في العرض (2425) ، وابن ماجه (2/ 1430) ، كتاب «الزهد» باب: ذكر البعث (4277) ، وأحمد (4/ 414) .
قال الترمذي: ولا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وقد رواه بعضهم عن علي الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 410) ، وعزاه لابن المبارك.
(5/476)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)
والمضطجع بفيه من شجرتها، وبِما أَسْلَفْتُمْ معناه بِمَا قَدَّمْتُمْ من الأَعْمَالِ الصالحةِ، والْأَيَّامِ الْخالِيَةِ هي أيام الدنيا، لأنها في الآخرة قَدْ خَلَتْ وذَهَبَتْ، وقال وكيع وغيره:
المرادُ بِما أَسْلَفْتُمْ من الصوم «1» ، وعموم الآية في كل الأعمال أوْلى وأحسن، ت:
ويدلُّ على ذلك الآية الأخرى كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [المرسلات: 43] قال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا مالك بن مغول أنّه بلغَه أنّ عمر بن الخطاب- رضي اللَّه عنه- قال: حَاسِبُوا أنفُسَكم قبل أن تحاسَبُوا فإنَّه أهْونُ أو أيْسَرُ لحسابِكم، وزنوا أنفسَكم قبل أن تُوزَنُوا، وتجهَّزُوا للعرْضِ الأَكْبَرِ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ قال ابن المبارك: أخبرنا معمر عن يحيى بن المختارِ، عن الحسن قال: إن المؤمِنَ قَوَّامٌ على نفسه، يحاسبُ نفسَه للَّه، وإنما خَفَّ الحسابُ يوم القيامة عَلَى قومٍ حَاسَبُوا أنفسهم في الدنيا، وإنَّما شَقَّ الحسابُ يومَ القيامةِ على قومٍ أَخَذُوا هذا الأَمْرَ عن غير محاسبةٍ «2» ، انتهى، والذينَ يُؤتَوْنَ كتبَهم بشمائِلهم هم المخلَّدُونَ/ في النارِ أهلُ الكفرِ، فيتمنَّوْن أن لو كانوا معدومين.
وقوله: يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ إشارة إلى موتة الدنيا، أي: ليتها لم يكن بعدها رجُوع، - ص-: مَا أَغْنى «ما» نافيةٌ أو استفهاميةٌ انتهى، والسلطانُ في الآيةِ الحجةُ، وقيل: إنه يَنْطِقُ بذلكَ مُلُوكُ الدنيا، والظاهر أنَّ سلطانَ كلِّ أحَدٍ حَالُه في الدنيا من عَدَدٍ وعدد، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم «لاَ يُؤُمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطَانِهِ، وَلاَ يجلس على تكرمته إلّا بإذنه» «3» .
[سورة الحاقة (69) : الآيات 30 الى 33]
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)
وقوله سبحانه: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ الآية، المعنى يقول الله تعالى، أو الملك بأمره
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 360) . [.....]
(2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 412) ، وعزاه لابن المنذر عن ابن جريج.
(3) أخرجه مسلم، كتاب «المساجد» باب: من أحق بالإمامة، حديث (290- 291) ، وأبو داود (1/ 215) ، كتاب «الصلاة» باب: في من أحق بالإمامة (582) ، والترمذي (1/ 458- 459) ، كتاب «المواقيت» باب: من أحق بالإمامة (230) ، والنسائي (2/ 76) ، كتاب «الإمامة» باب: من أحق بالإمامة (780) ، (2/ 77) ، كتاب «الإمامة» باب: اجتماع القوم وفيهم الوالي (783) ، وابن ماجه (1/ 313، 314) ، كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب: من أحق بالإمامة (980) ، وأحمد (4/ 118، 121- 122) ، (5/ 272) ، وهو في الترمذي أيضا (5/ 99) ، كتاب «الأدب» باب: (24) (2772) .
قال الترمذي: حسن صحيح.
(5/477)
وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
للزبانيةِ: خذوه واجْعَلُوا في عنقه غلاًّ، قال ابن جُرَيْجٍ: نزلَتْ في أبي جَهْلٍ «1» .
وقوله تعالى: فَاسْلُكُوهُ معناه: أدْخِلوه، ورُوِيَ أن هذه السلسلةَ تدخلُ في فَمِ الكافرِ وتخرجُ من دُبُرِه، فهي في الحقيقةِ التي تَسْلُكُ فيه، لكنَّ الكلامَ جَرَى مَجْرَى:
أدْخَلْتُ القَلَنْسُوةَ في رَأْسِي، ورُوي أن هذه السلسلةَ تلوى حَوْلَ الكافرِ حتى تعمَّه وتَضْغَطَه، فالكلامُ على هذا على وجهه وهو المسلوك.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 34 الى 37]
وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)
وقوله تعالى: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ خُصَّتْ هذه الخلةُ بالذكرِ، لأنَّها من أضَرِّ الخِلاَلِ بالبشر إذا كثُرَتْ في قوم هَلَكَ مساكينُهم، ت: ونَقَلَ الفخرُ «2» عن بعض الناس أنه قال في قوله تعالى: وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ: دليلانِ قويَّانِ على عِظَمِ الجرْمِ في حِرْمَانِ المساكين، أحدهما: عَطْفُه على الكفرِ وجَعْلُه قريناً له، والثاني: ذِكْرُ الحضِّ دُونَ الفِعْلِ ليعلمَ أنَّه إذا كانَ تاركَ الحضِّ بهذه المنزلةِ، فكيفَ بمن ترك الفِعْل، قال الفخر «3» : ودلتِ الآية على أنَّ الكفارَ يُعَاقَبُونَ على ترك الصلاةِ والزكاةِ، وهو المرادُ من قولنا: إنهم مخاطَبُون بفروعِ الشريعة/ وعن أبي الدَّرْدَاءِ أنه: كانَ يَحُضُّ امرأتَه على تكثيرِ المَرَقِ لأجْلِ المساكينِ، ويقول: خَلَعْنَا نصفَ السلسلةِ بالإيمَانِ، أَفَلاَ نَخْلَعُ النصفَ الثاني «4» ، انتهى.
وقوله: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ أي صَدِيقٌ لطيفُ المودةِ قاله الجمهور، وقيلَ: الحميمُ الماءُ السُّخْنُ، فكأنه تعالى أخبرَ أنَّ الكافرَ ليس له ماءٌ ولا شيءٌ مائعٌ ولا طَعَامٌ إلا مِنْ غِسْلينٍ، وهو ما يَجْرِي من الجَرَاحِ، إذا غَسِلَتْ، وقال ابن عباس: الغسلينُ هو صَدِيدُ أهْلِ النار «5» ، وقال قَوم: الغسلينُ: شيءٌ يجري من ضَرِيع النارِ، - ص-:
إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ أبو البقاء: النونُ في (غسلين) زائدةٌ: لأنه غُسَالَةُ أهلِ النار، انتهى،
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 361) عن ابن جرير.
(2) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 102) .
(3) ينظر: المصدر السابق.
(4) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 412) ، وعزاه لأبي عبيد، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن أبي الدرداء.
(5) أخرجه الطبري (12/ 221) ، رقم (34825) ، وابن عطية (5/ 361) ، وابن كثير (4/ 416) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 412) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(5/478)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
والخاطئ الذي يفعل ضدّ الصواب.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 40]
فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)
وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ قيل: «لا» زائدةٌ وقيل: «لا» رَدٌّ لما تَقَدَّمَ من أَقوالِ الكفار، والبَدْأَة: أقْسِمُ.
وقوله: بِما تُبْصِرُونَ وَما لاَ تُبْصِرُونَ قَال قتادة: أرادَ اللَّه تعالى أن يَعُمَّ بهذا القسمِ جميعَ مخلوقاتهِ «1» ، والرسولُ الكريمُ قيل: هو جبريلٌ، وقيل: هو نبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 41 الى 44]
وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44)
وقوله تعالى: وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ نَفى سبحانه أن يكونَ القرآن من قولِ شاعرٍ كما زعمت قريش، وقَلِيلًا نَصْبٌ بفعلِ مَضْمَر يدل عليه تُؤْمِنُونَ و «ما» يحتملُ أنْ تكونَ نافيةً فينتفي إيمَانُهم أَلْبَتَّةَ، ويحتملُ أَن تكونَ مصدريةً فيتَّصِفُ إيمانهم بالقلةِ، ويكونُ إيماناً لُغَوِيًّا لأنهم قَدْ صَدَّقُوا بأشياءَ يسيرةٍ لاَ تُغْنِي عَنْهم شيئاً، ثم أخبر سبحانه أن محمّدا ع لَوْ تَقَوَّلَ عليه لعَاقَبَه بما ذكر، - ص-: الأَقَاويلُ جمع أقوالٍ، وأقْوَالٌ جَمْعُ قَوْلٍ، فهو جمع الجمع، انتهى.
[سورة الحاقة (69) : الآيات 45 الى 52]
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
وقوله سبحانه: لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ قال ابن عباس: المعنى لأَخَذْنا منه بالقوةِ، أي لَنِلْنَا منه عقَابَه بقوةٍ/ منا «2» ، وقيل: معناه لأَخَذْنَا بيدهِ اليمنى على جهةِ الهَوانِ، كما يقال لِمَنْ يسجنُ أو يقامُ لعقوبةٍ: خُذُوا بيدِه أو بيمينه، والوَتِينُ نِيَاطُ القلبِ قاله ابن عباس، وهُو عِرْقٌ غَلِيظٌ تصادفُه شفرةُ الناحِرِ «3» ، فمعنى الآيةِ: لأَذْهَبْنَا حياتَه معجَّلاً، والحاجِزُ:
المانِعُ والضمير في قوله: وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ عائدٌ على القرآن، وقيل: على النبي صلّى الله عليه وسلّم،
__________
(1) ذكره البغوي (4/ 390) ، وذكره ابن عطية (5/ 362) .
(2) ذكره البغوي (4/ 390) ، وذكره ابن عطية (5/ 363) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 223) ، رقم: (34832- 34833، 34834) بنحوه، والبغوي (4/ 391) ، وابن عطية (5/ 363) ، وابن كثير (4/ 417) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 413) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عبّاس.
(5/479)
- ص-: وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ: ضمير (إنه) يعودُ على التكذيبِ المفهومِ من مُكَذِّبِينَ، انتهى، وقال الفخر «1» : الضميرُ في قوله: وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ فيه وجهانِ: أحدهما أنه يعودُ على القرآن، أي: هو على الكافرينَ حَسْرَةً، إمَّا يوم القيامةِ إذَا رَأَوا ثَوَابَ المصدِّقينَ به، أو في الدنيا إذا رأوا دَوْلَةَ المؤمنِين، والثاني: قال مقاتلٌ: وإنَّ تكذيبَهم بالقرآن لَحَسْرَةٌ عليهم يَدلُّ عَلَيْه قوله: أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ، انتهى، ثم أمَرَ تعالى نبيه بالتسبيحِ باسْمِه العظيم، ولمّا نَزَلت قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اجعلوها في ركوعكم.
__________
(1) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 106) .
(5/480)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)
تفسير سورة «المعارج»
[وهي] مكّيّة بلا خلاف
[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3)
قوله عز وجل: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ قرأ جمهور السبعة: سَأَلَ بهمزة محقَّقةٍ، قالوا: والمعنى دَعَا داعٍ، والإشارةُ إلى مَنْ قال من قريشٍ: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ ... [الأنفال: 32] الآية، وقولهم: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: 16] ونحو ذلك، وقال بعضهم: المعنى بَحَثَ بَاحِثٌ واسْتَفْهَمَ مُسْتَفْهِم، قالوا: والإشارةُ إلى قول قريشٍ: مَتى هذَا الْوَعْدُ [الملك: 25] وَمَا جَرى مَجْراه قاله الحسن وقتادة، والباء على هذا التأويل في قوله: بِعَذابٍ بمعنى «عن» وقرأ نافع وابن عامر «1» : «سَال سَائِلٌ» ساكنَةَ الأَلِفِ، واختلفَ القراء بها/ فقال بعضهم: هي «سأل» المهموزةُ إلاَّ أنَّ الهمزةَ سُهِّلَتْ، وقال بعضهم هي لغة من يقول: سَلْتُ أَسَالُ وَيَتَسَاوَلاَنِ، وهي لغةٌ مشهورة، وقال بعضهم في الآية: هي من سَالَ يَسِيلُ إذا جَرَى، وليست من معنى السؤال، قال زيد بن ثابت وغيره: في جهنمَ وادٍ يسمَّى سَائِلاً «2» والإخبارُ هنا عنه، وقرأ ابن عباس «3» : «سَال سيل» - بسكون الياءِ- وسؤَال الكفارِ عن العذابِ- حَسَبَ قراءة الجماعة- إنما كانَ على أنه كَذِبٌ، فوصفَه اللَّه تعالى بأنهُ وَاقِعٌ وعيداً لهم.
وقوله: لِلْكافِرينَ قال بعض النحاة: اللامُ بمعنى «على» ، ورُويَ: أنه كذلِكَ في
__________
(1) ينظر: «السبعة» (650) ، و «الحجة» (6/ 317) ، و «إعراب القراءات» (2/ 389) ، و «حجة القراءات» (720) ، و «معاني القراءات» (3/ 88) ، و «شرح الطيبة» (6/ 68) ، و «العنوان» (197) ، و «شرح شعلة» (608) . و «إتحاف» (2/ 560) .
(2) ذكره ابن عطية (5/ 364) .
(3) قال أبو الفتح: السيل هنا: الماء السائل، وأصله المصدر، من قولك: سال الماء سيلا، إلا أنه أوقع على الفاعل، كقوله: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الملك: 30] ، أي: غائرا.
ينظر: «المحتسب» (2/ 330) ، و «مختصر الشواذ» ص: (162) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 365) . [.....]
(5/481)
تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
مصحف «1» أُبَيٍّ: «على الكافرين» والمعارجُ في اللُّغةِ الدَّرَجُ في الأجْرَام، وهي هنا مستَعارَةٌ في الرُّتَبِ والفضائِل، والصفاتِ الحميدة قاله ابن عباس وقتادة «2» ، وقال الحسن: هي المَرَاقي في السماء «3» ، قال عياض، في «مشارق الأنوار» : قوله صلّى الله عليه وسلّم «فَعَرَجَ بي إلى السَّماء» ، أي: ارْتَقَى بي، والمعراجُ الدَّرَجُ وقيل: سُلَّمٌ تَعْرُج فيه الأرواحُ، وقيل: هو أحْسَنُ شيءٍ لا تتمالكُ النفسُ إذا رأته أنْ تَخْرُجَ، وإليه يَشْخَصُ بَصَرُ الميْتِ مِنْ حُسْنِهِ، وقيل: هو الذي تَصْعَدُ فيه الأَعْمَالُ، وقيل: قوله: ذِي الْمَعارِجِ مَعَارِجِ الملائكة، وقيل: ذي الفواضل، انتهى.
[سورة المعارج (70) : آية 4]
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
وقوله تعالى: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ معناه تَصْعَدُ، والرُّوحُ عِنْدَ الجمهورِ هو جبريلُ ع وقال مجاهد: الرُّوحُ ملائِكَةٌ حَفَظَةٌ للملائِكَةِ الحافظين لبني آدم لا تَراهم الملائكةُ كَمَا لا نرى نحن الملائكة «4» ، وقال بعض المفسرين: هو اسم جنسِ لأرواحِ الحيوان.
وقوله سبحانه: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ قال ابن عباس وغيره: هو يومُ القيامةِ «5» ، ثم اختلفُوا فقال بعضُهم: قُدْرُه في الطولِ قَدْرَ/ خمسينَ ألفَ سَنَةٍ، وقال بعضهم: بل قَدْرُه في الشدّة، والأولُ هو الظاهر، وهو ظاهر قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما مِنْ رجلٍ لا يؤَدِّي زكاةَ مالِه إلا جُعِلَ له صفائحُ مِن نارٍ يوم القيامةِ تكْوَى بها جَبْهَتُه وظهرُه وجَنْبَاه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» . قال أبو سعيدِ الخدريُّ: «قيل: يا رسولَ اللَّه! مَا أطْوَلَ يَوْماً مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَة! فقالَ: والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنَّهُ لَيَخِفُّ عَلَى المُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ» «6» ، قال ابن المبارك: أَخبرنا معمر عن قتادة عن
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 365) .
(2) أخرجه الطبري (6/ 226) ، رقم: (34853- 34854) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 365) ، وابن كثير (4/ 418) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 416) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس، وعزاه أيضا لعبد بن حميد.
(3) ذكره ابن عطية (5/ 365) .
(4) ذكره ابن عطية (5/ 365) .
(5) أخرجه الطبري (12/ 227) ، رقم: (34864) بنحوه، وذكره البغوي (4/ 392) ، وابن عطية (5/ 365) ، وابن كثير (4/ 419) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 416) ، وعزاه لابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث» .
(6) أخرجه أحمد (3/ 75) ، والطبري (12/ 227) (34867) .
(5/482)
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
زُرَارَةَ بْنِ أوفى عن أبي هريرةَ قال: يَقْصُرُ يومئذٍ على المؤْمِنِ حتى يكونَ كوقتِ الصَّلاَةِ «1» ، انتهى، قال ع «2» : وَقَدْ ورد في يوم القيامةِ أنه كألْفِ سنةٍ، وهذا يشبه أن يكونَ في طوائفَ دونَ طوائفَ، ت: قال عبد الحق في «العاقبة» له: اعْلَمْ رَحِمَكَ اللَّهُ أن يومَ القيامةِ لَيْسَ طولُه كما عَهِدْتَ من طول الأيامْ، بَلْ هو آلافٌ من الأعوامْ، يَتَصَرَّفُ فيه هذا الأنامْ، على الوُجُوهِ والأَقْدَامْ، حَتَّى يَنْفُذَ فيهم مَا كُتِبَ لَهُمْ وعليهم من الأَحْكَامِ، وليس يكونُ خَلاَصُه دفعةً وَاحِدَةً، ولا فراغُهم في مرةٍ واحدةٍ بل يَتَخَلَّصُونَ ويَفْرُغُونَ شَيْئاً بعد شيءٍ، لَكِنَّ طولَ ذلك اليومِ خمسون ألفَ سنة، فَيَفْرَغُونَ بِفَرَاغِ اليومِ، ويفرغُ اليومُ بِفَرَاغِهِم، فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يطولُ مقامُه وحبْسُه إلى آخر اليومِ، ومنهم من يكونُ انفصَالُه في ذلك اليوم في مقدار يَوْمٍ من أيام الدنيا، أو في ساعةٍ من ساعاتِه، أو في أقَلَّ من ذلك، ويكون رائحاً في ظلِّ كَسْبهِ وعَرْشِ ربه، ومنهم من يُؤْمَرُ به إلى الجنةِ بغير حسابٍ ولا عذاب، كما أنَّ منهم مَنْ يُؤمَرُ به إلى النارِ في أول الأمْر من غير وقوفٍ ولا انتظار، / أو بعدَ يسير من ذلك، انتهى.
[سورة المعارج (70) : الآيات 5 الى 18]
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18)
وقوله سبحانه: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا أمرٌ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالصبرِ على أذَى قومِه، والصبرُ الجميلُ الذي لا يَلْحَقُه عَيْبٌ ولا شَكٌّ ولا قِلَّةُ رِضًى، ولا غيرُ ذلك، والأمْرُ بالصبرِ الجميلِ مُحْكَمٌ في كل حالة، أعني: لاَ نَسْخَ فيه، وقيل: إن الآيةَ نزلتْ قبل الأمْرِ بالقِتَالِ فهي منسوخة، ت: ولو قيلَ: هذا خطابٌ لجنسِ الإنْسَانِ في شَأْنِ هَوْلِ ذلكَ اليومِ مَا بَعُدَ.
وقوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً يعني يوم القيامة، والمهْلُ: عَكَرُ الزَّيْتِ قاله ابن
__________
- قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 340) : رواه أحمد وأبو يعلى وإسناده حسن على ضعف في راويه.
(1) أخرجه مسلم (1/ 322) ، وأبو داود (2/ 673) ، كتاب «الأدب» باب: في التحلق (4823) ، وأحمد (5/ 93، 101، 107) ، والبيهقي (3/ 234) ، كتاب «الجمعة» باب: من كره التحلق في المسجد.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 365) .
(5/483)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
عباس «1» وغيره، فَهِي لسوادِها وانكدارِ أَنوارِها، تشبهُ ذلكَ، والمهلُ أيضاً: ما أُذِيبَ من فضَّةٍ ونحوها قاله ابن مسعود وغيره «2» ، والعِهْنُ الصوفُ، وقيل: هو الصوفُ المصْبُوغ، أيَّ لَوْنٍ كَانَ، والحميمُ في هذا الموضع: القريبُ والوَليُّ، والمعنى: ولا يَسْأَلُهُ نصرةً ولا منفعةً، ولا يجدُها عنده، وقال قتادة: المعنى: ولا يَسْأَلُهُ عن حالِه لأَنَّها ظاهرةٌ قَدْ بَصُرَ كلُّ أحَدٍ حَالَةَ الجميعِ، وشُغِلَ بنفسهِ «3» ، قال الفخرُ «4» : قوله تعالى: يُبَصَّرُونَهُمْ تقول:
بَصَّرَني زيدٌ كَذَا، وبَصَّرَنيِ بِكَذَا، فإذا بَنَيْتَ الفِعل للمَفْعُولِ وحَذَفْتَ الجارَّ، قلتَ: بُصِّرْتُ زَيْداً، وهكذا معنى: يُبَصَّرُونَهُمْ وكأَنَّه لما قال: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً قيل: لعله لاَ يُبْصِرُه فَقَال: يُبَصَّرُونَهُمْ ولَكِنْ لاِشْتِغَالِهم بأنفسِهم لا يَتَمَكَّنُونَ من تساؤلهِم، انتهى، وقرأ ابن كثير «5» بخلافٍ عنه: «ولاَ يُسْئَلُ» عَلَى بِنَاءِ الفعلِ للمفعول، فالمعنى: وَلاَ يُسْأَلُ إحْضَارَهُ لأنَّ كلَّ مُجْرِمٍ له سِيمَا يُعْرَفُ بها، كما أنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ لَهُ سِيمَا خَيْرٍ، والصَّاحِبَةُ هنا: الزوجةُ، والفصيلة هنا: قرابَةُ الرجل.
وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّها لَظى ردُّ لما وَدُّوه، أي: ليس الأَمْرُ كذلك، و «لَظَى» طَبَقَةٌ مِنْ طبقاتِ جهنم، والشَّوَى/ جلدُ الإنسانِ وقيل: جلدُ الرأس.
تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى يريدُ الكفارَ، قال ابن عباس وغيره: تدعوهُم بأسمائهم وأسماء آبائهم «6» ، وَجَمَعَ أي جمعَ المالَ وفَأَوْعى جَعَلَه في الأوْعِية، أي: جمعُوه من غيرِ حلٍّ ومَنَعُوه من حقوقِ اللَّهِ، وكان عبدُ اللَّهِ بن عكيم لاَ يَرْبِطُ كيسَه، ويقول:
سمعت الله تعالى يقول: وَجَمَعَ فَأَوْعى.
[سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 21]
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21)
وقوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ عمومٌ لاسْمِ الجنسِ، لكنّ الإشارة هنا إلى الكفار،
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 366) ، وابن كثير (4/ 420) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 418) ، وعزاه للطستي عن ابن عبّاس.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 366) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 229) ، رقم: (34876) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 366) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 418) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر.
(4) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 111) .
(5) ينظر: «السبعة» (650) ، و «الحجة» (6/ 320) ، و «إعراب القراءات» (2/ 392) ، و «معاني القراءات» (3/ 89) ، و «شرح الطيبة» (6/ 69) ، و «إتحاف» (2/ 561) . [.....]
(6) ذكره البغوي (4/ 394) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 367) .
(5/484)
إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)
والهَلَعُ فَزَعٌ واضْطِرَابٌ يعتري الإنسانَ عندَ المخاوفِ وعندَ المطامع.
وقوله تعالى: إِذا مَسَّهُ ... الآية، مفسّر للهلع.
[سورة المعارج (70) : الآيات 22 الى 23]
إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)
وقوله تعالى: إِلَّا الْمُصَلِّينَ أي: إلا المؤمنينَ الذين أمْرُ الآخِرَةِ عليهم أوْكَدُ مِنْ أمْرِ الدنيا، والمعنى أن هذَا المعنى فِيهم يَقِلُّ لأنهم يُجَاهِدُونَه بالتقوى.
وقوله: الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أي: مواظبون، وقد قال ع «أَحَبُّ العَمَلِ إلَى اللَّه مَا دَامَ عليه صاحبُه» . ت: وقد تقدم في سورةِ «قَدْ أَفْلَحَ» ما جَاءَ في الخشوعِ، قَالَ الغزاليُّ: فَيَنْبَغِي لك أنْ تفهمَ ما تقرؤه في صلاتِك ولاَ تَغْفُلَ في قراءَتِك عن أمْرِه «1» سبحانَه، ونهيه، وَوَعْدِه، وَوَعِيده، ومواعظِه وأخبارِ أنبيائِه، وذِكْرِ مِنَّتِه وإحْسَانِه، فلكلِّ واحدٍ حَقٌّ فالرجَاءُ حق الوَعْدِ، والخَوْفُ حقُّ الوعيد، والعَزْمُ حق الأمْرِ والنّهي، والإتِّعاظُ حقُّ الموعِظَة، والشكرُ حقُّ ذكر المِنَّةِ، والاعتبارُ حق ذِكْر أخبارِ الأنبياء، قال الغزالي: وتكونُ هذه المعاني بِحَسَبِ دَرَجَاتِ الفَهْمِ، ويكونُ الفَهْمُ بِحَسَبِ وُفُورِ العلمِ. وصَفَاءِ القلب، ودَرَجَاتُ ذلكَ لاَ تَنْحَصِرُ، فهذا حقُّ القراءةِ وهُوَ حَقُّ الأَذْكَارِ، والتسبيحاتِ أيضاً، ثم يُرَاعى الهيئةَ في/ القراءةِ، فيرتِّلُ ولا يَسْرُدُ فإن ذلك أيْسَرُ للتأمُّلِ، ويُفَرِّقُ بَيْن نَغْمَاتِه في آياتِ الرحمةِ وآياتِ العذاب، والوعد والوعيد، والتحميدِ والتعظيمِ، انتهى من «الإحياء» ، ورَوَى ابن المبارك في «رقائقه» قال: أخبرنا ابن لَهِيعَةَ عن يزيدَ بْنِ أبي حَبِيبٍ أنَّ أبا الخَيْرِ حدَّثَهُ قال: سَأَلْنَا عقبةَ بنَ عامرٍ الجهنيّ عن قوله- عز وجل-:
الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أهُمُ الذين يصلُّون أبَداً؟ قال: لا، ولكنَّه الذي إذا صلى لم يلتفتْ عن يمينهِ، ولا عن شماله، ولا خلفه «2» ، انتهى.
[سورة المعارج (70) : الآيات 24 الى 31]
وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31)
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ قال ابن عباس وغيره: هذه الآيةُ
__________
(1) في د: أمر الله.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 368) ، وابن كثير (4/ 421) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 420) ، وعزاه لابن المنذر.
(5/485)
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
في الحقُوقِ التي في المَالِ سِوَى الزكاةِ «1» ، وهي ما نَدَبَتْ إليه الشريعةُ من المواساة، وهذا هو الأصَحُّ في هذه الآية لأن السورَة مكيةٌ وفَرْضُ الزكاةِ وبيانُها إنما كَان بالمدينة، وباقي الآية تقدّم تفسير نظيره.
[سورة المعارج (70) : الآيات 32 الى 35]
وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ جَمَع الأمَانَةَ مِنْ حَيْثُ إنَّها متنوعةٌ في الأمْوَال والأسْرَارِ، وفيما بينَ العَبْدِ وربِّه، فيما أمره به ونهاه عنه، والعَهْدُ كلُّ ما تَقَلَّدَه الإنْسَانُ من قَوْلٍ أو فعل، أو مَوَدَّةٍ، إذا كانَتْ هذه الأَشْيَاء على منهاج الشريعةِ فَهُو عَهْدٌ ينبغي رعيُه وحفظُه.
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ معناه في قول جماعة من المفسرين: أنهم يَحْفَظُون ما يَشْهَدُونَ فيه، ويُتْقِنُونَه، ويقومُونَ بمعانيه حتَى لاَ يكونَ لهم فيه تقصيرٌ وهَذَا هو وصفُ من يمتثل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «عَلَى مِثْلِ الشَّمْسِ فاشهد» ، وقال آخرونَ: معناه: الذينَ إذا كَانَتْ عندَهم شهادةٌ وَرَأوْا حَقاً يُدْرَسُ أو حُرْمَةً للَّهِ تُنْتَهَكُ قامُوا للَّهِ بشهادتهم.
[سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 37]
فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37)
وقوله تعالى: فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ الآية نزلت بسبب/ أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يصلي عندَ الكعبةِ أحياناً ويقرأ القرآن، فكان كثيرٌ من الكفَّارِ يَقُومُونَ من مجَالِسِهم مسرعينَ إليه يستمعون قراءَتَه، ويقول بعضهم لبعض: شاعر وكاهن، ومفتر وغير ذلك، وقِبَلَكَ معناه فيما يليكَ، والمُهْطِعُ الذي يمشي مُسْرِعاً إلى شيء قد أقبل ببصره عليه، وعِزِينَ جَمْعُ عِزَةٍ، والعِزَةُ: الجَمْعُ اليسيرُ كأَنَّهم كَانُوا ثلاثةً ثَلاَثَةً وأَرْبَعَةً أرْبَعَةً، وفي حديثِ أَبِي هريرة قال: «خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه وهم حَلَقٌ متفرقونَ، فقالَ: مالي أراكم عزين» «2» .
[سورة المعارج (70) : الآيات 38 الى 44]
أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)
يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 236) ، رقم: (34918) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 368) .
(2) أخرجه مسلم (1/ 322) ، كتاب «الصلاة» باب: الأمر بالسكون في الصلاة، حديث (119/ 430) ، وأبو داود (5/ 163) ، كتاب «الأدب» باب: في التحلق، حديث (4823) ، وأحمد (5/ 93) .
(5/486)
وقوله تعالى: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ نزلتْ لأَنَّ بعضَ الكفارِ قال: إنْ كَانَتْ ثَمَّ آخرةٌ وجنةٌ فنحنُ أهْلها لأَنَّ اللَّهَ تعالى لم يُنْعِمْ علينا في الدنيا بالمال والبنِين، وغيرِ ذلك إلا لرضَاه عنا.
وقوله تعالى: كَلَّا رَدُّ لقولِهم وَطَمَعِهم، أي: ليس الأمْرُ كذلك، ثم أخبرَ تَعَالَى عَنْ خَلْقِهِم من نطفةٍ قدرة، وأحالَ في العبارةِ عَلى عِلْمِ الناسِ، أي: فمن خُلِقَ من ذلكَ فَلَيْسَ بنفسِ خَلْقِهِ يُعْطَى الجنةَ، بلْ بالإيمَانِ والأَعْمَالِ الصالحةِ، ورَوَى ابن المباركِ في «رقائقه» قال: أخبرنا مالك بن مغول قال: سمعت أبا ربيعة يحدِّثُ عن الحسن قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «كُلُّكُم يُحِبُّ أنْ يُدْخَلَ الجَنَّةُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، جَعَلَنَا اللَّهُ فِدَاءَكَ، قَالَ:
فَأَقْصِرُوا مِنَ الأَمَلِ، وثَبِّتُوا آجَالَكُمْ بَيْنَ أَبْصَارِكُمْ، واسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ، قَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُلُّنَا نَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ، قَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ الحَيَاءُ، ولكن الحَيَاءَ مِنَ اللَّهِ أَلاَّ تَنْسَوُا المَقَابِرَ والبلى، وَلاَ تَنْسَوُا الجَوْفَ وَمَا وعى، وَلاَ تَنْسَوُا الرَّأْسَ وَمَا حوى/، وَمَنْ يَشْتَهِي كَرَامَةَ الآخِرَةِ يَدَعُ زِينَةَ الدُّنْيَا، هُنَالِكَ استحيا الْعَبْدُ مِنَ اللَّهِ، هُنَالِكَ أصَابَ وِلاَيَةَ اللَّهِ» «1» ، انتهى، وقد روِّينَا أكْثَرَ هَذا الحدِيثِ، من طريقِ أبي عيسى الترمذي، وباقي الآيةِ تَقَدَّم تفسيرُ نظيرِه، والأَجْدَاثُ القبُورَ، والنُّصُبُ: ما نُصِبَ للإنْسَانِ فهو يَقْصِدُه مسرعاً إليه من عَلَمٍ أو بناءٍ، وقال أبو العالية: إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ: معناه: إلى غايات يستبقون، ويُوفِضُونَ: معناه: يسرعون، وخاشِعَةً: أي: ذليلة منكسرة.
__________
(1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص: (107) (317) .
(5/487)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)
تفسير سورة نوح عليه السّلام
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
قوله سبحانه: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ هذا العذابُ الذي تَوَعَّدُوا بهِ، الأظْهَرُ أنَّه عذابُ الدنيا، ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ عذابَ الآخرةِ.
وقوله: مِنْ ذُنُوبِكُمْ قال قوم: «من» زائدةٌ وهذا نحوٌ كوفيٌّ، وأما الخليلُ وسيبويهِ فلا يجوزُ عندَهم زِيادَةٌ «من» في المُوجَبِ «1» ، وقال قومٌ: هي للتبعيضِ، قال ع «2» : وهَذَا القولُ عندي أبْيَنُ الأقوالِ هنا وذلك أنه لَوْ قَالَ: يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبَكُم لَعَمَّ هذَا اللفظُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الذنوبِ، ومَا تَأَخَّرَ عن إيمانِهم، والإسْلاَم إنَّما يَجُبُّ ما قبله.
وقوله سبحانه: وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى كأنّ نوحا ع قال لهم:
وآمنوا يَبِنْ لَنَا أَنَّكُمْ ممن قُضِيَ له بالإيمان والتأخيرِ، وإنْ بَقِيتُم عَلى كُفْرِكُمْ فَسَيَبينُ أنكم ممن قُضِيَ عليه بالكفرِ والمُعَاجَلَةِ، ثم تبيَّنَ هذا المعنى ولاَح بقوله تعالى: إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لاَ يُؤَخَّرُ وجَوابُ لو مقدرٌ/ يقتضِيه المعنى، كأنَّه قال: فَمَا كَانَ أحْزَمَكُمْ أو أَسْرَعَكُمْ إلَى التّوبة لو كنتم تعلمون.
[سورة نوح (71) : الآيات 5 الى 10]
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10)
__________
(1) في د: الواجب.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 372) .
(5/488)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)
وقوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً الآية، هذه المقالةُ قَالَها نوحٌ ع بَعْدَ طولِ عُمْرِهِ ويأسِه من قومه.
وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ: معناه: جعلوها أغشية على رؤوسهم.
[سورة نوح (71) : الآيات 11 الى 12]
يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12)
وقوله: يُرْسِلِ السَّماءَ الآية، رُوِيَ أن قومَ نوحٍ كانوا قَدْ أصَابَتْهُمْ قُحُوطٌ وأزْمَةٌ فلذلك بدأهم في وعده بأمر المطر، ومِدْراراً من الدَّرِّ، ورَوَى ابنُ عباسٍ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أَنَّه قال: «مَنْ لَزِمَ الاِسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرجاً، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجاً، ورَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ» «1» رواه أبو داود واللفظ له، والنسائيُّ وابن ماجه، ولفظ النسائيِّ «2» : «من أكْثَرَ من الاستغفار» ، انتهى من «السلاح» .
[سورة نوح (71) : الآيات 13 الى 15]
ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15)
وقوله: مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً قال أبو عبيدةَ وغيره: تَرْجُونَ معناه تَخَافُونَ «3» ، قالُوا: والوَقَارُ بمعنى العَظَمَةِ، فكأَنَّ الكلامَ عَلى هذا التأويلِ وَعِيدٌ وتخويفٌ، وقال بعض العلماء: تَرْجُونَ على بَابِها، وكأنه قال: مَا لَكُمْ لا تجعلون رجاءكم لله، ووَقاراً يكونُ على هذا التأويل منهم كأنه يقولُ: تَؤُدَةً مِنْكُمْ وتَمَكُّناً في النظر.
وقوله: وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً قال ابن عباس وغيره: هي إشارة إلى التدريجِ الذي للإنْسَانِ في بطنِ أمه «4» ، وقال جماعة: هي إشارة إلى العِبْرَةِ في اختلاف خلق ألوان الناس
__________
(1) أخرجه أبو داود (1/ 476) ، كتاب «الصلاة» باب: في الاستغفار (1518) ، وابن ماجه (2/ 1254، 1255) ، كتاب «الأدب» باب: الاستغفار (3819) ، والبيهقي (3/ 351) ، كتاب «صلاة الاستسقاء» باب: ما يستحب من كثرة الاستغفار في خطبة الاستسقاء، وأبو نعيم في «الحلية» (3/ 211) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 118) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ثواب ذلك (10290/ 2) ، والحاكم في «المستدرك» (4/ 262) .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي قائلا: الحكم فيه جهالة.
(2) في د: وابن ماجه.
(3) ذكره ابن عطية (5/ 374) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 251) ، رقم: (35012) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 374) ، وابن كثير (4/ 425) .
(5/489)
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
وخلقهم، ومللهم، والأطوار: الأحوال المختلفة.
[سورة نوح (71) : الآيات 16 الى 24]
وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)
قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)
وقوله سبحانه: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ... الآية، قال عبدُ اللَّه بن عمرو بن العاص وابن عباس: إن الشَّمْسَ والقمر أقْفَاؤهما إلى الأرض، وإقبال/ نورهما وارتفاعُه في السماء «1» وهذا الذي يقتضيه لفظ السّراج.
وأَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ: استعارَةٌ مِنْ حَيْثُ خُلِقَ آدم ع من الأرض.
ونَباتاً مصدرٌ جَاءَ على غير المصدر، التقديرُ: فَنَبَتُّم نَبَاتاً، والإعَادَةُ فيها بالدَّفْنِ، والإخراجُ هو بالبعثِ، وظاهر الآية: أنَّ الأرْضَ بسيطَةٌ غيرُ كُرِيَةً، واعتقادُ أحَدِ الأمْرَيْنِ غَيْرُ قَادِح في الشرْعِ بنفسِه، اللهمَّ إلاَّ أنْ يترتبَ «2» على القولِ بالكُرِيَّةِ نَظَرٌ فاسِدٌ، وأما اعتقادُ كونِها بسيطةً، فهو ظاهِرُ كتابِ اللَّه تعالى، وهو الذي لاَ يَلْحَقُ عنه فسادٌ أَلْبَتَّةَ، واستدلَّ ابن مجاهد على صحَّة ذلك بماءِ البحر المُحِيطِ بالمَعْمُورِ فَقَال: لَوْ كانت الأرضُ كُرِيَّةً لَمَا اسْتَقَرَّ المَاءُ عَلَيْهَا «3» ، والسُّبُلُ الطرقُ، والفجاجُ الواسعةُ، وقولُ نوحٍ: وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ ... الآية، المعنى: اتّبعوا أشرافهم وغواتهم، وخَساراً: معناه: خسرانا، وكُبَّاراً: بناءُ مبالغةٍ نَحْوَ: حُسَّانَ وُقُرِىءَ «4» شاذًّا: «كِبَاراً» - بكسْرِ الكَافِ- قال ابن الأنباري: جَمْعُ كبير.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 252) ، رقم: (35020) بنحوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وذكره البغوي (4/ 398) ، وابن عطية (5/ 375) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 425- 426) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ في «العظمة» عن عبد الله بن عمرو، وعزاه أيضا لأبي الشيخ عن ابن عبّاس.
(2) في د: يتركب. [.....]
(3) ذكره ابن عطية (5/ 375) .
(4) قرأ بها ابن محيصن، وعيسى بن عمر.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (162) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 376) ، و «البحر المحيط» (8/ 335) ، وزاد نسبتها إلى زيد بن علي، وهي في «الدر المصون» (6/ 385) .
(5/490)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
ووَدًّا ومَا عُطِفَ عليه أسْمَاءُ أصْنَامٍ، ورَوَى البخاريُّ وغيره عن ابن عباس: أنَّها كانتْ أسْمَاء رجالٍ صالحينَ، من قوم نوحٍ فَلَمَّا هَلَكُوا أوْحَى الشيطانُ إلى قومِهم أن انْصِبُوا إلى مجالسِهم التي كانُوا يَجْلِسُونَ أنْصَاباً وَسَمُّوهَا بأسمائهم، فَفَعَلُوا «1» ، فلم تُعْبَدْ حتى إذا هَلَكَ أولئك وتُنُسِّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ، قال ابن عباس: ثم صَارَتْ هذه الأوثانُ التي في قَوْمِ نُوحٍ في العَرَبِ بَعْد «2» ، انتهى.
وقوله: وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً هو إخبارُ نُوحٍ عن الأَشْرَافِ، ثم دَعَا اللَّهَ عليهم ألاَّ يَزِيدَهم إلا ضَلالاً، وقال الحسن: أراد بقوله: وَقَدْ/ أَضَلُّوا الأَصْنَامَ المذكورة «3» .
[سورة نوح (71) : الآيات 25 الى 28]
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)
وقوله تعالى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا ابتداء إخْبَارٍ مِنَ اللَّهِ تعالى لمحمَّد- عليه السلام- و «ما» في قوله: مِمَّا: زائدةٌ فكأَنه قال: مِنْ خطِيئَاتِهِم، وهي لابتداءِ الغَايَةِ، - ص-: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ من للسببِ، ع «4» : لابتداءِ الغايةِ و «ما» زائِدة للتَوْكيد، انتهى، فَأُدْخِلُوا نَاراً يعني جَهَنَّمَ، وقول نوح: رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً قال قتادة وغيره: لم يَدْعُ نوحٌ بهذهِ الدعوةِ إلاَّ مِنْ بَعْدِ أنْ أُوحِيَ إليه أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «5» [هود: 36] ودَيَّاراً أصْله: دَيْوَارٌ من الدَّوَرانِ، أي: من يجيءُ ويذهب.
وقوله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ قال ابن عباس: لم يَكْفُرْ لنوحٍ أبٌ مَا بَيْنَه وبين آدم عليه السلام «6» ، وقرأ أُبيُّ بن كعب «7» : «ولأَبَوَيَّ» ، وبيتُه المسجدُ فيما قاله ابن
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 254) ، رقم: (35031) بنحوه، وذكره ابن كثير (4/ 426) .
(2) ذكره البغوي (4/ 399) ، وابن كثير (4/ 426) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 427) ، وعزاه للبخاري، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عبّاس.
(3) ذكره ابن عطية (5/ 376) .
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 376) .
(5) ذكره ابن عطية (5/ 377) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 428) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
(6) ذكره ابن عطية (5/ 377) .
(7) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 377) .
(5/491)
عباس «1» ، وجمهورُ المفسرين، وقال ابن عباس أيضاً: بيتُه شريعتُه ودِينُه استعار لها بَيْتاً كما يقال قُبَّة الإسْلاَمِ وفُسْطَاطُ الدين «2» ، وقيل: أراد سفينتَه.
وقوله: وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ تعميمٌ بالدعاء لمؤمِني كلِّ أمَّةٍ، وقال بعض العلماء: إن الذي استجاب لنوح ع فأغْرَق بدعوتِه أهْلَ الأرضِ الكفارِ، لجديرٌ أن يستجيبَ له فَيَرْحَمَ بدعوتِهِ المؤْمنينَ، والتَّبَارُ: الهَلاَك.
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 377) .
(2) ذكره ابن عطية (5/ 377) .
(5/492)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)
تفسير سورة الجنّ
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3)
قوله عز وجل: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ هؤلاءِ النفرُ من الجنِّ هم الذين صادفوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ ببطنِ نخلةٍ في صَلاَةِ الصِّبْحِ، وقد تَقَدَّمَ قَصَصَهم في سورةِ الأحقافِ، وقولُ الجن: إِنَّا سَمِعْنا ... الآيات، هو خطابٌ منهم لِقَوْمهم.
وقُرْآناً عَجَباً: معناه: ذَا عَجَبٍ لأن العَجَبَ مصدرٌ يقعُ من سَامِعِ القرآن لبراعتِه/ وفصاحتِه ومُضَمَّناتِه.
وقوله: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا قَالَ الجمهورُ: معناه: عَظَمَةُ ربنا، وروي عن أنسٍ أنه قال: كان الرجلُ إذا قَرَأ البَقَرَةَ، وآلَ عمرانَ جَدَّ في أعيننا، أي: عَظُم «1» ، وعن الحسن:
جَدُّ رَبِّنا غِنَاهُ «2» وقال مجاهد: ذِكْرُهُ «3» ، وقال بعضهم: جَلاَلُه، ومَنْ فَتَح الألِفَ من قوله: وَأَنَّهُ تَعالى اخْتَلَفُوا في تأويلِ ذلك، فقال بعضُهم: هو عَطْفٌ على أَنَّهُ اسْتَمَعَ فيجيءُ عَلَى هذا قولُه تعالى: وَأَنَّهُ تَعالى مما أُمِرَ أنْ يقولَ النبيَّ إنَّه أوحي إليه، ولَيْسَ هو من كلامِ الجنِّ، وفي هذا قَلَقٌ، وقال بعضهم: بل هو عطف على الضمير في بِهِ كأنه يقول: فآمنا به وبأنه تعالى، وهذا القول أبْيَنَ في المعنى، لكنّ فيه من جهة النحو
__________
(1) ذكره البغوي (4/ 401) ، وذكره ابن عطية (5/ 379) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 260) ، رقم: (35056) ، (35057) ، (35058) ، وذكره البغوي (4/ 401) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 430) ، وعزاه لعبد بن حميد.
(3) أخرجه الطبري (12/ 260) ، رقم: (35061) ، وذكره ابن عطية (5/ 379) ، وابن كثير (4/ 428) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 430) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....]
(5/493)
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
العطفَ على الضميرِ المخفوضِ دُونَ إعَادَةِ الخَافِضِ، وذلك لاَ يَحْسن ت: بلْ هُوَ حَسَنٌ إذ قَدْ أتى في النظم والنَّثْرِ «1» الصحيحِ، مُثْبَتاً، وقرأ عكرمة «2» : «تعالى جَدٌّ رَبُّنَا» - بِفَتْحِ الجيمِ وضَمِّ الدالِ وتَنْوِينِهِ ورفْعِ الرَّبِّ-، كأنه يقول: تعَالَى عَظِيمٌ هو ربُّنا، فَ «رَبُّنَا» بدَلٌ والجَدُّ: العَظِيمُ في اللغةِ، وقرأ أبو الدرداء: «تعالى ذِكْرُ رَبِّنَا» ورُوي عنه: «تعالى جلال ربّنا» .
[سورة الجن (72) : الآيات 4 الى 5]
وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5)
وقوله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا لا خِلاَفَ أن هَذَا مِنْ قَوْلِ الجِنَّ، والسفيهُ:
المذكورُ قال جمهورٌ من المفسرينَ: هُو إبليسُ- لعنه اللَّه-، وقال آخرونَ: هو اسْمُ جنسٍ لكلِّ سفيهٍ مِنْهُمْ وَلاَ مَحَالَة أَنَّ إبليسَ صَدْرٌ في السفاهةِ، وهذا القول أحْسَنُ، والشَّطَطُ:
التَّعَدِّي وتجاوُزُ الحدّ بقولٍ أو فعل، - ص-: شَطَطاً أبو البقاءِ: نَعْتٌ لمصدَرٍ محذوفٍ، أي: قَوْلاً شَطَطَا، انتهى، ثم قال أولَئِكَ النفرُ: وَأَنَّا ظَنَنَّا قبلَ إيماننا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً في جِهَةِ الألوهية وما يتعلق بذلك.
[سورة الجن (72) : الآيات 6 الى 10]
وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10)
__________
(1) في د: النثر والنظم.
(2) قال أبو الفتح: وغلّط الذي رواه (يعني عن عكرمة) ، قال:
فأما «جدّ ربّنا» فإنه على إنكار ابن مجاهد صحيح وذلك أنه أراد: وأنه تعالى جدّ جدّ ربّنا على البدل، ثم حذف الثاني، وأقام المضاف إليه مقامه. وهذا على قوله (سبحانه) : إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ، أي: زينة الكواكب، ف «الكواكب» إذا بدل من «زينة» .
فإن قلت: فإن الكواكب قد تسمى زينة، والربّ (تعالى) لا يسمى جدّا.
قيل: الكواكب في الحقيقة ليست زينة، لكنها ذات الزينة. ألا ترى إلى القراءة بالإضافة وهي قوله:
«بزينة الكواكب» ؟ وأنت أيضا تقول: تعالى ربّنا، كما تقول: تعالى جدّ ربّنا. فالتعالي مستعمل معهما جميعا، كما يقال: يسرّني زيد قيامه، وأنت تقول: يسرني زيد ويسرّني قيامه. وهذا بيان ما أنكره ابن مجاهد.
ينظر: «المحتسب» (2/ 332) ، و «مختصر الشواذ» ص: (163) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 379) ، و «البحر المحيط» (8/ 341) ، و «الدر المصون» (6/ 390) .
(5/494)
وقوله تعالى: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ/ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ ... الآية، منَ القُرَّاءِ مَنْ كَسَرَ الهمزةَ مِنْ «إنَّهُ» ، ومنهمْ من فَتَحَها «1» ، والكسْرُ أوْجَهُ، والمعنى في الآيةِ: ما كَانَتِ العربُ تفعله في أسْفَارِها من أنَّ الرَّجُلَ إذا أرادَ المَبِيتَ بِوَادٍ، صاحَ بأعلى صوتِه: يا عزيزَ هذا الوَادِي إني أعوذُ بكَ مِنَ السُّفَهَاءِ الذين في طاعتِكَ، ويعتقدُ بذلكَ أنَّ الجِنِّيَّ يحميه ويمنعَه، قال قتادة: فكانت الجنُّ تحتقرُ بني آدمَ وتَزْدَرِيهم لِمَا تَرَى مِنْ جَهلِهِم، فكانوا يَزِيدُونَهمْ مخافةً، ويتعرضُون للتَّخَيُّلِ لهم، ويُغْوُونَهم، في إرادَتِهم، فهذا هو الرَّهَقُ الذي زادته الجنُّ بني آدم «2» ، وقال مجاهد وغيره: بنو آدمَ همُ الذينَ زَادُوا الجنّ رَهَقاً وهي الجَرَاءَةُ والطُّغْيان «3» وقَدْ فَسَّر قوم الرَّهَقَ بالإثْم.
وقوله: وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا يريدُ به بني آدم.
وقوله: كَما ظَنَنْتُمْ مخاطبةٌ لقومِهم من الجنِّ وقولهم: أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً يحتملُ معنيين: أحَدُهُما بَعْثُ الحَشْرِ من القبورِ، والآخرُ بَعْثُ آدَمِيٍّ رَسُولاً، وذكر المَهدوي تأويلاً ثالثاً، أنَّ المعنى: وأنَّ الجنَّ ظَنُّوا كما ظَنَنْتُمْ أيها الإنْسُ، فهِي مخاطَبَةٌ من اللَّهِ تعالى، قال الثعلبيُّ: وقيل: إن قَولَه: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ ... الآية، ابتداء إخْبارٍ مِنَ اللَّه تعالى، ليسَ هو من كلامِ الجنِّ، انتهى، فهو وِفَاقٌ لما ذكره المهدوي، وقولهم: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ قال جمهورُ المتأولينَ: معناه الْتَمَسْنَا، والشُّهُبُ كواكبُ الرجْمِ والحَرَسُ يحتملُ أن يريدَ الرَّمْيَ بالشُّهُبِ، وكرَّرَ المعْنَى بلفظٍ مختلف، ويحتملُ أن يريدَ الملائكةَ، ومَقاعِدَ: جَمْع مَقْعَدِ وقَدْ تَقَدَّمَ بيانُ ذلِكَ في سورةِ الحِجْرِ، وقولهم:
فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ ... الآية، قَطْعٌ على أنَّ كلَّ مَنِ استمع الآنَ أحرقه شهاب [فليس هنا]
__________
(1) قرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر: «وإنه تعالى جد ربنا» بكسر الهمزات، إلا قوله: «أنه استمع» ، و «أن لو استقاموا» ، و «أن المساجد لله» ، فإنهم قرؤوا بالفتح. وزاد ابن كثير، وأبو عمرو عليهما: «وأنه لما قام عبد الله» .
وقرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائيّ كلّ ذلك بالفتح إلا ما جاء بعد قول، أو بعد فاء جزاء، وحفص عن عاصم مثل حمزة.
ينظر: «العنوان» (198) ، و «شرح شعلة» (609) ، و «إتحاف» (2/ 565) ، و «السبعة» (656) ، و «الحجة» (6/ 330) ، و «إعراب القراءات» (2/ 400) ، و «حجة القراءات» (727) ، و «معاني القراءات» (3/ 96) ، و «شرح الطيبة» (6/ 73) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 264) ، رقم: (35076) بنحوه. وذكره ابن عطية (5/ 380) ، وابن كثير (4/ 428) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 264) ، رقم: (35080) بنحوه، وذكره البغوي (4/ 402) ، وابن كثير (4/ 428) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 432) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر.
(5/495)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15)
بَعْدُ سَمْعٌ إنَّما الإحراقُ عِنْدَ الاِستماعِ] «1» ، وهذا يقتضي أنَّ الرَّجْمَ كَانَ في الجاهليةِ، ولكنَّه لم يكنْ بمُسْتأصِلٍ، فَلَمَّا جاءَ الإسْلاَمُ، اشْتَدَّ الأَمْرُ حتى لم يكُنْ فِيه وَلاَ/ يَسِيرُ سماحة، ورَصَداً: نعتٌ ل «شِهَاب» ووصفَه بالمصْدَرِ، وقولهم: وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ ... الآية، معناه: لاَ نَدْرِي أَيُؤْمِنُ الناسُ بهذا النبيِّ فَيَرْشُدُوا، أمْ يَكْفُرُونَ بهِ فَيَنْزِلَ بهِمُ الشَّرُّ، وعبارة الثعلبي: «وأَنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض» حينَ حُرِسَتِ السماءُ ومُنِعْنَا السَّمْعَ، أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً، انتهى.
[سورة الجن (72) : الآيات 11 الى 15]
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15)
وقولهم: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ إلى آخرِ قولهم: وَمِنَّا الْقاسِطُونَ هُوَ من قولِ الجِنّ، وقولهم: وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ أي: غَيْرُ صالحين، - ص-: دُونَ ذلِكَ قِيل:
بمعنى غَيْرُ ذلك، وقيلَ: دُونَ ذلكَ في الصلاحِ، ف «دون» في موضِع الصِّفَةِ لمحذوفٍ، أي: ومنَّا قومٌ دونَ ذلك، انتهى، والطرائقُ: السِّيَرُ المختلفَة، والقِدَدُ كذلكَ هي الأشْياء المختلفة كأنه قَدْ قُدَّ بعضُها من بعضٍ وفُصِلَ، قال ابن عباس وغيره: طَرائِقَ قِدَداً أهواء مختلفةً «2» . وقولهم: وَأَنَّا ظَنَنَّا أي: تَيَقَّنَّا، فالظِّنّ هنا بمعنى الْعِلْمِ أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ ... الآية، وهذا إخبارٌ منهم عَنْ حَالِهِمْ بَعْدِ إيمانِهم بما سمعوا من نبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والْهُدى يريدونَ به القرآنَ، والبَخْسُ النَّقْصُ، والرَّهَقُ تَحْمِيلُ مَا لاَ يطاقُ، وما يَثْقُل، قال ابن عباس: البَخْسُ نَقْصُ الحسناتِ «3» ، والرَّهَقُ الزيادةُ في السيئات.
وقوله تعالى: فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً الوجْهُ فيه أنْ يكونَ مخاطَبَةً من الله تعالى لنبيه محمّد ع ويؤيّده ما بعده من الآيات، وتَحَرَّوْا معناه: طلبوا باجتهادهم.
__________
(1) سقط في: د.
(2) أخرجه الطبري (12/ 266) ، رقم: (35089) بنحوه. وذكره ابن عطية (5/ 382) ، وابن كثير (4/ 430) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 435) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(3) أخرجه الطبري (12/ 267) ، رقم: (35095) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 382) ، وابن كثير (4/ 430) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 435) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(5/496)
وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)
[سورة الجن (72) : الآيات 16 الى 18]
وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18)
وقوله سبحانه: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ ... الآية، قال ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جبير: الضميرُ في قوله: اسْتَقامُوا عائِدٌ عَلى القاسِطينَ، والمعنى: لوِ اسْتَقَامُوا على طريقةِ الإسْلاَمِ والحَقِّ لأَنْعَمْنَا عليهم «1» ، وهذا المعنى نحوُ قوله تعالى:
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا ... [المائدة: 65] الآية إلى قوله: لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ والقَاسِطُ الظَّالِم، والماء الغَدَقُ هو الماءُ الكثيرُ، ولِنَفْتِنَهُمْ: معناه: لنختبرَهم، قال عمر بن الخطاب- رضي اللَّه عنه-: حيْثُ يكونُ الماءُ فَثَمَّ المالُ، وحَيْثُ المالُ فَثَمَّ الفِتْنَةُ «2» ، ونَزَعَ بهذه الآية، وقال الحسن وجماعة من التابعين: كانتِ الصحابَةُ- رضي اللَّه عنهم- سَامِعينَ مُطِيعينَ فَلَمَّا فُتِحْتْ كُنُوزُ كِسْرَى وقَيْصَرَ على الناس، ثَارَتِ الفِتَن «3» ، و «نسلكه» ندخله، وصَعَداً: معناه: شَاقًّا، وقال ابن عباس وأبو سعيد الخدري: صَعَداً جَبَلٌ في النارِ «4» ، وأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ قيل:
أرادَ البيوتَ التي للعبادةِ والصلاةِ في كلِّ ملةٍ، وقال الحسن: أرادَ بها كلَّ موضِع يُسْجَدُ فيه إذ الأَرْضُ كلها جُعِلَتْ مَسْجِداً لهذه الأمة «5» ، ورُوِيَ: أنّ هذه الآيةَ نَزَلَتْ بسبب تَغَلُّبِ قريشٍ عَلى الكعبةِ حينئذ، فقيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: المواضعُ كلُّها لِلَّهِ فَاعْبُدْه حيثُ كنتَ، قال ع «6» : والمسَاجِدُ المخصوصَةُ بَيِّنَةُ التَمَكُنِ في كونها لِلَّهِ تعالى، فيصلُحُ أنْ تُفْرَدَ للعبادةِ، وكلِّ مَا هُوَ خَالِصٌ لِلَّهِ تعالى، وأنْ لاَ يُتَحَدَّثَ بها في أمورِ الدنيا، ولا يُجْعَلُ فيها لغير الله نصيب.
[سورة الجن (72) : الآيات 19 الى 22]
وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 268- 269) ، أرقام: (35104، 35105) ، (35107- 35108) بنحوه، وذكره ابن عطية (5/ 382) ، وابن كثير (4/ 431) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 435- 436) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة، وعزاه أيضا لابن أبي حاتم، عن ابن عبّاس، ولعبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد.
(2) أخرجه الطبري (12/ 269) ، رقم: (35117) بنحوه وذكره ابن عطية (5/ 383) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 383) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 270) ، رقم: (35123) بنحوه عن ابن عبّاس. وذكره ابن عطية (5/ 383) ، وابن كثير (4/ 431) .
(5) ذكره البغوي (4/ 404) ، وذكره ابن عطية (5/ 383) .
(6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 383) . [.....]
(5/497)
إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
وقوله تعالى: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يحتملُ: أنْ يكونَ خِطَاباً مِنَ اللَّهِ تعالى، ويحتملُ: أنْ يَكُونَ إخباراً عَنِ الجِنِّ، وَعَبْدُ الله هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والضميرُ في كادُوا يحتملُ: أنْ يكونَ لكفارِ قريشٍ، وغيرِهم في اجتماعهم على رَدِّ أمرِهِ صلّى الله عليه وسلّم، وقيلَ: الضميرُ للجِنِّ، والمعنى أنهم كادوا يَتَقَصَّفُونَ عليه «1» لاسْتِماعِ القرآن، وقال ابن جبير: معنى الآيةِ أنَّها قَوْلُ الجِنِّ لقومِهم يحكُون لَهُم، والعبد محمّد ع «2» ، والضميرُ في كادُوا لأَصْحَابهِ الذينَ يُطِيعُونَ له ويَقْتَدُونَ بهِ في الصلاةِ فَهُمْ عليه لِبَدٌ، واللِبَدُ:
الجماعاتُ شُبِّهَتْ بالشَّيءِ المُتَلبِّدِ، وقال البخاريُّ: قال ابن عبّاس: لِبَداً أعوانا «3» ، انتهى، ويَدْعُوهُ معناه: يَعْبُدُه، وقيل: عبدُ اللَّهِ في الآيةِ المرادُ به نوحٌ، وقرأ جمهور السبعة: «قَالَ إِنَّمَا أَدْعُواْ رَبِّي» وقرأ حمزةُ وعاصمٌ وأبو عمرو بخلافٍ عنه «4» : «قُلْ» ، ثم أمَرَ اللَّهُ تعالى محمّدا ع بالتَّبَرِّي مِنَ القُدْرَةِ، وأنَّه لاَ يَمْلِكُ لأَحَدٍ ضَرًّا ولا نفعاً، والملتَحَدُ: المَلْجَأُ «5» الذي يُمَال إليه، ومنه الإلحاد وهو الميل.
[سورة الجن (72) : الآيات 23 الى 24]
إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)
وقوله: إِلَّا بَلاغاً قال قتادة: التقدير: لا أمْلِكُ إلاَّ بَلاَغاً إلَيْكُمْ، فأمَّا الإيمانُ وَالكُفْرُ، فَلاَ أَمْلِكُهُ «6» ، وقال الحسن: ما معناه أَنَّه استثناء منقطع، والمعنى: لن يجيرني من
__________
(1) أي يزدحمون عليه. ينظر: «لسان العرب» (3655) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 272) ، رقم: (35133) بنحوه، وذكره البغوي (4/ 404) ، وابن عطية (5/ 384) ، وابن كثير (4/ 432) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 273) ، رقم: (35141) ، وذكره ابن عطية (5/ 384) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 437) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(4) وحجة هؤلاء إجماع على ما بعده على الأمر فردّ ما اختلفوا فيه إلى ما أجمعوا عليه أولى. وحجة الباقين أن ذكر الغيبة قد تقدم، وهو قوله: «وأنه لما قام عبد الله» ، وقوله: «قال إنما أدعو» .
ينظر: «السبعة» (657) ، و «الحجة» (6/ 333) ، و «إعراب القراءات» (2/ 402) ، و «حجة القراءات» (729) ، و «معاني القراءات» (3/ 98) ، و «شرح الطيبة» (6/ 76) ، و «العنوان» (198) ، و «شرح شعلة» (610) ، و «إتحاف» (2/ 567) .
(5) في د: الملتجأ.
(6) أخرجه الطبري (12/ 275) ، رقم: (35150) .
(5/498)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
اللَّه أحَدٌ إلا بلاغاً «1» فإنّي إنْ بَلَّغْتُ، رَحِمَنِي بذلك، أي: بِسَبَبِ ذلك.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ يريدُ: بالكفر، بدليلِ تَأبِيدِ الخلود.
[سورة الجن (72) : الآيات 25 الى 28]
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
وقوله تعالى: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ يعني عَذَابَهم الذي وُعِدُوا به، والأمدُ المُدَّةُ والغايةُ.
وقوله تعالى: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ معناه فإنه يُظْهِرُه عَلَى ما شَاءَ مما هو قليلٌ من كثير، [ثم] يَبُثُّ تعالى حَوْلَ ذلك الملَكِ الرَّسُولِ حَفَظَةً رَصَداً لإبليسَ وحِزْبِه من الجنِ والإنْس.
وقوله تعالى: لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا ... الآية، قال ابنُ جُبَيْرٍ: لِيعْلَمَ محمدٌ أنَّ الملائِكَة الحَفَظَةَ الرَّصَد النازِلينَ بَيْنَ يدي جبريلَ وخَلْفَه قَدْ أبلغوا رسالاتِ رَبِّهم «2» ، وقال مجاهد: معناه لِيَعْلَمَ مَنْ كَذَّبَ أو أشْرَكَ أنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغَتْ «3» ، وقيل: المعنى لِيَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى رُسُلَه مُبَلِّغَةً خَارِجَةً إلى الوُجُودِ، لأَنَّ عِلْمَه بكلِّ شيء قد تقدّم، والضمير في أَحاطَ وأَحْصى لله سبحانه لا غير.
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 384) ، وذكره أبو حيان (8/ 346) .
(2) ذكره ابن عطية (5/ 385) ، وابن كثير (4/ 433) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 438) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة» .
(3) أخرجه الطبري (12/ 277) ، رقم: (35163) بنحوه، وابن عطية (5/ 385) ، وابن كثير (4/ 433) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 439) ، وعزاه لعبد بن حميد.
(5/499)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
تفسير سورة المزّمّل
وهي مكّيّة في قول الجمهور إلا قوله: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ إلى آخر السورة فمدنيّ، وقال جماعة: هي مكية كلّها.
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ نداء للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال السهيلي: المُزَّمِّلُ اسمٌ مشتقٌ من حالتِه التي كان عليها ع حينَ الخطابِ، وكذلكَ المدَّثِّرُ، وفي خطابِه بهذَا الاسْمِ فائِدَتان: إحداهما: الملاطفةُ فإنَّ العربَ إذا قَصَدَتْ ملاطَفَةَ المخاطَبِ، وتَرْكَ معاتَبَتهِ سَمَّوْهُ باسم مشتق من حالته، كقوله ع لعلي حين غَاضَبَ فاطمةَ: قُمْ أبا تُرَابٍ، إشعاراً له أنه غَيْرُ عاتبٍ عليه، وملاطَفَةً له، والفائدة الثانية: التنبيهُ لكلِّ مُتَزَمِّلٍ راقدٍ ليلَه لينتبهَ إلى قيامِ الليل وذكرِ اللَّه فيه، لأنَّ الاسْمَ المشتق من الفعلِ، يَشْتَرِكُ فيه معَ المخاطَب كلُّ مَنْ عَمِلَ بذلك العملِ، واتَّصَفَ بتلك الصفةِ، انتهى، والتَزَمُّلُ الاِلْتِفَافُ في الثياب، قال جمهور المفسرين وهو في البخاري وغيره: إنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم لمَّا جَاءَه المَلَكُ في غار حراء وَحَاوَرَه بما حاوره به، رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى خديجة فقال: زمّلوني زمّلوني فنزلت «يا أيها المدثر» و [على هذا نزلت «يا أيها المزمل» ] «1» .
وقوله تعالى: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا قال جمهور العلماءِ: هو أمْرُ نَدْبٍ، وقيل كَانَ فَرْضاً وقْتَ نزول الآيةِ، وقال بعضهم: كان فرضا على النبي صلّى الله عليه وسلّم خاصَّةً وبَقِيَ كذلك حتى تُوُفِّي، وقيل غير هذا.
__________
(1) سقط في: د.
(5/500)
وقوله تعالى: نِصْفَهُ يحتملُ: أن يكونَ بَدَلاً من قوله قليلاً، - ص-: إِلَّا قَلِيلًا استثناءٌ من الليل، ونِصْفَهُ قيل: بَدَلٌ من الليل وعلى هذا يكون استثناءُ إِلَّا قَلِيلًا منه، أي: قم نصفَ الليل إلا قليلاً منه، والضميرُ في قوله: أَوِ انْقُصْ مِنْهُ، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ عائدٌ على النصْفِ وقيل: نِصْفَهُ: بدل من قوله: إِلَّا قَلِيلًا قَالَ أبو البَقَاءِ وهو أشْبَهُ بظاهرِ الآيةِ، انتهى، قال ع «1» : وكَيْفَ مَا تَقَلَّبَ المعنى فإنه أمْر بقيامِ نصفِ الليلِ، أو أكْثَر شيئاً أو أقَلَّ شيئاً، فالأكْثر عند العلماء لا يُزِيدُ على الثُّلثَيْنِ، والأقَلُّ لاَ يَنْحَطُّ عَن الثلثِ، ويُقَوِّي هذا حديثُ ابنِ عَبَّاسٍ في مَبِيتهِ في بيت ميمونة قال:
فلما انْتَصَفَ الليلُ أو قَبْلَه بقليلٍ أو بعده بقليل، قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال ع «2» :
ويلزمُ على هذا البَدَلِ الذي ذَكَرْنَاه أن يكونَ نصفُ الليل قَدْ وَقَعَ عليه الوصفُ بقليلٍ، وقَدْ يحتملُ عندي قوله: إِلَّا قَلِيلًا أنْ يكون استثناءً من القيام، فنجعلُ الليلَ اسْم جِنْسٍ ثم قال: إِلَّا قَلِيلًا أي: إلا الليالي التي تُخِلُّ بقيامِها لعذرٍ، وَهَذَا [النظرُ يَحْسُنُ مَعَ القولِ بالنَّدْبِ جِدًّا، قال- ص-: وهذا [النَّظَرُ خلافُ ظاهرِ الآية، انتهى، والضمير في مِنْهُ وعَلَيْهِ عائِدَان على] «3» النصف.
وقوله سبحانه: وَرَتِّلِ: معناه في اللغةِ: تَمَهَّلْ وَفَرِّقْ بَيْنَ الحروفِ، لَتَبِينَ، والمقْصِدُ أنْ يَجِدَ الفِكْرُ فُسْحَةً للنَّظَرِ وفَهْمِ المعاني، وبذلكَ يَرِقُّ القَلْبُ، ويَفِيضُ عليه النُّورُ والرحمة، قال ابن كيسان: المُرادُ: تَفْهَمُه تالياً له، ورُوِي في صحيح الحديث: أن قراءةَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانَتْ بيِّنَةً مُتَرسِّلَةً، لو شاء أحَدُ أنْ يَعُدَّ الحروفَ لعَدَّها، قال الغزاليُّ في «الإحياء» : واعْلَمْ أنَّ التَرْتِيلَ والتَّؤُدَةَ أقْرَبُ إلى التوقير والاحترامِ، وأشَدُّ تأثيراً في القلبِ من الهَدْرَمَةِ والاسْتِعْجَالِ، والمَقْصُودُ مِنَ القراءَةِ التفكُّرُ، والترتيلُ مُعِينٌ عَلَيْهِ، وللناس عاداتٌ مختلفة في الخَتْمِ، وأوْلَى مَا يُرْجَعُ إليه في التقديراتِ قَوْلُ النبي صلّى الله عليه وسلّم، وَقَدْ قَال- عليه الصَّلاةُ والسلام-: «مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلاَثٍ، لَمْ يَفْقَهْهُ» وذلك لأَنَّ الزيادةَ عليهَا تمنعُ الترتيلَ المطلوبَ، وقَدْ كَرِهَ جماعةٌ الختمَ في يومٍ ولَيْلَةٍ، والتفصيلُ في مقدار القراءة أنَّه إنْ كَانَ التالي من العُبَّادِ السالكينَ طريقَ العَمَلِ، فلا يَنْبَغِي له أن يَنْقُصَ من خَتْمَتَيْنِ في الأُسْبُوعِ، وإنْ كانَ من السالكينَ بأعْمَالِ القَلْبِ وضرُوب الفِكْر، / أو من المشغولين بِنَشْرِ العلمِ فَلا بأسَ أنْ يَقْتَصِر في الأُسْبُوعِ على ختمةٍ، وإنْ كَانَ نَافِذَ الفِكْرِ في مَعَانِي القرآن فقد
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 387) .
(2) ينظر: المصدر السابق.
(3) سقط في: د.
(5/501)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10)
يكتفِي في الشهر بمرةٍ لحاجَتِهِ إلى كَثْرَةِ التَّرْدِيدِ والتأمُّل، انتهى، ورَوَى ابنُ المباركِ في «رقائقه» : قال: حدثنا إسماعيل عن أبي المتوكِّل الناجي: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَامَ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِآيَةٍ مِنَ القُرْآنِ يُكَرِّرُهَا على نفسه» «1» ، انتهى.
[سورة المزمل (73) : الآيات 5 الى 10]
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10)
وقوله تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا يعني القُرآن، واخْتُلِفَ لم سمّاه ثقيلاً، فقال جماعةٌ مِنَ المفسرينَ: لِمَا كَانَ يَحُلُّ برسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم مِنْ ثِقْلِ الجِسْمِ حَتَّى إنَّه كَانَ إذا أُوحي إليه وهُو على نَاقَتِهِ بَرَكَتْ بهِ وحَتَّى كَادَتْ فَخِذُه أنْ تَرُضُّ «2» فَخِذَ زَيْدِ بن ثابت- رضي اللَّه عنه-، وقيل: لثِقَلِهِ على الكفارِ والمنافقينَ بإعْجَازِه ووَعْدِه ووعيدهِ ونحو ذلك، وقال حُذَّاقُ العلماء: معناه: ثَقِيلُ المَعانِي من الأَمْرِ بالطاعاتِ، والتكاليفِ الشرعية من الجهاد، ومزاولةِ الأعمال الصالحاتِ دائماً، قال الحسن: إنَّ الهَذَّ خَفِيفٌ ولَكِنَّ العَمَل ثقيل «3» ت: والصوابُ عندي أَنْ يُقَالَ: أما ثِقَلُه باعتبارِ النبي صلّى الله عليه وسلّم، فهو ما كان يجده ع من الثقل المَحْسُوسِ وأما ثِقَلُه باعتبارِ سائرِ الأمةِ فهو ما ذُكِرَ من ثقل المعاني، وقَدْ زَجَرَ مالكٌ سائِلاً سأله عن مسألةٍ وَقَالَ: يا أبا عَبْدِ اللَّه إنها مسألةٌ خفيفةٌ فغَضِبَ مالكٌ وقال: لَيْسَ في العِلم خَفِيفٌ أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ اللَّه تعالى: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا فَالْعِلْمُ كُلُّه ثقيلُ، انتهى من «المدارك» لعياضٍ.
وقوله سبحانه: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ قال ابن جُبَيْرٍ وغيره: هي لَفْظَةٌ حَبَشِيَّةٌ نَشَأَ الرجلُ إذا قَامَ من الليلِ «4» ف ناشِئَةَ على هذا جَمْعُ ناشىء أي: قَائِمٌ، وأَشَدُّ وَطْئاً معناه:
ثُبُوتاً واسْتِقْلاَلاً بالقيام، وقرأ أبو عمرو وابن عامر وجماعة كابن عباس وابن الزبير
__________
(1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص: (35) ، رقم: (104) . [.....]
(2) الرّضّ: الدّقّ الجريش. ينظر: «النهاية» (2/ 229) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 281) ، رقم: (35190) بنحوه، والبغوي (4/ 408) بنحوه، وابن عطية (5/ 387) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 443) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن نصر.
(4) أخرجه الطبري (12/ 282) ، رقم: (35196) بنحوه عن ابن جبير عن ابن عبّاس. وذكره البغوي (4/ 408) ، وابن عطية (5/ 387) ، وابن كثير (4/ 435) ،
(5/502)
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
وغيرهم «1» : «وَطَاءً» - بكسر الواوِ- مَمْدُوداً عَلى وَزْنِ «فِعَالِ» على معنى المُوَاطَأَةِ والموَافَقَةِ، وهو أن يواطىء قلبَه لسانهُ، والموَاطأةُ هِي الموافَقَةُ، فهذه مواطأَةٌ صحيحة لخلو البَالِ من أشْغَالِ النَّهارِ، وبهذا المعنى فَسَّر اللفظَ مجاهدٌ «2» وغيره، قال الثعلبيّ:
واخْتَارَ هذه القراءةَ أبو عبيدِ وقال جماعة: ناشِئَةَ اللَّيْلِ سَاعَاتُه كلُّها، لأَنَّها تَنْشَأ شَيْئاً بعد شيءٍ، وقيل في تفسير ناشِئَةَ اللَّيْلِ غَيْرُ هذا، وقرأ أنس بن مالك «وأصْوَبُ قِيلاً» فقيل له: إنما هو أَقْوَمُ فَقَالَ: أقْوَمُ وأصْوَبُ وَاحِدٌ.
وقوله تعالى: إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي: تَصَرُّفاً وَتَرَدُّداً في أمُورِكَ، ومنه السِّبَاحةُ في الماء، وَتَبَتَّلْ معناه: انْقَطِعْ إليه انْقِطَاعاً هذا لفظ ابن عطاء على ما نقله الثعلبي، انتهى، وأما ع «3» فقال: معناه انْقَطِعْ مِنْ كلِّ شيءٍ إلا مِنْهُ وأفْزَعْ إليه، قال زيد بن أسلم: التَبَتُّلُ: رَفْضُ الدُّنْيَا «4» ، ومنه بُتِلَ الحَبْلُ، وتَبْتِيلًا مَصْدر على غير الصَّدْرِ، قال أبو حيان «5» : وحُسْنُه كونُه فاصلةً، انتهى، قال ابن العربي في «أحكامه» :
فالتَبَتُّلُ المأمورُ بهِ في الآيةِ الاِنْقِطَاعُ إلى اللَّهِ تعالى بإخْلاَصِ العِبَادَةِ، وَهُوَ اختيارُ البخاريّ، والتَبَتُّلُ المنهي عنه في الحديثِ هُو سُلُوكُ مَسْلَكِ النصارى في تَرْكِ النِّكَاحِ والتَّرَهُّبِ في الصوامِع، انتهى، والوَكِيلُ القائم بالأمْرِ الذي تُوكَلُ إليه الأشياء.
وقوله: وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا منسوخ بآية السيف.
[سورة المزمل (73) : الآيات 11 الى 14]
وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
وقوله سبحانه: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ الآية، وعيدٌ بيِّنٌ، والمعنى لاَ تَشْغَلْ بهِم فِكْرَك وكِلْهُمْ إليَّ، والنعمةُ: غَضَارَةُ العَيْشِ وكِثرةُ المالِ والمشارُ إليهم كفارُ قريشٍ أصحابُ/ القليب بِبدرِ، ولَدَيْنا بمنزلة «عِنْدِنَا» والأَنْكَال: جمع نَكْلٍ، وهو القَيْدُ
__________
(1) ينظر: «السبعة» (658) ، و «الحجة» (6/ 335) ، و «إعراب القراءات» (2/ 405) ، و «حجة القراءات» (730) ، و «معاني القراءات» (3/ 99) ، و «شرح الطيبة» (6/ 77) ، و «العنوان» (199) ، و «شرح شعلة» (611) ، و «إتحاف» (2/ 568) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 284) ، رقم: (35219، 35220، 35221) ، وذكره ابن عطية (5/ 388) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 445) ، وعزاه لعبد بن حميد.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 388) .
(4) ينظر: ابن عطية (5/ 388) .
(5) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 355) .
(5/503)
إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19)
من الحديدِ، ويُرْوَى أَنَّها قيودٌ سُودٌ مِن النار، والطَّعَامُ ذُو الغُصَّةِ شَجَرَةُ الزَّقُومِ، قَالَه مجاهد وغيره «1» ، وقال ابن عباس: شَوْكٌ من نارِ يَعْتَرِضُ في حُلُوقِهِم «2» وكلُّ مَطْعُومٍ هُنَالِكَ فهو ذو غصّة، وروي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَرَأَ هذهِ الآيةَ فَصَعِقَ «3» ، والرَّجَفَانُ الاهْتِزَازُ والاضْطِرَابُ مِنْ فَزَعٍ وَهَوْلٍ، و «المَهِيلُ» : اللَّيِّنُ الرّخْوُ الذي يَذْهَبُ بالرِّيحِ، وقال البخاريّ: كَثِيباً مَهِيلًا رملا سائلا، انتهى.
[سورة المزمل (73) : الآيات 15 الى 17]
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17)
وقوله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ ... الآية، خطابٌ للعالم لكن المواجهون قريش، وشاهِداً عَلَيْكُمْ نَحْوُ قولهِ: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] والوَبِيلُ:
الشَّدِيدُ الرَّدَى.
وقوله تعالى: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ معناه: كَيْفَ تَجْعَلُونَ وِقَايةً لأنفسِكم، ويَوْماً مفعولٌ ب تَتَّقُونَ، وقِيلَ: هو مفعولٌ ب كَفَرْتُمْ ويكونُ كَفَرْتُمْ بمعنى: جَحَدْتم، ف تَتَّقُونَ على هذا منَ التقوى، أي: تتقونَ عذابَ اللَّهِ، ويجوزُ أن يكونَ يَوْماً ظرفاً والمعنى: تتقونَ عِقَابَ اللَّه يوماً، وعبارةُ الثعلبي: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ أي كيف تَتَحَصَّنُونَ من عذابِ يَوْمٍ يَشِيبُ فيه الطفلُ لهولِه إنْ كفرتُم، ثم ذَكَرَ نحو ما تقدم، انتهى، وحَكَى- ص-:، عن بعضِ الناسِ جَوازَ أنْ يكونَ يَوْماً ظرفَاً أي: فكيفَ لَكُمْ بالتقوَى في يومِ القيامَةِ إنْ كفرتم في الدنيا، ت: وهَذَا هُوَ مُرَادُ ع «4» ، قَالَ أبو حيان «5» : وشِيباً مفعولٌ ثانٍ ل يَجْعَلُ وهُو جَمْع أشْيَب، انتهى.
[سورة المزمل (73) : الآيات 18 الى 19]
السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 289) ، رقم: (35267) ، وذكره ابن عطية (5/ 389) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 446) ، وعزاه لعبد بن حميد.
(2) أخرجه الطبري (12/ 289) ، رقم: (35266) ، وذكره ابن عطية (5/ 389) ، وابن كثير (4/ 437) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 446) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، في صفة النار، وعبد الله في «زوائد الزهد» ، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم، وصححه البيهقي في «البعث» .
(3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 446) ، وعزاه إلى أحمد في «الزهد» ، وهناد وعبد بن حميد، ومحمّد بن نصر عن حمران به.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 389) .
(5) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 357) .
(5/504)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
وقوله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ أي ذاتُ انْفِطارٍ، والانفطارُ التَّصَدُّعُ والانْشِقَاقُ، والضميرُ في بِهِ قال منذر وغيره: عائِدُ على اليومِ وكذا قَال- ص-: إن ضمير بِهِ يعودُ على اليومِ والباء سببيةٌ/ أو ظرفيةٌ، انتهى، وفي «صحيح مسلم» من رواية عبد الله بن عمرو: وذكر صلّى الله عليه وسلّم: بَعْثُ النَّارِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ إلَى النَّارِ وَوَاحِدٌ إلَى الجَنَّةِ، قَالَ: فَذَلِكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الوِلْدَانَ شِيباً، وذلك يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ [القلم: 42] الحديث «1» ، انتهى، وقيل: عائدٌ على اللَّه، أي مُنْفَطِرٌ بأمْرِه وقُدْرَتهِ، والضميرُ في قوله: وَعْدُهُ الظاهر أنَّه يعود على اللَّه تعالى.
وقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ ... الآية، الإشَارَةُ ب «هذه» تحتملُ: إلى ما ذُكِرَ من الأَنْكَالِ والجحيمِ، والأَخْذِ الوبيل، وتحتملُ: أنْ تَكُونَ إلى السورةِ بجُمْلَتِها، وتحتملُ: أنْ تَكُونَ إلى آياتِ القرآن بجُمْلَتِها.
وقوله سبحانه: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا لَيْسَ معناه إبَاحَةُ الأمْرِ وضِدِّه، بل الكلامُ يتضمَّنُ الوَعْدَ والوعيدَ، والسبيلُ هنا سبيلُ الخيرِ والطاعة.
[سورة المزمل (73) : آية 20]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ ... الآية، المعنى أنَّ اللَّهَ تعالى يعلمُ أنَّكَ تَقُومُ أنْتَ وغيرك من أُمَّتِك قياماً مختلفاً مَرَّةً يكْثُرُ ومرَّةً يَقلّ، ومرة أدْنَى من الثلثين،
__________
(1) أخرجه البخاري (6/ 440) ، كتاب «أحاديث الأنبياء» باب: قصة يأجوج ومأجوج (3348) ، (8/ 295) ، كتاب «التفسير» باب: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى (4741) ، (11/ 396) ، كتاب «الرقاق» باب:
قول الله عزّ وجل: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (6530) ، (13/ 462) ، كتاب «التوحيد» باب: قول الله تعالى: وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا. الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (7483) ، ومسلم (2/ 642- 463) - الأبي، كتاب «الإيمان» باب: يقول الله لآدم: أخرج بَعْثُ النَّارِ مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُمِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وتسعين (379) ، والنسائي (6/ 409) - «الكبرى» ، كتاب «التفسير» باب: وَتَرَى النَّاسَ سُكارى، وَما هُمْ بِسُكارى
(11339/ 1) .
وفي الباب من حديث أبي هريرة في «الصحيح» :
أخرجه البخاري (11/ 385) ، كتاب «الرقاق» باب الحشر (2529) . [.....]
(5/505)
ومرة أدنى من النصفِ، ومرة أدْنَى من الثلث، وذلك لِعَدَمِ تَحْصِيل البَشَرِ لِمَقَادِيرِ الزمان، مع عُذْرِ النَّوْمِ، وتقديرُ الزمان حقيقةٌ إنما هو للَّهِ تعالى، وأما البشَرُ فلا يُحْصِي ذلك، فتابَ اللَّه عليهمْ، أي: رَجَعَ بهم من الثِّقَلِ إلى الخِفَّةِ وأمرهم بقراءةِ ما تيسَّر، ونحوَ هذَا تُعْطِي عِبَارةُ الفراء، ومنذر فإنهما قالا: تُحْصُوه تَحْفَظُوه، وهذا التأويلُ هو على قراءة الخفضِ عَطْفاً على الثلثين وهي قراءة أبي عمرٍو ونافعٍ وابن عامر، وأمَّا مَنْ قَرأَ: «ونصفَه وثلثَه» بالنَّصْبِ عَطْفاً على أدْنَى وهي قراءة باقي السبعةِ «1» ، فالمعنى عندَهم أنَّ اللَّه تعالى قَدْ عَلِمَ أنهم يَقْدِرُونَ الزمانَ على نحو مَا أَمَرَ بهِ تعالى، في قوله: نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: 3- 4] فلم يبقَ إلا قوله: أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فمعناه لَنْ يُطِيقُوا قيامَه/ لِكَثْرَتِهِ وشدتهِ، فَخَفَّفَ اللَّهُ عنهم فَضْلاً منه لا لِعِلَّةِ جهلهم بالتقدير وإحصاء الأوقاتِ، ونَحوَ هذا تُعْطي عبارةُ الحسن وابن جبير فإنهما قالا: تحصُوه: تُطِيقُوه «2» ، وعبارةُ الثعلبيِّ: ومَنْ قَرَأَ بالنَّصْبِ فالمعنى: وتَقُومُ نصْفَه وثلثَه، قال الفراء: وهو الأشْبَه بالصَّوَابِ لأنه قَالَ أَقَلَّ مِنَ الثلثينِ، ثم ذكر تفسيرَ القلةِ لا تَفْسِيرَ أَقَلِّ مِنَ القلةِ، انتهى، ولو عَبَّر الفَرَّاءُ بالأَرْجَحِ، لكانَ أحْسَنَ أدَباً، وعَنْ عُبَادَةَ بن الصامت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:
«مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ: لا إله لا اللَّه وَحْده لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، الحمد لله وسبحانه اللَّهِ وَلاَ إله إلاَّ اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ» «3» ثم قال: «اللَّهُمَّ، اغفر لي، أوْ دَعَا، استجيب لَهُ، فإنْ تَوَضَّأَ، ثمَّ صلى قُبِلَتْ صَلاَتُهُ» ، رواه الجماعة إلا مسلماً، وَتَعَارَّ- بتشديدِ الرَّاءِ- مَعْنَاه: اسْتَيْقَظَ، انتهى من «السلاح» .
وقوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ قال الثعلبيُّ أي: مَا خَفَّ وَسَهُلَ بغير مِقْدَارٍ مِنَ القِرَاءَةِ، والمُدَّةِ، وقيل: المعنى فَصَلُّوا ما تيسَّر فَعَبَّر بالقراءةِ عنها. ت:
وهذا هو الأصَحُّ عند ابن العربي، انتهى، قال ع «4» : قوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ
__________
(1) ينظر: «الحجة» (6/ 336) ، و «إعراب القراآت» (2/ 407) ، و «معاني القراآت» (2/ 100) ، و «شرح الطيبة» (6/ 77) ، و «العنوان» (199) ، و «حجة القراآت» (731) ، و «شرح شعلة» (612) ، و «إتحاف» (2/ 569) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 293- 294) ، رقم: (35292- 35293) ، عن الحسن، ورقم (35294) عن سعيد، وذكره البغوي (4/ 411) ، وابن عطية (5/ 390) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 448) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر.
(3) في د: بالله العلي العظيم.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 390) .
(5/506)
هو أمْرُ نَدْبٍ في قولِ الجمهور، وقال جماعة: هو فَرْضٌ لاَ بُدَّ منه ولو خَمْسِينَ آيةً، وقال الحسنُ وابن سيرين: قيامُ الليل فَرْضٌ «1» وَلَوْ قَدْرُ حَلْبِ شَاةٍ، إلا أنَّ الحسنَ قال: مَنْ قَرأَ مِائَة آيةٍ لَمْ يُحَاجَّهُ القرآن «2» واسْتَحْسَنَ هذا جماعةٌ من العلماء قال بعضهم:
والركعتانِ بَعْدَ العشاءِ مَعَ الوِتْرِ دَاخِلَتَانِ في امتثالِ هذا الأَمْرِ ومن زَادَ زَادَهُ اللَّه ثواباً، ت: ينبغي للعاقِل المبَادَرَةُ إلى تَحْصِيلِ الخَيْرَاتِ قَبْلَ هُجُومِ صَوْلَةِ المَمَاتِ، قَالَ البَاجِيُّ في «سنن الصالحين» له: قَالَتْ بنت الربيعِ بْنِ خُثَيْمٍ لأبيها: يا أبَتِ/ ما لِي أَرَى النَّاسَ يَنَامُونَ وأنْتَ لاَ تَنَامُ، قال: إنَّ أَبَاكِ يَخَافُ البَيَاتَ، قال الباجيُّ- رحمه اللَّه تعالى-:
ولي في هذا المعنى: [من الرجز]
قَدْ أَفْلَحَ القَانِتُ في جُنْحِ الدجى ... يَتْلُو الْكِتَابَ العَرَبِيَّ النَّيِّرَا
[فَقَائِماً وَرَاكِعاً وَسَاجِدا ... مُبْتَهِلاً مُسْتَعْبِراً مُسْتَغْفِرَا] «3»
لَهُ حَنِينٌ وَشَهِيقٌ وَبُكَا ... يَبُلُّ مِنْ أَدْمُعِهِ تُرْبَ الثرى
إنَّا لَسَفْرٌ نَبْتَغِي نَيْلَ الهدى ... فَفِي السرى بُغْيَتُنَا لاَ في الْكَرَا
مَنْ يَنْصَبِ اللَّيْلَ يَنَلْ رَاحَتَهُ ... عِنْد الصَّبَاحِ يَحْمَدُ القَوْمُ السرى
انتهى، والضربُ في الأرضِ هو السَّفَرُ للتجارةِ ابتغاءَ فضلِ اللَّهِ سبحانه، فذكرَ اللَّه سبحانه أعْذَارَ بني آدمَ التي هي حائلةٌ بينَهم وبيْنَ قيامِ الليل، ثم كرَّر سبحانَه الأَمْرَ بقراءةِ ما تَيَسَّر منه تأكِيداً، والصلاةُ والزكاة هنا هما المفروضَتَانِ، فمن قال: إن القِيَامَ من الليلِ غَيْرُ واجبٍ قال: معنى الآية خُذُوا من هذا النَّفْلِ بما تَيَسَّر وحَافِظُوا على فَرَائِضِكم، ومَنْ قال:
إن شَيْئاً من القيامِ واجبٌ قال: قَدْ قَرَنَه اللَّهُ بالفرائِضِ لأنه فَرْضٌ وإقْراضُ اللَّه تعالى هو إسْلاَفُ العملِ الصالحِ عنده، وقرأ جمهورُ الناس «4» «هو خيراً» على أن يكونَ «هو» فَصْلاً، قال بعضُ العلماءِ: الاستِغفارُ بَعْدَ الصلاة مُسْتَنْبَطٌ من هذه الآيةِ، ومن قوله تعالى: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 17- 18] قال
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 390) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 294) ، رقم: (35301) ، وذكره ابن عطية (5/ 390- 391) .
(3) سقط في: د.
(4) وقرأ محمّد بن السميفع، وأبو السمال: «هو خير» بالرفع.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (164) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 391) ، و «البحر المحيط» (8/ 359) ، و «الدر المصون» (6/ 410) .
(5/507)
ع «1» : وَعَهَدْتُ أبي- رحمه اللَّه- يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ إثْرَ كل مكتُوبةٍ ثَلاَثَاً بِعَقِبِ السلام، ويأثر في ذلك حديثاً، فكان هذا الاستغفارُ من التقصيرِ وتَقَلُّبِ الفِكْرِ أثْنَاء الصلاة، وكان السلفُ الصالحُ يُصَلُّونَ إلى طلوع الفجر ثم يجلسُون للاسْتِغْفَارِ. ت: وما ذكره ع: رحمه اللَّه- عَنْ أبيه رَوَاهُ مسلم وأبو داودَ والترمذيُّ والنسائي وابنُ ماجَه عن ثوبان قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا انصرف/ مِنْ صَلاَتِهِ، استغفر ثَلاَثاً وقَالَ: «اللهمّ، أنت السّلام ومنك السّلام تباركت ذَا الجَلاَلِ والاكرام» «2» ، قال الوليدُ: فقلتُ للأوزاعيِّ: كَيْفَ الاسْتِغْفَارُ؟ قال: تَقُولُ: أسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أسْتَغْفِرُ اللَّهَ، أسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وفي روايةٍ لمسلم من حديثِ عائشةَ: «يَا ذَا الجَلاَلِ والإكْرَامِ» ، انتهى من «سلاح المؤمن» .
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 391) .
(2) أخرجه مسلم (5/ 26/ 135- 136) ، وأبو داود (1/ 474) ، كتاب «الصلاة» باب: ما يقول الرجل إذا سلّم (1512) ، والترمذي (2/ 95- 96) ، كتاب «الصلاة» باب: ما جاء إذا سلّم من الصلاة (298- 299) ، وابن ماجه (1/ 298) ، كتاب «إقامة الصلاة والسنة فيها» باب: ما يقال بعد التسليم (924) ، وابن حبان (5/ 340- 341) ، كتاب «الصلاة» باب: فصل في القنوط (2000- 2001) ، وأحمد (6/ 184) ، والنسائي (3/ 69) ، كتاب «السهو» باب: الذكر بعد الاستغفار (1338) ، وفي «الكبرى» (1/ 397) ، كتاب «صفة الصلاة» باب: الاستغفار بعد السلام (1261) .
قال الترمذي: حديث عائشة، حديث حسن.
وفي الباب من حديث ثوبان: أخرجه أبو داود (1/ 475) ، كتاب «الصلاة» باب: ما يقول الرجل إذا سلم (1513) ، والنسائي (3/ 69) ، كتاب «السهو» باب: الاستغفار بعد السلام (1337) ، وفي «الكبرى» (1/ 397) ، كتاب «صفة الصلاة» باب: الاستغفار بعد السلام (1261) ، والطيالسي (1/ 105) ، كتاب «الصلاة» باب: أذكار متنوعة تقال بعد الخروج من الصلاة (476) ، وابن حبان (5/ 343- 344) ، كتاب «الصلاة» باب: فصل في القنوت.
(5/508)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
تفسير سورة المدّثّر
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
قوله عز وجل: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ الآيةَ، اخْتُلِفَ في أول ما نزل من القرآن، فقال الجمهورُ هو: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ وهذَا هو الأَصَحُّ، وقال جابر وجماعة هو:
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ «1» ، - ص-: والتَّدَثَّرُ: لُبْسُ الدِّثَارِ، وهو الثَّوْبُ الذي فَوْقَ الشِّعَارِ، والشِّعَارُ الثَّوبُ الذي يلي الجسد ومنه قوله: ع: «الأَنْصَارُ شِعَارٌ، وَالنَّاسُ دِثَارٌ» انتهى.
وقوله تعالى: قُمْ فَأَنْذِرْ بَعْثَةٌ عامةٌ إلى جميع الخلق.
وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ أي: فعظمْ.
وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ قال ابنُ زيدٍ وجماعة: هو أمْرٌ بتطهيرِ الثيابِ حَقِيقةً «2» ، وذَهَبَ الشافعيُّ وغيرُه من هذه الآيةِ إلى: وجُوبِ غَسْلِ النَّجَاسَاتِ مِنَ الثيابِ، وقالَ الجُمْهُورُ:
هَذِه الألْفَاظُ اسْتِعَارَةٌ في تنقيةِ الأفْعَالِ والنَّفْسِ، والعْرِضِ، وهذا كما تقول: فلانٌ طَاهِرُ الثوبِ، ويقال للفَاجِر: دَنِسُ الثَّوْبِ، قال ابن العربي في «أحكامه» : والذي يقول إنها الثيابُ المَجَازِيَّة أكْثَرَ، وكثيراً ما تستعملُه العَرَبُ، قال أبو كبشة: [الطويل]
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 297) ، رقم: (35309) ، وذكره البغوي (4/ 412، 413) ، وابن عطية (5/ 392) ، وابن كثير (4/ 440) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 450) ، وعزاه للطيالسي، وعبد الرزاق، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، وابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن الأنباري في المصاحف.
(2) أخرجه الطبري (12/ 300) ، رقم: (35337) ، وذكره البغوي (4/ 413) ، وابن عطية (5/ 392) ، وابن كثير (4/ 441) بنحوه.
(5/509)
ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طهارى نَقِيَّةٌ ... وَأَوْجُهُهُمْ عِنْدَ المَشَاهِدِ غُرَّانُ «1»
يعني: بطهارةِ ثيابهم وسلامَتَهم من الدَّنَاءَاتِ، وقال غَيْلاَنُ بْنُ سَلَمَةَ الثَّقَفِيُّ:
[الطويل]
فَإنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لاَ ثَوْبَ فَاجِرٍ ... لَبِسْتُ وَلاَ مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ «2»
ولَيْسَ يمتنع أن تُحْمَلَ الآيةُ على عمومِ المرادِ فيها بالحقيقةِ «3» والمجازِ «4» على ما بيَّناه في أصولِ الفقه، وإذا حملنَاها على الثيابِ المعلومَة فهي تتناول معنيين: أحدهما:
تَقْصِيرُ الأَذْيَالِ فإنَّها إذا أُرْسِلَتْ تَدَنَّسَتْ، وتَقْصِيرُ الذيلِ أَنْقى لثَوْبِه وأتْقَى لربِّه، المَعْنَى الثَّاني: غَسْلُها من النَّجاسَةِ فهو ظَاهِرٌ منها صحيحٌ فيها، انتهى، قال الشيخ أبو الحسن الشاذليُّ- رضي اللَّه عنه-: رأَيْتُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم في المَنَامِ، فقالَ: يَا عَلِيُّ، طَهِّرْ ثِيَابَكَ مِنَ الدَّنَسِ، تَحْظَ بمَدَدِ اللَّهِ في كُلِّ نَفَسٍ، فَقُلْتُ: وَمَا ثِيَابي يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إنَّ اللَّهَ كَسَاكَ [حُلَّة المَعْرِفَةِ، ثُمَّ] «5» حُلَّةَ المَحَبَّةِ، ثُمَّ حلةَ التَّوْحِيدِ، ثُمَّ حُلَّةَ الإيمان، ثمّ حلّة
__________
(1) البيت في «ديوانه» (83) ، و «المحكم» (4/ 175) ، و «العين» (4/ 19) ، و «الصحاح» (طهر) ، و «البحر المحيط» (8/ 363) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 392) ، «البحر المحيط» (8/ 363) ، القرطبي (19/ 42) . [.....]
(3) ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (2/ 152) ، «سلاسل الذهب» له ص: (182) ، «التمهيد» للأسنوي ص: (185) ، «نهاية السول» له (2/ 145) ، «منهاج العقول» للبدخشي (1/ 327) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري ص: (46) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (1/ 221) ، «المستصفى» للغزالي (1/ 341) ، «حاشية البناني» (1/ 300) ، «الإبهاج» لابن السبكي (1/ 271) ، «الآيات البينات» لابن القاسم العبادي (2/ 152) ، «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني ص: (68) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (1/ 393) ، «المعتمد» لأبي الحسين (1/ 14، 2/ 405) ، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (4/ 437) ، «التحرير» لابن الهمام ص: (160) ، «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (1/ 72، 2/ 2) .
(4) ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (2/ 158) ، «سلاسل الذهب» له ص: (190) ، «التمهيد» للأسنوي ص: (185) ، «نهاية السول» له (2/ 145) ، «منهاج العقول» للبدخشي (1/ 354) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري ص: (47) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (1/ 221) ، «المستصفى» للغزالي (1/ 341) ، «حاشية البناني» (1/ 304) ، «الإبهاج» لابن السبكي (1/ 271) ، «الآيات البينات» لابن القاسم العبادي (2/ 152) ، «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني ص: (387) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (1/ 399) ، «المعتمد» لأبي الحسين (1/ 14، 2/ 405) ، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (4/ 437) ، «التحرير» لابن الهمام ص: (160) ، «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (1/ 73، 2/ 3) ، «كشف الأسرار» للنسفي (1/ 226) .
(5) سقط في: د.
(5/510)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
الإسْلاَمِ، فَمَنْ عَرَفَ اللَّهَ صَغُرَ لديْهِ كُلُّ شَيْءٍ، ومَنْ أَحَبَّ اللَّهَ هَانَ عَلَيْهِ كُلُّ شَيْءٍ، وَمَنْ وَحَّدَ اللَّهَ، لَمْ يُشْرِكْ به شَيْئاً، ومَنْ آمَنَ بِاللَّهِ أَمِنَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَمَنْ أَسْلَمَ لِلَّهِ قَلَّمَا يَعْصِيهِ، وإنْ عَصَاهُ، اعتذر إلَيْهِ، وَإذَا اعتذر إليه، قَبِلَ عُذْرَه، قال: فَفَهِمْتُ حِينَئِذٍ معنى قولِهِ عَزَّ وَجَلَّ: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ انتهى من «التنوير» لابن عطاء اللَّه.
وَالرُّجْزَ يعني الأصْنَام والأَوثَانَ، وقال ابن عباس: الرُّجْزُ السَّخَط «1» يعني: اهْجُرْ ما يؤدي إليه ويوجبُه، واخْتُلِفَ في معنى قولهِ تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ فقالَ ابن عباس وجماعة: معناه لاَ تَعْطِ عَطَاءً لِتُعْطَى أكْثَرَ منه «2» ، فكأَنه من قولهم: مَنَّ إذَا أَعْطَى، قال الضحاك: وهذا خاصّ بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ومُبَاحٌ لأُمَّتِه، لكنْ لاَ أجْرَ لهم فيه «3» ، وقال الحسن بن أبي الحسن: معناه ولاَ تَمْنُنْ على اللَّهِ بِجِدِّكَ، تَسْتَكْثِرْ أعْمَالَك، ويَقَعْ لَكَ بها إعْجَابٌ «4» ، قال ع «5» : وهَذَا مِنَ المنِّ الذي هو تعديدُ اليَدِ وذكرُها، وقال مجاهد: معناه ولاَ تَضْعُفْ تَسْتَكْثِرْ مَا حَمَّلْنَاك من أعباء الرسالةِ، وتستكثرْ مِنَ الخَيْرِ وهَذَا من قولهم حبل منين أي: ضعيف «6» .
/ [سورة المدثر (74) : الآيات 7 الى 10]
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أي لوجهِ ربِّكَ وطَلَبِ رضَاهُ فاصْبِرْ على أذَى الكفارِ، وعلى العبادةِ وَعَنِ الشَّهَوَاتِ وعَلَى تَكَالِيفِ النُّبُوَّةِ، قال ابن زيدٍ: وعَلَى حَرْبِ الأَحْمَرِ، والأَسْوَدِ «7» ، ولَقَدْ حُمِّلَ أمْراً عظيما صلّى الله عليه وسلّم، والنَّاقُورُ: الذي يُنْفَخُ فيه، وهو الصُّور قاله ابن عبّاس
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 300) ، رقم: (35338) ، وذكره ابن عطية (5/ 393) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 301) ، رقم: (35346) عن ابن عبّاس، وغيره رقم: (35347) ، (35348) ، (35349) ، وذكره ابن عطية (5/ 393) ، وابن كثير (4/ 441) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 452) ، وعزاه للطبراني.
(3) أخرجه الطبري (12/ 302) ، رقم: (35362) ، وذكره البغوي (4/ 414) ، وابن عطية (5/ 393) ، وابن كثير (4/ 441) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 452) ، وعزاه لعبد بن حميد.
(4) أخرجه الطبري (12/ 302) ، رقم: (35363) ، (35364) ، وذكره البغوي (4/ 414) ، وابن عطية (5/ 393) .
(5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 393) .
(6) أخرجه الطبري (12/ 303) ، رقم: (35367) ، وذكره البغوي (4/ 414) ، وابن عطية (5/ 393) ، وابن كثير (4/ 441) . والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 452) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر.
(7) أخرجه الطبري (12/ 303) ، رقم: (35370) ، وذكره ابن عطية (5/ 393) .
(5/511)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
وعكرمة وهو فَاعُولُ مِنَ النَّقْرِ «1» ، قال أبو حباب القصاب: أَمَّنَا زُرَارَةُ بنُ أَوْفَى فَلَمَّا بَلَغَ فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ خَرَّ مَيِّتاً، قال الفخر «2» : قوله تعالى: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ أي: على الكافرين، لأَنَّهُمْ يُنَاقَشُونَ غَيْرُ يَسِيرٍ أي: بلْ كَثِيرٌ شَدِيدٌ فأمَّا المؤمِنونَ فَإنَّه عليهم يَسِيرٌ لأَنَّهم لا يُنَاقَشُونَ، قال ابن عباس: ولما قال تعالى: عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ دَلَّ على أنه يسيرٌ على المؤمنينَ «3» ، وهذا هو دليلُ الخِطَابِ، ويحتملُ أَنْ يكونَ إنما وَصَفَه تعالى بالعُسْرِ لأنَّه في نفسِه كذلك للجميع من المؤمنين والكافرين، إلاَّ أَنَّه يكونُ هَوْلُ الكفار فيه أَكْثَرُ وَأَشَدُّ، وعلى هذا القولِ يَحْسُن الوَقْفَ على قوله: يَوْمٌ عَسِيرٌ انتهى.
[سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 15]
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)
وقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً الآية، لا خلافَ بَيْنَ المفسرين أن هذه الآيةَ نزلتْ في الوليدِ بن المغيرةِ المخزومي، فَرُوِيَ أنَّه كَانَ يُلَقَّبُ الوحيدَ أي: لأنه لاَ نَظِيرَ له في مالهِ وشَرَفهِ في بيتِه، فَذَكَرَ الوَحِيدَ في جملة النِّعَمِ التي أُعْطِيَ، وإنْ لم يَثْبُتْ هذا فقوله تعالى: خَلَقْتُ وَحِيداً معناه: منفَرِداً قليلاً ذَلِيلاً، والمالُ الممدودُ قال مجاهد وابن جبير: هو ألْفُ دينار «4» ، وقال سفيان: بلغني أَنَّهُ أربَعة آلافٍ وقاله قتادة «5» ، وقيل عَشَرَةُ آلافِ دينار، قال ع «6» : وهذا مَدّ في العدَدِ، وقال عمر بن الخطاب: المالُ الممدودُ:
الرَّيْع المستغَلُّ مُشَاهَرةً «7» .
وَبَنِينَ شُهُوداً أي حُضُوراً، قيل عشَرَةٌ وقِيلَ ثَلاَثَةُ عَشَرَ، قال الثعلبيُّ/: أسْلَم منهم ثلاثةٌ خَالد بْن الوليدِ، وهِشَام، وعِمَارَة، قالوا: فما زال الوليدُ بَعْد نزولِ هذهِ الآيةِ في نُقْصَانٍ من ماله وولده حتى هلك، انتهى.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 304) ، رقم: (35376) عن عكرمة، ورقم: (35380) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية (5/ 393) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 452) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عبّاس، وعزاه أيضا لعبد بن حميد عن عكرمة.
(2) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 174) .
(3) ذكره الرازي (30/ 174) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 306) ، رقم: (35395- 35396) ، وذكره البغوي (4/ 414) ، وابن عطية (5/ 394) . [.....]
(5) أخرجه الطبري (12/ 306) ، رقم: (35397) ، وذكره البغوي (4/ 414) ، وابن عطية (5/ 394) .
(6) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 394) .
(7) أخرجه الطبري (12/ 306- 307) ، رقم: (35400، 35403) ، وذكره ابن عطية (5/ 394) .
(5/512)
كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً قال سفيانُ: المعنى بَسَطْتُ له العيش بسطا «1» .
[سورة المدثر (74) : الآيات 16 الى 28]
كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)
ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28)
وقوله تعالى: كَلَّا رَدْعٌ وَزَجْرٌ له على أمنيّته، وسَأُرْهِقُهُ معناه أُكَلِّفُه بمشقَةٍ وعُسْرُ، وصَعُودٌ عَقَبَةٌ في نَارِ جهنَّمَ، روى ذلك أبو سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: كُلَّما وُضِعَ عليها شَيءٌ مِن الإنْسَانِ ذَابَ، ثم يَعُودُ، والصَّعودُ في اللغة: العَقَبَةُ الشَّاقَة.
وقوله تعالى مخبراً عن الوليد: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ الآية، رَوَى جمهورٌ من المفسرينَ:
أن الوليدَ سَمِعَ من القرآن ما أعْجَبَه وَمَدحَه، ثم سمِعَ كذلك مراراً، حتى كَادَ أنْ يُقَارِبَ الإسْلامِ، وقال: واللَّه لَقَدْ سمعتُ من محمدٍ كلاماً مَا هُو مِنْ كلامِ الإنْسِ، ولا هو مِنْ كَلامِ الجنِّ، إنَّ له الحلاوة، وإنَّ عليه لَطَلاَوَةً، وإنَّ أَعْلاَهُ لمثمرٌ، وإنَّ أسْفَلَه لَمُغْدِقٌ، وإِنَّه يَعْلُو، وَمَا يُعْلَى، فقالتْ قريشٌ: صَبَأَ الوليدُ واللَّه لتصبأَنَّ قريشٌ، فقال أبو جهل: أنا أكْفِيكُمُوه فَحاجَّه أبو جهل وجماعة حتَى غَضِبَ الوليدُ، وقال: تَزْعُمُون أَنَّ محمداً مجنُونٌ، فَهَلْ رأيتمُوه يُخْنَقُ قَط؟ قالوا: لا، قال: تزعمُون أنه شاعر، فهل رأيتموه يَنْطِق بشعرٍ قط؟
قالوا: لا، قال: تَزْعَمُونَ أَنّه كاهنٌ، فهل رأيتموه يتكهن قط؟ قالوا لا، قال: تَزْعمُونَ أَنَّه كذابٌ، فَهَلْ جَرَّبْتُمْ عليه شيئاً من الكذبِ قط؟ قالوا: لا، وكانوا يُسمُّونه قبلَ النبوةِ الأمِينُ لِصِدْقِهِ، فَقَالَتْ قريش: ما عندَك فيه؟ فتفكَّرَ في نفسه، فقال: ما أرى فيه شيئاً مما ذكرتمُوه فقالوا: هو ساحرٌ، فقال: أما هذا فُيُشْبِه، / وألفاظ الرواة هنا مُتَقَارِبَة المعاني مِنْ رواية الزهري وغيره.
وقوله تعالى: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ قَالَ الثعلبيُّ وغيرُه: قُتِلَ معناه: لُعِنَ، انتهى.
وَبَسَرَ أي قَطَبَ مَا بَيْنَ عينيه واربد وَجْهُه ثم أدْبَر عَنْ الهُدَى بعد أن أقْبَلَ إليهِ، وقال: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ أي: يُرْوَى، أي: يرويه محمدٌ عن غيره.
وسَقَرُ هي الدَّرْكُ السادسِ منَ النَّارِ، لاَ تُبْقِي عَلَى مَنْ أُلْقي فيها وَلا تَذَرُ غايةً من العذاب إلا وصّلته إليه.
[سورة المدثر (74) : الآيات 29 الى 35]
لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)
وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 307) ، رقم: (35405) ، وذكره ابن عطية (5/ 394) .
(5/513)
وقوله تعالى: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ قال ابن عباس وجمهور الناس: معناه مُغَيِّرَةٌ للبَشَرَاتِ ومُحَرِّقَةٌ للجُلودِ مُسَوِّدَة لها «1» ، فالبَشَرُ جَمْع بَشَرَةٍ، وقال الحسن وابن كَيْسَانَ: لَوَّاحَةٌ بِنَاء مبالغَةٍ من لاَحَ يَلُوحُ إذا ظَهَرَ، فالمعنى أنها تظهرُ للناسِ وهم البَشَرُ من مسيرةِ خَمْسِمِائَةِ عامٍ، وذلك لعظمِها وهَوْلِهَا وزفيرها «2» .
وقولُه تعالى: عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ لاَ خِلاَفَ بينَ العلماءِ أنهم خَزَنَةُ جهنمَ المحيطونَ بأمْرِها الذين إليهم جِمَاع أمْرِ زبانِيَتِها، ورُوِي أن قريشاً لما سَمِعَتْ هذا كَثُرَ لَغَطُهم فيه، وقالوا: ولَوْ كَانَ هذا حقاً، فإن هَذَا العَدَدَ قليلٌ، وقالَ أبو جهل: هؤلاء تسعةَ عشَرَ، وأنْتُمْ الدُّهْمُ أي: الشُّجْعَانُ: أفَيَعْجَزُ عشرةٌ منا عن رجلٍ منهم إلى غير هذا من أقوالهم السخيفةِ.
وقوله تعالى: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً تَبْيينٌ لفسادِ أقوالِ قريشٍ، أي:
إنا جَعَلْنَاهم خَلْقاً لا قِبَلَ لاًّحَدٍ من الناس بهم وجعلنا عِدَّتَهم هذا القدرَ فتنةً للكفارِ لِيَقَع منهم من التعاطِي والطَّمَعِ في المغالَبَةِ ما وقع، ولِيَسْتَيْقِنَ أهلُ الكتابِ- التوراةِ والإنجيلِ- أنَّ هذا القرآنَ مِنْ عندَ اللَّهِ، إذْ هُمْ يَجِدُونَ هذهِ العدةَ في كُتُبِهم المنزَّلةِ، قال هذا المعنى ابنُ عباسٍ وغيرُه «3» ، وبوُرُودِ الحقائقِ من عند الله- عز وجل- يَزْدَادُ كلُّ ذِي إيمانٍ إيمَاناً، ويَزُولُ الرَّيْبُ عَنِ المُصَدِّقِينَ مِنْ أهْلِ الكتابِ ومِنَ المؤمنين.
/ وقوله سبحانه: وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ.... الآية، نوعٌ من الفتنةِ لهذا الصِّنفِ المنافِق أو الكافرِ، أي حَارُوا وَلَمْ يَهْتَدُوا لِمَقْصِدِ الحقِ، فجعلَ بَعْضُهم يَسْتَفْهِمُ بَعْضاً عن مرادِ اللَّه بهذا المثل، استبعاداً أنْ يكونَ هذا مِنْ عِندِ اللَّهِ، قال الحسين بن الفضل: السورة مكيَّةٌ وَلَمْ يكن بمكةَ نِفَاقٌ وإنَّما المرض في هذه الآيةِ الاضْطِرَابُ وضَعْفُ الإيمانِ «4» ، ثم قَالَ تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ إعْلاماً بأن الأمْرَ فَوْقَ ما يتوهّم،
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 311) ، رقم: (35434) ، وذكره البغوي (4/ 416) ، وابن عطية (5/ 395) ، وابن كثير (4/ 443) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لعبد بن حميد.
(2) ذكره البغوي (4/ 416) ، وابن عطية (5/ 396) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 313) ، رقم: (35447) ، وذكره ابن عطية (5/ 396) .
(4) ذكره ابن عطية (5/ 396) .
(5/514)
نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
وأنَّ الخبرَ إنما هُو عَنْ بَعْضِ القدرةِ لاَ عَنْ كُلِّها، ت: صوابُه أنْ يقولَ عَنْ بَعْضِ المقدوراتِ لاَ عَنْ كُلِّها وهذا هو مُرَادُه، ألاَ تَرَاهُ قال في قوله تعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة: 255] قال: يعني بشيءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِه لأنّ علمَه تعالى لاَ يَتَجَزَّأُ، فافْهم رَاشِداً، والسموات كُلُّها عامرةٌ بأَنواعٍ من الملائِكَةِ كلُّهم في عبادَةٍ مُتَّصِلَةٍ وخُشُوعٍ دائمٍ، لا فَتْرَةَ في شيءٍ من ذلك، ولا دَقِيقَةً واحدة، قال مجاهد: والضميرُ في قوله: وَما هِيَ للنارِ المذكورةِ، أي: يُذَكَّرُ بهَا البشرُ فَيَخَافُونَها، فيطيعونَ اللَّه «1» ، وقال بعضهم: قوله:
وَما هِيَ يرادُ بها الحالُ والمخَاطبةُ والنِّذَارَةُ، وأقْسَمَ تعالى بالقَمَرِ وما بَعدَه تَنْبيهاً عَلَى النَّظَرِ في ذلكَ والفكرِ المؤدِّي إلى تعظيمهِ تعالَى وتحصيلِ معرفتِه تعالى مالك الكلّ وقوام الوجود، ونور السموات والأرضِ، لاَ إله إلاَّ هو العزيزُ القهارُ، وأدْبَرَ الليلُ معناه ولّى، وأسْفَرَ الصبح أضَاءَ وانتشرَ ضوؤه، قال ابن زيد وغيره: الضميرُ في قوله: إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ لجهنمَ، ويحتملُ أنْ يكُونَ الضميرُ للنِّذَارَةِ وأمْرِ الآخرة فهو للحالِ والقِصَّة «2» ، - ص-: والكُبَرُ جَمْعُ كُبْرى، وفي ع «3» : جَمْعُ كبيرةٍ ولَعَلَّه وَهْمٌ من الناسِخ، انتهى.
[سورة المدثر (74) : الآيات 36 الى 41]
نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40)
عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41)
وقوله سبحانه: نَذِيراً لِلْبَشَرِ قال الحسن: لا نَذِيرَ أدْهَى مِنَ النارِ «4» ، وقال ابن زيد: نَذِيراً لِلْبَشَرِ هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم «5» .
وقوله سبحانه: لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ قال الحسن: هو وعيد نحو قوله: فَمَنْ/ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «6» [الكهف: 29] ، ثم قوَّى سبحانه هذا المعنى بقوله: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ: إذ لزم بهذا القول أنَّ المُقَصِّرَ مرتهن بسوءِ عمله، وقال الضَّحَّاكُ: المعنى: كل نفس حَقَّتْ عليها كلمة العذاب، ولا يرتهن تعالى أحدا
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 314) ، رقم: (35457) ، وذكره ابن عطية (5/ 397) ، وابن كثير (4/ 446) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 457) ، وعزاه لعبد بن حميد.
(2) أخرجه الطبري (12/ 316) ، رقم: (35463) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 397) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 316) ، رقم: (35467) ، وذكره البغوي (4/ 418) ، وابن عطية (5/ 398) .
(5) أخرجه الطبري (12/ 317) ، رقم: (35469) ، وذكره البغوي (4/ 418) ، وابن عطية (5/ 398) .
(6) ذكره ابن عطية (5/ 398) . [.....]
(5/515)
مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
من أهل الجنة إنْ شاء اللَّه «1» .
وقوله تعالى: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ استثناءٌ ظاهره الانفصال، تقديره: لكن أصحاب اليمين في جنات.
- ص-: فِي جَنَّاتٍ أي: هم في جنات، فيكون خبر مبتدإ محذوف.
- م-: وأعربه أبو البقاء حالاً من الضمير في يَتَساءَلُونَ، انتهى.
قال ابن عباس: أَصْحابَ الْيَمِينِ هنا الملائكة «2» ، وقال الضَّحَّاكُ: هم الذين سبقت لهم من اللَّه الحسنى «3» ، وقال الحسن وابن كَيْسَانَ: هم المسلمون المخلصون ليسوا بمرتهنين «4» .
ت: وأسند أبو عمر بن عبد البَرِّ عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ قال: أصحاب اليمين: أطفال المسلمين «5» ، انتهى من «التمهيد» .
[سورة المدثر (74) : الآيات 42 الى 49]
ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46)
حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
وقولهم: مَا سَلَكَكُمْ أي: ما أدخلكم، فيحتمل أنْ يكون من قول أصحاب اليمين الآدميين أو من قول الملائكة.
وقوله تعالى: قالُوا يعني الكفار لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ... الآية، وفي نفي الصلاة يدخل الإيمان باللَّه، والمعرفة به، والخشوع له وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ يشمل الصدقة فرضاً كانت أو نفلاً، والخوض مع الخائضين: عَرَّفه في الباطل والتكذيب بيوم الدين كفر صراح حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ يعني الموت قاله المفسرون.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 318) ، رقم: (35446) ، وذكره ابن عطية (5/ 398) .
(2) ذكره البغوي (4/ 418) ، وابن عطية (5/ 398) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 498) .
(4) ذكره البغوي (4/ 418) ، وابن عطية (5/ 498) .
(5) أخرجه الطبري (12/ 418) ، رقم: (35479) ، وذكره البغوي (4/ 418) ، وابن عطية (5/ 498) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 459) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم.
(5/516)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
قال ع «1» : وعندي: أَنَّ اليقين صِحَّةُ ما كانوا يكذبون به من الرجوع إلى اللَّه والدار الآخرة، وقد تقدم ذكر أحاديث الشفاعة قال الفخر «2» : واحتجَّ أصحابنا بهذه الآية على أَنَّ الكفار يُعَذَّبُونَ بترك فروع الشريعة، والاستقصاء فيه قد ذكرناه في المحصول، انتهى.
[سورة المدثر (74) : الآيات 50 الى 56]
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
وقوله تعالى في صفة الكفار/ المعرضين: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ إثبات لجهلهم لأَنَّ الحمر من جاهل الحيوان جدًّا، وفي حَرْفِ ابن مسعود «3» : «حُمُرٌ نَافِرَةٌ» قال ابن عباس وأبو هريرة وجمهور من اللغويين: القسورة: الأسد «4» ، وقيل غير هذا، بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي: من هؤلاء أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً أي: يريد كل إنسان منهم أنْ ينزل عليه كتاب من اللَّه، ومنشرة، أي: منشورة غير مطوية.
وقوله: كَلَّا رَدٌّ على إرادتهم، أي: ليس الأمر كذلك، ثم قال: بَلْ لاَّ يَخافُونَ الْآخِرَةَ المعنى: هذه هي العلة والسبب في إعراضهم، فكان جهلهم بالآخرة سَبَبَ امتناعهم من الهدى حتى هلكوا، ثم أعاد تعالى الرد والزجر بقوله: كَلَّا وأخبر أنَّ هذا القولَ والبيانَ وهذه المحاورة بجملتها تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ: ووفقه اللَّه لذلك، ذَكَرَ معادَه فعمل له، ثم أخبر سبحانه أنَّ ذكر الإنسان مَعَادَهُ وجريَه إلى فلاحه إنَّما هو كله بمشيئة اللَّه تعالى، وليس يكون شيء إلاَّ بها، وقرأ أبو عمرو وعاصم وابن كثير: «يَذْكُرُونَ» بالياء من تحت «5» .
وقوله سبحانه: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ خبر جزم معناه: أنّ الله عز وجل
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 399) .
(2) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 186) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 399) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 322) ، رقم: (35512، 35515) ، وذكره البغوي (4/ 419) عن أبي هريرة فقط، وابن عطية (5/ 399) ، وابن كثير (4/ 427) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 461) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس ولعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن أبي هريرة.
(5) ينظر: «إعراب القراءات» (2/ 413) ، و «معاني القراءات» (2/ 104) ، و «شرح الطيبة» (6/ 80) ، و «العنوان» (199) ، و «شرح شعلة» (613) ، و «حجة القراءات» (635) ، و «إتحاف» (2/ 572) .
(5/517)
أَهْلٌ بصفاته العُلَى ونِعَمِهِ التي لا تحصى لأَنْ يتقى ويُطَاعَ أمره، ويُحْذَرَ عصيانه، وأَنَّه بفضله وكرمه أَهْلٌ أنْ يَغْفِرَ لعبادِهِ إذا اتقوه رَوَى ابْنُ مَاجَه عن أنَسٍ: «أَنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَرَأَ هَذِهِ الآية: هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَنَا أَهْلٌ أَنْ أتقى، فَلاَ يُجْعَلَ مَعِيَ إله آخَرُ، فَمَنِ اتَّقَانِي فَلَمْ يَجْعَلْ مَعِيَ إلَهاً آخَرَ، فَأَنَا أَهْلٌ أنْ أَغْفِرَ لَهُ» وأخرجه أبو عيسى الترمذي بمعناه، وقال: حديث حسن «1» ، انتهى.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (2/ 1437) ، كتاب «الزهد» باب: ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة (4299) .
(5/518)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
تفسير سورة القيامة
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
قوله عز وجل: لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ/ وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ هذه قراءة الجمهور، وقرأ ابن كثير «1» : «لأُقْسِمُ بِيَومِ الْقِيَامَةِ وَلأُقْسِمُ» فقيل: على قراءة الجمهور «لا» زائدة، وقال الفَرَّاءُ: «لا» نفيٌ لكلام الكفار، وزجر لهم، ورَدٌّ عليهم، وجمهور المتأوِّلين على أَنَّ اللَّه تعالى أقسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة، أقسم سبحانه بيوم القيامة تنبيهاً منه على عِظَمِهِ وهوله قال الحسن: النفس اللَّوَّامَةُ: هي اللوامة لصاحبها في ترك الطاعة ونحو ذلك «2» ، فهي على هذا ممدوحة ولذلك أقسم اللَّه بها، وقال ابن عباس وقتادة: اللوامة:
هي الفاجرة، اللوامة لصاحبها على ما فاته من سعي الدنيا «3» وأعراضها، وعلى هذا التأويل يحسن نفي القسم بها، والنفس في الآية اسم جنس.
قال ع «4» : وكل نفس متوسطة ليست بالمُطْمَئِنَّةِ ولا بالأَمَّارَةِ بالسوء فإنَّها لوَّامة في الطرفين، مرةً تلوم على ترك الطاعة، ومرةً تلوم على فوت ما تشتهي، فإذا اطمأنَّتْ خلصت وصفت، قال الثعلبيُّ: وجواب القسم محذوف تقديره: لَتُبْعَثُنَّ، دَلَّ عليه قوله:
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ أي: للإحياء والبعث، والإنسان هنا الكافر المكذّب
__________
(1) ينظر: «السبعة» (661) ، و «الحجة» (6/ 343) ، و «إعراب القراءات» (2/ 414) ، و «حجة القراءات» (735) ، و «معاني القراءات» (3/ 105) ، و «العنوان» (200) ، و «إتحاف» (2/ 573) .
(2) ذكره البغوي (4/ 421) ، وذكره ابن عطية (5/ 402) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 464) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي الدنيا.
(3) ذكره ابن عطية (5/ 402) . [.....]
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 402) .
(5/519)
بالبعث، انتهى، والبنان: الأصابع، ونُسَوِّيَ بَنانَهُ معناه: نتقنها سَوِيَّةً قاله القتبي، وهذا كله عند البعث، وقال ابن عباس وجمهور المفسرين: المعنى: بل نحن قادرون أنْ نسوي بنانه، أي: نجعل أصابع يديه ورجليه شيئاً واحداً كَخُفِّ البعير أو كحافر الحمار، لا يمكنه أنْ يعمل بها شيئاً، ففي هذا تَوَعُّدٌ ما، والقول الأول أجرى مع رصف الكلام «1» .
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ معناه: أنَّ الإنسان إنَّما يريد شهواتِهِ ومعاصِيَه ليمضيَ فيها أبداً راكباً رأسه، ومطيعاً أمله، ومُسَوِّفاً توبته قال البخاريُّ: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ يقول: سوف أتوب، سوف أعمل «2» ، انتهى.
/ قال الفخر «3» : قوله: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ فيه قولان:
الأَوَّل: ليدوم على فجوره فيما يستقبله من الزمان، لا ينزع عنه فَعَنِ ابن جُبَيْرٍ:
يقدم الذنب، ويُؤَخِّرُ التوبة «4» ، يقول: سوف أتوب، سوف أتوب حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوإ أعماله.
القول الثاني: لِيَفْجُرَ أَمامَهُ أي: يُكَذِّبُ بما أمامه من البعث والحساب لأَنَّ من كذب حَقًّا كان مفاجراً، والدليل على هذا القول قوله تعالى: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ أي:
متى يكون ذلك تكذيباً له، انتهى.
وسؤال الكفار أَيَّانَ هو على معنى التكذيب والهزء، وأَيَّانَ بمعنى: متى، وقرأ نافع وعاصم بخلافٍ: «بَرَقَ الْبَصَرُ» - بفتح الراء «5» - بمعنى: لَمَعَ وصار له بريق، وحار عند الموت، وقرأ أبو عمرو وغيره بكسرها بمعنى: شَخَصَ، والمعنى متقارب، قال
__________
(1) أخرجه الطبري (2/ 328) ، رقم: (35540- 35541) ، وذكره ابن عطية (5/ 402) ، وابن كثير (4/ 448) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 464) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(2) ينظر: «فتح الباري» (8/ 547) ، كتاب «التفسير» .
(3) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 192) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 330) ، رقم: (35555) ، وذكره البغوي (4/ 421) ، وابن عطية (5/ 402) ، وابن كثير (4/ 448) .
(5) وعاصم قرأها هكذا من رواية أبان.
ينظر: «السبعة» (661) ، و «الحجة» (6/ 345) ، و «معاني القراءات» (3/ 106) ، و «إعراب القراءات» (2/ 414) ، و «شرح الطيبة» (6/ 81) ، و «العنوان» (200) ، و «حجة القراءات» (736) ، و «شرح شعلة» (613) ، و «إتحاف» (2/ 574) .
(5/520)
يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15) لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
مجاهد: هذا عند الموت «1» ، وقال الحسن: هذا في يوم القيامة «2» ، قال أبو عبيدة وجماعة من اللغويين: الخسوف والكسوف بمعنى واحد «3» ، وقال ابن أبي أُوَيْسٍ: الكسوف: ذهابُ بعض الضوء، والخسوف: ذهاب جميعه، وروى عروة وسفيان أَنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لاَ تَقُولُوا كَسَفَتِ الشَّمْسُ، وَلَكِنْ قُولُوا: خَسَفَتْ» «4» وقرأ ابن مسعود: «وَجُمِعَ «5» بَيْنَ الشَّمْسِ وَالقَمَرِ» واختلف في معنى الجمع بينهما فقال عطاء: يجمعان فيقذفان في النار «6» ، وقيل:
في البحر فيصيرا نارَ اللَّه العُظْمَى، وقيل: يُجْمَعُ الضَّوْءانِ فيذهب بهما قال الثعلبيُّ: وقال علي وابن عباس: يجعلان في نور الحجب «7» ، انتهى.
[سورة القيامة (75) : الآيات 10 الى 13]
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أي: أين الفرار كَلَّا لاَ وَزَرَ أي: لا ملجأ، والْمُسْتَقَرُّ
موضع الاستقرار.
وقوله تعالى: يُنَبَّؤُا/ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[أي] : يعلم بكل ما فعل، ويجده مُحَصَّلاً، وقال ابن عباس وابن مسعود: بما قَدَّم في حياته، وما أخّر من سنة بعد مماته «8» .
[سورة القيامة (75) : الآيات 14 الى 19]
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19)
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 331) ، رقم: (35563) ، وذكره ابن عطية (5/ 403) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 465) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 403) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 403) .
(4) أخرجه مسلم (2/ 625) ، كتاب «الكسوف» باب: ما عرض على النبي صلّى الله عليه وسلّم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار (13/ 905) .
(5) هكذا في القرطبي (19/ 63) . وذكر ابن عطية في «المحرر الوجيز» (5/ 403) أنها قراءة ابن أبي عبلة.
(6) أخرجه الطبري (12/ 332) ، رقم: (35569) ، وذكره البغوي (4/ 422) ، وابن عطية (5/ 403) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 465) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(7) ذكره القرطبي (19/ 63) ، وذكره أبو حيان في «البحر المحيط» (8/ 377) .
(8) أخرجه الطبري (12/ 335) ، رقم: (35591) ، (35592) ، وذكره البغوي (4/ 422) ، وابن عطية (5/ 403) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 466) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن مسعود، وعزاه أيضا لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس. [.....]
(5/521)
وقوله تعالى: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
قال ابن عباس وغيره: أي: للإنسان على نفسه من نفسه بصيرةُ رقباءَ يشهدون عليه، وهم جوارحه وَحَفَظَتُه «1» ، ويحتمل أنْ يكون المعنى: بل الإنسان على نفسه شاهد ودليله قوله تعالى: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الإسراء: 14] قال الثعلبيّ: قال أبان بن ثعلب: البصيرةُ والبَيِّنَةُ والشاهد بمعنى واحد انتهى، ونحوه للهرويِّ قال ع «2» : والمعنى على هذا التأويل الثاني: أَنَّ في الإنسان وفي عقله وفطرته حُجَّةً وشاهداً مُبْصِراً على نفسه.
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
أي: ولو اعتذر عن قبيح أفعاله، فهو يعلمها، قال الجمهور:
والمعاذير هنا جمع مَعْذِرَةٌ، وقال الضَّحَّاكُ والسُّدِّيُّ: هي الستور بلغة اليمن يقولون للستر: المعذار «3» .
وقوله تعالى: لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ
الآية، قال كثير من المفسرين، وهو في «صحيح البخاريِّ» عن ابن عبّاس قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُعَالِجُ مِنَ التَّنْزِيلِ شِدَّةً وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ مُخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْهُ مَا يُوحَى إلَيْهِ، فَنَزَلَتِ الآيَةُ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَأَعْلَمَهُ تَعَالَى أنّه يجمعه له في صدره «4» .
وقوله: وَقُرْآنَهُ
يحتمل أنْ يريد وقراءته، أي: تقرأه أنت يا محمد.
وقوله: فَإِذا قَرَأْناهُ
أي: قرأه الملك الرسول عنّا فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
، قال البخاريُّ:
قال ابن عباس: فَاتَّبِعْ
، أي: اعمل به، وقال البخاريُّ أيضاً/ قوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ
أي: تأليف بعضه إلى بعض فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
أي: ما جمع فيه، فاعمل بما أمرك، وانته عَمَّا نهاك عنه انتهى.
وقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ قال قتادة وجماعة: معناه: أنْ نُبَيِّنَهُ لك «5» ، وقال البخاريُّ: أنْ نبينه على لسانك.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 336) ، رقم: (35601) ، وذكره البغوي (4/ 423) ، وابن كثير (4/ 449) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 467) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 404) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 338) ، رقم: (35612) عن السدي، وذكره البغوي (4/ 423) ، وابن عطية (5/ 404) ، والسيوطي (6/ 467) ، وعزاه لابن المنذر عن الضحاك بنحوه.
(4) أخرجه البخاري (8/ 547- 548) ، كتاب «التفسير» باب: سورة القيامة (4927) ، (8/ 549) ، باب:
إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (4928) .
(5) ذكره ابن عطية (5/ 405) ، وابن كثير (4/ 449) بنحوه.
(5/522)
كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
[سورة القيامة (75) : الآيات 20 الى 25]
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25)
وقوله تعالى: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ أي: الدنيا وشهواتِها قال الغزاليُّ في «الإحياء» : اعلم أَنَّ رأس الخطايا المهلكة هو حُبُّ الدنيا، ورأسَ أسبابِ النجاة هو التجافي بالقلب عن دار الغرور، وقال رحمه اللَّه: اعلم أَنَّهُ لا وصولَ إلى سعادة لقاء اللَّه سبحانه في الآخرة إلاَّ بتحصيل محبته والأُنْسِ به في الدنيا، ولا تحصلُ المحبة إلاَّ بالمعرفة، ولا تحصل المعرفةُ إلاَّ بدوام الفكر، ولا يحصل الأُنْسُ إلاَّ بالمحبة ودوام الذكر، ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلاَّ بانقلاع حُبِّ الدنيا من القلب، ولا ينقلع ذلك إلاَّ بترك لَذَّاتِ الدنيا وشهواتها، ولا يمكن تركُ المشتهيات إلاَّ بقمع الشهوات، ولا تَنْقَمِعُ الشهواتُ بشيء كما تنقمعُ بنار الخوف المُحْرِقَة لِلشهوات، انتهى.
وقرأ ابن كثير «1» وغيره: «يُحِبُّونَ» و «يَذَرُونَ» بالياء على ذكر الغائب، ولما ذكر سبحانه الآخرة، أخبر بشيء من حال أهلها فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ أي: ناعمة، والنُّضْرَةُ: النعمة وجمال البشرة قال الحسن: وحُقَّ لها أن تُنَضَّر وهي تنظر إلى خالقها «2» .
وقوله تعالى: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ حمل جميع أهل السُّنَّةِ هذه الآية على أَنَّها متضمنة رؤية المؤمنين لله عز وجل بلا تكييف ولا تحديد/ كما هو معلوم موجود، لا يشبه الموجودات، كذلك هو سبحانه مَرْئِيٌّ لا يشبه المَرْئِيَّاتِ في شيء فإِنَّه ليس كمثله شيء لا إله إلاَّ هو، وقد تقدم استيعاب الكلام على هذه المسألة، وما في ذلك من صحيح الأحاديث، والباسرة: العابسة المغمومة النفوس، والبسور: أشد العُبُوسِ، وإنَّما ذكر تعالى الوجوه لأَنَّهُ فيها يظهر ما في النفس من سرور أو غَمٍّ، والمراد أصحاب الوجوه، والفاقرة: المصيبة التي تكسر فَقَارِ الظهر وقال أبو عبيدة: هي من فَقَرْتُ [البعير] إذا وسمت أنفه بالنار «3» .
__________
(1) وقرأ بها أبو عمرو، وابن عامر، ويعقوب.
ينظر: «إعراب القراءات» (2/ 416) ، و «معاني القراءات» (3/ 106) ، و «شرح الطيبة» (6/ 81) ، و «العنوان» (200) ، و «حجة القراءات» (736) ، و «شرح شعلة» (614) ، و «إتحاف» (2/ 574) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 343) رقم (35654) ، وذكره البغوي (4/ 424) ، وابن عطية (5/ 405) ، وابن كثير (4/ 450) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 405) .
(5/523)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
[سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 30]
كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30)
وقوله تعالى: كَلَّا إِذا بَلَغَتِ ... زجر وتذكير أيضاً بموطن من مواطن الهول، وهي حالة الموت الذي لا محيد عنه، وبَلَغَتِ يريد: النفس والتَّراقِيَ جمع تَرْقُوَةٍ، وهي عظام أعلى الصدر، ولكل أحد تَرْقُوَتَانِ، لكن جُمِعَ من حيثُ أَنَّ النفس المرادةَ اسمُ جنس، والتراقي هي موارية للحلاقيم، فالأمر كله كناية عن حال الحَشْرَجَةِ ونزع الموت- يَسَّرَهُ اللَّه علينا بِمَنِّهِ، وجعله لنا راحةً من كل شَرٍّ- واخْتُلِفَ في معنى قوله تعالى: وَقِيلَ مَنْ راقٍ
فقال ابن عباس وجماعة: معناه: مَنْ يُرْقِي، ويَطُبُّ، ويَشْفِي «1» ، ونحو هذا مِمَّا يتمناه أهل المريض، وقال ابن عباس أيضاً، وسليمانُ التَّيْمِيُّ، ومقاتل: هذا القول للملائكة، والمعنى: مَنْ يرقى بروحه، أي: يصعد بها إلى السماء أملائكة الرحمة، أم ملائكة العذاب «2» .
وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ أي: أيقن، وهذا يقين فيما لم يَقَعْ بعد ولذلك اسْتُعْمِلَتْ فيه لَفْظَةُ الظن.
وقوله تعالى: وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ قال ابن المُسَيِّبِ، والحسن: هي حقيقة، والمراد: ساقا المَيِّتِ عند تكفينه، أي: لَفَّهُمَا الكَفَنُ «3» ، وقيل: هو التفافهما من شدة المرض، وقيل غير هذا.
[سورة القيامة (75) : الآيات 31 الى 33]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
وقوله تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى الآية: قال جمهور المتأولين: هذه الآية كلها إنَّما نزلت في أبي جهل قال- عليه السلام «4» : ثم كادت هذه الآية أَنْ تُصَرِّحَ به في قوله:
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 406) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 477) ، وعزاه لعبد بن حميد عن ابن عبّاس بنحوه.
(2) أخرجه الطبري (12/ 346) ، رقم: (35682) ، وذكره ابن عطية (5/ 406) ، وابن كثير (4/ 451) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 477) ، وعزاه لابن أبي الدنيا في ذكر الموت، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس بنحوه.
(3) أخرجه الطبري (12/ 348) ، رقم: (35706- 35707) ، وذكره البغوي (4/ 425) ، وابن عطية (5/ 406) ، وابن كثير (4/ 451) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 478) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن الحسن.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 406) .
(5/524)
أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
يَتَمَطَّى فإنَّها كانت مشيته، وقوله: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى تقديره: فلم يُصَدِّقْ ولم يُصَلِّ ف «لا» في الآية: نفي لا عاطفة.
- ص-: فَلا صَدَّقَ فيه دليل على أَنَّ «لا» تدخل على الماضي فتنفيه كقول الراجز: [من الرجز]
إنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِر جَمَّا ... وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لاَ أَلَمَّا «1»
انتهى.
وصَدَّقَ معناه: برسالة اللَّه ودينه، وذهب قوم إلى أنّه من الصدقة، والأول أصوب ويَتَمَطَّى معناه: يمشي المَطيطاء، وهي مشية بتبختر، وهي مؤخوذة من المَطا وهو الظهر لأَنَّهُ يتثنى فيها، زاد- ص-: وقيل: أصله يتمطط، أي: يتمدد في مشيه ومدّ منكبيه، انتهى.
[سورة القيامة (75) : الآيات 34 الى 40]
أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38)
فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)
وقوله: أَوْلى لَكَ: وعيد.
فَأَوْلى وعيد ثانٍ، وكرَّر ذلك تأكيداً، ومعنى أَوْلى لَكَ الازدجار والانتهار، والعرب تستعمل هذه الكلمة زجراً ومنه فأولى لهم طاعة، ويروى أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَبَّبَ أَبَا جَهْلٍ يَوْماً في البَطْحَاءِ وَقَالَ لَهُ: «إنَّ اللَّهَ يَقُولُ لَكَ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى» فنزل القرآن على نحوها «2» وفي شعر الخنساء: [المتقارب]
__________
(1) لأبي خراش في «الأزهية» ص: (158) ، و «خزانة الأدب» (7/ 190) ، و «شرح أشعار الهذليين» (3/ 1346) ، و «شرح شواهد المغني» ص: (625) ، و «لسان العرب» (12/ 104) (جمم) ، و «المقاصد النحويّة» (4/ 216) ، ولأمية بن أبي الصلت في «الأغاني» (4/ 131، 135) ، و «خزانة الأدب» (4/ 4) ، و «لسان العرب» (12/ 553) (لمم) ، ولأمية أو لأبي خراش في «خزانة الأدب» (2/ 295) ، و «لسان العرب» (12/ 549) (لمم) ، وبلا نسبة في «الإنصاف» ص: (76) ، و «جمهرة اللغة» ص: (92) ، و «الجنى الداني» ص: (298) ، و «لسان العرب» (15/ 467) (لا) و «مغني اللبيب» (1/ 244) .
(2) أخرجه النسائي في «الكبرى» (6/ 504) ، كتاب «التفسير» باب: قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (11638/ 2) ، والحاكم (2/ 510) ، وابن جرير في «تفسيره» (12/ 351) (35734) نحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 479) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، والطبراني.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. [.....]
(5/525)
هَمَمْتُ بِنَفْسِيَ كُلَّ الْهُمُومِ ... فأولى لِنَفْسِيَ أولى لها «1»
وقوله تعالى: أَيَحْسَبُ: توبيخ وسُدىً: معناه: مُهْمَلاً لا يُؤْمَرُ ولا يُنْهَى، ثم قَرَّر تعالى أحوال ابن آدم في بدايته التي إذا تأمّلت لَم/ يُنْكِرْ معها جوازَ البعث من القبور عاقلٌ، والعَلَقَةُ القطعة من الدم.
فَخَلَقَ فَسَوَّى أي: فخلق اللَّه منه بشراً مركباً من أشياء مختلفة، فسواه شخصا مستقلا، والزَّوْجَيْنِ: النوعين، ثم وقف تعالى توقيفَ توبيخ بقوله: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى روي: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية قال: بَلَى، ورُوِيَ أَنَّه كَانَ يَقُولُ: «سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، بلى» «2» انظر «سنن أبي داود» .
__________
(1) ينظر: البيت في «الديوان» (82) ، و «الدر المصون» (6/ 433) .
(2) تقدم تخريجه في أول التفسير.
(5/526)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)
تفسير سورة «الإنسان»
قيل: مكّيّة، وقيل: مدنيّة وقال الحسن وعكرمة: منها آية مكية «1» ، وهي [قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً والباقي مدنيّ.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5)
[قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ ... الآية، هَلْ في كلام العرب قد تجيء] «2» بمعنى قَدْ حكاه سيبويه، لكنها لا تخلو من تقرير، وبابُها المشهورُ الاستفهام المَحْضُ، والتقرير أحياناً قال ابن عباس: «هل» بمعنى «قد» ، والإنسان يراد به آدم «3» ، وقال أكثر المتأولين: «هل» تقرير، الإنسان: اسم جنس، أي: إذا تَأَمَّلَ كُلُّ إنسان نفسه علم بِأَنَّه قد مَرَّ حِينٌ من الدهر عظيم لم يكن فيه شيئاً مذكوراً، وهذا هو القوي أَنَّ الإنسان اسم جنس، وأَنَّ الآية جُعِلَتْ عبرةً لكل أحد من الناس لِيُعْلَمَ أَنَّ الخالق له قادر على إِعادته.
- ص-: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً في موضع حال من الْإِنْسانِ أو في موضع صفة ل حِينٌ والعائد عليه محذوف، أي: لم يكن فيه، انتهى.
وقوله تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ ... الآية، الإنسان هنا: اسم جنس بلا خلافٍ، وأمشاج معناه: أخلاط قيل: هو أَمْشاجٍ ماءِ الرجل بماءِ المرأة، ونقل الفخر أنّ
__________
(1) ذكره البغوي (4/ 426) ، وابن عطية (5/ 408) .
(2) سقط في: د.
(3) ذكره ابن عطية (5/ 408) .
(5/527)
عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
الأمشاج لفظٌ/ مفرد، وليس يُجْمَعُ، بدليل أَنَّه وقع صفةً للمفرد، وهو قوله: نُطْفَةٍ، انتهى.
نَبْتَلِيهِ أي: نختبره بالإيجاد والكون في الدنيا، وهو حال من الضمير في خَلَقْنَا كأَنَّه قال: مختبرين له بذلك.
وقوله تعالى: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً عَطْفُ جملة نِعَم على جملة نِعَمٍ، وقيل:
المعنى: فلنبتليه جعلناه سميعاً بصيراً وهَدَيْناهُ: يحتمل: أنْ يكون بمعنى أرشدناه، ويحتمل: أنْ يكون بمعنى أريناه، وليس الهدى في هذه الآية بمعنى خلق الهدى والإيمان، وعبارة الثَّعْلَبِيِّ: هَدَيْناهُ السَّبِيلَ بَيَّنَا له وَعَرَّفْنَاهُ طريقَ الهدى والضلال، والخير والشر كقوله: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد: 10] انتهى.
وقوله تعالى: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حالان، وقسمتهما إِمَّا، والْأَبْرارَ:
جمع بَارٍّ قال الحسن: هم الذين لا يؤذون الذَّرَّ، ولا يرضون الشرَّ «1» ، قال قتادة: نعم قوم يمزجُ لهم بالكافور، ويُخْتَمُ لهم بالمسك «2» ، قال الفرَّاء: يقال إِنَّ في الجنة عينا تسمى كافورا.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 6 الى 8]
عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8)
وقوله تعالى: عَيْناً قيل: هو بدل من قوله: كافُوراً وقيل: هو مفعول بقوله:
يَشْرَبُونَ أي: ماءُ هذه العين من كأس عَطِرَةٍ كالكافور، وقيل: نصب عَيْناً على المدح أو بإضمار «أعني» .
قوله تعالى: يَشْرَبُ بِها بمنزلة [يشربها] ، فالباء زائدة قال الثعلبيُّ: قال الواسطي: لَمَّا اختلفت أحوالهم في الدنيا اختلفت أشربتهم في الآخرة، انتهى.
قال- ص-: وقيل: الباء في بِها للإلصاق والاختلاط، أي: يشرب بها عباد اللَّه الخمرَ كما تقول: شَرِبْتُ الماءَ بالعسل، انتهى.
وقوله تعالى: يُفَجِّرُونَها معناه: يفتقونها ويقودونها حيث شاؤوا/ من منازلهم
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 409) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 357، 358) ، رقم: (35767) ، وذكره البغوي (4/ 426) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 483) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة بنحوه.
(5/528)
وقصورهم، فهي تجري عند كُلِّ أحد منهم، ورُدَّ بهذا الأثر، وقيل: عين في دار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تفجر إلى دُورِ الأنبياء والمؤمنين قال ع «1» : وهذا قول حسن، ثم وصف تعالى حال الأبرار فقال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً أي: ممتدًّا مُتَّصِلاً شائعاً.
وقوله تعالى: عَلى حُبِّهِ يحتمل أنْ يعودَ الضمير على الطعام، وهو قول ابن عباس «2» ، ويحتمل أنْ يعودَ على اللَّه تعالى قاله أبو سليمان الدَّارانيُّ «3» .
وقوله: وَأَسِيراً قال الحسن: ما كان أسراهم إلاَّ مشركين لأَنَّ في كل ذي كبد رطبة أجراً «4» .
ت: وفي «العتبيةِ» سُئِلَ مالك عن الأسير في هذه الآية أمسلم هو أم مشرك، فقال: بل مشرك، وكان ببدر أسارى، فأنزلت فيهم هذه الآية فقال ابن رشد: والأظهر حمل الآية على كل أسير، مسلماً كان أو كافراً، انتهى يعني: وإنْ كان سبب نزولها ما ذكر فهي عامَّةٌ في كُلِّ أسير إلى يوم القيامة، وقال أبو سعيد الخُدْرِيُّ: قال النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم:
«مِسْكِيناً [قال:] فَقِيراً وَيَتِيماً قال: لا أَبَ لَهُ وَأَسِيراً قال: المَمْلُوكُ والمَسْجُونُ» «5» ، وأسند القُشَيْرِيُّ في رسالته عن مالك، عن نافع، عنِ ابن عمر، عن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لِكُلِّ شَيْءٍ مِفْتَاحٌ، وَمِفْتَاحُ الجَنَّةِ حُبُّ المَسَاكِينِ، والفُقَرَاءُ الصُّبَّرُ هُمْ جُلَسَاءُ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» «6» انتهى.
وروى الترمذيُّ عن أنس أَنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللَّهُمَّ، أحْيِنِي مِسْكِيناً، وأَمِتْنِي مِسْكِيناً، واحشرني في زُمْرَةِ المَسَاكِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قالَ: إنَّهُمْ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفاً، / يَا عَائِشَةُ، لاَ تَرُدِّي الْمِسْكِينَ، وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، يَا عَائِشَةُ، أَحِبِّي المَسَاكِينَ وَقَرِّبِيهِمْ، فَإنَّ اللَّهَ يُقَرِّبُكِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . قال أبو عيسى:
هذا حديث غريب «7» ، انتهى.
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 410) .
(2) ذكره ابن عطية (5/ 410) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 410) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 360) ، رقم (35782) ، وذكره البغوي (4/ 428) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 484) ، وعزاه لسعيد بن المنصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن مردويه عن الحسن بنحوه.
(5) ينظر: «الدر المنثور» (6/ 485) .
(6) ينظر: «كنز العمال» (6/ 469) ، رقم: (16587) .
(7) أخرجه الترمذي (4/ 577، 578) ، كتاب «الزهد» باب: ما جاء أن فقراء المهاجرين يدخلون الجنة قبل [.....]
(5/529)
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)
[سورة الإنسان (76) : الآيات 9 الى 19]
إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13)
وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18)
وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19)
__________
أغنيائهم (2352) ، والبيهقي (7/ 12) ، كتاب «الصدقات» باب: ما يستدل به على أن الفقير أمسّ حاجة من المسكين.
قال الترمذي: هذا حديث غريب- يعني: ضعيف، وهو مصطلح خاص به.
وفي الباب من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أخرجه الحاكم (4/ 322) ، وابن ماجه (2/ 1381) ، كتاب «الزهد» باب: مجالسة الفقراء (4126) ، والخطيب (4/ 111) (1770) ، قال العجلوني في «كشف الخفاء» (1/ 206- 207) : رواه الترمذي، وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري، قال أحبوا المساكين، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقوله في دعائه، ورواه الطبراني عن عطاء بسند ضعيف بلفظ:
«اللهم توفني إليك فقيرا، ولا توفني غنيا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» ، وأخرجه الحاكم في «مستدركه» بزيادة «وإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة» ، وقال صحيح الإسناد، ورواه البيهقي في «الشعب» عن أبي سعيد بلفظ: «يا أيها الناس لا يحملنكم العسر على أن تطلبوا الرزق من غير حله» ، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول، وذكره بالزيادة المذكورة، وله شواهد، فرواه الترمذي والبيهقي في «الشعب» بسند فيه منكر عند بعضهم عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم أحيني مسكينا، وأمتني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة» ، فقالت عائشة: لم يا رسول الله؟ قال: «إنهم يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بأربعين خريفا، يا عائشة لا تردي المسكين ولو بشقّ تمرة، يا عائشة أحبي المساكين وقربيهم فإن الله يقربك يوم القيامة» ، وقال: إنه غريب، ورواه الطبراني في «الدعاء» بسند رجاله ثقات عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم أحيني مسكينا، وتوفني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين» ، ومع وجود هذه الطرق لا يحسن الحكم عليه بالوضع، وقال في «الدرر» رواه الترمذي عن أنس، وابن ماجه عن أبي سعيد عن أبي عبادة، وادعى ابن الجوزي، وابن تيمية أنه موضوع، وليس كما قالا انتهى، وقال ابن حجر في «التحفة» إن الحديث ضعيف ومعارض بما روي أنه صلّى الله عليه وسلّم استعاذ من المسكنة، وفسّرت المسكنة المسئولة بسكون القلب، وفسر شيخ الإسلام زكريا هذا الحديث فقال معناه طلب التواضع والخضوع، وأن لا يكون من الجبابرة المتكبرين والأغنياء المترفين، وقال البوصيري في «الزوائد» (3/ 275) . هذا إسناد ضعيف، أبو المبارك لا يعرف اسمه وهو مجهول ويزيد بن سنان التيمي أبو فروة ضعيف رواه أبو بكر بن أبي شيبة في «مسنده» هكذا.
ورواه عبد بن حميد في «مسنده» ، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو خالد الأحمر فذكره بإسناده ومتنه.
ورواه الحاكم في «المستدرك» من طريق خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه به، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد.
قلت: ورواه البيهقي في «سننه الكبرى» عن الحاكم به.
وله شاهد من حديث عبادة بن الصامت، ومن حديث أنس بن مالك، رواه البيهقي في «الكبرى» .
ورواه ابن الجوزي في «الموضوعات» من طريق أبي خالد الأحمر.
(5/530)
وقولَه: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ ... الآية، قال مجاهد، وابن جبير: ما تكلموا به، ولكنه علمه اللَّه من قلوبهم، فأثنى عليهم ليرغب في ذلك راغب «1» ، وَوَصْفُ اليوم بِعَبُوسٍ تَجُوُّزٌ، والقَمْطَرِيرُ: هو في معنى العبوس والإرْبِدَاد تقول: اقمطر الرَّجُلُ: إذا جمع ما بين عَيْنَيْهِ. غضباً، وقال ابن عباس: يعبس الكافر يومئذ حتى يسيلَ ما بين عينيه كالقَطِرَانِ «2» ، وَعَبَّرَ ابن عباس عن القمطرير بالطويل «3» ، وعَبَّرَ عنه غيره بالشديد وذلك كله قريب في المعنى، والنضرة: جمال البشرة وذلك لا يكون إلاَّ مع فرح النفس وقرة العين.
وقوله: بِما صَبَرُوا عامٌّ في الصبر عنِ الشهوات وعلى الطاعات والشدائد، وفي هذا يدخل كُلُّ ما خصص المفسرون من صوم، وفقر، ونحوه.
وقوله سبحانه: لاَ يَرَوْنَ فِيها شَمْساً ... الآية، عبارةٌ عن اعتدال هوائها وذَهَابِ ضَرَرِيِ الحَرِّ والقَرِّ، والزَّمْهَرِير: أَشَدُّ البرد، والقطوف: جمع قطف وهو العنقود من النخل والعنب ونحوه، والقوارير: الزجاج.
وقوله تعالى: مِنْ فِضَّةٍ يقتضي أَنَّها من زجاج ومن فضة، وذلك متمكن لكونه من زجاج في شفوفه ومن فضة في جَوْهَرِهِ، وكذلك فضة الجنةِ شفَّافة، [قال القرطبيُّ في «تذكرته» : وذلك أَنَّ لكل قومٍ من تراب أرضهم قَوَارِيرَ، وأَنَّ ترابَ الجنة فضة، فهي قوارير من فضة قاله ابن عباس «4» ، انتهى] «5» .
وقوله تعالى: قَدَّرُوها تَقْدِيراً أي: على قَدْرِ رِيِّهِمْ قاله مجاهد «6» ، أو على قدر الأَكُفِّ قاله الربيع «7» ، وضمير قَدَّرُوها يعود إمَّا على الملائكة، أو على الطائفين، أو على المنعمين.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 361) ، رقم: (35787، 35788) ، وذكره البغوي (4/ 428) ، وابن كثير (4/ 455) بنحوه
(2) أخرجه الطبري (12/ 361) ، رقم: (35789) ، وذكره ابن عطية (5/ 411) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 362) ، رقم: (35800) ، وذكره ابن عطية (5/ 411) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 365) ، رقم: (35817) ، وذكره ابن كثير (4/ 456) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 487) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في «البعث» من طريق عكرمة، عن ابن عبّاس بنحوه.
(5) سقط في: د.
(6) أخرجه الطبري (12/ 366) ، رقم: (35831) ، وذكره ابن عطية (5/ 412) ، وابن كثير (4/ 456) .
(7) ذكره ابن عطية (5/ 412) ، وابن كثير (4/ 456) .
(5/531)
وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
وقوله سبحانه: عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا «عيناً» بدل من «كأس» أو من «عين» على القول الثاني، وسَلْسَبِيلًا قيل: هو اسم بمعنى/ السَّلِسُ المنقاد الجرية، وقال مجاهد:
حديدة الجرية «1» ، وقال آخرون: سَلْسَبِيلًا صفة لقوله: عَيْناً وتُسَمَّى بمعنى تُوْصَفُ وتشهر، وكونه مصروفاً مما يؤكد كونه صفة للعين لا اسماً.
وقوله تعالى: حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً قال الإمام الفخر «2» : وفي كيفية التشبيه وجوه:
أحدها: أَنَّهُم شُبِّهُوا في حسنهم، وصفاء ألوانهم، وانبثاثهم في مجالسهم ومنازلهم في أنواع الخدمة- باللؤلؤ المنثورِ، ولو كانوا صفًّا لَشُبِّهُوا باللؤلؤ المنظوم أَلاَ ترى أَنَّهُ تعالى قال: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين.
الثاني: أَنَّ هذا من التشبيه العجيب لأَنَّ اللؤلؤ إذا كان متفرقاً يكون أحسنَ في المنظر لوقوع شعاع بعضه على بعض.
الثالث: أَنَّهم شُبِّهُوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه لأَنَّه أحسن وأجمل، انتهى.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 20 الى 22]
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)
وقوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ قال الفَرَّاءُ: التقدير: وَإِذا رأيت ما ثَمَّ رأيت نعيماً، فحُذِفَتْ «ما» وكُرِّرَتِ الرؤية مبالغةً وَمُلْكاً كَبِيراً: وهو أَنَّ أدناهم منزلةً ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أَقصاه كما يرى أدناه، وخرَّجَهُ الترمذيُّ، وفي التِّرْمِذِيِّ أيضاً من رواية أبي سعيدٍ الخدريِّ قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «أدنى أَهْلِ الجَنَّةِ الَّذِي لَهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ خَادِمٍ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً، وَتُنْصَبُ لَهُ قُبَّةٌ مِنْ لُؤلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ كَمَا بَيْنَ الجَابِيَةِ إلى صَنْعَاءَ» «3» انتهى، وقال سفيان: الملك الكبير هو استئذان الملائكة، وتسليمهم عليهم،
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 368) ، رقم: (35843- 35844، 35846) ، وذكره البغوي (4/ 430) ، وابن عطية (5/ 413) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 488) ، وعزاه لعبد الرزاق وسعيد بن منصور، وهناد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي عن مجاهد.
(2) ينظر: «الفخر الرازي» (30/ 222) .
(3) أخرجه الترمذي (4/ 695) ، كتاب «صفة الجنة» باب: ما جاء ما لأدنى أهل الجنة من الكرامة (2562) .
قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث رشدين.
(5/532)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
وتعظيمُهم لهم، قال الثعلبيُّ: قَال محمد «1» بن علي الترمذي: يعني ملك التكوين إذا أرادوا شيئاً كان، انتهى.
ت: وجميع ما ذكر داخل في الملك/ الكبير، وقرأ نافع وحمزة: «عَالِيهِمْ» وقرأ الباقون «2» : «عَالِيَهُمْ» بالنصب، والمعنى: فوقهم، قال الثعلبيُّ: وتفسير ابن عباس قال: أما رأيتَ الرجل عليه ثياب يعلوها أفضلُ منها «3» ، انتهى، وقرأ حمزة والكسائيُّ:
«خُضْرٍ وَإسْتَبْرَقٍ» بالخفض فيهما «4» ، وباقي الآية بيّن.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 26]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26)
وقوله سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ ... الآية تثبيت للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتقوية لنفسه على أذى قريش، والآثم هنا هو الكفور، واللفظ أيضاً يقتضي نهيَ الإمام عن طاعة آثم من العُصَاةِ أو كفور باللَّه، ثم أمره تعالى بذكر ربه دأباً بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ:
بالسجود والتسبيح الذي هو الصلاة، ويحتمل أنْ يريد قول: سبحانَ اللَّهِ، قال ابن زيد وغيره: كان هذا فرضاً ثم نُسِخَ «5» ، وقال آخرون: هو مُحْكَمٌ على وجه الندب، وقال ابن العربيِّ في «أحكامه» : أَمَّا قوله تعالى: وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا فإنَّهُ عبارة عن قيام الليل، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يفعله كما تقدم، وقد يحتمل أنْ يكون هذا خطابا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد الجميعُ، ثم نُسِخَ عَنَّا، وبَقِيَ عليه صلّى الله عليه وسلّم، والأول أظهر، انتهى.
[سورة الإنسان (76) : الآيات 27 الى 28]
إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28)
__________
(1) في د: مجاهد.
(2) وقرأ بها أبان عن عاصم.
ينظر: «السبعة» (664) ، و «الحجة» (6/ 354) ، و «إعراب القراءات» (2/ 422) ، و «معاني القراءات» (3/ 109) ، و «شرح الطيبة» (6/ 88) ، و «العنوان» (201) ، و «حجة القراءات» (739) ، و «شرح شعلة» (616) ، و «إتحاف» (2/ 578) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 414) . [.....]
(4) ينظر: «السبعة» (665) ، و «الحجة» (6/ 357) ، و «إعراب القراءات» (2/ 422) ، و «معاني القراءات» (2/ 109) ، و «شرح الطيبة» (6/ 88- 89) ، و «حجة القراءات» (740) ، و «شرح شعلة» (616) ، و «إتحاف» (2/ 578) .
(5) ذكره القرطبي (19/ 97) ، وأبو حيان في «البحر المحيط» (8/ 393) ، وابن عطية (5/ 414) .
(5/533)
وقوله: إِنَّ هؤُلاءِ يعني كُفَّارَ قريشٍ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ يعني: الدنيا، واعلمْ أَنَّ حُبَّ الدنيا رأسُ كل خطيئة، وفي الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ازْهَدْ في الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وازهد فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ» «1» رواه ابن ماجه وغيره بأسانيدَ حَسَنَةٍ، قال ابن الفاكهانيِّ: قال القاضي أبو الوليد بن رشد: وأَمَّا الباعث على الزهد فخمسة أشياء:
أحدها: أنَّها فانية شاغلة للقلوب عن التفكر في أمر اللَّه تعالى.
والثاني: أَنَّها تنقص عند اللَّه/ درجات من ركن إليها.
والثالث: أَنَّ تركها قربة من اللَّه تعالى وعلُوُّ مرتبة عنده في درجات الآخرة.
والرابع: طول الحبس والوقوف في القيامة للحساب والسؤال عن شكر النعيم.
والخامس: رضوان اللَّه تعالى والأمن من سخطه، وهو أكبرها قال الله عز وجل:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] قال ابن الفاكهاني: ولو لم يكن في الزهد في الدنيا إلاَّ هذه الخصلة التي هي رضوانُ اللَّه تعالى- لكان ذلك كافياً-، فنعوذ باللَّه من إيثار الدنيا على ذلك، وقد قيل: من سُمِّيَ باسم الزهد فقد سُمِّيَ بألف اسم ممدوح، هذا مع ما للزاهدين من راحة القلب والبدن في الدنيا والآخرة، فالزُّهَّادُ هم الملوك في الحقيقة، وهم العقلاء لإيثارهم الباقي على الفاني، وقد قال الشافعية: لو أوصى لأعْقَل الناس صُرِفَ إلى الزهاد، انتهى من «شرح الأربعين حديثاً» ، ولفظ أبي الحسن الماوردِيِّ: وقد قيل: العاقل مَنْ عقل من اللَّه أمره ونهيه حتَّى قال أصحاب الشافعيِّ فيمن أوصى بثلث ماله: لأَعْقَلِ الناس أَنَّه يكون مصروفاً للزُّهَّادِ لأنهم انقادوا للعقل، ولم يغتروا بالأمل، انتهى، والأَسْر الخلقة واتساق الأعضاء والمفاصل، وعبارة البخاريِّ: أَسْرَهُمْ: شِدَّةُ الخلق، وكل شيء شددته من قتب أو غبيط فهو مأسور، والغبيط شيء يركبه النساء شبه المحفة، انتهى قال ع «2» : ومن اللفظة: الإسارُ، وهو القيد الذي يُشَدُّ به الأسير، ثم تَوَعَّدَهُم سبحانه بالتبديل، وفي الوعيد بالتبديل احتجاج على مُنْكِرِي البعث، أي: مَنْ هذه قدرته في الإيجاد والتبديل فكيف تتعذر عليه الإعادة؟!.
وقال الثعلبيُّ: بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا قال ابن عباس: يقول: أهلكناهم، / وجئنا بأطوعَ للَّهِ منهم، انتهى «3» .
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 415) .
(3) ذكره القرطبي (19/ 99) .
(5/534)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
[سورة الإنسان (76) : الآيات 29 الى 31]
إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)
وقوله تعالى: إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ القول فيها كالتي في سورة المزمل.
وقوله سبحانه: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا كلام واضح لا يفتقر إلى تفسير، جعلنا اللَّه ممن اهتدى بأنواره، وعَمَّتْ عليه بركتُه في أفعاله وأقواله قال الباجِيُّ: قال بعض أهل داود الطائيِّ: قلت له يوماً: إنَّك قد عرفت فأوصني، قال: فَدَمِعَتْ عيناه ثم قال: يا أخي، إنَّما الليلُ والنهار مراحلُ يرحلُها الناس مرحلةً مرحلةً، حَتَّى تنتهي بهم إِلى آخر سفرهم، فإنِ استطعت أَنْ تُقَدَّمَ من أَوَّلِ مرحلة زاداً لما بين يديك فافعل فإنَّ انقطاع السفر قريب، والأمر أعجل من ذلك فتزوَّدْ لسفرك، واقْضِ ما أنت قاضٍ من أمرك، فكأَنَّ بالأمر قد بَغَتَكَ، ثم قام وتركني، انتهى من «سنن الصالحين» .
وقوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ: نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في نفوسهم، ولا يَرُدُّ هذا وجود مالهم من الاكتساب، وقرأ عبد اللَّه «1» : «وَمَا تَشَاءُونَ إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ» .
وقوله تعالى: عَلِيماً حَكِيماً معناه: يعلم ما ينبغي أَنْ ييسر عبدَه إليه، وفي ذلك حكمة لا يعلمها إلّا هو سبحانه.
__________
(1) ينظر: «الشواذ» ص: (167) ، و «الكشاف» (4/ 676) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 415) ، و «البحر المحيط» (8/ 393) .
(5/535)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)
تفسير سورة «المرسلات»
[وهي] مكّيّة في قول الجمهور وقيل: فيها من المدني قوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ قال ابن مسعود: نزلت هذه السورة ونحن مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بحراء ... الحديث «1» .
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6)
قوله تعالى: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً يعني: الرياح يَتْبَعُ بعضُها بعضاً، قاله ابن عباس، وابن مسعود، ومجاهد، وقتادة «2» ، وقيل: المرسلات: الملائكة، وقيل: جماعات الأنبياء، وعُرْفاً معناه: إفضالاً من اللَّه تعالى، ويحتمل أنْ يريدَ بقوله: عُرْفاً أي:
متتابعةً، ويحتمل أنْ يريد/ بالأمر المعروف، ويحتمل أنْ يكونَ عُرْفاً بمعنى، والمرسلات: الرياح التي يعرفها الناس ويعهدونها، ثم عَقَّبَ بذكر الصنف الضَّارِّ منها، وهي العاصفات الشديدة القاصفة للشجر وغيره، واخْتُلِفَ في قوله: وَالنَّاشِراتِ فقال ابن مسعود، والحسن، ومجاهد، وقتادة: هي الرياح تَنْشُرُ رحمة اللَّه ومطره «3» ، وقيل:
الملائكة، وقيل غير هذا، والفارقات قال ابن عباس وغيره: هي الملائكة تَفْرُقُ بين الحقّ
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 416) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 491) ، وعزاه للحاكم، وصححه ابن مردويه عن ابن مسعود بنحوه.
(2) أخرجه الطبري (12/ 377) ، رقم: (35880- 35881- 35882- 35883، 35885، 35888) ، وذكره ابن عطية (5/ 416) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 492) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن أبي العبيدين عن ابن مسعود، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة بنحوه.
(3) أخرجه الطبري (12/ 380) ، رقم: (35910، 35914، 35917) ، وذكره البغوي (4/ 432) ، وابن عطية (5/ 417) .
(5/536)
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
والباطل والحلال والحرام «1» ، وقيل: هي آيات القرآن، وأَمَّا الملقيات ذكراً فهي في قول الجمهور الملائكة، وقال آخرون: هي الرسل، والذكر: الكتب المُنَزَّلَةُ والشرائع ومضمناتها، والمعنى: أَنَّ الذكر يلقى بإعذار وإنذار.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 7 الى 15]
إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
وقوله تعالى: إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ هو الجواب الذي وقع عليه القَسَمُ، والإشارة إلى البعث وأحوال القيامة، والطَّمْسُ محو الأثر، فطمس النجوم: ذَهَابُ ضوءها، وفرج السماء: هو بانفطارها وانشقاقها.
وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أي: جُمِعَتْ لميقاتِ يوم معلوم، وقرأ أبو عمرو وحده «2» :
«وُقِّتَتْ» والواو هي الأصل لأَنَّها من الوقت، والهمزة بدل قال الفَرَّاءُ: كل واو انضمت وكانت ضمتها لازمة، جاز أنْ تُبْدَلَ منها همزة، انتهى.
وقوله تعالى: لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ تعجيب وتوقيف على عِظَمِ ذلك اليوم وهوله، ثم فسر ذلك بقوله: لِيَوْمِ الْفَصْلِ يعني: بين الخلق في منازعتهم وحسابهم ومنازلهم من جنة أو نار، ومن هذه الآية انتزع القضاة الآجالَ في الحكومات ليقعَ فصل القضاء عند تمامها، ثم عَظَّمَ تعالى يومَ الفصل بقوله: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ على نحو قوله:
وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة: 3] وغير ذلك، ثم أثبت الويل لِلْمُكَذِّبِينَ، والويل: هو الحرب والحزن على نوائب تحدث بالمرء، ويُرْوَى أَنَّه واد في جهنم.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 16 الى 37]
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20)
فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25)
أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30)
لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35)
وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37)
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 381) ، رقم: (35925) بنحوه، وذكره البغوي (4/ 432) ، وابن عطية (5/ 417) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 492) ، وعزاه لابن المنذر عن ابن عبّاس.
(2) ينظر: «السبعة» (666) ، و «الحجة» (6/ 364) ، و «إعراب القراءات» (2/ 428) ، و «معاني القراءات» (3/ 112) ، و «شرح الطيبة» (6/ 92) ، و «العنوان» (202) ، و «حجة القراءات» (742) ، و «شرح شعلة» (617) ، و «إتحاف» (2/ 580) .
(5/537)
وقوله عز وجل: أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ ... الآية، قرأ الجمهور: «نُتْبِعُهُمُ» - بضم العين- على استئناف الخبر، ورُوِيَ عن أبي «1» عمرو: «نُتْبِعْهُمُ» بجزم العين عطفاً على «نهلك» وهي قراءة الأعرج، فَمَنْ قرأ الأولى جعل الأولين الأُمَمَ التي تقدمت قريشاً بأجمعها، ثم أخبر أَنَّهُ يتبع الآخرين من قريش وغيرهم سنن أولئك إذا كفروا وسلكوا سبيلهم، ومَنْ قرأ الثانية جعل الأَوَّلِينَ قومَ نوحٍ وإبراهيمَ ومَنْ كان معهم، والآخرين قوم فرعونَ وكُلَّ مَنْ تأخَّرَ وقَرُبَ من مدّة النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ أي: في المستقبل، فيدخل هنا قريش وغيرها، وأَمَّا تكرار قوله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ في هذه السورة فقيل: ذلك لمعنى التأكيد فقط، وقيل: بل في كل آية منها ما يقتضي التصديقَ، فجاء الوعيد على التكذيب بذلك الذي في الآية، والماء المهين:
معناه الضعيف، والقرار المكين: الرَّحِمُ وبَطْنُ المرأة، والقدر «2» المعلوم: هو وقت الولادة [ومعناه] معلوم عند اللَّه، وقرأ نافع والكسائيُّ: «فَقَدَّرْنَا» - بتشديد الدال-، والباقون بتخفيفها، وهما بمعنى من القدرة والقدر ومن التقدير والتوقيت.
ت: وفي كلام ع: تلفيف، وقال غيره: فَقَدَّرْنَا بالتشديد من التقدير وبالتخفيف من القدرة، وهو حسن.
وقوله: الْقادِرُونَ يُرَجِّحُ قراءة الجماعة إلاَّ أَنَّ ابن مسعود رَوَى عنِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ فَسَّرَ «القادرون» بالمقدرين، والكِفَاتُ: الستر والوعاء الجامع للشيء بإجماع تقول: كفت الرجلُ شعره إذا جمعه بخرقة، والأرضُ تكفت الأحياءَ على ظهرها، وتكفِتُ الأموات في بطنها، وخَرَجَ الشَّعْبِيُّ إلى جنازة فنظر إلى الجبَّانة فقال: هذه كفات الموتى، ثم نظر إلى البيوت فقال: وهذه كفات الأحياء.
قال/ ع «3» : ولما كان القبر كفاتاً كالبيت، قُطِعَ من سَرَقَ منه، والرواسي:
الجبال، والشوامخ: المرتفعة، والفرات: الصافي العَذْبُ، والضمير في قوله: انْطَلِقُوا
__________
(1) وقرأ بها الأعرج كما في «المحتسب» (2/ 346) .
وينظر: «مختصر الشواذ» ص: (167) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 418) ، و «البحر المحيط» (8/ 397) ، و «الدر المصون» (6/ 456) .
(2) ينظر: «السبعة» (666) ، و «الحجة» (6/ 365) ، و «إعراب القراءات» (2/ 428) ، و «شرح الطيبة» (6/ 93) ، و «العنوان» (202) ، و «حجة القراءات» (743) ، و «شرح شعلة» (617) ، و «إتحاف» (2/ 581) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 419) . [.....]
(5/538)
هو للمُكَذِّبِينَ الذين لهم الويل، ثم بَيَّنَ المُنْطَلَقَ إليه قال عطاء: الظل الذي له ثلاث شعب هو دُخَانُ جهنم «1» ، وقال ابن عباس: هذه المخاطبة تقال يومئذ لِعَبَدَةِ الصليب «2» إذا اتَّبَعَ كُلُّ أحد ما كان يعبد، فيكون المؤمنون في ظل اللَّه ولا ظل إلاَّ ظله، ويقال لعَبَدَةِ الصليب: انطلقوا إلى ظِلِّ معبودكم، وهو الصليب له ثلاث شعب، ثم نفى تعالى عنه محاسن الظل، والضميرُ في إِنَّها لجهنم تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ أي: مثل القصور من البنيان قاله ابن عباس وجماعة من المفسرين «3» ، وقال ابن عباس أيضاً: القصر خشب كُنَّا في الجاهلية نَدَّخِرُه للشتاء «4» ، وقرأ ابن عباس «5» : «كالْقَصَر» - بفتح الصاد- جمع قَصَرَةِ وهي أعناق النخل والإبل، وقال ابن عباس: جذور النخل «6» ، واخْتُلِفَ في الجَمَالاَتِ:
فقال جمهور من المفسرين: هي جمع جِمَالٍ كرجال ورِجالات، وقال آخرون: أراد بالصُّفْرِ السود، وقال جمهور الناس: بل الصفر: الفاقعة لأَنَّها أشبه بلون الشَّرَرِ، وقال ابن عباس: الجمالات: حبال السفن، وهي الحبال العظام إذا جُمِعَتْ مستديرةً بعضها إلى بعض «7» ، وقرأ ابن عباس «8» : «جُمَالَةً» - بضم الجيم- من الجملة لا من الجمل، ثم
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 419) .
(2) ذكره ابن عطية (5/ 419- 420) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 387- 388) ، رقم: (35963- 35964- 35965) ، وذكره البغوي (4/ 434) ، وابن عطية (5/ 420) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 388) ، رقم: (35966) ، وذكره البغوي (4/ 434) ، وابن عطية (5/ 420) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 495) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، والبخاري، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والحاكم عن عبد الرحمن بن عابس عن ابن عبّاس بنحوه.
(5) وقرأ بها سعيد بن جبير.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (167) ، و «المحتسب» (2/ 346) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 420) ، و «البحر المحيط» (8/ 398) ، وزاد نسبتها إلى مجاهد، والحسن، وابن مقسم. وهي في «الدر المصون» (6/ 458) .
(6) أخرجه الطبري (12/ 388) ، رقم (35971) ، وذكره ابن عطية (5/ 420) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 495) ، وعزاه لسعيد بن منصور عن ابن عبّاس بنحوه.
(7) أخرجه الطبري (12/ 390) ، رقم: (35983- 35984- 35985) ، وذكره البغوي (4/ 435) ، وابن عطية (5/ 420) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 494) ، وعزاه لعبد الرزاق، والفريابي، والبخاري، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه، والحاكم عن عبد الرحمن بن عابس عن ابن عبّاس بنحوه.
(8) وقرأ بها أبو حيوة، والسلمي، والأعمش، وأبو بحرية، وابن أبي عبلة، ورويس.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (167) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 420) ، و «البحر المحيط» (8/ 398) ، و «المحتسب» (2/ 347) ، و «الدر المصون» (6/ 459) .
(5/539)
هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
م خاطب تعالى نبيه ع بقوله: هذا يَوْمُ لاَ يَنْطِقُونَ ... الآية، وهذا في موطنٍ خاص إذ يومُ القيامَة هو مواطن.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 38 الى 45]
هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)
وقوله تعالى: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ ... مخاطبةٌ للكفار يومئذ، ثم وقَفَهُمْ بقوله: فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ أي: إنْ كَان لَكم حيلةٌ أو مكيدَةٌ تُنْجيكم فافعلوها، ثم ذَكر سبحانه حالةَ المتقينَ وما أعَدَّ لهم، والظلالُ في الجنة: عبارةٌ عن/ تَكَاثُفِ الأَشْجَارِ وجَوْدَة المباني وإلاَّ فلاَ شَمْسَ تؤذي هناكَ حتى يكون ظل يجير من حرّها.
[سورة المرسلات (77) : الآيات 46 الى 50]
كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
وقوله تعالى: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا استئنافُ خطابٍ لقريشٍ على معنى: قل لهم يا محمد، وهذه صيغةُ أمْر معناها التهديدُ والوَعيدُ، ومن جعل هذه الآيةَ مدنيةً قَالَ هي في المنافقِينَ.
وقوله تعالى: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لاَ يَرْكَعُونَ قال قتادة والجمهور «1» ، هذه حالُ كفارِ قريش في الدنيا يدعوهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلا يُجِيبُونَ، وذِكْرُ الرُّكُوعِ عبارةٌ عن جميعِ الصلاةِ، وقيلَ: هي حكايةُ حَالِ المنافِقِينَ في الآخرةِ يَوْمَ يُدْعَوْنَ إلى السجودِ فلا يَسْتَطِيعونَ على ما تقدَّم قاله ابنُ عَبَّاس وغيره «2» .
وقوله تعالى: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ يؤيدُ أن الآيةَ كلَّها في قريشٍ، والمرادُ بالحديثِ هنا: القرآن، ورُوِيَ عَنْ يعقوبَ «3» أنه قرأ: «تُؤْمِنُونَ» بالتاء مِنْ فَوْقٍ عَلى المواجهَة، ورُويتْ عن ابن عامر.
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 421) .
(2) ينظر: المصدر السابق.
(3) ورويت عن ابن عامر.
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (167) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 422) .
(5/540)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7)
تفسير سورة النبأ
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3)
قوله عز وجل: عَمَّ يَتَساءَلُونَ أصل «عم» : «عَنْ مَا» ثُمَّ أُدْغمتِ النونُ بَعْدَ قَلْبِهَا [في الميم لاشْتِرَاكِهِما في الغُنَّة] فبقي «عما» في الخبرِ وفي الاستفهام، ثم حذفوا الألفَ في الاستفهامِ فرقاً بينَه وبين الخبر، ثم مِنَ العرب مَنْ يخففُ الميم فيقول: «عَمْ» ، وهذا الاستفهامُ ب «عم» استفهام توقيف وتعجيب، والنَّبَإِ الْعَظِيمِ قال ابن عباس وقتادة: هو الشَّرعُ الذي جاء به محمّد صلّى الله عليه وسلّم «1» ، وقال مجاهد: هو القرآن «2» خاصةً، وقال قتادة أيضاً:
هو البعثُ من القبور «3» ، والضميرُ في: يَتَساءَلُونَ لكفارِ قريشٍ ومن نَحا نَحْوَهم، وأكْثَر النحاة أن قوله: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ متعلقٌ ب يَتَساءَلُونَ، وقال الزجاج: الكلام تامُّ في قوله: عَمَّ يَتَساءَلُونَ ثُمَّ كان مقتضَى القولِ/ أن يجيبَ مجيبٌ فيقول: يتساءلونَ عن النبأ العظيم، وله أمثلة في القرآن اقتضَاها إيجازُ القرآن وبلاغتُه، واختلافُهم هو شكُّ بعضٍ وتكذيبُ بعضٍ، وقولهُم: سِحْرٌ وكهانةٌ إلى غير ذلك من باطلهم.
[سورة النبإ (78) : الآيات 4 الى 7]
كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7)
وقوله تعالى: كَلَّا سَيَعْلَمُونَ رَدّ على الكفارِ في تكذيبِهم ووعيدٌ لهم في المستقبلِ، وكَرَّرَ عليهمُ الزَّجْرَ والوعيدَ تأكيداً، والمعنى: سيعلمون عاقبةَ تكذيبِهم، ثم وقفَهُم تعالى ودَلَّهم على آياتِه، وغرائبِ مخلوقاتِه، وقدرته التي تُوجِبُ للناظرِ فيها الإقْرَارَ بالبعثِ والإيمانَ باللَّه تعالى، ت: وفي ضِمْنِ ذلكَ تَعْدِيدُ نِعَمِهِ سبحانه التي يجب
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 423) .
(2) ذكره ابن عطية (5/ 423) ، والبغوي (4/ 436) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 462) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 498) بنحوه.
(3) أخرجه الطبري (12/ 396) ، (36000) ، وذكره ابن عطية (5/ 423) ، والبغوي (4/ 436) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 462) . [.....]
(5/541)
وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
شُكْرُها، والمِهادَ: الفراشُ المُمَهَّدُ، وشَبَّه الجبالَ بالأوتادِ لأنها تمنع الأرض أن تميد بهم.
[سورة النبإ (78) : الآيات 8 الى 23]
وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12)
وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22)
لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23)
وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أي: أنواعاً، والسُّبَاتُ: السُّكُونُ، وسَبَتَ الرجلُ: معناه استراحَ، ورُوِّينَا في «سنن أبي داودَ» عن معاذِ بن جبلٍ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَبِيتُ عَلَى ذِكْرِ [اللَّهِ] طَاهِراً فَيَتَعَارُّ مِنَ الليلِ، فَيَسْأَلَ اللَّهَ تَعَالَى خَيْراً مِنْ أمُورِ الدنيا والآخِرَةِ إلاَّ أعطَاهُ اللَّه إياه» ورَوَى أبو داودَ عن بعضِ آلِ أم سلمةَ قال: كان فراشُ النبي صلّى الله عليه وسلّم نحواً مِمَّا يوضَعُ الإنْسَانُ في قبره، وكانَ المسجد عند رأسه، انتهى، ولِباساً مصدرٌ، وكأنَّ الليلَ كذلكَ مِنْ حيثُ يَغْشَى الأشخاص، فهي تلبسه وتتدرعه، والنَّهارَ مَعاشاً على حذفِ مضافٍ، أو على النَّسَبِ، والسبعُ الشدادُ: السمواتُ، والسراجُ: الشمسُ، والوهَّاج:
الحارُّ المضْطَرِمُ الاتِّقادِ المُتَعَالِي اللهبِ، قالَ ابن عباس وغيره: الْمُعْصِراتِ السحائب القاطِرة «1» ، وهو مَأْخوذٌ مِن العَصْرِ لأن السَحابَ يَنْعَصِرُ فيخرج/ منه الماءُ، وهذا قول الجمهور، والثَّجَاج: السريعُ الاندفاعِ، كما يَنْدَفِع الدمُ مِنْ عروقِ الذبيحةِ، ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم وَقَدْ قِيلَ له ما أفْضَلُ الحَجِّ؟ فقال: «العَجُّ والثَجُّ» «2» أرادَ التَّضَرّعُ إلى اللَّهِ تعالى بالدعاء
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 399) (36022) ، وذكره ابن عطية (5/ 424) ، والبغوي (4/ 437) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 462) بنحوه.
(2) أخرجه الترمذي (3/ 180) ، كتاب «الحج» باب: ما جاء في فضل التلبية والنحر. (827) ، وابن ماجه (2/ 975) ، كتاب «المناسك» باب: رفع الصوت بالتلبية (2924) ، والبيهقي (5/ 42- 43) ، كتاب «الحج» باب: رفع الصوت بالتلبية، والحاكم في «المستدرك» (1/ 450- 451) عن أبي بكر الصديق.
قال الترمذي: حديث أبي بكر حديث غريب لا نعرفه.
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وفي الباب من حديث عبد الله بن عمر: أخرجه الترمذي (5/ 225) ، كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة آل عمران رقم: (2998) ، وابن ماجه (2/ 967) ، كتاب «المناسك» باب: ما يوجب الحج، رقم: (2896) ، والدارقطني (2/ 217) ، كتاب «الحج» رقم: (10) ، والبيهقي في «الكبرى» (4/ 330) ، كتاب «الحج» باب: الرجل يطيق المشي.
قال الترمذي: هذا حديث لا نعرفه من حديث ابن عمر إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي، وقد تكلم بعض أهل الحديث في يزيد من قبل حفظه.
(5/542)
لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
الجهير، وذبح الهدي، وأَلْفافاً أي: ملتفّة الأغصان والأوراق، ويَوْمَ الْفَصْلِ هُو يوم القيامةِ، والأفواجُ: الجماعاتُ، يتلو بعضُها بعضاً، «وفُتِحَتِ السماء» بتشديد التَّاء قراءةُ نافعٍ وأبي عمرٍو وابن كثير وابن عامر، والباقون دون تشديد «1» .
وقوله تعالى: فَكانَتْ أَبْواباً قيل معناه: تَتَشَقَّقُ حتَى يكونَ فيها فُتُوحٌ كالأَبوابِ في الجدرات، وقيل: إنها تتقطعُ السماء قِطَعاً صغاراً حتى تكونَ كألواح الأَبواب، والقولُ الأول أحسَنُ، وقد قال بعض أهل العلم: تَنْفَتِح في السماء أبواب للملائِكَةِ من حيثُ ينزلونَ ويصعَدون.
وقوله تعالى: فَكانَتْ سَراباً عبارةٌ عن تلاشيها بعد كونها هباء منبثّا، ومِرْصاداً: مَوْضع الرصدِ، وقيل: مِرْصاداً بمعنى رَاصِدٍ، والأحقاب: جمع حُقُبٍ وهي المدةُ الطويلةُ من الدهر غيرَ محدودة، وقال ابن عباس وابن عمر الحُقْبُ: ثمانونَ سنةٍ «2» . وقال أبو أمامة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ثلاثون ألفَ سَنَة، وقد أكثر الناسُ في هذا، واللازمُ أنّ اللَّه تعالى أخبرَ عن الكفارِ أنهم يلبثُونَ أحْقَاباً، كلما مَرَّ حُقْبٌ جَاءَ غيره إلى غير نهاية، نجانا اللَّه من سَخَطِه، قال الحسنُ: ليسَ للأحْقَابِ عدّة إلا الخلود في النار «3» .
[سورة النبإ (78) : الآيات 24 الى 37]
لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28)
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33)
وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37)
وقوله سبحانه: لاَّ يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً ... الآية، قال الجمهورُ: البَرْدُ في الآية مَسُّ الهَوَاءِ البَاردِ، أي: لا يمسُّهم منه مَا يُسْتَلَذُّ، وقال أبو عبيدة وغيره: البردُ في الآية النوم «4» ،
__________
(1) ينظر: «السبعة» (668) ، و «الحجة» (6/ 368) ، و «إعراب القراءات» (2/ 431) ، و «معاني القراءات» (6/ 116) ، و «العنوان» (202) ، و «حجة القراءات» (745) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 583) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 404) (36053) عن ابن عبّاس، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (4/ 463) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 502) عن أبي هريرة، وعبد الله بن عمرو، وابن عبّاس.
(3) أخرجه الطبري (12/ 405) (36058) ، وذكره البغوي (4/ 438) ، وابن عطية (5/ 426) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 464) .
(4) ذكره البغوي (4/ 438) ، وابن عطية (5/ 426) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 464) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 503) .
(5/543)
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
والعَرَبُ تُسَمِّيه/ بذلكَ لأنَّه يُبَرِّدُ سورَةَ العَطَشِ، وقال ابن عباس: البردُ الشرابُ البارد المستلذّ «1» ، وقال قتادة وجماعة: الغَسَّاقُ: هو ما يسيل من أجْسَامِ أهل النارِ من صديدٍ ونحوِه «2» .
وقوله تعالى: وِفاقاً معناه لأعمالهم وكفرهم، ولا يَرْجُونَ قال أبو عبيدَة وغيره معناه: لا يَخافُونَ، وقال غيره: الرجاء هنا على بابه «3» ، وكِذَّاباً مصدرٌ، لغةٌ فصيحةٌ يَمَانِيَّة، وعن ابن عمرَ قال: ما نَزَلَتْ في أهل النار آية أشدَ مِن قوله تعالى: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً «4» ورواه أبو هريرةَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، والحدائقُ: هي البساتينُ علَيها حَلَقٌ وحظائرُ وجدرات، في البخاريِّ: وَكَواعِبَ أي: نَوَاهد، انتهى، والدِّهَاقُ: المُتْرَعَة فيما قال الجمهورُ، وقيل: الصافيةُ، وقال مجاهد: متتابعةٌ «5» ، وعبارة البخاريِّ وقال ابن عباس: دِهاقاً: ممتلئة، انتهى «6» ، وكِذَّاباً: مصدرٌ وهو الكَذِبُ.
وقوله: عَطاءً حِساباً أي: كَافِياً قاله الجمهور من قولهم، أحْسَبَنِي هذَا الأمْرُ، أي: كَفَاني، ومنه حَسْبِي اللَّهُ، وقال مجاهد: حِساباً معناه: بتَقْسِيطٍ، فالحِسَابُ على هذا بمَوازنةِ أعمالِ القَومِ إذ منهم المُكْثِرُ مِنَ الأعمال، والمُقِلُّ ولكلٍ بحسْبِ عملهِ «7» .
وقوله تعالى: لاَّ يَمْلِكُونَ الضميرُ للكفارِ، أي: لاَ يَمْلِكُونَ منْ أفضالهِ وإجماله سبحانه أنْ يخاطبوه بمعذرةٍ ولا غيرها وهذا أيضاً في موطنٍ خاصٍّ.
[سورة النبإ (78) : الآيات 38 الى 40]
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 427) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 406) (36069) ، وذكره ابن عطية (5/ 427) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 464) بنحوه.
(3) أخرجه الطبري (12/ 409) (36094) عن قتادة، وذكره ابن عطية (5/ 427) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 410) (36094) بنحوه عن عبد الله بن عمرو، وذكره ابن كثير في «تفسيره» (4/ 464) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 504) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن الحسن بن دينار.
(5) أخرجه الطبري (12/ 412) (36121) ، وذكره البغوي (4/ 438) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 465) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 505) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد.
(6) أخرجه الطبري (12/ 411) (36109) ، وذكره البغوي (4/ 439) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 465) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 505) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن ابن عبّاس.
(7) أخرجه الطبري (12/ 413) (36126) ، وذكره ابن عطية (5/ 428) .
(5/544)
وقوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ اخْتُلِفَ في الرُّوحِ المذكورِ هنا فقال الشعبي والضحاك: هو جبريلُ- عليه السلام «1» - وقال ابن مسعودٍ: هو مَلَكٌ عظيم أكبرُ الملائكةِ خِلْقَةً يسمَى الرُّوح «2» ، وقال ابن زيد «3» : هو القرآن، وقال مجاهدٌ: الروحُ خَلْقٌ على صورة بني آدمَ يأكلُون ويشربون «4» ، / وقال ابن عبّاس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الرُّوحُ خَلْقٌ غَيْرُ المَلاَئِكَةِ هُمْ حَفَظَةٌ لِلْمَلاَئِكَةِ كَمَا المَلاَئِكَةُ حَفَظَةٌ لَنَا» «5» ، وقيلَ الرُّوح اسمُ جنسٍ لأرواحِ بني آدم، والمعنى: يوم تَقُوم الأرواحُ في أجسادها إثْرَ البَعْثِ، ويكونُ الجميعُ من الإنس والملائِكَةِ صفًّا ولاَ يتكلمُ أحدٌ منهم هَيْبَةً وفَزَعاً إلا مَنْ أذنَ له الرحمنُ مِنْ مَلَكٍ أو نبي وكان أهلاً أنْ يقولَ صواباً في ذلك الموطنِ، وقال البخاريُّ: صَواباً: حَقًّا في الدنيا وعَمِلَ به، انتهى،، وفي قوله: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً وعدٌ ووعيدٌ وتحريضٌ، والعذابُ القريبُ: هو عذاب الآخرةِ، إذ كلُّ آتٍ قريبٌ، وقال أبو هريرةَ وعبدُ اللَّه بن عمر: إن اللَّه تعالى يُحْضِرُ البهائم يَومَ القيامةِ فيقتصُّ لبعضها من بعضٍ، ثم يقول لَها بَعْدَ ذلكَ:
كوني تراباً فيعودُ جميعُها تراباً فعند ذلك يقول الكافر: الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
«6»
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 415) (36136) (36137) ، وذكره البغوي (4/ 440) ، وابن عطية (5/ 428) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 465) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 506) ، وعزاه لعبد بن حميد وأبي الشيخ عن الضحاك. [.....]
(2) أخرجه الطبري (12/ 415) (36133) ، (36134) عن ابن عبّاس بنحوه، وذكره البغوي (4/ 440) ، وابن عطية (5/ 428) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 465) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 506) ، وعزاه لابن جرير.
(3) أخرجه الطبري (12/ 416) (36147) عن ابن زيد عن أبيه، وذكره ابن عطية (5/ 429) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 465) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 415) (36138) ، وذكره البغوي (4/ 440) ، وابن عطية (5/ 429) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 465) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 505) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الأسماء والصفات» عن مجاهد.
(5) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 505) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ في «العظمة» ، وابن مردويه.
(6) أخرجه الطبري (12/ 418) عن عبد الله بن عمرو برقم: (36160) ، وعن أبي هريرة برقم: (36161) بنحوه، وذكره البغوي (4/ 440) عن عبد الله بن عمرو، وابن عطية (5/ 429) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 466) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 507) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم، والبيهقي في «البعث والنشور» عن أبي هريرة.
(5/545)
قلت: وَاعْلَمْ رحمكَ اللَّه أَني لم أقفْ على حديثٍ صحيحٍ في عَوْدِها تراباً، وقدْ نَقَلَ الشيخُ [أبُو العباسِ القَسْطَلاَّنِيُّ عن] الشيخ أبي الحكم بن أبي الرَّجَّالِ إنكارَ هذا القولِ، وقال: ما نُفِثَ روحُ الحياةِ في شَيْءٍ فَفَنِيَ بَعْدَ وجودِه، وقد نقَلَ الفَخْرُ هنا عن قَوْم بقاءَها وأن هذه الحيواناتِ إذا انْتَهَتْ مدةُ إعراضِها جعلَ اللَّه كلَّ ما كانَ مِنْهَا حَسَنَ الصُّورَةِ ثواباً لأهلِ الجنةِ، وما كانَ قَبيحَ الصورةِ عقاباً لأَهْلِ النارِ، انتهى، والمُعَوَّلُ عليه في هذا: النقلُ فإن صحّ فيه شيء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وَجَبَ اعْتِقَادُه وصِيرَ إليه، وإلا فلا مدخلَ للعقل هنا، والله أعلم.
(5/546)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)
تفسير سورة «النّازعات»
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
قوله عز وجل: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً قال ابن عباس وابن مسعود: النَّازِعاتِ:
الملائكة، تنزع نفوس بني آدم «1» ، وغَرْقاً على هذا القول إما أن يكونَ مصدراً بمعنى الإغْراقِ والمبالغةِ في الفعل، وإما أنْ يكونَ كما قال علي وابن عباس: تُغْرِقُ نفوسَ الكفرةِ في نار جهنم «2» ، وقيل غيرُ هذا، واخْتُلِفَ في النَّاشِطاتِ فقال ابن عباس ومجاهد: هي الملائكةُ تَنْشطُ النفوسَ عند الموتِ، أي: تَحُلُّها كَحَلِّ العِقَالِ، وتَنْشَطُ بأمْرِ اللَّه إلى حيثُ شَاء «3» ، وقال ابن عباس أيضاً: الناشطاتُ النفوسُ المؤمِنَة تَنْشَط عند الموتِ للخروج «4» ، ت: زاد الثعلبيُّ عنه: وذلك أنَّه ليسَ مؤمنٌ يَحْضُرُهُ الموتُ إلا عُرِضَتْ عليه الجنةُ قَبْلَ أَن يموتَ فَيَرى فيها أشْبَاهَاً من أهلِه وأزْواجهِ من الحُور العينِ، فَهُمْ يَدْعُونه إليها فَنَفْسُه إليهم نَشِيطَة أن تخرج فتأتيهم، انتهى، وقيل غيرُ هذا واخْتُلِف في السَّابِحاتِ هنا فقِيلَ:
هي النجوُمُ، وقيل: هي الملائِكَةُ لأَنَّهَا تَتَصَّرفُ في الآفاقِ بأمْرِ اللَّه، وقيلَ: هي الخيلُ، وقيل: هي السفنُ، وقيل: هي الحيتانُ ودوابُّ البَحْرِ، واللَّه أعلم، واخْتُلِفَ في
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 420) عن عبد الله برقم (36166) ، وذكره البغوي (4/ 441) ، وابن عطية (5/ 430) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 466) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 508) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن المنذر.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 430) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 466) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 508) ، وعزاه لابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن ابن عبّاس.
(3) أخرجه الطبري (12/ 421) عن ابن عبّاس، برقم: (36178) ، وذكره ابن عطية (5/ 430) .
(4) ذكره البغوي (4/ 441) ، وابن عطية (5/ 431) .
(5/547)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)
فَالسَّابِقاتِ، فقيلَ هي الملائكةُ، وقيل: الرياحُ «1» ، وقيل: الخيلُ، وقيل: النُّجُوم، وقيل: المَنايَا تَسْبِقُ الآمالَ، وأما فَالْمُدَبِّراتِ فَهِي الملائكة قَولاً واحداً فيما علمتُ، تدبّر الأمورَ التي سخَّرَها اللَّهُ لَها وصَرَّفَها فيها كالرياح والسحاب، وغير ذلك، والرَّاجِفَةُ النفخة الأولى، والرَّادِفَةُ النفخة الأخِيرَة، وقال ابن زيد: الرَّاجِفَةُ: الموتُ، والرَّادِفَةُ: الساعة «2» ، وفي «جَامِع الترمذي» عن أُبيِّ بن كعب قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إذا ذهب ثلثا اللّيل قام، فقال: يا أيّها النَّاسُ، اذكروا اللَّهَ، اذكروا اللَّهَ، جَاءَتِ الرَّاجِفَةُ، تَتْبَعُها الرَّادِفَةُ، جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيه، [جَاءَ المَوْتُ بِمَا فِيهِ] » الحديثَ «3» ، قَال أبو عيسى: هذا حديثٌ حسنٌ، انْتَهَى، وقد أتى به ع «4» هنا وقال: إذا ذَهَبَ رُبُعُ الليل، والصوابُ ما تقدَّم، ثم أخبرَ تعالى عن قلوبٍ تَجِفُ [في] ذلكَ اليومِ، أي: تَرْتَعِدُ خوفاً وفَرَقاً من العذابِ، واخْتُلِفَ في جوابِ القسم: أين هو؟ فقال الزجاج والفراء: هو محذوفٌ دَلَّ عليهِ الظاهرُ تقديرُه: لَتَبْعَثُنَّ ونحوُه، وقال آخرونَ: هو موجودٌ في جملة قوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ كأنه قَال لَتَجِفَنَّ قلوبُ قومٍ يوم كذا.
[سورة النازعات (79) : الآيات 10 الى 29]
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29)
وقوله تعالى: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ حكايةُ حالِهم في الدنيا، والمعنى: هم الذين يقولون، والْحافِرَةِ: قال مجاهد والخليل: هي الأرضُ، حافرة بمعنى محفورة، والمراد: القبور والمعنى: أإنا لمردودون أحياء في قبورنا؟، وقيل غير
__________
(1) في د: وهي الرياح.
(2) أخرجه الطبري (12/ 425) (36207) ، وذكره ابن عطية (5/ 431) .
(3) أخرجه الترمذي (4/ 636- 637) ، كتاب «صفة القيامة» باب: (23) (2457) ، (2/ 421) ، وأحمد (5/ 136) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (1/ 256) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 431) .
(5/548)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36)
هذا «1» ، ونَخِرَةً معناه بالية، وقرأ حمزة «نَاخِرَةٌ» بألف «2» ، والنَّاخِرةُ المصوِّتَةُ بالريحِ المُجَوَّفَة، وحُكِيَ عَنْ أبي عُبَيْدَة وغيره: أن الناخرةَ والنَّخِرَةَ بمعنًى واحد «3» ، وقولهم:
تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي: إذ هي إلى النارِ لتكذيبِهم بالبعثِ، وقال الحسن: خاسِرَةٌ معناه عندَهم كاذبة، أي: ليست بكائِنةٍ «4» ، ثم أخبر تعالى عن حالِ القيامةِ فقال: «إنما هي زجرة واحدة» أي: نفخةٌ في الصور، فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ وهي أرضُ المحشر.
وقوله: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى اسْتِدْعَاءٌ حسنٌ، والتزكِّي: التَّطهرُ من النَقَائِص، والتلبُّسِ بالفَضَائِل، ثم فَسَّر لَه موسى التزكِّي الذِي دَعَاه إليه/ بقوله: وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى والعلمُ تابعٌ للهدى، والخَشْيَةُ تابعةٌ للعِلْمِ، إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] والْآيَةَ الْكُبْرى العصا واليد قاله مجاهد وغيره «5» : وأَدْبَرَ: كِنَايَةً عن إعْرَاضِه، وقيل: حقيقةً قَامَ مُوَلِّيًا عن مُجَالَسَةِ موسى، فَحَشَرَ أي: جمع أهل مملكتِه، وقولُ فرعونَ: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى نهايةٌ في السِّخَافَةِ والمَخْرَقَةِ، قال ابن زيد: نَكالَ الْآخِرَةِ أي: الدار الآخرة، وَالْأُولى: يعني: الدنيا، أخَذَه اللَّهُ بعذابِ جهنَّمَ وبالغَرَقِ، وقيل غيرُ هذا «6» ، ثم وقفهم سبحانه مخاطبةً منه تعالى للعالم والمقصد الكفار فقال:
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً ... الآية، والسَّمْكُ: الارْتِفَاعُ، الثعلبي: والمعنى: أأنتم أيها المنكرونَ للبعثِ أشَدُّ خلقاً أم السَّماءُ أشد خلقاً، ثم بيَّن كَيْفَ خَلَقَها، أي: فالذي قَدِرَ على خَلْقِها قادرٌ على إحيائكم بعد الموت، نظيره: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [يس:
81] الآية، انتهى، وأَغْطَشَ معناه: أظلم.
[سورة النازعات (79) : الآيات 30 الى 36]
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36)
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 427) (36222) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (5/ 432) . [.....]
(2) وهي قراءة عاصم في رواية أبي بكر.
ينظر: «السبعة» (670- 671) ، و «إعراب القراءات» (2/ 435) ، وزاد نسبتها إلى الكسائيّ، و «معاني القراءات» (3/ 119) ، و «حجة القراءات» (748) ، و «شرح الطيبة» (6/ 97) ، و «شرح شعلة» (618) ، و «إتحاف» (2/ 585) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 432) .
(4) ينظر: المصدر السابق.
(5) أخرجه الطبري (12/ 432) (36257) ، وذكره ابن عطية (5/ 433) .
(6) أخرجه الطبري (12/ 434) (36270) ، وذكره ابن عطية (5/ 434) .
(5/549)
فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
وقوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها متوجِّه على أن اللَّهَ خلقَ الأرضَ ولم يَدْحُهَا ثم استوى إلى السَّمَاءِ وهي دُخَانُ فخلقَها، وبنَاها، ثم دَحَا الأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ، ودَحْوُها بسطها، وباقي الآية بيّن، والطَّامَّةُ الْكُبْرى هي يومُ القيامة قاله ابن عباس وغيره «1» .
[سورة النازعات (79) : الآيات 37 الى 41]
فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)
فَأَمَّا مَنْ طَغى أي تجاوز الحدّ، وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا على الآخرة لتكذيبه [بالآخرة] ، ومَقامَ رَبِّهِ هو يومُ القِيَامَةِ، وإنما المرادُ مَقَامُهُ بين يديه، والْهَوى هو شَهَواتُ النفسِ وما جرى مَجْرَاها المذمومة.
[سورة النازعات (79) : الآيات 42 الى 46]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
وقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ يعني: قريشاً، قال البخاري عن غيره: أَيَّانَ مُرْساها متَى مُنْتَهَاهَا، / ومُرْسَى السفينةِ حيثُ تَنْتَهِي، انتهى، ثم قال تعالى لنبيه على جهة التوقيفِ: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي من ذِكْرِ تَحْدِيدِها ووقتِها، أي: لستَ من ذلك في شيء، إنما أنت منذر، وباقي الآيةِ بيِّنٌ، قَال الفخر «2» قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها تفسيرُ هذه الآيةِ هُو كما «3» ذَكَرَ في قوله: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ [الأحقاف: 35] والمعنى: أن ما أنكرُوه سَيَرَوْنَه حتَّى كأنَّهُمْ كَانُوا أبَداً فيهِ، وكأَنَّهُمْ لَمْ يَلْبَثُوا في الدُّنْيَا إلا ساعة من نهارٍ، يريدُ لم يلبثوا إلا عشيَّةً أو ضحى يومها، انتهى.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 440) (36311) ، وذكره ابن عطية (5/ 434) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 469) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس بنحوه.
(2) ينظر: «الفخر الرازي» (31/ 49) .
(3) في د: ما.
(5/550)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)
تفسير سورة «عبس»
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8)
قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى سببها: أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يدعُو بعضَ صَنَادِيدِ قريشٍ ويقرأ عليه القرآن ويقول له: هل ترى بما أقولُ بأساً، فكان ذلك الرجلُ يقول: لا والدمى يعني الأصْنَام إذ جَاء ابنُ أم مكتُومٍ فَقَالَ: يا رسول اللَّه! اسْتَدْنِنِي وَعَلِّمْنِي مما علَّمَك اللَّهُ فكان [في] ذلك كلِّه قطعٌ لحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم مع الرَّجُلِ، فلَما شَغَبَ عليه ابنُ أُم مكتوم عبس صلّى الله عليه وسلّم وأعْرَضَ عنه فنزلتِ الآيةُ، قال سفيانُ الثوريّ:
فكَانَ بعدَ ذلك إذَا رأَى ابنَ أم مكتومٍ قال: مَرْحَباً بمن عَاتَبَنِي فيه ربِّي- عز وجل- وبَسَطَ له رداءَه واسْتَخْلَفَه على المدينةِ مرتين «1» ، ت: والكافرُ المشارُ إليه في الآيةِ هو:
الوليدُ بن المغيرة قاله ابنُ إسْحَاق، انتهى، ثم أكَّد تعالى عَتْبَ نبيه بقوله: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى أي بمالِه، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى أي: تتعرّض.
[سورة عبس (80) : الآيات 9 الى 12]
وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12)
وقوله: وَهُوَ يَخْشى أي: يخشَى اللَّه، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى أي تَشْتَغِلُ، تَقُولُ لَهِيتُ عن الشيء ألْهَى إذا اشْتَغَلْتُ عنه، ولَيْسَ من اللَّهْوِ، وهذه الآيةُ السببُ فيها هذا ثم هِي بَعْدُ تَتَنَاولُ مَنْ شَارَكَهم في هذه الأوصافِ، فحمَلةُ الشَّرْعِ والعِلم مخاطبونَ بتقريبِ الضَّعِيفِ من أهلِ الخير وتقديمِه على الشريفِ العارِي من الخيرِ، مثلَ ما خُوطِبَ بهِ النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه السورةِ، قال عياضٌ: وليسَ في قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى الآيةَ، ما يَقْتَضِي إثبات ذنب للنبي صلّى الله عليه وسلّم، أو أنه خَالفَ أمْرَ ربِّه سبحانه، وإنَّما في الآية الإعلام بحال
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 444) عن قتادة وغيره (36322) ، وذكره ابن عطية (5/ 436) بنحوه.
(5/551)
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
الرجلينِ، وتَوْهِينِ أَمْرِ الكافرِ، والإشارةُ إلى الإعراضِ عنه، انتهى، قال السهيلي: وانظرْ كيفَ نزلتِ الآيةُ بلفظِ الإخبارِ عن الغائبِ فقال: عَبَسَ وَتَوَلَّى ولم يقل: عَبَسْتَ وتولَّيْتَ، وهذا يُشْبِهُ حال العاتِب المُعْرِضِ، ثم أقبل عَلَيْهِ بمواجَهَةِ الخطابِ فقال: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى الآية، عِلماً منْه سبحانه أنَّه لَمْ يَقْصِدْ بالإعراضِ عن ابن أم مكتوم إلا الرغبةَ في الخيرُ ودخولِ ذلكَ المشركِ في الإسلام إذ كان مثلُه يُسْلِم بإسلامِه بَشَرٌ كثيرٌ، فكلَّمَ نبيَّهُ حينَ ابتدأَ الكلامَ بِمَا يشبه كلامَ المُعْرِضِ عنه العاتِب له، ثم واجَهَهُ بالخطابِ تأنيسا له ع، انتهى، ثم قال تعالى: كَلَّا يا مُحَمَّدُ، ليسَ الأَمْرُ كما فعلتَ، إنَّ هذه السُّورَةَ أو القراءةَ أو المعاتبةَ تَذْكِرَةٌ، وعبارةُ الثعلبي: إن هذه السورةَ، وقيل: هذه الموعظةَ، وقال مقاتلٌ: آياتُ القرآن «1» تذكرةٌ، أي: مَوْعِظَةٌ وتَبْصِرةٌ للخلقِ، فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ أي: اتَّعظَ بآي القرآن وبما وعظتُكَ/ وأدَّبتُكَ في هذه السورةِ، انتهى. - ص-:
ذَكَرَهُ ذكَّرَ الضمير لأنَّ التذكرةَ هي الذكرُ، انتهى.
[سورة عبس (80) : الآيات 13 الى 16]
فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)
وقوله تعالى: فِي صُحُفٍ متعلقٌ بقولهِ: إِنَّها تَذْكِرَةٌ وهذا يؤيد أن التذكرَة يراد بها جميعُ القرآن، والصحف هنا قيل إنه اللوحُ المحفوظُ: وقيلَ صحفُ الأنبياءِ المنزلةُ.
قال ابن عبَّاسٍ: السَّفَرَةُ هم الملائِكَةُ، لأنَّهم كَتَبةٌ يقال: سَفَرْتُ، أي: كتبتُ، ومنه السِّفْرُ، وقال ابن عباس أيضاً: الملائكةُ سَفَرةَ لأنهم يَسْفِرُونَ بينَ اللَّه وبين أنبيائه «2» ، وفي البخاري: سَفَرةُ الملائكةِ [واحدُهم سَافِرٌ] «3» ، سَفَرَتْ أصْلَحَتْ بينهم وجُعِلَتِ الملائكةُ إذا نزلت بوحي الله- عز وجل- وتأديته كالسَّفِيرِ الذي يُصْلِح بَيْنَ القوم، انتهى، قال ع «4» : ومن اللفظةِ قول الشاعر: [الوافر]
وَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمِي ... وَمَا أسعى بِغِشٍّ إنْ مَشَيْتُ «5»
والصُّحُفُ على هذا: صحفٌ عند الملائكة أو اللوح.
__________
(1) ذكره البغوي في «معالم التنزيل» (4/ 447) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 446) (36330) ، (36333) ، وذكره البغوي (4/ 447) ، وابن عطية (5/ 438) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 471) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 519) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وابن المنذر من طريق علي عن ابن عبّاس.
(3) سقط في: د.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 438) .
(5) ينظر: البيت في «البحر» (8/ 417) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 438) ، والقرطبي (19/ 141) ، و «الدر المصون» (6/ 480) ، و «فتح القدير» (5/ 383) . [.....]
(5/552)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
[سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 22]
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22)
وقوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ: دعاء على اسْمِ الجنسِ، وهو عُمُومٌ يرادُ به الإنسانُ الكافِرُ، ومعنى قُتِلَ: أي: هو أهلٌ أنْ يُدْعَى عليْه بهذا، وقال مجاهد: قُتِلَ معناه: لُعِنَ وَهَذَا تَحَكُّمٌ ت: ليسَ بتحكمٍ وقد تقدم نحوُه عن غيرِ واحدٍ «1» .
وقوله تعالى: مَا أَكْفَرَهُ يحتملُ معنى التعجبِ، ويحتملُ الاستفهامَ توبيخاً، وقيلَ:
الآيةُ نَزَلَتْ في عُتْبَةَ بنِ أبي لهبٍ، وذلك أنَّه غَاضَبَ أبَاه فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأسْلَم ثم إن أباه اسْتَصْلَحَه وأعطَاه مالاً وجهَّزَه إلى الشامِ، فبعث عتبةُ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: إنِّي كافرٌ بربِّ النَّجْمِ إذَا هوى فدعا عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «اللهمَّ ابْعَثْ عَلَيْهِ كَلْبَكَ حَتَّى يَأْكُلَهُ» ، ثم إن عُتْبَةَ خَرَجَ في سُفْرَة/ فجاءَ الأسَدُ فأكلَه من بينْ الرُّفْقَةِ.
وقوله تعالى: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ استفهامٌ على معنى التقرير على تفاهةِ الشيءِ الذي خُلِقَ الإنسانُ منه، فَقَدَّرَهُ أي جعَلَه بقَدَرٍ وَحَدٍّ معلومٍ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ قال ابن عباس وغيره: هي سبيلُ الخُرُوجِ من بطن أمِّهِ «2» ، وقال الحسنُ، ما معناه أن السبيلَ هي سبيلُ النظرِ المؤدِّي إلى الإيمانِ «3» .
وقوله فَأَقْبَرَهُ معناه: أمَر أنْ يُجْعَلَ له قبرٌ، وفي ذلك تكريمٌ له لِئَلاَّ يطرحَ كسائرِ الحيوان.
وقوله تعالى: ثُمَّ إِذا شاءَ يريدُ: إذا بَلَغَ الوقتَ الذي قَدْ شاءَه وهو يومُ القيامةِ، وأَنْشَرَهُ معناه: أحياه.
[سورة عبس (80) : الآيات 23 الى 33]
كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27)
وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
وقوله تعالى: كَلَّا لَمَّا يَقْضِ أي لم يَقْضِ ما أمره، ثم أمَرَ اللَّهُ تعالى الإنسان
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 446) (36335) ، وذكره ابن عطية (5/ 438) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 520) ، وعزاه لابن المنذر عن مجاهد.
(2) أخرجه الطبري (12/ 447) ، برقم: (36337) ، وذكره ابن عطية (5/ 438) ، وابن كثير (4/ 472) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 521) ، وعزاه للعوفي عن ابن عبّاس.
(3) أخرجه الطبري (12/ 448) ، رقم: (36346) ، وذكره ابن عطية (5/ 438) .
(5/553)
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
بالعبرةِ والنظرِ إلى طَعامِه والدليل فيهِ وكيفَ يسَّره له بهذهِ الوَسَائِط، والحَبُّ جمعُ حَبَّةٍ- بفتحِ الحاءِ-، وهو كل ما يتخذُهُ الناسُ ويربونه، والحِبَّةُ: بكسرِ الحاءِ كُلَّ مَا يَنْبُتُ من البزُور لا يُحْفَلُ به، ولا هو بمتَّخَذٍ، والقَضْبُ قِيلَ هي الفِصْفِصَة وهذا عندي ضعيف لأن الفِصْفِصَةَ للبهائِم وهي داخلةٌ في الأبِّ والذي أَقول به أن القضْبَ هنا هو كلُّ ما يقْضَبُ ليأكُلَه ابنُ آدم غَضَّا من النباتِ كالبقُولِ والهِلْيُونِ ونحوه فَإنَّه من المَطْعُوم جِزءٌ عظيمٌ ولاَ ذِكْرَ له في الآية إلاَّ في هذه اللفظةِ، والحديقةُ: الشجَرُ الذي قد أُحْدِقَ بجدار ونحوِه، والغُلْبُ: الغِلاظُ الناعِمَةُ، والأبُّ المَرْعَى والكلأ قاله ابن عباس وغيره «1» ، وقد توقَّفَ في تفسيرِه أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما «2» - ومَتاعاً: نصْبٌ على المصدرِ، والمعنى:
تَتَمَتَّعُونَ به أنتم وأنعامُكم فابن آدم في السَّبْعَةِ المذكورةِ، والأنْعَامُ في الأبّ، والصَّاخَّةُ: اسمٌ من أسماءِ يوم/ القيامة. - ص-: قالَ الخليلُ: الصَّاخَّةُ صَيْحَةٌ تَصُخُّ الآذانَ صَخَّا، أي: تصمّها لشدة وقعتها، انتهى.
[سورة عبس (80) : الآيات 34 الى 42]
يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38)
ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
وقوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ الآية، قال جمهورُ الناس: إنما ذلكَ لشدةِ الهَوْلِ كلٌ يقولُ نَفْسِي نَفْسِي، وقيل: فرارُهم خوفا من المطالبات، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ عن اللقاءِ معَ غيرهِ، ثم ذكر تعالى اختلافَ الوجوهِ من المؤمنينَ الواثقين برحمةِ اللَّه حين بَدَتْ لهم تباشيرها، ومن الكفار حين علاها قترها، ومُسْفِرَةٌ معناه:
نَيِّرةٌ بادٍ ضَوْءُهَا وسرورُها، والغَبْرَة التي على الكفرة: هي من العُبُوسِ كما يُرَى على وجهِ المهمومِ والميِّتِ والمرِيض شبهُ الغُبَارِ، - ص-: والقَتَرُ سوادٌ كالدُّخَانِ، قال أبو عبيدةَ:
هو الغُبار، انتهى، ثم فسَّرَ سبحانَه أصحابَ هذه الوجوه المغبرّة بأنهم الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 452) (36375) ، وذكره ابن كثير (4/ 473) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 521) ، وعزاه للعوفي عن ابن عبّاس.
(2) أخرجه الطبري (12/ 451) ، رقم: (36367) ، وذكره البغوي (4/ 449) ، وابن عطية (5/ 439) ، وابن كثير (4/ 473) .
(5/554)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
تفسير سورة «التّكوير»
[وهي] مكّيّة بإجماع
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
قوله سبحانه: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ هذه كلُّها أوصَافُ يومِ القيامةِ، وتكويرُ الشمسِ هو أن تُدَارَ كما يُدَارُ كَوْرُ العمامةِ ويُذْهَبُ بها إلى حيثُ شَاءَ اللَّه- تعالى-، وعبَّر المفسرونَ عن ذلك بعباراتٍ فمنهم مَنْ قال: ذهب نورُها قاله قتادة «1» ، ومنهم من قال:
رُمِي بها قاله الربيع بن خثيم «2» وغير ذلك مما هو أسماءٌ توابعُ لتكْويرهِا،، وانْكِدَارُ النجومِ هو انْقِضَاضُها وهبوطُها من مواضِعها، وقال ابن عباس: انكدرتْ: تغيَّرَتْ من قولهم مَاءٌ كَدِرٌ «3» والْعِشارُ: جمع عُشَرَاءَ وهي الناقة التي قَدْ مَرَّ لحملِها عَشَرَةُ أشهرٍ، وهي أنْفَسُ مَا عِنْدَ العرب، وإنما تعطّل عند أشدّ الأهوال.
[سورة التكوير (81) : الآيات 6 الى 14]
وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قال أُبَيُّ بن كعب وابن عباس وغيرهما: / معناه أُضْرِمَتْ ناراً، كما يُسْجَرَ التَّنُّورُ «4» ، ويحتملُ أنْ يكونَ المعنى مُلِكَتْ وقيّدت، فتكون اللفظة مأخوذة
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 457) (36402) ، وذكره البغوي (4/ 451) ، وابن عطية (5/ 441) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 475) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 526) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة رضي الله عنه.
(2) أخرجه الطبري (12/ 457) (36410) ، وذكره ابن عطية (5/ 441) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 475) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 458) (36417) ، وذكره ابن عطية (5/ 441) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 475) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 460) ، عن أبي بن كعب، برقم: (36432) وعن ابن عبّاس برقم: (36434) ، وذكره البغوي (4/ 451) ، وابن عطية (5/ 442) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 476) بنحوه.
(5/555)
من سَاجُورِ الكَلْبِ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «سُجِرَتْ» بتخفيفِ»
الجيمِ، والباقون بتشديدها، وتزويجُ النفوسِ: هو تَنْوِيعُها لأن الأزواجَ هي الأنْواعُ، والمعنى: جَعْلُ الكافرِ مع الكافرِ والمؤمِنِ معَ المؤمِنِ، وكلِّ شكلٍ مع شكلِه رواه النعمان بن بشير عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وقاله عمرُ بن الخطاب وابن عباس «2» وقال: هذا نظيرُ قوله تعالى: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً [الواقعة: 7] وفي الآيةِ على هذا حضُّ عَلَى خَليلِ الخيرِ، فقد قال- عليه السلام-: «المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» ، وقال: «فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ» ، وعبارةُ الثعلبيِّ: قال النعمانُ بْنُ بَشِيرٍ: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ، قَالَ الضُّرَبَاء: كُلُّ رَجُلٍ مَعَ كُلِّ قَوْمٍ كَانُوا يَعْمَلُونَ عَمَلَه، انتهى، وقال مقاتل بن سُلَيْمَانَ معناه: زوجتْ نُفُوسُ المؤمنينَ بزوجاتهنَّ من الحُورِ، وغيرِهِنَّ «3» .
وقوله تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ الموءودة اسم معناه المُثْقَلُ عليها بالتُّرَاب، وغيرِه حتى تموتَ وكان هذا صنيعُ بعضِ العَرَبِ ببناتِهم يدفِنُونَهن أحياءً، وقرأ الجمهور «4» : «سِئلت» وهذا على جهةِ التوبيخِ للعربَ الفاعلينَ ذلك واستدلَّ ابن عَبَّاس بهذه الآيةِ على «5» أنَّ أولادَ المشركينَ في الجَنَّةِ، لأنَّ اللَّهَ قَدِ انتصر لَهُمْ ممّن ظلمهم «6» .
__________
(1) وحجتهما قوله سبحانه: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور: 6] ولم يقل المسجّر. وحجة الباقين قوله تعالى:
وَإِذَا الْبِحارُ ولو كان واحدا لكان تخفيفا، والعرب تقول: سجرت التنور، وسجّرت التنانير.
ينظر: «حجة القراءات» (750) ، و «السبعة» (673) ، و «الحجة» (6/ 379) ، و «إعراب القراءات» (2/ 444) ، و «شرح الطيبة» (6/ 101) ، و «معاني القراءات» (3/ 123) ، و «العنوان» (204) ، و «شرح شعلة» (619) ، و «إتحاف» (2/ 591) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 462) عن عمر برقم: (36449) ، وعن ابن عبّاس برقم: (36452) ، وذكره البغوي (4/ 452) ، وابن عطية (5/ 442) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 477) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن مردويه.
(3) ذكره البغوي (4/ 452) ، وابن عطية (5/ 442) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 528) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن الكلبي بنحوه.
(4) وقرأ ابن عبّاس، وأبي، وجابر بن زيد، وأبو الضحى، ومجاهد، وجماعة منهم: ابن مسعود، والربيع بن خيثم «سألت» .
ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (169) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 442) ، و «البحر المحيط» (8/ 424- 425) ، و «الدر المصون» (6/ 486) .
(5) في د: في. [.....]
(6) ذكره ابن عطية (5/ 442) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 477) .
(5/556)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ قيل: هي صُحُفُ الأَعْمَالِ، وقيل: هي الصُّحُفُ التي تَتَطَايَرُ بالأَيْمَانِ والشَّمائلِ، والكَشْطُ: التقشيرُ وذلك كما يُكْشَطُ جلدُ الشاةِ حينَ تُسْلَخُ، وكَشْطُ السَّماءِ هُو طَيُّها/ كَطَيِّ السّجلّ، وسُعِّرَتْ معناه: أُضْرِمَتْ «1» نارُها، وأزلفت الجنة معناه: قُرِّبَتْ ليدخلَها المؤمنونَ، قال الثعلبي: قُرِّبَتْ لأهلها حتى يرونها، نظيرُه، وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق: 31] . عَلِمَتْ نَفْسٌ عندَ ذلك مَّا أَحْضَرَتْ من خيرٍ أو شرٍ وهو جوابٌ لقولهِ إِذَا الشَّمْسُ وما بعدها، انتهى.
[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 23]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ لا إمَّا زائدةٌ وإما أنْ تكونَ رَدّاً لِقَوْلِ قريشٍ في تكذيبهم نبوة نبينا محمّد ع، ثُمَّ أَقْسَمَ تعالى بالخُنَّسِ الجوارِ الكنَّسِ، وهي في قولِ الجمهور: الدَّرَارِي السَّبْعَةُ: الشَّمْسُ والقَمَرُ وزُحَلُ وعُطَارِدُ والمرِّيخُ والزُّهْرَةُ والمُشترِي، وقال عليّ: المرادُ الخمسةُ دونَ الشمسِ والقمر وذلك أنّ هذه الكواكبَ تَخْنِسُ في جَرْيها أي: تَتَقَهْقَرُ فيما ترى العين، وهي جَوارٍ في السماءِ، وهي تَكْنِسُ في أَبراجها أي: تَسْتَتر «2» ، الثعلبي: وقال ابن زيدِ تَخْنِسُ أي: تَتَأَخَّرُ عَنْ مَطَالِعِها كلَّ سَنَة، وتَكْنِسُ بالنَّهار، أي: تستترُ فلاَ تُرَى، انتهى «3» ، وعَسْعَسَ الليلُ في اللغةِ إذا كَان غَيْرَ مُسْتَحْكَمِ الإظْلاَمِ، قال الخليل: عَسْعَسَ الليلُ: إذا أَقْبَلَ وأَدْبَرَ، وقال الحَسَنُ: وقَعَ القَسَمُ بإقبالهِ «4» ، وقال ابن عباسٍ وغيره: بلْ وَقَعَ بإدبارهِ «5» ، وقال المبرد: أقسم بإقباله وإدباره «6»
__________
(1) في د: ضرمت.
(2) أخرجه الطبري (12/ 467) (36484) ، وذكره البغوي (4/ 453) ، وابن عطية (5/ 443) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 478) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 528) ، وعزاه لسعيد بن منصور والفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه من طرق عن علي رضي الله عنه.
(3) أخرجه الطبري (12/ 467) (36487) . والبغوي (4/ 453) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 470) (36512) ، وذكره البغوي (4/ 453) ، وابن عطية (5/ 444) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 479) بنحوه.
(5) أخرجه الطبري (12/ 469) ، (36502) ، وذكره ابن عطية (5/ 444) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 479) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 530) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عبّاس.
(6) ذكره ابن عطية (5/ 444) .
(5/557)
وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
معاً، وعبارةُ الثعلبي: قالَ الحسنُ عَسْعَسَ الليلُ: أقْبَلَ بظلامِه، وقال آخرون: أدْبَرَ بظلامِه، ثم قال: والمعنيانِ يَرْجِعَانِ إلى معنًى واحدٍ، وهو ابتداءُ الظلامِ في أوله وإدباره في آخرهِ، انتهى،، وتنفَّسَ الصبحُ، اتَّسَعَ ضوءهُ، والضميرُ في «إنه» للقرآن، والرسولُ الكريمُ في قولِ الجمهور هو جبريل ع وقال آخرون: هو النبي صلّى الله عليه وسلّم في الآية كلّها، / والقول الأول أصحّ، وكَرِيمٍ صفة تقتضي رفع المذامّ، ومَكِينٍ معناه: له مكَانَة ورِفْعَة، وقال عياض في «الشفا» في قوله تعالى: مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ: أكثر المفسرين على أنّه نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، انتهى، قال ع «1» : وأجمعَ المفسرونَ على أن قولَه تعالى: وَما صاحِبُكُمْ يرادُ به النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، والضمير في رَآهُ لجبريل ع وهذه الرؤيةُ التي كانَتْ بعْدَ أمْرِ غارِ حِراءٍ، وقيل: هي الرؤية التي رآه عند سدرة المنتهى.
[سورة التكوير (81) : الآيات 24 الى 29]
وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)
وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
وقوله تعالى: وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ بالضادِ بمعنى: بِبَخِيلِ تَبْلِيغ مَا قِيل لهُ كما يَفْعَلُ الكاهِنُ حين يُعْطى حُلْوَانه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي: «بظنين» بالظاءِ «2» ، أي: بمتَّهَمٍ، ثم نَفَى سبحانَهُ عن القرآن أنْ يكونَ كلامَ شيطانٍ على ما قالتْ قريش، ورَجِيمٍ أي: مرجُوم.
وقوله تعالى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ توقيفٌ وتقريرٌ والمعنى: أين المذهبُ لأحَدٍ عن هذهِ الحقائقِ والبيانِ الذي فيه شفاءٌ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي: تذكرةٌ، ت: رَوَى الترمذيُّ عن ابن عمر قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ سَرَّه أنْ يَنْظُرَ إلى يومِ القِيَامَةِ كأنَّه رَأْيُ عينٍ فَلْيَقْرَأْ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وإِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ، وإِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ» قال أبو عيسى:
هذا حديثٌ حسن، انتهى.
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 444) .
(2) ينظر: «السبعة» (673) ، و «الحجة» (6/ 380) ، و «إعراب القراءات» (2/ 446) ، و «معاني القراءات» (3/ 124) ، و «العنوان» (204) ، و «حجة القراءات» (752) ، و «شرح شعلة» (620) ، و «إتحاف» (2/ 592) .
(5/558)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
تفسير سورة «الانفطار»
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ أي: انشقَّتْ، وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ أي:
تساقَطَتْ، وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ قيل: فُجِّرَ بعضُها إلى بعضٍ، ويحتملُ أنْ يكونَ تَفَجَّرتْ من أعاليها، ويحتملُ أن يكون تفجيرَ تفريغٍ من قيعَانِها/ فَيُذْهِبُ اللَّهُ ماءَها حيث شاء، وبكلٍ قيل، وبعثرةُ القبورِ: نبشها عن الموتى.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 5 الى 7]
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
وقوله سبحانه: عَلِمَتْ نَفْسٌ هو جوابُ إِذَا ونَفْسٌ هنا اسمُ جنسٍ، وقال كثيرٌ من المفسرينَ في معنى قوله: مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ إنها عبارةٌ عن جميع الأعمالِ من طاعة أو معصية.
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ رُوِيَ أَنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَرَأَهَا، فقال: «غَرَّهُ جَهْلُهُ» «1» ، فَسُبْحَانَ اللَّهِ مَا أَرْحَمَهُ بِعِبادِهِ، قال الثعلبيُّ: قال أَهْلُ الإشارةِ: إنّما قال:
__________
(1) قال الزيلعي في «تخريج الأحاديث والآثار» (4/ 167) (1464) ، وقال: رواه الثعلبي: أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه- واسمه الحسين بن محمّد- ثنا أبو علي بن حنش المقري، ثنا أبو القاسم بن الفضل المقري، ثنا علي بن الحسين المقدمي، وعلي بن هاشم قالا: ثنا كثير بن هشام، ثنا جعفر بن برقان، ثنا صالح بن مسمار قال: بلغني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ قال: «غره جهله» .
وعن الثعلبي رواه الواحدي في «تفسيره الوسيط» بسنده ومتنه.
ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام، في كتاب «فضائل القرآن» حدثنا كثير بن هشام وذكره سواه إلا أنه قال:
«غره حلمه» ، والنسخة صحيحة.
(5/559)
فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، دونَ سائر أسمائِه تعالى وصفاته، كأنه لَقَّنَهُ جَوَابَهُ حتى يقولَ: غَرَّنِي كَرَمُكَ، انتهى، وقرأ الجمهور: «فعدّلك» وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا نَظَر إلى الهلالِ قال: «آمنتُ بالذي خلقَك فسوَّاك فَعَدَلَك» وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بتخفيفِ الدال «1» ، والمعنى عَدَّلَ أعضَاءَك بعضَها ببعضٍ، أي: وازن بينها.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 8 الى 14]
فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12)
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
وقوله تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شاءَ رَكَّبَكَ ذهبَ الجمهورُ إلى أن «في» متعلِّقة ب «ركَّبك» ، أي: في صورةٍ حسنةٍ أو قبيحةٍ، أو سليمةٍ، أو مشوهةٍ، ونَحْو هذا، و «ما» في قوله: مَّا شاءَ رَكَّبَكَ زائِدَةٌ فيها معنَى التأكيد، قال أبو حيان «2» : كَلَّا رَدْعٌ وزَجْرٌ، انتهى، والدِّينُ هنا يحتمل أن يريدَ الشرعَ، ويحتملُ أن يريدَ الجزاءَ والحساب، وباقي الآية واضح لمتأمّله.
[سورة الانفطار (82) : الآيات 15 الى 19]
يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
وقوله تعالى: يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ أي: يوم الجزاءِ.
وقوله تعالى: وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ [قال جماعة: معناه: ما هم عنها بغائبين] «3»
__________
(1) قال الفراء: وجهه- والله أعلم- فصرفك إلى أي صورة شاء، إما حسن أو قبيح، أو طويل أو قصير. وعن أبي نجيح قال: (في صورة أب أو في صورة عمّ) . وليست في من صلة «عدلك» لأنك لا تقول:
(عدلتك في كذا) ، إنما تقول: (عدلتك إلى كذا) أي: صرفتك إليه وإنما هي متعلقة ب «ركّبك» . كأن المعنى: (في أي صورة شاء أن يركّبك) .
وقال آخرون: (فعدلك: فسوّى خلقك) . قال محمّد بن يزيد (المبرد) : فعدلك أي: قصد بك إلى الصورة المستوية ومنه العدل الذي هو الإنصاف، أي: هو قصد إلى الاستواء. فقولك: (عدل الله فلانا) أي: سوّى خلقه. فإن قيل: فأين الباء التي تصحب القصد حتى يصح ما تقول؟ قلت: إن العرب قد تحذف حروف الجر، قال الله عز وجل: «وإذا كالوهم أو وزنوهم» فحذف اللامين، فكذلك «فعدلك» بمعنى: فعدل بك.
ينظر: «حجة القراءات» (752- 753) ، و «السبعة» (674) ، و «حجة القراءات» (6/ 382) ، و «إعراب القراءات» (2/ 448) ، و «معاني القراءات» (3/ 126) ، و «شرح الطيبة» (6/ 103) ، و «العنوان» (204) ، و «شرح شعلة» (620) ، و «إتحاف» (2/ 594) .
(2) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 428) .
(3) سقط في: د.
(5/560)
في البَرْزَخِ، وذلك أنهم يرونَ مقاعِدَهم من النارِ غَدْوَةً وعشيَّةً فهم لم يزالُوا مشاهدينَ لَها نسألُ اللَّه العافيةَ في الدارينِ بجُودِه وكرمِه، ثم عظَّم تعالى قدرَ هولِ ذلكَ اليومِ بقوله:
وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ الآية.
(5/561)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
تفسير سورة «المطفّفين»
وهي مكّيّة في قول جماعة وقال ابن عبّاس وغيره: هي مدنية، وعنه: نزل بعضها بمكة ونزل أمر التطفيف بالمدينة.
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
قوله تعالى: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الآية، المُطَفِّفُ الذي يُنْقِصُ الناسَ حُقُوقَهم، والتطفيفُ: النُّقْصَانُ، أصله من الشيء الطفيف، وهو النَّزْرُ، والمطفِّفُ إنما يأخذ بالميزان أو بالمكيال شيئا خفيفا، واكْتالُوا عَلَى النَّاسِ معناه قبضوا منهم، وكالُوهُمْ معناه:
قبّضوهم، ويُخْسِرُونَ معناه: ينقصون.
[سورة المطففين (83) : الآيات 4 الى 6]
أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)
وقوله سبحانه: أَلا يَظُنُّ بمعنى: يَعْلَمُ ويتحقق، وقال- ص-: أَلا يَظُنُّ ذَكَر أبو البقاء أن «لا» هنا هي النافيةُ دَخَلَتْ عليها همزةُ الاستفهامِ، وليستْ «أَلاَ» التي للتنبيهِ والاستفتاح لأن مَا بَعْدَ «أَلاَ» التنبيهيَّةِ مُثْبَتٌ وهو هنا منفيٌّ، انتهى،، وقيامُ الناس لربِ العالمينَ يومئذٍ، يختلف الناسُ فيه بحَسْبِ منازِلهم، ورُوِيَ أنه يُخَفَّفُ عن المؤمنِ حتى يكونَ على قَدْرِ الصلاةِ المكتوبةِ، وفي هذا القيام هو إلجامُ العَرَقِ للناسِ كما صرَّح به النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديثِ الصحيحِ، والناسُ أيضاً فيه مختلفون بالتخفيفِ والتشديدِ، قال ابنُ المُبَارَك في «رقائِقه» : أَخبرنا سُلَيْمَان التَّيْمِيُّ عن أبي عثمانَ النهدي عن سلمان، قال: تدنى الشمسُ من الناسِ يومَ القيامةِ حتى تكونَ من رُؤوسهم قَابَ قوسٍ أو قابَ قوسَينِ فتُعْطي حرَّ عَشْرَ سنين وليسَ على أحد يومئِذ طِحْرِبة ولا تُرَى فيه عورةُ مؤمِنٍ ولا مؤمنةٍ، ولا يَضّرُّ حرُّها يومئِذٍ مؤمناً ولا مؤمنَة، وأما الآخرون أو قال الكفارُ فَتَطْبُخُهُمْ، فإنما تقولُ أجوافُهم غَقْ غَقْ، قال نعيم: الطحربةُ: الخِرْقة/ انتهى،، ونحوُ هذا للمحاسبي قال في «كتاب
(5/562)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)
التوهُّم» : فإذَا وَافَى الموقفُ أهْلَ السمواتِ السبعِ والأرضين السبع كسيت الشمسُ حرَّ عَشْرَ سنينَ، ثم أدْنيتْ من الخلائقِ قَابَ قوسٍ أو قابَ قوسينِ، فَلاَ ظِلَّ في ذلك اليوم إلا ظلُّ عرشِ ربِّ العالمينَ، فكم بينَ مستظلِّ بظل العرشِ وبين واقفٍ لحرِّ الشمسِ قد أصْهَرَتْه واشتدَّ فيهَا كَرْبُه وقلقُه، فتوهَّمْ نفسَك في ذلكَ الموقفِ فإنك لا محالةَ واحدٌ منهم، انتهى، اللَّهُمَّ، عَامِلْنَا بِرَحْمَتِكَ وَفَضْلِكَ في الدَّارَيْنِ، فَإنَّهُ لاَ حَوْلَ لَنَا وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِكَ.
[سورة المطففين (83) : آية 7]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ... يعني: الكفارَ وكتابُهم يراد به الذي فيه تَحصيلُ أمرهم، وأفعالِهم، ويحتمل عندي أن يكونَ المعنَى وعِدَادُهُمْ وكِتَابُ كونِهم هو في سجينٍ أي: هنالِكَ كُتِبُوا في الأزلِ، واختُلِفَ في سِجِّينٍ ما هو؟ والجمهورُ أن سجيناً بناءُ مبالغة من السَّجْن، قال مجاهد: وذلك في صخرة تحت الأرض السابعة «1» .
[سورة المطففين (83) : الآيات 8 الى 26]
وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26)
وقوله تعالى: وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ تعظيمٌ لأمر هذا السِّجِّينِ وتعجيبٌ منه، ويحتملُ أنْ يكونَ تقريرَ اسْتِفْهامٍ، أي: هذا مما لم تكن تعلمه قبل الوحي، وكِتابٌ مَرْقُومٌ على القول الأولِ: مرتفعٌ على خبر «إنَّ» وعلى القولِ الثاني مرتفعٌ على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوف تقديرُه: هو كتاب مرقوم، ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً ل سِجِّينٌ ما هو؟، ومَرْقُومٌ معناه: مكتوبٌ لهم بِشَرٍّ، وباقي الآية بَيِّنٌ، ثم أوجَبَ أنَّ مَا كَسَبُوا من الكفرِ والعُتُو قَدْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ أي: غطى عليها فهُمْ مع ذلك لا يُبْصِرُون رشداً، يقال:
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 486) (36600) ، وذكره البغوي (4/ 458) ، وابن عطية (5/ 451) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 538) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر عن مجاهد رضي الله عنه بنحوه. [.....]
(5/563)
رَانَتِ الخمرُ على قلبِ شاربِها، ورَانَ الغَشْيُ على قلبِ المريضِ، وكذلك الموتُ، / قال الحسنُ وقتادة: الرّينُ الذَّنبُ على الذنبِ حتى يموتَ القلب «1» ، وروى أبو هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنَّ الرجُلَ إذا أذْنَبَ نُكِتَتْ نكتةٌ سَوْدَاءُ في قلبهِ، ثم كذلك حتَّى يَتَغطَّى فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ، قال الفخرُ «2» : قال أبو معاذ النَّحْوي: الرّينُ سَوَادُ القلبِ من الذنوبِ، والطَّبْعُ أن يُطْبَعَ على القلبِ، وهو أشَدُّ من الرينِ، والإقْفَالُ أشدُّ من الطبعِ وهو أن يُقْفَلَ على القلبِ، انتهى، والضميرُ في قوله تعالى: إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ للكفارِ أي: هم محجوبونَ لا يَرَوْنَ ربَّهم، قال الشافعي: لما حَجَبَ اللَّهُ قوماً بالسَّخْطِ دَلَّ عَلى أن قوماً يرَوْنَهُ بالرِّضَى، قال المحاسبي- رحمه اللَّه- في كتابِ «توبيخ النفس» : وينبغِي للعبدِ المؤمنِ إذا رأى القسوةَ من قلبه أن يعلم أنها من الرّينِ في قلبه فيخافُ أن يكونَ اللَّهُ تعالى لمَّا حَجَبَ قلبَه عنه بالرّينِ والقسوةِ أنْ يحجبَه غَداً عن النظرِ إليه قال تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَّا كانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ إحداهُما تتلو الأخرى ليس بينهما معنًى ثالثٌ، فإنْ اعترضَ للمريدِ خَاطِرٌ من الشيطانِ ليقْتَطِعَه عن الخوفِ من اللَّه تعالى، حتى تحلَّ بهِ هاتانِ العقوبتانِ فَقَال إنما نَزَلَتَا في الكافرينَ فليقلْ فإنَّ اللَّهَ لم يؤَمِّنْ منهما كثيراً مِنَ المؤمنينَ، وقد حذَّر سبحانَه المؤمنينَ أن يُعَاقِبَهُم بما يُعَاقِبُ به الكافرين فقال تعالى:
وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [آل عمران: 131] إلى غير ذلكَ من الآيات، انتهى، ولما ذَكَرَ اللَّهُ تعالى أمْرَ كتابِ الفجار، عَقَّبَ ذلكَ بذِكْرِ كِتَابِ ضدِّهِم ليبيِّنَ الفرقَ بين الصِّنْفَيْنِ، واخْتُلِفَ في المَوضِع المعروفِ ب عِلِّيِّينَ ما هو؟ فقال ابن عباس: السَّمَاءُ السَّابعَةُ تَحْتَ العَرْشِ «3» ، وَروي ذَلِكَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «4» ، وقال الضحاكُ: هو سِدْرَةُ المُنْتَهَى «5» ، وقال ابن عبّاس أيضا: عليون: الجنة «6» .
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 490) (36627) عن الحسن، وعن قتادة برقم: (36640) ، وذكره البغوي (4/ 460) ، وابن عطية (5/ 452) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 485) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 540) ، وعزاه لعبد بن حميد.
(2) ينظر: «الفخر الرازي» (31/ 86) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 493) عن ابن عبّاس وعن كعب برقم: (36657) ، و (36649) ، وذكره البغوي (4/ 460) ، وابن عطية (5/ 452) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 486) بنحوه.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 452) .
(5) أخرجه الطبري (12/ 494) ، (36659) ، وذكره البغوي (4/ 460) ، وابن عطية (5/ 452) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لعبد بن حميد من طريق الأجلح عن الضحاك رضي الله عنه.
(6) أخرجه الطبري (12/ 494) ، (36658) ، وذكره البغوي (4/ 460) ، وابن عطية (5/ 452) ، وابن كثير-
(5/564)
وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
وقوله تعالى: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يعني الملائِكة قاله ابن عبّاس وغيره «1» ، ويَنْظُرُونَ معناه إلى ما عندَهم مِن النعيم، والنَّضْرةُ: النعمة والرونق، والرحيق: الخمر الصافية، ومَخْتُومٍ يحتملُ أنَّه يُخْتَمُ على كؤوسه التي يشْرَبُ بها تَهَمُّماً وتنظفاً، والظاهر أنه مختُوم شربُه بالرائحةِ المِسْكِيةِ حَسْبَمَا فسَّره قوله: خِتامُهُ مِسْكٌ قال ابن عباس وغيره: خاتمة شربه مسك «2» ، [وقرأ الكسائي «3» : «خَاتَمُهُ مِسْكٌ» ] ، ثم حرَّضَ تعالى على الجنةِ بقوله: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ.
[سورة المطففين (83) : الآيات 27 الى 28]
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
وقوله تعالى: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ المِزَاجُ: الخلطُ، قال ابن عباس وغيره:
تَسْنِيمٍ: أشْرَفُ شرابٍ في الجنةِ، وهو اسْمٌ مذكرٌ لِمَاءِ عينٍ في الجنةِ، وهي عين يشرب بها المقربون صرفاً ويُمْزَجُ رحيقُ الأبرارِ بها «4» وهذا المعنى في «صحيح البخاري» ، وقال مجاهد ما معناه: أن تسنيماً مصدَرُ من سَنَّمْتُ: إذَا عَلَوْتُ، ومنه السَّنَامُ، فكأنه عينٌ قَدْ عَلِيَتْ على أهل الجنةِ فهي تَنْحَدِر، وقاله مقاتل «5» ، وجمهور المتأولينَ أنَّ منزلةَ الأبرار دونَ منزلة المقربينَ، وأن الأبرارَ هم أصحابُ اليمين، وأن المقربينَ هم السابقون.
وقوله: يَشْرَبُ بِهَا بمعنى يْشَرَبُها.
[سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 34]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
__________
- في «تفسيره» (4/ 486) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 541) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر عن ابن عبّاس.
(1) أخرجه الطبري (12/ 495) ، (36663) عن قتادة، وذكره ابن عطية (5/ 453) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 498) ، (36683) ، وذكره البغوي (4/ 416) ، وابن عطية (5/ 453) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 486) .
(3) ينظر: «الحجة» (6/ 386) ، و «إعراب القراءات» (2/ 451) ، و «معاني القراءات» (3/ 131) ، و «شرح الطيبة» (6/ 104) ، و «العنوان» (205) ، و «حجة القراءات» (754) ، و «إتحاف» (2/ 597) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 500) ، (36700) ، وعن أبي صالح برقم: (36703) ، وذكره البغوي (4/ 462) ، وابن عطية (5/ 453) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 487) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 544) ، وعزاه لعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن ابن عبّاس بنحوه.
(5) أخرجه الطبري (12/ 499) ، (36691) عن مجاهد، وابن عطية (5/ 453) .
(5/565)
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا يعني في الدنيا، يَضْحَكُونَ من المؤمنينَ، رُوِيَ أن هذه الآيةَ نَزَلَتْ في صناديدِ قريشٍ وضَعَفَةِ المؤمنين، والضميرُ في مَرُّوا
للمؤمنينَ ويحتملُ أن يكونَ للكفارِ، وأما ضميرُ يَتَغامَزُونَ
فهو للكفارِ لا يحتمل غير ذلك، وفَكِهِينَ أي: أصحابُ فُكَاهَةِ/ وَنَشَاطٍ وسرورٍ باسْتِخْفَافِهم بالمؤمنين، وأما الضميرُ في رَأَوْهُمْ وفي قالُوا فقال الطبريُّ «1» وغيره: هو للكفارِ، وقال بعضُهم: بل المعنى بالعَكْسِ، وإنمَا المعْنَى وإذا رأى المؤمنونَ الكفَّارَ قالوا: إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ، وما أُرْسِلَ المؤمِنونَ حافِظِينَ على الكفَّارِ، وهذا كلَّه مَنْسُوخٌ على هذا التأويل، ت: والأول أظهر.
[سورة المطففين (83) : الآيات 35 الى 36]
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
وقوله تعالى: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ أي: إلى أعدائهم في النار، قال كعب: لأهل الجنةِ كُوًى ينظرون منها «2» ، وقال غيره: بينهم جِسْمٌ عظيم شَفَّافٌ يرونَ معه حالَهم، ت: قال الهرويُّ: قوله تعالى: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ، قال أحمد بن يحيى:
الأريكَةُ: السريرُ في الحَجَلَةِ ولا يسمى مِنْفَرِداً أريكةً، وسمعتُ الأزهريَّ يقولُ: كل ما اتّكئ عليه فهو أريكةٌ، انتهى، هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ أي: جزاءَ ما كانوا يفعلون، وهَلْ ثُوِّبَ تقرير وتوقيف للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأمّته.
__________
(1) ينظر: «تفسير الطبري» (12/ 502) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 502) ، (36711) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (4/ 462) ، وابن عطية (5/ 454) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 545) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة عن كعب. [.....]
(5/566)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
تفسير سورة «الانشقاق»
وهي مكّيّة بلا خلاف
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5)
قوله تعالى: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ الآية، هذه أوْصافُ يوم القيامةِ وأَذِنَتْ معناه:
اسْتَمَعَتْ وسَمِعَتْ أمر ربّها ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما أذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ أَذَنَهُ لِنَبِيٍّ يَتَغَنَّى بالقرآن» ، وحُقَّتْ «1» قال ابن عباس: معناه: وحُقَّ لها أنْ تَسْمَع وتطيع «2» ، ويحتملُ أن يريدَ: وحُقَّ لها أن تنشقَ لشدةِ الهولِ وخوفِ اللَّه تعالى، ومدُّ الأرْضِ هي إزالةُ جبالِها حتى لا يبقى فيها عوجٌ ولا أمْتٌ، وفي الحديث: «تمدّ مدّ الأديم» ، وأَلْقَتْ مَا فِيها يعني: من/ الموتَى قاله الجمهورُ. وخَرَّج الختلي أبو القاسمِ إسحاقُ بن إبراهيم في كتاب «الدّيباج» له بسندهِ عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله- عز وجل-: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقَّ عَنْهُ الأَرْضُ فَأَجْلِسُ جَالِساً في قَبْرِي، فَيُقْتَحُ لِي بَابٌ إلَى السَّمَاءِ بِحِيَالِ رَأْسِي حتى أَنْظُرَ إلَى العَرْشِ، ثُمَّ يُفْتَحُ لي بَابٌ مِنْ تَحْتِي حتى أَنْظُرَ إلَى الأَرْضِ السَّابِعَةِ حتى أَنْظُرَ إلى الثرى، ثُمَّ يُفْتَحُ لي بَابٌ عَنْ يَمِينِي حتى أَنْظُرَ إلَى الجَنَّةِ وَمَنَازِلِ أَصْحَابِي، وَإنَّ الأَرْضَ تَحَرَّكَتْ تَحْتِي فَقُلْتُ: مَا لَكِ أَيَّتُهَا الأَرْضُ؟ قَالَتْ: إنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُلْقِيَ مَا في جَوْفِي، وأنْ أَتَخَلَّى فَأَكُونَ كَمَا كُنْتُ إذْ لاَ شَيْءَ فِيَّ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّه- عَزَّ وَجَلَّ-: وَأَلْقَتْ مَا فِيها وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ أي: سَمِعَتْ وَأَطَاعَتْ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَسْمَعَ وَتُطِيعَ» «3» ، الحديثَ، انتهى من «التذكرة» «4» ، وتَخَلَّتْ معناه خَلَّتْ عَمَّا كَانَ فيها لَمْ تَتَمَسَّكْ منهم بشيء.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 456) .
(3) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 547) ، وعزاه إلى أبي القاسم الختلي في «الديباج» .
(4) ينظر: «التذكرة» (1/ 251) .
(5/567)
يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 6 الى 12]
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10)
فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12)
يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ ... الآية، الكادحُ: العاملُ بشدّةٍ واجتهادٍ، والمعنى:
إنَّك عامل خيراً أو شراً، وأنتَ لا محالةَ ملاقِيه، أي: فكنْ على حَذَرٍ من هذهِ الحالِ، واعملْ صالحاً تَجِدْه، وأما الضمير في فَمُلاقِيهِ فقال الجمهور: هو عائدٌ على الربّ تعالى، وقال بعضُهم: هو عائدٌ على الكَدْحِ ت: وهو ظاهرُ الآيةِ، والمعْنَى ملاقٍ جزاءَه، والحسابُ اليسيرُ: هو العَرْضُ ومن نُوقِشَ الحسابَ هَلَكَ كذا في الحديث الصحيح، وعن عائشةَ: هو أن يعرفَ ذنوبَه ثم يُتَجَاوَزَ عنْه، ونحوُه في الصحيح عن ابن عمر، انتهى، وفي الحديث/ عن عائشةَ قالتْ: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ في بَعْضِ صَلاَتِهِ: «اللَّهُمَّ حَاسِبْنِي حِسَاباً يَسِيراً، فَلَمَّا انصرف قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الْحِسَابُ اليَسِيرُ؟ قال: أَنْ يَنْظُرَ في كِتَابِهِ وَيَتَجَاوَزَ عَنْهُ إنَّهُ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ- يَا عَائِشَةُ- يَوْمَئِذٍ هَلَكَ، وَكُلُّ مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ يُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى الشَّوْكَةَ تَشُوكُهُ» «1» ، قال صاحب «السلاح» : رواه الحاكم في «المستَدْرَكِ» ، وقال: صحيحٌ على شَرْطِ مُسْلِمٍ، انتهى، ورَوَى ابن عمر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ في الدُّنْيَا، هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ حِسَابَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» قال عزُّ الدينِ بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ في اختصاره ل «رعاية المحاسبي» : أجمع العلماءُ على وجوبِ محاسَبَةِ النفسِ فيما سَلَفَ من الأعمال وفيما يُسْتَقْبَلُ منها، «فالْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بعد الموت، والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وتمنى عَلَى اللَّهِ» ، انتهى.
وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ أي: الذين أعدَّهمُ اللَّه لهُ في الجنةِ، وأما الكافر فرُوِيَ أنَّ يَدَه تدخُلُ من صَدْرِه حتَّى تَخْرُجَ من وراءِ ظهرِه فيأخذَ كتابه بها.
ويَدْعُوا ثُبُوراً معناه: يصيحُ مُنْتَحِباً: وا ثبوراه وا حزناه، ونحو هذا، والثبور اسم جامع للمكاره، كالويل.
__________
(1) أخرجه أحمد (6/ 48) ، وابن خزيمة (2/ 30) ، جماع أبواب الكلام المباح في الصلاة والدعاء والذكر، ومسألة الرب عزّ وجلّ- وما يضاهي هذا ويقاربه: باب مسألة الرب جل وعلا- في الصلاة محاسبة يسيرة، إذ المحاسبة بجميع ذنوبه والمناقشة به تهلك صاحبها (849) ، والحاكم (1/ 57- 255) ، (4/ 249، 580) .
قال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بهذا اللفظ، إنما اتفقا على حديث أبي مليكة، ومن نوقش الحساب عذب، ووافقه الذهبي.
(5/568)
إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 13 الى 15]
إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)
وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ يريدُ في الدنيا، مَسْرُوراً أي: تَمَلَّكَهُ ذلكَ لاَ يدرِي إلا السرورَ بأهلهِ دونَ معرفةِ ربه.
وقوله تعالى: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ معناه: أن لن يرجِعَ إلى اللَّه مبعوثاً محشُوراً، قال ابن عباس: لم أعلم ما معنى يَحُورَ حتى سَمِعْتُ امرأة أَعْرَابِيَّةً تَقُولُ لِبُنَيَّةٍ لَهَا:
حُورِي أي: ارجعي «1» ، - ص-: بَلى إيجابٌ بَعْدَ النفي، أي: بلى لَيَحُورَنَّ أي:
ليرجعنّ، انتهى.
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 16 الى 25]
فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)
وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
وقوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ «لا» / زائِدةٌ وقيل: «لا» ردّ على أقوال الكفار، وبِالشَّفَقِ الحُمْرَةُ التي تَعْقُبُ غَيْبُوبَةَ الشمسِ مع البياضِ التابع لها في الأغلب، ووَسَقَ معناه: جُمِعَ وَضُمَّ ومنه الوَسْقُ أي: الأَصْوُعُ المجموعةُ، والليل يَسِق الحيوانَ جملة أي:
يجمَعَها وَيَضُمُّها، وكذلك جميعُ المخلوقاتِ التي في الأرض والهواء من البحار والجبال والرياح وغير ذلك، واتساقُ القمر كمالُه وتمامُه بدراً، والمعنى امتلأَ من النور، وقرأ نافع وأبو عَمْرٍو وابن عامر: «لَتَرْكَبُنَّ» - بضم الباءِ «2» - والمعنى: لتركبُنَّ الشدائِدَ: الموتَ والبعثَ والحسابَ حالاً بعد حالٍ، و «عن» تجيءُ بمعنى «بعد» كما يقال: ورثَ المجدَ كَابِراً عن كابرٍ، وقيلَ: غير هذا، وقرأ حمزة والكسائي وابن كثير: «لَتَرْكَبَنَّ» «3» - بفَتْحِ الباءِ- على معنى أنتَ يا محمد، فقيلَ: المعنى حالاً بعد حالٍ من معالَجةِ الكفارِ، وقال ابن عبّاس:
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 509) (36746) ، وذكره ابن عطية (5/ 458) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 489) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 548) ، وعزاه لابن أبي حاتم من طريق الضحاك عن ابن عبّاس بنحوه.
(2) وقرأ بها عاصم.
ينظر: «السبعة» (677) ، و «الحجة» (6/ 391) ، و «إعراب القراءات» (2/ 455) ، و «معاني القراءات» (3/ 134) ، و «شرح الطيبة» (3/ 105) ، و «العنوان» (205) ، و «حجة القراءات» (756) ، و «شرح شعلة» (621) ، و «إتحاف» (2/ 600) .
(3) ينظر: مصادر القراءة السابقة.
(5/569)
سماءً بعد سماءٍ في الإسراء «1» ، وقيل: هي عِدَةٌ بالنَّصْرِ أي لتركبَنَّ أمْرَ العربِ قَبِيلاً بعد قَبِيل كما كان، وفي البخاري عن ابن عبَّاس: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حَالاً بعد حال هكذا قال نبيّكم صلّى الله عليه وسلّم «2» ، انتهى، ثم قال تعالى: فَما لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، أي: ما حجتُهم مع هذهِ البراهين الساطعة، ويُوعُونَ معناه: يَجْمَعُونَ من الأعمالِ والتكذيبِ كأنهم يجعلونَها أوعية، تقول وعيت العلم، وأوعيت المتاع، ومَمْنُونٍ معناه: مقطوع.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 515) عن الحسن، وأبي العالية، برقم: (36807) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 549) ، وعزاه للطيالسي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن عبّاس بنحوه.
(2) أخرجه الطبراني (11/ 101) ، (11173) .
(5/570)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
تفسير سورة «البروج»
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
الجمهور: أنّ «البروج» هي المنازلُ التي عَرَفَتْهَا العربُ، وقد تقدم الكلامُ عليها، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ: هو يومُ القِيَامَةِ باتفاق كما جاء في الحديث، وإنما اختلفَ الناسُ في الشاهِد والمشهودِ اختلافاً كثيراً، فقال ابن عباس: الشاهدُ: اللَّهُ/ والمشهودُ: يومُ القيامة «1» ، وقال الترمذيُّ: الشاهدُ: الملائكةُ الحفظةُ، والمشهود [أي] عليه: الناسُ، وقال أبو هريرةَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: الشاهدُ يوم الجمعةِ، والمشهودُ يومُ عرفة، ت: ولو صحّ لوجب الوقوف عنده.
[سورة البروج (85) : الآيات 4 الى 9]
قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
وقوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ معناه فَعَلَ اللَّه بهم ذلكَ لأنَّهم أهل له فهو على جهة الدعاءِ بحسَبِ البشر، لا أنّ اللَّه يدعُو على أَحَدٍ، وقيل عن ابن عباس: معناه لُعِنَ وهذا تفسيرٌ بالمعنى، وقال الثعلبي: قال ابن عباس: كل شيء في القُرآن قُتِلَ فهو:
لَعْن، انتهى «2» ، وقيلَ: هو إخبار بأنّ النار قتلتهم قاله ابن الربيع بن أنس «3» ، - ص-:
وجوابُ القَسَمِ محذوفٌ أي: والسماءِ ذاتِ البروجِ لَتُبْعَثُنَّ، وقال المبردُ: الجوابُ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ، وقيل الجوابُ: قُتِلَ واللامُ محذوفةٌ أي: لَقُتِلَ، وإذا كانَ قُتِلَ
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 522) ، (36864) ، وذكره البغوي (4/ 467) ، وابن عطية (5/ 460) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 553) ، وعزاه لابن جرير.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 461) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 461) .
(5/571)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
هو الجوابُ فهو خَبَرٌ انتهى، وصَاحِبُ الأخدودِ: مذكورٌ في السِّيَرِ وغيرِها وحديثُه في مُسْلِمٍ مُطَوَّلٌ وهو مَلكٌ دَعَا المؤمنينَ باللَّهِ إلى الرجوعِ عن دينِهم إلى دينهِ، وخَدَّ لَهُمْ في الأرْضِ أخَادِيدَ طويلةً وأضْرَمَ لهم ناراً وجَعَلَ يَطْرَحُ فيها من لم يرجعْ عن دينه حتى جاءت امرأة معها صبيٌّ فَتَقَاعَسَتْ فقال لها الطفل: يا أُمَّهْ اصْبِرِي فِإنَّكِ عَلى الحق، فاقْتَحَمَتِ النارَ.
وقوله: النَّارِ بدلٌ من الأخدودِ وهو بدلُ اشتمالٍ، قال ع «1» : وقال الربيع بن أنس وأبو إسحاق وأبو العالية: بعثَ اللَّهُ على أولئك المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم أبو نحوَ هذا، وخَرَجَتِ النارُ فأحْرَقَتِ الكافرينَ الذينَ كانُوا على حَافَّتَيِ الأخْدُودِ وعلى هذا يجيءُ قُتِلَ خبرا لا دعاء «2» .
[سورة البروج (85) : الآيات 10 الى 12]
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... الآية، فَتَنُوهُمْ، أي:
أحرقوهم، ت: قال الهروي: قولُه تعالى: فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ أي: لهم/ عذابٌ لكفرِهم وعذابٌ بِإحْرَاقِهم المؤمنينَ، انتهى، قال ع «3» :
ومَنْ قَال: إنَّ هذه الآياتِ الأواخِرَ في قريشٍ جَعلَ الفِتنةَ الامتحانَ والتعذيبَ، ويقوِّي هذا التأويلَ بعضَ التقويةِ قولُه تعالى: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، لأنَّ هذا اللفظُ في قريشٍ أشْبَهُ منه في أولئك، والبطش: الأخذ بقوة.
[سورة البروج (85) : الآيات 13 الى 22]
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17)
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
وقوله: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ قال الضحاك وابن زيد: معناه: يُبْدِىءُ الخلقَ بالإنْشَاءِ، ويُعيدُهم بالحَشْرِ «4» ، وقال ابن عباس ما معناه: إنَّ ذلكَ عامُّ في جميع الأشياء،
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 462) . [.....]
(2) أخرجه الطبري (12/ 525) ، (36875) عن الربيع بن أنس، وذكره البغوي (4/ 470) ، وابن عطية (5/ 462) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 496) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 462) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 528) عن الضحاك، برقم: (36885) ، وعن ابن زيد برقم: (36886) ، وذكره ابن عطية (5/ 462) .
(5/572)
فهي عبارةٌ على أنَّه يفعلُ كلَّ شيءٍ، أي: يُبْدِىءُ كل ما يُبْدَأُ ويُعِيدُ كلَّ مَا يُعَادُ، وهذانِ قسمانِ يستوفيانِ جميعَ الأشياءِ «1» ، والْجُنُودِ الجموع، وفِرْعَوْنَ وَثَمُودَ في موضعِ خفضٍ على البدلِ من الجنودِ، ثم تركَ القولَ بحالِهِ، وأضْرَبَ عنه إلى الإخبارِ بأن هؤلاء الكفارَ بمحمدٍ وشرعِه لا حجةَ لهم ولا برهانَ بلْ هُو تكذيبٌ مُجرَّدٌ سببُه الحسَدُ، ثم تَوَعَّدَهم سبحانَه بقوله: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ أي: عذابُ اللَّهِ ونقمتُه مِن ورائهم، أي: يأتي بَعْدَ كفرِهم وعِصْيانهم، وقَرأ الجمهورُ: «في لوح محفوظٍ» بالخفضِ صفةً ل «لوح» وقرأ نافعٌ «2» : «محفوظٌ» بالرفعِ، أي: محفوظ في القلوبِ لاَ يدركُه الخطأ والتبديل.
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 462) .
(2) ينظر: «السبعة» (678) ، و «الحجة» (6/ 396) ، و «إعراب القراءات» (2/ 458) ، و «معاني القراءات» (3/ 136) ، و «شرح الطيبة» (6/ 106) ، و «العنوان» (206) ، و «حجة القراءات» (757) ، و «شرح شعلة» (621) ، و «إتحاف» (2/ 601) .
(5/573)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
تفسير سورة «والطّارق»
وهي مكّيّة بلا خلاف
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
أقسم اللَّهُ تعالى بالسماءِ المعروفةِ في قول الجمهور، وقِيل: السماءُ هنا هو المطرُ، وَالطَّارِقِ: الذي يأتي ليلاً، ثم فسَّر تعالى هذا الطارقَ بأنَّه: النَّجْمُ الثَّاقِبُ واخْتُلِفَ في النَّجْمُ الثَّاقِبُ فقال الحسنُ/ بن أبي الحسن ما معناه أنه اسمُ جنسٍ لأنها كلَّها ثاقِبة، أي: ظاهرة الضوء، يقال: ثَقُبَ النجمُ إذا أضاء «1» ، وقال ابن زيد: أرادَ نَجماً مخصوصاً وهو زُحَلُ «2» ، وقال ابن عباس: أراد الجَدْيَ «3» ، وقال ابن زيد أيضاً: هو الثُّرَيّا «4» ، وجَوابُ القسم في قوله: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ ... الآية، و «إنْ» هي المخففةُ من الثقيلةِ، واللامُ في «لَمَّا» لامُ التأكيدِ الداخلةِ على الخبرِ هذا مذهبُ حُذَّاقِ البصريين، وقال الكوفيون «إنْ» بمعنى «ما» النافيةِ، واللامُ بمعنى «إلا» فالتقديرُ: ما كلُّ نفسٍ إلا عليها حافظٌ، ومعنى الآيةِ فيما قال قتادة وغيره: إنَّ على كل نفسٍ مكلَّفَةٍ حافظاً يُحْصِي أعمالَها ويُعِدُّهَا للجزاءِ عليها «5» ، وقال أبو أمامة قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في تفسير هذه الآية: «إنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ حَفَظَةً مِنَ اللَّهِ يَذُبُّونَ عَنْهَا كَمَا يُذَبُّ عَنْ قَصْعَةِ العَسَلِ الذُّبَابُ، وَلَوْ وُكِلَ المَرْءُ إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين» .
[سورة الطارق (86) : الآيات 5 الى 7]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7)
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 464) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 533) ، (36906) ، وذكره ابن عطية (5/ 464) .
(3) ذكره ابن عطية (5/ 464) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 533) ، (36906) ، وذكره البغوي (4/ 473) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 560) ، وعزاه لابن جرير.
(5) أخرجه الطبري (12/ 534) ، (36910) ، وذكره ابن عطية (5/ 465) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 560) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة بنحوه.
(5/574)
إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
وقوله تعالى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ توقيفٌ لمنكرِي البعثِ على أصلِ الخِلْقَةِ الدالِّ على أن البعثَ جائزٌ ممكن، ثم بادَرَ اللفظَ إلى الجوابِ اقْتِضَاباً وإسْراعاً إلى إقامَةِ الحجة، فقال: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ قال الحسن وغيره: معناه: من بينِ صلبِ كلِّ واحدٍ من الرجلِ والمرأةِ، وترائِبِه «1» ، وقال جماعةُ: من بينِ صلبِ الرجل وترائب المرأةِ [والتَرِيبَةُ من الإنسان: ما بين التَّرْقُوةِ إلى الثدي، قال أبو عبيدة مُعَلَّقُ الحَلْيِ إلى الصَّدْرِ، وقيل غير هذا «2» .
[سورة الطارق (86) : الآيات 8 الى 17]
إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12)
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
وقوله تعالى: إِنَّهُ] «3» عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ قال ابن عباس وقتادة: المعنى أن اللَّهَ عَلى ردِّ الإنسانِ حيًّا بعد موتهِ لقادرٌ «4» ، وهذا أظهر الأقوال هنا وأبينها، ودافِقٍ قال كثير من المفسرين: هو بمعنى مَدْفُوقٍ، والعاملُ في يَوْمَ الرَّجْع من قولهِ: عَلى رَجْعِهِ.
وتُبْلَى السَّرائِرُ معناه تُخْتَبَرُ وتكشَفُ بواطنُها، ورَوَى أبو الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: أن/ السرائرَ التي يَبْتَلِيهَا اللَّه من العباد: التوحيدُ، والصلاةُ، والزكاةُ، والغُسْلُ من الجنَابةِ، قال ع «5» : وهذهِ معظَمُ الأمرِ، وقال قتادة: الوجهُ في الآيةِ العمومُ في جميعِ السرائرِ»
، ونَقَلَ ابنُ العربي في «أحكامِه» عن ابن مسعود: أنَّ هذه المذكوراتِ [مِنَ] الصلاةِ والزكاةِ والوضوءِ والوديعةِ كلَّها أمَانَةٌ، قال: وأَشَدُّ ذلكَ الوديعةُ تَمْثُلُ له، أي: لمن خَانَها على هيئَتِها يوم أخَذَها فَتُرْمَى في قَعْر جهنمَ، فيقالُ له: أخْرِجْها، فيتبعُها فيجعلُها في عنقهِ فإذا أراد أن يخرجَ بهَا زَلَّتْ منه فيتبعُها فهو كذلكَ دَهْرَ الداهرينَ، انتهى، ت: قال أبو عبيد الهروي: قوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ الواحدةُ سَرِيرَةٌ وهي الأعمالُ التي أسرَّهَا
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 465) .
(2) ذكره ابن عطية (5/ 465) .
(3) سقط في: د.
(4) أخرجه الطبري (12/ 537) ، (36937) عن قتادة، وذكره البغوي (4/ 473) ، وابن عطية (5/ 466) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 561) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة بنحوه. [.....]
(5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 466) .
(6) ذكره ابن عطية (5/ 466) .
(5/575)
العباد، انتهى، والرَّجْعِ المطرُ وماؤُه، وقال ابن عباس: الرجعُ: السحابُ فيه المطرُ «1» ، قال الحسنُ: لأنه يَرْجِعُ بالرزقِ كلَّ عامٍ «2» ، وقال غيرُه: لأنه يرجع إلى الأرض، والصَّدْعِ النباتُ لأن الأرضَ تَتَصَدَّعُ عنْه، والضمير في إِنَّهُ للقرآن، وفَصْلٌ معناه: جزم فصل الحقائق من الأباطيل، والهزل اللعِبُ الباطلُ، ثم أخبر تعالى عن قريش أنهم يكيدون في أفعالهم وأقوالهم بالنبي ع، وأَكِيدُ كَيْداً وهذا على مَا مَرَّ من تسمية العقوبة باسم الذنب، ورُوَيْداً معناه: قليلاً قاله قتادة «3» ، وهذهِ حالُ هذهِ اللفظة إذا تقدمَها شيءٌ تَصِفُه كقولك: سيراً رويداً، أو تقدمَها فعل يَعْملُ فيها كهذهِ، وأما إذا ابتدأتَ بها فقُلْتَ: رويداً يا فلان فهي بمعنى الأمر بالتَمَاهُلِ، - ص-:
رُوَيْداً قال أبو البقاء: نَعْتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: إمْهَالاً رُوَيْداً، و «رويداً» تَصْغِيرُ «رَوْدٍ» وأنشَد أبو عُبَيْدَةَ: [البسيط]
يَمْشِي ولاَ تَكْلِمُ البَطْحَاءَ مِشْيَتُهُ ... كَأَنَّهُ ثَمِلٌ يَمْشِي على رَوْدِ
أي: على مَهْلٍ ورفق، انتهى.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 538) ، (36944) ، وذكره ابن عطية (5/ 466) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 498) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 538) ، (36947) ، وذكره ابن عطية (5/ 466) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 541) ، (36967) ، وذكره ابن عطية (5/ 467) .
(5/576)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)
تفسير سورة «الأعلى»
وهي مكّيّة في قول الجمهور
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5)
سَبِّحِ في هذه الآية بمعنى: نَزِّه وقَدِّسْ وَقُلْ: جَلَّ سبحانَه عن النقائِص والغَيْرِ جميعاً، وروى ابن عبّاس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآية، قالَ: «سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعلى» «1» ، وكان ابن مسعودِ وابنُ عمرَ وابنُ الزبيرِ يفعلون ذلك، ولما نَزَلَتْ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اجْعَلُوهَا في سُجُودِكُم» «2» ، وعن سلمةَ بنِ الأكوع قال: ما سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَسْتَفْتِحُ دُعَاءً إلاَّ استفتحه ب «سُبْحَان رَبِّيَ الأعلى الوهَّاب» «3» رواه الحاكم في «المستدركِ» ، وقال: صحيحُ الإِسناد، انتهى من «سلاح المؤمن» .
و «سُوًى» معناه: عَدَّلَ وأتْقَنَ.
وقوله: فَهَدى عامٌّ لوجوهِ الهداياتِ في الإنسانِ والحيوانِ، وقال الفراء: معناه هَدَى وأضَلَّ والعمومُ في الآيةِ أصوبُ، والْمَرْعى: النباتُ، و «الغُثَاء» : مَا يَبِسَ وجَفَّ وتَحَطَّمَ من النباتِ وهو الذي يحمله السيلُ، و «الأَحْوَى» قيلَ هو الأَخْضَرُ الذي عليه سَوَادٌ من شدَّةِ الخُضْرَةِ والغَضَارة، فتقديرُ الآيةِ: الذي أخْرَجَ المَرْعى أحوَى أي أسْوَدَ من خضرتهِ وغَضَارَتِه فجعَله غُثَاءً عِنْدَ يُبْسِه ف أَحْوى: حالٌ، وقال ابن عباسٍ:
المعنى: فجعله غُثَاءً أحْوَى أي أسْوَدَ لأن الغُثَاءَ إذا قَدِمَ وأصابته الأمطار اسودّ وتعفّن
__________
(1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 566) .
(2) تقدم تخريجه.
(3) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (1/ 498) . قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(5/577)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
فصار أحوى، فهذا صفة «1» .
[سورة الأعلى (87) : الآيات 6 الى 7]
سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7)
وقولُهُ تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى قال الحسنُ وقتادة ومالك بن أنس: هذه الآيةُ في معنى قوله تعالى: لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ...
[القيامة: 16] الآية، وَعَدَهُ اللَّه أنْ يُقْرِئَه وأخبرَه أنه لاَ يَنْسى نِسْياناً لا يكونُ بعدَه ذِكر «2» ، وقيل: بلِ المعنى: أنه أمره تعالى بأنْ لا يَنْسَى على معنى التَّثْبِيتِ والتأكيدِ، وقال الجنيد: معنى فَلا تَنْسى لاَ تَتْرُكِ العمَلَ/ بما تَضَمَّنَ مِنْ أمْرٍ ونهي.
وقوله تعالى: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ قال الحسنُ وغيرهُ: معناه: مما قَضَى اللَّهُ بِنَسْخِه ورَفْعِ تلاوتِه وحُكْمه «3» ، وقال ابن عباس: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ: أنْ يُنْسِيَكَهُ لِيُسَنَّ بهِ «4» على نَحْوِ قولِه- عليه الصَّلاةُ والسلام-: «إنِّي لأنسى أوْ أنسى لأَسُنَّ» . قَالَ ع «5» :
ونسيان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ممتنعٌ فيما أُمِرَ بتبليغهِ إذ هُو معصومٌ فإذا بَلغَهُ وَوَعَى عنه فالنسيانُ جائِزٌ على أن يَتَذَكَّرَ بعدَ ذلك، أو على أنْ يسنّ، أو على النسخ.
[سورة الأعلى (87) : الآيات 8 الى 13]
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12)
ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)
وقوله تعالى: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى معناه: نَذْهَبُ بك نحوَ الأمورِ المُسْتَحْسَنَةِ في دنياكَ وَأُخْرَاكَ من النَّصْرِ والظَفَرِ، ورِفعةِ الرسالةِ وعلو المنزلةِ يومَ القيامةِ، والرفعةِ في الجنة، ثم أمرَه تعالى بالتَّذكيرِ، قال بعضُ الحذَّاقِ: قوله تعالى: إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى اعْتِرَاضٌ بَينَ الكلامينِ على جِهَةِ التوبِيخِ لقريشٍ، ثم أخبرَ تعالى أنّه سَيَذَّكَرُ مَنْ يَخْشَى اللَّهَ والدارَ الآخِرَةِ وهمُ العلماءُ والمؤمنونَ، كُلٌّ بقدْرِ ما وُفِّقَ له، ويَتَجَنَّبُ الذكرى ونفعها من سبقت له الشقاوة.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 544) ، (36977) ، وذكره ابن عطية (5/ 468) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 500) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 566) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس بنحوه.
(2) أخرجه الطبري (12/ 545) عن قتادة، برقم: (36982) ، وابن عطية (5/ 469) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 500) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 567) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم عن قتادة.
(3) أخرجه الطبري (12/ 545) ، (36981) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (5/ 469) .
(4) ذكره أبو حيان (8/ 453) ، وذكره ابن عطية (5/ 469) .
(5) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 469) .
(5/578)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
وتَزَكَّى معناه: طَهَّرَ نَفْسَه ونماها بالخيرِ، ومِنَ «الأربعين حديثاً» المسندةِ لأبي بكر محمد بن الحسين الآجري الإمامِ المحدثِ قال في آخرها: وحديثُ تمامِ الأربعينَ حديثاً وهو حديثٌ كبيرٌ جامعٌ لكلِّ خيرٍ حدَّثنا أبو بكرٍ جعفرُ بنُ محمدٍ الفِرْيَابِيُّ إملاءً في شهر رجب سنةَ سبعٍ وتسعينَ ومائتين قال: حدثنا إبراهيمُ بنُ هشامِ بنِ يحيى الغسانيّ قال:
حدثني أبي عن جَدِّي عن أبي إدريسَ الخَوْلاَنِيِّ عَن أَبي ذَرٍّ قال: «دَخَلْتُ المَسْجِدَ، فَإذَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم جَالِسٌ، فَجَلَسْتُ إلَيْهِ فَقَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، لِلْمَسْجِدِ تَحِيَّةٌ، وَتَحِيَّتُهُ رَكْعَتَانِ قُمْ فَارْكَعْهُمَا، قَالَ: فَلَمَّا رَكَعْتُهُما، جَلَسْتُ إلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّكَ أَمَرْتَنِي بِالصَّلاَةِ، فَمَا الصَّلاَةُ؟ / قالَ: خَيْرٌ مَوْضُوعٌ، فاستكثر أَوِ استقلل» الحديثَ، وفيهِ: «قلتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَمْ كِتَاباً أَنْزَلَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ-؟ قَالَ: مِائَةَ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةَ كُتُبٍ أَنْزَلَ اللَّهُ:
عَلَى شِيثَ خَمْسِينَ صَحِيفَةً، وَعَلَى خَانُوخَ ثَلاَثينَ صَحِيفَةً، وعلى إبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ، وأَنْزَلَ عَلَى موسى قَبْلَ التَّوْرَاةِ عَشْرَ صَحَائِفَ، وأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ، وَالإنْجِيلَ، والزَّبُورَ، وَالفُرْقَانَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَتْ صُحُفُ إبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: كَانَتْ أَمْثَالاً كُلُّها:
أَيُّهَا المَلِكُ المُسَلَّطُ المُبْتَلَى المَغْرُورُ، إنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ الدُّنْيَا بَعْضَهَا على بَعْضٍ، ولكني بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإنِّي لاَ أَرُدُّهَا وَلَوْ من كافر، وكان فيها أمثال: وعلى بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ عَنِّي دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإنِّي لاَ أَرُدُّهَا وَلَوْ مِنْ كَافِرٍ، وَكَانَ فِيهَا أَمْثَالٌ: وَعَلَى العَاقِلِ أَنْ تَكُونَ لَهُ سَاعَةٌ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٌ يُفَكِّرُ في صُنْعِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- إلَيْهِ، وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لَحَاجَتِهِ مِنَ المَطْعَمِ وَالمَشْرَبِ، وَعَلَى العَاقِلِ أَلاَّ يَكُونَ ظَاعِناً إلاَّ لِثَلاَثٍ: تَزَوُّدٍ لِمَعادٍ، أو مَؤُونَةٍ لِمَعَاشٍ، أَوْ لَذَّةٍ في غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَعَلَى العَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَصِيراً بِزَمَانِهِ، مُقْبِلاً على شَانِهِ، حَافِظاً للِسَانِهِ، وَمَنْ حَسِبَ كَلاَمَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلاَمُهُ إلاَّ فِيمَا يَعْنِيهِ، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولِ اللَّهِ، فَمَا كَانَتْ صُحُفُ مُوسَى؟
قَالَ: كَانَتْ عِبَراً كُلُّهَا: عَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالقَدَرِ، ثُمَّ هُوَ يَنْصَبُ، وَعَجِبْتُ لِمَن رَأَى الدُّنْيَا وَتَقَلُّبَها بِأَهْلِهَا ثُمَّ اطمأن إلَيْهَا، وَعَجِبْتُ لِمَنْ أَيْقَنَ بِالْحِسَابِ غدا ثمّ لا يعمل، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَهَلْ في أَيْدِينَا شَيْءٌ مِمَّا كَانَ في أَيْدِي إبْرَاهِيمَ وموسى مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، اقْرأْ يَا أَبَا ذَرٍّ «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا إلى آخِرِ هذه/ [السورةِ- يعني: أنَّ ذِكْرَ هذه الآيَاتِ لَفِي صُحُفِ إبْرَاهِيمَ وموسى- قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَوْصِنِي، قَال: أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللَّه- عَزَّ وَجَلَّ- فَإنَّهُ رَأْسُ أَمْرِكَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي قَالَ: عَلَيْكَ بِتِلاَوَةِ القُرْآنَ وَذِكْرِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- فَإنَّهُ ذِكْرٌ لَكَ في السّماء
(5/579)
وَنُورٌ لَكَ في الأَرْضِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زِدْنِي، قَالَ: وَإيَّاكَ وَكَثْرَةَ الضَّحِكِ فَإنَّهُ يُمِيْتُ القَلْبَ، ويَذْهَبَ بِنُورِ الْوَجْهِ، قال: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: عَلَيْكَ بِالجَهَادِ فِإنَّهُ رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ زِدْنِي، قَالَ: عَلَيْكَ بِالصَّمْتِ إلاَّ مِنْ خَيْرٍ فَإنَّهُ مَطْرَدَةٌ للشَّيْطَانِ وَعَوْنٌ لَكَ على أَمْرِ دِينِكَ» «1» انتهى.
وقوله تعالى: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ أي: وَحَّدَهُ وَصلَّى له الصلواتِ المفروضةَ وغيرَها، وقال أبو سعيد الخدري وغيره: هذه الآيةُ نزلتْ في صَبِيحَةِ يومِ الفِطْرِ «2» ، ف تَزَكَّى: أدَّى زكاةَ الفِطْرِ، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ في طريق المُصَلَّى، وصَلَّى صلاةَ العِيد، ثم أخْبَرَ تعالى الناسَ أنهم يؤثِرُونَ الحياةَ الدنيا، وسَبَبُ الإيثارِ حُبُّ العَاجِلِ والجهلُ ببقاءِ الآخرةِ وفَضْلِها، ورَوِّينَا في كتابِ الترمذي عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «استحيوا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحياءِ، قَالَ: فقلنا: يَا رسولَ اللَّهِ، إنَّا نَسْتَحِي وَالحَمْدُ للَّهِ، قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ، ولكن الاِسْتِحْيَاءَ مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وعى، وَتَحْفَظَ البَطْنَ وَمَا حوى، وَلْتَذْكُرِ المَوْتَ والبلى، وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ تَركَ زِينَةَ الدّنْيَا، فَمَنْ فَعَل ذَلكَ فَقَدْ استحيا مِنَ اللَّهِ حَقَّ الحَيَاء» «3» انتهى، قال الغَزَّاليُّ: وإيثارُ الحياةِ الدنيا طَبْعٌ غالبٌ على الإنسانِ ولذلك قال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ثمَّ بَيَّنَ سبحانه أن الشَّرَّ قَدِيمٌ في الطباعِ وأن ذلكَ مذكورٌ في الكتُبِ السالِفَة فقال: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى، انتهى من «الإحياء» .
__________
(1) تقدم تخريجه. [.....]
(2) ذكره ابن عطية (5/ 470) .
(3) أخرجه الترمذي (4/ 637) ، كتاب «صفة القيامة» باب: (24) (2458) ، وأحمد (1/ 387) ، والحاكم (4/ 323) ، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 209) ، والشجري في «الأمالي» (2/ 196- 197) ، والطبراني في «معجمه الكبير» (10/ 10290) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.
قال الترمذي: هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه من حديث أبان بن إسحاق عن الصباح بن محمّد اهـ.
قال المزي في «تهذيب الكمال» (2/ 5) : قال أحمد بن محمّد بن القاسم بن محرز البغدادي، عن يحيى بن معين: ليس به بأس، وقال أحمد بن عبد الله العجلي: ثقة.
وقال أبو الفتح الأزدي: متروك اهـ من «تهذيب الكمال» ، وقال أيضا عن الصباح بن محمّد بن أبي حازم البجليّ (13/ 110) من «تهذيب الكمال» : روى له الترمذي حديثا واحدا عن مرة عن ابن مسعود:
«استحيوا من الله حق الحياء» . وقال: غريب إنما نعرفه من هذا الوجه. اهـ.
وقال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وللحديث شاهد من حديث الحكم بن عمير، أخرجه الطبراني (3/ 246) ، (3192) .
قال الهيثمي في «المجمع» (10/ 278) : رواه الطبراني وفيه عيسى بن إبراهيم القرشي، وهو متروك.
(5/580)
وقوله تعالى: إِنَّ هذا قال ابن زيد: الإشارَة ب «هَذَا» إلى هذينِ الخبرينِ: إفْلاحِ مَنْ تَزكّى، وإيثارِ الناسِ للدنيا مَعَ فَضْلِ الآخرة عليها، وهذا هو الأرجَحُ لقرب المشارِ إليه «1» ، وعن أُبيِّ بن كعب قال: كانَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأُ في الْوِتْرِ ب «سبح اسم ربك الأعلى» و «قل يا أيها الكافرون» و «قل هو اللَّه أحد» فإذا سلم قال: سبحان الملك القدوس ثلاث مرات يَمُدُّ صَوْتَهُ في الثَّالِثَةِ، ويَرْفَعُ، رواه أبو داود والنسائي وهذا لفظه، ورَواهُ الدارقطني في سُنَنِهِ، ولفْظُه: «فَإذَا سَلَّمَ قَالَ: سُبْحَانَ المَلِكِ الْقُدُّوسِ، ثَلاَثَ مَرَّاتٍ يَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ في الأخِيرَةِ، وَيَقُولُ: رَبِّ المَلاَئِكَةِ وَالرُّوحِ» ، انتهى من «السلاح» ،، قالَ النووي ورُوِّينَا في «سُنَنِ أبي داود» و «الترمذي» و «النسائي» عن علي- رضي اللَّه عنه- أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في آخر وِتْرِهِ: «اللهمَّ إني أعوذُ برضاكَ من سَخَطِكَ، وأعوذ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوْبَتِكَ، وأعوذ بك منكَ، لا أحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنْتَ كَما أثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ» «2» قال الترمذيّ: حديث حسن، انتهى.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 549) ، (37001) ، وذكره ابن عطية (5/ 471) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 502) بنحوه.
(2) تقدم تخريجه.
(5/581)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10)
تفسير سورة «الغاشية»
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2)
قال بعض المفسرين: هَلْ بمعنى «قَدْ» وقال الحُذَّاق: هي على بابها توقيفٌ فائِدتُه تَحْرِيكُ نفس السامع إلى تلقّي الخبر، والْغاشِيَةِ القيامة، لأنها تَغْشَى العالَم كلَّه بهَوْلِها، والوجوهُ الخاشعةُ هي وجوهُ الكُفَّارِ وخشوعُها ذلُّها وتغييرُهَا بالعذاب.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 3 الى 10]
عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10)
وقوله سبحانه: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ قال الحسن وغيره: لم تعملْ للَّهِ في الدنيا فأعْمَلَهَا وأَنْصَبَها في النارِ، والنَّصَبُ التَّعبُ «1» ، وقال ابن عباس وغيره: المعنى عاملَةٌ في الدنيا ناصِبَةٌ فِيها على غير هُدًى فَلا ثَمَرَةَ لَعملِها، إلا النَّصَبُ، وخاتمتُه النارُ «2» ، قالوا: والآية في القِسِّيسينَ وكلِّ مجتهدٍ في كُفْرٍ، وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو «تُصْلَى» - بضم التاءِ والباقونَ بفتحها «3» - والآنيةُ: التي قد انتَهى حرُّها كما قال تعالى وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: 44] وقال ابن زيد: آنية: حَاضِرَة «4» ، والضريعُ: قال الحسن وجماعةً: هو الزَّقُّوم «5» ، وقال ابن عباسٍ وغيره: الضريع شبرق النار «6» ، وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم الضريع شوك
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 551) (37010) ، وذكره البغوي (4/ 478) بنحوه.
(2) ذكره البغوي (4/ 478) . وذكره ابن عطية (5/ 472) .
(3) ينظر: «السبعة» (681) ، و «الحجة» (6/ 399) ، و «إعراب القراءات» (2/ 469) ، و «معاني القراءات» (3/ 140) ، و «شرح الطيبة» (6/ 109) ، و «العنوان» (20) ، و «حجة القراءات» (759) ، و «شرح شعلة» (622) ، و «إتحاف» (2/ 605) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 552) ، (37020) ، وذكره ابن عطية (5/ 473) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 573) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(5) ذكره ابن عطية (5/ 473) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 573) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم.
(6) أخرجه الطبري (12/ 552) ، (37021) ، وذكره البغوي (4/ 478) ، وابن عطية (5/ 473) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 573) ، وعزاه لعبد بن حميد عن ابن عبّاس.
(5/582)
لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
في النارِ، ت: وهذا إنْ صَحَّ فلا [يُعْدَلُ] عنه، وقيل غير هذا، ولما ذَكَر تعالى وجوهَ أهلِ النار عَقَّبَ ذلك بذكرِ وجوه أهل الجنة ليبيَّنَ الفرقَ، وقولُه تعالى: لِسَعْيِها يريدُ لَعَمَلِهَا في الدنيا وطاعتها، والمعنى لِثَوابِ سَعْيِها والتَّنْعِيمُ عليه، ووصفَ سبحانَه الجنةَ بالعُلُوِّ وذلك يصحُّ من جهة المسَافَةِ والمكانِ، ومن جهة المكانة والمنزلة أيضا.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 11 الى 13]
لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13)
لاَّ تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً قيل: المعنى كلمةُ لاغيةٌ، وقيل جماعةٌ لاغية، أو فِئَة لاغيةٌ، واللَّغوُ سَقَطُ القَوْلِ، قال الفخر «1» : قوله تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ أي عاليَة في الهواء وذلك لأجل أن يَرَى المؤمن إذا جلسَ عليها جميعَ ما أعطاه اللَّه تعالى في الجنةِ من النعيمِ والمُلْكِ، قال خارجة بن مصعب: بلغَنَا أن بعضَها فَوقَ بعضٍ فترتفعُ ما شاءَ اللَّه فإذا جَاء وليُّ اللَّهِ ليجلسَ عليها تَطَامَنَتْ له فإذا استَوَى عليهَا ارْتَفَعَتْ إلى حيثُ شاءَ اللَّه سبحانه، انتهى.
[سورة الغاشية (88) : الآيات 14 الى 22]
وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ أي: بِأَشْرِبتِها مُعَدَّةٌ، والنَمْرَقَةُ: الوسادةُ، والزَّرَابِيُّ: واحدها زُرْبِيَّةٌ، وهي كالطَّنَافِسِ لها خَمْلٌ قاله الفراء «2» ، وهي ملوّنات ومَبْثُوثَةٌ معناه كثيرةٌ متفرقة، ثم وقفَهم سبحانه على مواضع العبرة في مخلوقاته، والْإِبِلِ في هذه الآيةِ هي الجِمالُ المعروفةُ هذا قول الجمهور، وفي الجَمَلِ آياتٌ وعبر لِمَن تَأمَّلَ، / وكان شُرَيْحُ القاضي يقول لأصحَابِهِ: اخْرُجُوا بنا إلى الكِنَاسَةِ، حتى ننظرَ إلى الإبل كيف خلقتْ «3» ، وقال المبردُ: الإبلُ هُنَا السحابُ لأَنَّ العربَ قد تسميها بذلك، إذ تأتي أرسالا كالإبل، ونُصِبَتْ: معناه: أُثْبِتَتْ قائِمَةً في الهواءِ، وظاهرُ الآية أنّ الأرْضَ سَطْحٌ لا كرةٌ «4» ، وهو الذي عليه أهلُ العلمِ، وقد تقدم الكلامُ على هذا المعنى، ثم نَفَى أن يكونَ النبي صلّى الله عليه وسلّم مُصَيْطِراً على الناسِ، أي: قاهرًا جابراً لهم مع تكبّر متسلّطا عليهم.
__________
(1) ينظر: «الفخر الرازي» (31/ 142) .
(2) ذكره البغوي (4/ 479) ، وابن عطية (5/ 474) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 556) ، (37044) ، وذكره البغوي (4/ 480) ، وابن عطية (5/ 474) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 503) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 575) ، وعزاه لابن حميد عن شريح بنحوه.
(4) وهو الذي تراه العين ظاهرا، ولا يخفى أن حقيقة الأرض بيضاوية. [.....]
(5/583)
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
[سورة الغاشية (88) : الآيات 23 الى 26]
إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ قال بعض المتأولين: الاستثناءُ متصلٌ، والمعنى: إلا مَنْ تولى فإنَّكَ مُصَيْطِرٌ عليه، فالآيةُ على هذا لا نَسْخَ فيهَا، وقال آخرون:
الاستثناء مُنْفَصِلٌ، والمعنى: لست عليهم بمصيطرٍ لَكِنَّ مَنْ تَولَّى وكفر فيعذبُه اللَّه، وهِي آيةُ مُوَادَعَةٍ مَنْسُوخَةٌ بالسَّيْفِ وهذا هُو القولُ الصحيحُ لأنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ والقِتَالُ إنَّما نَزَلَ بالمدينةِ- ص-: وقرأ زيد بن أسْلَم: «إلا من تولّى» : حرف تنبيه واستفتاحٍ، انتهى، وقال ابن العربيِّ في «أحكامه» : روى الترمذيُّ وغيره أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إله إلاَّ اللَّه، فإذَا قَالُوهَا، عَصَمُوا مِنِّي دَمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ» «1» ، ثم قرأ: فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ مفسِّراً معنى الآيةِ وكاشفاً خفاءَ الخفاءِ عنها، المعنى: إذا قال الناسُ: لا إله إلا اللَّه فَلَسْتَ بمسلَّطٍ على سَرَائرِهم وإنما عَلَيْكَ الظاهِرُ، وَكِلْ سرائرَهم إلى اللَّه تعالى، وهذا الحديثُ صحيحُ المعنى، واللَّه أعلم، انتهى،، وإِيابَهُمْ: مصدر من آب يؤوب: إذا رجع.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 558) ، (37057) ، وذكره البغوي (4/ 481) ، وابن عطية (5/ 476) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 578) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس.
(5/584)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
تفسير سورة «الفجر»
وهي مكّيّة عند الجمهور، وقيل: مدنيّة، والأوّل أصحّ وأشهر
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
الفَجْرُ هنا عند الجمهور: هو المشهورُ المعروفُ الطالِعُ كلَّ يومٍ، وقال ابن عباس وغيره: الفجرُ الذي أقسَم اللَّه به صلاةُ الصبحِ، وقيل غيرُ هذا. [واخْتُلِفَ في الليالي العشرِ فقيلَ: العشرُ الأُوَلُ مِنْ رمضانَ، وقيلَ: العشرُ الأواخِر منه، وقيل: عَشْرُ ذي الحجةِ، وقيل: غيرُ هذا] «1» واللَّه أعلم بما أراد، فإن صحّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم شيءٌ في هذا صِيْرَ إليْهِ، واخْتُلِفَ في «الشَّفْعِ وَالْوتر» ما هما؟ على أقوالٍ كثيرةٍ، وروى عمران بن حصين عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «هي الصلواتُ منها الشَّفْعُ ومنها الوَتْرُ» «2» ، وسري الليل: هو ذهابُه وانقراضُه هذا قولُ الجمهورِ، وقيل: المعنى: إذا يسرى فيه.
[سورة الفجر (89) : الآيات 5 الى 14]
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي: هل في هذه الأقسامِ مُقْنِعٌ لذي عقل؟ ثم وقَفَ تعالى عَلى مصارِعِ الأُمَمَ الخاليةِ «وعاد» : قبيلة بِلاَ خلافٍ، واختلفَ في: «إرَمِ» فقال
__________
(1) سقط في: د.
(2) أخرجه الترمذي (5/ 440) ، كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة الفجر (2342) ، وأحمد (4/ 438) ، (4/ 442) ، والطبراني (18/ 232) ، والحاكم (2/ 522) .
قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث قتادة. وقال الحاكم: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(5/585)
مجاهدٌ: هي القبيلةُ بعَيْنِها «1» ، وقال ابن إسحاق: إرم: هو أبو عادٍ كلِّها «2» ، وقال الجمهور: إرم: مدينةٌ لهم عظيمةٌ كانَتْ عَلَى وجهِ الدَّهْرِ باليَمَنِ، واخْتُلِفَ في قوله تعالى:
ذاتِ الْعِمادِ فمن قال: إرم مدينةٌ قال: العمادُ أَعْمِدَة الحجارةِ التي بُنِيَتْ بها، وقيلَ القُصورُ العالية، والأبراجُ يقال لها عِمَادٌ، ومَنْ قَال إرم قبيلةٌ قال: العماد إما أَعْمِدَةُ بنيانهم، وإما أَعْمِدَةُ بيوتِهم التي يَرْحَلُونَ بها قاله جماعةٌ والضميرُ في مِثْلُها يعودُ إما على المدينة وإما على القبيلة.
وجابُوا الصَّخْرَ معناه: خَرَقُوه ونَحَتُوه، وكَانُوا في وادِيهم قد نحتوا بيوتهم في حجارة، وفِرْعَوْنَ هو فِرْعَونُ مُوسىَ، واختلِفَ في أوتادهِ فقيل: أبنيتُه العاليةُ، وقيلَ جنودُه الذينَ بهم يُثَبِّتُ ملكَه، وقيل/ المرادُ أوتادُ أخبيةِ عساكرهِ، وذُكِرَتْ لكثرتِها قاله ابن عباس «3» ، وقال مجاهد: كان يُوتِدُ الناس بأوتادِ حديدٍ، يَقْتلُهُم بذلك: يَضْرِبُها في أَبْدَانِهمْ حَتَّى تنْفُذَ إلى الأرضِ «4» ، وقيلَ: غيرُ هذا، والصَّبُّ مستعملٌ في السوطِ وإنما خُصَّ السوطُ بأنْ يُسْتَعَارَ للعذابِ لأنه يقتضِي من التَّكْرارِ والتَّرْداد ما لا يقتضيه السيفُ، ولاَ غيرُه وقال بعض اللَّغويينَ: السَّوْطُ هنا مصدرٌ من سَاطَ يَسُوطُ إذَا خَلَطَ فكأَنه قال خَلْطُ عَذَابٍ.
- ص-: قال ابن الأنباري: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ هُو جوابُ القَسَمِ، وقيل:
محذوف، وقيل: الجواب، هَلْ فِي ذلِكَ وهَلْ بمعنى «إنّ» وليس بشيء، انتهى، والمرصاد والمَرْصَدُ: مَوْضِعُ الرَّصْدِ، قاله بعض اللغويين، أي: أَنَّه تعالى عنْدَ لسانِ كل قائلٍ ومَرْصَدٍ لكلِّ فاعلٍ، وإذا عَلِمَ العبدُ أَنَّ مولاه له بالمرصادِ ودَامَتْ مراقبتُه في الفؤادِ، حَضَره الخوفُ والحذُر لا محالةَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ [البقرة:
235] قال أبو حامد في «الإحياء» : وبحسبِ معرفةِ العبد بِعيوبِ نفسهِ، ومعرفتهِ بجلالِ ربه وتعالِيه واستغنائِه، وأنه لا يُسْأَلُ عما يفعلُ تَكُونُ قوةُ خوفِه، فأخوفُ الناسِ لربه أعرفُهم بنفسِهِ وبربهِ، ولذا قال صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أخوفُكم للَّه» ، ولذلكَ قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: 28] ثم إذا كَمُلَتِ المعرفةُ أورثتِ الخوفَ واحْتراقَ القلبِ، ثم
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 477) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 567) ، (37130) ، وذكره البغوي (4/ 482) ، وابن عطية (5/ 477) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 507) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 583) ، وعزاه لابن المنذر عن السدي.
(3) ذكره ابن عطية (5/ 478) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 570) ، (37150) ، وذكره ابن عطية (5/ 478) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 508) بنحوه.
(5/586)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23)
يُفِيضُ أَثَرُ الحُرْقَةِ من القلبِ على البَدَنِ فَتَنْقَمِعُ الشهواتُ، وتحترقُ بالخوفِ، ويحصُلُ في القلب الذبولُ والخشوعُ والذِّلَةُ والاستكانةُ، ويصيرُ العبدُ مستوعبَ الهَمِّ بخوفِه والنظرِ في خطرِ/ عاقبتِه فلا يتفرغُ لغيرهِ، ولا يكونُ له شُغْل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والضّنّة بالأنفاس واللحظاتِ، ومؤاخَذَةِ النفسِ في الخَطَراتِ والخُطُواتِ والكلماتِ، ثم قال: واعْلَمْ أنه لاَ تَنْقَمِعُ الشهواتُ بشيء كما تنقمع بنار الخوف، انتهى.
[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 21]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
وقوله سبحانه: فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ ... الآية، ذَكَرَ تَعالى في هذهِ الآيةِ ما كانتْ قريشٌ تقولُهُ وتستدلُّ به على إكرامِ اللَّه وإهانَتِهِ لعبدهِ، وجَاءَ هذا التوبيخُ في الآيةِ لجنس الإنسان، إذ قد يقعُ بعضُ المؤمنينَ في شيء من هذا المَنْزَع، وابْتَلاهُ معناه:
اختبره، ونَعَّمَهُ أي جعله ذا نعمة.
و «قدر» بتخفيفِ الدال بمعنى: ضَيَّقَ، ثم قال تعالى: كَلَّا ردّاً على قولهِم ومعتقدهم، أي: ليس إكرامُ اللَّهِ تعالى وإهانتُه كذلِكَ، وإنما ذلك ابتلاءٌ فَحَقُّ من ابتلي بالغنى أن يشكرَ ويطيعَ، ومَنْ ابْتُلِيَ بالفَقْرِ أن يشكرَ ويصبرَ، وأما إكرامُ اللَّه فهو بالتقوى وإهانَتُهُ فبالمعصيةِ، وطَعامِ في هذهِ الآيةِ بمعْنَى: إطعام، ثم عدَّدَ عليهم جِدَّهم في أكل التراثِ، لأنهم كانوا لا يُورِّثُونَ النِّسَاءَ ولاَ صغارَ الأولادِ، وإنما كان يأخُذُ المالَ مَنْ يقاتِلُ ويَحْمِي الحَوْزَةَ، و «اللَّمُّ» الجَمْعُ واللَّفُّ، قال الحسن: هو أَن يأْخُذَ في الميراثِ حظَّه وحظَّ غيرِه «1» ، والجَمُّ الكثيرُ الشديدُ ومنه قول الشاعر: [الرجز]
إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لَكَ لاَ أَلَمَّا «2»
ومنه الجَمُّ من الناس، ودكّ الأرض تسويتها.
[سورة الفجر (89) : الآيات 22 الى 23]
وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23)
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 574) ، (37171) ، وذكره ابن عطية (5/ 480) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (4/ 586) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن الحسن بنحوه.
(2) تقدم.
(5/587)
يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
وقوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ معناه جَاءَ أَمرُهُ وقضاؤه، وقال منذرُ بنُ سعيد: معناه ظهورُه للخَلْقِ، هنالك ليس مجيءَ نَقَلةٍ وكذلك مجيءُ الصاخَّةِ، ومجِيء الطامةِ «1» ، والمَلَكُ اسم جنس يريد به جميع الملائكة، وصَفًّا أي صُفُوفاً حولَ الأَرْضِ يوم القيامة على ما تقدم في غير هذا الموضع، وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ روي في قوله تعالى: وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ بأنها تساقُ إلى المحشر بسبعينَ ألفِ زمَامٍ يُمْسِكُ كلَّ زِمَامٍ سَبْعُونَ ألفَ ملك، فيخرج منها عنق فينتفي الجبابرةَ من الكفارِ، في حديثٍ طويلٍ باختلاف ألفاظ.
وقوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ معناه: يتذكر عصيانَه وما فاتَه من العمل الصالحِ، وقال الثعلبي: «يومئذ يتذكر الإنسان» أي يتَّعِظُ ويتوب، «وأنى له الذكرى» ، انتهى.
[سورة الفجر (89) : الآيات 24 الى 30]
يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
وقوله: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي قال الجمهور: معناه لحياتي الباقيةِ يريدُ في الآخِرَةِ.
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ أي لا يعذِّبُ كَعَذَابِ اللَّه أحَدٌ في الدنيا، ولا يُوثِقُ كَوَثَاقِه أحَد، ويحتمل المعنى أنَّ اللَّهَ تعالى لا يَكِلُ عذابَ الكافرِ يومئذ إلى أحد، وقرأ الكسائيُّ- بفتح الذالِ والثاءِ «2» - أي: لا يعذَّبُ كعذَابِ الكافر أحَدٌ مِنَ الناسِ، ثم عقَّبَ تعالى بذكر نفوس المؤمنين وحالهم فقال: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ الآية، والمطمئنةُ معناه: الموقِنَةُ غايةَ اليقين، ألا ترى قول إبراهيم ع وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] فهي درجةٌ زائدةٌ على الإيمانِ، واخْتُلِفَ في هذا النداءِ: متى يقع؟ فقال جماعة: عند خروجِ رُوح المؤمِن، وروي في ذلك حديث، وفِي عِبادِي أي: في عِدَاد عِبَادي الصالحينَ، وقال قوم: النداءُ عند قيام الأجْسَادِ من القبور، فقولُه: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ معناه بالبعثِ، و «ادْخُلِي في عِبَادي» أي في الأجْسَادِ، وقيل: النداء هو الآن
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 481) .
(2) ينظر: «السبعة» (685) ، و «الحجة» (6/ 411) ، و «إعراب القراءات» (2/ 480) ، و «معاني القراءات» (3/ 145) ، و «شرح الطيبة» (6/ 111) ، و «العنوان» (209) ، و «حجة القراءات» (763) ، و «شرح شعلة» (624) ، و «إتحاف» (2/ 609) .
(5/588)
للمؤمنينَ، وقال آخرونَ: هذا النداء إنما هو في الموقف عند ما يُنْطَلَقُ بأهل النار إلى النار.
ت: ولا مانِع/ أن يكونَ النداءُ في جميعِ هذه المواطِنِ، ولما تكلَّمَ ابن عطاء اللَّه في مراعاة أحوال النفس قال: رُبَّ صاحبِ وِرْدٍ عَطَّلَه عن وِرْدِهِ والحضورِ فيه مع ربه هَمُّ التدبيرِ في المعيشةِ وغيرِها من مصالحِ النفسِ، وأنواعُ وَسَاوِسِ الشيطان في التدبيرِ لا تَنْحَصِرُ، ومتى أعطاكَ اللَّه سُبحانه الفَهْمَ عنه عرَّفَكَ كَيْفَ تَصْنَع، فَأَيُّ عبدٍ توفَّر عقلُه واتَّسَعَ نورُه نزلت عليه السكينةُ من ربّه فسكنَتْ نفسُهُ عن الاضْطِرَابِ، وَوَثِقَتْ بِوَلِيِّ الأسبابِ، فكانت مطمئنةً، أي: خامِدَةً ساكنةً مستسلمةً لأحكامِ اللَّهِ ثابتةً لأقدارِهِ وممدودةً بتأييدِه وأنوارِه، فاطمأنَّتْ لمولاَها لعلمِها بأنه يَرَاهَا: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] فاستحَقَّتْ أن يقال لها: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً وفي الآية خصائصُ عظيمةٌ لَها مِنْها ترفيعُ شأنِها بتَكْنِيَتِها ومَدْحِها بالطَّمْأنينَةِ ثَنَاءً منه سبحانه عليها بالاستسلام إليه والتوكلِ عليه، والمطمئنُّ المنخفضُ من الأرضِ، فلما انخفضتْ بتَواضُعِهَا وانكسارِها أثْنَى عليها مولاَها، ومنها قوله: راضِيَةٍ أي: عن الله في الدنيا بأحكامه، ومَرْضِيَّةً في الآخرةِ بِجُودِهِ وإنعامِه، وفي ذلك إشارةٌ للعَبْدِ أَنَه لا يَحْصُل له أنْ يكونَ مَرْضِيًّا عند اللَّه في الآخرةِ حتى يكونَ راضِياً عن اللَّهِ في الدنيا، انتهى من «التنوير» .
(5/589)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
تفسير سورة «البلد»
وهي مكّيّة في قول الجمهور وقيل مدنيّة
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2)
قوله تعالى: لاَ أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ الكلامُ في لا تقدم في لاَ أُقْسِمُ [القيامة: 1] والبَلَدُ هو: «مكة» .
وقوله تعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ قال ابن عباس وجماعة: معناه وأنت حَلاَلٌ بهذا البلد، يحلُّ لك فيه قَتْلُ من شئتَ، وكان هذا يومُ فَتْحِ مكة، وعلى هذا يتركبُ قولُ مَنْ قال:
السورة مدنية نَزَلَتْ عَامَ الفتح «1» ، وقال آخرون: المعنى وأنْتَ حال ساكن بهذا البلد.
[سورة البلد (90) : الآيات 3 الى 10]
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)
وقوله تعالى: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ قال مجاهد: هو آدم وجميع ولدهِ «2» ، وقال ابن عباس: ما معناه أنّ الوالدَ والولدَ هنا على العمُومِ فهي أسماء جِنْسٍ يَدْخل فيها جميعُ الحيوانِ «3» ، والقَسَمُ واقع على قوله: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قال الجمهور: الإنْسَانُ اسم جنسٍ والكَبَدُ المشقةُ والمكَابَدَةُ، أي: يُكَابِد أمرَ الدنيا والآخرة، ورُوِيَ: أَن سببَ نزولِ هذه الآية رَجُلٌ من قريشٍ يقال له أبو الأَشَدِّ، وقيل نزلتْ في عمرو بن عبد ود،
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 585) ، (37231) ، وذكره ابن عطية (5/ 483) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 511) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه للحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عبّاس بنحوه.
(2) أخرجه الطبري (12/ 586) ، (37248) ، وذكره ابن عطية (5/ 483) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 511) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 593) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(3) أخرجه الطبري (12/ 586) ، (37247) ، وذكره ابن عطية (5/ 483) . [.....]
(5/590)
وقال: مقاتل: نَزَلَتْ في الحارثِ بن عامر بن نوفل أذنب فاستفتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فَأَمَرَهُ بِالكَفَّارَةِ، فَقَالَ: لَقَدْ أَهْلَكْتُ مَالاً في الكفارات وَالنفَقَاتِ، مُذْ تَبِعْتُ مُحَمَّداً، وَكَانَ كُلُّ واحد منهم قد ادعى أَنَّهُ أَنْفَقَ مَالاً كَثِيراً على إفْسَادِ أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَوْ في الكَفَّارَاتِ على مَا تَقَدَّمَ.
وقوله: أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَداً أي: أنفقْتُ مالاً كثيراً، ومن قال: أَن المرادَ اسمُ الجِنْسِ غيرُ معينٍ، جَعَلَ قولَه: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ بمعنى: أيظُنُّ الإنسانُ أن لَيس عليه حفظةٌ يرون أعمالَه ويُحْصونَها إلى يوم الجزاء، قال السهيلي: وهذه الآيةُ وإن نزلتْ في أبي الأشد فإن الألفَ واللامَ في الإنسان للجنسِ، فيشتركُ مَعَهُ في الخِطابِ كلّ من ظن ظنه وفعل مثلَ فِعْلِه/ وعلى هذا أكثرُ القُرْآنَ، يَنْزِل في السَّبَبِ الخاصِّ بلفظِ عامٍ يتناولُ المَعْنَى العام انتهى، وخرَّج مسلم عن أبي برزة قَال: قال رسولُ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: لاَ تَزُولُ قَدَمَا العَبْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِه فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ جَسَدِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَاذَا عَمِلَ به، وَعَنْ مَالِهِ، مِنْ أَيْنَ اكتسبه وَفِيمَ أَنْفَقَهُ» «1» ، وخرَّجه أيضاً الترمذيُّ وقال فيه: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ «2» ، انتهى، وقرأ الجمهور «3» : لُبَداً أي: كثيراً متلبِّداً بعضُه فوقَ بعضٍ، ثم عدَّدَ تعالى علَى الإنسانِ نَعَمَه في جوارِحه، والنَّجْدَيْنِ: قال ابن عباس والناسُ: هما طريقَا الخَيْرِ والشرِّ، أي: عَرَضْنَا عليه طريقَهما، وليستِ الهداية هنا بمعنى الإرْشَادِ «4» ، وقال الضحاكُ: النَّجْدَانِ ثَدْيَا الأمّ، وهذا مثال، والنجد: الطريق المرتفع «5» .
__________
(1) أخرجه الدارمي في «سننه» (1/ 135) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 286) (1785) .
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 349) : رواه الطبراني والبزار بنحوه ورجال الطبراني رجال «الصحيح» غير صامت بن معاذ، وعدي بن عدي الكندي وهما ثقتان.
(2) أخرجه الترمذي (4/ 612) ، كتاب «صفة القيامة» باب: في القيامة (2416) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 276) ، (1784) ، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه عنه.
قال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث ابن مسعود عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا من حديث الحسين بن قيس، وحسين بن قيس يضعف في الحديث من قبل حفظه.
وفي الباب عن أبي برزة رضي الله عنه: أخرجه الترمذي (4/ 612) ، كتاب «صفة القيامة» باب: في القيامة (2417) ، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (10/ 232) ، وأبو يعلى (13/ 428) ، (7434) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 484) ، و «البحر المحيط» (8/ 470) ، و «الدر المصون» (6/ 525) .
(4) أخرجه الطبري (12/ 591) ، (37293) ، وذكره ابن عطية (5/ 484) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 512) بنحوه.
(5) أخرجه الطبري (12/ 591) (37307) ، وذكره البغوي (4/ 489) ، وابن عطية (5/ 484) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 595) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عبّاس رضي الله عنه.
(5/591)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
[سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 16]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15)
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16)
وقوله تعالى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الآية، قولهُ «فَلاَ» هو عند الجمهورِ تحضيضٌ بمعنى: ألا اقتحم، والعقبةُ في هذه الآيةِ عَلى عُرْفِ كلامِ العَرَبِ استعارةٌ لهذا العمل الشاقِّ على النفسِ، من حيثُ هو بِذَلُ مالٍ، تشبيهٌ بعقبة الجبل، واقْتَحَمَ: معناه: دَخَلَهَا وجَاوَزَها بسرعةٍ وضَغْط وشدة، ثم عَظَّم تعالى أمر العقبةِ في النفوس بقولهِ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ ثمَّ فَسَر اقتحَامَ العقبةِ بقوله: فَكُّ رَقَبَةٍ الآية، وهذا على قراءةِ مَنْ قرأ: فَكُّ رَقَبَةٍ بالرفعِ على المَصْدَرِ وأما من قرأ: «فَكَّ رَقَبَةً أوْ أطْعَمَ» عَلَى الفعلِ، ونَصَبَ الرقبةَ، وهي قراءةُ أبي عمرِو «1» ، فليسَ يحتاجُ أن يُقَدَّرَ: وما أدرَاكَ ما اقتحامٌ بلْ يكونُ التعظيمُ للعقَبةِ نَفْسِها ويجيءُ فَكُّ بَدَلاً من اقْتَحَمَ ومبيَّناً لَه، وفَكُّ الرقَبةِ هو عَتْقُها من رِبْقَةِ الأسرِ أو الرِّقِّ، وفي الحديث/ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ أعْتَقَ نَسَمَةً مؤمِنَةً أعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْواً مِنْهُ مِنَ النَّارِ» «2» ، والمسْغَبَةُ: الجماعة، والساغب: الجائع وذا مَقْرَبَةٍ:
معناه: ذَا قَرَابَةٍ لتجتمعَ الصدقةُ والصلة، وذا مَتْرَبَةٍ: معناه: مُدْقَعاً قَدْ لَصِقَ بالترابِ وهذا ينْحو إلى أنّ المسكينَ أشَدَّ فاقةً مِنَ الفقيرِ، قال سفيانُ: هم المَطْرُوحُونَ على ظهرِ الطريقِ قُعُوداً على الترابِ لا بُيُوتَ لهم «3» ، وقال ابن عباس: هو الذي يَخْرُجُ من بيته ثم يَقْلِبُ وجهَه إلى بيته مستيقناً أنه ليس فيه إلا التراب «4» .
[سورة البلد (90) : الآيات 17 الى 20]
ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
وقوله تعالى: ثُمَّ كانَ معطوفٌ على قوله: اقْتَحَمَ والمعنى: ثم كان وقتَ اقتحامِه العقبةَ من الذين آمنوا.
__________
(1) وهي قراءة ابن كثير والكسائيّ.
ينظر: «السبعة» (686) ، و «الحجة» (6/ 413) ، و «معاني القراءات» (3/ 147) ، و «شرح الطيبة» (6/ 114) ، و «العنوان» (210) ، و «حجة القراءات» (76) ، و «شرح شعلة» (624) ، و «إتحاف» (2/ 610) .
(2) تقدم تخريجه.
(3) أخرجه الطبري (12/ 596) ، (37344) عن ابن عبّاس، وذكره ابن عطية (5/ 486) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 597) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.
(4) أخرجه الطبري (12/ 596) ، (37345) ، وذكره ابن عطية (5/ 486) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 598) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.
(5/592)
وقوله تعالى: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ معناه: على طاعةِ الله وبلائه وقضائه وعن الشهوات والمعاصي، وبِالْمَرْحَمَةِ قال ابن عباس: كلُّ ما يؤَدِّي إلى رحمةِ اللَّهِ تعالى «1» ، وقال آخرون: هو التراحمُ والتعاطُفُ بينَ الناسِ، وفي ذلك قِوَامُ الناس ولو لم يتراحموا جملة لهلكوا، والْمَيْمَنَةِ، فيما رُوِيَ عن يمينِ العرشِ وهو موضِع الجنّة، ومكان المرحومين من الناس، والْمَشْأَمَةِ: الجانب الأشْأَمُ وهُو الأَيْسَرُ وفيه جهنَّم وهو طريق المعذبين، ومُؤْصَدَةٌ معناه: مطبقة مغلقة.
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 486) .
(5/593)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
تفسير سورة «الشمس»
وهي مكّيّة
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2)
أقْسَمَ اللَّهُ تعالى بالشمسِ: إما على التنبيهِ منها على الاعتبارِ المؤَدِّي إلى معرفةِ اللَّهِ تعالى، وإما على تقديرِ ورَبِّ الشمسِ، والضُّحَى- بالضم والقصرِ-: ارتفاعُ ضوء الشمسِ وإشراقُه، قاله مجاهد «1» وقال مقاتل: ضُحاها حَرُّها كقوله في طه: وَلا تَضْحى [طه: 119] ، والضَّحَاءُ- بفتح/ الضادِ والمَدِّ-: ما فَوْقَ ذلك إلى الزَّوالِ، والقَمَرُ يَتلو الشمسَ من أول الشّهرِ إلى نصفِه في الغروبِ تغربُ هي ثم يغربُ هو، ويتلُوها في النصفِ الآخر بنحو آخرَ وهو أن تغربَ هي فيطلعُ هو «2» ، وقَال الحسنُ: تَلاها معناه تَبَعها دَأْباً في كل وقت لأَنّه يستضيءُ منها فهو يتلوها لذلك «3» ، وقال الزجاج وغيره: تلاها في المنزلةِ من الضياءِ والقَدْرِ: لأَنَّه ليس في الكواكبِ شيءٌ يتلو الشمس في هذا المعنى غير القمر.
[سورة الشمس (91) : الآيات 3 الى 7]
وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7)
وقولهُ: وَالنَّهارِ ظاهرُ هذهِ السورةِ والتي بعدَها أن النَّهارَ من طلوعِ الشمسِ، وكذلك قال الزجاج في كتاب «الأنواء» وغيرُه، واليوم من طلوعِ الفجر، ولا يُخْتَلَفُ أَنَّ نِهَايَتَهُمَا مَغِيبُ الشَّمْسِ، والضمير في جَلَّاها يحتملُ أنْ يعودَ على الشمس، ويحتمل أن
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 599) ، (37358) ، وذكره البغوي (4/ 491) ، وابن عطية (5/ 487) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 515) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 598) ، وعزاه للحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عبّاس بنحوه.
(2) ذكره البغوي (4/ 491) ، وابن عطية (5/ 487) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 600) عن مجاهد برقم: (37360) ، وذكره ابن عطية (5/ 487) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 600) ، وعزاه لابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عبّاس.
(5/594)
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
يعودَ على الأَرْضِ، أو على الظُّلْمَةِ، وإنْ كان لم يَجْرِ لذلك ذِكْرٌ، فالمعنَى يقتضيه قاله الزجاج، و «جَلَّى» معناه كَشَفَ وضَوَى والفاعل ب «جَلَّى» على هذه التأويلاتِ النهارُ، ويحتمل أن يكونَ الفاعلَ اللَّهُ تعالى، كأنّه قال: والنهارِ، إذ جَلَّى اللَّهُ الشمسَ، فأقْسمَ بالنهار في أكملِ حالاتِه، و «يغْشَى» معناه: يُغَطِّي، والضميرُ للشمسِ على تجوُّزٍ في المعْنَى أو للأَرض.
وقوله تعالى: وَما بَناها وكلُّ ما بعدَه من نظائرِه في السورةِ يحتملُ أَن تَكُوْنَ «ما» فيه بمعنى الذي قاله أبو عبيدة، أي: ومَنْ بَناهَا، وهو قولُ الحسن ومجاهد، فيجيءُ القسمُ باللَّه تعالى «1» ، ويحتملُ أَنْ تَكُونَ مَا في جميعِ ذلك مصدرية قاله قتادةُ والمبردُ والزجاجُ، كأنَّه قالَ: والسماءِ وبنائِها «2» ، و «طحا» بمعنى: دَحَا، ت: قال الهروي:
قوله تعالى: وَالْأَرْضِ وَما طَحاها أي بَسَطَها فأوسَعَها، ويقال طَحَا بِه الأمْرُ أي اتَّسَعَ به في المَذْهَبِ، انتهى، والنفسُ التي أقْسَمَ بِها سبحانه اسْمُ جنسٍ، وتسويتُها إكمالُ عقلها ونظرها.
الثعلبيّ: وسَوَّاها أي: عدّل خلقها، انتهى.
[سورة الشمس (91) : الآيات 8 الى 15]
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12)
فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15)
وقوله سبحانه: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها أي: عرَّفَها طرق «3» ذلكَ، وجَعَلَ لها قوةً يصحُّ معها اكتسابُ الفُجُور أو اكتسابُ التقوى، وجوابُ القَسَمِ في قوله: قَدْ أَفْلَحَ والتقديرُ: لَقَدْ أفْلَحَ، زاد- ص-: وحُذِفَتْ اللامُ للطُولِ انتهى، والفاعلُ ب «زكى» يحتملُ أَن يكُونَ اللَّهُ تَعَالَى قاله ابن عباس وغيره «4» ، ويحتمل أن يكون الإنسان قاله
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 601) عن مجاهد، برقم: (37368) ، وذكره ابن عطية (5/ 488) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 515) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 599) ، وعزاه للحاكم وصححه من طريق مجاهد عن ابن عبّاس بنحوه. [.....]
(2) أخرجه الطبري (12/ 601) ، (37367) عن قتادة، وذكره البغوي (4/ 992) ، وابن عطية (5/ 488) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 515) عن قتادة.
(3) في د: طريق.
(4) أخرجه الطبري (12/ 603) ، (37383) ، وذكره ابن عطية (5/ 488) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 602) ، وعزاه لحسين في «الاستقامة» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
(5/595)
الحسن وغيره «1» ، وزَكَّاها أي طهّرها ونمّاها بالخيرات ودَسَّاها معناه: أخْفَاهَا وحَقَّرَها وصَغَّرَ قدْرَها بالمعاصِي والبخلِ بما يَجِبُ وأَصلُ «دَسَّى» : دَسَّسَ ومنه قول الشاعر: [الطويل]
وَدَسَّسْتَ عَمْراً في التُّرَابِ فَأَصْبَحَت ... حَلائِلُهُ مِنْهُ أَرامِلَ ضُيَّعَا «2»
ت: قال الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي: ومن عيوبِ النفس الشفقةُ عليها، والقيامُ بتَعَهُّدِها وتحصيلِ مآربِها، ومداواتُها الإعراضُ عَنْها وقلةُ الاشْتِغَالِ بها، كذلك سمعتُ جَدِّي يقول: مَنْ كَرُمَتْ عليه نفسهُ هَانَ عليه دينُه، انتهى من تأليفه في عيوب النفس، وروي: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه الآيةَ قال: «اللَّهُمَّ آتِ نَفْسِي تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا» «3» ، قال «صاحبُ الكَلِمُ الفَارِقِيَّةِ والْحِكَمِ الحقيقيَّةِ» : النفسُ الزكيَّةُ زِينَتُها نَزَاهَتُها، وعافيتُها عِفَّتُها، وطَهَارَتُها وَرَعُها، وغِنَاها ثِقَتُها بمولاها وعلمُها بأنَّه لا ينساها، انتهى، ولما ذَكَر تعالى خَيْبَة مَنْ دسَّى نفسَه ذكرَ فرقةً فَعَلَتْ ذلكَ ليعتبرَ بهم، وينتهى/ عن مثلِ فعلِهم، والطَّغْوَى: مصدرٌ وقال ابن عباس:
الطغوى هنا العذابُ. كذَّبُوا به حتَّى نَزلَ بهِم ويؤيدُه قولُه تعالى: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ»
[الحاقة: 5] وقال جمهورُ من المتأولين: الباءُ سببيةٌ والمعنى: كذّبت ثمود نبيّها بسبب طغيانها، وأَشْقاها: هو قدار بن سالف، وقد تقدم قصصُهم، ت:
وناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها قيل: نَصْبٌ بفعلٍ مُضْمَرٍ تقديرُه احْفَظُوا أو ذَرُوا، وقال- ص-:
ناقَةَ اللَّهِ الجمهورُ: بنصبِ ناقَةَ على التحذيرِ أي احذرُوا ناقةَ اللَّهِ، وهو مما يجبُ إضمارُ عامِله، انتهى، وفَدَمْدَمَ معناه أنْزَلَ العذابَ مُقَلْقِلاً لهمْ مكرَّراً ذلك، وهي الدَّمْدَمَةُ، الثعلبيُّ: قال مؤرج: الدمدمةُ أهلاكٌ باستئصالٍ، انتهى، وكذلكَ قال أبو حيانٍ «5» ، وقال الهروي: قال الأزهريُّ: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ أي: أطبق عليهم العذاب، وقيل
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 603) عن قتادة، برقم: (37386) ، وذكره ابن عطية (5/ 488) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 516) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 601) ، وعزاه لعبد بن حميد عن الحسن.
(2) البيت لرجل من طي.
ينظر: «اللسان» (دسا) ، «البحر المحيط» (8/ 472) ، و «الدر المصون» (6/ 531) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 488) .
(3) تقدّم تخريجه.
(4) أخرجه الطبري (12/ 605) ، (37398) ، وذكره ابن عطية (5/ 488) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 602) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس.
(5) ينظر: «البحر المحيط» (8/ 476) .
(5/596)
فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ أي: غَضِبَ عليهم، انتهى.
وقوله تعالى: فَسَوَّاها أي فَسَوَّى القبيلةَ في الهَلاَكِ لَم يَنْجُ مِنْهم أَحَدٌ، وقرأ نافع وابن عامر «1» : «فَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا» والمعنى: فَلاَ دَرَكَ عَلَى اللَّهِ تعالى في فعلهِ بهم وهذا قول ابن عباس والحسن «2» ، ويحتملُ أنْ يكونَ الفاعل ب يَخافُ صالحا ع أي: لا يخاف عُقْبَى هذه الفعلةِ بهم إذ كَانَ قَدْ أنذَرهم، وقرأ الباقون: «ولاَ يَخَافُ» بالواوِ فَتَحْتَمِلُ الوجهينِ، وتحتملُ هذه القراءةُ وجْهاً ثالثاً: أنْ يكونَ الفاعلُ ب يَخافُ المنبعثَ قاله الزجاجُ والضحاكُ والسدي، وغيرُهم، وتكون الواوُ واوَ الحالِ، كأنّه قال: انْبَعَثَ لِعَقْرِهَا وهو لا يخاف عقبى فعله «3» .
__________
(1) ينظر: «السبعة» (689) ، و «الحجة» (6/ 420) ، و «إعراب القراءات» (2/ 491) ، و «معاني القراءات» (3/ 150) ، و «شرح الطيبة» (6/ 116) ، و «العنوان» (21) ، و «حجة القراءات» (766) ، و «شرح شعلة» (625) ، و «إتحاف» (2/ 612) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 606) عن ابن عبّاس برقم: (37409) ، وعن الحسن برقم: (37410) ، وذكره البغوي (4/ 494) ، وابن عطية (5/ 489) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 517) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 602) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن.
(3) أخرجه الطبري (12/ 606) عن السدي برقم: (37417) ، وذكره البغوي (4/ 494) ، وابن عطية (5/ 489) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 517) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 602) ، وعزاه لابن جرير عن الضحاك.
(5/597)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)
تفسير سورة «اللّيل»
وهي مكّيّة في قول الجمهور
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2)
أقسَمَ تعالى بالليل إذا غَشِيَ الأرضَ وجميعَ ما فيها، وبالنهارِ إذا تَجَلَّى، أي: ظهَرَ وضَوَّى الآفاقَ، وقال- ص-: يَغْشى: مفعولهُ محذوفٌ فيحتملُ أنْ يكونَ النهارَ كقوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الأعراف: 54] أو الشمس كقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها [الشمس: 4] وقيل الأرض وما فيها، انتهى.
[سورة الليل (92) : الآيات 3 الى 14]
وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7)
وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12)
وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14)
وقوله تعالى: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى يحتملُ أنْ تكونَ «ما» بمعنى: «الذي» ويحتملُ أَنْ تكونَ مصدريةً، والذكرُ والأنثى هنا عامٌّ، وقال الحسن: المرادُ آدمُ وحواء «1» ، والسَّعْيُ العَمَلُ، فأخبرَ تعالى مُقْسِماً أَنَّ أعمالَ العبادِ شَتَّى، أي: متفرقة جدًّا بعضُها في رِضَى اللَّهِ، وبعضها في سَخَطِه، ثم قَسَّم تعالى الساعينَ فقال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى الآية، ويُروى أن هذهِ الآيَة نزلتْ في أبي بكرٍ الصديقِ- رضي اللَّه عنه-.
وقوله تعالى: وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى قيل هي: لا إله إلا اللَّه، وقيل: هي الخَلَفُ الذي وَعَدَ اللَّه بهِ، وقيل: هي الجنةُ، وقال كثيرٌ من المتأولينَ: الحسنى: الأجرُ والثوابُ مُجْمَلاً، والعُسْرَى: الحال السيئة في الدنيا والآخرة، ومن جَعل بَخِلَ في المالِ خَاصَّةً جَعَلَ اسْتَغْنى في المالِ أيضاً، لتَعْظُمَ المَذَمَّةُ، ومَنْ جَعَلَ بَخِلَ عَامًّا في جَمِيعِ مَا يَنْبَغِي أن يبْذَلَ، مِنْ قَولٍ أو فعلٍ قال: اسْتَغْنى عن اللَّهِ ورحمتهِ بِزَعْمِه، وظاهرُ قوله:
__________
(1) ذكره البغوي (4/ 494) ، وابن عطية (5/ 490) .
(5/598)
وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ أَنَّ الإعطاءَ والبخلَ المذكورين إنما هما في المال.
وقوله تعالى: إِذا تَرَدَّى، قال قتادة وغيره: معناه تردَّى في جهنم «1» . وقال مجاهد: تَرَدَّى معناه: هَلَكَ من الردَّى «2» ، وخَرَّج البخاريُّ وغيرُه عن علي- رضي اللَّه عنه- قال: «كُنَّا مع النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في بَقِيعِ الغَرْقَدِ في جِنَازَةٍ، فقالَ: مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ، أوْ مَا/ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إلاَّ وَقَدْ كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإلاَّ قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّه، أفَلاَ نتَّكِلُ على كِتَابِنَا، وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إلى أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَسَيَصِيرُ إلى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاءِ؟ قال: أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ، فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى إلى قوله:
لِلْعُسْرى» وفي روايةٍ، لَمَا قيلَ له: أفَلاَ نتَّكِلُ على كِتَابِنَا، قال: لاَ بَلِ اعملوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» الحديثَ، وخرَّجه الترمذيُّ أيضاً، انتهى، قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» :
«وسأل شابّان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَقَالاَ: العَملُ فِيما جَفَّتْ بهِ الأَقْلاَمُ وجَرَتْ بهِ المَقَادِيرُ أَمْ في شَيْءٍ مُسْتَأْنَفٍ؟ فقال: بَلْ فِيمَا جَفَّتْ بِهِ الأَقْلاَمُ، وجَرَتْ بِهِ المَقَادِيرُ، قَالاَ: فَفِيمَ العَمَلُ إذَنْ: قَالَ: اعملوا فَكُلُّ مُيسَّر لِعَمَلِهِ الَّذِي خُلِقَ له» قالا: فالآنَ نَجِدُّ ونَعْمَلُ» «3» انتهى، وقال قوم: معنى تردى، أي: بأكْفَانِهِ مِنَ الرِّدَاءِ ومنه قول الشاعر: [الطويل]
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 617) ، (37481) ، وذكره البغوي (4/ 496) ، وابن عطية (5/ 491) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 520) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 606) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة.
(2) أخرجه الطبري (12/ 617) ، (37482) ، وذكره البغوي (4/ 496) ، وابن عطية (5/ 491) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 520) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 606) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. [.....]
(3) أخرجه البخاري (11/ 530) ، كتاب «القدر» باب: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (6605) ، (13/ 531) ، كتاب «التوحيد» باب: قول الله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (7552) ، ومسلم (4/ 2039، 2040) ، كتاب «القدر» باب: كيفية الخلق الآدمي في بطن أمه، وكتابة رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته (6- 7/ 2647) ، وأبو داود (2/ 634- 635) ، كتاب «السنة» باب: في القدر (4694) ، والترمذي (4/ 445) ، كتاب «القدر» باب: ما جاء في الشقاوة والسعادة (2136) ، (5/ 441) ، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (3344) ، وأحمد (1/ 82، 129، 132- 133، 140، 157) ، وابن حبان (2/ 43- 44- 45) ، كتاب «البر والإحسان» باب: ما جاء في الطاعات وثوابها (233- 234) ، والطيالسي (1/ 32) ، كتاب «القدر» باب: ما جاء في العمل مع القدر (61) ، وابن ماجه (1/ 30- 31) ، «المقدمة» باب: في القدر (78) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(5/599)
لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
نصيبك مما تجمع الدهر كله ... رداءان تلوى فِيهِمَا وَحَنُوطُ «1»
ثم أخبر تعالى أن عليه هدى الناس جميعاً، أي: تعريفَهم بالسُّبل كلِّها، وليستْ هذه الهدايةُ بالإرشَادِ إلى الإيمان، ولو كانَ ذلِك لَمْ يُوجَدْ كافرٌ، قال البخاريُّ: «تَلَظَّى» : تُوَهَّجٌ وقال الثعلبيَّ: تَتَوقَّدُ، وتتوهَّج، انتهى.
[سورة الليل (92) : الآيات 15 الى 21]
لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19)
إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
وقوله سبحانه: لاَ يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى المعنى: لا يصْلاَها صَلْيَ خُلُودٍ، ومن هنا ضَلَّتْ المُرْجِئَةُ لأنها أخَذَتْ نَفْيَ الصَّلْيِ مُطْلَقاً، ولم يَخْتَلِفْ أَهلُ التأويلِ أن المرادَ بالأتْقَى إلى آخر السورة/ أبو بكرٍ الصديقِ، ثم هي تَتَنَاولُ كلَّ مَنْ دَخَلَ في هذِه الصفاتِ، وباقي الآيةِ بيِّنٌ، ثم وَعَدَه تعالى بالرِّضَى في الآخرةِ وهذه [عِدَةٌ] لأبي بكرٍ- رضي الله عنه-.
__________
(1) البيت في «البحر المحيط» (8/ 478) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 491) ، و «الدر المصون» (6/ 535) .
(5/600)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)
تفسير سورة «الضّحى»
[وهي] مكّيّة بلا خلاف
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6)
تقدّم تفسير الضُّحى بأنه: سُطُوع الضوءِ وعِظَمُه، وقال قتادة: الضُّحى هنا النهار كلّه «1» وسَجى معناه سَكَنَ واستقَرَّ لَيْلاً تامًّا، وقيل: معناه أقْبَلَ، وقِيلَ: معناه أدْبَرَ، والأولُ أصحُّ، وعليه شواهِدُ، وقال البخاريُّ: قال مجاهد: إِذا سَجى اسْتَوَى «2» ، وقال غيره: أظلمَ وسكنَ، انتهى،، وقرأ الجمهور: مَا وَدَّعَكَ- بشدِ الدالِ- من التَّوْدِيع وقُرِىءَ «3» بالتخفيفِ بمعنى: ما تَرَكَكَ، وقال البخاريُّ: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ بالتشديدِ والتخفيفِ: ما تَرَكَكَ، انتهى.
وقَلى أبْغَضَ، نزلتْ بسببِ إبطَاءِ الوَحْي مدَّة وَلَلْآخِرَةُ يعني: الدارَ الآخِرَةَ خيرُ لَكَ من الدنيا، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى قيل: هي أرْجَى آية في القرآن لأنّه صلّى الله عليه وسلّم لا يرضى، وواحدٌ من أمتهِ في النارِ، ورُوِي أنه- عليه الصلاةُ والسلام- قال لما نَزَلَتْ: «إِذنْ لاَ أرضى، وأَحدٌ مِنْ أُمَّتِي في النَّارِ» قال عِيَاضٌ: وهذه آيةٌ جامعةٌ لوجوه الكرامة وأنواع
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 621) ، (37492) ، وذكره البغوي (4/ 498) ، وابن عطية (5/ 493) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 609) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة رضي الله عنه.
(2) أخرجه الطبري (12/ 622) ، (37496) ، وذكره البغوي (4/ 498) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 609) ، (6/ 609) وعزاه للفريابي وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد رضي الله عنه.
(3) حكيت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك عروة بن الزبير.
ينظر: «الشواذ» ص: (175) ، و «المحتسب» (2/ 364) ، و «الكشاف» (4/ 765) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 493) ، و «البحر المحيط» (8/ 480) ، و «الدر المصون» (6/ 537) .
(5/601)
وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
السعادةِ في الدارين، انتهى، [ت: وفي «صحيح مسلم» من رواية عبد اللَّه بن عمرو بن العَاصِي: أنَّ النبي صلّى الله عليه وسلّم تلا قول الله- عز وجل- في إبراهيمَ عليه السلام: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم:
36] وقولُ عيسى عليه السلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: 118] فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ، أُمَّتِي أُمَّتِي، وبكى، فَقَالَ اللَّهُ- جَلَّ ثناؤُهُ- يَا جِبْرِيلُ اذهب إلى مُحَمَّدٍ فَقُلْ لَهُ: إنَّا سَنُرْضِيكَ في أمّتك ولا نسؤوك، انتهى مختصراً] «1» ، ثُمَّ وَقَفَ تَعَالَى نبيَّه على المراتبِ التي دَرَجَه عَنْها بإنعَامِهِ فقال: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى.
[سورة الضحى (93) : الآيات 7 الى 11]
وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
وقوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى اخْتَلَفَ الناسُ في تأويلِهِ، والضلالُ يَخْتَلِفُ، فمنه البعيدُ ومنه القريبُ فالبعيدُ ضلالُ الكفَّارِ، وهذا قَدْ عَصَمَ الله منه نبيّه فلم يعبد/ صلّى الله عليه وسلّم صَنَماً قط، ولا تَابعَ الكفارَ على شيءٍ مما هم عليه من الباطلِ، وإنما ضلالُه صلّى الله عليه وسلّم هو كَوْنُهُ واقفاً لا يَميزُ المَهْيَعَ، بل يُدْبِرُ وَيَنْظُر، وقال الترمذي وعبد العزيز بن يحيى: ضَالًّا معناه: خاملُ الذِّكْرِ لا يعرفُك الناسُ فهداهُم إليكَ ربُّك، والصوابُ أنه ضلالُ من توقّف لا يدري، كما قال عز وجل: مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] وقال الثعلبي: قال بعض المتكلمين: إذا وجَدَتِ العربُ شَجَرَةً مفردة في فلاةٍ سَمَوْها ضالةً فَيُهْتَدَى بها إلى الطريقِ، أي: فَوَجَدْتُكَ وَحيداً ليس معَك نبيٌّ غيرَك فهديتُ بك الخلقَ إليَّ، انتهى، قال عياض: وقال الجنيد: المَعْنَى: وَوَجَدَكَ متحيِّراً في بيانِ ما أُنْزِلَ إليكَ فهَدَاكَ لبيانِه، لقوله: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ... [النحل: 44] الآية، قال عياض: ولا أعلمُ أحداً من المفسرينَ قَال فيها ضالاًّ عَنْ الإيمانِ، وكذلك في قصةِ موسى- عليه السلام- قوله: فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء: 20] أي المخطئينَ، وقال ابن عطاء: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي: مُحِبًّا لمعرفتِي، والضَّالُّ: المحِبُّ، كما قال تعالى: إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ [يوسف: 95] أي: محبَّتِكَ القديمةِ، انتهى، والعَائِلُ: الفقيرُ فَأَغْنى أي: بالقناعَةِ والصَّبْرِ، ثم وصَّاه تَعالى بثلاثِ وصَايَا بإزاءِ هذه النعم الثلاث، والسَّائِلَ هنا قَال أبو الدرداء: هو السائلُ عن العلم «2» ، وقيل: هو سائل المال، وقال
__________
(1) سقط في: د.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 495) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 612) ، وعزاه لابن أبي حاتم.
(5/602)
إبراهيم بن أدهم: نعم القومُ السؤال يحملنا زادنا إلى الآخرة.
وقوله تعالى: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ قال مجاهد وغيره: معناه بُثَّ القرآن وبلِّغْ ما أُرسلْتَ بهِ «1» ، قال عياض: / وهذا الأمرُ يَعُمَّ الأمة، انتهى، وقال آخرونَ: بل هُوَ عُمُوم في جميعِ النِّعم، وفي «سنن أبي داود» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أَعْطُوا الأَجِيرَ حَقَّهُ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ عَرَقُهُ «2» ، وَأَعْطُوا السَّائِلَ، وَإنْ جَاءَ على فَرَسٍ» «3» قال البغويُّ في «المصابيحِ» : هذا حديثٌ مُرْسَلٌ انتهى.
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 495) ، وذكره أبو حيان (8/ 482) .
(2) أخرجه ابن ماجه (2/ 817) ، كتاب «الرهون» باب: إجارة الأجير على طعام بطنه (2443) ، قال البوصيري في «الزوائد» (2/ 259) : هذا إسناد ضعيف، وهب بن سعيد هو: عبد الوهاب بن سعيد وعبد الرحمن بن زيد وهما ضعيفان، لكن نقل عبد العظيم المنذري الحافظ في كتاب «الترغيب» له:
ابن عبد الرحمن بن زيد وثق، وقال: قال ابن عدي: أحاديثه حسان قال: وهو محن احتمله الناس وصدقه بعضهم وهو ممن يكتب حديثه، قال: ووهب بن سعيد وثقه ابن حبان وغيره انتهى.
فعلى هذا يكون الإسناد حسنا والله أعلم، وأصله في «صحيح البخاري» وغيره من حديث أبي هريرة.
(3) أخرجه مالك (2/ 996) ، كتاب «الصدقة» باب: الترغيب في «الصدقة» (3) ، مرسلا.
قال العجلوني في «كشف الخفا» (1/ 161) : رواه مالك في «الموطأ» مرسلا عن زيد بن أسلم، قال ابن حجر في خطبة «اللآلئ المنثورة» وهو أحد الأحاديث الخمسة التي قال فيها علي بن المديني:
خمسة أحاديث يرونها عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا أصل لها عنه.
(5/603)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
تفسير سورة «الشرح»
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
عَدَّدَ اللَّه تعالى على نبيه نِعَمَه عليه في أنْ شَرَحَ صدرَه للنبوَّةِ، وهَيأَه لها، وذَهَبَ الجمهورُ إلى أنَّ شَرْحَ الصدرِ المذكورِ إنما هو تنويرُه بالحكمةِ، وتوسِيعُه لتلقي مَا يُوحى إليه، وقال ابن عباس وجماعة: هذه إشارة إلى شَرْحِه بشَقِّ جبريلَ عنه في وقْتِ صِغَرهِ، وفي وقْتِ الإسراء إذا التشريحُ شَقُّ اللحْمِ، والوِزْرُ الذي وضعَهُ اللَّه عنه هو عند بعض المتأولين الثِّقَلُ الذي كان يجده صلّى الله عليه وسلّم في نفسهِ من أجل ما كانتْ قريشٌ فيه من عبادةِ الأصْنَامِ فَرَفَعَ اللَّهُ عنه ذلكَ الثِّقَلَ بنبوَّتِه وإرسالهِ، وقال أبو عبيدةَ وغيره: المعنى: خَفَّفْنَا عنك أثقَال النبوَّةِ وأعنَّاكَ على الناسِ «1» ، وقيل الوِزْرُ هنا: الذنوبُ، نظيرَ قولهِ تعالى:
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [الفتح: 2] وقد تقدم بيانُه، الثعلبيّ: وقيلَ: معناه:
عَصَمْنَاكَ من احتمالِ الوِزْرِ، انتهى. وأَنْقَضَ معناه: جَعَلَهُ نَقْضاً، أي: هَزيلاً، من الثِّقَلِ، قال عياض: ومعنى أَنْقَضَ، أي: كَادَ يَنْقُضُه، انتهى، وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ أي نَوَّهْنَا باسمِك، قال ع «2» : ورفعُ الذكرِ نعمةٌ على الرسولِ وكذلكَ هُوَ جميلٌ حسنٌ للقائمينَ بأمورِ الناس، وخمولُ الاسْمِ والذكرِ حَسَنٌ للمنفردِينَ للعبادة، / والمعنى في هذا: التَّعْدِيد:
أَنَّا قد فعلنا جميعَ هذا بكَ فلا تَكْتَرِثْ بأذى قريشٍ فإن الذي فعلَ بكَ هذه النعمُ سَيُظَفِّرُكَ بهم، قال عياض: ورَوَى أبو سَعِيدٍ الخدريُّ أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «أَتَانِي جِبْريلُ فَقَالَ إنَّ رَبِّي وَرَبَّكَ يَقُولُ: أَتَدْرِي كَيْفَ رَفَعْتُ ذِكْرَكَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ تعالى أَعْلَمُ، قال: إذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي» ، انتهى، ثم قوَّى سُبْحَانه رجاءَه بقولهِ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً وكرّر تعالى
__________
(1) ذكره البغوي (4/ 502) ، وابن عطية (5/ 496) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 497) .
(5/604)
ذلكَ مبالغةً، وذَهَبَ كثيرٌ من العلماءِ إلى أنَّ مع كلِّ عُسْرٍ يُسْرَيْنِ بهذه الآية، من حيثُ إنَّ العُسْرَ مُعَرَّفٌ للعَهْدِ واليسْرُ مُنَكَّرٌ فالأولُ غَيْرُ الثاني، وقَدْ جاء في هذا التأويل حديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» «1» ، ثم أمر تعالى نَبِيَّهُ إذا فَرَغَ مِن شُغْلِ مِنْ أَشْغَالِ النبوَّةِ والعبادةِ أن يَنْصَبَ في آخِرِه، والنَّصَبُ: التعبُ، والمعنى: أن يَدْأَبَ على مَا أُمِرَ به ولاَ يَفْتُرَ، وقال ابنُ عباسٍ: إذا فَرغْتَ مِنْ فَرْضِكَ فَانْصَبْ في التَّنفُّلِ عبادةً لربك «2» ، ونحوُه عن ابن مسعود وعن مجاهد: «فإذا فرغت من العبادةِ فانْصَبْ في الدعاء» «3» .
وَقَوْلُه تعالى: وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ: أمر بالتوكل على الله- عز وجل- وصَرْفِ وُجُوهِ الرَّغَبَاتِ إليه لا إلى سواه.
__________
(1) تقدم.
(2) أخرجه الطبري (12/ 628) ، (37542) ، وذكره ابن عطية (5/ 497) ، وأبو حيان (8/ 484) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 617) ، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم. [.....]
(3) أخرجه الطبري (12/ 628) ، (37541) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي (4/ 503) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 526) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 617) ، وعزاه لابن أبي الدنيا.
(5/605)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
تفسير سورة «التّين»
وهي مكّيّة
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
قال ابن عبّاس وغيره: «التين والزيتون» المقْسَمُ بهما هُما المعروفانِ، وقال السهيلي:
أقْسَمَ تعالى بطور تينا، وطور زيتا، وهما جبلانِ عند بيتِ المقدس، وكذلك طور سيناء، ويقال: إن سيناءَ هي الحجارةُ، والطورُ عند أكثر الناسِ هو الجبلُ، وقال الماورديُّ: / ليس كلُّ جبلٍ يقال له: طورٌ إلا أنْ تكونَ فيه الأشجارُ والثمار، وإلا فهو جَبَلٌ فقط، انتهى، وَطُورِ سِينِينَ جبل بالشّام، والْبَلَدِ الْأَمِينِ مكةَ، والقَسَمُ واقع على قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [أي: في أحسن تقويم] «1» ينبغي لَه، وقال بعضُ العلماءِ بالعموم، أي: الإنسانُ أحسنُ المخلوقَاتِ تقويماً، ولَمْ يَرَ قومٌ الحِنْثَ على مَنْ حَلَفَ بالطلاقِ أنَّ زوجتَه أحسنُ من الشمس محتجين بهذهِ الآيةِ، وحسْنُ التقويمِ يشملُ جميعَ محاسنِ الإنسانِ الظاهرةِ والباطنةِ من حسن صورتهِ، وانتصابِ قامَتهِ، وكمالِ عقلهِ، وحسن تمييزِه، والإنسانُ هنا اسمُ جنسٍ، وتقديرُ الكلام: في تقويمِ أحسنَ تقويمٍ لأَن أَحْسَنِ صفةٌ لا بُدَّ أنْ تَجْرِي على موصوفٍ.
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ قال قتادةُ وغيره: معناه بالهَرَم وذهولِ العقلِ وهذهِ عِبْرة منصوبةٌ «2» ، وعبارةُ الثعلبيِّ: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ قيل: اعتدالهُ واستواءُ شبابهِ، وهو أَحْسَنُ ما يكونُ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ بالهَرَمِ كما قال: إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [الحج: 5] ، والسافلونَ: الهَرْمَى والزَّمْنَى والذين حَبَسَهُم عذرُهم عن الجهادِ في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل
__________
(1) سقط في: د.
(2) أخرجه الطبري (12/ 638) ، (37624) ، وذكره ابن عطية (4/ 500) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 621) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن عبّاس.
(5/606)
اللَّه عُذرَهم وأخبرَهم أن لهم أجْرَهم الذي عَمِلُوا قبلَ أن تَذْهَبَ عقولهُم، انتهى، وفي البخاريّ عنه صلّى الله عليه وسلّم «إذا مَرِضَ العبدُ أو سَافرَ كتبَ اللَّه له مثلَ ما كانَ يعملُ مقيماً صحيحاً» وهكذا قال في الذين حَبَسَهُم العذرُ، انتهى، قال- ص-: إِلَّا الَّذِينَ قيلَ: منقطعٌ بناءً على أنَّ مَعْنَى أَسْفَلَ سافِلِينَ: بالهرَم وذهولِ العقْلِ، وقيل متصلٌ بِنَاءً عَلى أَنَّ معْناه في النارِ على كفرِه، انتهى، قال ع «1» : وفي حديثٍ/ عَنْ أنسٍ قال: قال رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذا بَلَغَ المؤْمِنُ خمسينَ سَنَةً خَفَّفَ اللَّه حِسَابَه، فإذَا بَلَغَ سِتِّينَ رَزَقَه الإنَابَة إلَيه، فإذَا بلغَ سبعين أحَبّه أهلُ السَّماءِ، فَإذَا بلغ ثمانين كُتِبَتْ حَسَنَاتُه وتَجاوزَ اللَّهُ عن سيئاتِه، فإذا بلغ تسعينَ غُفِرَتْ ذنُوبُه وشَفَعَ في أهْل بَيْتِه وكَانَ أسيرَ اللَّهِ في أرْضِه، فإذا بلغَ مائةً وَلَمْ يَعْمَل شيئاً كُتِبَ له مثلُ مَا كان يَعْملُ في صحَّتِه ولم تُكْتَبْ عليه سيئة» «2» ، وفي حديث: «إن المؤمنَ إذا رُدَّ إلى أرذل العمر كُتِبَ له خيرُ ما كانَ يعملُ في قوّتهِ» «3» . وذلكَ أجرٌ غير ممنون، ثم قال سبحانه إلزامًا للحُجَّةِ وتوبيخاً للكافرِ: فَما يُكَذِّبُكَ أيها الإنسانُ، أي: فما يَجْعَلُكَ أنْ تُكَذِّبَ بعدَ هذه الحجةِ بالدينِ، وقال قتادة: المعنَى: فمن يكذِّبُكَ يا محمد، فيما تُخْبِرُ به من الجزاءِ والحسابِ «4» ، وهو الدينُ، بَعْدَ هذه العبر، ويحتمل أن يريد بِالدِّينِ جميعَ دينه وشَرْعِه، ورُوِيَ عن قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كانَ إذا قَرَأَ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ قَال: بَلَى وأنَا عَلى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، قالَ ابن العربي في «أحكامه» : رَوَى الترمذيُّ وغيره عن أبي هريرة، أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «إذا قَرأَ أحدُكم أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فَلْيَقُلْ: بلى «5» وَأَنَا عَلَى ذَلِكَ مِنَ الشَّاهِدِين» ومِنْ رواية عبد اللَّه: «إذَا قرأَ أَحَدُكُمْ أَوْ سَمِعَ: أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى [القيامة:
40] فَلْيقُلْ: بلى» «6» انتهى، ت: وهذان الحديثانِ، وإنْ كَانَ قَدْ ضعَّفُهما ابنُ العربيِّ فهما مما ينبغي ذكرُهما في فضائل الأعمال، والله الموفق بفضله وكرمه.
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 500) .
(2) تقدم تخريجه.
(3) تقدم.
(4) ذكره ابن عطية (5/ 500) .
(5) تقدّم تخريجه.
(6) تقدّم تخريجه.
(5/607)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
تفسير سورة «العلق»
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)
[قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ] : هو أولُ ما نَزَلَ من كِتَابِ اللَّه تعالى، نَزَلَ صَدْرُ [هذهِ الآية] إلى قوله: مَا لَمْ يَعْلَمْ في غارِ حِرَاء حَسْبَ ما ثَبَتَ في «صحيح البخاريِّ» وغيره، ومعنى قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي: اقرأ هذَا القرآنَ باسمِ ربِك، أي: مبتدِئاً باسْمِ ربكَ، وَيُحْتَمَلُ أنْ يكونَ المقروءُ الذي أُمِرَ بقراءتِه هو بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ كأنه قيل له: اقرأْ هذا اللفظَ، والعلقُ: جمع عَلَقَةٍ وهي القِطْعَةُ اليَسِيرَةُ من الدَّمِ، والإنْسَانُ هنا اسمُ جنسٍ، ثم قال تعالى: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ على جِهة التأنِيسِ كأنَّه يقول: امْضِ لِما أُمِرْتَ بهِ، وَرَبُّكَ ليسَ كهذهِ الأربابِ بلْ هُو الأكْرَمُ الذي لاَ يَلْحَقُه نقصٌ، ثم عدَّدَ تعالى نِعْمَةَ الكتابةِ بالقلم على الناسِ، وهي من أعظم النعم.
وعَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ قيل: هو آدمُ وقيل: [هو] اسم جنس وهو الأظهر.
[سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 13]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10)
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى إلَى آخرِ السورةِ نَزَلَتْ في أبي جَهْلٍ، وذلكَ أنَّه طَغَى لِغِنَاهُ وكثرةِ مَنْ يَغْشَى نَادِيه، فناصب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونَهَاهُ عَنِ الصلاةِ في المسجدِ، وقال: لَئِنْ رأيتُ محمداً يسجُدُ عند الكعبةِ لأَطأَنَّ عنقَه، فيروى أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ردّ عليه القول وانتهره، وعبارة الداوديّ: فتهدّده النبي صلّى الله عليه وسلّم، فَقَال أبو جهل: أتُهَدِّدُني؟ أما واللَّه إني لأكْثَرُ أهْلِ الوادِي نَادِياً فَنَزَلَتْ الآيةُ، انتهى.
وكَلَّا ردُّ على أبي جهلٍ، ويتَّجِه أَنْ تَكُونَ بمعنى: حقّا، والضمير في رَآهُ للإنسانِ المذكورِ، كأنَّه قال: أن رأَى نفسَه غَنِيًّا وهِي رُؤْيَةٌ قَلْبِيَّةٌ ولذلكَ جازَ أن يعمل فعل
(5/608)
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
الفاعِل في نفسِه كما تقول: وجَدْتُنِي/ وَظَنَنْتُنِي، ثم حقَّرَ تعالى غِنَى هذا الإنسانِ وحالَه بقولهِ: إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
أي: بالحَشْرِ والبعثِ يومَ القيامةِ، وفي هذا الخبرِ وعيدٌ للطاغينَ من الناسِ، ثم صرَّح بذكْرِ النَّاهِي لمحمّد ع، ولا خِلاَفَ أن الناهِيَ أبو جهلٍ، وأن العبد المصلّي هو محمّد ع.
[سورة العلق (96) : الآيات 14 الى 19]
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18)
كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
وقوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى إكمال للتوبيخ والوعيد بحسب التوفيقات الثَّلاثِ، يَصْلُحُ مَعَ كلِّ وَاحدٍ منها، ت: وفي قوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى مَا يُثِير الهِمَمَ الرَاكِدَةَ، وَيُسِيلُ العيونَ الجَامِدَةَ، ويَبْعَثُ على الحياء والمراقبةِ، قال الغزالي:
اعلمْ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ على ضميرِكَ، ومشرفٌ على ظاهِرك وباطنِك، فَتَأَدَّبْ أيها المسكينُ ظَاهِراً وباطِناً بين يديه سبحانه واجتهدْ أن لا يَرَاكَ حيثُ نَهَاكَ وَلاَ يَفْقِدُكَ حَيْثُ أَمَرَكَ، ولاَ تَدَعْ عَنْكَ التفكرَ في قُرْبِ الأجلِ، وحلولِ الموتِ القاطِع للأملِ، وخروجِ الأمْرِ من الاختيَارِ، وحصولِ الحَسْرَةِ والنَّدَامةِ بطُولِ الاغترارِ، انتهى، ثم توعَّده تعالى لَئِنْ لم ينتَهِ لَيُؤْخَذَنَّ بناصيتهِ، فَيُجَرُّ إلى جَهَنَّمَ ذَلِيلاً، تقول العربُ: سَفَعْتُ بِيَدِي ناصية الفَرَسِ، والرَّجُلِ إذا جذبتُها مُذَلَّلَةً، وقال بعض العلماء بالتفسير: معناه لتُحْرَقَنَّ، من قولهم: سَفَعَتْه النارُ، واكْتَفَى بذكرِ الناصيةِ لِدلالتِها على الوَجْهِ والرأْسِ، والناصيةُ مُقَدَّمُ شَعْرِ الرأسِ، ثم أبْدَل النكرةَ من المعرفة في قوله: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ ووصفَها بالكَذِبِ والخَطَإ من حيثُ هي صفاتٌ لصاحِبها.
قوله: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أي أهْلَ مَجْلَسِهِ، والنَّادِي والنَّدي: المجلسُ، ومنه دَارُ النَّدْوَةِ، وقال البخاري قال مجاهد: نادِيَه: عشيرتَه «1» .
وقوله: سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ أي: / ملائِكَة العَذابِ، ثم قال- تعالى- لنبيه- عليه السلام-: كَلَّا لاَ تُطِعْهُ أي: لا تَلْتَفِتْ إلى نَهْيِهِ وكلامه واسْجُدْ لربك واقْتَرِبْ إليه بسجودِك، وفي الحديث: «أَقْرَبُ ما يكونُ العبدُ من رَبّه إذا سَجَدَ، فَأَكْثِرُوا مِنَ الدُّعَاءِ في السجودِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُم» ، ورَوَى ابنُ وهب عَنْ جماعةٍ من أهل العلم: أنّ قوله: وَاسْجُدْ: خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وَأَن قَوْلَه: وَاقْتَرِبْ: خطابٌ لأَبِي جَهْلٍ، أي: إن
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 649) ، (37690) عن ابن عبّاس، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 627) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد.
(5/609)
تَجْتَرِىءُ حتى تَرَى كَيْفَ تَهْلَكُ، ت: والتأويلُ الأول أظهر يدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم:
«أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربه وهو ساجِدٌ» «1» وعنْ ربيعة بن كعب الأسلميِّ قال: كنت أبيت مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فآتيهِ بِوَضُوئِهِ وحَاجَتِه، فقال لي: سَلْ فقلتُ: أسألكَ مُرَافَقَتَكَ في الجنةِ، قالَ أوَ غَيْرَ ذَلِكَ؟ قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ، قَال: فأعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ» «2» رواه الجماعة إلا البخاريَّ، ولفظُ الترمذي: «كُنْتُ أَبِيتُ عِنْدَ بَابِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فَأُعْطِيهِ وَضُوءَهُ، فَأَسْمَعُهُ الْهَوِيَّ مِنَ اللَّيْلِ يقول: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَه، وأَسْمَعُهُ الْهَوِيَّ مِنَ اللَّيْلِ يَقُولُ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ» «3» ، قال الترمذيُّ: هذا حَدِيثٌ حَسَنٌ صحيحٌ، وليس لربيعةَ في الكتب الستَّةِ سوى هذا الحديثِ، انتهى من «السلاح» ، ورُوِيَ أن أبا جَهْلٍ جاءَ والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُصَلِّي، فَهمَّ بِأَنْ يَصِلَ إلَيْهِ، وَيَمْنَعَهُ مِنَ الصلاة، ثمّ كعّ وَوَلَّى نَاكِصاً على عَقِبَيْهِ مُتَّقِياً بِيَدَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: لَقَدْ عَرَضَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ خَنْدَقٌ مِنْ نَارٍ، وَهَوْلٌ وَأَجْنِحَةٌ، فيروى: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «لَوْ دَنَا مِنِّي لأَخَذَتْهُ المَلاَئِكَةُ عِيَاناً» «4» ت: ولما لم يَنْتَهِ عَدُوُّ اللَّهِ أَخَذَهُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَمْكَنَ مِنْهُ، وذَكَرَ الوائليُّ الحَافِظُ في كتابِ «الإبَانَةِ» له مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بن مغول عن نافِع عن ابن عمر قال: «بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ بِجَنَبَاتِ بَدْرٍ إذْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنَ الأَرْضِ في عُنُقِهِ سِلْسِلَةٌ يُمْسِكُ طَرَفهَا أَسْوَدُ، فَقال: يَا عَبْدَ اللَّهِ، اسْقِنِي، فَقَالَ ابن عُمَرَ: لاَ أَدْرِي أَعَرَفَ اسمي، أَوْ كَمَا يَقُولُ الرَّجُلُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، فَقَالَ لي الأَسْوَدُ: لاَ تَسْقِهِ فَإنَّهُ كَافِرٌ، ثُمَّ اجتذبه، فَدَخَلَ الأرْضَ، قَالَ ابن عمر: فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فَأَخْبَرْتُه، فقال: «أَوَ قَدْ رَأَيْتَهُ؟
ذَلِكَ عَدُوُّ اللَّهِ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ، وهُوَ عَذَابُهُ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ» انتهى من «التَّذْكِرَة» للقرطبيِّ، وقد ذَكَرْتُ هذهِ الحكايةَ عَن أبي عمر بن عبد البر بأتَّم مِنْ هَذا عِنْد قوله تعالى:
فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً ... [فصلت: 27] الآية.
__________
(1) تقدّم تخريجه.
(2) أخرجه مسلم (2/ 379- 380) - الأبي، كتاب «الصلاة» باب: فضل السجود والحث عليه (226/ 489) ، وأبو داود (1/ 421) ، كتاب «الصلاة» باب: وقت قيام النبي صلّى الله عليه وسلّم من الليل (1320) ، والترمذي (5/ 480- 481) ، كتاب «الدعوات» باب: منه (3416) ، والنسائي (2/ 227) ، كتاب «الافتتاح» باب:
فضل السجود (1138) ، وابن ماجه (2/ 1276- 1277) ، كتاب «الدعاء» باب: ما يدعو به إذا تنبه من الليل (3879) ، وأحمد (4/ 59) . قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(3) ينظر: الحديث السابق.
(4) أخرجه مسلم (4/ 2154) ، كتاب «صفات المنافقين وأحكامهم» باب: قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (38/ 2797) . [.....]
(5/610)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
تفسير سورة «القدر»
قال ابن عبّاس: هي مدنيّة وقال قتادة: هي مكّيّة
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
قَوْلُه تَعَالَى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ الضميرُ في أَنْزَلْناهُ للقرآن قَال الشعبيُّ وغيرُه: المعْنَى:
إنا ابتدأْنا إنزالَ هذا القرآن إليكَ في ليلة القدر، وقد رُوِيَ: أن نزولَ المَلَكِ في حِراءٍ كَانَ في العشر الأواخِر من رمضان، فيستقيمُ هذا التأويل «1» وقالَ ابنُ عباسٍ وغيرُه: أَنزَلَه اللَّه تعالى ليلةَ القدرِ إلى سماءِ الدُّنْيَا جملة، ثم نجّمه على محمّد صلّى الله عليه وسلّم عِشْرِينَ سنةً، وليلةُ القدرِ خَصَّها اللَّهُ تعالى بِفَضْلٍ عَظِيمٍ، وَجَعَلَها أفْضَل مِنْ ألْفِ شهرٍ لاَ لَيْلَةَ قَدْرٍ فِيها قاله مجاهدٌ وغيرُهُ «2» ، وخُصَّتْ هذه الأُمَّةُ بهذه الفضيلةِ لَمَّا رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم أعمارَ أُمَّتِه وتَقَاصُرَهَا/ وَخُشِيَ أَلاَّ يَبْلُغُوا مِنَ الأَعْمَالِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ في طُولِ العُمُرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَيْلَةَ القَدْرِ خَيْراً مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، قال ابن العربيِّ في «أحكامه» : وقد روى مالكٌ هذَا الحديثَ في «المُوَطَّأ» «3»
ثَبَتَ ذلكَ مِنْ روايةِ ابنِ القَاسمِ وغيره، انتهى، ثم فَخَّمَها سبحانَه بقوله: وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ قال ابن عيينة في «صحيح البخاري» : ما كانَ في القرآن:
وَما أَدْراكَ فَقَدْ أعْلَمَه، وَمَا قالَ: وَمَا يُدْرِيكَ فإنَّه لَمْ يُعْلِمْهُ، وذكر ابن عبَّاس وغيره:
أنها سُمِّيَتْ ليلةَ القَدْرِ لأنّ اللَّهَ تعالى يُقَدِّرُ فيها الآجالَ والأرزاقَ وحوادثَ العام كلّها،
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 651) ، (37701) ، وذكره ابن عطية (5/ 504) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 651) ، (37697) ، وذكره ابن عطية (5/ 504) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 529) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 628) ، وعزاه لابن الضريس، وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عبّاس.
(3) أخرجه مالك في «الموطأ» (165) ، (705) مرسلا.
(5/611)
ويدفَعُ ذلك إلى الملائِكَة لتَمْتَثِلَه «1» ، قال ع «2» : وليلةُ القَدْرِ مستديرةٌ في أوتارِ العَشْرِ الأَواخِرِ من رمضانَ هذا هو الصحيحُ المُعَوَّلُ عليه، وهي في الأوْتَارِ بحسْبِ الكَمال والنقصان في الشَّهْرِ، فينبغي لمرتَقِبها أن يَرْتَقِبَها مِنْ ليلةِ عشرينَ في كل ليلةٍ إلى آخر الشهر، وصحَّ عن [أُبيِّ بن] كعب وغيرِه: أَنها ليلةُ سَبْعٍ وعشرينَ «3» ، ثم أخْبَر تعالى أن ليلةَ القَدْرِ خيرٌ مِن ألف شَهر وهي ثَمانُونَ سَنَةً وثَلاَثَةُ أَعْوَامٍ وثُلُثُ عامٍ، وفي الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إيمَاناً واحتسابا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» «4» وَالرُّوحُ: هو جبريل ع وقيل هو صِنْفٌ حَفَظَةٌ لِلْمَلاَئِكَةِ، قال الفخر «5» : وذكروا في الرُّوح أقوالاً: أَحدُها: أنه ملَكٌ عظيم لو الْتَقَمَ السموات والأَرْضَ كانَ ذلكَ لَه لُقْمةً وَاحِدَةً، وقِيلَ: الرُّوحُ: طَائِفةٌ من الملائِكَةِ لاَ يَراهُمُ المَلاَئِكَةُ إلا ليلةَ القَدْرِ، كالزُّهَادِ الذين لا نَراهم إلا يَوْم العِيد، وقيل: خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يأكُلُون [وَيَشْرَبُونَ] وَيَلْبَسُون لَيْسُوا من الملائِكَةِ ولا من/ الإنْسِ ولعلهم خَدَمُ أَهْلِ الجَنَّةِ، وقيل: الروحُ أشْرَفُ الملائِكَةِ، وقال ابن أبي نجيح الروحُ همُ الحفَظَةُ الكرامُ الكاتِبُونَ والأصَح أنَّ الروحَ هاهنا هو جبريلُ، وتخصيصُه بالذكر لزِيَادَةِ شرفِه، انتهى.
وقوله تعالى: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ الثعلبيُّ: أي: بكل أمْرٍ قدَّرَه اللَّهُ وقضاه في تلكَ السنةِ إلى قَابِل قاله ابن عبّاس، ثم تبتدئ فتقولُ: سَلامٌ هِيَ ويحتملُ أن يريدَ مِنْ كل فِتْنَةٍ سَلاَمَةٌ، انتهى، قال ع: وعلى التأويلِ الأولِ، يَجِيءُ سَلامٌ خَبَرَ ابتداءٍ مستأنَفًا، أي: سلامٌ هي هذه الليلةُ إلى أول يومِها، ثم ذكرَ ما تقدَم، وقال الشعبيُّ ومنصور: سَلامٌ بمعنى: التَّحِيَّةِ أي: تُسَلّمُ الملائكةُ على المؤمنين «6» .
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 652) ، (37708) عن الحسن، وذكره ابن عطية (5/ 504) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 505) .
(3) ذكره البغوي (4/ 511) .
(4) تقدم.
(5) ينظر: «مفاتيح الغيب» (32/ 33) .
(6) ذكره البغوي (4/ 512) ، وابن عطية (5/ 505) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 531) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 630) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن المنذر بنحوه.
(5/612)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
تفسير سورة «البيّنة»
وهي مكّيّة في قول الجمهور وقيل: مدنيّة، والأوّل أشهر
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
[قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» وفي حرف ابن مسعودٍ «2» : «لَمْ يَكُنِ المُشْرِكُونَ وَأَهْلُ الكِتَابِ مُنْفَكِّينَ» .
وقوله تعالى: مُنْفَكِّينَ معناه: مُنْفَصِلِينَ متفرقينَ، تقول: انْفَكَّ الشيءُ عن الشيء إذا انفصلَ عنه، وأمَّا انفك التي هي مِنْ أخواتِ «كَانَ» فلا مَدْخَلَ لَها هنا، قال مجاهد وغيره: لَمْ يَكُونُوا مُنْفَكِّينَ عن الكفرِ والضلالِ حتى جَاءَتْهُم البينةُ «3» ، وأوقَعَ المستقبلَ موقِعَ الماضي في تأتيهم، والبينات: محمّد صلّى الله عليه وسلّم وشرْعُهُ، قال الثعلبيُّ: وَالْمُشْرِكِينَ يعني: من العربِ وهم عَبَدةُ الأوثانِ، انتهى، وقال الفراء وغيره: لم يكونوا منفكِّينَ عَنْ معرفةِ صحةِ نبوةِ محمّد صلّى الله عليه وسلّم والتَّوَكُّفِ لأمره حتى جاءتهم البينةُ فَتَفَرَّقُوا عند ذلك، / ويتَّجِهُ في معنى الآيةِ قولٌ ثالثٌ بارعُ المعنى وذلك أَنْ يكونَ المرادُ: لَمْ يكن هؤلاء القوم
__________
(1) سقط في: د.
(2) ينظر: «الشواذ» ص: (177) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 507) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 654) ، (37722) ، وذكره ابن عطية (5/ 507) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 537) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد بنحوه.
(5/613)
منفكينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَظَرِهِ لَهُمْ حَتَّى يبعثَ إليهمْ رَسُولاً تقومُ عليهم به الحجةُ، وتتمُّ عَلى مَنْ آمن بهِ النعمةُ فكأَنَّه قَالَ: ما كانوا لِيُتْرَكُوا سُدًى، والصحفُ المطهَّرة: القرآنُ في صحفهِ قاله قتادة والضحاك «1» ، وقال الحسن: الصحفُ المطهَّرة في السماءِ «2» ، فِيها كُتُبٌ أي: أحكام كتب، وقَيِّمَةٌ معناه قَائِمة معتدلَة آخذةٌ للناسِ بالعَدْلِ، ثُمَّ ذَمّ تعالى أهْلَ الكتابِ في أنّهم لم يتفرّقوا في أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم إلا مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الآياتِ الواضحةَ وكانوا مِنْ قَبْلُ مُتَّفِقِينَ على نُبُوَّتهِ وصفتهِ، وحُنَفاءَ: جَمْعُ حنيفٍ وهو المستقيمُ، وذِكْر الزكاةِ مَعَ ذِكْرِ بَنِي إسرائيل يُقَوِّي قَوْلَ من قَال: السورةُ مدنيةٌ لأنَّ الزكاةَ إنما فُرِضَتْ بالمدينةِ، ولأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنَّما دُفِعَ إلى مناقَضَةِ أهْلِ الكتَابِ بالمدينةِ، وقرأ الجمهور:
«وذلك دين القيمة» على معنى الجماعة والفِرْقَةِ القيمة، وقال- ص-: قراءة الجمهور:
«وذلك دين القيمة» على تقديرِ الأمَّةِ القَيِّمَةِ أي: المستقيمةِ أو الكتُب القيمةِ، وقرأ عبد اللَّه «3» : «وذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمَةُ» بتعريفِ الدِّينِ ورَفْعِ القيمة صفةً، والهاءُ فيه للمبالغَةِ أو عَلى تأويل أنّ الدّين بمعنى الملّة، انتهى، والْبَرِيَّةِ جميعُ الخَلْقِ لأن اللَّه تعالى براهُم أي: أوْجَدَهُمْ بَعْدَ العَدَم.
وقوله تعالى: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قِيْلَ ذلك في الدنيا فَرِضاه عنهم هو ما أظْهَرَه عليهم من أمَارَاتِ رحمتهِ، ورضاهُم عنه هو رضَاهم بجميعِ مَا قَسَمَ لَهم من جميعِ الأرزاقِ والأقدارِ، وقال بعضُ الصالحين: / رَضَى العبادِ عن اللَّهِ رِضَاهُمْ بِما يَرِدُ من أحكامِه، ورِضَاه عنهم أن يُوَفِّقَهُمْ للرِّضَى عَنْهُ، وقال سري السقطي: إذَا كُنْتَ لاَ تَرْضَى عَنِ اللَّهِ فكَيْفَ تَطْلُبُ منْه أنْ يَرْضَى عَنْكَ، وقيل ذَلِكَ في الآخِرَةِ، وخَصَّ تعالى بالذكرِ أهْلَ الخَشْيَةِ لأنها رأْسُ كلِّ بَرَكَةٍ وهيَ الآمِرَةُ بالمعروفِ والناهِيَةُ عن المنكر.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 656) ، (37726) عن قتادة، وذكره ابن عطية (5/ 507) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 537) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة بنحوه.
(2) ذكره ابن عطية (5/ 507) . [.....]
(3) ينظر: «مختصر الشواذ» (177) ، و «البحر المحيط» (8/ 495) ، و «الدر المصون» (6/ 552) .
(5/614)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4)
تفسير سورة «الزلزلة»
وهي مكّيّة قاله ابن عبّاس وغيره، وقال قتادة، ومقاتل: هي مدنيّة
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
[قوله تعالى: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ] قد تقدَّم معنى الزلزلةِ، والأثْقَالُ: الموتَى قاله ابن عباس «1» ، وقيل أخْرَجَتْ موتَاها، وكنوزَها، وقول الإنسان: مَا لَها هو عَلَى مَعْنَى التعجُّبِ مِنْ هولِ ما يَرَى، قال الجمهور: الإنسانُ هنا الكافِرُ، وقيلَ عامٌّ في المؤمِنِ والكافِرِ، وإخْبَارُ الأَرْضِ قَالَ ابن مسعودٍ وغيره: هي شَهَادَتُها بِما عُمِلَ عليها مِنْ عَمَلٍ صالحٍ وفَاسدٍ «2» ويؤيدُ هذا التأويل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «فَإنَّهُ لاَ يَسْمَعُ مدى صَوْتِ المُؤَذِّنِ إنْسٌ وَلاَ جِنٌّ وَلاَ شَيْءٌ إلاَّ شَهِدَ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ» .
ت: وخرَّج الترمذيُّ في «جامعِه» عن أبي هريرةَ قال: «قرأ رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم هذه الآيةُ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قال: أتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ:
فَإنَّ أَخْبَارَهَا: أَنْ تَشْهَدَ على كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ على ظَهْرِهَا، تَقُولُ: عَمِلَ عَلَيَّ يَوْمَ كَذَا- كَذَا فهذه أَخْبَارُها» «3» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح انتهى، وكَذَا رواه أبو بكر بن الخطيبِ، وفيه: عَمِلَ عَلَيَّ في يَوْمِ كَذَا وَكَذَا/ وَفِي يوم كذا وكذا.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 659) ، (37734) ، وذكره ابن عطية (5/ 510) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 539) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 645) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عبّاس.
(2) أخرجه الطبري (12/ 660) ، (37740) عن سفيان، وذكره ابن عطية (5/ 510) .
(3) أخرجه الترمذي (5/ 446- 447) ، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (3353) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(5/615)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 5 الى 8]
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
وقوله تعالى: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها الباءُ باءُ السببِ وقَالَ ابن عباس وغيرُه: المعنى أوحَى إليهَا «1» ، قال- ص-: المشهورُ أنَّ أَوْحى يتعدى ب «إلى» وَعُدِّيَ هنا باللامِ مُرَاعَاةً للفَوَاصِل، وقال أَبو البقاء: لَها بِمَعْنَى إلَيْهَا، انتهى.
وقوله سبحانه: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً بمعنى: يَنْصَرِفُونَ مِنْ موضعِ وُرُودِهم مُختلِفي الأَحْوَالِ، قال الجمهور: وُرُوْدُهُمْ بالموت، وصدورُهُمْ هو القيامُ إلَى البَعْثِ والكلُّ سائرٌ إلى العَرْضِ ليرَى عَمَله، ويقفُ عليه، وقيل: الورودُ هو ورودُ المَحْشَرِ والصَّدَرُ أشْتَاتَاً هُو صَدَرُ قَوْمٍ إلى الجنةِ وقَوْمٍ إلى النَّارِ ليروا جَزَاء أعمالهم.
وَقَوْلهِ- جلت عظمته-: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ الآية، كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يُسَمِّي هذه الآيَةَ الجِامِعَةَ الفَاذَّةَ، ويروى أَنَّهُ «لَمَّا نَزَلَتْ هذه السُّورَةُ بَكَى أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ أُسْأَلُ عَنْ مثاقيل الذّرّ؟ فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يَا أبا بَكْرٍ، مَا رَأَيْتَهُ في الدُّنْيَا مِمَّا تَكْرَهُ فَبِمَثاقِيلِ ذَرِّ الشَّرِّ، وَيَدَّخِرُ لَكَ اللَّهُ مَثَاقِيلَ ذَرِّ الخَيْرِ إلَى الآخِرَةِ» «2» ، قال الداوديّ: بَيْنَمَا عُمَرُ بن الخَطَّابِ بِطَرِيقِ مَكَّةَ ليلاً، إذا ركب مقبلين من حهة، فَقَالَ لبعض مَنْ معه: سَلْهُمْ مِنْ أَيْنَ أقبلوا؟ فقال له أحدهم: من الفَجِّ العميقِ، نُرِيدُ البَلَدَ العَتِيقَ، فَأُخْبِرَ عَمَرُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: أَوَقَعُوا في هذا؟ قُلْ لَهُمْ، فَمَا أَعْظَمُ، آيةٍ في كِتَابِ اللَّهِ، وأَحْكَمُ آيةٍ في كِتَابِ اللَّهِ، وَأَعْدَلُ آيةٍ في كِتَابِ اللَّهِ، وأرجى آيةٍ في كِتَابِ اللَّهِ، وَأَخْوَفُ آيةٍ في كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَ لَهُ قَائِلُهُمْ: أَعْظَمُ آيةٍ في/ كِتَابِ اللَّهِ آيَةُ الكُرْسِيِّ [البقرة: 255] ، وَأَحْكَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النحل: 90] وَأعْدَلُ آيةٍ في كِتَابِ اللَّهِ:
فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ وأرجى آيَةٍ في كِتَابِ اللَّهِ: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء: 40] وَأَخْوفُ آيةٍ في كِتَابِ اللَّه: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] فأُخْبِرَ عمرَ بِذلكَ، فَقَالَ لَهُمْ عمرُ: أَفِيكُم ابنُ أُمِّ عَبْدٍ؟ فقالوا: نعم، وهو الّذي [كلّمك] ، قال
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 661) ، (37743) ، وذكره البغوي (4/ 515) ، وابن عطية (5/ 511) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 539) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 645) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عبّاس.
(2) ينظر: «الدر المنثور» (6/ 654) .
(5/616)
عُمَرُ: كُنَيْفٌ مُليءَ عِلْماً آثرْنَا بِهِ أهْلَ القادسيّة على أنفسنا. قال الداوديّ، ومعْنَى أعظم آية يُرِيدُ في الثواب، انتهى «1» .
__________
(1) ذكره البغوي (4/ 516) عن ابن مسعود قال: أحكم آيةٍ في كِتَابِ اللَّهِ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
(5/617)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
تفسير سورة «العاديات»
وهي مكّيّة في قول جماعة، وقيل: مدنيّة
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)
قال ابن عبّاس وغيره: المراد ب الْعادِياتِ: الخيلُ لأَنها تَعْدُو بالفُرْسَانِ، وَتَضْبَحُ بأصْوَاتِها «1» ، وعن ابن مسعود وعلي أن الْعادِياتِ هنا: الإبِلُ لأنها تَضْبَحُ في عَدْوِها «2» ، قال علي- رضي اللَّه عنه-: والقَسَمُ بالإبل العادياتِ مِنْ عَرَفَةَ ومِنَ المُزْدَلِفَةِ، إذا دَفَعَ الحاجُّ، وبإبِل غَزْوَةِ بدرٍ «3» ، والضَّبْحُ تَصْوِيتٌ جَهِيرٌ عِنْدَ العَدْوِ، قال الداوديّ: وهو الصوتُ الذي يُسْمَعُ من أجوافِها وقتَ الرَّكْضِ، انتهى.
وقوله تعالى: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً قال علي وابن مسعود هي: الإبلُ وذلك بأنها [في] عَدْوِها تَرْجُمُ الحَصْبَاءَ بالحَصْبَاءِ فَتَتَطَايرُ منهَا النارُ، فذلك القَدْحُ، وقال ابن عباس:
هي الخيلُ وذلكَ بِحَوَافِرِها في الحِجَارة، وقال ابن عباس أيضاً وجماعةٌ: الكلام/ عَامٌّ يَدْخُلُ في القَسَمِ كلُّ مَنْ يُظْهِرُ بِقَدْحِه ناراً. - ص-: قَدْحاً أبو البقاء: مصدر مؤكّد
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 664) ، (37763) ، وذكره البغوي (4/ 517) ، وابن عطية (5/ 513) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 542) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 650) ، وعزاه للبزار، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدارقطني في الأفراد، وابن مردويه عن ابن عبّاس.
(2) أخرجه الطبري (12/ 667) ، (37785) ، وذكره البغوي (4/ 517) ، وابن عطية (5/ 513) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 541) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 652) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(3) أخرجه الطبري (12/ 666) ، (37781) ، وذكره البغوي (4/ 517) ، وابن عطية (5/ 513) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 541) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 652) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في «المصاحف» ، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن ابن عبّاس بنحوه.
(5/618)
وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
لأَن المُورِيَ هُوَ القَادِح، انتهى، فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً قال علي وابن مسعود هي: الإبلُ مِنْ مزدلفةَ إلى مِنًى، وفي بدرٍ، وقال ابن عباس وجماعة كثيرة: هي الخيلُ، واللَّفْظَةُ منَ الغَارَةِ في سبيلِ اللَّهِ وغير ذلك من سير الأُمَمِ وعُرْفُ الغَارَاتِ أنَّها مَعَ الصَّبَاحِ، والنقع الغبارُ الساطِعُ المثَارُ، والضمير في بِهِ ظاهرُه أَنَّه للصُّبْحِ المذكورِ، ويحتملُ أنْ يكونَ للمكانِ والموْضِع الذي يقتضيه المعنى، ومشهورٌ إثارةُ النَّقْعِ هو للخيل، وقال علي: هو هنا للإبل.
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً قال علي وابن مسعود هي: الإبل، وجَمْعاً هي المزدلفة، وقال ابن عباس وجماعة: هي الخيلُ، والمرادُ جَمْعٌ مِنَ الناسِ هم المَغْزُوُّونَ، والقَسَمُ واقِع على قوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَنَّهُ قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَا الكَنُودُ؟
قَالُوا: لاَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: هُوَ الكَفُورُ الَّذِي يَأْكُلُ وَحْدَهُ، وَيَمْنَعُ رِفْدَهُ، وَيَضْرِبُ عَبْدَهُ» ، وقد يَكُونُ في المؤمِنينَ الكَفُورُ بالنِّعْمَةِ فتقديرُ الآيةِ: إنَّ الإنْسَانَ لِنعمةِ ربِّه لَكَنُودٌ، وأَرْضٌ كَنُودٌ: لاَ تُنْبِتُ شَيْئاً، والكَنُودُ: العَاصِي بلُغَةِ كِنْدَة، ويقال للبخيل: كَنُودٌ، وفي البخاريِّ عن مجاهدٍ: الكنود الكفور، انتهى «1» .
[سورة العاديات (100) : الآيات 7 الى 11]
وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
وقوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ يحتملُ الضميرُ أنْ يعودَ عَلَى اللَّهِ تعالى وقالَهُ قتادة «2» ، ويحتملُ أَنْ يَعُودَ على الإنسان أَنَّه شَاهِدٌ عَلى نَفْسِهِ بِذَلِكَ وهذا قول مجاهد وغيره» .
وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ أي: وإنَّ الإنسانَ لحبِّ الخَيْرِ، والمعنى من أجْلِ حبِّ الخَيْرِ، لَشَدِيدٌ أي: بَخِيلٌ بالمَالِ ضَابِطٌ له، والخيرُ هنا المالُ، ويحتملُ أن يُرَادُ هنا الخيرُ الدنيويُّ من مالٍ، وصحةٍ، وجاهٍ عندَ الملوك، ونحوه لأَنَّ الكفارَ والجُهَّال لا يعرفونَ غَيْرَ ذلكَ، وأَمَّا [الحُبُّ في خَيْرِ الآخرة فَمَمْدُوحٌ مَرّجُوٌّ لَه الفوزُ، وقَال الفراء: معنى الآية: أنّ
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 672) ، (37829) ، وذكره البغوي (4/ 518) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 542) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 653) ، وعزاه للفريابي وعبد بن حميد عن مجاهد، وذكره البخاري (8/ 599) ، كتاب «التفسير» معلقا.
(2) أخرجه الطبري (12/ 673) ، (37844) ، وذكره ابن عطية (5/ 514) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 542) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 654) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة.
(3) ذكره ابن عطية (5/ 515) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 542) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن أبي حاتم.
(5/619)
الإنسانَ لشديدُ الحبِّ لِلْخَيْرِ ولما تَقَدَّمَ] الخيرُ قَبْلَ «شديدٍ» حُذَف مِنْ آخِره لأَنه قَدْ جَرَى ذِكْرهُ ولرؤوسِ الآي، انتهى.
وقوله تعالى: أَفَلا يَعْلَمُ تَوْقِيفٌ، أي: أفلا يعلم مآلَه ومصيرَه فيستعدّ لَهُ.
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ، أي: مُيِّزَ وأبْرزَ مَا فِيها ليقعَ الجزاءُ عليه، ويفسّر هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم: «يُبْعَثُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ» وفي قولِه تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ وَعِيدٌ، - ص-: والعَامِلُ في يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ على تضمينِه مَعْنى: لَمُجازٍ لأنّه تعالى خبير دائما، انتهى.
(5/620)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
تفسير سورة «القارعة»
وهي مكّيّة بلا خلاف
[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)
قَال الجُمْهُورُ: الْقارِعَةُ القيامةُ نَفْسُها، والفَرَاشُ: الطيرُ الذي يَتَسَاقَطُ في النارِ ولا يَزَال يتقحمُ على المصباحِ، وقال الفَرَّاءُ: هو صَغِيرُ الجَرَادِ الذي ينتشر في الأرضِ والهواءِ، وفي البخاريّ: كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ: كَغْوَغَاءِ الجَرَادِ يركبُ بعضُه بعضاً كذلكَ الناسُ يومئِذٍ يجولُ بعضُهم في بعض، انتهى، والْمَبْثُوثِ هنا معناه: المتفرِّقُ جمعُه وجملتُه مَوْجودةٌ متصلةٌ، والعِهْنُ هو: الصوفُ والنَّفْشُ خَلْخَلَةُ الأَجْزَاءِ وتفريقُها عَن تَرَاصِيها.
وقوله تعالى: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ قال كثير من المفسرين: المرادُ بالأُمِّ نَفْسُ الهَاوِيَةِ، وهذا كما يقال للأَرْضِ أم الناس لأنها تُؤوِيهِمْ، وقال أبو صالح/ وغيره: المُرَادُ أُم رأْسِه لأَنَّهُمْ يَهْوُونَ عَلى رُؤوسِهم «1» وَرَوى المبرِّدُ «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قَالَ لرَجُلٍ: لاَ أُمَّ لَكَ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَدْعُوني إلَى الهدى وَتَقُولُ: لاَ أُمَّ لَكَ، فَقَالَ- عَلَيْهِ السَّلاَمُ-: إنَّما أَرَدْتُ لاَ نَارَ لَكَ، قال اللَّهُ تعالى: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ» .
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 677) ، (37865) ، وذكره البغوي (4/ 519) ، وابن عطية (5/ 517) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 543) ، والسيوطي في «الدر المنثور» ، وعزاه لابن جرير. [.....]
(5/621)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
تفسير سورة «التّكاثر»
وهي مكّيّة
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
قوله تعالى: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ أي: شَغَلَكُمْ المباهاةُ والمفاخرةُ بكثرةِ المالِ والأولادِ والعَدَدِ، وهذا هِجِّيرى أبناءِ الدنيا العربِ وغيرهم لا يتخلصُ منه إلا العلماء المتقون، قال الفخر: فالألفُ واللامُ في التَّكاثُرُ ليسَ للاسْتِغْرَاقِ بَلْ للمَعْهُودِ السَّابِقِ في الذِّهْنِ، وهو التكاثرُ في الدنيا ولذاتِها وعلائِقها فإنّه هُو الذي يَمْنَعُ عن طاعةِ اللَّه وعبوديَّتِه ولما كَان ذلك مُقَرَّراً في العقولِ ومُتَّفَقاً عليه في الأديان لاَ جَرَمَ حَسُنَ دخولُ حرف التعريف عليه فالآيةُ دالَّةٌ على أن التكاثرَ والتفاخرَ بما ذُكِرَ مذمومٌ، انتهى.
وقوله تعالى: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي حتى مُتُّمْ فَدُفِنْتُم في المقابِر وهذا خبرٌ فيه تَقْرِيعٌ وتوبيخ وتحسُّرٌ، وفي الحديثِ الصحيحِ عنه صلّى الله عليه وسلّم «يَقُولُ ابن آدَمَ: مَالِي مَالِي، وَهَلْ لَكَ يَا بْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إلاَّ مَا أَكَلْتَ فَأَفْنَيْتَ أَوْ لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ أو تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ» «1» قال- ص-: قرأ الجمهورُ: «الْهَاكُم» على الخبرِ، وابنُ عباسٍ بالمدِّ، والكسائي «2» في روايةٍ
__________
(1) أخرجه مسلم (4/ 2273) ، كتاب «الزهد والرقائق» باب: (3/ 2958) ، والترمذي (5/ 447) ، كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة التكاثر (3354) ، (4/ 572) ، كتاب «الزهد» باب: منه (2342) ، والنسائي (6/ 238) ، كتاب «الوصايا» باب: الكراهية في تأخير الوصية (3613) ، وأحمد (4/ 24) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 211) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وفي الباب من حديث أبي هريرةَ رضي اللَّه عنه نحوه، أخرجه مسلم (4/ 2273) ، كتاب «الزهد والرقائق» باب: (4/ 2959) ، والبيهقي (3/ 369) ، كتاب «الجنائز» باب: ما ينبغي لكل مسلم أن يستعمله من قعر الأمل، وابن حبان في «صحيحه» (8/ 35- 36) كتاب «الزكاة» باب: ما جاء في الحرص وما يتعلق به (3244) .
(2) ينظر: «مختصر القراءات» (179) ، و «البحر المحيط» (8/ 506) .
(5/622)
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
بهمزَتَيْنِ، ومعنى الاستفهامِ التوبيخُ والتقريرُ، انتهى، قال الفخر: اعْلَمْ أنَّ أهم الأمور وأولاها بالرعايةِ تَرْقِيقُ القلبِ، وإزالَةُ حُبِّ الدنيا منه، ومُشَاهَدَةُ القبورِ تُورِثُ ذلكَ كما ورد/ به الخَبَرُ، انتهى.
وقوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ زَجْرٌ ووعيدٌ، ثم كُرِّرَ تَأكِيداً، ويأخذ كل إنسانٍ من هذا الزجرِ والوعيدِ المُكَرَّرِ على قدر حظِّهِ من التوغُّلِ فيما يُكْرَه هذا تأويل الجمهور، وقال عليٌّ: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ في القبرِ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ في البَعْثِ «1» ، قال الفخر «2» : وفي الآيةِ تَهْدِيدٌ عظيمٌ للعلماءِ فَإنها دالة على أنه لَوْ حَصَلَ اليقينُ لَتَرَكُوا التكاثُرَ والتَّفَاخُرَ فهذا يَقْتَضِي أنَّ مَنْ لا يتركُ التكاثرَ والتفاخرَ أنْ لاَ يكونَ اليقينُ حَاصِلاً له فالويلُ للعالمِ الذي لا يكون عاقلا ثم الويل له، انتهى.
[سورة التكاثر (102) : الآيات 5 الى 8]
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
وقوله تعالى: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ جوابُ «لو» محذوفٌ تقديرهُ لاَزْدُجِرْتُمْ، [وبَادَرْتُم] إنقاذَ أنفُسِكم من الهَلَكَةِ، واليقينُ أعلى مراتبِ العلم، ثم أخْبَرَ تعالى الناسَ أنَّهُم يَرَوْنَ الجحيمَ، وقال ابن عباس: هذا خطابٌ للمشركينَ والمَعْنَى على هذا التأويلِ: أنها رؤيةُ دخولٍ وصَلْيٍ وَهُوَ عينُ اليقينِ لَهُم «3» ، وقال آخرونَ: الخطابُ للناسِ كلِّهم، فهي كقوله تعالى: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] فالمعنى أنّ الجميعَ يَرَاها ويجوزُ النَّاجِي وَيَتَكَرْدَسُ فيها الكافرُ، - ص-: لَتَرَوُنَّ ابن عامر والكسائي- بضم التاء-، والباقون بفتحها «4» ، انتهى.
وقوله تعالى: ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ تأكيدٌ في الخبرِ، وعينُ اليقينِ: حقيقتُه وغايتُه، ثم أخْبَر تعالى أنّ الناسَ مَسْؤولونَ يَوْمَئِذٍ عَنْ نعيمِهم في الدنيا كيفَ نالُوه ولِمَ آثَرُوهُ، وتَتَوَجَّهُ في هذا أسئلةٌ كَثِيرَةٌ بِحَسَبِ شَخْصٍ شَخْصٍ، وهِيَ مُنْقَادَةٌ لِمَنْ أُعْطِيَ فَهْماً في كتاب الله- عز وجل، - وقد قال صلّى الله عليه وسلّم/ لأصحابه: «والّذي نفسي بيده، لتسألنّ عن
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 679) ، (37873) عن علي رضي الله عنه، وذكره ابن عطية (5/ 519) .
(2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (32/ 76) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 680) ، (37878) ، وابن عطية (5/ 519) .
(4) ينظر: «السبعة» (695) ، و «الحجة» (6/ 434) ، و «إعراب القراءات» (2/ 524) ، و «معاني القراءات» (3/ 160) ، و «شرح الطيبة» (6/ 133) ، و «العنوان» (213) ، و «حجة القراءات» (771) ، و «شرح شعلة» (626) ، و «إتحاف» (2/ 626) .
(5/623)
نَعِيمِ هذا الْيَوْمِ» «1» ، الحديثُ في الصحيح إذْ ذَبَحَ لَهُمْ أبُو الهَيْثَمِ بْنُ التَّيِّهَانِ شَاةً وَأَطْعَمَهُمْ خُبْزاً وَرُطَباً، واستعذب لَهُمْ مَاءً، وَعَنْ أبي هريرةَ في حديثهِ في مسيرِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وأبي بكرٍ وعمرَ إلى بَيْتِ أبي الهَيْثَمِ، وأكلهم الرطب واللّحم وشربهم الماء، وقوله صلّى الله عليه وسلّم هذا هُوَ النَّعِيمُ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وإنَّ ذَلِكَ كَبُرَ على أصحابهِ، وإنَّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَال: «إذا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هذا وَضَرَبْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ، فَقُولُوا: باسم اللَّهِ، وعلى بَرَكَةِ اللَّهِ، وَإذَا شَبِعْتُمْ، فَقُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَشْبَعَنَا وَأَرْوَانَا، وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا وَأَفْضَلَ، فَإنَّ هذا كَفَافٌ [بِذَاكَ] » هذا مختصرٌ «2» رواه الحاكم في المستدركِ، انتهى من «سلاح المؤمن» قال الداوديُّ: وعن الحسنِ وقَتَادَة: ثَلاَثٌ لا يَسْأَلُ اللَّهُ عنهنّ ابنَ آدمَ ومَا عَدَاهُنَّ فيه الحسابُ والسؤال إلا مَا شَاءَ اللَّهُ: كسوةٌ يوارِي بها سوءَتَه، وكِسْرَةٌ يَشُدَّ بِهَا صلبَه، وبيتٌ يُكِنُّه مِنَ الحرّ والبرد، انتهى.
__________
(1) أخرجه مسلم (3/ 1609- 1610) ، كتاب «الأشربة» باب: جواز استتباعه غيره إلى دار من يثق برضاه بذلك، فيتحققه تحققا تاما، واستحباب الاجتماع على الطعام (140، 140/ 2038) .
(2) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (4/ 107) مختصرا. قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. قال الذهبي: صحيح.
(5/624)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
تفسير سورة «العصر»
وهي مكّيّة
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
قال ابن عبّاس: الْعَصْرِ الدهرُ «1» ، وقال مقاتل: العَصْرُ هي صلاةُ العَصْرِ، وهي الوُسْطَى، أقْسَم اللَّهُ بها «2» ، وقال أُبَيُّ بن كعب: سألت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عَن وَالْعَصْرِ فَقَالَ:
«أقْسَمَ رَبُّكُمْ بآخِر النَّهَارِ» ، والْإِنْسانَ هنا اسْمُ جنسٍ والخُسْرُ: النُّقْصَانُ وَسُوءُ الحالِ، وَمَنْ كَانَ مِنَ المؤمنينَ في مُدَّةِ عمره في التَّواصِي بالحقِّ، والصَّبْرِ، والعَمَلِ بِحَسَبِ الوَصَاةِ فَلاَ خُسْرَ مَعَه وَقَدْ جَمَعَ الخيرَ كلَّه.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 685) ، (37908) عن ابن عبّاس، وذكره البغوي (4/ 522) ، وابن عطية (5/ 520) .
(2) ذكره البغوي (4/ 522) ، وابن عطية (5/ 520) .
(5/625)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
تفسير سورة «الهمزة»
وهي مكّيّة
[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
تقدم تفسير: وَيْلٌ وال هُمَزَةٍ: الذي يَهْمِزُ الناسَ بلسانهِ، أي: يَعيبُهم ويَغْتَابُهم، وال لُمَزَةٍ: قريبٌ في المعنَى مِنْ هَذَا، وَقَدْ تَقَدم بيانُه في قوله تعالى: وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ [الحجرات: 11] ، وفي قوله: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ [التوبة: 79] وغيرهِ، قيل: نَزَلَتْ هذه الآيةُ في الأَخْنَسِ بن شُرَيْق، وقِيلَ في جميل بن عامر، ثم هِي تتناولُ كلَّ منِ اتَّصَفَ بهذه الصفاتِ.
وَعَدَّدَهُ معناه: أحْصَاهُ وحافظَ على عَدَدِهِ أن لا ينتقص، وقال الداوديّ:
وَعَدَّدَهُ: أي: اسْتَعَدَّه، انتهى، لَيُنْبَذَنَّ: لَيُطْرَحَنَّ- ص-: نارُ اللَّهِ: خَبَرُ مبتدإٍ مَحْذُوفٍ، أي: هي نار الله، انتهى.
والَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ: أي: الَّتِي يَبْلُغَ إحْرَاقَها وألمهَا القلوبُ.
و «موصدة» : أي مُطْبَقَة مُغْلَقَة.
فِي عَمَدٍ جَمْعِ عَمُودٍ، وقرأ ابن مسعود «1» : «مُؤصَدَةٌ بِعَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» وقال ابن زيد:
المعنى: في عمد حديد مغلولين بها، والكلّ من نار «2» ، عافانا الله من ذلك.
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 522) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 690) ، (37947) ، وذكره ابن عطية (5/ 522) .
(5/626)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
تفسير سورة «الفيل»
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
هذه السورةُ تنبيهٌ على العِبرَةِ في أخذِ اللَّهِ تعالى لأَبْرَهَةَ أميرِ الحَبَشَةِ، حينَ قَصَدَ الكعبةَ ليهدمَها، وكانَ صاحبَ فيلٍ يَرْكَبُه، وقصتُه شهيرةٌ في السِّيرَ فِيها تطويلٌ،، واختصارها أن أبرهَة بَنَى في اليمنِ بَيْتاً وأرادَ أن يَرِدَ إليه حجُّ العَرَبِ، فذهبَ أعرابي وأحْدَثَ في ذلك البيتِ، فَغَضِبَ أَبْرَهَةُ واحْتَفَلَ في جُمُوعِه، ورَكِبَ الفيلَ وقَصَدَ مكةَ، فَلمَّا قَرُبَ منها، فَرَّتْ قريشٌ إلى الجبالِ والشِّعَابِ من مَعَرَّةِ/ الجيْشِ، ثم تَهَيَّأ أبرهةُ لدخولِ مكةَ وَهَيَّأَ الفيلَ، فأخَذَ نُفَيْلُ بنُ حَبِيبٍ بِأُذُنِ الفيلِ وكان اسمه محموداً، فقال له: ابْرُكْ، محمودُ فَإنَّكَ في حَرَمِ اللَّه، وارْجِعْ مِنْ حَيْثُ جئتَ رَاشِداً، فَبَرَكَ الفِيلُ بِذِي الغَمِيسِ، فَبَعَثُوهُ فَأَبَى فَضَرَبُوا رأسه بالمِعْوَلِ، ورَامَوْهُ بِمَحَاجِنِهِمْ فَأَبَى، فَوَجَّهُوه رَاجِعاً إلى اليمنِ، فَقَام يُهَرْوِلُ، فبعثَ اللَّه عليهم طَيْراً جماعاتٍ جماعاتٍ سُوداً مِنَ البَحْرِ، عِنْدَ كُلِّ طَائرٍ ثَلاَثَةُ أحْجَارٍ في منقارِه، ورِجْلَيْهِ، كلُّ حَجَرٍ فَوْقَ العَدَسَةِ ودون الْحمَّصَةِ، ترميهم بهَا، فَمَاتوا في طريقِهم متفرقينَ وتَقَطَّع أبْرَهَةُ أُنْمَلَةً أُنْمَلَةً حتى مات، وحَمَى اللَّهُ بيتَه، والأبابيلُ:
الجماعاتُ تَجِيءُ شيئاً بَعْدَ شيءٍ، قال أبو عبيدةَ: لاَ وَاحِدَ له من لفظه «1» ، قال الفخر «2» :
وفِي تَضْلِيلٍ مَعْنَاهُ: في تَضْيِيعٍ وإبْطَالٍ، يقال: ضَلَّلَ كيدَه، إذا جعَلَه ضَالاًّ ضَائِعاً، ونظيرُه قوله تعالى: وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ [إِلَّا فِي ضَلالٍ] [غافر: 25] انتهى، والعَصْفُ:
وَرَقُ الحِنْطَةِ وتِبْنُه، والمعنى صَارُوا طَحِيناً ذَاهِباً كَوَرَقِ حِنْطَةٍ أَكَلَتْهُ الدَّوابُّ، وراثته، فجمع
__________
(1) ذكره الطبري (12/ 690) ، والبغوي (4/ 528) ، وابن عطية (5/ 523) .
(2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (32/ 94) . [.....]
(5/627)
لَهُمْ المهَانَةَ والخِسَّةَ والتَّلَفَ، قال الفخر: وقيل المعنى: كَعَصْفٍ صَالحٍ لِلأَكْلِ، والمعنى جَعَلَهُمْ كَتِبْنٍ تأكُلُه الدَّوَابُّ وهو قولُ عكرمةَ والضحاك، انتهى «1» ، ومن كتاب «وسائل الحاجات وآداب المناجاة» للإمام أبي حامد الغزالي- رحمه اللَّه تعالى- قَال: وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنَ الصالحينَ وأربابِ القلُوب أنه من قَرأَ في رَكْعَتي الفَجْر في الأُولَى الفاتحةَ و «ألَمْ نَشْرَحْ» ، وفي الثانيةِ الفاتحةَ و «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ» قَصُرَتْ يَدُ كُلِّ عَدُوِّ عنه، ولم يُجْعَلْ لهم إليه سبيلٌ، قال الإمام أبو حامد: وهذا صحيح/ لاَ شَكَّ فِيه، انتهى.
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 698) ، (37995) عن الضحاك، وذكره البغوي (4/ 529) ، وابن عطية (5/ 524) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 676) ، وعزاه لعبد بن حميد عن عكرمة.
(5/628)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
تفسير سورة «قريش»
وهي مكّيّة
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
قريشٌ، ولدُ النَّضْرِ بن كنانةَ، والتَّقَرُّشُ: التَّكسُّبُ، والمعنى أن اللَّهَ تَعالى جَعَلَ قريشاً يألَفُونَ رِحْلَتَيْنِ في العامِ، واحدةً في الشتاءِ وأخْرَى في الصيفِ، قال ابن عباس:
كانوا يَرْحلُونَ في الصيفِ إلى الطائفِ حيثُ الماءُ والظلُّ ويرحلونَ في الشِّتاءِ إلَى مكةَ «1» ، قال الخليل: معنى الآيةِ لأنْ فَعَلَ اللَّهُ بقريشٍ هَذا ومكنَهم من إلْفِهِم هذه النعمةَ فَلْيَعْبُدُوا ربَّ هَذَا البيتِ.
وقولُهُ تعالى: مِنْ جُوعٍ معناه أنَّ أهْلَ مكةَ قَاطِنُون بوادٍ غَيْرِ ذي زرعٍ عُرْضَةٍ للجوعِ والجَدْبِ لولا فضلُ اللَّه عليهم.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 703) ، (38014) ، وذكره البغوي (4/ 530) ، وابن عطية (5/ 525) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 678) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عبّاس.
(5/629)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
تفسير سورة «الماعون»
وهي مكّيّة
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)
قوله سبحانه: أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ الآية، توقيفٌ وتنبيهٌ لِتَتَذكَّرَ نَفْسُ السامعِ كلَّ من تعرفُه بهذه الصفةِ، والدينُ: الجزاءُ.
ودعُّ اليتيِمِ: دَفْعُه بعُنْفٍ إمَّا عن إطعامهِ والإحْسَانِ إليه، وإما عن حقِّه ومالِه، وهو أشد، ويُرْوَى أَن هذهِ الآيةَ نزلتْ في بعضِ المُضْطَرِبِينَ في الإسلام بمكةَ، لم يُحَقِّقُوا فيه، وفُتِنُوا فَافْتَتَنُوا، وربَّمَا كَانَ يصلى بعضُهم أحياناً مع المسلمينَ مدافعَةً وحَيْرَةً، فقال تعالى فيهم: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الآية، ونقل الثعلبي عن ابن عباس وغيره أنَّ الآيةَ نزلتْ في العاصِ بن وائلٍ، انتهى «1» ، وقال السهيليّ: قال أهل التفسير: نَزَلَ أولُ السورةِ بمكةَ في أبي جهلٍ، وهو الذي يكذِّبُ/ بالدينِ، ونزل آخرُها بالمدينةِ في عبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبيٍّ ابن سَلُولَ وأصحابه، وهم الذين يُرَاؤُونَ ويَمْنَعُونَ الماعون، انتهى، قال سعد بن أبي وقاصٍ: سألتُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ، فَقَالَ: «همُ الَّذِينَ يُؤَخِّرُونَهَا عَنْ وَقْتِها» «2» ، يريدُ- واللَّه أعلم- تَأْخِيرَ تَرْكٍ وإهْمَالٍ، وإلى هذَا نَحَا مجاهد «3» ، وقال
__________
(1) ذكره البغوي (4/ 531) .
(2) أخرجه البيهقي (2/ 214) ، كتاب «الصلاة» باب: الترغيب في حفظ وقت الصلاة والتشديد على من أضاعه.
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 33) : رواه أبو يعلى وإسناده حسن.
قال ابن أبي حاتم في «علل الحديث» (1/ 178) ، فسمعت أبا زرعة يقول: هذا خطأ والصحيح موقوف.
(3) أخرجه الطبري (12/ 707) ، (38048) ، وذكره ابن عطية (5/ 527) .
(5/630)
عطاء بن يَسَارٍ: الحمدُ للَّهِ الَّذِي قَال: عَنْ صَلاتِهِمْ وَلَمْ يَقُلْ: في صَلاَتِهِمْ «1» .
وقوله تعالى: الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ بيانُ أنَّ صلاةَ هؤلاءِ لَيْسَتْ للَّهِ تعالى بإيمانٍ، وإنَّمَا هي رياءٌ للبشر، فلاَ قَبُولَ لها.
وقوله تعالى: وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ وصفٌ لهم بِقِلَّةِ النفعِ لعبادِ اللَّهِ، وتلكَ شَرُّ خِصْلَةٍ، وقال عليٌّ وابن عمر: الْماعُونَ: الزكاة «2» ، وقَالَ ابنُ مسعودٍ وابن عباس وجماعة: هُو مَا يَتَعَاطَاهُ النَّاسُ كَالفَأْسِ، والدَّلْوِ، والآنِيَةِ، والمقَصِّ ونحوه «3» ، وسئل النبي صلّى الله عليه وسلّم: مَا الشَّيْءُ الَّذِي لاَ يَحِلُّ مَنْعُهُ فَقَالَ: المَاءُ وَالنَّارُ، والمِلْحُ، ورَوَتْهُ عَائِشَةُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-، وفي بَعْضِ الطُّرُقِ زيادَة الإبْرَةِ، والخَمِيرِ، قال البخاريُّ:
المَاعُونُ: المعروفُ كلُّه، وقال بعضُ العربِ: الماعونُ: الماءُ، وقال عكرمةُ: أعلاه الزكاةُ المفروضة، وأدناه عاريّة المتاع، انتهى «4» .
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 708) ، (38056) ، وذكره ابن عطية (5/ 527) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 683) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 555) .
(2) أخرجه الطبري (12/ 710) عن علي برقم: (38072) ، وعن ابن عمر برقم: (38073) ، وذكره البغوي (4/ 532) ، وابن عطية (5/ 528) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 685) ، وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في «سننه» .
(3) أخرجه الطبري (12/ 710) ، (38077) ، عن ابن مسعود، وعن ابن عبّاس برقم: (38115) ، وذكره البغوي (4/ 532) ، وابن عطية (5/ 528) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 684) ، وعزاه للطبراني عن ابن مسعود.
(4) ذكره البغوي (4/ 532) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 556) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 685) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن عكرمة.
(5/631)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
تفسير سورة «الكوثر»
وهي مكّيّة
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
قال جماعة من الصحابة والتابعين: الْكَوْثَرَ نَهْرٌ في الجنةِ حافَّتَاه قِبَابٌ مِنْ لُؤْلُؤٍ مجوَّفٍ، وطينُه مِسْكٌ وحَصْبَاؤه يَاقُوتٌ، ونحوُ هذا مِنْ صفاتِه، وإنِ اختلفتْ ألْفَاظُ رُوَاتِه، وقال ابن عباس: الكَوثَرُ: الخَيْرُ الكَثِيرُ/ قال ابن جُبَيْرٍ: النَّهْرُ الذي في الجنةِ هُو من الخيرِ الذي أعْطَاه اللَّهُ إياه «1» ت: وخَرَّجَ مسلمٌ عن أنس قال: «بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذَاتَ يومٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إذْ أغفى إغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّماً، فَقَالَ: نَزَلَتْ عَلَيَّ آنِفاً سُورَةٌ، فَقَرَأَ: إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ إلى آخِرِهَا، ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا الكَوْثَرُ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَإنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ، هُو حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ» الحديثُ، انتهى، وخَرَّج ابنُ ماجه من حديثِ ثَوْبَانَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أوَّلَ مَنْ يَرِدُ عَلى الحَوْضِ فُقَرَاءُ المُهَاجِرِينَ الدُّنْسُ ثِياباً الشُّعْثُ رُؤوساً، الَّذِينَ لاَ يَنْكِحُونَ المُتَنَعِّمَاتِ، وَلاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السُّدَدِ» «2» ، قال الراوي: فبكى عمرُ بن عبدِ العزيزِ حتى اخضل لِحْيَتُهُ، حِينَ بلغهُ الحديثُ، وقال: لاَ جَرَمَ، إنِّي لاَ أَغْسِلُ ثَوْبِي الَّذِي يَلِي جَسَدِي حتى يَتَّسِخَ، وَلاَ أَدْهِنُ رَأْسِي حتى يَشْعَثَ، وخَرَّجَه أبو عيسى الترمذيُّ عن ثوبان عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمعناه «3» ، ونَقَلَ صاحبُ «التذكرة» «4» عن أنس بن مالك قال: أَوَّلُ مَنْ يَرِدُ الحَوْضَ عَلَى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 717) ، (38149) ، وذكره البغوي (4/ 533) ، وابن عطية (5/ 529) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 557) .
(2) أخرجه ابن ماجه (2/ 1438- 1439) ، كتاب «الزهد» باب: ذكر الحوض (4303) ، وأحمد (5/ 275) .
(3) أخرجه الترمذي (4/ 629) ، كتاب «صفة القيامة» باب: (15) (2444) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(4) ينظر: «التذكرة» (1/ 410) .
(5/632)
الذَّابِلُونَ النَّاحِلُونَ السَّائِحُونَ الَّذِينَ إذَا أَجَنَّهُمُ اللَّيْلُ استقبلوه بِالحُزْنِ، انتهى من «التذكرة» ، ورَوَى أبو داودَ في «سننِه» عن أبي حمزةَ عن زيد بن أرقم قال: كنا مع رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً، فَقَالَ: «مَا أَنْتُمْ جُزْءٌ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ جُزْءٍ مِمَّنْ يُرِدُ عَلَي الحَوْضِ، قَال: قُلْتُ:
كَمْ كُنْتُمْ يَومَئِذٍ؟ قَالَ: سَبْعُمِائَةٍ، أَوْ ثَمَانِمِائَةٍ، انتهى «1» .
وقوله تعالى: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ أمْرٌ بالصلاةِ على العمومِ، والنَّحْرُ/ نَحْرُ الهَدْيِ، والنُّسُكِ، والضَّحَايَا عَلى قول الجمهور.
وقوله تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ردٌّ على مقالةِ بَعْضِ سفهاءِ قريشٍ كأبي جهل وغيرِه، قال عكرمة وغيره: مات ولد للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال أَبُو جَهْلٍ: بُتِرَ مُحَمَّدٌ، فنزلت السُّورةُ، وقال تعالى: إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أي: المقطوع المبتور من رحمة «2» الله، والشانئ المبغض، قال الداوديّ: كل شانىء لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو أبْتَرُ، لَيْسَ له يَوْمَ القيامة شَفِيعٌ ولا حميم يطاع، انتهى.
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/ 650) ، كتاب «السنة» باب: في الحوض (4746) ، أخرجه أحمد (4/ 367، 369، 371، 372) عن زيد بن أرقم. [.....]
(2) ذكره ابن عطية (5/ 530) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 559) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 691) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن عطاء بنحوه.
(5/633)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
تفسير سورة «الكافرون»
وهي مكّيّة إجماعا
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
رُوِيَ في سَبَبِ نزولِ هذه السورةِ عن ابن عباس وغيرِه «1» أن جماعةً من صناديدِ قريش قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: دَعْ مَا أَنْتَ فيه ونَحْنُ نُمَوِّلُكَ، ونُمَلِّكُكَ عَلَيْنَا، وإن لم تفعلْ هذا فلتعبدْ آلهتَنا، ونَعْبُدُ إلهك، حتى نشتركَ فَحَيْثُ كَانَ الخيرُ نِلْنَاه جميعاً، وَرُوِيَ: أنَّ هذه الجماعةَ المذكورةُ هم: الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، وأمية بن خلف، وأُبيُّ بن خلف، وأبو جهل، وأبناءُ الحجاج، ونظراؤهم ممن لم يُكْتَبْ له الإسلام، وحتّم بشقاوته، فأخبرهم صلّى الله عليه وسلّم عن أمر الله- عز وجل- أنه لا يعبدُ ما يعبدونَ وأنهم غيرُ عابدِي ما يَعْبُدُ، ولما كان قوله: لاَ أَعْبُدُ محتملاً أَن يُرَادَ بهِ الآنَ وَيَبْقَى المستأنَفُ منتظَراً، ما يكونُ فيه من عبادتهِ، جاء البيانُ بقوله: وَلا أَنا عابِدٌ مَّا عَبَدْتُّمْ أي: أبداً، ثمَّ جاء قوله: وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ الثاني حَتْماً/ عليهمْ أنَّهم لاَ يؤمِنُونَ به أبداً، كالَّذِي كَشَفَ الغيبَ، ثم زَادَ الأمْرَ بياناً وتَبَرِّياً منهم قولهُ: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ
وقَالَ بعضُ العلماءِ: في هذِه الألْفَاظِ مُهَادَنَةٌ ما وهِيَ منسوخة.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 627) ، (38225) ، وذكره ابن عطية (5/ 531) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 692) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني عن ابن عبّاس.
(5/634)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
تفسير سورة «النّصر»
وهي مدنيّة بإجماع
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)
روت عائشة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا فَتَحَ مَكةَ وأسْلَمَتِ العَرَبُ، جَعَلَ يُكْثِرُ أنْ يقولَ:
«سبحانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ اسْتَغْفِرُكَ وأَتُوبُ إلَيْكَ» يَتَأَوَّلُ القرآن في هذه السورةِ، وقال لها مرة: ما أراه إلا حضورَ أجَلي، وتأوّله عمر والعباس بحضرة النبي صلّى الله عليه وسلّم فصدَّقَهُما، ونَزَع هذا المنزَعَ ابنُ عباسٍ وغيره، وَالْفَتْحُ هو فتح مكة كذا فسّره صلّى الله عليه وسلّم في «صحيح مسلمٍ» ، والأفْواجُ: الجَماعَةُ إثْرَ الجماعةِ، - ص-: بِحَمْدِ رَبِّكَ أي مُتَلَبِّساً، فالباءُ للحالِ، انتهى.
وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً بِعَقِبِ وَاسْتَغْفِرْهُ تَرْجِيَةٌ عَظِيمَةٌ للمُسْتَغْفِرِينَ، قال ابن عمر: نزلت هذه السورة على النبي صلّى الله عليه وسلّم بِمِنى في أوْسَطِ أيام التَّشْرِيق في حِجَّة الوَدَاعِ وعَاشَ بَعْدَها ثَمَانِينَ يَوْماً، أو نحوَها «1» .
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 532) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 561) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 696) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبزار، وأبي يعلى، وابن مردويه، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عمر بنحوه.
(5/635)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
تفسير سورة «المسد»
وهي مكّيّة بإجماع
[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
في «صحيح البخاري» وغيرِه عن ابن عباس: «لَمَّا نَزَلَتْ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] ورهطك منهم المخلصين خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى صعد الصفا فهتف: يا صباحاه، فقالوا: من هذا؟ فاجتمعوا/ إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلا تخرج من سفح هذا الْجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ قَالُوا: نَعَمْ مَا جَرَّبْنَا عليك كذبا، قال: فإني نذير لكم بين يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ، فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبّاً لَكَ، مَا جَمَعْتَنَا إلاَّ لِهَذَا، ثُمَّ قَامَ فَنَزَلَتْ: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ إلى آخرها» «1» ، وتَبَّتْ معناه: خَسِرَتْ والتَّبابُ الخُسْرَانُ، والدَّمَارُ، وأسْنَدَ ذلك إلى اليدينِ من حيثُ إنَّ اليَدَ مَوضِعُ الكَسْبِ والرِّبْحِ، وضَمِّ مَا يُمْلَكُ، ثم أوْجَبَ عليه أنه قَدْ تَبَّ، أي: حُتِّمَ ذَلِكَ عَلَيْه، وفي قراءة ابن مسعود «2» : «وقَدْ تَبَّ» ، وأبو لَهَبٍ هو عَبْدُ العُزَّى بْنُ عَبْدِ المطّلب، وهو عمّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولكن سَبَقَتْ له الشقاوةُ، قال السهيليّ: كَنَّاهُ اللَّه بأبي لهبٍ لَمَّا خَلَقَهُ سبحانَه لِلَّهَبِ وإليه مصيرُه ألا تَرَاهُ تعالى قال: سَيَصْلى نَاراً ذاتَ لَهَبٍ فَكَانَتْ كُنْيَتُه بأبي لَهَبٍ تَقَدَّمَتْ لِمَا يصيرُ إليه من اللهبِ، انتهى.
وقوله سبحانه: مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ يحتملُ أن تَكُونَ «ما» نافيةً عَلَى معنى الخبرِ، ويحتملُ أنْ تكون «ما» استفهاميةً عَلَى وَجْهِ التقريرِ أي: أينَ الغَنَاءُ الذي لِمَالِه وَكَسْبهِ،
__________
(1) أخرجه البخاري (8/ 609) ، كتاب «التفسير» باب: سورة: تبت حديث (4971) .
(2) ينظر: «الكشاف» (4/ 814) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 534) ، و «البحر المحيط» (8/ 526) ، و «الدر المصون» (6/ 585) .
(5/636)
وَما كَسَبَ يُرَادُ به عَرَضُ الدنيا، من عَقَارٍ، ونحوه، وقيل: كَسْبُه بَنُوه.
وقوله سبحانه: سَيَصْلى نَاراً ذاتَ لَهَبٍ حَتْمٌ عَلَيْهِ بِالنارِ وإعْلاَمٌ بأنه يَتَوَفَّى على كفرِه، نعوذُ باللَّهِ من سوءِ القَضَاءِ ودَرْكِ الشقاءِ.
وقوله تعالى: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ هي أمَّ جميلٍ أخْتُ أبي سفيانَ بن حرب، وكانت مؤْذِيةً/ للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنينَ بلسانِها وغايةِ قُدْرَتِها، وكانَتْ تَطْرَحُ الشّوْكَ في طريق النبي صلّى الله عليه وسلّم وطريق أصحابه لِيَعْقِرَهم فلذلكَ سُمِّيتْ حَمَّالَةَ الحَطَبِ قاله ابن عباس «1» ، وقيل هو استعارةٌ لذنوبِها، قال عياض: وذكر عَبْدُ بن حُمَيْدٍ قال: كَانَتْ حمالَة الحطبِ تَضَعُ العِضَاهَ، وَهِي جَمْرٌ على طريق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكأنَّما يَطَؤُهَا كَثِيباً أَهْيَلَ، انتهى، - ص-: وقُرِىءَ شاذًّا: «وَمُرَيْئَتُهُ» بالتصغيرِ «2» ، والجيدُ هُو العُنُقُ، انتهى.
وقوله تعالى: فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ قال ابنُ عباس وجماعة: الإشَارَةُ إلى الحبلِ حَقِيقَةٌ، الذي رَبَطَتْ به الشوكَ «3» ، والمَسَدُ: الليفُ، وقِيلَ ليفُ المُقْلِ، وفي «صحيحِ البخاري» : يُقَالُ مِنْ مسد لِيف المُقْلِ وهي السلسلةُ الَّتِي في النارِ، انتهى، ورُوِي في الحديثِ أنَّ هذهِ السورةَ لما نزلتْ وقُرِئَتْ بَلَغَتْ أُمَّ جميلٍ فَجَاءَتْ أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ جَالسٌ معَ النبي صلّى الله عليه وسلّم في المسجدِ وَبِيَدِهَا فِهْرُ حَجَرٍ، فأخَذَ اللَّهُ بِبَصَرِهَا وقَالَتْ: يا أبا بكرٍ بَلَغَنِي أنَّ صَاحِبَكَ هَجَانِي، وَلَوْ وَجَدْتُه لَضَرَبْتُه بِهَذَا الفِهْرِ، وإنّي لَشَاعِرَة وَقْد قلت فيه: [منهوك الرجز]
مُذَمَّماً قَلَيْنَا ... وَدِينَهُ أَبَيْنَا «4»
فَسَكَتَ أبو بكرٍ، ومضت هي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لَقَدْ حَجَبَتْنِي عَنْهَا مَلاَئِكَةٌ فَمَا رَأَتْنِي وَكَفَانِيَ الله شرّها.
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 735) ، (38269) ، وذكره البغوي (4/ 543) ، وابن عطية (5/ 535) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 564) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 703) ، وعزاه لابن جرير، والبيهقي في «الدلائل» ، وابن عساكر عن ابن عبّاس رضي الله عنهما.
(2) قرأ بها ابن مسعود، كما في «الشواذ» ص: (182) ، و «المحتسب» (2/ 375) ، وينظر: «الكشاف» (4/ 815) ، و «المحرر الوجيز» (5/ 535) ، و «البحر المحيط» (8/ 527) ، و «الدر المصون» (6/ 586) .
(3) ذكره البغوي (4/ 544) ، وابن عطية (5/ 535) .
(4) تقدم وينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 535) ، و «البحر المحيط» (8/ 528) .
(5/637)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
تفسير سورة «الإخلاص»
قيل: مكّيّة وقال ابن عبّاس: مدنيّة
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
روي أنّ اليهود دخلوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا له: يا مُحَمَّدُ صِفْ لَنَا رَبَّك وانْسِبْه، فإنَّه وَصَفَ/ نَفْسَه في التوراةِ وَنَسَبها، فارتعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ قولِهِم حَتَّى خَرَّ مغشياً عليه، ونَزَلَ جبريل بهذه السورة.
وأَحَدٌ مَعناه: وَاحدٌ فَرْدٌ مِنْ جميعِ جِهَاتِ الوَحْدَانِيَّة، ليس كمثله شيء وهُوَ ابتداء، واللَّهُ ابتداء ثان، وأَحَدٌ خَبَرُه والجملةُ خَبَرُ الأوَّلِ، وقيلَ هو ابتداءُ واللَّهُ خبره وأَحَدٌ بَدَلٌ منه، وَقَرَأَ عمر بن الخطابِ وغَيْرُهُ: «قل هو الله الواحد الصمد» والصَّمَدُ في كلامِ العربِ السيدُ الذي يُصْمَدُ إليه في الأُمُورِ وَيَسْتَقِلُّ بها وأنْشَدُوا:
[الطويل]
لَقَدْ بَكَّرَ النَّاعِي بِخَيْرِ بَنِي أَسَدِ ... بِعَمْرِو بْنِ مَسْعَودٍ وَبِالسَّيِّدِ الصَّمَدْ
وبهذا تَتَفَسَّرُ هذه الآيةُ لأَنَّ اللَّهَ تعالى- جلت قدرته- هُوَ مُوجِدُ المَوْجُودَاتِ وإليهِ تَصْمُدُ وبه قِوَامُها- سبحانه وتعالى-.
وقوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ رَدٌّ عَلى إشارَةِ الكفارِ في النَّسَبِ الذي سأَلُوه، وقال ابن عباس: تَفَكَّروا في كلّ شَيْءٍ ولا تتفكروا في ذاتِ اللَّه «1» ، قال ع «2» : لأنّ الأفهام تقف دون ذلك حسيرة.
__________
(1) ذكره ابن عطية (5/ 537) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (5/ 537) .
(5/638)
وقوله سبحانه: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ معناه ليسَ له ضِدٌّ، وَلاَ نِدٌّ ولا شبيهٌ، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] ، والكفؤ النظير و «كفؤا» خبر كان واسمها أَحَدٌ. قال- ص-: وحَسُنَ تأخيرُ اسمها لِوُقُوعِه فاصلةً، وله مُتَعَلِّقٌ ب كُفُواً أي: لَمْ يَكُنْ أحَدٌ كُفُؤاً لَهُ، وقُدَّمَ اهتماماً بِه لاِشْتِمالِهِ على ضميرِ البَارِي سبحَانه، انتهى، وفي الحديث الصحيح عنه صلّى الله عليه وسلّم إنَّ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن «1» ، قال ع: لِمَا فِيهَا مِنَ التوحيدِ، ورَوَى أبو محمدٍ الدارميّ في «مسندهِ» قال:
حدثنا عبد اللَّه بن مزيد حدثنا حيوة/ قال: أخبرنا أبو عقيل، أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ قَرَأَ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إحْدَى عَشَرَةَ مَرَّةً بُنِيَ لهُ قصرٌ في الجنةِ، ومَنْ قَرَأَها عِشْرينَ مرةً، بُنِيَ له قَصْرَانِ في الجنةِ، ومَنْ قرأَها ثَلاثِينَ مرةً بُنِيَ له ثلاثةُ قصورٍ في الجنة. فقال عمر بن الخطاب: إذَنْ تَكْثُرُ قصورُنَا يا رسول الله فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللَّهُ أوْسَعُ من ذلك» «2» [أي: فَضْلُ اللَّهِ أوْسَعُ مِنْ ذَلك] «3» . قال الدارمي:
أبو عقيل هو زهرة بن معبد، وزعموا أنه من الأبدال، انتهى من «التذكرة» «4» .
__________
(1) أخرجه مسلم (3/ 355) - النووي، كتاب «صلاة المسافرين» باب: فضل قراءة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (261- 262/ 812) ، والترمذي (5/ 168) ، كتاب «فضائل القرآن» باب: ما جاء في سورة الإخلاص (2899) ، وابن ماجه (2/ 1244) ، كتاب «الأدب» باب: ثواب القرآن (3787) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وفي الباب من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أخرجه أحمد (2/ 173) ، والطبراني (12/ 405) (13493) .
قال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (2/ 221) : رواه الطبراني في «الكبير» ، وأبو يعلى بنحوه، ورجال أبي يعلى ثقات. اهـ مختصرا.
وفي الباب عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه: أخرجه ابن ماجه (2/ 1244) ، كتاب «الأدب» باب:
ثواب القرآن (3788) .
وفي الباب عن امرأة أبي أيوب: أخرجه النسائي (2/ 172) ، كتاب «الافتتاح» باب: في قراءة: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (996) ، وأحمد (5/ 418) عن أبي أيوب.
(2) ذكره الهندي في «كنز العمال» (1/ 585) ، (2657) ، وعزاه إلى أحمد عن معاذ بن أنس مختصرا.
(3) سقط في: د. [.....]
(4) ينظر: «التذكرة» (2/ 622) .
(5/639)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
تفسير سورة «الفلق»
قال ابن عبّاس: مدنيّة، وقال قتادة: مكّيّة
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)
قوله عز وجل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمُرَادُ هُوَ وآحادُ أمتِهِ، قَالَ ابن عباس وغيره: الفَلَقُ الصُّبْحُ «1» ، وقال ابن عباس أيضاً وجماعةٌ من الصحابة: الفلقُ جُبُّ في جَهَنَّم «2» ، ورواه أبو هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله تعالى: مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ يَعُمُّ كلَّ مَوْجُودٍ له شر، واخْتُلِفَ في: «الغاسِقِ» فَقَال ابن عباس وغيره: الغَاسِقُ الليلُ وَوَقَبَ: أظْلَمَ، ودَخَل عَلى الناسِ «3» ، وفي الحديثِ الصحيح عن عائشة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أشَارَ إلى القَمَرِ وقال: يا عائشة تَعَوَّذِي باللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا الغَاسِقِ إذَا وَقَبَ، قال السهيلي: وهذا أصحُّ ما قِيل لِهذَا الحديثِ الصحيحِ، انتهى، ولفظ صاحبِ «سلاحِ المؤمِنِ» : عن عائشةَ- رضي اللَّه عنها- أَنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم نَظَرَ إلَى القَمَرِ، فَقَالَ: يا عائشةُ اسْتَعِيذِي بِاللَّهِ مِنْ شَرِّ هَذَا فإنَّ هَذَا الغَاسِقُ إذا وقب «4» ، رواه الترمذيّ
__________
(1) أخرجه الطبري (12/ 747) ، (38351) ، وذكره البغوي (4/ 547) ، وابن عطية (5/ 538) ، وابن كثير في «تفسيره» (4/ 573) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 717) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عبّاس.
(2) أخرجه الطبري (12/ 747) ، (38345) عن السدي. وذكره ابن عطية (5/ 538) .
(3) أخرجه الطبري (12/ 748) ، (38364) ، وذكره البغوي (4/ 547) ، وابن عطية (5/ 538) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (6/ 718) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن عبّاس.
(4) أخرجه الترمذي (5/ 452) ، كتاب «تفسير القرآن» باب: ومن سورة المعوذتين (3366) ، وأحمد (6/ 206، 215، 237، 252) ، والحاكم (2/ 541) .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
قال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال الذهبي: صحيح.
(5/640)
والنَّسَائِيُّ، والحَاكِمُ في «المستدرك» ، واللفظُ للتِّرمذيِّ، وقَالَ حسنٌ صحيحٌ، وقال/ الحاكم: صحيحُ الإسنادِ، وَوَقَبَ القَمَر وُقُوباً: دَخَلَ في الظِّلِّ الذي يَكْسِفُه قاله ابن سيدة، انتهى من «السلاح» .
والنَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ السَّوَاحِر، ويقال: إن الإشَارَة أوَّلاً إلى بَنَاتِ لَبِيدِ بن الأَعْصَمِ اليهودي كُنَّ سَاحِرَاتٍ، وهُنَّ اللواتي سَحَرْنَ مَعَ أبيهِنَّ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم، والنَّفْثُ شِبْهُ النَّفخِ دُونَ تَفلِ رِيقٍ، وهذا النَّفْثُ هُوَ عَلى عُقَدٍ تَعْقَدُ في خيوطٍ، ونحوِها على اسْمِ المَسْحُورِ فيؤذى بذلك.
قال ع: وهَذَا الشَّأْنُ في زمانِنَا موجودٌ شائعٌ في صحراء المغرب، وحدَّثني ثقةٌ أنه رأى عنْدَ بعضهم خيطاً أحْمَرَ قَدْ عُقِدَتْ فِيهِ عُقَدٌ على فُصْلاَنٍ، فَمُنِعَتْ بذلك رَضَاعَ أمهاتِها فكان إذا حَلَّ عقدةً جرى ذلك الفصيلُ إلى أُمِّه في الحِينِ، فَرَضَعَ، أعاذنا اللَّه مِنْ شَرِّ السِّحْرِ والسَّحَرَةَ.
وقوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ قال قتادة: مِنْ شَرِّ عَيْنِهِ ونَفْسِهِ «1» ، يريد ب «النَّفْس» : السعْيَ الخَبِيثَ، وقال الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: ذكَر اللَّه تعالى الشُّرُور في هذه السُّورة، ثم ختمها بالحسد ليعلم أنّه أخسّ الطبائع.
__________
(1) أخرجه الطبري، وابن المنذر كما ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 719) .
(5/641)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
تفسير سورة الناس
قال ابن عبّاس وغيره: هي مدنيّة، وقال قتادة: مكّيّة
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
قوله عز وجل: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ: الْوَسْواسِ: اسم مِنْ أسماء الشيطانِ، وقولُه: الْخَنَّاسِ معناه:
الرَّاجِعُ على عَقِبِهِ المُسْتَتِرُ أحياناً، فإذَا ذكر العَبْدُ اللَّه تعالى وتعوَّذ، تذكَّر فأبْصَرَ كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ ... [الأعراف: 201] الآية: قال النَّوَوِيُّ «1» :
قال بعضُ العلماءِ: يُسْتَحَبُّ قَول: لا إله إلا اللَّهِ لِمَنِ ابتلي بالوَسْوَسَةِ في الوضوءِ والصلاةِ وشِبْهِهِمَا فإن الشيطان إذا سمع الذِّكرَ، خَنَسَ، أي: تأخَّر وبَعُدَ، و «لا إله إلا اللَّهُ» : رَأْسُ الذِّكْرِ ولذلك اختار السَّادَةُ الجِلَّةُ مِنْ صَفْوة هذه الأمة أهْلُ تربيةِ السَّالكين وتأدِيبِ المُرِيدِينَ- قَوْلَ «لا إله إلا اللَّه» لأَهْلِ الخَلْوَةِ-، وأمَرُوهم بالمداومة علَيْهَا، وقالوا: أنْفَعُ علاجٍ في دَفْعِ الوسوسةِ الإقبالُ على ذِكْرِ اللَّه تعالى والإكْثَارُ منْه، وقال السَّيِّدُ الجليلُ أحْمَدُ بْنُ أبي الحوارِيِّ: شَكَوْتُ إلى أبي سُلَيْمَانَ الدَّرَانِيِّ الوَسْوَاسَ، فقال: إذا أَرَدت أَنْ ينقطعَ عَنْكَ، فَأَيَّ وَقْتٍ أحْسَسْتَ به، فافرح، فإنك إذا فَرِحْتَ به، انقطع عنك لأنه ليْسَ شيءٌ أبْغَضُ إلى الشيطانِ مِنْ سرورِ المؤمن، وإن اغتممت بِه، زَادَكَ، ت: وهذا مما يؤيِّد ما قاله بَعْضُ الأئمة أنَّ الوسواس إنما يبتلى به مَنْ كَمُلَ إيمانه فإن اللِّصَّ لا يقصدُ بيتاً خَرباً.
انتهى، ت: ورأيتُ في «مختصر الطبريِّ» نَحْوَ هذا.
وقوله تعالى: مِنَ الْجِنَّةِ يعني: الشياطينَ، ويظهر أنْ يَكُونَ قولُهُ: وَالنَّاسِ يراد به: مَنْ يُوَسْوِسُ بخدعة مِنَ الشَّرِّ، ويدعو إلى الباطل، فهو في ذلك كَالشَّيْطان، قال أحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ الداوديُّ: وعن ابن جُرَيْجٍ: مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ قَالَ: «إنهما وَسْوَاسَانِ، فَوَسْوَاسٌ من الجِنَّة، ووَسْوَاسٌ مِنْ نَفْسِ الإنسان» انتهى، وفي الحديث الصحيح، أنّ
__________
(1) ينظر: «الأذكار» ص: (161) .
(5/642)
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ إذَا آوى إلى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرأَ: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ، و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفَلَقِ» ، و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا مَا استطاع مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأ بِهِما مِنْ رَأْسه وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً «1» -.
يَقُولُ العبد الفقير إلى الله تعالى: عبد الرحمن بن محمد بن مخلوف الثعالبي لطف الله به في الدارين: قد يسر الله عز وجلَّ في إِتمام تَِلْخِيصِ هذا المختَصَر وقَدْ أودَعتُهُ بحَوْلِ اللَّهِ جزيلاً من الدُّرَر، قد استوعبت فيه- بحمد الله- مهمات ابن عطية، وأسقطْتُ كَثيراً من التَّكْرار، وما كان من الشَّواذِّ في غاية الوهي، وزدْتُ من غيره جَوَاهِرَ ونَفَائِسَ لا يستغنى عنها مميزةً معزوَّة لِمَحَالِّها مَنْقُولةً بألفاظِهَا، وتوخَّيْتُ في جميع ذلك الصِّدْقَ والصَّواب، وإلى اللَّه أَرْغَبُ في جَزِيلِ الثواب، وقد نَبَّهْتُ بَعْضَ تَنْبِيهٍ، وعرَّفْتُ بأيام رِحْلَتِي في طَلَبِ العِلْمِ بعْضَ تعريفٍ عِنْدَ خَتْمِي لتفسير سورة الشورى فَلْيَنْظُرْ هُنَاكَ، واللَّهُ المسئول أنْ يجعَلَ هذا السعْيَ منا خالصاً لوَجْهِهِ، وعملاً صالحاً يقرِّبنا إلى مرضاته، ومَنْ وَجَدَ في هذا الكتاب تَصْحِيفاً أو خَلَلاً فَأَرْغَبُ إِلَيْهِ أَنْ يُصْلِحَهُ مِنَ الأُمِّهاتِ المَنْقُولِ منها متثبِّتاً في ذلك لا برَأْيه وبديهةِ عَقْلِهِ: [من الوافر]
فَكَمْ مِنْ عَائِبٍ قَوْلاً صَحِيحاً ... وَآفَتُهُ مِنَ الفَهْمِ السَّقِيمِ
وكان الفراغُ من تألِيفه في الخامسَ عَشَرَ مِنْ رَبِيع الأَوَّلِ مِنْ عَامِ ثَلاَثَةٍ وثَلاَثِينَ وَثَمَانِمائَةٍ وَأَنَا أَرْغَبُ إِلى كُلِّ أَخ نَظَرَ فيه أنْ يُخْلِصَ لي وَلَهُ بِدَعْوَةٍ صالحةٍ، وهذا الكتابُ لاَ يَنْبَغِي أنْ يَخْلُوَ عنه مُتَدَيِّنٌ، ومُحِبٌّ لكلامِ رَبِّه، فإِنه يَطَّلِعُ فيه على فَهْمِ القرآن أجْمَعَ في أَقْرَبِ مُدَّةٍ، وليس الخَبَرُ كَالعِيَانِ هذا مع ما خصّ به من تَحْقِيقِ كَلامَ الأَئِمَّةِ المحقِّقينَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم- نَقَلْتُهُ عَنْهُمْ بألفاظِهِمْ متحرِّياً لِلصَّوَابِ، ومِنَ اللَّهِ أَرْتَجِي حُسْنَ المَآب، وصَلَّى اللَّهُ على سَيِّدِنَا محمَّد خاتَمِ النبيِّينَ، وَعَلى آله وصَحْبِهِ أجمعين، وآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(5/643)
محتوى الجزء الخامس من تفسير الثعالبي
سورة يس 5 سورة الصافات 22 سورة- ص- 54 سورة الزمر 78 سورة غافر 103 سورة فصّلت 125 سورة الشورى 148 سورة الزخرف 172 سورة الدّخان 194 سورة الجاثية 204 سورة الأحقاف 212 سورة محمّد 228 سورة الفتح 248 سورة الحجرات 267 سورة ق 280 سورة الذاريات 296 سورة الطور 309 سورة النجم 321 سورة القمر 336 سورة الرحمن 345 سورة الواقعة 360 سورة الحديد 377 سورة المجادلة 397 سورة الحشر 406 سورة الممتحنة 416 سورة الصف 424
(5/644)
سورة الجمعة 428 سورة المنافقون 434 سورة التغابن 438 سورة الطلاق 437 سورة التحريم 450 سورة الملك 455 سورة القلم 463 سورة الحاقة 473 سورة المعارج 481 سورة نوح 488 سورة الجنّ 493 سورة المزمّل 500 سورة المدثر 509 سورة القيامة 519 سورة الإنسان 527 سورة المرسلات 536 سورة النبأ 541 سورة النازعات 547 سورة عبس 551 سورة التكوير 555 سورة الانفطار 559 سورة المطففين 562 سورة الانشقاق 567 سورة البروج 571 سورة الطارق 574 سورة الأعلى 577 سورة الغاشية 582 سورة الفجر 585 سورة البلد 590 سورة الشمس 594
(5/645)
سورة الليل 598 سورة الضحى 601 سورة الشرح 604 سورة التين 606 سورة العلق 608 سورة القدر 611 سورة البيّنة 613 سورة الزلزلة 615 سورة العاديات 618 سورة القارعة 621 سورة التكاثر 622 سورة العصر 625 سورة الهمزة 626 سورة الفيل 627 سورة قريش 629 سورة الماعون 630 سورة الكوثر 632 سورة الكافرون 634 سورة النصر 635 سورة المسد 636 سورة الإخلاص 638 سورة الفلق 640 سورة الناس 642
(5/646)
ثبت وبيان بأهم مراجع التحقيق
حرف الألف
1- آداب اللغة لجورجي زيدان، طبعة القاهرة 1957 2- الآيات البينات لابن قاسم العبادي، طبعة بولاق 3- الإبانة عن أصول الديانة للأشعري، طبع دار الأنصار 4- الإبهاج في شرح المنهاج لعلي بن عبد الكافي السبكي (ت 756 هـ) ، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 5- إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين لمرتضى الزبيدي (ت 1205 هـ) ، تصوير دار الفكر.
6- إتحاف فضلاء البشر لأحمد بن محمّد البنا (ت 1117 هـ) ، تحقيق د. شعبان محمّد إسماعيل، عالم الكتب، مكتبة الكليات الأزهرية، طبعة أولى 7- الإتقان في علوم القرآن تأليف: شيخ الإسلام جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (المتوفى سنة 911 هـ) ، الطبعة الثالثة سنة 1951 م، ط. الحلبي 8- الإحكام في أصول الأحكام تأليف الشيخ الإمام العلامة سيف الدين أبي الحسن علي بن أبي علي بن محمّد الآمدي- تحقيق أحد الأفاضل- ط زاهد القدسي طبع ونشر وتوزيع 24 شارع طلعت حرب القاهرة 9- إحياء علوم الدين، لأبي حامد الغزالي (ت 505 هـ) ، دار المعرفة- بيروت 10- أخبار أصبهان لأحمد بن عبد الله، أبي نعيم الأصبهاني (ت 430 هـ) ، تحقيق سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 11- أخبار النحويين البصريين لأبي سعيد الحسن السيرافي (ت 368 هـ) ، تحقيق طه محمّد الزيني ومحمّد عبد المنعم خفاجي، مصطفى البابي الحلبي 12- الاختيار لتعليل المختار تأليف عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي، مطبعة الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية 1407 هـ/ 1987 م وطبعه دار الكتب العلمية- بيروت 13- الأدب المفرد للبخاري (ت 256 هـ) ، تحقيق كمال الحوت، عالم الكتب 14- الأذكار لمحيي الدين أبي زكريا النووي (ت 676 هـ) المكتبة العلمية- بيروت 15- إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب المعروف بمعجم الأدباء، لياقوت الحموي، طبعة مرجليوث بمصر
(5/647)
16- إرشاد الفحول لمحمّد بن علي الشوكاني (ت 1255) - طبعة أولى، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1356 هـ/ 1937 م 17- الأزهية في علم الحروف تأليف: علي بن محمّد الهروي، تحقيق: عبد المعين الملوحي، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1982 م.
18- أساس البلاغة تأليف: جار الله أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري، ط. دار صادر- بيروت، سنة 1979 م.
19- أسباب النزول للإمام أبي الحسين علي بن أحمد بن الواحدي النيسابوري، ط. عالم الكتب بيروت.
20- الاستيعاب لابن عبد البر (ت 463 هـ) ، تحقيق الشيخ علي محمّد معوض وعادل أحمد عبد الموجود دار الكتب العلمية.
21- أسد الغابة في معرفة الصحابة لعز الدين ابن الأثير أبي الحسن الجزري (ت 630 هـ) ، تحقيق الشيخ علي محمّد معوض وعادل أحمد عبد الموجود، دار المكتب العلمية- طبعة أولى 22- الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير، لمحمّد بن محمّد أبو شهبة، مجمع البحوث الإسلامية- الأزهر 23- إسعاف المبطأ برجال الموطأ لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) ، مكتبة مصطفى البابي الحلبي.
24- الأسماء والصفات لأحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458 هـ) ، دار الكتب العلمية- بيروت 25- الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى لأبي عبد الله القرطبي (ت 671 هـ) ، تحقيق د. محمّد حسن جبل وآخرون، دار الصحابة للتراث- طبعة أولى 26- أهل المدارك شرح إرشاد السالك لأبي بكر بن حسن الكشناوي، عيسى البابي الحلبي 27- الأشباه والنظائر في النحو لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) ، تحقيق د. عبد العال سالم مكرم مؤسسة الرسالة- طبعة أولى 28- إصلاح المنطق لابن السكيت (ت 244 هـ) ، تحقيق أحمد محمّد شاكر وعبد السلام محمّد هارون، دار المعارف 29- إعراب ثلاثين سورة من القرآن الكريم تأليف: أبي عبد الله الحسين بن أحمد، المعروف بابن خالويه (ت 370 هـ) ، مكتبة المثنى 30- إعراب القراءات السبع وعللها لأبي عبد الله الحسن بن خالويه (ت 370 هـ) ، تحقيق د. عبد الرحمن بن سليمان بن عثيمين، مكتبة الخانجي- طبعة أولى 31- الأعلام للزركلي لخير الدين الزركلي ط 3 مكتبة المتنبي- القاهرة
(5/648)
2- أعلام الموقعين عن رب العالمين لشمس الدين أبي عبد الله محمّد بن أبي بكر المعروف بابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) طبعة الكليات الأزهرية 33- أعلام النساء لعمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة- بيروت 34- الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، تحقيق علي النجدي ناصف دار الكتب المصرية 35- الإقناع للخطيب الشربيني، دار الكتب العلمية- بيروت 36- الإكمال في رفع الارتياب عن المؤتلف والمختلف في الأسماء والكنى والأنساب لعلي بن هبة الله أبي نصر بن ماكولا (ت 475 هـ) ، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 37- الأم لمحمّد بن إدريس الشافعي، دار المعرفة 38- أمالي ابن الشجري ليحيى الشجري، عالم الكتب، طبعة ثالثة 39- أمالي المرتضى للشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي العلوي (355- 436 هـ) تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، ط. الحلبي- القاهرة 40- إمتاع الأسماع للمقريزي، طبع في القاهرة 1941 م.
41- إنباء الغمر بأبناء العمر للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ، دائرة المعارف العثمانية- الهند، دار الكتب العلمية طبعة ثانية 42- إنباه الرواة على أنباه النحاة للوزير جمال الدين أبي الحسن القفطي، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي- القاهرة ومؤسسة الكتب الثقافية- بيروت 43- الأنساب للسمعاني- أبي سعيد عبد الكريم بن محمّد (ت 562 هـ) ، تصحيح عبد الرحمن بن يحيى- طبعة مجلس المعارف العثمانية حيدرآباد الدكن- الهند سنة (1385 هـ) 44- الإنصاف في مسائل الخلاف لابن الأنباري (513- 577 هـ) ومعه كتاب «الانتصاف من الإنصاف» للمرحوم محمّد محيي الدين عبد الحميد، ط. دار الجيل سنة 1982 م.
45- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل لعلاء الدين أبي الحسن علي بن سليمان المرداوي الحنبلي (ت 885 هـ) تحقيق محمّد حامد الفقي الطبعة الأولى سنة (1374 هـ) / (1955 م) مطبعة السنة المحمّدية- 17 شارع شريف باشا بالقاهرة 46- أنيس الفقهاء لقاسم القونوي (ت 978 هـ) ، تحقيق د. أحمد بن عبد الرزاق الكبسي، دار الوفاء- جدة- طبعة ثانية 47- الأوسط في السنن لأبي بكر محمّد بن إبراهيم بن المنذر (ت 318 هـ) ، تحقيق د. أبو حماد صغير أحمد بن محمّد حنيف، دار طيبة.
48- أوضح المسالك إلى ألفيّة ابن مالك تأليف: أبي محمّد عبد الله جمال الدين بن يوسف بن هشام الأنصاري (ت سنة 761 هـ) ، تحقيق الشيخ محمّد محيي الدين عبد الحميد، ط. دار
(5/64932)
الجيل، الطبعة الخامسة سنة 1979 م.
49- إيضاح الوقف والابتداء لمحمّد بن القاسم أبي بكر الأنباري (ت 328 هـ) تحقيق محيي الدين رمضان، طبع دمشق- مجمع اللغة العربية 1971 م
حرف الباء
50- البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي (ت 745 هـ) ، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمّد معوض دار الكتب العلمية- طبعة أولى 51- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين أبي بكر الكاساني (ت 587 هـ) مطبعة الإمام بالقاهرة 52- بداية المجتهد ونهاية المقتصد للقاضي أبي الوليد محمّد بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن رشد القرطبي الأندلسي الشهير «بابن رشد الحفيد» (ت 595 هـ) ط الحلبي الطبعة الثانية سنة 370 هـ/ سنة 1950 م ونسخة المكتبة التجارية الكبرى.
53- البداية والنهاية للإمام عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير المتوفى سنة (774 هـ) الطبعة الثانية سنة 1977 م مكتبة المعارف بيروت 54- البدر الطالع لمحمّد بن علي الشوكاني (ت 1250 هـ) مكتبة ابن تيمية- القاهرة 55- البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين الجويني (ت 478 هـ) ، تحقيق د. عبد العظيم الديب دار الأنصار- طبعة ثانية 56- البرهان في علوم القرآن للزركشي بدر الدين (ت 794 هـ) ، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة- بيروت- طبعة أولى 57- البعث والنشور للبيهقي (ت 458 هـ) ، دار الجنان 58- بغية الملتمس للحافظ صلاح الدين أبي سعد العلائي (ت 761 هـ) ، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي عالم الكتب- طبعة أولى 59- بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة تأليف: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 هـ) ، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، ط. الحلبي، الطبعة الأولى سنة 1964 م.
60- بهجة النفوس لابن أبي جمرة، دار الجيل- بيروت
حرف التاء
61- تاج العروس من جواهر القاموس لمحمّد مرتضى الزبيدي (ت 1205 هـ) ، الناشر دار ليبيا- للنشر والتوزيع بنغازي- ليبيا- ط المطبعة الخيرية القاهرة. ومطبعة الكويت بتحقيق نخبة من العلماء 62- تاريخ الأدب العربي للدكتور شوقي ضيف، دار المعارف- مصر
(5/650)
63- تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان، القاهرة- دار المعارف- الطبعة الخامسة 64- تاريخ الإسلام للحافظ شمس الدين الذهبي (ت 748 هـ) ، تحقيق د. عمر عبد السلام تدمري دار الكتاب العربي- بيروت طبعة ثانية 65- تاريخ بغداد للحافظ أبي بكر بن أحمد بن علي الخطيب البغدادي المتوفى سنة (463 هـ) الناشر دار الكتاب العربي- بيروت- لبنان.
66- تاريخ الثقات للحافظ أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي تحقيق د. عبد المعطي قلعجي، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 67- تاريخ جرجان للسهمي (ت 427 هـ) ، عالم الكتب- بيروت 68- تاريخ الخلفاء للإمام الحافظ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي المتوفى عام (911 هـ) تحقيق محمّد محيي الدين عبد الحميد- الطبعة الثانية سنة 1383 هـ/ 1964 م- مطبعة المدني بالعباسية- القاهرة 69- التاريخ الصغير لمحمّد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ) ، تحقيق محمود إبراهيم زايد، دار المعرفة- طبعة أولى 70- التاريخ الكبير لمحمّد بن إسماعيل البخاري (ت 256 هـ) ، تصحيح عبد الرحمن اليماني وجماعة حيدرآباد- الهند، دائرة المعارف العثمانية 71- تاريخ ابن النجار (ت 643 هـ) دار الكتاب العربي 72- تاريخ يحيى بن معين لأبي زكريا يحيى البغدادي (ت 233 هـ) ، مجمع اللغة العربية 73- تأويل مشكل القرآن لابن قتيبة، دار الكتب العلمية تحقيق السيد أحمد صقر، طبعة ثالثة 74- التبصرة والتذكرة للحافظ العراقي (ت 806 هـ) ، دار الكتب العلمية- بيروت 75- التبصرة والتذكرة لأبي محمّد عبد الله بن علي بن إسحاق الصيمري، تحقيق د. فتحي أحمد علي الدين دار الفكر- بيروت 76- تبصير المنتبه بتحرير المشتبه لابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ، تحقيق علي محمّد البجاوي، دار الكتب العلمية- بيروت 77- التبيان في إعراب القرآن لأبي البقاء عبد الله بن الحسين العكبري (ت 616 هـ) ، تحقيق علي محمّد البجاوي، دار الشام للتراث- بيروت 78- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق لعثمان بن علي الزيلعي (ت 743 هـ) ، المطبعة الأميرية ببولاق 79- تبيين كذب المفتري لابن عساكر الدمشقي (ت 571 هـ) ، دار الكتاب العربي 80- تجريد أسماء الصحابة لشمس الدين أبي عبد الله بن قايماز الذهبي (ت 748 هـ) ، دار
(5/651)
المعرفة- بيروت 81- تجريد التمهيد لأبي عمر، يوسف بن عبد البر (ت 463 هـ) ، دار الكتب العلمية بيروت 82- التحبير في علم التفسير لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) ، تحقيق د. فتحي عبد القادر فريد، دار المنار 83- التحرير في أصول الفقه لكمال الدين محمّد الشهير بابن همام الإسكندري (ت 861 هـ) ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 84- التحصيل من المحصول لسراج الدين محمود الأرموي (ت 682 هـ) ، تحقيق د. عبد الحميد علي أبو زنيد، مؤسسة الرسالة- طبعة أولى 85- التحفة اللطيفة لشمس الدين السخاوي (ت 902 هـ) ، تحقيق حامد الفقي، مطبعة السنة المحمّدية 86- تخريج الفروع على الأصول لأبي المناقب شهاب الدين الزنجاني (ت 656 هـ) ، تحقيق د.
محمّد أديب صالح، مؤسسة الرسالة- طبعة رابعة 87- تخريج الكشاف للحافظ جمال الدين الزيلعي (ت 762 هـ) ، دار ابن خزيمة 88- تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) ، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف، المكتبة العلمية بالمدينة المنورة- دار التراث- القاهرة 89- التذكرة لشمس الدين القرطبي (ت 671 هـ) ، تحقيق. السيد الجميلي، دار ابن زيدون- بيروت، مكتبة مدبولي- القاهرة 90- تذكرة الحفاظ للإمام أبي عبد الله شمس الدين الذهبي (ت سنة 748 هـ) ، ط. دار الفكر العربي- القاهرة 91- تذكرة النحاة لأبي حيان محمّد بن يوسف الغرناطي الأندلسي (ت 745 هـ) ، تحقيق د.
عفيف عبد الرحمن، مؤسسة الرسالة- طبعة أولى 92- ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك، للقاضي عياض اليحصبي السبتي، تحقيق الدكتور أحمد بكير، مكتبة الحياة بيروت، مكتبة الفكر طرابلس- ليبيا 1387 هـ 93- الترغيب والترهيب لعبد العظيم بن عبد القوي المنذري (ت 656 هـ) تحقيق مصطفى محمّد عمارة، مكتبة مصطفى البابي الحلبي 94- تسمية من أخرج لهم البخاري ومسلم للحاكم صاحب المستدرك (ت 405 هـ) ، تحقيق كمال الحوت، مؤسسة الكتب الثقافية، دار الجنان- طبعة أولى 95- التعديل والتجريح فيمن روى عن البخاري في الصحيح لأبي الوليد الباجي (ت 474 هـ) ، تحقيق د. أبو لبابة حسين، دار اللواء- الرياض
(5/652)
96- التعليق المغني على الدارقطني لأبي الطيب شمس الحق آبادىّ بأسفل سنن الدارقطني، عالم الكتب 97- تفسير بحر العلوم للسمرقندي، تحقيق علي محمّد معوض، عادل أحمد عبد الموجود. دار الكتب العلمية، طبعة أولى 98- تفسير البغوي المسمى بمعالم التنزيل للحسين بن مسعود البغوي (ت 516 هـ) ، تحقيق خالد العك ومروان سوار، دار المعرفة- بيروت- طبعة أولى 99- تفسير الجامع لأحكام القرآن للعلامة محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي (671 هـ) طبعة دار الشعب بمصر 100- تفسير سفيان الثوري لسفيان الثوري (ت 777 هـ) ، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 101- تفسير عبد الرزاق لعبد الرزاق الصنعاني (ت 211 هـ) ، تحقيق د. مصطفى مسلم محمّد، مكتبة الرشد- طبعة أولى 102- تفسير ابن عطية- المحرر الوجيز للقاضي أبي محمّد عبد الحق بن عطية الأندلسي (ت 546 هـ) ، تحقيق عبد السلام عبد الشافي محمّد، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 103- تفسير غريب القرآن لعبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 هـ) ، تحقيق السيد أحمد صقر، دار الكتب العلمية 104- تفسير ابن كثير لإسماعيل بن عمر بن كثير (ت 774 هـ) القاهرة، مكتبة أسامة- 23 ش الصنادقية بالأزهر 105- تفسير الماوردي لأبي الحسن علي بن محمّد الماوردي البصري (ت 450 هـ) ، تحقيق السيد بن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية- الطبعة الأولى 106- التفسير والمفسرون للدكتور محمّد حسين الذهبي، مكتبة وهبة- طبعة ثالثة 107- تقريب التهذيب تأليف: أحمد بن حجر العسقلاني (773- 852 هـ) ، تحقيق الدكتور عبد الوهاب عبد اللطيف، ط. دار المعرفة للطبع والنشر، بيروت الطبعة الثانية سنة 1975 م.
108- تقريب الوصول لابن جزي، طبعة تونس 109- التقرير والتحبير لابن أمير الحاج (ت 879 هـ) ، دار الكتب العلمية- طبعة ثانية- التقصي لحديث الموطأ- ينظر التجريد 110- تقييد العلم لأبي بكر الخطيب البغدادي (ت 462 هـ) ، تحقيق يوسف العش، دار إحياء السنة النبوية 111- تلقيح مفهوم أهل الأثر لعبد الرحمن بن الجوزي (ت 597 هـ) ، تحقيق مكتبة الآداب- القاهرة، مكتبة الآداب- القاهرة
(5/653)
112- التمهيد لأبي عمر، يوسف بن عبد البر (ت 463 هـ) ، تحقيق سعيد أحمد أعراب، مؤسسة قرطبة 113- التمهيد في تخريج الفروع على الأصول لجمال الدين أبي محمّد الأسنوي (ت 772 هـ) ، تحقيق د، محمّد حسن هيتو، مؤسسة الرسالة، طبعة ثالثة 114- تنزيه الشريعة لأبي الحسن ابن عراق الكناني (ت 963 هـ) ، تحقيق عبد الوهاب عبد اللطيف وعبد الله محمّد الصديق، دار الكتب العلمية- طبعة ثانية 115- تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك، لجلال الدين السيوطي، طبعة عيسى البابي الحلبي 116- تهذيب الأسماء واللغات لأبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي المتوفى سنة (676 هـ) ، إدارة الطباعة المنيرية، دار الكتب العلمية بيروت لبنان.
117- تهذيب تاريخ دمشق الكبير لابن عساكر (ت 571 هـ) ، دار المسيرة بيروت 118- تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني (ت سنة 852 هـ) ط. مطبعة مجلس المعارف النظامية في الهند، الطبعة الأولى 119- تهذيب الكمال في أسماء الرجال تأليف: جمال الدين أبي الحجاج يوسف المزيّ (654- 742 هـ) تحقيق د/ بشار عواد معروف، ط. مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية سنة 1985 م.
220- تيسير التحرير لمحمّد أمين المعروف بأمير بادشاه، مطبعة مصطفى البابي الحلبي
حرف الثاء
121- الثقات للحافظ محمّد بن حبان (ت 354 هـ) ، دائرة المعارف العثمانية- حيدرآباد- الهند
حرف الجيم
122- جامع بيان العلم لأبي عمر، يوسف بن عبد البر (ت 463 هـ) ، تحقيق أبي الأشبال الزهيري، دار ابن الجوزي- طبعة أولى 123- جامع البيان في تفسير القرآن تأليف: أبي جعفر محمّد بن جرير الطبري (المتوفى سنة 310 هـ) ، ط. دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الرابعة سنة 1980 م.
124- جامع التحصيل في أحكام المراسيل للحافظ صلاح الدين أبي سعيد كيكلدي العلائي (ت 761 هـ) ، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي، مكتبة النهضة العربية- بيروت 125- الجامع الصحيح وهو سنن الترمذي لأبي عيسى محمّد بن عيسى بن سورة (209- 279 هـ) تحقيق: أحمد محمّد شاكر، ط. الحلبي- الطبعة الثانية سنة 1978 م.
126- الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع لأبي بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب (ت 463 هـ) ، تحقيق محمود الطحان الطبعة الأولى مكتبة المعارف- الرياض 127- جذوة الاقتباس فيمن حل من الأعلام مدينة فاس لابن القاضي، طبع بفأس
(5/654)
128- جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس للحميدي (ت 488 هـ) ، الدار المصرية للتأليف والترجمة 129- الجرح والتعديل لعبد الرحمن بن محمّد الرازي، طبع في حيدرآباد 1952، ومصورة دار الكتب العلمية بيروت- لبنان 130- الجمع بين رجال الصحيحين لأبي الفضل محمّد بن طاهر المقدسي (ت 507 هـ) ، المعروف بابن القيسراني، دار الباز 131- الجمل على المنهج لسليمان الجمل، المكتبة التجارية الكبرى بمصر.
132- جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري، تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم، وعبد المجيد قطامش، ط. المؤسسة العربية الحديثة للطبع والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى سنة 1964 م.
133- جمهرة أنساب العرب لابن حزم المتوفى (456 هـ) ، تحقيق عبد السلام هارون، دار المعارف 134- الجني الداني للحسن بن قاسم المرادي، تحقيق د. فخر الدين قباوة والأستاذ محمّد نديم فاضل، دار الكتب العلمية 135- حاشية البناني على المحلي للبناني، طبعة الحلبي 136- حاشية التفتازاني والشريف لابن الحاجب المالكي (ت 646 هـ) ، المطبعة الأميرية ببولاق- طبعة أولى 137- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لشمس الدين محمّد عرفة الدسوقي، عيسى البابي الحلبي 138- حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب بشرح تحرير تنقيح اللباب للشيخ عبد الله بن حجازي بن إبراهيم الشهير بالشرقاوي (ت 1226 هـ) على تحفة الطلاب بشرع تحرير تنقيح اللباب للشيخ أبي يحيى زكريا الأنصاري (ت 925 هـ) ، ط. عيسى الحلبي 139- حاشية الشيخ زاده على تفسير البيضاوي، المكتبة الإسلامية محمّد ازدمير ديار بكر- تركيا 140- حاشية العطار على جمع الجوامع تصوير دار الكتب العلمية بيروت 141- حاشية نسمات الأسحار لابن عابدين مصطفى البابي الحلبي 142- الحاوي الكبير في فقه الإمام الشافعي، لأبي الحسن الماوردي، تحقيق الشيخ علي محمّد معوض، والشيخ عادل أحمد عبد الموجود دار الكتب العلمية- طبعة أولى 143- الحجة على أهل المدينة لأبي عبد الله محمّد بن الحسن الشيباني (ت 189 هـ) عالم الكتب- طبعة ثالثة
(5/655)
144- حجة القراءات لأبي زرعة بن زنجلة، تحقيق سعيد الأفغاني، منشورات جامعة بنغازي طبعة أولى 145- الحجة للقراء السبعة لأبي علي الحسن بن عبد الغفار الفارسي (ت 377 هـ) ، تحقيق بدر الدين قهوجي وبشير جويجاتي، دار المأمون للتراث- دمشق طبعة ثانية.
146- الحدود في الأصول لأبي الوليد سليمان الباجي (ت 474 هـ) تحقيق د. نزيه حماد، مؤسسة الزغبي للطباعة والنشر- طبعة أولى 147- حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء لسيف الدين أبي بكر الشاشي القفال، دار الباز تحقيق د. ياسين أحمد إبراهيم درادكة، مكتبة الرسالة الحديثة طبعة أولى 148- حماسة البحتري (للوليد بن عبيد) بيروت 149- الحماسة البصرية لصدر الدين علي بن الحسن البصري (ت 656 هـ) ، تحقيق عادل جمال سليمان، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية
حرف الخاء
150- خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب لعبد القادر بن عمر البغدادي تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي 151- الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني، تحقيق: محمّد علي النجار، ط. دار الهدى للطباعة والنشر، بيروت: الطبعة الثانية 152- خلاصة تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال لصفي الدين أحمد بن عبد الله الخزرجي، تحقيق محمود عبد الوهاب فايد، مكتبة القاهرة
حرف الدال
153- دائرة المعارف الإسلامية إصدار دار الشعب- طبعة أولى 154- الدر المصون في علوم الكتاب المكنون لشهاب الدين أبي العياش السمين الحلبي، تحقيق الشيخ علي محمّد معوض وآخرون، دار الكتب العلمية 155- الدر المنثور لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) ، دار الكتب العلمية 156- الدرر الكامنة، لأحمد بن حجر العسقلاني القاهرة: دار الكتب الحديثة بعابدين 157- الديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب لابن فرحون المالكي القاضي برهان الدين إبراهيم بن علي بن محمّد بن فرهود المتوفى سنة (799 هـ) تحقيق وتعليق الدكتور أحمد محمّد أبو النور مدرس الحديث بجامعة الأزهر دار التراث للطبع والنشر- 22 شارع الجمهورية القاهرة.
158- دلائل النبوة لأبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ) ، تحقيق د. عبد المعطي
(5/656)
القلعجي، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 159- ديوان الإسلام لشمس الدين أبي المعالي ابن الغزي (ت 1167 هـ) ، تحقيق سيد كسروي حسن دار الكتب العلمية- طبعة أولى 160- ديوان امرئ القيس تحقيق: محمّد أبو الفضل إبراهيم- ط. دار المعارف، الطبعة الثانية 161- ديوان عمرو بن معد يكرب لمطاع الطرابيشي، مطبوعات مجلة اللغة العربية- دمشق- طبعة ثانية 162- ديوان المعاني لأبي هلال العسكري، مكتبة القدسي 163- ديوان الهذليين نسخة مصورة عن طبعة دار الكتب، الناشر: الدار القومية للطباعة والنشر، سنة 1965 م
حرف الراء
164- الرسالة لمحمّد بن إدريس الشافعي، تحقيق أحمد محمّد شاكر، دار التراث- طبعة ثانية 165- الرسالة المستطرفة للسيد محمّد بن جعفر الكتاني، دار الكتب العلمية- طبعة ثانية 166- رصف المباني في شرح حروف المعاني لأحمد بن عبد النور المالقي (ت 702 هـ) ، تحقيق أحمد محمّد الخراط- مجمع اللغة العربية بدمشق.
167- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع الثاني تأليف: أبي الفضل شهاب الدين السيد محمود الألوسي (ت سنة 1270 هـ) ، ط. دار إحياء التراث العربي 168- روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات، محمّد باقر الموسوي، طهران، المطبعة الحيدرية 169- روضة الطالبين لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي (ت 676 هـ) ، تحقيق عادل أحمد عبد الموجود وعلي محمّد معوض، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 170- روضة الناظر وجنّة المناظر لموفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي (ت 620 هـ) ، تحقيق د. عبد الكريم بن علي النملة، مكتبة الرشد- الرياض طبعة ثالثة
حرف الزاي
171- زاد المسافر لصفوان بن إدريس التجيبي المرسي، طبع في بيروت 1939 172- زاد المعاد لابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) ، تحقيق شعيب الأناءوط، عبد القادر الأرناؤوط مؤسسة الرسالة- بيروت الطبعة الخامسة عشر 173- الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي لأبي منصور الأزهري، تحقيق د. محمّد جبر الألفي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- الكويت- طبعة أولى
(5/657)
174- الزهد لعبد الله ابن المبارك (ت 181 هـ) ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي- دار الكتب العلمية 175- الزوائد للبوصيري (ت 840 هـ) ، تحقيق موسى محمّد علي ود. عزت علي عطية، دار الكتب الإسلامية- زوائد المسند لعبد الله بن أحمد بن حنبل- المسند أحمد بن حنبل
حرف السين
176- سبل السلام شرح بلوغ المرام من جمع أدلة الأحكام للإمام محمّد بن إسماعيل الكحلاني ثم الصنعاني (ت 1182 هـ) ط الحلبي الرابعة سنة 1379 هـ/ 1960 م وأيضا نسخة أخرى بتصحيح وتعليق محمّد عبد العزيز 177- سر صناعة الإعراب لأبي الفتح عثمان بن جنيّ (ت سنة 392 هـ) ، تحقيق الدكتور: حسن الهنداوي- ط. دار القلم، بدمشق- الطبعة الأولى 1985 م 178- سلاسل الذهب لبدر الدين الزركشي (ت 794 هـ) ، تحقيق محمّد المختار بن محمّد الأمين الشنقيطي، مكتبة ابن تيمية- طبعة أولى 179- سلسلة الأحاديث الصحيحة لمحمّد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي- طبعة رابعة 180- السلسلة الضعيفة لمحمّد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي 181- سنن الحافظ أبي عبد الله محمّد بن يزيد القزويني ابن ماجه (207- 275 هـ) تحقيق:
محمّد فؤاد- ط. دار الفكر العربي 182- سنن الدارمي للإمام أبي محمّد عبد الله بن عبد الرحمن بن الفضل بن بهرام الدارمي (ت سنة 255 هـ) ، ط. دار الكتب العلمية، بيروت 183- سنن أبي داود للإمام أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني الأزدي (202- 275 هـ) تحقيق: المرحوم محمّد محيي الدين عبد الحميد- ط. دار الكتب العلمية- بيروت 184- سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي، وحاشية الإمام السندي- ط. المكتبة العلمية- بيروت 185- سؤالات البرذعي للبرذعي، تحقيق: د. سعدي الهاشمي، نشر الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة 186- سؤالات البرقاني للدارقطني للبرقاني، كتب خانه جميلي- باكستان 187- سير أعلاء النبلاء للحافظ شمس الدين الذهبي (ت 748 هـ) ، تحقيق شعيب الأرناؤوط وجماعة، مؤسسة الرسالة- طبعة أولى 188- السيرة الحلبية لعلي بن برهان الدين الحلبي، طبع مصر
(5/658)
189- السيرة مع الروض الأنف لأبي القاسم عبد الرحمن الخثعمي (581 هـ) ، مكتبة عبد السلام بن محمّد بن شقرون 190- سيرة ابن هشام لأبي محمّد عبد الملك بن هشام (ت 183 هـ) ، تحقيق مجدي فتحي السيد، دار الصحابة للتراث- طبعة أولى
حرف الشين
191- شجرة النور الزكية في طبقات المالكية لمحمّد بن محمّد مخلوف، دار الفكر 192- شذرات الذهب في أخبار من ذهب لأبي الفلاح ابن العماد الحنبلي (ت 1089 هـ) ، دار الكتب العلمية 193- شرح أبيات سيبويه لأبي محمّد يوسف المرزبان السيرافي (ت 385 هـ) ، تحقيق محمّد علي الريح هاشم، مكتبة الكليات الأزهرية ودار الفكر 194- شرح أبيات مغني اللبيب لعبد القادر بن عمر البغدادي (ت 1093 هـ) ، تحقيق عبد العزيز رباح، أحمد يوسف دقاق دار البيان- دمشق 195- شرح الأشموني على ألفيّة ابن مالك فيصل عيسى البابي الحلبي 196- شرح البهجة لزكريا الأنصاري، المطبعة الميمنية بمصر 197- شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (ت 792 هـ) دار الكتب العلمية 198- شرح تنقيح الفصول لشهاب الدين أبي العباس القرافي (ت 684 هـ) ، شركة الطباعة الفنية المتحدة- طبعة أولى 199- شرح الخريدة البهية لأبي البركات الشيخ أحمد بن محمّد الدردير العدوي (ت 1201 هـ) ، تحقيق السيد علي بن السيد عبد الرحمن الهاشم، طبع الإمارات العربية المتحدة 200- شرح ديوان جرير بشرح محمّد بن حبيب، دار المعارف تحقيق د. نعمان محمّد أمين طه، طبعة ثالثة 201- شرح ديوان الحماسة لأبي تمام شرح الإمام الشيخ أبي زكريا يحيى التبريزي، عالم الكتب 202- شرح الزّرقاني على الموطأ لمحمّد بن عبد الباقي الزرقاني (ت 1122 هـ) ، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 203- شرح السّنة لأبي محمّد الحسين بن مسعود البغوي (ت 516 هـ) ، دار الكتب العلمية تحقيق علي محمّد معوض، عادل أحمد عبد الموجود 204- شرح شعلة على الشاطبية لأبي عبد الله محمّد بن أحمد بن الحسين الموصلي (ت 656 هـ) ، الاتحاد العام لجماعة القراء
(5/659)
205- شرح شواهد المغني لجلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 هـ) ، دار مكتبة الحياة بيروت 206- شرح العضد على المختصر لعضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي (ت 756 هـ) دار الكتب العلمية- طبعة ثانية 207- شرح فتح القدير للعاجز الفقير كمال الدين محمّد بن عبد الواحد المعروف بابن الهمام (ت 681 هـ) ، دار إحياء التراث العربي 208- شرح قطر الندى لجمال الدين بن هشام الأنصاري (ت 761 هـ) ، مطبعة السعادة- الطبعة الثانية عشرة 209- شرح الكافية لابن مالك، تحقيق عبد المنعم هريدي، طبعة دار المأمون للتراث 210- شرح مختصر المنار للكوراني، دار السلام- القاهرة 211- شرح مسند أحمد بن حنبل تحقيق أحمد شاكر، طبعة دار المعارف القاهرة 212- شرح المفصل لموفق الدين يعيش النحوي (ت 643 هـ) ، عالم الكتب- بيروت 213- شرح منتهى الإرادات لمنصور بن يونس البهوتي (ت 1051 هـ) ، عالم الكتب- طبعة أولى 214- شرح المهذب لأبي زكريا محيي الدين النووي، تحقيق محمّد نجيب المطيعي، مكتبة الإرشاد جدة 215- شرف أصحاب الحديث لأبي بكر أحمد الخطيب البغدادي (ت 463 هـ) ، تحقيق د. محمّد سعيد خطيب أوغلي، دار إحياء السنة النبوية 216- شعب الإيمان لأحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 هـ) ، تحقيق أبو هاجر، دار الكتب العلمية 217- الشعر والشعراء لابن قتيبة الدينوري، دار المعارف- القاهرة تحقيق أحمد محمّد شاكر 218- الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض (ت 544 هـ) ، تحقيق علي محمّد البجاوي، مطبعة عيسى البابي الحلبي 219- شواذ القرآن لابن خالويه، مكتبة المتنبي
حرف الصاد
220- صحيح البخاري، بحاشية السندي للعلامة أبي عبد الله محمّد بن إسماعيل البخاري- ط.
الحلبي 221- صحيح ابن حبان لابن حبان (ت 354 هـ) ، تحقيق عبد الرحمن محمّد عثمان، المكتبة السلفية- المدينة المنورة 222- صحيح ابن خزيمة لابن خزيمة (ت 311 هـ) ، تحقيق محمّد مصطفى الأعظمي، المكتب
(5/660)
الإسلامي- بيروت طبعة أولى 223- صحيح مسلم للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (206- 261 هـ) ، تحقيق: محمّد فؤاد عبد الباقي- ط. دار إحياء التراث العربي، بيروت 224- صحيفة ابن أبي طلحة حقّقها راشد عبد المنعم الرجال مكتبة السنة 225- صفة الصفوة لأبي الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) ، حيدرآباد- الهند 226- صفة الكلام للشيخ الظوهري شيخ الجامع الأزهر، مطبعة الحلبي
حرف الضاد
227- الضعفاء للبخاري (ت 256 هـ) ، تحقيق بوران ضناوي، عالم الكتب- بيروت- طبعة أولى 228- الضعفاء لأبي جعفر العقيلي تحقيق د. عبد المعطي قلعجي دار الكتب العلمية- بيروت- طبعة أولى 229- الضعفاء والمتروكين للنسائي (ت 303 هـ) ، تحقيق محمود إبراهيم زايد- دار الوعي- طبعة أولى 230- الضوء اللامع لأهل القرن التاسع تأليف: شمس الدين محمّد بن عبد الرحمن السخاوي (ت 902 هـ) ، منشورات دار مكتبة الحياة
حرف الطاء
231- الطالع السعيد لجعفر الأدفوي (ت 748 هـ) تحقيق سعد محمّد حسن- مطابع سجل العرب 232- طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، دار الثقافة- بيروت 233- طبقات الخواص لأحمد بن أحمد الشرجي الزبيدي، طبع بمصر 234- طبقات الشافعية لأبي بكر بن هداية الله الحسيني المتوفى سنة (1014 هـ) ، حقّقه عادل نويهض- الطبعة الأولى سنة 1391 هـ/ 1971 م- دار الأوقاف الجديدة- بيروت لبنان.
235- طبقات الشافعية تأليف: جمال الدين عبد الرحيم الأسنوي- المتوفى سنة (772 هـ) تحقيق عبد الله الجبوري، الجمهورية العراقية رئاسة ديوان الأوقاف، إحياء التراث الإسلامي بغداد سنة 1390 هـ، ودار الكتب العلمية بيروت لبنان 236- طبقات الشافعية الكبرى لتاج الدين أبي نصر عبد الوهاب بن علي بن عبد الكافي السبكي (727- 771 هـ) تحقيق محمود محمّد وعبد الفتاح محمّد الحلو، الطبعة الأولى- مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه سنة 1383 هـ/ سنة 1964 م 237- طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي (ت 412 هـ) ، تحقيق نور الدين شريبة، مكتبة الخانجي- القاهرة- طبعة ثالثة 238- طبقات الفقهاء لأبي إسحق الشيرازي الشافعي (393- 476 هـ) تحقيق الدكتور إحسان
(5/661)
عبّاس، الناشر دار الرائد العربي بيروت لبنان سنة 1970 م 239- طبقات الفقهاء الشافعية لأبي عاصم محمّد بن أحمد العبادي المتوفى سنة (458 هـ) ، طبعة ليدن سنة 1964 م 240- طبقات ابن قاضي شهبة لأبي بكر تقي الدين ابن قاضي شهبة (ت 851 هـ) ، تحقيق د.
الحافظ عبد العليم خان، عالم الكتب- طبعة أولى 241- طبقات القراء لابن الجزري، مكتبة المتنبي 242- الطبقات الكبرى لابن سعد- دار بيروت للطباعة والنشر، دار صادر 1377 هـ/ 1957 م 243- طبقات المفسرين للحافظ جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (849- 911 هـ) ، تحقيق:
علي محمّد عمر- الناشر: مكتبة وهبه- الطبعة الأولى سنة 1976 م 244- طبقات المفسرين تصنيف: الحافظ شمس الدين محمّد بن علي بن أحمد الداودي المتوفى سنة 945 هـ، ط. دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى سنة 1983 م 245- طبقات النحويين واللغويين لأبي بكر محمّد بن الحسن الزبيدي، دار المعارف تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم 246- طيبة النشر في القراءات العشر لأبي القاسم النويري تحقيق عبد الفتاح السيد أبو سنة مجمع البحوث الإسلامية
حرف العين
247- العبر في خبر من غبر للحافظ الذهبي (ت 748 هـ) ، تحقيق د. صلاح الدين المنجد، وزارة الإعلام- الكويت 248- الاعتصام لأبي إسحاق اللخمي الشاطبي (ت 790 هـ) ، المكتبة التجارية الكبرى بمصر 249- العظمة لأبي الشيخ الأصبهاني (ت 369 هـ) ، تحقيق رضاء الله بن محمّد إدريس المباركفوري، دار العاصمة- الرياض- طبعة أولى 250- العلل لأبي محمّد عبد الرحمن الرازي ابن أبي حاتم (ت 327 هـ) دار المعرفة 251- العلل المتناهية لأبي الفرج بن الجوزي (ت 597 هـ) ، تحقيق إرشاد الحق الأثري، دار الكتب العلمية- بيروت 252- العلل الواردة في الأحاديث النبوية لأبي الحسن علي بن عمر الدارقطني (ت 385 هـ) تحقيق محفوظ الرحمن زين الله السلفي (ت 385 هـ) دار طيبة- طبعة أولى 253- علوم الحديث للحاكم النيسابوري (ت 405 هـ) ، تحقيق د. السيد معظم حسين، مكتبة المتنبي- القاهرة
(5/662)
254- العلوم المستودعة في السبع المثاني للتجيبي الأقليشي، مخطوط تفسير بالأزهر [255] 4253 255- عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ لأحمد بن يوسف السمين الحلبي، تحقيق الدكتور محمّد التونجي، عالم الكتب، طبعة أولى 256- عمدة القاري شرح صحيح البخاري لبدر الدين العيني (ت 855 هـ) ، مكتبة مصطفى البابي الحلبي- طبعة أولى 257- عمل اليوم والليلة لأبي بكر أحمد بن إسحاق الدينوري (ابن السّنّي) (ت 364 هـ) ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا- دار المعرفة- بيروت 258- العنوان في القراءات السبع لأبي طاهر إسماعيل بن خلف الأنصاري تحقيق الدكتور زهير زاهد والدكتور خليل العطية، عالم الكتب، بيروت- لبنان
حرف الغين
259- غاية النهاية في طبقات القراء تأليف: شمس الدين أبي الخير محمّد بن محمّد بن الجزري (المتوفى سنة 833 هـ) ، عني بنشره ج. براجستراسر- ط. دار الكتب العلمية- بيروت- الطبعة الثالثة سنة 1982 259- غاية الوصول شرح لب الأصول لزكريا بن محمّد الأنصاري (ت 926 هـ) ، مطبعة عيسى البابي الحلبي
حرف الفاء
261- فتاوى ابن تيمية لأحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية (ت 728 هـ) ، مطابع الرياض- الطبعة الأولى 262- فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ، تحقيق محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية- القاهرة- طبعة ثانية 263- فتح العلام للشيخ زكريا الأنصاري، دار الكتب العلمية، تحقيق علي محمّد معوض وعادل أحمد عبد الموجود- طبعة أولى 264- فتح الوهاب بشرح منهج الطلاب لأبي يحيى زكريا الأنصاري (ت 935 هـ) ، مكتبة مصطفى البابي الحلبي 265- فضائل القرآن لأبي عبيد القاسم بن سلام، تحقيق أحمد بن عبد الواحد الخياطي، وزارة الأوقاف المملكة المغربية 266- فقه اللغة وسر العربية لأبي منصور عبد الملك بن محمّد الثعالبي المكتبة التجارية الكبرى (1346- 1927)
(5/663)
267- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمّد بن الحسن الحجوي الثعالبي، طبع في الرباط (1340 هـ) 268- الفهرست لابن النديم- الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت 269- فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت لعبد العلي محمّد الأنصاري (ت 1180 هـ) ، المطبعة الأميرية- بولاق 270- فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي (ت 1031 هـ) ، دار الفكر- طبعة ثانية
حرف القاف
271- القاموس المحيط لمجد الدين الفيروزآبادىّ (ت 817 هـ) ، دار الفكر- بيروت
حرف الكاف
272- الكاشف على المحصول للأصبهاني، مخطوط 273- الكافي في فقه أهل المدينة المالكي لأبي عمر يوسف بن عبد البرّ، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 274- الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي (ت 365 هـ) ، دار الفكر- طبعة ثالثة 275- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل تأليف: أبي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي (467- 538 هـ) الطبعة الأولى سنة 1977 م 276- كشاف القناع عن متن الإقناع للشيخ العلامة فقيه الحنابلة منصور بن يونس بن إدريس البهوتي- نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة 277- كشف الأسرار للنسفي، دار الكتب العلمية 278- كشف الخفاء لإسماعيل بن محمّد العجلوني (ت 1162 هـ) ، مؤسسة الرسالة- بيروت- طبعة ثالثة 279- كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون للعالم الفاضل الأديب المؤرخ مصطفى بن عبد الله الشهير بحاجي خليفة، المكتبة الإسلامية بطهران- الطبعة الثالثة سنة 1387 هـ/ 1957 م 280- الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (ت 463 هـ) ، مطبعة السعادة- طبعة أولى 281- كنز العمال لعلاء الدين المتقي الهندي (ت 975 هـ) ، مؤسسة الرسالة 282- الكنى والأسماء لمسلم بن الحجاج (ت 261 هـ) ، تحقيق عبد الرحيم أحمد القشقري، الجامعة الإسلامية- المدينة المنورة- طبعة أولى 283- الكوكب المنير لمحمّد بن أحمد الفتوحي (ت 972 هـ) ، تحقيق، د/ محمّد الزحيلي ود/ نزيه حماد- مكتبة العبيكان
(5/664)
حرف اللام
284- لب اللباب في تحرير الأنساب لجلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) ، تحقيق محمّد أحمد عبد العزيز وأشرف أحمد عبد العزيز دار الكتب العلمية- طبعة أولى 285- اللباب في تهذيب الأنساب لعز الدين ابن الأثير الجزري، دار صادر- بيروت 286- لسان العرب لابن منظور، تحقيق عبد الله علي الكبير، محمّد أحمد حسب الله، هاشم محمّد الشاذلي- دار المعارف- مصر 287- لسان الميزان للإمام الحافظ شهاب الدين أبي الفضل أحمد بن عليّ بن حجر العسقلاني المتوفى سنة 852 هـ، حيدرآباد الهند، تصوير ونشر مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت لبنان- الطبعة الثانية سنة 1390 هـ/ سنة 1971 م 288- اللمع في العربية لأبي الفتح عثمان بن جنّي، تحقيق حامد المؤمن، عالم الكتب، مكتبة النهضة العربية طبعة ثانية
حرف الميم
289- المبسوط لشمس الدين السرخسي، دار المعرفة بيروت 290- مجاز القرآن صنعة أبي عبيدة معمر بن المثنى التيمي (ت 210 هـ) ، تحقيق: د/ محمّد فؤاد سزكين، الناشر: مكتبة الخانجي 291- مجمع الأنهر طبعة مصطفى البابي الحلبي 292- مجمع الزوائد ومنبع الفوائد لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807 هـ) ، مؤسسة المعارف بيروت 293- المجيد في إعراب القرآن المجيد لإبراهيم محمّد الصفاقسي (ت 742 هـ) ، تحقيق موسى محمّد زنين، منشورات كلية الدعوة الإسلامية طرابلس ولجنة الحفاظ على الترث الإسلامي 294- المحتسب في تبيين وجوه شواذ القراءات والإيضاح عنها لابن جنّي تحقيق: د/ عبد الفتاح شلبي وعلي النجدي ناصف- ط. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية سنة 1969 م 295- المحدّث الفاصل بين الراوي والواعي للقاضي الرامهرمزيّ (ت 360 هـ) ، تحقيق محمّد عجاج الخطيب، دار الفكر 296- المحلى لابن حزم (ت 456 هـ) ، طبعة: دار الفكر- تحقيق أحمد شاكر 297- المحلى على المنهاج لجلال الدين المحلي مطبعة مصطفى البابي الحلبي 298- مختار الصحاح للإمام محمّد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، ط الهيئة المصرية العامة للكتاب سنة 1976 م 299- مختصر المنتهى لأبي عمر عثمان بن عمر المعروف بابن الحاجب (ت 646 هـ) مطبعة
(5/665)
كردستان بالقاهرة 300- مختلف الرواية لعلاء الدين محمّد بن عبد الحميد أبي الفتح السمرقندي (ت 552 هـ) تحقيق عيسى زكي عيسى- وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- الكويت 301- المخصص تأليف: أبي الحسن علي بن إسماعيل النحوي، اللغوي، الأندلسي المعروف بابن سيده (ت 458 هـ) ، ط. دار الفكر 302- المدخل للبيهقي (ت 458 هـ) تحقيق د/ محمّد ضياء الرحمن الأعظمي، نشر دار الخلفاء بالكويت 303- مرآة الجنان وعبرة اليقظان في معرفة ما يعتبر من حوادث الزمان تأليف الإمام أبي محمّد عبد الله بن أسعد بن علي بن سليمان اليافعي اليمني المكي المتوفى سنة 768 هـ مطبوعات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت- لبنان، الطبعة الثانية، سنة 1390 هـ/ سنة 1970 م 304- المراسيل للحافظ أبي داود سليمان السجستاني (ت 275 هـ) ، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة- طبعة أولى 305- مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع تحقيق علي محمّد البجاوي، دار إحياء الكتب العربية عيسى البابي الحلبي 306- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري (ت 405 هـ) ، دار المعرفة- بيروت 307- المستصفى في علم الأصول لأبي حامد الغزالي، دار المعرفة- بيروت 308- مسند البزار- كشف الأستار للهيثمي (ت 807 هـ) ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، الطبعة الأولى، مؤسسة الرسالة بيروت 309- مسند الحميدي للحافظ أبي بكر الحميدي (ت 219 هـ) ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 310- مسند الشافعي لمحمّد بن إدريس الشافعي، تحقيق السيد يوسف الزواوي الحسيني، السيد عزت العطار الحسيني، دار الكتب العلمية 311- مسند الشهاب للقاضي محمّد بن سلامة القضاعي (ت 454 هـ) ، تحقيق حمدي بن عبد المجيد السلفي، الطبعة الأولى (1405 هـ) ، مؤسسة الرسالة- بيروت 312- المسودة في أصول الفقه لآل تيمية، دار الكتاب العربي- بيروت 313- مشكل الآثار للطحاوي (ت 321 هـ) ، حيدرآباد- الهند 314- مشيخة ابن الجوزي (ت 597 هـ) ، تحقيق محمّد محفوظ، الطبعة الثانية 1400 هـ دار الغرب- بيروت 315- المصاحف لأبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني (ت 316 هـ) ،
(5/666)
الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية 316- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي- أحمد بن محمّد بن علي المقري الفيومي (ت 770 هـ) ط 1397 هـ/ سنة 1977 وأيضا ط المطبعة العلمية الطبعة الأولى سنة 1315 هـ 317- المصنف لعبد الله بن محمّد بن أبي شيبة (ت 235 هـ) ، حيدرآباد- الهند- طبعة أولى 318- المصنف للحافظ أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني (ت 211 هـ) ، ط 1 سنة 1391 هـ/ 1972 م طبعة المجلس العلمي- المكتب الإسلامي- بيروت- لبنان 319- المطالب العالية لابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي، دار المعرفة- طبعة أولى 320- المطلع على أبواب المقنع لشمس الدين محمّد بن أبي الفتح البعلي، المكتب الإسلامي 321- المعارف لعبد الله بن مسلم بن قتيبة، حققه دكتور ثروت عكاشة الهيئة المصرية العامة للكتاب 322- معالم التنزيل لأبي محمّد الحسين بن مسعود البغوي (ت 516 هـ) ، دار المعرفة تحقيق خالد عبد الرحمن العك ومروان سوار 323- معاني القرآن وإعرابه لأبي إسحاق الزجاج (ت 311 هـ) ، شرح وتحقيق: د/ عبد الجليل شلبي- عالم الكتب- الطبعة الأولى سنة 1988 م 324- معاني القراءات لأبي منصور الأزهري (ت 370 هـ) ، تحقيق د/ عيد مصطفى درويش ود/ عوض بن حمد القوزي طبعة أولى 325- معاهد التنصيص على شواهد التلخيص للشيخ عبد الرحيم بن أحمد العباسي (ت 963 هـ) ، عالم الكتب- بيروت 326- المعتمد لأبي الحسين محمّد بن علي بن الطيب المعتزلي (ت 436 هـ) ، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 327- معجم الأدباء لياقوت- ط. الحلبي- الطبعة الأخيرة 328- المعجم الأوسط لأبي القاسم الطبراني (ت 360 هـ) ، تحقيق د. محمود الطحان، مكتبة المعارف- الرياض- طبعة أولى 329- معجم البلدان لياقوت الحموي (ت 626 هـ) ، تحقيق فريد عبد العزيز الجندي، دار الكتب العلمية- بيروت، طبعة أولى 320- معجم الشعراء للمرزباني مكتبة القدسي- القاهرة طبعة ثانية 330- معجم طبقات الحفاظ المفسرين لعبد العزيز عز الدين
السيروان، عالم الكتب
(5/667)
332- معجم قبائل العرب لعمر رضا كحالة، مؤسسة الرسالة- بيروت 333- المعجم الكبير لأبي القاسم الطبراني (ت 360 هـ) ، تحقيق حمدي عبد المجيد السلفي بغداد- وزارة الأوقاف 334- معجم المصطلحات النحوية والصرفية للدكتور محمّد سمير نجيب اللبدي، مؤسسة الرسالة، دار الفرقان 335- معجم مقاييس اللغة لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت 395 هـ) ، تحقيق شهاب الدين أبي عمرو، دار الفكر- بيروت- طبعة أولى 336- المعرفة والتاريخ لأبي يوسف يعقوب الفسويّ، مكتبة الدار بالمدينة المنور تحقيق د. أكرم ضياء العمري 337- المغني في أصول الفقه لعمر بن محمّد الخبازي (ت 691 هـ) ، تحقيق محمّد مطهربقا 338- مغني اللبيب لابن هشام (ت 761 هـ) ، تحقيق: محمّد محيي الدين عبد الحميد- مطبعة المدني 339- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج لشمس الدين الخطيب الشربيني، تحقيق الشيخ علي محمّد معوض وعادل أحمد عبد الموجود، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 340- المغني والشرح الكبير لعبد الله بن أحمد بن قدامة (ت 620 هـ) على مختصر الإمام أبي القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله بن أحمد الخرقي، ومعه الشرح الكبير على متن المقنع تأليف الشيخ الإمام شمس الدين أبي الفرج عبد الرحمن بن أبي عمر محمّد بن أحمد بن قدامة المقدسي (ت 682 هـ) ط دار الكتاب العربي للنشر والتوزيع بيروت- لبنان سنة 1392 هـ.
341- مفاتيح الغيب لفخر الدين الرازي (ت 604 هـ) ، دار الكتب العلمية طبعة أولى 342- مفتاح السعادة ومصباح السيادة لطاش كبري زاده، حيدرآباد- الهند 343- المفضليات للمفضل الضبي- تحقيق: أحمد محمّد شاكر، وعبد السلام هارون، ط. دار المعارف- الطبعة السادسة 344- المفهوم لشيخنا محمّد الخضراوي، مخطوط 345- المقاصد النحوية في شرح شواهد الألفية لمحمود بن أحمد العيني، دار صادر 346- المقتضب صنعة أبي العباس محمّد بن يزيد المبرّد (210- 285 هـ) تحقيق: محمّد عبد الخالق عضيمة ط. المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية 347- المقدمة لابن خلدون (ت 808 هـ) ، دار نهضة مصر طبعة ثالثة
(5/668)
348- مقدمة ابن الصلاح لابن الصلاح، تحقيق د. عائشة عبد الرحمن، الهيئة المصرية العامة للكتاب 349- المغرب تأليف: علي بن مؤمن المعروف بابن عصفور (ت 669 هـ) تحقيق: أحمد عبد الستار الجواري، وعبد الله الجبوريّ. مطبعة العاني، بغداد- الطبعة الأولى سنة 1972 م.
350- المكتفي في الوقف والابتداء للداني تحقيق الدكتور يوسف عبد الرحمن مرعشلي- مؤسسة الرسالة بيروت 1404 هـ، وطبعة أخرى قامت بنشرها مؤسسة الحلبي ملحق ديوان الأعشى- انظر ديوان الأعشى- ملحق ديوان كعب بن زهير- انظر ديوان كعب بن زهير 351- الممتع في التصريف- لابن عصفور الإشبيلي (597- 669 هـ) ، تحقيق د/ فخر الدين قباوة- ط. منشورات دار الآفاق الجديدة- بيروت- الطبعة الرابعة سنة 1979 م.
352- مناهج العقول لمحمّد بن الحسن البدخشي، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 353- مناهل العرفان في علوم القرآن لمحمّد عبد العظيم الزرقاني، مكتبة عيسى البابي الحلبي- طبعة ثالثة 304- المنتخب من المسند لأبي محمّد عبد بن حميد (ت 249 هـ) مكتبة السنة بالقاهرة تحقيق السيد صبحي البدري السامرائي، محمود محمّد خليل الصعيدي 355- المنتقى شرح موطأ مالك للقاضي سليمان بن خلف الباجي (ت 494 هـ) الطبعة الأولى مطبعة السعادة بالقاهرة سنة 1332 هـ 356- منتهى الإرادات لتقي الدين الفتوحي الحنبلي الشهير بابن النجار، تحقيق عبد الغني عبد الخالق، عالم الكتب 357- المنخول من تعليقات الأصول لأبي حامد الغزالي (ت 505 هـ) ، تحقيق د. محمّد حسن هيتو، دار الفكر- دمشق- طبعة ثانية 358- المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء للآمدي (الحسن بن بشر) ، مكتبة القدسي 359- موارد الظمآن إلى زوائد بن حبان لنور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، (ت 807 هـ) تحقيق حسين سليم أسد، عبده علي كوشك- دار الثقافة العربية طبعة أولى 360- الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ) ، تحقيق الشيخ عبد الله دراز دار المعرفة- بيروت- طبعة ثانية 361- الموضوعات لعبد الرحمن بن علي بن الجوزي (ت 597 هـ) ، تحقيق عبد الرحمن محمّد عثمان المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، عام 1386 هـ 362- ميزان الأصول في نتائج العقول لعلاء الدين شمس النظر السمرقندي، تحقيق د. عبد الملك
(5/669)
عبد الرحمن السعدي لجنة إحياء التراث العربي والإسلامي مكة المكرمة، طبعة أولى 1987 363- ميزان الاعتدال في نقد الرجال تأليف: أبي عبد الله محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت 748 هـ) ، تحقيق: علي محمّد البجاوي- ط. دار المعارف- بيروت
حرف النون
364- الناسخ المنسوخ في الحديث لابن شاهين (ت 385 هـ) ، تحقيق الشيخ علي محمّد معوض وعادل أحمد عبد الموجود دار الكتب العلمية- بيروت، طبعة أولى 365- النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة تأليف جمال الدين أبي المحاسن يوسف بن تغري بردي (813- 874 هـ) ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي المؤسسة المصرية العامة 366- نزهة الألباء في طبقات الأدباء لأبي البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمّد بن الأنباري (ت 577 هـ) ، تحقيق: د/ إبراهيم السامرائي- مكتبة المنار بالأردن- الطبعة الثالثة سنة 1985 م.
367- نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس للعباس بن علي الموسوي، طبع في مصر (1293 هـ) 368- نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض لأحمد شهاب الدين الخفاجي المصري، مكتبة المشهد الحسيني.
369- نشر البنود على مراقي السعود لعبد الله بن إبراهيم الشنقيطي، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 370- نشر الطوالع للعلامة المرعشي الشهير بساجقلي زادة مكتبة العلوم العصية- طبعة أولى 371- نصب الراية لأحاديث الهداية للإمام الحافظ البارع العلامة جمال الدين أبي محمّد عبد الله بن يوسف الحنفي الزيلعي (ت 762 هـ) الناشر المكتبة الإسلامية، لصاحبها الحاج رياض الشيخ، الطبعة الثانية، سنة 1393 هـ/ 1973 م 372- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري (ت 1041 هـ) ، طبع دار صادر، تعليق الدكتور إحسان عبّاس 373- نقعة الصديان للحسن بن محمّد بن الحسن الصاغاني (ت 650 هـ) ، تحقيق سيد كسروي حسن، دار الكتب العلمية- طبعة أولى 374- النكت الظراف لأحمد بن علي بن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ، تصحيح عبد الصمد بن شرف، طبع بحاشية تحفة الأشراف للمزي، الطبعة الأولى، الدار القيمة الهند 375- نكت الهيمان في نكت العميان لصلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي (ت 764 هـ) ، المطبعة الجمالية بمصر 376- نهاية الأرب لشهاب الدين النويري، دار الكتب المصرية، (1923 م)
(5/670)
377- نهاية السول في شرح منهاج الأصول لعبد الرحيم الأسنوي (ت 772 هـ) ، المطبعة السلفية- عالم الكتب- بيروت 378- النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير- تحقيق: طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمّد الطناحي- طبعة الحلبي- الطبعة الأولى سنة 1963 م.
379- نيل الابتهاج بتطريز الديباج لأحمد بابا التنبكتي كلية الدعوة الإسلامية- طرابلس ليبيا- طبعة أولى 380- نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار من أحاديث سيد الأخيار للإمام المجتهد قاضي قضاة القطر اليماني محمّد بن علي بن محمّد الشوكاني، طبعة الحلبي الأخيرة ونسخة أخرى طبعة المكتبة التوفيقية بالقاهرة
حرف الهاء
381- الهداية شرح بداية المبتدئ لبرهان الدين الميرغناني (ت 593 هـ) ، مكتبة مصطفى البابي الحلبي 382- هدي الساري للحافظ ابن حجر العسقلاني (ت 852 هـ) ، تحقيق محب الدين الخطيب، المطبعة السلفية بالقاهرة- طبعة ثانية 383- هدية العارفين من كشف الظنون لإسماعيل باشا البغدادي، دار الفكر 384- همع الهوامع شرح جمع الجوامع تأليف: جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911 هـ) ، عنّي بتصحيحه: السيد محمّد بدر الدين النعساني، ط. دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت
حرف الواو
385- الوافي بالوفيات تأليف صلاح الدين خليل بن الصفدي ط 2 دار النشر بقيسبادن النشرات الإسلامية (381 هـ/ 1962 م) 386- الوصول إلى الأصول لأحمد بن علي بن برهان (ت 518 هـ) ، تحقيق عبد الحميد علي أبو زنيد، مكتبة المعارف- الرياض- طبعة أولى 388- وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان لأبي العباس شمس الدين أحمد بن محمّد بن أبي بكر بن خلّكان سنة (608- 681) حققه الدكتور/ إحسان عبّاس، دار صادر بيروت سنة 1968 م
(5/671)