سقُوطُ لَفْظِ التأبيدِ.
قال ع «1» : والجمهورُ على قبولِ توبته، ورُوِيَ عن بعض العلماء أنهم/ كانُوا يَقْصِدُونَ الإغلاظَ، والتَّخْوِيفَ أحياناً، فيُطْلِقُونَ ألاَّ تُقْبَلَ توبته منهم ابن شِهَابٍ، وابْنُ عَبَّاسٍ «2» ، فكان ابْنُ شِهَابٍ، إذا سأله مَنْ يفهم مِنْهُ أنَّهُ قَدْ قَتَلَ، قال له: تَوْبَتُكَ مَقْبُولَةٌ، وإذا سأله مَنْ لم يفعلْ، قال: لاَ تَوْبَةَ لِلْقَاتِلِ، وعن ابنِ عَبَّاس نحوه، قال الدَّاوُوديُّ وعن أبي هُرَيْرة أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «وَاللَّهِ، لَلدُّنْيَا وَمَا فِيهَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَنْ أَعَانَ على قَتْلِ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ، لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ يَلْقَاهُ مَكْتُوبٌ على جَبْهَتِهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» «3» ، وعن معاويةَ، أنَّهُ سَمِعَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إلاَّ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً، أَوْ مَاتَ كَافِراً» «4» ، وعن أبي هريرة أنه سُئِلَ عَنْ قَاتِلِ المُؤْمِنِ، هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لاَ، وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ، لاَ يَدْخُلُ الجَنَّة حتى يَلِجَ الجَمَلُ فِي سَمِّ الخيَاطِ، قَالَ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَشْرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ إلاَّ كَبَّهُمُ الله جميعا في النّار» . انتهى.
__________
- بيعة النساء، حديث (7213) ، وفي (13/ 455) ، كتاب «التوحيد» ، باب المشيئة والإرادة، حديث (7468) ، ومسلم (3/ 133) كتاب «الحدود» ، باب الحدود كفارة لأهلها، حديث (41/ 1709) ، والترمذي (4/ 45) ، كتاب «الحدود» ، باب ما جاء أن الحدود كفارة لأهلها، حديث (1439) ، والنسائي (7/ 141- 142) كتاب «البيعة» ، باب البيعة على الجهاد، حديث (4161) وفي (8/ 108- 109) كتاب «الإيمان» ، باب البيعة على الإسلام، حديث (5002) ، وأحمد (5/ 314، 320) ، والحميدي (387) ، والدارقطني (3/ 215) كتاب «الحدود والديات» ، والبيهقي (8/ 18) كتاب «الجنايات» ، باب قتل الولدان، كلهم من حديث عبادة بن الصامت.
وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح. [.....]
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 95) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 220) برقم (10192) ، والماوردي في «تفسيره» (1/ 520) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 464) .
(3) أخرجه ابن ماجة (2/ 874) ، كتاب «الديات» ، باب التغليظ في قتل المسلم، حديث (2620) .
وقال البوصيري: في إسناده يزيد بن أبي زياد بالغوا في تضعيفه.
(4) أخرجه أحمد (4/ 99) ، والنسائي (7/ 81) كتاب «تحريم الدم» ، وأبو نعيم (6/ 99) من حديث معاوية، وله شاهد من حديث أبي الدرداء.
أخرجه أبو داود (4270) ، وابن حبان (51- موارد) ، والحاكم (4/ 351) .
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.(2/280)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
[سورة النساء (4) : آية 94]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ... الآية: تقُولُ:
ضَرَبْتُ في الأرضِ إذا سرْتَ لتجارةٍ أو غَزْوٍ، أو غيره، مقترنةً ب «في» ، وضربْتُ الأرْضَ، دون «فِي» إذا قصَدتَّ قضاء الحاجَةِ.
وقال ص: ضربتم، أي: سافرتم.
قال ع «1» : وسببُ هذه الآية أنَّ سريَّةً مِنْ سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لقيَتْ رجُلاً له جَمَلٌ، ومُتَيَّعٌ «2» ، وقيلَ: غُنَيْمَةٌ، فسلَّم على القَوْمِ، وقال: لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَحَمَلَ علَيْهِ أحدُهُمْ، فَقَتَلَهُ، واختلف في تَعْيين القَاتِلِ والمَقْتُولِ في هذه النازلة، والذي عليه الأكثر، وهو في سِيَر ابْنِ إسحَاقَ، وفي مُصنَّفِ أبي دَاوُد وغيرهما أنَّ القاتِلَ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ «3» ، والمقتولَ عَامِرُ بن الأَضْبطِ «4» ، ولا خلافَ أنَّ الذي لَفَظَتْهُ الأرْضُ، حِينَ مات، هو مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَة «5» ، وقرأ جمهورُ السَّبْعة: «فَتََبَيَّنُوا» ، وقرأ «6» حمزة والكسائيُّ: «فَتَثَبَّتُوا» (بالثاء المثلَّثة) في الموضعَيْن هنا، وفي «الحجرات» ، وقرأ «7» نافع
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 96) .
(2) التّبعة: اسم لأدنى ما تجب فيه الزكاة من الحيوان، وكأنها الجملة التي للسعادة عليها سبيل، من تاع يتيع:
إذا ذهب إليه.
ينظر: «النهاية» (1/ 202) .
(3) محلّم بن جثّامة الليثي: أخو الصعب بن جثّامة.
قال ابن عبد البرّ: يقال: إنه الذي قتل عامر بن الأضبط، وقيل: إن محلما غير الذي قتل، وإنه نزل حمص ومات بها أيام ابن الزبير، ويقال: إنه الذي مات في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودفن فلفظته الأرض مرة بعد أخرى.
(4) عامر بن الأضبط الأشجعيّ.
ذكره ابن شاهين وغيره، وساق قصّة تدلّ على أنه قتل حين أسلم قبل أن يلقى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
(5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 224) برقم (10216) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 96) .
(6) وقراءة الأخوين مقصودها: أن التثبت خلاف الإقدام، والمراد التأني، فيكون التثبت أشد اختصاصا بهذا الموضع، يعضده قوله تعالى: وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً [النساء: 66] ، ومما يقويه قولهم: تثبت في أمرك، ولا يكاد يقال في هذا المعنى: تبين.
وحجة الباقين أن التبين ليس وراءه شيء، وقد يكون أشد من التثبت.
ينظر: «السبعة» (236) ، و «الحجة» (3/ 173) ، و «حجة القراءات» (209) ، و «العنوان» (85) ، و «إعراب القراءات» (1/ 136) ، و «شرح شعلة» (342) ، و «شرح الطيبة» (4/ 211) ، وإتحاف» (1/ 518) ، و «معاني القراءات» (1/ 315) .
(7) وقرأها ابن عامر وحمزة. -(2/281)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
وغيره: «السَّلَمَ» ، ومعناه: الاِستسلام، أي: ألقى بيده، واستسلَم لكُمْ، وأظهر دعوتكَم، وقرأ باقي السبعة: «السَّلاَمَ» (بالألف) ، يريد: سلاَمَ ذلك المَقْتُولِ على السَّريَّة لأن سلامَهُ بتحيَّة الإسلام مُؤْذِنٌ بطاعَتِهِ، وانقياده، وفي بَعْضِ طرق عاصم: «السِّلْمَ» - بكسر السين المشدَّدة، وسكونِ اللامِ-، وهو الصُّلْح، والمعنَى المرادُ بهذه الثلاثةِ مُتَقَارِبٌ، وقرىء:
«لَسْتَ مُؤْمَناً» «1» - بفتح الميم- أي: لَسْنَا نُؤَمِّنُكَ.
وقوله تعالى: فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ: عِدَةٌ منه سبحانه بما يأْتِي به مِنْ فَضْله من الحلال دون ارتكاب محْظُورٍ، أي: فلا تتهافَتُوا.
واختلف في قوله: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ.
فقال ابنُ جُبَيْرٍ: معناه: كذلكَ كُنْتُمْ مستخْفِينَ مِنْ قومكم بإسلامِكُمْ، فَمَنَّ اللَّه عليكم بإعزازِ دينِكم، وإظهارِ شَرِيعتكم، فَهُمُ الآنَ كذلك كلُّ واحدٍ منهم خَائِفٌ مِنْ قومه، متربِّصٌ أَنْ يَصِلَ إلَيْكم، فلم يصْلُحْ إذا وَصَل أنْ تَقْتُلُوه حتى تتبيَّنوا أَمْرَهُ «2» ، وقال ابنُ زَيْدٍ:
المعنى: كَذَلِكَ كُنْتُمْ كَفَرةً، فَمنَّ اللَّهُ علَيْكُمْ بِأنْ أسلَمْتُمْ، فلا تُنْكِرُوا أَنْ يكُونَ هو كافراً، ثم يسلم لِحِينه «3» ، ثم وَكَّد تبارَكَ وتعالى الوصيَّةَ بالتبيُّن، وأعلم أنَّه خبيرٌ بما يعمَلُه العبادُ، وذلك منه خَبَرٌ يتضمَّن تحذيراً منه سبحانه، أي: فاحفظوا أنْفُسَكم، وجَنِّبوا الزَّلَل المُوبِقَ لكم.
[سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96]
لاَّ يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
__________
- ينظر: «السبعة» (236) ، و «الحجة» (3/ 175، 176) ، و «حجة القراءات» (209) ، و «العنوان» (85) ، و «إعراب القراءات» (1/ 136، 137) ، و «شرح شعلة» (343) ، و «شرح الطيبة» (4/ 213) ، و «إتحاف» (1/ 518) ، و «معاني القراءات» (1/ 315- 316) .
(1) وقرأ بها محمد بن علي، وابن مسعود، وابن عباس.
ينظر: «الشواذ» ص (34) ، و «الكشاف» (1/ 552) ، ونسبها ابن عطية في المحرر (2/ 96) إلى أبي جعفر بن القعقاع، وأبي حمزة، واليماني، وزاد أبو حيان في «البحر» (3/ 342) نسبتها إلى عكرمة، وأبي العالية، ويحيى بن يعمر.
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 228) وابن عطية في «تفسيره» (2/ 97) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 467) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 359) وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة. [.....]
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 228) (10235) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 97) .(2/282)
وقوله تعالى: لاَّ يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ... الآية: في قوله تعالى: لاَ يَسْتَوِي إبهامٌ على السَّامعِ/، وهو أبْلَغُ من تحديدِ المَنْزِلَةِ التي بَيْنَ المجاهد والقاعِدِ، فالمتأمِّل يَمْشِي مع فِكْرته، ولا يَزَالُ يتخيَّل الدرَجَاتِ بينهما، والقاعدُونَ عبارةٌ عن المتخلِّفين.
قلْتُ: وخرج أبو بكر بن الخطيب بسنده، عن عليِّ بْنِ أبي طالب (رضي اللَّه عنه) قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ فِي الجَنَّةِ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ أَعْلاَهَا الحُلَلُ، ومِنْ أَسْفَلِهَا خَيْلٌ بُلْقٌ مِنْ ذَهَبٍ مُسَرَّجَةٌ مُلْجَمَةٌ بالدُّرِّ واليَاقُوت، لاَ تَرُوثُ، وَلاَ تَبُولُ، ذَوَاتُ أَجْنِحَةٍ، فَيَجْلِسُ عَلَيْهَا أَوْلِيَاءُ اللَّهِ فتطِيرُ بِهِمْ حَيْثُ شَاءُوا، فَيَقُولُ الَّذِينَ أَسْفَلَ مِنْهُمْ: يأهْلَ الجَنَّة، ناصِفُونا، يا ربِّ، ما بَلَّغَ هؤلاءِ هذه الكرامَةَ؟! فَيَقُولُ اللَّه تعالى: إنهم كانُوا يَصُومُونَ، وكُنْتُمْ تُفْطِرُونَ، وَكَانُوا يقُومُونَ باللَّيْلِ وَكُنْتُمْ تَنَامُونَ، وَكَانُوا يُنْفِقُونَ، وَكُنْتُمْ تَبْخَلُونَ، وَكَانُوا يُجَاهِدُونَ العَدُوَّ وَكُنْتُمْ تَجْبُنُونَ» «1» . انتهى.
وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو «2» وحمزة: «غَيْرُ» - بالرفع- صفةً للقاعدين، وقرأ نافعٌ وغيره: «غَيْر» - بالنصب- استثناء من القاعدينَ، ورُوِيَ من غيرِ مَا طَرِيقٍ أنَّ الآية نزلَتْ:
«لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجَاهِدُونَ» ، فجاء ابنُ أمِّ مكتومٍ، حين سمعها، فقال:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ مِنْ رُخْصَةٍ، فَإنِّي ضَرِيرُ البَصَرِ، فَنَزَلَتْ عِنْدَ ذلك غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «3» ، ...
__________
(1) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (1/ 266- 267) من طريق سعد بن طريف عن زيد بن علي عن أبيه عن علي بن أبي طالب مرفوعا.
ومن طريق الخطيب أخرجه ابن الجوزي في «الموضوعات» (3/ 255) .
وقال: هذا حديث موضوع على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إحداهن: إرساله، فإن علي بن الحسين لم يدرك علي بن أبي طالب، والثانية: محمد بن مروان وهو السدي الكبير، قال ابن نمير: وهو كذاب، وقال أبو حاتم الرازي: متروك الحديث، وقال ابن حبان: لا يحل كتب حديثه إلا اعتبارا. والثالثة: أظهر، وهو سعد بن طريف وهو المتهم به، قال يحيى: ليس بشيء، وقال النسائي والدارقطني: متروك، وقال ابن حبان: كان يضع الحديث على الفور.
(2) ينظر: «السبعة» (237) ، و «الحجة» (3/ 179) ، وفيه ذكر رواية عن ابن كثير أنه قرأ بالنصب.
وينظر: «حجة القراءات» (210) ، و «إعراب القراءات» (1/ 137) ، و «العنوان» (85) ، و «معاني القراءات» (1/ 315- 316) .
(3) أخرجه البخاري (6/ 53) كتاب «الجهاد» ، باب قول الله عز وجل: لاَّ يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ... ، حديث (2831) ، (8/ 108) كتاب «التفسير» ، باب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، حديث (4593) ، (4594) ، (8/ 638- 639) كتاب «فضائل القرآن» ، باب كاتب-(2/283)
..
__________
- النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حديث (4990) ، ومسلم (3/ 1508) كتاب «الإمارة» ، باب سقوط فرض الجهاد عن المعذورين، حديث (141/ 1898) ، والترمذي (5/ 225) كتاب «التفسير» ، باب سورة النساء، حديث (3031) ، والنسائي (6/ 10) كتاب «الجهاد» ، باب فضل المجاهدين على القاعدين، وأحمد (4/ 282، 284، 290) ، والطيالسي (2/ 17- منحة) برقم (1943) ، والطبري في «تفسيره» (5/ 229) ، وأبو يعلى (3/ 269) برقم (1725) ، والواحدي في «أسباب النزول» ، (ص 131) ، والبيهقي (9/ 23) ، باب من اعتذر بالضعف والزمانة، كلهم من طريق أبي إسحاق عن البراء بن عازب به.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
والحديث: ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 361) ، وزاد نسبته إلى ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في «المصاحف» ، والبغوي في مجمعه.
تنبيه: فات الإمام السيوطي في هذا الحديث أن يعزوه إلى مسلم وهو في صحيحه كما تقدم في أثناء التخريج.
وللحديث شواهد من حديث سهل بن سعد، وزيد بن ثابت، وابن عباس، وزيد بن أرقم، والفلتان بن عاصم.
حديث سهل بن سعد:
أخرجه البخاري (8/ 108) كتاب «التفسير» ، باب (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) ، حديث (4592) ، والترمذي (5/ 226) كتاب «التفسير» ، باب سورة النساء، حديث (3033) ، والنسائي (6/ 9) كتاب «الجهاد» ، باب فضل المجاهدين على القاعدين، حديث (3099) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 87- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري عن سهل بن سعد أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد، فأقبلت حتى جلست إلى جنبه، فأخبرنا: أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أملى عليه: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) ، فجاءه ابن أم مكتوم وهو يملها علي قال: يا رسول الله، والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت- وكان أعمى- فأنزل الله على رسوله صلّى الله عليه وسلّم وفخذه على فخذي، فثقلت علي حتى خفت أن ترض فخذي، ثم سري عنه، فأنزل الله: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح هكذا روى غير واحد عن الزهري عن سهل بن سعد نحو هذا، وروى معمر عن الزهري هذا الحديث عن قبيصة بن ذؤيب عن زيد بن ثابت، وفي هذا الحديث رواية رجل من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن رجل من التابعين، رواه سهل بن سعد عن مروان بن الحكم، ومروان لم يسمع من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. اهـ.
حديث زيد بن ثابت:
أخرجه أبو داود (2/ 14- 15) كتاب «الجهاد» ، باب في الرخصة في القعود من العذر، حديث (2507) ، وأحمد (5/ 190- 191) ، والحاكم (2/ 81- 82) ، والطبراني في «الكبير» (5/ 132) برقم (4851) كلهم من طريق أبي الزناد عن خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت قال: كنت إلى جنب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فغشيته السكينة، فوقعت فخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فخذي، فما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم سري عنه، فقال: اكتب فكتبت في كتف: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين-(2/284)
قَالَ الفَلَتَانُ بْنُ عَاصِمٍ «1» (رضي اللَّه عنه) : كنّا قعودا عند النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل علَيْه، وكان إذَا أُوحِيَ إلَيْهِ، دَامَ بَصَرُهُ مَفْتُوحَةً عَيْنَاهُ، وفَرَّغَ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ لِمَا يَأْتِيهِ مِنَ اللَّهِ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ، قَالَ لِلْكَاتِبِ: اكتب: «لاَ يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ وَالمُجَاهِدُونَ ... » إلَى آخر الآية، قال: فقام الأعمى، فقَاَل: يا رسُولَ اللَّهِ، مَا ذَنْبُنَا؟ قَالَ:
فأنزلَ اللَّهُ على رسولِهِ، فقلْنا للأعمى: إنه يَنْزِلُ عليه، قال: فَخَافَ أنْ ينزلَ فيه شيْءٌ، فبقيَ قائماً مكانَهُ، يقولُ: أَتُوبُ إلى رسُولِ اللَّهِ، حتّى فرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال للكاتب:
__________
- والمجاهدون في سبيل الله) إلى آخر الآية، فقام ابن أم مكتوم- وكان رجلا أعمى- لما سمع فضيلة المجاهدين فقال: يا رسول الله، فكيف بمن لا يستطيع الجهاد من المؤمنين؟ فلما قضى كلامه غشيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السكينة، فوقعت فخذه على فخذي، ووجدت من ثقلها في المرة الثانية كما وجدت في المرة الأولى، ثم سري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال: اقرأ يا زيد، فقرأت: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ الآية كلها.
قاله زيد: فأنزلها الله وحدها فألحقتها، والذي نفسي بيده لكأني أنظر إلى ملحقها عند صدع في كتف.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 361) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن سعد، وابن المنذر، وابن الأنباري.
حديث ابن عباس:
أخرجه الترمذي (5/ 225) كتاب «التفسير» ، باب سورة النساء، حديث (3032) ، والبيهقي (9/ 47) كتاب «السير» ، باب النفير وما يستدل به على أن الجهاد فرض على الكفاية، كلاهما من طريق ابن جريج عن عبد الكريم عن مقسم عن ابن عباس أنه قال: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ عن بدر والخارجون إلى بدر، لما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش، وابن أم مكتوم: إنا أعميان يا رسول الله فهل لنا رخصة؟ فنزلت: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر، وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة) فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن عباس.
حديث زيد بن أرقم:
أخرجه الطبراني في «الكبير» (5/ 190) برقم (5053) من طريق أبي إسحاق عن زيد بن أرقم قال: لما نزلت: (لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله) جاء ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله، أما لي رخصة؟ قال: لا، قال ابن أم مكتوم: اللهم إني ضرير فرخص لي فأنزل الله غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكتابتها.
وقال الهيثمي في «المجمع» (7/ 12) : ورجاله ثقات.
(1) الفلتان: بفتحتين، ومثناة فوقانية، ابن عاصم الجرمي، خال كليب. يعدّ في الكوفيين. قال البخاريّ:
قال عاصم بن كليب: له صحبة، وكذا قال ابن السّكن، وابن أبي حاتم، وابن حبان- له صحبة، وقال البغوي: سكن المدينة. وقال ابن حبان: عداده في الكوفيين.
وقال أبو عمر: يقال المنقري، والجرمي أصح. ينظر: «الإصابة» (5/ 288- 289) .(2/285)
اكتب: غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ «1» ، وأهْلُ الضررِ: هم أهل الأعذار، إذ قد أضرَّت بهم حتى منعتهم الجهَادَ قاله ابنُ عَبَّاس وغيره «2» .
وقوله تعالى: بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، هي الغايةُ في كمالِ الجهَاد، قال ابن جُرَيْجٍ:
الفَضْلُ بدرجةٍ هو على القَاعِدِينَ مِنْ أهْل العذر.
قال ع «3» : لأنهم مع المؤمنين بنيَّاتهم كما هو مذكورٌ في الحديثِ الصَّحيحِ.
قال ابنُ جُرَيجٍ: والتفضيلُ بالأجْر العظيمِ والدرجاتِ هُوَ على القَاعِدِينَ مِنْ غير عذر «4» ، والْحُسْنى: الجنةُ التي وَعَدَهَا اللَّهُ المؤمِنِينَ وكذلك قال السُّدِّيُّ وغيره «5» .
وقال ابنُ مُحَيْرِيزٍ «6» : الدرجاتُ: هي درجاتٌ في الجنَّةِ سَبْعُونَ ما بَيْنَ الدرجَتَيْنِ حُضْرُ الجَوَادِ المُضَمَّرِ سَبْعِينَ سَنَةً «7» ، قُلْتُ: وفي «صحيح البُخاريِّ» ، عن أبي هريرةَ، عن رسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «إنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنّة» «8» . انتهى.
__________
(1) حديث الفلتان بن عاصم: أخرجه أبو يعلى (3/ 156- 157) برقم (1583) ، وابن حبان (1733- موارد) ، والطبراني في «الكبير» (18/ 334) برقم (856) ، والبزار (3/ 45- كشف) برقم (2203) كلهم من طريق عبد الواحد بن زياد ثنا عاصم بن كليب حدثني أبي عن الفلتان بن عاصم به.
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 231) برقم (10248) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 98) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 362) ، وعزاه لابن جرير من طريق العوفي عن ابن عباس.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 98) .
(4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 233) برقم (10260) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 98) .
(5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 233) برقم (10259) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 98) .
(6) عبد الله بن محيريز بضم أوله وفتح المهملة بعدها تحتانية ساكنة ثم مهملة مكسورة ثم تحتانية ثم معجمة، الجمحي أبو محيريز المكي نزيل الشام، عن أبي محذورة، وعبادة بن الصامت، وعنه عبد الملك بن أبي محذورة، ومكحول الزّهري، وثقه العجلي. قال الأوزاعي: من كان مقتديا فليقتد بمثل ابن محيريز، قال خليفة: مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. وقال ضمرة: في خلافة الوليد بن عبد الملك.
ينظر: «الخلاصة» (2/ 98) ، «تهذيب الكمال» (2/ 739) ، «تهذيب التهذيب» (6/ 22) ، «الكاشف» (2/ 128) .
(7) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 233) برقم (10263) ، وذكره ابن عطية (2/ 98) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 364) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن محيرز بلفظ: قال: الدرجات سبعون درجة، ما بين الدرجتين عدو الجواد المضمر سبعون سنة. [.....]
(8) تقدم تخريجه.(2/286)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
وقال ابن زَيْدٍ: الدرجاتُ في الآيةِ هي السّبع المذكورة في «بَرَاءَةَ» في قوله تعالى:
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ ... [التوبة: 120] الآية «1» .
قال ع «2» : ودرجاتُ الجهادِ، لَوْ حُصِرَتْ، أكْثَرُ من هذه، لكنْ يَجْمَعُها بذْلُ النفْسِ، والاعتمال بالبَدَنِ والمالِ في أنْ تكُونَ كَلمةُ اللَّهِ هي العُلْيَا، ولا شَكَّ أنَّ بحَسَب/ مراتِبِ الأعمال ودرجاتِهَا تكُونُ مراتِبُ الجَنَّة ودرجاتُها، فالأقوالُ كلُّها متقاربة، وباقي الآية وعد كريم وتأنيس.
[سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ ... الآية:
المرادُ بهذه الآيةِ إلى قوله: مَصِيراً جماعةٌ من أهل مكَّة كانوا قد أسلموا، فَلَمَّا هاجَرَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أقَامُوا مَعَ قَوْمِهِمْ، وفُتِنَ منهم جماعةٌ، فافتتنوا، فلما كَانَ أَمْرُ بَدْرٍ، خَرَجَ منهم قومٌ مع الكُفَّار، فقُتِلُوا ببَدْرٍ، فنزلَتِ الآية فيهم.
قال ع «3» : والذي يَجْرِي مع الأصولِ أنَّ مَنْ ماتَ مِنْ هؤلاء مرتدًّا، فهو كافرٌ، ومأواه جهنَّم على جهة الخلودِ المؤبدِ، وهذا هو ظاهرُ أمْرِ هؤلاءِ، وإنْ فَرَضْنا فيهم مَنْ مَاتَ مؤمناً، وأُكْرِهَ عَلَى الخُرُوجِ، أوْ ماتَ بمكَّة، فإنما هو عاصٍ في ترك الهِجْرة، مأواه جهنَّم على جهة العِصْيَانِ دُونَ خُلُودٍ.
وقوله تعالى: تَوَفَّاهُمُ: يحتملُ أن يكون فعلاً ماضياً، ويحتملُ أنْ يكون مستقْبَلاً على معنى: «تَتَوَفَّاهُمْ» فحذِفَتْ إحدى التاءَيْنَ وتكون في العبارة إشارة إلى ما يأتي مِنْ هذا المعنى في المستقبل بعد نزول الآية، وظالِمِي أَنْفُسِهِمْ: نصب على الحال، أي:
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 233) برقم (10262) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 98) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 364) ، وعزاه لابن جرير عن ابن وهب قال: سألت زيد، وذكر الأثر.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 98) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 99) .(2/287)
ظالميها بترك الهجرة، وتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ: معناه: تقبِضُ أرواحَهُمْ، قال الزَّجَّاج «1» ، وحُذِفَتِ النونُ مِنْ ظَالِمِينَ تخفيفاً كقوله: بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 95] ، وقولُ الملائكة:
فِيمَ كُنْتُمْ: تقريرٌ وتوبيخٌ، وقولُ هؤلاء: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ: اعتذار غيرُ صحيحٍ إذ كانوا يستطيعُونَ الحِيَلَ، ويَهْتَدُونَ السُّبُلَ، ثم وقَفَتْهُم الملائكةُ على ذَنْبهم بقولهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً، والأرْضُ الأولى: هي أرْضُ مكَّة خاصَّة، وأرْضُ اللَّهِ هي الأرضُ بالإطلاق، والمراد: فتهاجِرُوا فيها إلى مواضعِ الأَمْنِ، وهذه المقاوَلَةُ إنما هِيَ بعد توفي الملائكَةِ لأرواحِ هؤلاءِ، وهي دالَّة على أنهم ماتوا مُسْلِمِينَ وإلاَّ فلو ماتوا كافِرِينَ، لم يُقَلْ لهم شيءٌ مِنْ هذا، ثم استثنى سبحانه مَنْ كان استضعافه حقيقةً مِنْ زَمْنَى الرجالِ، وضَعَفَةِ النساءِ، والولدانِ، قال ابنُ عَبَّاس: «كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ» «2» ، والحِيلَةُ: لفظٌ عامٌّ لأنواع أسبَاب التخلُّص، والسَّبِيلُ: سبيلُ المدينةِ فيما قاله مجاهد وغيره «3» ، والصوابُ: أنه عامٌّ في جميع السُّبُل، ثم رَجَّى اللَّه تعالى هؤلاءِ بالعَفْو عنهم، والمُرَاغِمُ: المُتَحَوَّلُ والمَذْهَب قاله ابن عبَّاس وغيره «4» ، وقال مجاهدٌ: المُرَاغَمُ المتزحْزَحُ عمَّا يُكْرَه «5» ، وقال ابن زيْدٍ: المُرَاغَمُ: المُهَاجَرُ «6» ، وقال السُّدِّيُّ: المُرَاغَمُ: المبتغى للمعيشة «7» .
قال ع «8» : وهذا كله تَفْسيرٌ بالمعنى، وأما الخاصُّ بِاللفظة، فإن المُرَاغَمَ هو موضِعُ المراغَمَةِ، فلو هاجر أَحَدٌ من هؤلاءِ المَحْبُوسِين بمكَّةَ، لأرْغَمَ أنُوفَ قريشٍ بحصوله في مَنَعَةٍ منهم، فتلكَ المَنَعَةُ هي مَوْضِعُ المراغَمَةِ، قال ابنُ عَبَّاس وغيره: السّعة هنا هي السّعة في
__________
(1) ينظر: «معاني القرآن» (2/ 94) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 235) برقم (10264) ، وذكره ابن عطية (2/ 100) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 367) ، وعزاه للطبراني.
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 239) برقم (10284) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 470) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 368) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد.
(4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 100) .
(5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 242) برقم (10307) ، وذكره ابن عطية (2/ 101) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 368) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 243) برقم (10309) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 101) .
(7) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 242) برقم (10308) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 101) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 368) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(8) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 101) .(2/288)
الرِّزْقِ «1» ، وقال مالك: السَّعة: سَعَةُ البلاد «2» .
قال ع «3» : وهذا هو المُشَبِهُ للفصاحة أنْ يريد سعة الأرْضِ وبذلك تكونُ السَّعَةُ في الرِّزْق، واتساع الصَّدْرِ، وغيرُ ذلك من وجوه الفَرَجِ، وهذا المعنى ظاهرٌ من قوله تعالى: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً.
قال مالكُ بْنُ أَنَسٍ (رحمه اللَّه) : الآية تُعْطِي أنَّ كلَّ مسلمٍ ينبغي لَهُ أنْ يَخْرُجُ من البلادِ الَّتي تُغَيَّرُ فيها/ السُّنَنُ، ويُعْمَلُ فيها بغَيْر الحَقِّ «4» .
وقوله تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ ...
الآية حُكْمُ هذه الآية باقٍ في الجهَادِ، والمَشْيِ إلى الصلاةِ، والحَجِّ، ونحوِهِ، قلْتُ: وفي البابِ حديثٌ عن أبي أُمَامَةَ، وسيأتِي عند قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النور: 61] .
قال ع «5» : والآية نزلَتْ بسبب رَجُلٍ من كِنَانَةَ، وقيلَ: من خُزَاعَةَ، اسمه ضَمْرَةُ في قولِ الأكْثَرِ لما سمع قَوْلَ اللَّه تعالَى: الَّذِينَ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا قال: إنِّي لَذُو مَالٍ وَعَبِيدٍ، وَكَانَ مَرِيضاً، فَقَالَ: أَخْرِجُونِي إلَى المَدِينَةِ، فَأُخْرِجَ فِي سَرِيرٍ، فَأَدْرَكَهُ المَوْتُ بِالتَّنْعِيمِ، فَنَزَلَتِ الآيةُ بسببه.
قال ع «6» : ومِنْ هذه الآية رأى بعضُ العلماء أنَّ مَنْ مات من المسلمين، وقد خَرَجَ غازياً، فله سَهْمُهُ من الغنيمة، قَاسُوا ذلك علَى الأجْرِ، وَوَقَعَ: عبارةٌ عن الثُّبُوتِ، وكذلك هِيَ «وَجَبَ» لأنَّ الوقوعَ والوُجُوبَ نُزُولٌ في الأجْرَامِ بقوَّة، فشبه لازم المعانِي بذلك، وباقي الآية بيّن.
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 243) برقم (10310) وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 522) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 368) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس.
(2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 101) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 368) ، وعزاه لابن القاسم بلفظ: «قال: سئل مالك عن قول الله وَسَعَةً؟! قال: سعة البلاء. [.....]
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 101) .
(4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 101) .
(5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 101) .
(6) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 102) .(2/289)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
[سورة النساء (4) : آية 101]
وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)
وقوله تعالى: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ... الآية: ضَرَبْتُمْ: معناه: سافَرْتم، قال مالك، والشافعيُّ، وأحمدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وابنُ رَاهَوَيْهِ: تُقْصَرُ الصلاةُ في أربعةِ بُرُدٍ، وهي ثمانيةٌ وأربعون ميلاً وحُجَّتهم أحاديثُ رُوِيَتْ في ذلك، عن ابن عمر، وابن عباس «1» .
وقال الحسنُ والزُّهْريُّ: تُقْصَرُ في مسيرةِ يَوْمَيْنِ «2» ، وروي هذا أيضاً عن مالكٍ «3» ، وروي عنه: تُقْصَر في مسافة يوم ولَيلة، وهذه الأقوالُ الثلاثةُ تتقارَبُ في المعنى.
والجمهورُ على جواز القَصْر في السَّفَر المباحِ.
وقال عطاءٌ: لا تُقْصَر إلا في سفر طاعةٍ، وسبيلِ خيرٍ، والجمهور: أنَّه لا قَصْرَ في سفُر معصيةٍ، والجمهور أنه لا يَقْصُر المسافرُ حتى يَخْرُجَ من بُيُوت القرية، وحينئذٍ هو ضاربٌ في الأرْضِ، وهو قولُ مالك وجماعةِ المَذْهَب، وإلى ذلك في الرجوع، وقد ثبت أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «صَلَّى الظُّهْرَ بِالمَدِينَةِ أَرْبَعاً، وَالعَصْرَ بِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا ثُلُثُ يَوْمٍ، «4» ويظهر مِنْ قوله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا أنَّ القَصْر مباحٌ أو مخيَّر فيه، وقد رَوَى ابنُ وهْبٍ، عن مالكٍ، أنَّ المسافِرَ مخيَّر فيه «5» وقاله الأَبْهَرِيُّ وعليه حُذَّاق المذْهَب، وقال مالكٌ في «المبسوط» : القَصْرُ سُنَّةٌ «6» وهذا هو الذي عليه
__________
(1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 103) .
(2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 103) .
(3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 103) .
(4) حديث أنس:
أخرجه البخاري (3/ 407) كتاب «الحج» ، باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح، حديث (1546) ، ومسلم (1/ 480) ، كتاب «صلاة المسافرين وقصرها» ، باب صلاة المسافرين وقصرها، حديث (11/ 690) ، مختصرا، من رواية ابن المنكدر، عنه، قال: «صلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة أربعا، وبذي الحليفة ركعتين، ثم بات حتى أصبح بذي الحليفة، فلما ركب راحلته واستوت به أهلّ» .
وأخرجه أبو داود (2/ 375) ، كتاب «المناسك» (الحج) ، باب في وقت الإحرام، حديث (1773) ، والترمذي (2/ 431) ، كتاب «الصلاة» ، أبواب السفر، باب ما جاء في التقصير في السفر، حديث (546) ، والبيهقي (5/ 38) ، كتاب «الحج» ، باب من قال: يهل إذا انبعثت به راحلته.
(5) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 103) .
(6) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 103) .(2/290)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
جمهورُ المَذْهب وعليه جوابُ «المدوَّنة» بالإعادة في الوَقْت لِمَنْ أتَمَّ في سفرِه.
وقال ابنُ سُحْنُون وغيره: القَصْرُ فَرْضٌ.
وقوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية، وفي حديثِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّة، قال: قُلْتُ لعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ: إنَّ اللَّه تعالى يقُولُ: إِنْ خِفْتُمْ وقَدْ أَمِنَ النَّاسُ، فقالَ: عَجِبْتُ مِمَّا عجبت منه، فسألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ «صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ، فاقبلوا صَدَقَتَهُ» «1» .
ويَفْتِنَكُمْ: معناه يمتحنَكُمْ بالحَمْلِ عليكم، وإشغال نفوسكم، وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَمَّا صلَّى الظُّهْر بأصحابه، قال المُشْرِكُونَ: قد أَمْكَنَكُمْ محمَّد وأصحابه مِنْ ظُهورِهِمْ، هَلاَّ شَددتُّمْ عَلَيْهم، فقال قائلٌ منهم: أنَّ لَهُمْ أخرى فِي أَثَرِهَا، فأنزل اللَّهُ تعالى بَيْنَ الصَّلاتَيْنِ:
إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا/ إلى آخر صلاة الخوف.
[سورة النساء (4) : آية 102]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102)
وقوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ ... الآية: قال جمهورُ الأُمَّة:
الآية خطَابٌ للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو يتناول الأمراء بعده إلى يوم القيامة، وكذلك جمهورُ العلماء على أنَّ صلاة الخَوْف تصلى في الحَضَر، إذا نزَلَ الخَوْف، قال الطبريُّ «2» : فَأَقَمْتَ لَهُمُ: معناه: حُدُودَهَا وهَيئَتَهَا.
وقوله تعالى: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ: أمر بالانقسام، أي: وسائرهم وِجَاه العَدُوِّ، ومعظم الرواياتِ والأحاديثِ على أنَّ صلاةَ الخَوْف إنما نزلَتِ الرخْصَةُ فيها في غَزْوة ذاتِ الرِّقَاعِ، واختلف من المأمورُ بأخْذ الأسلحَةِ هنا؟ فقيل: الطائفة المصلِّية، وقيل:
بل الحارسة.
__________
(1) أخرجه الطبري عن ابن جريج (4/ 148) برقم (9851) ، وذكره السيوطي في «الدر» (2/ 312) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
وفيه زيادة: وقال عمر بن الخطاب: لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو يتلو هذه الآية: فداه أبي وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك.
(2) ينظر: الطبري (4/ 251) .(2/291)
قال ع «1» : ولفظ الآية يتناوَلُ الكلَّ، ولكن سِلاَحُ المصلِّين ما خَفَّ، قُلْتُ:
ومن المعلوم أنه إذا كانَتِ الطائفةُ المصلِّيةُ هي المأمورَةَ بِأخْذِ السِّلاحِ، فالحارسَةُ من باب أحرى.
واختلفت الآثار في هيئة صلاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأصحابه صلاةَ الخَوْف وبِحَسَبِ ذلك، اختلف الفقَهَاء، فروى يزيدُ بْنُ رُومَانَ «2» ، عن صالح «3» بنِ خَوَّاتٍ، عن سهلِ بْنِ أبي «4» حَثْمَةَ أنَّهُ صلّى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صَلاَةَ الخَوْفِ يَوْمَ ذَاتِ الرِّقَاعَ، فَصُفَّتْ طَائِفَةٌ مَعَهُ، وَطَائِفَةٌ وجَاهَ العَدُوِّ، وجَاءَتِ الطَّائِفَةُ الأخرى، فَصَلَّى بِهِمُ الرَّكْعَةَ الَّتِي بَقِيَتْ مِنْ صَلاَتِهِ، ثُمَّ ثَبَتَ جَالِساً، وأتَمُّوا لأنْفُسِهِمْ، ثُمَّ سَلَّمَ بِهِمْ «5» ، وروى القاسمُ بْنُ محمَّدٍ، عن صالحِ بن
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 105) .
(2) يزيد بن رومان مولى آل الزبير أبو روح المدني. عن ابن الزّبير وعروة وعنه جرير بن حازم وابن إسحاق ونافع القارئ وطائفة. قال ابن سعد: كان عالما ثقة كثير الحديث. توفي سنة ثلاثين ومائة.
ينظر: «الخلاصة» (3/ 169) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1532) ، «تهذيب التهذيب» (11/ 325) (625) ، «الكاشف» (3/ 277) ، «الثقات» (1581) . [.....]
(3) صالح بن خوّات بفتح المعجمة: ابن جبير بن النّعمان الأنصاري المدني. عن أبيه وعنه ابنه خوّات والقاسم بن محمد. وثقه النسائي.
ينظر: (1/ 459) ، «تهذيب الكمال» (2/ 595) ، «تهذيب التهذيب» (4/ 387) ، «الكاشف» (2/ 19) ، «الثقات» (4/ 372) .
(4) هو: سهل بن أبي حثمة بن ساعدة بن عامر بن عدي بن مجدعة بن حارث بن الحرث بن عمرو بن مالك بن الأوس اختلف في اسم أبيه فقيل: عبد الله، وقيل: عبيد الله. الأوسي الأنصاري، أمه: أم الربعي بنت سالم بن عدي بن مجدعة، ولد سنة ثلاث من الهجرة، حدث عن النبيّ بأحاديث وحدث عن زيد بن ثابت، ومحمد بن سلمة، روى عنه ابنه محمد، وابن أخيه محمد بن سليمان بن أبي حثمة، وبشر بن يسار، وصالح بن خوّات بن جبير، ونافع بن جبير، وعروة وغيرهم. قال الواقدي: قبض النبيّ وهو ابن ثماني سنين، ولكنه حفظ عنه. توفي أول أيام معاوية.
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (2/ 468) ، «الإصابة» (3/ 138) ، «الثقات» (3/ 169) ، «الاستيعاب» (1/ 661) ، «الاستبصار» (245) ، «بقي بن مخلد» (108) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 243) ، «الرياض المستطابة» (110) ، «الطبقات الكبرى» (5/ 304) ، «التاريخ الكبير» (4/ 97) ، «التحفة اللطيفة» (200) ، «الوافي بالوفيات» (16/ 8) ، «إسعاف المبطأ» (194) ، «التعديل والتجريح» (1339) .
(5) أخرجه البخاري (7/ 421) ، كتاب «المغازي» ، باب غزوة ذات الرقاع، الحديث (4129) ، ومسلم (1/ 575) ، كتاب «صلاة المسافرين» ، باب صلاة الخوف، الحديث (310/ 842) ، ومالك (1/ 183) ، كتاب «الخوف» ، باب صلاة الخوف، الحديث (1) ، وأحمد (3/ 448) ، وأبو داود (2/ 30) ، كتاب «الصلاة» ، باب إذا صلّى ركعة وثبت قائمة، الحديث (1238) ، والنسائي (3/ 171) ، كتاب «الخوف» ، باب صلاة الخوف، وابن الجارود (ص 90) ، كتاب «الصلاة» ، باب في صلاة الخوف، الحديث-(2/292)
خَوَّاتٍ، عن سَهْلٍ هذا الحديثَ بعينه، إلا أنّه روي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حِينَ صَلَّى بالطائفةِ الأخيرةِ ركْعَةً، سلَّم، ثم قضَتْ بعد سَلاَمِهِ، وبحديثِ «1» القاسمِ بنِ محمَّد، أخَذَ مالكٌ، وإليه رجَعَ بَعْدَ أنْ كان أولاً يميلُ إلى روايةِ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ، وروى عبْدُ الرزَّاق عن مجاهدٍ، قال: لَمْ يصلّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلاَةَ الخَوْفِ إلاَّ مرَّتَيْنِ: مرَّةً بذاتِ الرِّقَاعِ مِنْ أرض بني سُلَيْمٍ، ومرةً بعُسْفَانَ، والمشركُونَ بِضُجْنَانَ بينهم وبَيْنَ القِبْلَةِ «2» .
قال ع «3» : وظاهرُ اختلاف الرّوايات عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقتضي أنَّه صلى صلاةَ الخَوْف في غير هَذيْن الموطِنَيْنِ، وقد ذكر ابنُ عبَّاس أنه كَانَ في غَزْوة ذِي قَرَدٍ صلاةَ خَوْفٍ «4» .
وقوله تعالى: فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ ... الآية: المعنى: فإذا سَجَدوا مَعكَ الركعةَ الأولى، فلْيَنْصَرِفُوا هذا على بعض الهيئات المرويَّة، وقيل: المعنى: فإذا
__________
- (235) ، والدارقطني (2/ 60) ، كتاب «العيدين» ، باب صلاة الخوف، الحديث (11) ، والبيهقي (3/ 253) ، كلهم من طريق مالك، عن يزيدُ بْنُ رُومَانَ، عن صالح بنِ خَوَّاتٍ به.
والحديث في «الموطأ» (1/ 183) كتاب «صلاة الخوف» ، باب صلاة الخوف، حديث (1) .
ومن طريقه أيضا أخرجه البغوي في «شرح السنة» (2/ 592- بتحقيقنا) .
(1) أخرجه مالك (1/ 183) كتاب «صلاة الخوف» ، باب صلاة الخوف، الحديث (2) ، عن يحيى بن سعيد، عن القاسمُ بْنُ محمَّدٍ، عن صالحِ بْنِ خَوَّاتٍ: أن سهل بن أبي حثمة حدثه: أن صلاة الخوف أن يقوم الإمام ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة مواجهة العدو، فيركع الإمام ركعة ويسجد بالذين معه، ثم يقوم. فإذا استوى قائما ثبت وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية، ثم يسلمون وينصرفون والإمام، فيكونون وجاه العدو، ثم يقبل الآخرون الذين لم يصلوا فيكبرون وراء الإمام فيركع بهم الركعة، ويسجد ثم يسلم فيقومون فيركعون لأنفسهم الركعة الباقية، ثم يسلمون.
وأخرجه مرفوعا: البخاري (7/ 422) ، كتاب «المغازي» ، باب غزوة ذات الرقاع، الحديث (4131) ، ومسلم (1/ 575) ، كتاب «المسافرين» ، باب صلاة الخوف، الحديث (309/ 841) ، وأبو داود (2/ 30) ، كتاب «الصلاة» ، باب يقوم صف مع الإمام، وصف وجاه العدو، الحديث (1237) ، والترمذي (2/ 40) ، كتاب «السفر» ، باب صلاة الخوف، الحديث (562) ، والنسائي (3/ 178) ، كتاب «الخوف» باب صلاة الخوف، وابن ماجة (1/ 400) ، كتاب «إقامة الصلاة» ، باب صلاة الخوف، الحديث (1259) ، وأحمد (3/ 448) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 323) ، كتاب «الصلاة» ، باب صلاة الخوف، والبيهقي (3/ 253) ، كتاب «صلاة الخوف» ، باب كيفية صلاة الخوف، كلهم من طريق عبد الرّحمن بن القاسم عن أبيه، عن صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حثمة مرفوعا.
(2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 105) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 106) .
(4) ابن عطية في «تفسيره» (2/ 106) .(2/293)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
سَجَدوا ركْعةَ القضاءِ، وهذا على رواية ابنِ أبي حَثْمَةَ، والضميرُ في قوله: فَلْيَكُونُوا، يحتملُ أنْ يكون لِلَّذِينَ سَجَدُوا، ويحتمل أن يكون للطائفةِ القائِمَةِ أولاً بإزاء العَدُوِّ، ويجيء الكلامُ وَصَاةً في حال الحَذَرِ والحَرْب.
وقوله تعالى: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ ... الآية: إخبارٌ عن مُعْتَقَدِ القومِ، وتحذيرٌ من الغَفْلةِ لَئِلاَّ ينالَ العَدُوُّ أمَلَهُ، وأسْلِحَةٌ: جمعُ سلاحٍ، وفي قوله تعالى: مَيْلَةً واحِدَةً: مبالغةُ، أي: مستأصِلَةً لا يُحْتَاجُ معها إلى ثانية.
وقوله تعالى: وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ... الآية: ترخيصٌ.
قال ابنُ عَبَّاس: نزلَتْ بسبب عبد الرحمن بْنِ عَوْفٍ، كان مريضاً، فوضع سلاحَهُ، فعنَّفه بعْضُ النَّاس «1» .
قال ع «2» : كأنهم تَلَقَّوُا الأمر بأخْذ السِّلاحِ على الوُجُوبِ، فرخَّص اللَّه تعالى في هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ، وينقاسُ عليهما كُلُّ عذرٍ، ثم قوى سبحانه/ نُفُوسَ المؤمنِينَ بقوله:
إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً.
[سورة النساء (4) : آية 103]
فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)
وقوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً ... الآية: ذهب جمهورُ العلماءِ إلى أنَّ هذا الذِّكْر المأمورَ بِهِ، إنما هو إثْرَ صلاةِ الخَوْفِ على حَدِّ ما أُمِرُوا عند قضاءِ المَنَاسِكِ بذكْرِ اللَّه، فهو ذِكْرٌ باللسانِ، والطُّمَأْنينةُ في الآية: سكونُ النُّفُوسِ من الخَوْف، وقال بعضُ المتأوِّلين: المعنى: فإذا رجعتُمْ مِنْ سفركم إلى الحَضَرِ، فأقيموها تامَّةً أربعاً.
وقوله تعالى: كِتاباً مَوْقُوتاً: معناه: منجَّماً في أوقاتٍ، هذا ظاهرُ اللفظ، ورُوِيَ عن ابْنِ عباس أنَّ المعنى: فَرْضاً مفْروضاً «3» ، فهما لفظانِ بمعنى واحد كرّر مبالغة.
__________
(1) أخرجه البخاري (8/ 113) كتاب «التفسير» ، باب وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً حديث (4599) والنسائي في «تفسيره» (141) والحاكم (2/ 308) والبيهقي (3/ 255) . وزاد السيوطي نسبته في «الدر» (2/ 214) إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 107) .
(3) ابن عطية (2/ 108) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 380) ، وعزاه لابن أبي حاتم.(2/294)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105)
[سورة النساء (4) : آية 104]
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
وقوله تعالى: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ: أي: لا تَلِينُوا وتَضْعُفوا يُقَالُ: حَبْلٌ وَاهِنٌ، أيْ: ضعيفٌ ومنه: «وَهَنَ العَظْمُ» وابتغاءُ القَوْمِ: طَلَبُهم، وهذا تشجيعٌ لنفوسِ المُؤْمنين، وتحقيرٌ لأمْر الكَفَرة، ثم تأَكَّد التشجيعُ بقوله: وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ، وهذا برهانٌ بَيِّنٌ، ينبغي بحَسَبِهِ أنْ تقوى نفوسُ المؤمنين، وباقي الآية بيّن.
[سورة النساء (4) : آية 105]
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105)
وقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ ...
الآية: في هذه الآية تشريف للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتفويضٌ إليه، وتقويمٌ أيضاً على الجادَّة في الحُكْم، وتأنيبٌ مَّا على قبولِ ما رُفِعَ إلَيْه في أمْر بَنِي أُبيْرِقٍ بِسُرْعَةٍ.
وقولُهُ تعالى: بِما أَراكَ اللَّهُ: معناه: على قوانينِ الشَّرْعِ إمَّا بوَحْيٍ ونَصٍّ أو نَظَرٍ جارٍ على سَنَنِ الوحْي، وقد تضمَّنَ اللَّه تعالى لأنبيائه العِصْمَةَ.
وقوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً، قال الهَرَوِيُّ: خَصِيماً: أيْ:
مُخَاصِماً، ولا دَافِعاً. انتهى.
قال ع «1» : سببها، باتفاق من المتأولين: أمْرُ بني أُبَيْرِقٍ، وكانوا إخْوَةً: بِشْرٌ، وبَشِيرٌ، وَمُبَشِّر، وطُعَيْمَةُ، وكان بَشِيرٌ رجلاً منافقاً يهجو أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وينحل الشِّعْر لغيره، فكان المسلمونَ يَقُولُونَ: واللَّهِ، ما هو إلاَّ شِعْرُ الخَبِيثِ، فقال شعراً يتنصَّل فيه فَمِنْهُ قوله: [الطويل]
أَفِي كُلِّ مَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَة ... نُحِلْتُ، وَقَالُوا: ابن الأُبَيْرِقِ قَالَهَا
قال قتادةُ بنُ النُّعْمَانِ: وكان بَنُو أُبَيْرِقٍ أهْلَ فَاقَةٍ، فابتاع عَمِّي رِفَاعَةُ بن زيد «2» حملا
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 108) .
(2) رفاعة بن زيد: ابن عامر بن سواد بن كعب، وهو ظفر بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس الأنصاريّ الظفريّ، عم قتادة بن النّعمان.
روى الترمذي والطّبريّ، من طريق عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جدّه قتادة بن النّعمان، قال:
كان أهل بيت منّا يقال لهم بنو أبيرق، فابتاع عمّي رفاعة بن زيد جملا من الدرمك، فجعله في مشربة له، فعدا عليه من تحت الليل، فذكر الحديث بطوله في نزول قوله تعالى: وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً [النساء: 105] وفي آخره قال قتادة: فأتيت عمي بسلاحه، وكان قد عشا في الجاهلية، وكنت أظنّ-(2/295)
مِنْ دَرْمَكِ الشِّامِ، فجعله في مَشْرُبَةٍ له، وفي المَشْرُبَةِ دِرْعَانِ له، وسَيْفَانِ، فَعُدِيَ على المَشْرُبَةِ من اللَّيْلِ، فلما أصْبَحَ، أتانِي عَمِّي رفاعة، فقال: يا ابن أَخِي، أتعلَمُ أنه قَدْ عُدِيَ علَيْنا في لَيْلَتِنَا هذه، فَنُقِبَتْ مَشْرُبَتُنَا، وذُهِبَ بطَعَامِنَا، وسِلاَحِنا، قال: فتحسَّسْنا في الدَّار، وسألنا، فَقِيلَ لنا: قد رأَيْنَا بَنِي أُبَيْرِقٍ استوقدوا نَاراً في هذه الليلةِ، ولاَ نُرَاهُ إلاَّ على بعض طعامِكُمْ، قال: وقد كان بَنُو أُبَيْرِقٍ قالُوا، ونَحْنُ نَسْأَلُ: وَاللَّهِ، مَا نرى صَاحِبَكُمْ إلاَّ لَبِيدَ بْنَ سَهْلٍ «1» ، رَجلٌ مِنَّا لَهُ صَلاَحٌ وإسْلاَمٌ، فَسَمِعَ ذَلِكَ لَبِيدٌ، فاخترط سَيْفَهُ، ثُمَّ أتى بَنِي أُبَيْرِقٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَيُخَالِطَنَّكُمْ هَذَا السَّيْفُ، أَوْ لَتُبَيِّنُنَّ هَذِهِ السَّرِقَةَ، فَقَالُوا: إلَيْكَ عنّا، أيّها الرّجل، فو الله، مَا أَنْتَ بِصَاحِبِهَا، فَسَأَلْنَا فِي الدَّارِ حتى لَمْ نَشُكَّ أَنَّهُمْ أَصْحَابُهَا، فَقَالَ لِي عَمِّي:
يا ابن أخي، لو أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأخبرته بهذه القصّة، فأتيته صلّى الله عليه وسلّم، فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: انظر فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ بَنُو أُبَيْرِقٍ، أَتَوْا رَجُلاً مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ: أُسَيْرُ بْنُ عُرْوَةَ «2» ، فكلَّموه في ذلكَ، واجتمع إلَيْهِ ناسٌ مِنْ أَهْلِ الدارِ، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم/ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ قَتَادَةَ بْنَ النُّعْمَانِ وَعَمَّهُ رِفَاعَةَ عَمَدَا إلى أَهْلِ بَيْتٍ مِنَّا أَهْلِ إسْلاَمٍ وَصَلاَحٍ يَرْمِيَانِهِمْ بِالسَّرِقَةِ على غَيْرِ بَيِّنَةٍ، قال قَتَادةُ: فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ:
عَمَدتَّ إلى أَهْلِ بَيْتٍ، ذُكِرَ مِنْهُمْ إسْلاَمٌ وَصَلاَحٌ، فَرَمَيْتَهُمْ بِالسَّرِقَةِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ، قال:
فَرَجَعْتُ، وَقَدْ وَدِدتُّ أَنْ أَخْرُجَ عَنْ بَعْضِ مَالِي، وَلَمْ أُكَلِّمْهُ، فَأَتَيْتُ عَمِّي، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: اللَّهُ المُسْتَعَانُ، فَلَمْ نَلْبَثْ أَنْ نَزَلَ القُرآن:
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ... الآيات، قال: فالخائنون: بنو أبيرق، والبريء المرميّ
__________
- إسلامه مدخولا، قال: فلما أتيته به قال: يا بن أخي، هو في سبيل الله، فعرفت أنّ إسلامه كان صحيحا.
قال التّرمذيّ: غريب تفرد محمد بن سلمة بوصله، ورواه غيره مرسلا، ورواه الواقديّ من طرق عن محمود بن لبيد، فذكر القصة مطولة فزاد ونقص.
ينظر: «الإصابة» (2/ 407) ، «تبصير المنتبه» (3/ 851) ، «الجرح والتعديل» (3/ 2233) ، «الأعلمي» (18/ 263) ، «أسد الغابة» ت (1688) ، «الاستيعاب» ت (777) . [.....]
(1) لبيد بن سهل بن الحارث بن عروة بن رزاح بن ظفر الأنصاري. وقال ابن عبد البرّ: لا أدري هو من أنفسهم أو حليف لهم. انتهى.
وقد نسبه ابن الكلبيّ إلى القبيلة كما ترى، لكن قال العدوي: إنه وهم من ابن الكلبي وإنما هو أبو لبيد بن سهل- رجل من بني الحارث بن مازن بن سعد العشيرة من حلفاء الأنصار.
ينظر: «أسد الغابة» ت (4528) ، «الإصابة» (5/ 504) ، «الاستيعاب» ت (2261) .
(2) أسير بن عروة بن سواد بن الهيثم بن ظفر الأنصاري الظّفري. قال ابن القداح: شهد أحدا والمشاهد بعدها، واستشهد بنهاوند.
ينظر: «الإصابة» (1/ 237) ، «الثقات» (3/ 15) ، «أسد الغابة» ت (677) ، «الاستيعاب» ت (63) .(2/296)
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
لَبِيدُ بْنُ سَهْلٍ، والطائفةُ التي هَمَّتْ أُسَيْرٌ وأصحابُهُ «1» .
قال ع «2» : قال قتادة وغَيْرُ واحدٍ: هذه القصَّة ونحوها إنما كان صاحبُها طُعْمَةَ بْنَ أُبَيْرِقٍ، ويقال فيه: طُعَيْمَةُ.
قال ع «3» : وطُعْمَةُ بْنُ أُبَيْرِق صرَّح بعد ذلك بالاِرتدادِ، وهَرَبَ إلى مكَّة، فرُوِيَ أنه نَقَبَ حائطَ بَيْتٍ ليسرقه، فانهدم الحائطُ عليه، فقَتَلَه، ويروى أنه اتبع قوماً من العرب، فسرقهم، فقتلوه «4» .
[سورة النساء (4) : آية 106]
وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)
وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ، ذهب «5» الطبريُّ إلى أنَّ المعنَى: استغفر مِنْ ذَنْبِكَ في خِصَامِكَ للنَّاس.
قال ع «6» : وهذا ليس بذَنْبٍ لأنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنما دَافَعَ عن الظاهرِ، وهو يعتقدُ براءتهم، والمعنى: واستغفر للمؤْمنينَ مِنْ أمَّتك، والمتخاصِمِينَ بالباطل، لا أنْ تكون ذا جدالٍ عنهم، وعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ، فَكثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُوَم مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: «سُبْحَانَكَ، اللَّهُمَّ، وَبِحَمْدِكَ، لاَ إلَهَ إلاَّ أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ، وَأَتُوبُ إلَيْكَ، إلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ» ، رواه أبو داود والتِّرمذيُّ والنسائِيُّ والحاكمُ وابنُ حِبَّانَ في «صحيحيهما» ، وقال الترمذيُّ، واللفظ له: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ «7» ، ورواه النسائيُّ والحاكمُ أيضاً مِنْ طُرُق عن عائشة ...
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 265) برقم (10416) ، ذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 477) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 109) ، والسيوطي في «الدر» (2/ 385) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 109) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 109) .
(4) ذكره ابن عطية (2/ 109) .
(5) ينظر الطبري (2/ 265) .
(6) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 110) .
(7) أخرجه الترمذي (5/ 494) ، كتاب «الدعوات» ، باب ما يقول إذا قام من المجلس، حديث (3433) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 105- 106) كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يقول إذا جلس في مجلس كثر فيه لغطه، حديث (10230) ، والحاكم (1/ 536- 537) ، وابن حبان (2366- موارد) ، والبغوي في «شرح السنة» (3/ 129- بتحقيقنا) ، كلهم من طريق سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة به، وقال الترمذي: حسن صحيح غريب من هذا الوجه لا نعرفه من حديث سهيل إلا من هذا الوجه.
وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي. -(2/297)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
وغيرها «1» . انتهى من «السلاح» .
[سورة النساء (4) : آية 107]
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107)
وقوله تعالى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
، لفظ عامٌّ يندرج تحته أصحابُ النازلةِ، ويتقرَّر به توبيخُهُمْ، وفي قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً
: رفْقٌ وإبقاءٌ فإن الخَوَّان هو الذي تتكرَّر منه الخيانَةُ كَطُعَيْمَةَ بْنِ الأُبَيْرِقِ، والأَثِيمُ هو الذي يَقْصِدُها، فيخرج من هذا التشديدِ السَّاقط مرةً واحدةً، ونحو ذلك، واختيان الأَنْفُسِ هو بما يَعُودُ عليها من الإثْمِ والعقوبةِ في الدنيا والآخرة.
[سورة النساء (4) : آية 108]
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)
وقوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ ...
الآية: الضميرُ في «يستخفون» للصِّنْفِ المرتكبِ للمعاصِي، ويندرجُ في طَيِّ هذا العموم أهْلُ الخيانةِ في النازلة المذكورةِ، وأهْلُ التعصُّب لهم، والتّدبير في خدع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والتلبيسِ عليه، ويحتملُ أَنْ يكونَ الضميرُ لأَهْلِ هذه النازلةِ، ويدْخُلُ في معنى هذا التوبيخِ كلُّ من يفعل نَحْوَ فعلهم، قال صاحبُ «الكَلِمِ الفَارِقِيَّة، والحِكمِ الحقيقيَّة» : النفوسُ المرتكبةُ للمحارِمِ المحتقبَةُ للمآثِمِ، والمَظَالِمِ شبيهةٌ بالأراقم، تملأ أفواهَهَا سُمًّا، وتقصدُ مَنْ تقذفُهُ عَلَيْه عدواناً وظلماً، تجمعُ في ضمائرها سُمُومَ شُرُورِهَا وضَرَرها، وتحتالُ/ لإلقائها على الغافَلَينَ عَنْ مكائدهَا وخُدَعِهَا. انتهى.
ومعنى: وَهُوَ مَعَهُمْ
، بالإحَاطَةِ والعِلْمِ والقُدْرَةِ، ويُبَيِّتُونَ
: يدبِّرون لَيْلاً، ويحتمل أنْ تكون اللفظة مأخوذةً من البَيْت، أي: يستَتِرُونَ في تَدْبِيرِهمْ بالجُدُرَاتِ.
[سورة النساء (4) : الآيات 109 الى 111]
ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111)
__________
- وصححه أيضا ابن حبان.
وللحديث شاهد من حديث عائشة، أخرجه النسائي في «الكبرى» (6/ 106) كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يقول إذا جلس في مجلس كثر فيه لغطه، حديث (10231) .
(1) ينظر الحديث السابق.(2/298)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
وقوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
: خطابٌ للقوم الذين يَتَعَصَّبون لأَهْلِ الرَّيْبِ والمعاصِي، ويندرجُ في طَيِّ هذا العمومِ أهْلُ النازلةِ، وهو الأظهرُ عنْدِي بحُكْم التأكيدِ بهؤلاءِ، وهِيَ إشارةٌ إلى حاضِرِينَ، ومِن «مصابيح البَغَوِّي» عن أبي داود، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ، فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ، وَمَنْ خَاصَمَ فِي بَاطِلٍ، وَهُوَ يَعْلَمُهُ لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللَّهِ، حتى يَنْزِعَ، وَمَنْ قَالَ فِي مُؤْمِنٍ مَا لَيْسَ فِيهِ، أَسْكَنَهُ اللَّهُ رَدْغَةَ الخَبَالِ حتى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ» «1» ، ويروى: «مَنْ أَعَانَ على خُصُومَةٍ لاَ يَدْرِي أَحَقٌّ أَمْ بَاطِلٌ، فَهُوَ فِي سَخَطِ اللَّهِ حتى يَنْزِعَ» . انتهى.
وقوله تعالى: فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ...
الآية: وعيدٌ محْضٌ، ولمَّا تمكَّن هذا الوعيدُ، وقَضَتِ العقولُ بأنْ لا مجادِلَ للَّهِ سبحانَهُ، ولا وَكِيلَ يقُومُ بأمْر العُصَاة عنده، عَقَّبَ ذلك بهذا الرَّجَاء العظيمِ، والمَهَلِ المنفسحِ، فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ...
الآية، وباقي الآية بيّن.
[سورة النساء (4) : الآيات 112 الى 113]
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
وقوله تعالى: وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
، ذهب بعضُ النَّاسِ إلى أنهما لفظانِ بمعنًى، كُرِّرَ لإختلافِ اللفْظِ، وقال الطَّبَرِيُّ «2» : إنما فَرَقَ بين الخطيئَةِ والإثْم لأنَّ الخطيئة تكُونُ عَنْ عَمْدٍ، وعن غير عَمْدٍ، والإثمُ لا يكُونُ إلا عَنْ عمد، وهذه الآية لفظها عامٌّ، ويندرجُ تحْتَ ذلك العمومِ أهْلُ النازلةِ المَذْكُورة، وبَرِيءُ النَّازِلَةِ، وهو لَبِيدٌ، كما تقدَّم، أيْ: ويتناولُ عمومُ الآية كلَّ بريءٍ.
وقوله: فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
: تشبيهٌ، إذ الذنوبُ ثِقْلٌ ووِزْرٌ، فهي كالمحمولات، وبُهْتاناً
: معناه: كَذِباً، ثم وقَفَ اللَّه تعالى نبيَّه على مقدارِ عِصْمَتِهِ له، وأنها بفَضْل منه
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/ 329) ، كتاب «الأقضية» ، باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها، حديث (3597) ، وأحمد (2/ 70) ، والحاكم (2/ 27) كلهم من طريق عمارة بن غزية عن يحيى بن راشد عن عبد الله بن عمر مرفوعا.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(2) ينظر الطبري (4/ 274) .(2/299)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
سُبْحَانه ورَحْمَتِهِ.
وقوله تعالى: لَهَمَّتْ
: معناه: لَجَعَلَتْهُ همَّها وشُغُلَها، حتى تنفذه وهذا يدلُّ على أنَّ الألفاظ عامَّة في غير أهْل النَّازلة، وإلاَّ فأهْلُ التعصُّب لبني أُبَيْرِقٍ قد وقَع هَمُّهم وثَبَت، ثم أخبر تعالى أنهم لا يضلُّون إلاَّ أنفسهم، وما يَضُرُّونَكَ مِنْ شيء، قُلْتُ: ثم ذكر سبحانه ما أنعم بِهِ على نبيه مِنْ إنزالِ الكتابِ، والحِكْمَةِ، وتعليمِهِ ما لم يكُنْ يعلم، قال ابنُ العربيِّ في رحلته: اعلم أنَّ علومَ القُرآنِ ثلاثةُ أقْسَامٍ: تَوْحِيدٌ، وتَذْكِيرٌ، وأَحْكَامٌ، وعلْم التذكيرِ هو معظم القُرآن، فإنه مشتملٌ علَى الوَعْد والوَعِيدِ، والخَوْف والرجاء، والقُرَبِ وما يرتبط بها، ويدْعو إليها ويكُونُ عنها، وذلك معنًى تَتَّسِعُ أبوابه، وتمتدُّ أطنابه. انتهى، وباقِي الآيةِ وعْدٌ كريمٌ لنبيِّهِ- عليه السلام-، وتقريرٌ نعمه لدَيْه سبحانه، لا إله غيره.
[سورة النساء (4) : آية 114]
لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)
وقوله تعالى: لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ... الآية: الضَّمِيرُ في نَجْواهُمْ: عائدٌ على النَّاس أجمع، وجاءَتْ هذه الآياتُ عامَّةَ التناولِ، وفي عمومهَا يندرجُ أصحابُ النَّازلة، وهذا من الفَصَاحة والإيجازِ المُضَمَّنِ الماضِي والغابر في عبارةٍ واحدةٍ، قال النوويُّ/ ورُوِّينا في كتابَيِ «الترمذيِّ» و «ابن ماجة» ، عن أمِّ حَبِيبَة «1» (رضي اللَّه عنها) ، عنِ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَال: «كُلَّ كَلامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لاَ لَهُ إلاَّ أَمْراً بِمَعْرُوفٍ، أوْ نَهْياً عَنْ منكر، أو ذكرا لله تعالى» «2» . انتهى.
__________
(1) هي: رملة بنت أبي سفيان (صخر) بن حرب بن أمية بن عبد شمس.. أم حبيبة أم المؤمنين رضي الله عنها القرشية الأموية. أمها: صفية بنت أبي العاص عمة عثمان بن عفان. ميلادها: ولدت قبل البعثة بسبعة عشر عاما.
قال ابن الأثير في «الأسد» : كانت من السابقين إلى الإسلام، وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها عبيد الله (بن جحش) فولدت هناك حبيبة فتنصر عبيد الله ومات بالحبشة نصرانيا، وبقيت أم حبيبة مسلمة بأرض الحبشة، فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطبها إلى النجاشي..
قال ابن إسحاق: تزوجها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد زينب بنت خزيمة الهلالية.
توفيت رحمها الله سنة (44) .
تنظر ترجمتها في: «أسد الغابة» (7/ 114، 315) ، «الإصابة» (8/ 84، 222) ، «الثقات» (3/ 131) ، «بقي بن مخلد» (52) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 268) ، «تقريب التهذيب» (2/ 620) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 419) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1683) ، «أعلام النساء» (1/ 397) ، «الكاشف» (3/ 471) . [.....]
(2) أخرجه الترمذي (4/ 608) ، كتاب «الزهد» ، باب (62) ، حديث (2412) ، وابن ماجه (2/ 1315) ، -(2/300)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119)
والنَّجْوَى: المسارَّة، وقد تسمى بها الجماعةُ كما يقال: قَوْمٌ عَدْلٌ، وليستِ النجوى بمَقْصُورةٍ على الهَمْسِ في الأُذُنِ، والمعروفُ لفظ يعمُّ الصدَقَةَ والإصلاحَ وغيرهما، ولكنْ خُصَّا بالذِّكْر اهتماماً إذ هما عظيمَا الغَنَاءِ في مَصَالحِ العبادِ، ثم وعد تعالى بالأجر العظيم على فعل هذه الخيرات بنيّة وقصد لرضا الله تعالى.
[سورة النساء (4) : الآيات 115 الى 116]
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116)
وقوله تعالى: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ ... الآية: لفْظٌ عامٌّ نزَلَ بسببِ طُعْمَة بْنِ أُبَيْرِقٍ لأنه ارتدَّ وسار إلى مكَّة، فاندرجَ الإنحاءُ علَيْهِ فِي طَيِّ هذا العمومِ المتناوِلِ لمَنِ اتصف بهذه الصفاتِ إلى يوم القيامة.
وقوله: نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى: وعيدٌ بأنْ يترك مع فاسِدِ اختيارِهِ في تودُّد الطاغوتِ، ثم أوجَبَ تعالى أنه لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وقد مضى تفسير مثل هذه الآية.
[سورة النساء (4) : الآيات 117 الى 119]
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119)
وقوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً ... الآية:
الضميرُ في يَدْعُونَ: عائدٌ على مَنْ ذكر في قوله: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ [النساء: 115] ، و «إنْ» : نافيةٌ بمعنى «ما» ، ويدعون: عبارةٌ مغنيةٌ موجزةٌ في معنى: يعبدون ويتخذُونَ آلهة، قُلْتُ: وفي «البخاريِّ» إِلَّا إِناثاً: يعني المَوَاتَ حَجَراً ومدَراً، وما أشبهه. انتهى، وفي مُصْحَف «1» عائشَةَ: «إلاَّ أوثَاناً» ونحوه عن ابنِ عَبَّاس «2» ، والمرادُ بالشّيطان هنا
__________
- كتاب «الفتن» ، باب كف اللسان في الفتنة، حديث (3974) كلاهما من طريق محمد بن يزيد بن خنيس قال: سمعت سعيد بن حسان المخزومي قال: حدثتني أم صالح عن صفية بنت شيبة عن أم حبيبة به.
وقال الترمذيّ: هذا حديث حسنٌ غريبٌ لا نعرفه إِلا من حديث محمد بن يزيد بن خنيس.
(1) ينظر: «الشواذ» ص (35) ، و «الكشاف» (1/ 566) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 113) ، و «البحر المحيط» (3/ 367) ، و «الدر المصون» (2/ 427) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 279) برقم (10447) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (1/ 481) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 113) .(2/301)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
إبليسُ قاله الجمهور، وهو الصوابُ لأنَّ سائر المقالة به تليق، ومَرِيداً: معناه:
متمرِّداً عاتياً صليباً في غوايته، وأصْلُ اللعْنِ: الإبعادُ، والمفروضُ: معناه: في هذا الموضعِ المُنْحَاز، وهو مأخوذٌ من الفرضِ، وهو الحَزُّ في العود وغيره.
قال ع «1» : ويحتملُ أنْ يريد واجباً إن اتَّخَذَهُ، وبَعْثُ النَّارِ هو نَصِيبُ إبْلِيسَ.
وقوله: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ ... الآية: معنى أُضِلَّنَّهُمْ: أصرفُهُمْ عن طريقِ الهدى، وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ لأسوِّلَنَّ لهم، وأَمَانِيُّهُ لا تنحصرُ في نَوْعٍ واحدٍ، والبَتْكَ: القَطْع.
وقوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ اختلف المتأوِّلون في معنى تَغْيير خَلْق اللَّه، ومِلاَكُ تفسير هذه الآية أنَّ كلَّ تغييرٍ ضَارٍّ، فهو داخلٌ في الآية، وكلّ تغييرٍ نافعٍ فهو مباحٌ، وفي «مختصر الطبريِّ» : فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ، قال ابنُ عبَّاس: خَلْقَ اللَّهِ: دِينَ اللَّهِ، وعن إبراهيم، ومجاهدٍ، والحسن، وقتادَةَ، والضَّحَّاك، والسُّدِّيِّ، وابْنِ زَيْدٍ مثله «2» ، وفسَّر ابن زيد: لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم: 30] ، أيْ: لِدِينِ اللَّهِ، واختارَ الطبريُّ «3» هذا القوْلَ واستدلِّ له بقوله تعالى: ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [الروم: 30] وأَجاز أنْ يدخل في الآية كلُّ ما نَهَى اللَّه عَنْهُ مِنْ معاصيه، والتَّرْكِ لطاعته. انتهى، وهو حَسَنٌ.
قال ع «4» : واللامَاتُ كلُّها للقَسَمِ.
قال ص: وَلَأُضِلَّنَّهُمْ، مفعوله محذوفٌ، أي: عن الهدى وكذا:
وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ، أي: الباطلَ وكذا وَلَآمُرَنَّهُمْ، أي: بالبَتْكِ، فَلَيُبَتِّكُنَّ وكذا:
وَلَآمُرَنَّهُمْ، أي: بالتغيير، فَلَيُغَيِّرُنَّ كُلَّ ما أوجده اللَّه للطَّاعَةِ فيستعينُونَ به في المَعْصِيَةِ.
انتهى.
ولما ذكر اللَّه سبحانه/ عُتُوَّ الشيطانِ، وما توعَّد بهِ منْ بَثِّ مَكْرِهِ، حَذَّر تبارك وتعالى عبادَهُ بأن شرط لمن يتّخذه وليّا جزاء الخسران.
[سورة النساء (4) : الآيات 120 الى 122]
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 114) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 283) برقم (10468) ، (10470، 10477، 10480، 10481) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 530) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 114) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 396) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(3) ينظر الطبري (4/ 285) .
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 114) .(2/302)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
وقوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ، أي: يعدُهُم بأباطِيلهِ من المالِ، والجاهِ، وأنْ لا بَعْثَ، ولاَ عِقَابَ، ونَحْوِ ذلك لكلِّ أحدٍ مَّا يليقُ بحاله، ويمنِّيهم كذلك، ثم ابتدأ سبحانه الخَبَرَ عن حقيقةِ ذَلِكَ بقوله: وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً ثم أخْبَرَ سبحانه بمَصِيرِ المتَّخِذِينَ الشَّيْطَان وَليًّا، وتوعَّدهم بأنَّ مأُوَاهُمْ جهنَّم، لا يدافعونها بحيلة، ولا يتروّغون، ومَحِيصاً: مِنْ حَاصَ إذَا رَاغَ ونَفَرَ ومنه قولُ الشَّاعر: [الطويل]
وَلَمْ نَدْرِ إنْ حِصْنَا مِنَ المَوْتِ حَيْصَة ... كَمِ الْعُمْرُ بَاقٍ والمدى مُتَطَاوِلُ «1»
ومنْه الحديثُ: «فَحَاصُوا حَيْصَةَ حُمُرِ الوَحْشِ» ، ولما ذكر سبحانه ما تقدَّم من الوعيد، واقتضى ذلك التحذيرَ، عقَّبَ ذلك عزَّ وجلَّ بالترغيبِ في ذِكْره حالةَ المُؤْمنين، وأعْلَمَ بصحَّة وعده، ثم قرَّر ذلك بالتَّوْقِيفِ علَيْه في قوله: وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا، والقيلُ والقَوْلُ واحد، ونصبه على التمييز.
[سورة النساء (4) : آية 123]
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123)
وقوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ ... الاية: الأَمَانِيُّ: جمع أُمْنِيَّة، وهي ما يتشهَّاهُ المَرْءُ، ويُطَمِّعُ نفسه فيه، قال ابنُ عبّاس وغيره: الخطاب لأمة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «2» وفي «مختصرِ الطبريِّ» ، عن مسروقٍ وغيره، قال: احتجَّ المسلمونَ وأهْلُ الكتابِ، فقال المسلمون: نَحْنُ أهدى، وقال أهْلُ الكتابِ: نَحْنُ أهدى، فأنزل اللَّه هذه الآية «3» ، وعن مجاهدٍ: قالتِ العربُ: لَنْ نُبْعَثَ، ولَنْ نُعَذَّبَ، وقالتِ اليهودُ والنصارى:
__________
(1) البيت لجعفر بن علية الحارثي وقبله:
فقلنا لهم تلكم إذا بعد كرّة ... تغادر صرعى نوؤها متخاذل
ينظر: «ديوان الحماسة» (1/ 8) ، وينظر: «البحر المحيط» (3/ 364) ، و «الدر المصون» (2/ 428) .
وإن حصنا أي: إن عدلنا وانحرفنا عن الموت، يقول: لم ندر إن حدنا عن القتال الذي فيه الموت، وعدلنا عنه، كم يكون بقاؤنا؟! فلم نحيد ونرتكب العار؟! ولعلنا إن تركنا القتال لم نعش إلا قليلا.
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 288) برقم (10501) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 116) .
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 287) برقم (10497) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 116) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 398) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مسروق.(2/303)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «1» [البقرة: 111] ، وقالوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 80] ، قال الطبريُّ «2» : وقول مجاهدٍ أولى بالصواب، وذلك أنَّ المسلمين لم يَجْرِ لأمانيِّهم ذِكْرٌ فيما مضى من الآيِ، وإنما جرى ذكْرُ أمانيِّ نصيبِ الشَّيْطَانِ. انتهى.
وعليه عَوَّل ص: في سبب نزولِ الآية، أعني: على تأويل مجاهد.
وقوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ.
قال جمهورُ النَّاس: لفظ الآية عَامٌّ، فالكافر والمؤمنُ مُجَازًى، فأما مجازاة الكافر، فالنّار، وأما مجازاة المؤمِنِ، فبِنَكَبَاتِ الدُّنْيَا فَمَنْ بقي له سُوءٌ إلى الآخرة، فهو في المشيئة يغفر اللَّه لمن يشاء، ويجازي من يشاء.
[سورة النساء (4) : الآيات 124 الى 125]
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125)
وقوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ، دخلَتْ «من» للتبعيض إذا الصالحاتُ على الكمالِ ممَّا لا يطيقُهُ البَشَر ففِي هذا رفْقٌ بالعبادِ، لكنْ في هذا البَعْضِ الفرائضُ، وما أمْكَنَ من المندوبِ إلَيْهِ، ثم قَيَّد الأمر بالإيمان إذ لا ينفعُ عمَلٌ دونه، والنَّقِيرُ: النُّكْتَةُ التي في ظَهْر النَّواة ومنه تَنْبُتُ، وعن ابن عبَّاس: ما تَنْقُرُهُ بأصبعِكَ «3» .
ثم أخبر تعالى إخباراً موقفاً على أنه لا أحسن ديناً مِمَّن أسلم وجْهَهُ للَّه، أي: أخلَص مَقْصِدَهُ وتَوَجُّهَهُ، وأحْسَنَ في أعماله، واتبع الحنيفيَّةَ ملَّةَ إبراهيمَ إمامِ العالَمِ، وقُدْوَةِ الأديانِ، ثم ذكَر سبحانه تشريفَهُ لنبيِّه إبراهيم- عليه السلام- باتخاذه خليلاً، وسمَّاه خليلاً إذ كان خُلُوصه، وعبادتُه، واجتهاده على الغايةِ الَّتي يجري إلَيْها المحبُّ المبالغ، وذهب قوم إلى أنهُ سُمِّي خليلاً من «الخَلَّة» - بفتح الخاء-، أي: لأنه أنزل خَلَّته وفاقته باللَّه تعالى، وكذلك شَرَّف اللَّه نبيَّنا محمداً صلّى الله عليه وسلّم/ بالخَلَّة كما هو مصرَّح به في الحديثِ الصحيح.
[سورة النساء (4) : آية 126]
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 289) برقم (10507) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 116) .
(2) ينظر الطبري (4/ 290) .
(3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» . [.....](2/304)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
وقوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ... الآية: ذكر سبحانه سَعَة ملكه وإحاطته بكل شيء، عَقِبَ ذكْر الدِّين، وتبيينِ الجادَّة منه ترغيباً في طاعته والانقطاع إليه سبحانه.
[سورة النساء (4) : آية 127]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127)
وقوله تعالى: وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ ... الآية: معنى قوله:
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ: أي: يبيِّن لكم حكم ما سألتم عنه.
قال «1» ع: تحتملُ «ما» أنْ تكونَ في موضع رفعٍ عطفاً على اسمِ اللَّهِ عزَّ وجل، أي: ويفتيكم ما يتلى عليكم في الكتابِ، يعني: القُرآن، والإشارة بهذا إلى ما تقدَّم من الآية في أمْر النِّساء، وهو قوله تعالى في صدر السورة: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ... [النساء: 3] الآية، قالت عائشةُ: نزلت هذه الآية أوَّلاً، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ أَمْر النساءِ، فنزلَتْ، وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ... الآية.
وقوله تعالى: فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ: معناه: النهْيُ عما كانَتِ العربُ تفْعَلُه من ضَمِّ اليتيمة الجميلةِ بدُونِ ما تستحقُّه من المَهْر، ومِنْ عَضْلِ الدميمةِ الغنيَّة حتى تموتَ، فيرثها العاضلُ، والذي كَتَبَ اللَّه لهنَّ هو توفيةُ ما تستحقُّه مِنْ مَهْرٍ.
وقوله تعالى: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ، أي: إنْ كانت الجاريةُ غنيَّةً جميلةً، فالرغبةُ في نكاحِهَا، وإن كانَتْ بالعَكْس، فالرغبة عَنْ نكاحها.
وقوله تعالى: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ عَطْفٌ على «يتامى النساء» ، والَّذي يتلى في المستَضْعَفِينَ مِنَ الولدان هو قولُهُ تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ... [النساء: 11] الآية وذلك أن العرب كانَتْ لا تورِّثُ الصَّبِيَّةَ، ولا الصبيَّ الصغيرَ، ففرضَ اللَّه تعالى لكلِّ واحدٍ حقَّه.
وقوله تعالى: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ: عطْفٌ أيضاً على ما تقدَّم، والذي تُلِيَ في هذا المعنى هو قوله تعالى: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ ... [النساء: 2] الآية،
__________
(1) ينظر «المحرر الوجيز» (2/ 118) .(2/305)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
إلى غَيْر ذلك ممَّا ذُكِرَ في مال اليتيم، والقسط: العدل، وباقي الآية بيّن.
[سورة النساء (4) : آية 128]
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)
وقوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً ... الآية: هذه الآيةُ حُكْمٌ من اللَّه تعالى في أمْرِ المرأةِ الَّتِي تكُونُ ذاتَ سِنٍّ ونَحْو ذلك ممَّا يرغَبُ زوجُها عَنْها، فيعرض عليها الفُرْقَة أو الصَّبْر على الأَثَرة، فتُرِيدُ هي بَقَاءَ العِصْمة، فهذه التي أَبَاحَ اللَّه بينهما الصُّلْحَ ورَفَعَ الجُنَاحَ فيه.
واختلف في سَبَبِ نزولِ الآية، فقال ابنُ عبَّاس وجماعةٌ: نزلَتْ في النبيِّ- عليه السلام- وسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ «1» وفي المصنَّفات: أن سَوْدَةَ لما كَبِرَتْ، وَهَبَتْ يومها لعائشة «2» ، وقال ابنُ المُسَيَّب وغيره: نزلت بسبب رافع بن خديج «3» ...
__________
(1) هي: سودة بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن عبد ودّ بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، أم المؤمنين. القرشية. العامرية رضي الله عنها.
قال ابن الأثير: تزوجها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمكة بعد وفاة خديجة قبل عائشة. قاله عقيل عن الزهري.. وقال عبد الله بن محمد بن عقيل: تزوجها بعد عائشة توفيت آخر خلافة عمر سنة (54) .
تنظر ترجمتها في: «أسد الغابة» (7/ 157) ، «الإصابة» (8/ 117) ، «الثقات» (3/ 183) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 280) ، «تقريب التهذيب» (2/ 601) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 426) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1686) ، «أعلام النساء» (2/ 267) ، «السمط الثمين» (117) ، «الدر المنثور» (252) ، «الاستيعاب» (4/ 1867) ، «الكاشف» (3/ 473) .
(2) أخرجه الترمذي (5/ 249) ، كتاب «التفسير» ، باب سورة النساء، حديث (3040) ، وأبو داود الطيالسي (1944) ، والطبري في «تفسيره» (10608) ، والبيهقي (7/ 297) كتاب «القسم والنشوز» ، باب ما جاء في قول الله عز وجل: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً..، والطبراني في «الكبير» (11/ 284) رقم (11746) ، كلهم من طريق سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، لا تطلقني واجعل يومي لعائشة، ففعل ونزلت هذه الآية:
وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً ... ، قال ابن عباس: فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 410) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.
وللحديث شواهد أخرى عن عائشة.
(3) هو: رافع بن خديج بن عدي بن يزيد بن جشم بن حارثة بن الحارث بن الخزرج بن عمرو بن مالك بن الأوس ... أبو عبد الله. أبو خديج. الأنصاري. الأوسي. الحارثي أمه: حليمة بنت مسعود بن سنان. عرض نفسه يوم بدر على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فرده لصغره، ثم أجازه يوم أحد فشهد أحد وأصيب بها، ثم الخندق وأكثر المشاهد، وشهد صفين مع علي، واستوطن المدينة، وكان عريف قومه-(2/306)
وامرأتِهِ خَوْلَةَ «1» ، وقال مجاهدٌ: نزلَتْ بسبب أبي السَّنَابِلِ «2» وامرأتِهِ «3» ، ولفظُ ابنِ العربيِّ في «أحكامه» «4» : قوله تعالى: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً ... الآية:
قالَتْ عائشةُ (رضي اللَّه تعالى عنها) : هِيَ المرأَةُ تكُونُ عند الرجُلِ ليس بمستكْثِرٍ منها يريدُ أنْ يفارقَهَا، فتقولُ لَهُ: أجعلُكَ مِنْ شأنِي في حِلٍّ، فنزلَتِ الآية، قال الفقيهُ أبو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ: فرضوانُ اللَّه علَى الصِّدِّيقة المُطَهَّرة، لَقَدْ وفَّتْ بما حَمَّلها ربُّها من العَهْد في قوله تعالى: وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ [الأحزاب: 34] انتهى.
وقوله تعالى: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ لفظٌ عامٌّ مطلقٌ يقتضي أنَّ الصُّلّحَ الحقيقيَّ الذي تسكن إلَيْه النفوسُ، ويزولُ به الخلافُ خَيْرٌ على الإطلاق، ويندرج تحْتَ هذا العموم أنَّ صُلْحَ الزوجَيْن/ على ما ذكرنا- خيرٌ من الفُرْقَة.
وقوله تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ معذرةٌ عن عَبِيدِهِ تعالى، أي: لا بُدَّ للإنسان بحُكْم خلقته وجِبِلَّتهِ من أنْ يشحَّ على إرادته حتى يَحْمِلَ صاحبه على بعض ما يكره، وخصَّص المفسِّرون هذه اللفظة هنا.
__________
- إلى أن مات بها. وصلّى عليه ابن عمر. توفي سنة (74) وله (86 سنة) .
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (2/ 190) ، «الإصابة» (2/ 186) ، «الثقات» (3/ 121) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 173) ، «الاستيعاب» (2/ 479) ، «العبر» (1/ 83) ، «الاستبصار» (240) ، «عنوان النجابة» (80) ، «الكاشف» (1/ 30) ، «التحفة اللطيفة» (2/ 50) ، «الرياض المستطابة» (69) .
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 307) برقم (10605) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 119) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 411) ، وعزاه للشافعي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والبيهقي عن سعيد بن المسيب.
(2) أبو السنابل بن بعكك: بموحدة ثم مهملة ثم كافين، بوزن جعفر، ابن الحارث بن عميلة، بفتح أوله، ابن السباق، ابن عبد الدار القرشي العبدري، واسمه صبّة، بموحدة، وقيل: بنون.
قال البغويّ: سكن الكوفة، وقال البخاري: لا أعلم أنه عاش بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
روى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: روى عنه الأسود بن يزيد النخعي، وزفر بن أوس بن الحدثان النصري.
وقال ابن سعد وغيره: أقام بمكة حتى مات، وهو من مسلمة الفتح، وأخرج حديثه التّرمذيّ، والنّسائيّ، وابن ماجة، كلّهم من رواية منصور، عن إبراهيم، عن الأسود عنه في قصة سبيعة.
ينظر: «الإصابة» (7/ 161) ، «الكنى والأسماء» (3211) ، «تفسير الطبري» (9/ 10601) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 121) ، «تقريب التهذيب» (2/ 431) .
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 308) برقم (10606) ، وذكره ابن عطية (2/ 119) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 412) ، وعزاه لابن جرير.
(4) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 503) .(2/307)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
فقال ابنُ جُبَيْر: هو شُحُّ المرأة بالنفقة مِنْ زوجها، وبقَسْمه لها أيامَها «1» .
وقال ابن زَيْد: الشحُّ هنا منه وَمِنْها قال ع «2» : وهذا حسنٌ.
والشُّحُّ: الضبط على المعتَقَدَاتِ، وفي الهمم، والأموالِ، ونحو ذلك، فما أفرط منه، ففيه بعض المذمَّة، وهو الذي قال تعالى فيه: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر: 9] ، وما صار إلى حيِّزِ مَنْعِ الحقوقِ الشرعيَّة، أو الَّتي تقتضِيَها المروءةُ، فهو البُخْل، وهي رذيلةٌ، لكنها قد تكُونُ في المؤمِنِ ومنه الحديثُ: «قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَكُونُ المُؤْمِنُ بَخِيلاً؟
قَالَ: نَعَمْ» ، وأما الشُّحُّ، ففي كلِّ أحد، وينبغي ألاَّ يفرط إلاَّ على الدِّين ويدلُّك على أنَّ الشُّحَّ في كلِّ أحد قولُهُ تعالى: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ، وقوله: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ [الحشر: 9] ، فقد أثبَتَ أنَّ لكل نفسٍ شُحًّا، وقول النبيِّ- عليه السلام-: «وَأَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ» «3» ، وهذا لم يُرِدْ به واحداً بعينه، وليس يجمُلُ أنْ يقال هنا:
أنْ تَصَدَّقَ، وَأَنتَ صحيحٌ بخيلٌ.
وقوله تعالى: وَإِنْ تُحْسِنُوا: ندْبٌ إلى الإحسان في تحسين العِشْرة، والصَّبْرِ على خُلُقِ الزوجة، وَتَتَّقُوا: معناه: تتقوا اللَّه في وصيَّته بهنَّ إذ هنّ عوان عندكم.
[سورة النساء (4) : آية 129]
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)
وقوله تعالى: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا ... الآية: معناه: العدل التامّ على
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 310) برقم (10624) ، وذكره ابن عطية (2/ 120) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 120) .
(3) أخرجه البخاري (3/ 334) في الزكاة: باب فضل صدقة الشحيح (1419) ، و (5/ 439- 540) في الوصايا: باب الصدقة عند الموت (2748) ، ومسلم (2/ 716) في الزكاة: باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح (92- 93/ 1032) ، وأبو داود (2/ 126) في الوصايا: باب ما جاء في كراهية الإضرار في الوصية (2865) ، والنسائي (5/ 68) في الزكاة: باب أي الصدقة أفضل، و (6/ 237) في الوصايا: باب الكراهية في تأخير الوصية، وابن ماجة (2/ 903) في الوصايا: باب النهي عن الإمساك في الحياة والتبذير عند الموت (2706) ، والبخاري في «الأدب المفرد» برقم (786) ، وأحمد (2/ 231، 415، 447) ، وابن خزيمة (4/ 103) ، برقم (2454) ، والبيهقي (4/ 190) ، والبغوي (3/ 423) برقم (1665) من طريق عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أفضل؟ ... فذكره.(2/308)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
الإطلاق، والمستوِي في الأفعالِ، والأقوالِ، والمحبَّة، والجِمَاعِ، وغير ذلك، «وكان صلّى الله عليه وسلّم يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ، هَذَا فِعْلِي فِيمَا أَمْلِكُ، فَلاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا تَمْلِكُ، وَلاَ أَمْلِكُ» «1» .
فوصف اللَّه سبحانه حالة البَشَر أنهم بحُكْم الخِلْقَةِ لا يملكُونَ مَيْلَ قلوبهم إلى بعضِ الأزواج، دون بعضٍ، ثم نهى سبحانه عن المَيْل كلَّ الميل، وهو أنْ يفعل فعلاً يقصِدُه من التفضيل، وهو يقدر ألاَّ يفعله، فهذا هو كلُّ المَيْل، وإن كان في أمر حقير.
وقوله سبحانه: فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ، أي: لا هي أيّم، ولا ذات زوج، وجاء في التي قبل: وَإِنْ تُحْسِنُوا، وفي هذه: وَإِنْ تُصْلِحُوا لأن الأولى في مندوب إليه، وفي هذه في لازم إذ يلزمه العدل فيما يملك.
[سورة النساء (4) : آية 130]
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)
وقوله تعالى: وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ ... الآية: إنْ شَحَّ كلُّ واحدٍ من الزوجَيْن، فلم يتصالحا، لكنهما تفرَّقا بطلاقٍ، فإن اللَّه تعالى يغنِي كلَّ واحدٍ منهما عن صاحبه بفَضْلِهِ، ولطائِفِ صُنْعه في المالِ، والعِشْرة، والسَّعَة، وجَوْدِ المراداتِ، والتمكُّن منها، والواسعُ: معناه: الذي عنده خزائن كلّ شيء.
[سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 133]
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133)
وقوله سبحانه: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ: تنبيهٌ على موضع الرجاءِ لهذَيْن المفترقَيْن، ثم جاء بعد ذلك قوله: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تنبيهاً على استغنائه عن العباد، ومقدّمة للخبر بكونه غنيّا حميد، ثم جاء بعد
__________
(1) أخرجه أبو داود (1/ 648) في النكاح: باب في القسم بين النساء (2134) ، والترمذي (3/ 446) في النكاح: باب ما جاء في التسوية بين الضرائر (1140) ، وابن ماجة (1/ 634) في النكاح: باب القسمة بين النساء (1971) ، والنسائي في «عشرة النساء» (7/ 63- 64) : باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض، وأحمد (6/ 144) ، وابن أبي شيبة (4/ 386- 387) ، وابن حبان (1305- موارد) ، والحاكم (2/ 187) ، والبيهقي (7/ 298) ، والدارمي (2/ 144) من حديث عائشة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.(2/309)
ذلك قوله: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا مقدِّمة للوعيد، فهذه وجوهُ تَكْرَارِ هذا الخبرِ الواحدِ ثلاثَ مرَّاتٍ متقاربةٍ.
ت: وفي تمشيته هذه عندي نَظَرٌ، والأحْسَنُ بقاءُ الكلامِ على نَسَقِهِ فقوله (رحمه اللَّه) : «تَنْبِيه على مَوْضِعِ الرَّجَاءِ لهذين المفترقَيْن» - حَسَنٌ، وإنما الذي فيه قَلَقٌ ما بعده من توجيهه.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ ... الآية: لفظٌ عامٌّ لكل مَنْ أوتيَ كتاباً، فإنَّ وصيَّته سبحانه لعباده لم تَزَلْ منذُ أوجَدَهُمْ.
ت: قال الأستاذ أبو بَكْرٍ الطَّرْطُوشِيُّ «1» في «سِرَاجِ المُلُوكِ» /: ولما ضَرَبَ ابْنُ مُلْجِمٍ «2» عليًّا (رضي اللَّه عنه) ، أُدْخِلَ منزلَهُ، فاعترته غشيةٌ، ثم أفاقَ، فدعا أولاده
__________
(1) هو محمد بن الوليد بن محمد بن خلف القرشي. الفهري. الأندلسي، أبو بكر الطرطوشي ولد سنة 451 هـ 1059 م وتوفي سنة 520 هـ 1126 م، ويقال له: ابن أبي رندقة: أديب، من فقهاء المالكية، الحافظ. من أهل طرطوشة بشرقي الأندلس. تفقه ببلاده، ورحل إلى المشرق سنة 476 فحج وزار العراق ومصر وفلسطين ولبنان، وأقام مدة في الشام، وسكن الإسكندرية، فتولى التدريس واستمر فيها إلى أن توفي. وكان زاهدا لم يتشبث من الدنيا بشيء. من كتبه: «سراج الملوك- ط» و «التعليقة» في الخلافيات، وكتاب كبير عارض به إحياء علوم الدين للغزالي، و «بر الوالدين» و «الفتن» و «الحوادث والبدع» و «مختصر تفسير الثعلبي- خ» و «المجالس- خ» في الرباط.
ينظر: «الأعلام» (7/ 133- 134) ، و «وفيات الأعيان» (1/ 479) . [.....]
(2) هو عبد الرّحمن بن ملجم المرادي التدؤلي الحميري توفي سنة 40 هـ 660 م: فاتك ثائر، من أشداء الفرسان. أدرك الجاهلية، وهاجر في خلافة عمر، وقرأ على معاذ بن جبل فكان من القراء وأهل الفقه والعبادة، ثم شهد فتح مصر وسكنها فكان فيها فارس بني تدؤل، وكان من شيعة علي بن أبي طالب وشهد معه صفين. ثم خرج عليه فاتفق مع «البرك» و «عمرو بن بكر» على قتل عليّ، ومعاوية، وعمرو بن العاص، في ليلة واحدة (17 رمضان) وتعهد البرك بقتل معاوية، وعمرو بن بكر بقتل عمرو بن العاص، وتعهد ابن ملجم بقتل علي، فقصد الكوفة واستعان برجل يدعى شبيبا الأشجعي، فلما كانت ليلة 17 رمضان كمنا خلف الباب الذي يخرج منه عليّ لصلاة الفجر، فلما خرج، ضربه شبيب فأخطأه، فضربه ابن ملجم فأصاب مقدم رأسه، فنهض من في المسجد، فحمل عليهم بسيفه فأفرجوا له، وتلقاه المغيرة بن نوفل بقطيفة رمى بها عليه وحمله وضرب به الأرض وقعد على صدره.
وفر شبيب. وتوفي عليّ من أثر الجرح. وفي آخر اليوم الثالث لوفاته أحضر ابن ملجم بين يدي الحسن فقال له: والله لأضربنك ضربة تؤديك إلى النار. فقال ابن ملجم: لو علمت أن هذا في يديك ما اتخذت إلها غيرك! ثم قطعوا يديه ورجليه، وهو لا ينفك عن ذكر الله. فلما عمدوا إلى لسانه شق ذلك عليه، وقال: وددت أن لا يزال في بذكر الله رطبا. فأجهزوا عليه، وذلك في الكوفة. وقيل: أحرق بعد قتله.
ينظر: «الأعلام» (3/ 339) .(2/310)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
الحَسَنَ، والحُسَيْنَ، ومحمَّداً، فقال: أوصيكُمْ بتقْوَى اللَّهِ فِي الغَيْبِ والشهادةِ، وكلمةِ الحقِّ في الرضَا والغَضَب، والقَصْدِ في الغنى والفَقْر، والعَدْلِ عَلَى الصديقِ والعَدُوِّ، والعملِ في النشاطِ والكَسَل، والرضا عن اللَّه في الشدَّة والرخَاءِ يا بَنِيَّ، ما شَرٌّ بعْدَهُ الجَنَّةُ بِشَرٍّ، وَلاَ خَيْرٌ بَعْدَهُ النَّارُ بِخَيْرٍ، وكلُّ نَعِيمٍ دُونَ الجَنَّةِ حَقِيرٌ، وَكُلُّ بَلاَءٍ دُونَ النَّارِ عافيةٌ، مَنْ أَبْصَرَ عَيْبَ نفسِهِ شُغِلَ عَنْ عَيْبِ غيره، ومَنْ رَضِيَ بقَسْم اللَّهِ لم يَحْزَنْ على ما فاته، ومَنْ سَلَّ سيْفَ بَغْيٍ قُتِلَ به، ومَنْ حَفَر لأخيهِ بِئْراً وقَعَ فيها، ومَنْ هَتَكَ حجابَ أخِيهِ، كَشَفَ اللَّهُ عوراتِ بَنِيهِ، ومَنْ نَسِيَ خطيئته، استعظم خَطِيئَةَ غَيْره، ومَنِ استغنى بعقله زَلَّ، وَمَنْ تكبَّر على الناس ذَلَّ، ومَنْ أُعْجِبَ برأْيه ضَلَّ. ومَنْ جالَسَ العلماء وُقِّرَ، ومَنْ خَالَطَ الأَنْذَالَ احتقر، ومَنْ دَخَل مَدَاخلَ السُّوء اتهم، ومَنْ مَزَحَ استخف بِهِ، ومَنْ أكْثَرَ مِنْ شيءٍ عُرِفَ به، ومَنْ كثُر كلامه كَثُرَ خَطَؤُهُ، ومن كثر خَطَؤُهُ قل حياؤه، ومن قَلَّ حياؤه قَلَّ ورعُهُ، ومَنْ قَلَّ وَرَعُهُ ماتَ قلبه، ومَنْ مات قلبه دخَلَ النار، يَا بَنِيَّ، الأدَبُ خَيْرُ ميراثٍ، وحُسْنُ الخُلُقِ خَيْرُ قَرِينٍ، يا بَنِيَّ، العافيةُ عَشَرَةُ أجزاءٍ: تسْعَةٌ منها في الصَّمْتِ إلاَّ عَنْ ذكر اللَّهِ، وواحدٌ في ترك مُجَالَسَةِ السُّفَهاء، يَا بَنِيَّ، زِينَةُ الفَقْر الصَّبْرُ، وزِينَةُ الغِنَى الشُّكْرُ، يا بَنِيَّ، لا شَرَفَ أعَزُّ من الإسلام، وَلاَ كَرَمَ أعَزُّ من التقوى، يا بَنِيَّ، الحِرْصُ مفتاحُ البَغْيِ، ومطيَّةُ النَّصَبِ، طوبى لمن أخْلَصَ للَّه عَمَلَهُ وعِلْمَهُ، وحُبَّهُ وَبُغْضَهُ، وأَخْذَهُ وتَرْكَهُ، وكَلاَمَهُ وَصَمْتَهُ، وقَوْلَهُ وفِعْلَهُ. انتهى.
والوكيلُ: القائمُ بالأمورِ، المُنَفِّذُ فيها ما رآه، وقوله: أَيُّهَا النَّاسُ: مخاطبةٌ للحاضرين مِنَ العَرَب، وتوقيفٌ للسامعين لتَحْضُرَ أذهانهم، وقوله: بِآخَرِينَ يريدُ مِنْ نوعكم، وتحتملُ الآيةُ أنْ تكُونَ وعيداً لجميعِ بَنِي آدم، ويكون الآخرونَ مِنْ غيرِ نَوْعِهِمْ كالملائكَةِ، وقولُ الطبريِّ «1» : «هذا الوعيدُ والتوبيخُ للشافِعِينَ والمُخَاصِمِينَ في قصَّة بَنِي أُبَيْرِقٍ» - بعيدٌ، واللفظ إنما يَظْهَرُ حُسْنُ رَصْفِهِ بعمومه وانسحابه على العَالَمِ جملةٌ، أو العالم الحاضر.
[سورة النساء (4) : الآيات 134 الى 135]
مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)
__________
(1) ينظر الطبري (4/ 318) .(2/311)
وقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ ... الآية:
أيْ: من كان لا مُرَادَ له إلاَّ في ثوابِ الدنيا، ولا يعتقدُ أنَّ ثَمَّ سواه، فليس كما ظَنَّ، بل عند اللَّه سبحانه ثوابُ الدارَيْنِ، فَمَنْ قَصَدَ الآخرة، أعطاه اللَّه مِنْ ثواب الدنيا، وأعطاه قَصْدَهُ، ومَنْ قَصَدَ الدنيا فقَطْ، أعطاه من الدنيا ما قَدَّرَ له، وكان له في الآخرة العَذَابُ، واللَّه تعالى سميعٌ للأقوال، بصيرٌ بالأعمال والنيَّات، وفي الحديث الصّحيح، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه قال: «إنّما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لامرىء ما نوى ... » «1» الحديث، قال
__________
(1) أخرجه البخاري (1/ 9) كتاب «بدء الوحي» ، باب كيف كان بدء الوحي، حديث (1) ، (5/ 190) كتاب «العتق» ، باب الخطأ والنسيان، حديث (2529) ، (7/ 267) كتاب «مناقب الأنصار» ، باب هجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه إلى المدينة، حديث (3898) ، (9/ 17) كتاب «النكاح» ، باب من هاجر أو عمل خيرا لتزوج امرأة فله ما نوى، حديث (5070) ، (11/ 580) كتاب «الأيمان والنذور» ، باب النية في الأيمان، حديث (6689) ، (12/ 342- 434) كتاب «الحيل» ، باب من ترك الحيل، حديث (6953) ، ومسلم (3/ 1515) كتاب «الإمارة» ، باب قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات» ، حديث (155/ 1907) ، وأبو داود (2/ 651) ، كتاب «الطلاق» ، باب فيما عنى به الطلاق والنيات، حديث (2201) ، والنسائي (1/ 58- 59) كتاب «الطهارة» ، باب النية في الوضوء، والترمذي (4/ 179) كتاب «فضائل الجهاد» ، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء، حديث (1647) ، وابن ماجة (2/ 1413) كتاب «الزهد» ، باب النية، حديث (4227) ، وأحمد (1/ 25، 43) ، والحميدي (1/ 16- 17) برقم (28) ، وأبو داود الطيالسي (2/ 27- منحة) رقم (1997) ، وابن خزيمة (1/ 73- 74) برقم (142) ، وابن حبان (388، 389- الإحسان) ، وابن الجارود في «المنتقى» رقم (64) ، وابن المبارك في «الزهد» (ص 62، 63) ، وابن أبي عاصم في «الزهد» (ص 101) برقم (206) ، وهناد بن السري في «الزهد» (2/ 440) برقم (871) ، ووكيع في «الزهد» رقم (351) ، وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 369) ، وابن أبي حاتم في «مقدمة الجرح والتعديل» (ص 213) ، والدارقطني (1/ 50- 51) كتاب «الطهارة» ، باب النية، حديث (1) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (3/ 96) كتاب «الطلاق» ، باب طلاق المكره، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 42) ، وفي «تاريخ أصبهان» (2/ 115، 227) ، وابن عساكر في «تاريخ دمشق» (1/ 403- تهذيب) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1، 2، 1172، 1173) ، وابن حزم في «المحلى» (1/ 73) ، والبيهقي (1/ 41) كتاب «الطهارة» ، باب النية في الطهارة، وفي «معرفة السنن والآثار» (1/ 152) ، و «شعب الإيمان» (5/ 336) رقم (6837) ، و «الاعتقاد» رقم (254) ، وفي «الزهد الكبير» (ص 132) رقم (241) ، وفي «الآداب» رقم (1138) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (4/ 224، 6/ 153، 9/ 345- 346) ، والقاضي عياض في «الإلماع» (ص 54- 55) ، باب ما يلزم من إخلاص النية في طلب الحديث وانتقاد ما يؤخذ عنه، وابن جميع في «معجم شيوخه» (ص 117) رقم (66) ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 54- بتحقيقنا) ، والرافعي في «تاريخ قزوين» (4/ 77) ، والنووي في «الأذكار» (ص 33) ، والذهبي في «تذكرة الحفاظ» (2/ 774) ، والحافظ ابن حجر في «تخريج أحاديث المختصر» (2/ 242، 243) . كلهم من طريق يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإن لكل-(2/312)
النوويُّ: بلَغَنَا عنِ ابْنِ عبَّاسٍ أنه قَالَ: «إنَّمَا يُحْفَظُ الرَّجُلُ على قَدْرِ نِيَّتِهِ» ، وقال غيره:
إنما يُعْطَى الناسُ على قَدْر نيَّاتهم. انتهى.
__________
- امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه» .
قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. اهـ.
وقال أبو نعيم: هذا الحديث من صحاح الأحاديث وعيونها. اهـ.
وقال ابن عساكر: هذا حديث صحيح من حديث أمير المؤمنين أبي حفص عمر بن الخطاب، وثابت من حديث علقمة بن وقاص الليثي لم يروه عنه غير أبي عبد الله محمد بن إبراهيم التيمي، واشتهر عنه برواية أبي سعد يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني القاضي، وهو ممن انفرد به كل واحد من هؤلاء عن صاحبه، ورواه عن يحيى العدد الكثير والجم الغفير. اهـ.
قال الحافظ في «التلخيص» (1/ 55) : وقال الحافظ أبو سعيد محمد بن علي الخشاب: رواه عن يحيى بن سعيد نحو من مائتين وخمسين إنسانا، وقال الحافظ أبو موسى: سمعت عبد الجليل بن أحمد في المذاكرة يقول: قال أبو إسماعيل الهروي عبد الله بن محمد الأنصاري: كتبت هذا الحديث عن سبعمائة نفر من أصحاب يحيى بن سعيد قلت- أي الحافظ-: تتبّعته من الكتب والأجزاء حتى مررت على أكثر من ثلاثة آلاف جزء، فما استطعت أن أكمل له سبعين طريقا، وقال البزار، والخطابي، وأبو علي بن السكن، ومحمد بن عتاب، وابن الجوزي، وغيرهم: إنه لا يصح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلا عن عمر بن الخطاب ... اهـ.
قلنا: وقد روى هذا الحديث غير يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، أخرجه ابن عدي في «الكامل» (3/ 136) من طريق الربيع بن زياد أبو عمرو الضبي، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص، عن عمر بن الخطاب، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» .
قال ابن عدي: وهذا الأصل فيه يحيى بن سعيد الأنصاري، عن محمد بن إبراهيم، وقد رواه عن يحيى أئمة الناس، وأما عن محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم لم يروه عنه غير الربيع بن زياد، وقد روى الربيع بن زياد عن غير محمد بن عمرو من أهل المدينة بأحاديث لا يتابع عليها اهـ.
وفي الباب عن جماعة من الصحابة وهم: أبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وعلي بن أبي طالب، وأبو هريرة، وهزال بن يزيد الأسلمي.
1- حديث أبي سعيد الخدري:
أخرجه الخليلي في «الإرشاد» (1/ 233) ، والدارقطني في «غرائب مالك» ، والحاكم في «تاريخ نيسابور» ، كما في «تخريج أحاديث المختصر» لابن حجر (2/ 247- 248) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 342) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (1773) ، كلهم من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، ثنا مالك بن أنس عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» قال الخليلي: وعبد المجيد قد أخطأ في هذا الحديث الذي يرويه عن مالك في الحديث الذي يرويه مالك، والخلق عن يحيى بن سعيد الأنصاري وهو غير محفوظ-(2/313)
ثم خاطَبَ سبحانه المؤمِنِينَ بقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ، وهو العدل، ومعنى شُهَداءَ لِلَّهِ، أيْ: لذاتِهِ، ولوجْهِهِ، ولمرضَاتِهِ سبحانه، وقولُهُ: وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ:
__________
- من حديث زيد بن أسلم بوجه. اهـ.
وقال الدارقطني: تفرد به عبد المجيد عن مالك اهـ.
وقال أبو نعيم: غريب من حديث مالك عن زيد تفرد به عبد المجيد، ومشهوره وصحيحه ما في الموطأ مالك، عن يحيى بن سعيد اهـ.
وقد حكم ببطلان هذا الطريق أبو حاتم الرازي فقال ولده في «العلل» (1/ 131) رقم (362) ...
سئل أبي عن حديث رواه نوح بن حبيب، عن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات ... » قال أبي: هذا حديث باطل لا أصل له، إنما هو مالك، عن يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن علقمة بن وقاص، عن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اهـ.
وقد أخرجه الحافظ ابن حجر في «تخرج المختصر» (2/ 247) من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز، عن مالك عن زيد ... به.
وقال: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وقال أيضا: وعبد المجيد وثقه أحمد، وابن معين، والنسائي، وتكلم فيه أبو حاتم، والدارقطني، وقيل: إن هذا مما أخطأ فيه على مالك، والمحفوظ عن مالك عن يحيى بن سعيد بالسند المعروف المتقدم اهـ.
قلت: وقد حاول بعضهم إلصاق الخطأ بنوح بن حبيب الراوي، عن عبد المجيد كالبزار مثلا.
فقال الزيلعي في «نصب الراية» (1/ 302) . وقال- يعني البزار-: في مسند الخدري حديث روي عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأعمال بالنية» أخطأ فيه نوح بن حبيب ولم يتابع عليه وليس له أصل عن أبي سعيد اهـ.
قلت: وفي كلام البزار نظر، أما إن الحديث ليس له أصل عن أبي سعيد فهذا صواب، أما إلصاق الخطأ بنوح بن حبيب ودعواه أنه تفرد به ولم يتابع عليه فهنا الخطأ.
فقد توبع نوح بن حبيب على هذا الحديث، تابعه اثنان وهما: إبراهيم بن محمد بن مروان بن هشام عند الدارقطني في «غرائب مالك» ، وعلي بن الحسن الذهلي عند الحاكم في «تاريخ نيسابور» .
ينظر: «تخريج المختصر» لابن حجر (2/ 247- 248) .
ومنه نعلم أن نوحا لم يتفرد به، بل تابعه اثنان، وأن الذي تفرد به هو عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وهو الذي أخطأ في الحديث.
2- حديث أنس بن مالك:
أخرجه ابن عساكر في أماليه كما في «تخريج المختصر» لابن حجر (2/ 246) .
وقال الحافظ: وفي سنده ضعف.
وقال الحافظ العراقي في «طرح التثريب» (2/ 4) : رواه ابن عساكر من رواية يحيى بن سعيد، عن محمد بن إبراهيم، عن أنس بن مالك، وقال: هذا حديث غريب جدا، والمحفوظ حديث عمر.
3- حديث أبي هريرة: -(2/314)
متعلِّق ب شُهَداءَ، هذا هو الظاهرُ الذي فَسَّر عليه الناس، وأنَّ هذه الشهادة المذكورةَ هي في الحُقُوق، ويحتملُ أنْ يكُونَ المعنى: شهداء للَّه بالوحْدَانيَّة، ويتعلَّق قوله: وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ، ب قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ/، والتأويل الأولُ أبْيَنُ، وشهادةُ المَرْءِ على نفسه هو إقراره بالحقائِقِ.
قال ص: وقوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً: ضميرُ «يَكُنْ» عائدٌ إلى المشهودِ علَيْه، والضميرُ في «بِهِمَا» عائد على جِنْسَيِ الغَنِيِّ والفقيرِ. انتهى.
قال ع «1» : وقوله: أَوْلى بِهِما: أيْ: هو أنظر لهما، وروى الطبريُّ «2» أنَّ هذه الآيةَ هي بِسَبَبِ نازلةِ بَنِي أُبَيْرِقٍ، وقيامِ مَنْ قَامَ فيها بغَيْر القسْطِ.
وقوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى: نهْيٌ بيِّنٌ، واتباعُ الهوى مُرْدٍ مهلكٌ.
وقوله تعالى: أَنْ تَعْدِلُوا يحتملُ أنْ يكون معناه: مَخَافَةَ أنْ تَعْدِلُوا، ويكون العَدْلُ هنا بمعنَى العُدُولِ عن الحقِّ، ويحتملُ أنْ يكون معناه: مَحَبَّة أنْ تعدلوا، ويكون العدل
__________
- قال العراقي في «طرح التثريب» (2/ 4) : رواه الرشيد العطار في بعض تخاريجه وهو وهم أيضا.
وقال ابن حجر في «تخريج أحاديث المختصر» (2/ 246) : أخرجه الرشيد العطار في فوائده بسند ضعيف.
4- حديث علي بن أبي طالب:
قال الحافظ العراقي في «طرح التثريب» (2/ 4) : رواه محمد بن ياسر الجياني في نسخة من طريق أهل البيت إسنادها ضعيف.
وقال الحافظ ابن حجر في «تخريج أحاديث المختصر» (2/ 246) : أخرجه أبو علي بن الأشعث وهو واه جدا.
5- حديث هزال بن يزيد الأسلمي:
أخرجه الحاكم في «تاريخ نيسابور» ، كما في «تخريج أحاديث المختصر» (2/ 248) في ترجمة أبي بكر محمد بن أحمد بن بالويه، من طريق محمد بن يونس، عن روح بن عبادة، عن شعبة، عن محمد بن المنكدر، عن ابن هزال عن أبيه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ... فذكره. قال الحاكم: ذكرته لأبي علي الحافظ فأنكره جدا، وقال لي: قل لأبي بكر لا يحدث به بعد هذا. اهـ.
قال الحافظ: محمد بن يونس شيخه هو الكديمي وهو معروف بالضعف، والمحفوظ بالسند المذكور قصة ماعز فلعله دخل عليه حديث في حديث، وهزال هو ابن يزيد الأسلمي وهو صحابي معروف، واسم ابنه نعيم وهو مختلف في صحبته اهـ.
قلت: مما سبق تبين أن حديث «إنما الأعمال بالنيات» لم يصح إلا من حديث عمر.
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 123) .
(2) ينظر: الطبري (4/ 320) .(2/315)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
بمعنى القَسْطِ.
وقوله تعالى: وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا ... الآية: قال ابن عبَّاس: هي في الخَصْمَيْن يجلسَانِ بَيْن يَدَيِ القاضِي، فيكون لَيُّ القاضي وإعراضُهُ لأحدهما عَلَى الآخر «1» ، وقال ابنُ زَيْد وغيره: هي في الشُّهُود يَلْوِي الشهادَةَ بلسانِهِ، أو يعرض عن أدائها «2» .
قال ع «3» : ولفظ الآية يعمُّ القضاءَ والشَّهادة، والتوسُّطَ بيْنَ النَّاسِ، وكلّ إنسان مأخوذٌ بأنْ يعدل، والخُصُوم مطلُوبُونَ بعَدْلٍ مَّا في القضاة، فتأمَّله، وقد تقدّم تفسير اللّيّ، وباقي الآية وعيد.
[سورة النساء (4) : آية 136]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... الآية: اختُلِفَ من المخاطَبِ بهذه الآية:
فقيل: الخطابُ للمؤمنين، ومضمَّنُ هذا الأمرِ الثبوتُ والدوامُ، وقالتْ فرقةٌ:
الخطابُ لأَهل الكتابَيْن، ورجّحه الطبريّ، وقيل: الخطاب للمنافقين، أي: يا أيها الَّذين آمنوا في الظَّاهِرِ، لِيكُنْ إيمانكم حقيقةً.
وقوله سبحانه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ ... إلى آخر الآية: وعيدٌ، وخبر مضمَّنه تحذيرُ المؤمنين مِنْ حالة الكفر.
[سورة النساء (4) : آية 137]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ... الآية: قال مجاهدٌ، وابنُ زَيْدٍ: الآيةُ في المنافِقِينَ، فَإنَّ مِنْهُمْ مَنْ كان يؤمنُ، ثم يكْفُر، ثم يُؤْمن، ثم يَكْفُر، ثم ازداد كُفْراً بأنْ تَمَّ على نفاقِهِ حتى مات.
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 322) ، برقم (10688) ، وذكره ابن عطية (2/ 123) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 413) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وأحمد في «الزهد» ، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي نعيم في «الحلية» .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 323) برقم (10696) ، وذكره ابن عطية (2/ 123) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 123) .(2/316)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
قال ع «1» : وهذا هو التأويلُ الراجحُ، وتأمَّل قولَهُ تعالى: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ فإنها عبارةٌ تقتضي أنَّ هؤلاءِ محتومٌ علَيْهم مِنْ أوَّلِ أمرهم ولذلك تردَّدوا، ولَيْسَتْ هذه العبارةُ مِثْلَ أن يقول: لاَ يَغْفِرُ الله لَهُمْ، بل هي أشَدُّ، فتأمَّل الفَرْقَ بيْنَ العبارَتَيْنِ فإنه من دقيقِ غَرَائِبِ الفَصَاحَةِ الَّتي في كتاب الله سبحانه.
[سورة النساء (4) : الآيات 138 الى 139]
بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)
وقوله تعالى: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً ... الآية: في هذه الآيةِ دليلٌ مَّا على أنَّ التي قبلها إنما هي في المُنَافِقِينَ، ثم نصَّ سبحانه مِنْ صفاتِ المنافِقِينَ على أشدِّها ضرراً، وهي موالاتُهُم الكافِرِينَ، واطراحهم المُؤْمنينَ، ونبَّه على فسادِ ذلكَ ليدعه مَنْ عسى أنْ يَقَعَ في نَوْعٍ منه مِنَ المُؤْمنين غَفْلَةٌ، أوْ جهالةً، أوْ مسامحةً ثم وَقَفَهُمْ سبحانه على جهة التوبيخَ، فقال: أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ والإستكثار، أي: ليس الأمرُ كذلك فإن العزَّة للَّه جميعاً يؤتيها مَنْ يشاء، وقد وَعَدَ بها المؤمنينَ، وجعل العاقبة للمتَّقين، والعزَّةُ أصلُها الشِّدَّة والقُوَّة ومنه: وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ [ص: 23] أي: غلبني بشدّته.
[سورة النساء (4) : آية 140]
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140)
وقوله سبحانه: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ ... الآية: مخاطبةٌ لجميعِ مَنْ أظهر الإيمان من محقِّقٍ ومنافقٍ لأنه إذا أظهر الإيمان، فقَدْ لزمه امتثال أوامر كتاب اللَّه تعالى، والإشارةُ بهذه الآية إلى قوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام: 68] إلى نحوِ/ هذا من الآيات، والكتابُ في هذا الموضعِ القرآنُ، وفي الآيةِ دليلٌ قويٌّ على وجوبِ تجنُّبِ أهْلِ البِدَعِ والمعاصِي، وأَلاَّ يجالَسُوا، وقد قيل: [الطويل]
عَنِ المَرْءِ لاَ تَسْأَلْ وَسَلْ عَنْ قَرِينِهِ ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالمُقَارَنِ مُقْتَدِ «2»
وهذه المماثلةُ لَيْسَتْ في جميع الصفاتِ، ثم توعَّد سبحانه المنافِقِينَ والكافرين بجمعهم في جَهَنَّم، فتأكَّد بذلك النهْيُ عن مجالستهم وخلطتهم.
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 124) .
(2) ينظر البيت في «العزلة» للخطابي ص (69) وينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 126) .(2/317)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
[سورة النساء (4) : الآيات 141 الى 143]
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لاَ إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)
وقوله تعالى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ... الآية: هذه صفة المنافقين، ويَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ: معناه: ينتظِرُونَ دَوْرَ الدوائرِ عليكم، فإن كان فَتْحٌ للمؤْمِنِينَ، ادعوا فيه النصيبَ بحُكْمِ ما يظهرونه من الإيمان، وإن كان للكافِرِينَ نَيْلٌ من المؤمنين، ادعوا فيه النَّصِيبَ بحُكْمِ ما يبطنونه من موالاةِ الكُفَّار، وهذا حالُ المنافقين، ونَسْتَحْوِذْ: معناه: نَغْلِبُ على أمرِكِم ونَحُوطُكُمْ ومنه: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ [المجادلة: 19] ، معناه: غَلَبَ على أمرهم، ثم سلى سبحانه المؤمنينَ، وأنَّسهم بما وَعَدَهُم به في قوله: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ، أيْ: وبينهم، وينصفُكُم من جميعهم، وبقوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا، أيْ: يوم القيامة قاله عليٌّ (رضي اللَّه عنه) «1» وعليه جميعُ أهْل التَّأوِيلِ، والسَّبيلُ هنا: الحُجَّة والغَلَبَةُ. قلت: إِلاَّ ابنَ العَرَبِيِّ «2» لم يرتَض هذا التأويلَ، قال: وإنما معنى الآية أحَدُ ثلاثةِ وُجُوهٍ:
الأول: لن يجعل اللَّه للكافِرِينَ عَلَى المؤمنينَ سَبيلاً يَمْحُو به دَوْلَةَ المؤمنين، ويستبيحُ بَيْضَتَهُمْ.
الثاني: لَنْ يجعل اللَّه للكافِرِينَ عَلَى المُؤْمنين سبيلاً إلاَّ أنْ يتواصَوْا بالباطِلِ، ولا يَتَنَاهَوْا عن المُنْكَر، ويتباعدوا عن التَّوْبَةِ، فيكونُ تسليطُ العَدُوِّ مِنْ قِبَلِهِمْ، وهذا نَفِيسٌ جِدًّا.
الثالث: لن يجعلَ اللَّه للكافرينَ عَلَى المؤمنينَ سبيلاً بالشَّرْع، فإن وُجِدَ ذلك، فبخلاف الشرْعِ، ونَزَعَ بهذا علماؤُنا بالإحْتجاجِ على أنَّ الكافر لا يَمْلِكُ العَبْدَ المُسْلِمَ.
انتهى «3» .
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 331) برقم (10720) ، وذكره ابن عطية (2/ 126) . [.....]
(2) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 510) .
(3) قد اختلف الفقهاء في حكم هذه المسألة، فذهب الشافعية، والحنابلة، والمالكية في إحدى الروايتين عن أشهب إلى القول بعدم صحة شراء الكافر له ... وذهب الحنفية، وابن القاسم من المالكية إلى القول بصحته. قالت الحنفية: ويجبر المشتري على بيعه وإزالة ملكه عنه. -(2/318)
ومخادعَةُ المنافقين: هي لأولياءِ اللَّهِ، ففِي الكلامِ حَذْفُ مضَافٍ إذْ لا يقصد أحَدٌ من البشر مخادَعَةَ اللَّهِ سبحانه.
وقوله تعالى: وَهُوَ خادِعُهُمْ
: عبارةٌ عن عقوبَتِهِمْ، سمَّاها باسم الذَّنْب، وقال ابن
__________
- احتج الحنفية: بعمومات الكتاب والسنة الواردة في حل البيع من غير فصل بين مسلم وكافر. وحيث حل الشراء للمسلم يحل للكافر بمقتضى العموم.
وأجيب: بأن تلك العمومات مخصصة في حق الكافر بقوله تعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء: 141] ، واحتجوا أيضا بأن شراء الكافر للعبد المسلم عقد صدر من أهله في محله لأن الكافر أهل للتصرف والعبد مال متقوم، ولهذا صح للمسلم بيعه وشراؤه، وإذا كان العقد كذلك كان صحيحا. أما دليل أن الكافر أهل للتصرف فهو ثبوت الملك له على العبد المسلم وميراثه له وبقاء ملكه عليه حينما يسلم، وأما دليل جبر المشتري على البيع بعد صحة الشراء، فهو احتمال أن يفعل الكافر بالمسلم فعلا لا يحل له نظرا للعداوة الدينية التي بينهما.
ونوقش هذا الدليل: بأن استدلالكم على صحة البيع بصحة الإرث غير مسلم من وجهين:
أحدهما: أن انتقال الملك في الإرث قهري لئلا يبقى الشيء بلا مالك، ولا كذلك البيع، فإنه اختياري، إن لم يصح بقي على ملك صاحبه الأصلي.
الثاني: أن الإرث يفيد استدامة ملك والبيع ابتداءه، والاستدامة أخف من الابتداء، حتى صح إرث المسلم للخبر لكونه استدامة لا شراؤه ابتداء، فظهر الفرق بينهما فلا يقاس أحدهما على الآخر.
حجة الجمهور: احتجوا أولا: بأن في تصحيح مثل هذا البيع طريقا لإثبات السبيل من الكافر على المسلم إذ به يتمكن من إذلاله بالاستخدام وهو محظور شرعا فيمتنع ما أدى إليه.
ونوقش: بكون السبيل غير حاصل بالجبر على بيعه بعد تصحيحه، وأجيب: بنفي تصحيحه مع الجبر لعدم الفائدة فكان المنع ابتداء أولى.
واحتجوا ثانيا: بأن المقصود من الشراء هو استدامة الملك من المشتري على العين المشتراة وعدم خروجها من ملكه إلا برضاه، ثم في تصحيح الشراء من الكافر للعبد المسلم، مع جبره بعد ذلك على البيع إخلال بمقاصد النكاح. وعدم ترتب آثاره عليه فكان خليقا بالفساد دون الصحة، ولهذا حظر عقد الزواج من المشركة للمسلم لعدم ترتب آثار النكاح عليه، والبيع مثله.
ونوقش: بأن مثل هذا الشراء لم يخل عن الفائدة لو قلنا بتصحيحه مع الجبر إذ قد ظهرت بتمامه سلطة المالك على البيع وجاز له بيعه وانتقال ملكيته إليه، وتصحيح عتقه إن أراد، ومسألة الإذلال ممنوعة مع الجبر على البيع.
وأجيب: بأن تلك السلطة الحاصلة من مثل هذا الشراء كعدمها لقيام أمر الجبر مسلطا عليه. ولا شك أن الإذلال متحقق بمجرد انتقال ملكية العبد إلى الكافر لأنه حينئذ متمكن من استخدامه إن كان عبدا، واستفراشها إن كانت أمة.
هذه أدلة الفريقين بالنظر فيها نجد: أن مذهب الجمهور هو الراجح في المسألة إذ لا معنى للتصحيح مع الجبر على البيع، فكان المنع ابتداء أولى.
ينظر: «أثر الاختلاف في الأحكام» لشيخنا/ بدران أبو العينين، «المغني» لابن قدامة (4/ 41) ، «بدائع الصنائع» (5/ 142) ، «المبسوط» (3/ 120) .(2/319)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
جْرَيْج، والحَسَن، والسُّدِّيُّ، وغيرهم من المفسِّرين: إنَّ هذا الخَدْعَ هو أنَّ اللَّه تعالى يُعْطِي لهذه الأُمَّة يوم القيامةِ نُوراً لكلِّ إنسانٍ مؤمن، أو منافقٍ، فيفرح المنافِقُونَ، ويظُنُّون أنهم قد نَجَوْا، فإذا جاءوا إلى الصِّراطِ، طُفِىءَ نورُ كلِّ منافقٍ، ونهَضَ المؤمنُونَ «1» ، فَذَلكَ قولُ المنافِقِينَ: انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ [الحديد: 13] ، فذلك هو الخَدْع الذي يَجْرِي عَلَى المنافِقِينَ، ثم ذكر سبحانه كَسَلَهُمْ في الصلاةِ، وتلْكَ حالُ كُلِّ مَنْ يعمل كارهاً غيْرَ معتقِدٍ فيه الصَّواب، بل تقيَّةً أو مصانَعَةً.
قال ابنُ العَرَبِيِّ «2» في «أحكامه» : قوله تعالى: وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا
، روى الأئمَّة مالكٌ وغيره، عن أنس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «تِلْكَ صَلاَةُ المُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلاَةُ المُنَافِقِينَ، تِلْكَ صَلاَةُ المُنَافِقِينَ، يَجْلِسُ أَحَدُهُمْ حتى إذَا اصفرت الشَّمْسُ، وَكَانَتْ بَيْنَ قَرْنَيِ الشَّيْطَانِ، قَامَ يَنْقُرُ أَرْبَعاً لاَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهَا إلاَّ قَلِيلاً» «3» قال ابن «4» العربيِّ: وقد بيَّن تعالى/ صلاةَ المؤمنين بقوله: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [المؤمنون: 1، 2] ومن خَشَعَ خَضَعَ، واستمر، ولم ينقُرْ صلاتَهُ، ولم يستعْجِلْ. انتهى.
ومُذَبْذَبِينَ: معناه: مُضْطَرِبِينَ لا يَثْبُتُونَ على حالٍ، والتَّذَبْذُب: الاِضطرابُ، فهؤلاءِ المنافقُونَ متردِّدون بَيْنَ الكفَّار والمؤمنين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «مَثَلُ المُنَافِقِ كَمَثَلِ الشَّاةِ العَائِرةِ «5» بَيْنَ الغَنَمَيْنِ» «6» ، والإشارة بذلك إلى حالتي الكفر والإيمان.
[سورة النساء (4) : الآيات 144 الى 147]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 332) برقم (10726) ، (10727) ، (10728) ، وذكره ابن عطية (2/ 127) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 417) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن الحسن.
(2) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 511) .
(3) أخرجه مسلم (1/ 434) ، كتاب «المساجد» ، باب استحباب التكبير بالعصر (195/ 622) ، ومالك (1/ 220) ، كتاب «القرآن» ، باب النهي عن الصلاة بعد الصبح وبعد العصر (46) .
(4) ينظر: «أحكام القرآن» (1/ 512) .
(5) أي: المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع.
ينظر: «النهاية» (3/ 328) .
(6) أخرجه مسلم (4/ 2146) كتاب «صفات المنافقين» ، باب (50) ، حديث (17/ 2784) ، والنسائي (8/ 124) كتاب «الإيمان» ، باب مثل المنافق، حديث (5037) ، وأحمد (2/ 32) ، والخطيب (14/ 268) من حديث ابن عمر.(2/320)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ...
الآية: خطابه سبْحَانه للمؤُمنينَ يَدْخُلُ فيه بحُكْمِ الظاهرِ المنافقُونَ المظهرُونَ للإيمان، ففِي اللفْظِ رفْقٌ بهم، وهم المرادُ بقوله سبحانه: أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً لأنَّ هذا التوقيفَ إنما هو لِمَنْ أَلَمَّ بشيء مِنَ الفعل المؤَدِّي إلى هذه الحالِ، والمؤمنون المُخْلِصُونَ ما أَلَمّوا قَطُّ بَشْيءٍ مِنْ ذلك، ويُقَوِّي هذا المَنْزَعَ قولُهُ تعالى: مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، أي: والمؤمنُونَ العارِفُونَ المُخْلِصُون غُيَّبٌ عن هذه الموالاة، وهذا لا يقال للمؤمنين المخلصين، بل المعنى: يا أيها الذين أظهروا الإيمان، والتزموا لَوَازمه، والسُّلْطَانُ:
الحُجَّة.
ثم أخبر تعالى عن المنافقين أنهم في الدَّرْك الأسفلِ مِنْ نارِ جهنَّم وذلك لأنهم أسرى غَوَائِلَ من الكُفَّار، وأشَدُّ تَمَكُّناً مِنْ أَذَى المُسْلمين قُلْتُ: وأيضاً لأنهم شاهَدُوا مِنْ معجزات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وما جَعَلَ اللَّه على يدَيْه مِنَ الخوارِقِ ما لَمْ يُشَاهِدْ غيرهم من الكفار، فكانَتِ الحجَّةُ علَيْهم أعْظَمَ، وكان كُفْرهم محْضَ عنادٍ، ورُوِيَ عن أبي هريرة، وابنِ مسعودٍ، وغيرهما أنَّهُمْ قالوا: المنافقُونَ في الدَّرْك الأسفل من النار، في تَوَابِيتَ من النَّارِ تُقْفَلُ «1» عليهم، ثم استثنى عَزَّ وجلَّ التائِبِينَ مِنَ المنافقين، ومِنْ شروط التائِبِ أنْ يُصْلِحَ في قَوْلِهِ وفِعْلِهِ، ويعتصمَ باللَّه، أيْ: يجعلَهُ مَنَعَتَهُ، وملْجَأَه، ويُخْلِصَ دينَهُ للَّه تعالى، وإلاَّ فليس بتائِب، وقوله: فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ، أي: في رحمة اللَّه سبحانه، وفي منازلِ الجَنَّة، ثم وَعَدَ سبحانه المُؤْمِنينَ الأجْرَ العظيمَ، وهو التخليدُ في الجَنَّة.
وقال ص: فَأُولئِكَ: خبره مُضْمَر، والتقدير: فأولئك مؤمِنُونَ مع المؤمنين قاله أبو البَقَاء. انتهى.
ثم قال سبحانه للمنافقين: مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ ... الآية: أيْ: أَيُّ منفعةٍ له سبحانه في ذلك أوْ حاجَةٍ؟! قال أبو عَبْدِ اللَّهِ اللَّخْمِيُّ: زعم الطبريُّ «2» أنَّ قوله تعالى: مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ: خطابٌ للمنافقين، ولا يكادُ يقُومُ له على ذلك دليل يقطع
__________
(1) أخرجه الطبري (4/ 336) برقم (10746، 10747، 10748) وذكره البغوي (1/ 493) .
(2) ينظر: الطبري (4/ 338) .(2/321)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
به، وليس في ذِكْرِ المنافقينَ قَبْلَهُ ما يقتَضِي أنْ يُحْمَلَ عليهم خاصَّةً، مع احتمال الآية للعُمُومِ، فقطْعُهُ بأنَّ الآية في المنافِقِينَ حُكْمٌ لا يقُومُ به دليلٌ. انتهى، وهو حَسَنٌ إذ حمل الآية على العُمُومِ أحْسَنُ.
والعَجَب من ع: كيف تَبِعَ الطبريُّ في هذا التَّخْصيصِ، ويظهر- واللَّه أعلم- أنهما عَوَّلا في تخصيص الآية على قوله تعالى: وَآمَنْتُمْ، وهو محتملٌ أن يحمل في حَقِّ المنافقين على ظاهره، وفي حقِّ المؤمنين على معنى: «دُمْتُمْ على إيمانكم» ، واللَّه أعلم.
والشُّكْرُ على الحقيقة لا يَكُونُ إلاَّ مقترناً بالإيمان، لكنه ذكر الإيمان تأكيداً وتنبيهاً على/ جلالة موقعه، ثم وَعَدَ سبحانه بقوله: وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً: أيْ يتقبَّل أقلَّ شيء مِنَ العَمَل، وينَمِّيه فذلك شُكْرٌ منه سبحانه لعباده، والشَّكُورُ من البهائمِ: الَّذي يأكل قليلاً، ويظهر به بَدَنُه، والعَرَبُ تقول في مثل: «أَشْكَرُ مِنْ بَرْوقَةٍ» لأنها يُقَالُ: تخضَرُّ وتتنضَّر بِظِلِّ السَّحاب دُونَ مَطَرٍ، وفي قوله: عَلِيماً: تحذيرٌ ونَدْبٌ إلى الإخلاص.
[سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149]
لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)
وقوله تعالى: لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ ... الآية: قراءة الجمهور «1» بضَمِّ الظاء، وقرىء «2» شاذاً بفتحها، واختلف على قراءة الجمهورِ، فقالَتْ فرقةٌ: المعنى: لا يحبُّ اللَّه أنْ يَجْهَرَ أحدٌ بالسوء من القَوْل إلا مَنْ ظُلِم، فلا يُكْرَهُ له الجَهْرُ به، ثم اختلفتْ هذه الفرقةُ في كيفيَّةِ الجَهْر بالسُّوء، وما هو المباحُ منه، فقال ابنُ عَبَّاس وغيره: لا بأسَ لِمَنْ ظلم أن ينتصر من ظلمه بمثْلِ ظُلْمِهِ، ويَجْهَرَ له بالسُّوء من القَوْل، أي: بما يوازي الظَّلاَمَةَ «3» ، وقال مجاهد وغيره: نزلَتْ في الضَّيْفِ المُحَوَّلِ رَحْلُه، فإنَّه رُخِّصَ له أنْ يجهر بالسُّوءِ من القول للذي لم يُكْرِمْهُ، يريد: بقَدْر الظلمِ، والظُّلاَمةِ «4» ،
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 129) ، و «البحر المحيط» (3/ 398) ، و «الدر المصون» (2/ 451) .
(2) وهي قراءة ابن أبي إسحاق، وزيد بن أسلم، والضحاك بن مزاحم، وابن عباس، وابن جبير، وعطاء بن السائب، وعبد الأعلى بن عبد الله بن مسلم بن يسار، ومسلم بن يسار وغيرهم.
ينظر: السابق، والمحتسب (1/ 203) .
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» بتحقيق الشيخ شاكر (9/ 344) برقم (10749) ، وذكره ابن عطية (2/ 129) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 420) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس. [.....]
(4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 341) برقم (10763، 10765) ، وذكره ابن عطية (2/ 129) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 420) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد.(2/322)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
وفي «صحيحِ البخاريِّ» ، عن أبي هريرةَ، قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلا يُؤْذِي جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْراً أوْ لِيَصْمُتْ» «1» . انتهى.
«وسميعٌ عليمٌ» : صفتان لائِقَتَان بالجَهْر بالسوء، وبالظلم أيضاً، فإنه يعلمه ويجازي علَيْه، ولما ذكر سبحانه عَذْر المَظْلُوم في أنْ يجهر بالسوء لظالمه، أَتْبَعَ ذَلك عَرْضَ إبداء الخير، وإخفائه، والعَفْوِ عن السُّوء، ثم وَعَدَ عَلَيْه سبحانه بقوله: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً وعْداً خفيًّا تقتضيه البلاغَةُ، ورغَّب سبحانه في العَفْو إذ ذكر أنها صفتُهُ مع القدرةَ على الإنتقام.
قال ع «2» : فَفِي هذه الألفاظِ اليسيرَةِ مَعَانٍ كثيرةً لمن تأمَّلها، قال الدَّاوُوديُّ:
وعن ابنِ عُمَر أنه قال: لا يحب اللَّه سبحانه أنْ يدعو أحَدٌ على أحدٍ إلاَّ أنْ يُظْلَمَ، فقد رخَّص له في ذلك. انتهى.
[سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 152]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
__________
(1) أخرجه البخاري (10/ 548) ، كتاب «الأدب» ، باب إكرام الضيف وخدمته، حديث (6136) ، ومسلم (1/ 68) كتاب «الإيمان» ، باب الحث على إكرام الضيف، حديث (75/ 74) ، وابن ماجة (2/ 1313) كتاب «الفتن» ، باب كف اللسان في الفتنة، حديث (3971) من طريق أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا.
وأخرجه البخاري (11/ 314) ، كتاب «الرقاق» ، باب حفظ اللسان، حديث (6475) ، ومسلم (1/ 68) ، كتاب «الإيمان» ، باب الحث على إكرام الجار، حديث (47) ، وأبو داود (2/ 760- 761) كتاب «الأدب» ، باب في حق الجوار، حديث (54: 5) ، والترمذي (4/ 569) ، كتاب «صفة القيامة» ، باب إكرام الضيف، حديث (2500) ، وأحمد (2/ 267) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 336- بتحقيقنا) كلهم من طريق الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرّحمن، عن أبي هريرة مرفوعا.
وأخرجه البخاري (9/ 161) ، كتاب «النكاح» ، باب الوصاة بالنساء، حديث (5185) ، ومسلم (2/ 1091) ، كتاب «الرضاع» ، باب الوصية بالنساء، حديث (60/ 1468) ، والبيهقي (7/ 295) ، كتاب «القسم والنشوز» ، باب حق المرأة على الرجل، وأبو يعلى (11/ 85- 86) رقم (6218) من طريق أبي حازم عن أبي هريرة.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 130) .(2/323)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ... إلى آخر الآية: نزل في اليهود والنصارى، وقد تقدَّم بيانُ هذه المعاني.
وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ... الآية: لما ذَكَر سبحانَهُ أنَّ المفرِّقين بَيْنَ الرسُلِ هم الكافرونَ حقًّا، عَقَّبَ ذلك بذكْرِ المؤمنين باللَّه ورسُلِهِ جميعاً، وهم المؤمنون بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم ليصرِّح بوَعْد هؤلاء كما صرَّح بوعيدٍ أولئِكَ، فبيّن الفرق بين المنزلتين.
[سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 154]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)
وقوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ ... الآية: قال قتادة سَأَلَتِ اليهودُ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أنْ يأتيهم بكتابٍ مِنْ عند اللَّه خاصٍّ لليهود، يأمرهم فيه بالايمان بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم «1» ونحوه عن ابْنِ جُرَيْجٍ «2» ، وزاد: «إلى فلان، وإلى فلانٍ أَنَّكَ رسُولُ اللَّهِ» ، ثم قال سبحانه على جهة التسلية لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ، وفي الكلامِ محذوفٌ يدلُّ عليه المذكورُ، تقديره: فلا تُبَالِ، يا محمد، مِنْ سؤالِهِمْ وتَشَطُّطهم فإنها عادتهم، وجمهورُ المتأوِّلين على أنَّ جَهْرَةً معمولٌ ل أَرِنَا، أيْ:
حتى نراه جهاراً، أي: عياناً، وأهلُ السُّنَّة معتقدون أنَّ هؤلاءِ لم يسألوا مُحَالاً عَقْلاً، لكنَّه محالٌ من جهة الشَّرْع إذ قد أخبر تعالى على ألسنَةِ/ أنبيائه أنَّهُ لاَ يرى سبحانه في هذه الدنيا، والرؤْيَةُ في الآخِرَةِ ثَابِتَةٌ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم بالخَبَرِ المُتَواتِرِ، وهي جائزةٌ عقْلاً من غير تحديدٍ، ولا تكييفَ ولا تحيُّز كما هو تعالى معلومٌ لا كالمعلومات كذلك هو مرئيٌّ، لا كالمرئيَّات سبحانه هذه حُجَّة أهل السنة، وقولُهم، وقد تقدَّم قصص القَوْم في «البقرة» ، وظلمهم: هو تعنُّتهم وسؤَالُهم ما لَيْسَ لهم أنْ يسألوه.
وقوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ: «ثُمَّ» : للترتيب في الأخبار، لا في نَفْس الأمرِ، التقديرُ ثم قَدْ كان مِنْ أمْرِهِمْ أَن اتَّخذُوا العِجْلَ، وذلك أنَّ اتخاذَ العِجْلِ كان عند أمر
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 346) برقم (10775) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 422) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر.
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 346) برقم (10776) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 131) .(2/324)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
المُضِيِّ إلى المناجاةِ، ولم يكن الَّذِينَ صُعِقُوا مِمَّنِ اتخذ العِجْلَ، لكنَّ الذين اتَّخذوه كانوا قَدْ جاءتهم البيِّنَاتُ.
وقوله سبحانه: فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ، يعني: بما امتحنهم به من القَتْل لأنْفُسِهِمْ، ثم وقع العَفْوُ عن الباقِينَ منهم.
[سورة النساء (4) : الآيات 155 الى 157]
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157)
وقوله سبحانه: فَبِما نَقْضِهِمْ: «ما» زائدةٌ مؤكِّدة، التقدير: فبنقضهم، فالآيةُ مخْبِرةٌ عن أشياء واقَعُوها هي ضِدُّ ما أُمِرُوا به، وحذْفُ جوابِ هذا الكلامِ بليغٌ مُبْهَمٌ متروكٌ مع ذِهْن السامع، تقديره: لَعَنَّاهُمْ ونحوه، ثم قال سبحانه: وَبِكُفْرِهِمْ: أي: بعيسى، وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً، هو رمْيُهم إياها بالزِّنَا بعد رُؤْيتهم الآية في كلامِ عيسى في المهد وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ ... الآية: هذه الآيةُ والَّتِي قبلها عدَّدَ اللَّه تعالى فيهما أقوالَ بَنِي إسرائيل، وأفعالَهُمْ على اختلافِ الأزمان، وتعاقُبِ القرون فاجتمع مِنْ ذلك توبيخُ خلفهم المعاصرين لنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فهذه الطائفةُ التي قالَتْ: إنا قَتَلْنَا المسيحَ- غَيْرُ الذين نقضوا الميثاقَ في الطُّور، وغَيْرُ الذين اتَّخَذُوا العجْلَ، وقولُ بني إسرائيل إنَّمَا هُوَ إلى قوله: عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ.
وقوله تعالى: رَسُولَ اللَّهِ، إنما هو إخبارٌ من اللَّه تعالى بصفةٍ لعيسى، وهي الرسالةُ، على جهة إظهار ذَنْب هؤلاء المُقِرِّين بالقَتْل، ولزمهم الذنْبُ، وهم لم يقتلوا عيسى لأنهم صَلَبُوا ذلك الشخْصَ على أنه عيسى، وعلى أنَّ عيسى كَذَّابٌ ليس برَسُولِ اللَّه، فلزمهم الذنْبُ مِنْ حيث اعتقدوا أنَّ قتلهم وَقَعَ في عيسى.
قال ص: وعِيسَى: بدل أو عطف بيان من الْمَسِيحَ، ورَسُولَ اللَّهِ كذلك، ويجوزُ أنْ يكون صفةً ل عِيسَى، وأنْ يكون نصباً على إضمار أعني.
قُلْتُ: وهذا الأخير أحسنها مِنْ جهة المعنى. انتهى.
ثم أخبر سبحانه أنَّ بني إسرائيل ما قَتَلُوا عيسى، وما صَلَبوه، ولكنْ شُبِّه لَهُمْ، واختلفتِ الرُّوَاةُ في هذه القصَّة، والذي لا يُشَكُّ فيه أنَّ عيسى- عليه السلام- كان يَسِيحُ في الأَرْضِ ويدعو إلى اللَّه، وكانَتْ بنو إسرائيل تَطْلُبُه، ومَلِكُهُمْ في ذلك الزَّمَانِ يجعَلُ عليه(2/325)
الجَعَائِلَ، وكان عيسى قد انضوى إليه الحواريُّون يَسِيرُونَ معه حيثُ سار، فلَمَّا كان في بعض الأوقات، شُعِرَ بأمْر عيسى، فَرُوِيَ أنَّ رجلاً من اليهود جُعِلَ له جُعْلٌ، فما زال يَنْقُرُ عنه حتى دلَّ على مكانه، فلما أحَسَّ عيسى وأصحابُهُ بتلاحُقِ الطَّالبين بهم، دخلوا بَيْتاً بمرأى مِنْ بني إسرائيل، فرُوِيَ أنهم عَدُّوهم ثلاثةَ عَشَرَ، ورُوِيَ: ثمانيةَ عَشَرَ، وحُصِرُوا لَيْلاً، فرُوِيَ أنَّ عيسى فرق الحواريِّين عن نَفْسه تلك الليلةَ، ووجَّههم إلى الآفاقِ، وبقي هُوَ ورجُلٌ معه، فَرُفِعَ عيسى، وأُلْقِيَ شَبْهُهُ على الرجُلِ، فَصُلِبَ ذلك الرجُلُ، ورُوِيَ أنَّ الشَّبَهَ أُلْقِيَ على اليهوديِّ الذي دَلَّ عليه، فَصُلِبَ/، وروي أنَّ عيسى- عليه السلام- لما أُحِيطَ بهم، قال لأصْحَابِهِ: أَيُّكُمْ يلقى عَلَيْه شَبَهِي، فَيُقْتَلُ، ويُخَلِّصُ هؤلاءِ، وهو رَفِيقي في الجَنَّةِ، فقَالَ سِرْجِسُ: أَنَا، فألقي عليه شبه عيسى، وروي أنَّ شَبَهَ عيسى أُلْقِيَ علَى الجَمَاعَةِ كلِّها، فلما أخرجهم بَنُو إسرائيل، نقصوا واحداً مِنَ العِدَّة، فأخذوا واحداً مِمَّنْ عليه الشَّبَهُ حَسَب هذه الرواياتِ التي ذكَرْناها، فَصَلَبُوه، ورُوِيَ أنَّ المَلِكَ والمتناوِلِينَ لَمْ يَخْفَ عليهم أَمْرُ رَفْعِ عيسى، لِمَا رأَوْه مِنْ نقصانِ العدَّة، واختلاط الأمْرِ.
وقوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ... الآية: يعني اختلافَ المحاولين لأخْذه لأنهم حين فقدوا واحداً من العدد، وتُحُدِّثَ برَفْع عيسَى، اضطربوا، واختلفوا، لكنْ أجمعوا على صَلْبِ واحدٍ مِنْ غير ثقَةٍ، ولا يقينٍ، أنه هو.
وقولُه تعالى: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً، قال ابن عَبَّاس «1» وجماعةٌ: المعنى: وما صَحَّ ظنُّهم عندهم، ولا تحقَّقوه يقيناً، فالضميرُ في «قتلوه» عندهم عائدٌ على الظَّنِّ كما تقُولُ:
ما قَتَلْتُ هذا الأمْرِ عَلْماً، قلْتُ: وعبارةُ السُّدِّيِّ: «وما قَتَلُوا أمره يقيناً أنَّ الرجُلَ هو عيسَى» «2» . انتهى من «مختصر الطَّبَرِيِّ» ، وقال قومٌ: الضميرُ عائدٌ على عيسى، أخبر سبحانه أنهم ما قَتَلُوهُ في الحقيقةِ جملةً واحدةً، لا يقيناً ولا شكًّا، لكنْ لما حصَلَتْ في ذلك الدعوى، صَارَ قتله عنْدَهم مشْكُوكاً فيه، وقال قوم مِنْ أهل اللسانِ: الكلامُ تامٌّ في قوله: وَما قَتَلُوهُ، ويَقِيناً: مصدرٌ مؤكِّد للنفْي في قوله: وَما قَتَلُوهُ، المعنى:
نخبرُكُمْ يقيناً، أو نقصُّ عليكم يقيناً، أو أَيْقَنُوا بذلك يَقيناً.
وقال ص: بعد كلام: والظاهرُ أنَّ الضمير في قَتَلُوهُ عائدٌ إلى عيسى لتتّحد الضمائر، ويَقِيناً: منصوبٌ في موضعِ الحالِ من فَاعِلِ قَتَلُوهُ: أي: مستيقنين أنه
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 134) .
(2) ذكره ابن عطية (2/ 134) .(2/326)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
عيسى، أو نعت لمصدرٍ محذوفٍ، أي: قتلاً يقينا. انتهى.
[سورة النساء (4) : آية 158]
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)
وقوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ: يعني: إلى سمائِهِ وكرامتِهِ، وعيسى- عليه السلام- في السَّماءِ على ما تضمَّنه حديثُ الإِسراء في ذِكْرِ ابني الخالةِ عيسى ويحيى، ذكره البخاريُّ في حديث «1» المعراج، وذكره غيره، وهو هنالك مُقِيمٌ حتى يُنزله اللَّه تعالى لِقَتْلِ الدَّجَّال، وليملأَ الأرْضَ عَدْلاً وَيَحْيَا فيها أربعين سَنَةً، ثم يموت، كما يموت البشر.
[سورة النساء (4) : آية 159]
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)
وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ: اختُلِفَ في معنى الآيةِ:
فقال ابن عباس «2» وغيره: الضميرُ في مَوْتِهِ راجعٌ إلى عيسى، والمعنى: أنه لا يبقى مِنْ أهْل الكتابِ أحَدٌ، إذا نَزَلَ عيسى إلى الأرْضِ، إلاَّ يؤمنُ بعيسى كما يؤمنُ سائرُ البَشَرِ، وترجِعُ الأدْيَانُ كلُّها واحداً، يعني: يرجعون على دين نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم إذْ عيسى واحدٌ من أمته وعلى شريعته، وأئمَّتنا منَّا كما ورد في الحديثِ الصَّحِيح.
وقال مجاهدٌ وابنُ عباسٍ أيضاً وغيرهما: الضميرُ في بِهِ لعيسى، وفي مَوْتِهِ للكتابيِّ، لَكن عند المعاينة للمَوْتِ فهو إيمانٌ لا ينفعه «3» ، وقال عكرمةُ: الضَّميرُ في بِهِ لنبيِّنا محمَّد صلّى الله عليه وسلّم وقَبْلَ مَوْتِهِ للكتابيِّ «4» قال: وليس يخرج يهوديٌّ ولا نصرانيّ من الدنيا حتّى يؤمن بمحمّد صلّى الله عليه وسلّم، ولو غَرِقَ أو سَقَطَ علَيْه جِدَارٌ، فإنه يؤمنُ في ذلك الوقْتِ، وفي مُصْحَفِ أبيِّ بْنِ كَعْب: «قَبْلَ مَوْتِهِمْ» ، ففي هذه القراءة تَقْوِيَةٌ لعود الضمير على الكتابيِّ «5» .
قال ص: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... الآية: «إنْ» : هنا نافية، والمخبر عنه
__________
(1) سيأتي تخريجه مفصلا في سورة الإسراء.
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 356) برقم (10799) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 134) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 159) .
(3) ذكره ابن عطية (2/ 134) .
(4) ذكره ابن عطية (2/ 134) .
(5) ذكره ابن عطية (2/ 134) .(2/327)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
محذوفٌ قامَتْ صفته مَقَامَهُ، أي: وما أحدٌ من أهل الكتاب كما حذف في قوله تعالى:
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] ، وقوله تعالى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] أي: وما أحدٌ منا، وما أحدٌ منكم، قال الشيخُ أبو حَيَّانِ «1» : لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ:
جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ، والقَسَم وجوابُهُ هو الخَبَرُ، وكذلك أيضا إِلَّا لَهُ مَقامٌ وإِلَّا وارِدُها، هما الخَبَرُ، قال الزَّجَّاج: وحَذْف «أَحَدٍ» مطلوبٌ في كلِّ نفْيٍ يدخله الإستثناءُ نحْوُ: مَا قَامَ إلاَّ زَيْدٌ، أيْ: ما قام أحد إلّا زيد. انتهى.
[سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 162]
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
وقوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ... الآية:
فَبِظُلْمٍ: معطوفٌ على قوله سبحانه: فَبِما نَقْضِهِمْ [النساء: 155] ، والطيِّباتُ هنا: هي الشُّحُوم، وبعْضُ الذبائحِ، والطَّيْرُ والحُوت، وغَيْرُ ذلك، وقرأ ابن عباسٍ «2» : «طَيِّبَاتٍ كَانَتْ أُحِلَّتْ لَهُمْ» .
وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً: يحتملُ أن يريدَ صدَّهم في ذاتِهِمْ، ويحتملُ أن يريد صدّهم غيرهم، وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا، هو الدرهمُ بالدرهَمَيْنِ إلى أَجَلٍ، ونحو ذلك ممَّا هو مَفْسَدَة، وقد نُهُوا عنه، ثم استثنى سبحانه الراسِخِينَ في العِلْمِ منهم كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ، ومُخَيْرِيقٍ، ومَنْ جرى مَجْراهم.
واختلف الناسُ في قوله سبحانه: وَالْمُقِيمِينَ، وكيف خالَفَ إعرابُهَا إعرابَ ما تقدَّم وما تأخَّر.
فقال بعضُ نحاة البَصْرة والكُوفة: إنما هذا مِنْ قَطْع النُّعُوت، إذا كَثُرَتْ على النصْبِ ب «أعْنِي» والرفعُ بعد ذلك ب «هُمْ» وقال قومٌ: وَالْمُقِيمِينَ: عطْفٌ على «ما» في قوله:
وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، والمعنى: ويؤمنون بالمقيمينَ الصَّلاَة، وهُمُ الملائكةُ، أو مَنْ تقدَّم من الأنبياء، وقال قومٌ: وَالْمُقِيمِينَ: عطْفٌ على الضمير في مِنْهُمْ، وقال آخَرُونَ: بل على الكاف في قوله: مِنْ قَبْلِكَ.
__________
(1) ينظر: «البحر المحيط» (3/ 406) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 135) ، و «البحر المحيط» (3/ 411) ، و «الدر المصون» (2/ 461) . [.....](2/328)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
وزاد ص: وَالْمُقِيمِينَ منصوبٌ على المَدْحَ، قال: وقرأ جماعة: «والمقيمون» «1» انتهى.
[سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 164]
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164)
وقوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ... الآية:
سبَبُ نزولها قولُ بَعْض أحبار يَهُودَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ... [الأنعام: 91] فأنزل اللَّه سبحانه الآية تَكْذيباً لهم.
قال ع «2» : إسماعيلُ هو الذبيح في قول المحقِّقين، والوَحْيُ: إلقاءُ المعنى في خفاءٍ، وعُرْفُهُ في الأنبياء بوَسَاطة جبريلَ- عليه السلام-، وكلَّم اللَّه سبحانه موسى بكلامٍ دون تكْييفٍ، ولا تحديدٍ، ولا حرفٍ، ولا صوتٍ، والذي عليه الراسخُونَ في العِلْمِ أنَّ الكلام هو المعنَى القَائِمُ في النَّفْسِ، ويخلق اللَّه لموسى إدراكاً من جهةِ السَّمْعِ يتحصَّل به الكلامُ، وكما أنَّ اللَّه تعالى موجودٌ لا كالموجودَاتِ، معلومٌ لا كالمعلُومَاتِ فكذلك كلامه لا كالكلام.
[سورة النساء (4) : آية 165]
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)
وقوله سبحانه: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ... الآية: رُسُلاً: بدلٌ من الأول، وأراد سبحانه أن يقطع بالرُّسُل احتجاجَ مَنْ يقول: لو بُعِثَ إلَيَّ رسول، لآمَنْتُ، واللَّه سبحانه «عزيزٌ» لا يغالبُهُ شيْء، ولا حُجَّة لأحدٍ عليه، حَكِيمٌ في أفعالِهِ، فقطع الحجّة بالرسل حكمة منه سبحانه.
__________
(1) وممن قرأ بها: عبد الله، ومالك بن دينار، والجحدري، وعيسى الثقفي.
ينظر: «المحتسب» (1/ 204) ، و «الكشاف» (1/ 590) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 135) ، وزاد نسبتها إلى الأعمش، وسعيد بن جبير، ورواية يونس وهارون عن أبي عمرو، وينظر: «البحر المحيط» (3/ 411) ، و «الدر المصون» (2/ 461) .
(2) ينظر: «تفسير ابن عطية» (2/ 136) .(2/329)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
[سورة النساء (4) : الآيات 166 الى 169]
لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)
وقوله تعالى: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ ... الآية: سببُهَا قولُ اليَهُود: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 91] .
وقال ص: «لكن» : استدراكٌ، ولا يُبتدأُ بها، فيتعيَّن تقديرُ جملةٍ قبلها يبيِّنها سببُ النزول، وهو أنه لَمَّا نزل: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [النساء: 163] ، قالوا: ما نشهَدُ لك بهذا فَنَزَلَ: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ. انتهى.
وقوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ، هذه الآيةُ مِنْ أقوى متعلَّقات أهْل السنَّة في إثبات عِلْمِ اللَّه عزَّ وجلَّ خلافاً للمعتزلةِ في أنهم يقولُونَ: عَالِمٌ بِلاَ عِلْمٍ، والمعنى عند أهْل السُّنَّة:
أنزله، وهو يَعْلَمُ/ إنزالَهُ ونُزُولَهُ.
وقوله سبحانه: وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ: تقويةٌ لأمر نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وردٌّ على اليهود.
وقوله تعالى: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً، تقديره: وكفَى اللَّهُ شهيداً، لكنه دخلَتِ الباءُ لتدُلَّ على أنَّ المراد اكتفوا باللَّهِ، وباقي الآية بيّن.
[سورة النساء (4) : الآيات 170 الى 173]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ ... الآية: خطابٌ لجميعَ النَّاسِ، وهي دعاءٌ إلى الشرْعِ، ولو كانَتْ في أمر من أوامر الأحكام، ونَحْوِ هذا، لكانتُ: «يا أيها الذين آمنوا» ، والرسول في الآية: نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، ثم قال سبحانه: وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وهذا خبرٌ بالاستغناء، وإنَّ ضَرَر الكُفْر إنما هو(2/330)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
نازلٌ بهم، ثم خاطَبَ سبحانه أهْلَ الكتابِ مِنَ النصارى، وهو أنْ يَدَعُوا الغُلُوَّ، وهو تجاوُزُ الحَدِّ.
وقوله: فِي دِينِكُمْ: معناه: في دِينِ اللَّهِ الَّذي أنْتُمْ مطلوبُونَ به بأنْ تُوحِّدوا اللَّه، ولا تَقُولوا على اللَّه إلا الحقَّ، ولَيْسَتِ الإشارةُ إلى دينهم المُضَلِّل، وعن عُبَادَةَ بْنِ الصامِتِ (رضي اللَّه عنه) ، عنِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عيسى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ الجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ- أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنَّةَ على مَا كَانَ مِنَ عَمَلٍ» «1» رواه مسلم، والبخاريُّ والنسائيُّ، وفي مسلمٍ: «أَدْخَلَهُ اللَّهُ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ شَاءَ» .
انتهى.
وقوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي: الذين مِنْ جملتهم: عيسى، ومحمَّد- عليهما السلام-.
وقوله تعالى: إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ: «إنَّمَا» في هذه الآية: حاصرة، وسُبْحانَهُ: معناه: تنزيهاً له، وتعظيماً، والاستنكاف إبَاءَةٌ بأَنَفَة.
قال ع «2» : وقوله سبحانه: لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
: زيادةٌ في الحُجَّة، وتقريبٌ مِنَ الأذهان، أي: وهؤلاءِ الذين هُمْ في أعلى درجاتِ المَخْلُوقين لاَ يَسْتَنْكِفُونَ عن ذلك، فكيفَ بسواهُمْ، وفي هذه الآيةِ دليلٌ على تفضيل الملائكة على الأنبياء.
وقوله سبحانه: سَيَحْشُرُهُمْ
: عبارةُ وعيدٍ.
قال ع «3» : وهذا الاِستنكافُ إنما يكونُ من الكُفَّار عن اتباع الأنبياءِ، وما جرى مجراه.
[سورة النساء (4) : آية 174]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)
__________
(1) أخرجه البخاري (6/ 546) كتاب «أحاديث الأنبياء» ، باب قوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ، حديث (3435) ، ومسلم (1/ 57) ، كتاب «الإيمان» ، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا، حديث (46/ 28) ، وأحمد (5/ 313) ، والنسائي في «الكبرى» (6/ 277- 278) ، كتاب «عمل اليوم والليلة» ، باب ما يقول عند الموت، حديث (10969) ، والبغوي في «شرح السنة» .. (1/
115- بتحقيقنا) كلهم من طريق جنادة بن أبي أمية عن عبادة بن الصامت به.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 140) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 140) .(2/331)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ... الآية: إشارة إلى نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والبرهانُ: الحجة النَّيِّرة الواضحةُ الَّتي تُعْطِي اليقينَ التَّامَّ، والنُّورُ المُبِينُ: يعني القُرآن لأنَّ فيه بيانَ كُلِّ شيء، وفي «صحيح مسلم» ، عن زيدٍ بْنِ أرقَمَ، قال: قَامَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَوْماً فِينَا خَطِيباً، فَحَمِدَ اللَّهَ تعالى، وأثنى عَلَيْهِ، وَوَعَظَ وَذَكَّرَ، ثُمَّ قَالَ: «أَمَّا بَعْدُ، أَلاَ أَيُّهَا النَّاسُ، فَإنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوشِكُ أَنْ يَأْتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي، فَأُجِيبَ، وَأَنَا تَارِكٌ فِيكُمْ ثِقْلَيْنِ: أَوَّلُهُمَا كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ الهدى وَالنُّورُ، فَخُذُوا بِكِتَابِ اللَّه، واستمسكوا» ، فَحَثَّ على كِتَاب اللَّهِ، وَرَغَّبَ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: «وَأَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُم اللَّهَ ثَلاَثاً فِي أَهْلِ بَيْتِي ... » «1» الحديث، وفي روايةٍ: «كِتَابُ اللَّهِ فيهِ الهدى والنُّورُ مَنِ استمسك بِهِ، وَأَخَذَ بِهِ، كَانَ عَلَى الهدى، وَمَنْ أَخْطَأَهُ، ضَلَّ» ، وفي رواية: «أَلاَ وَإنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ ثِقْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: كِتَابُ اللَّهِ، وَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ، مَنِ اتبعه كَانَ عَلَى الهدى، وَمَنْ تَرَكَهُ كَانَ على ضَلاَلَةٍ» . انتهى.
[سورة النساء (4) : آية 175]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)
وقوله سبحانه: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ/ وَاعْتَصَمُوا بِهِ: أي: اعتصموا باللَّهِ، ويحتمل: اعتصموا بالقُرآن كما قال- عليه السلام-: «القُرْآنُ حَبْلُ اللَّهِ المَتِينُ مَنْ تَمَسَّكَ بِهِ عُصِمَ» «2» ، والرحمة والفضل: الجنّة ونعيمها، ويَهْدِيهِمْ: معناه: إلى الفضل، وهذه هدايةُ طريقِ الجِنَانِ كما قال تعالى: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ ... [محمد: 5] الآية لأنَّ هداية الإرشادِ قَدْ تقدَّمت، وتحصَّلت حينَ آمنوا باللَّه واعتصموا بكتابِهِ، فيهدِيهِمْ هنا بمعنى: يُعَرِّفهم، وباقي الآية بيّن.
[سورة النساء (4) : آية 176]
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
__________
(1) أخرجه مسلم (4/ 1873) ، كتاب «فضائل الصحابة» ، باب فضل علي بن أبي طالب، حديث (36/ 2408) ، وأحمد (4/ 366- 367) ، والدارمي (2/ 431- 432) ، كتاب «فضائل القرآن» ، باب فضل من قرأ القرآن، والطحاوي في «مشكل الآثار» (4/ 368) ، وابن أبي عاصم في «السنة» رقم (1550، 1551) ، والطبراني في «الكبير» رقم (5026) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 205- بتحقيقنا) .
(2) تقدم في أول التفسير.(2/332)
وقوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ، قد تقدَّم القولُ في تفسير «الكَلاَلَةِ» في صَدْر السورةِ، وكان أمر الكَلاَلَةِ عنْدَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب (رضي اللَّه عنه) مُشْكِلاً، واللَّه أعلم، ما الذي أَشْكَلَ عَلَيْهِ مِنْهَا، وقول النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَهُ: «تَكْفِيكَ مِنْهَا آيَةُ الصَّيْفِ» «1» الَّتِي نَزَلَتْ فِي آخرِ سُورة «النساء» بيانٌ فيه كفايةٌ، قال كثيرٌ من الصحابة: هذه الآية هي من آخر ما نَزَلَ.
وقوله سبحانه: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا: التقدير: لئلاَّ تضِلُّوا، وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، سبحانه، وصلَّى اللَّه على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آلِهِ وصَحْبِهِ، وسلَّم تسليما.
__________
(1) أخرجه مسلم (3/ 1236) ، كتاب «الفرائض» ، باب ميراث الكلالة (9/ 1617) ، بلفظ: ألا تكفيك آية الصيف التي في أواخر سورة النساء، وأخرجه أبو داود (3/ 120) ، كتاب «الفرائض» ، باب من كان ليس له ولد وله أخوات (2889) ، بلفظ: تجزيك آية الصيف.(2/333)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
تفسير سورة المائدة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هذه السّورة مدنيّة بإجماع
[سورة المائدة (5) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)
قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ... الآية عامَّة في الوفاءِ بالعقودِ، وهي الرّبوط في القول، كان ذلك في تعاهُدٍ على بِرٍّ أوْ في عُقْدَةِ نِكاحٍ، أوْ بَيْعٍ، أو غيره، فمعنى الآيةِ أمْرُ جميعِ المؤمنينَ بالوَفَاءِ على عَقْدٍ جارٍ على رَسْم الشريعةِ، وفَسَّر بعض الناسِ لفْظَ «العقود» بالعُهُودِ، وقال ابنُ شِهَابٍ: قرأْتُ كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ «1» حِينَ بَعَثهُ إلى نَجْرَانَ، وفِي صَدْرِهِ: «هَذَا بَيَانٌ مِنَ الله ورسوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، فكتب الآياتِ إلى قوله: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ «2»
__________
(1) هو: عمرو بن حزم بن زيد بن لوذان بن عمرو بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار. أبو الضحاك. الأنصاري. الخزرجي ثم النجاري. أمه من بني ساعدة.
قال ابن حجر في «الإصابة» : شهد الخندق وما بعدها، واستعمله النبيّ على نجران، روى عنه كتابا كتبه له فيه الفرائض والزكاة والديات وغير ذلك، أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن حبان، روى عنه ابنه محمد وجماعة، توفي بالمدينة سنة (51) وقيل (54) : أنه توفي بالمدينة في خلافة عمر بن الخطاب.
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (4/ 214) ، «الإصابة» (4/ 293) ، «الثقات» (3/ 267) ، «الاستيعاب» (3/ 1172) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 404) ، «بقي بن مخلد» (297) ، «الاستبصار» (73) ، «الجرح والتعديل» (6/ 224) ، «التاريخ الكبير» (6/ 305) ، «تقريب التهذيب» (2/ 68) ، «تهذيب التهذيب» (2/ 68) ، «تهذيب الكمال» (2/ 1029) ، «التحفة اللطيفة» (3/ 295) ، «عنوان النجابة» (138) ، «الكاشف» (326) ، «الأعلام» (5/ 76) ، «الطبقات الكبرى» (1/ 267) ، «التاريخ لابن معين» (2/ 153) ، «بقي بن مخلد» (297) ، «العبر» (58) ، «معجم الثقات» (314) .
(2) أخرجه النسائي (8/ 57) ، كتاب «القسامة» ، باب ذكر حديث عمرو بن حزم في العقول واختلاف الناقلين له، حديث (4853) ، والدارمي (1/ 381) - كتاب الزكاة» ، باب في زكاة الغنم، وأبو داود في «المراسيل» رقم (258، 259) ، والحاكم (1/ 395- 397) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 34) ، والبيهقي (4/ 89) كتاب «الزكاة» ، باب كيف فرض الصدقة، وابن عبد البر في «التمهيد» (7/ 339- 341) ، وابن حبان (793- موارد) ، وابن حزم في «المحلى» (10/ 411) كلهم من طريق-(2/334)
[المائدة: 4] .
قال ع «1» : وأصوبُ ما يقال في هذه الآية: أنْ تعمَّم ألفاظها بغايةِ مَا تَتَنَاوَلُ، فيعمَّم لفظ المؤمنينَ في مُؤْمِنِي أهْلِ الكتابِ، وفي كُلِّ مظهر للإيمانِ، وإنْ لم يبطنه، وفي المؤمنين حقيقة، ويعمّم العُقُودِ في كلِّ ربطٍ بقَوْلٍ موافِقٍ للحق والشَّرْع.
وقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ اختلف في معنى بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ.
فقال قتادة وغيره: هي الأنعامُ كلُّها.
ع «2» : كأنه قال: أُحِلَّتْ لكم الأنعامُ. وقال الطبريُّ «3» : قال قومٌ: بهيمةُ الأنعامِ: وحْشُهَا، وهذا قولٌ حَسَنٌ وذلك أنَّ الأنعامَ هي الثمانيةُ الأزواجِ، وانضاف إلَيْهَا مِنْ سائر الحَيَوان ما يُقَالُ له: أنعامٌ بمجموعِهِ معها، والبهيمة في كلامِ العربِ: ما أبهم من جهة نقص النّطق والفهم.
__________
- سليمان بن داود، حدثني الزهري، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده.
وصححه ابن حبان، والحاكم، ووافقه الذهبي.
وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على «المحلى» (1/ 82) : وهو إسناد صحيح، وأخرجه مالك (2/ 849) كتاب «العقول» ، باب ذكر العقول، حديث (1) ، والشافعي في «الأم» (8/ 571) ، والنسائي (8/ 60) كتاب القسامة، والبيهقي (8/ 73، 82) كلهم من طريق عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه «أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن حزم في العقول: «أن في النفس مائة من الإبل، وفي الأنف إذا أوعى جدعا مائة من الإبل، وفي المأمومة ثلث الدية، وفي الجائفة مثلها، وفي العين خمسون، وفي الرجل الواحدة خمسون، وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل، وفي السن خمس، وفي الموضحة خمس» .
وأخرجه عبد الرزاق مختصرا (9/ 316) رقم (17358) من طريق معمر، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن جده. ومن طريق عبد الرزاق أخرجه الدارمي (1/ 381) ، وابن خزيمة (4/ 19) رقم (2269) ، والدارقطني (3/ 210) رقم (379) ، وتابع معمرا ابن إسحاق.
أخرجه البيهقي في «دلائل النبوة» (5/ 413- 415) .
وأخرجه النسائي (8/ 59) كتاب «القسامة» ، من طريق ابن وهب، ثنا يونس بن يزيد، عن الزهري قال:
قرأت كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن حزم، وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم.
وأخرجه الدارقطني (3/ 209) رقم (377) من طريق محمد بن عمارة، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم قال: كان في كتاب عمرو بن حزم ... فذكره.
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 144) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 144) .
(3) ينظر: الطبري (4/ 389) . [.....](2/335)
وقوله: إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ: استثناءُ ما تُلِيَ في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ... [المائدة: 3] الآية: «وما» في موضعِ نَصْبٍ على أصْل الاستثناءِ.
وقوله سبحانه: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ ... نُصِبَ «غير» على الحال من الكافِ والميمِ في قوله: أُحِلَّتْ لَكُمْ، وهو استثناءٌ بعد استثناءٍ.
قال ص: وهذا هو قولُ الجمهورِ، واعترض بأنَّه يلزم منه تقييدُ الحِلِّيَّةِ بِحَالَةِ كَوْنهم غِيْرَ محلِّين الصَّيْدَ، وهم حُرُمٌ، والْحِلِّيَّةُ ثابتةٌ مطلقاً.
قال ص: والجوابُ عندي عَنْ هذا أنَّ المفهوم هنا مَتْرُوكٌ لدليلٍ خَارجيٍّ، وكثيرٌ في القرآن وغيره من المَفْهُومَاتِ المتروكَةِ لِمُعارِضٍ، ثم ذكر ما نقله أبو حَيَّان/ من الوُجُوه التي لم يَرْتَضِهَا.
م: وما فيها من التكلُّف، ثم قال: ولا شَكَّ أنَّ ما ذكره الجمهورُ مِنْ أنَّ «غَيْر» :
حالٌ، وإنْ لزم عنه الترك بالمفهومِ، فهو أولى من تَخْرِيجٍ تَنْبُو عنه الفُهُوم. انتهى.
وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ: تقويةٌ لهذه الأحكامِ الشرعيَّة المخالِفَةِ لِمعهود أحكامِ الجاهليَّة، أي: فأنت أيها السَّامِعُ لِنَسْخِ تلك التي عَهِدتَّ، تَنَبَّهْ، فإنَّ اللَّه الذي هو مَالِكُ الكُلِّ يحكُمُ ما يريدُ لا مُعقِّب لحُكْمه سُبْحانه.
قال ع «1» : وهذه الآيةُ مما تَلُوحُ فصاحتها، وكَثْرَةُ معانِيهَا على قلَّة ألفاظها لكلِّ ذِي بَصَر بالكلامِ، ولِمَنْ عنده أدنى إبْصَارٍ، وقد حَكَى النَّقَّاش أنَّ أَصْحَابَ الكِنْدِيِّ «2» قالوا للكنديِّ: أيُّهَا الحكيمُ، اعمل لنا مثْلَ هذا القرآن، فقال: نعم، أعْمَلُ لكم مِثْل بعضِهِ، فاحتجب أياماً كثيرةً، ثم خَرَج، فقال: واللَّهِ، ما أَقْدِرُ عليه، ولا يطيقُ هذا أحدٌ إني فتحْتُ المُصْحَفَ، فخرجَتْ سورةُ المَائِدَةِ، فنَظَرْتُ، فإذا هو قد أمر بالوفاء، ونهى عن
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 145) .
(2) يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي، أبو يوسف: فيلسوف العرب والإسلام في عصره، وأحد أبناء الملوك من كندة. نشأ في البصرة. وانتقل إلى بغداد، فتعلم واشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى والهندسة والفلك. وألف وترجم وشرح كتبا كثيرة. يزيد عددها على ثلاثمائة. ولقي في حياته ما يلقاه أمثاله من فلاسفة الأمم، فوشي به إلى المتوكل العباسي، فضرب وأخذت كتبه، ثم ردت إليه. وأصاب عند المأمون والمعتصم منزلة عظيمة وإكراما. قال ابن جلجل: «ولم يكن في الإسلام غيره احتذى في تواليفه حذو أرسطاطاليس» .
تنظر ترجمته في: «الأعلام» (8/ 195) (1769) ، «طبقات الأطباء» (1/ 206- 214) ، «لسان الميزان» (6/ 305) .(2/336)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
النُّكْثِ، وحلَّل تحليلاً عامًّا، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قُدْرته وحِكْمته في سَطْرَيْنِ، ولا يستطيعُ أحدٌ أنْ يأتِيَ بهذا إلّا في أجلاد.
[سورة المائدة (5) : آية 2]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ: خطابٌ للمؤمنين حقًّا ألاَّ يتعدَّوْا حدودَ اللَّهِ فِي أمْرٍ من الأمُور، قال عطاء بنُ أبي رَبَاحٍ: شعائرُ اللَّه جمِيعُ ما أَمَرَ به سبحانَهُ، أوْ نهى عنه «1» ، وهذا قولٌ راجحٌ، فالشعائِرُ: جَمْعُ شَعِيرَةٍ، أيْ: قد أَشْعَرَ اللَّه أنَّها حَدُّهُ وطاعَتُهُ، فهي بمعنى مَعَالِمِ اللَّهِ.
وقوله تعالى: وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ: أي: لا تحلُّوه بقتالٍ ولا غَارَةٍ، والأظْهَرُ أنَّ الشهر الحرام أُرِيدَ به رَجَبٌ ليشتدَّ أمره، وهو شَهْرٌ كان تحريمُهُ مختصًّا بقريشٍ، وكانَتْ تعظِّمه، ويُحتملُ أنه أريد به الجنْسُ في جميع الأشهر الحُرُمِ.
وقوله سبحانه: وَلَا الْهَدْيَ: أي: لا يستحلُّ وَلاَ يُغَارُ عليه، ثم ذَكَر المُقَلَّدَ مِنْهُ تأكيداً ومبالغةً في التنبيه علَى الحُرْمَة في التَّقْليد، هذا معنى كلامِ ابْنِ «2» عبَّاس.
وقال الجمهورُ: الهَدْيُ عامٌّ في أنواع ما يهدى قُرْبَةً، والقَلاَئِدُ: ما كانَ النَّاس يتقلَّدونه من لِحَاءِ السَّمُرِ وغيره أَمَنَةً لهم.
وقال ص: وَلَا الْقَلائِدَ: أي: ولا ذَوَاتِ القلائدِ، وقيل: بل المرادُ القلائدُ نَفْسُها مبالغةً في النهْيِ عن التعرُّض للهدْيِ. انتهى.
وقوله تعالى: وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ: أيْ: قاصِدِينَهُ مِنَ الكفَّار المعنى: لا تحلُّوهم، فَتْغيِرُونَ عليهم، وهذا منسوخٌ ب «آية السَّيْف» بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] فكلُّ ما في هذه الآية ممّا يتصوّر في مسلم حاجّ، فهو
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 392) برقم (10941) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 126) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 450) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 395) برقم (10951) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 449) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.(2/337)
مُحْكَمٌ، وكلُّ ما كان منها في الكُفَّار، فهو منُسُوخٌ.
وقوله سبحانه: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً، قال فيه جمهور المفسِّرين:
معناه: يبتغونَ الفَضْلَ من الأرباحِ في التِّجَارة، ويبتغُونَ مَعَ ذلك رِضْوَانَهُ في ظَنِّهم وطَمَعهم، وهذه الآيةُ نزلَتْ عام الفَتْحِ، وفيها استئلافٌ مِنَ اللَّهِ سبحانه للعَرَبِ، ولُطْفٌ بهم لِتَنْبسطَ النفوسُ بتداخُلِ النَّاس، ويَرِدُونَ المَوْسِمَ، فيسمَعُونَ القرآن، ويدخل الإيمانُ في قلوبهم، وتَقُوم عليهم الحُجَّة كالذي كان، ثُمَّ نَسَخَ اللَّه ذلك كلَّه بعد عَامٍ في سَنَةِ تِسْعٍ إذْ حَجَّ أبو بَكْرٍ (رضي اللَّه عنه) ، ونودِيَ في الناسِ بسورة «بَرَاءَةَ» .
وقوله تعالى: وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا: مجيءُ/ إباحة الصَّيْد عَقِبَ التشْدِيدِ فيهِ حَسَنٌ في فَصَاحة القَوْل.
وقوله سبحانه: فَاصْطادُوا: أمرٌ، ومعناه الإباحةُ بإجماع.
وقوله تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ: معناه: لا يُكْسِبَنَّكم، وجَرِمَ الرجُلُ: معناه: كَسَبَ، وقال ابن عبَّاس: معناه: لا يَحْمِلَنَّكم «1» ، والمعنى: متقارِبٌ، والتفسيرُ الذي يخُصُّ اللفظةَ هو معنى الكَسْبِ.
وقوله تعالى: شَنَآنُ قَوْمٍ: الشَّنَآنُ: هو البُغْض، فأما مَنْ قرأ شَنَآنُ- بفتح النون-، فالأظهرُ فيه أنه مصدَرٌ كأنَّه قَالَ: لا يُكْسِبَنَّكم بُغْضُ قومٍ مِنْ أجْل أَنْ صَدُّوكم عدواناً عليهم وظلماً لهم، وهذه الآيةُ نزلَتْ عام الفَتْحِ سَنَة ثمانٍ، حين أراد المسْلمونَ أنْ يَسْتَطِيلوا على قريشٍ، وألفافِهَا المتظَاهِرِينَ على صدّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأصْحَابِهِ عَامَ الحُدَيْبِيَةِ، وذلك سنَةَ سِتٍّ من الهجرةِ، فحصَلَتْ بذلك بِغْضَةٌ في قلوب المؤمنين، وحيكة للكُفَّار، فنُهِيَ المؤمنُونَ عَنْ مكافأتهم، وإذْ للَّه فيهمْ إرادةُ خَيْرٍ، وفي علمِهِ أنَّ منهم مَنْ يُؤْمِنُ كالذي كان.
وقرأ أبو عمرو «2» ، وابن كَثِيرٍ: «إنْ صَدُّوكُمْ» ، ومعناه: إنْ وقع مثل ذلك في
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 402) برقم (10993) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 8) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 148) .
(2) وحجتهما: أن الآية نزلت قبل فعلهم وصدهم، قال اليزيدي: معناه: لا يحملنكم بغض قوم أن تعتدوا إن صدوكم.
ينظر: «السبعة» (242) ، و «الحجة» (3/ 212) ، و «حجة القراءات» (220) ، والعنوان، «إعراب القراءات» (1/ 142) ، و «شرح شعلة» (347) ، و «شرح الطيبة» (225) ، و «إتحاف» (1/ 529) ، و «معاني القراءات» (1/ 325) .(2/338)
المُسْتقبل، وقراءةُ الجمهور أمْكَنُ.
ثم أمر سبحانه الجَمِيعَ بالتعاوُنِ عَلَى البِرِّ والتقوى، قال قوم: هما لَفْظَانِ بمعنًى، وفي هذا تَسَامُحٌ، والعُرْفُ في دلالةِ هَذَيْنِ أنَّ البِرَّ يَتَنَاوَلُ الواجبَ والمَنْدُوبَ، والتقوى:
رعايةُ الوَاجِبِ، فإنْ جعل أحدهما بَدَلَ الآخَرِ، فبتجوُّز.
قُلْتُ: قال أحمدُ بْنُ نصر الداوديّ: قال ابنُ عباس: البِرُّ ما أُمِرْتَ به، والتقوى ما نُهِيتَ عنه «1» . انتهى، وقد ذكرنا في غَيْرِ هذا الموضعِ أنَّ لفظ التقوى يُطْلَقُ على معانٍ، وقد بيَّناها في آخر «سُورة النُّور» ، وفي الحديثِ الصحيحِ: «وَاللَّهُ فِي عَوْنِ العَبْدِ مَا كَانَ العَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» «2» ، قال ابنُ الفَاكهانِيِّ، عنْد شرحه لهذا الحديث: وقد رُوِّينَا في بعضِ الأَحاديثِ: «مَنْ سعى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ المُسْلِمِ، قُضِيَتْ لَهُ أَوْ لَمْ تُقْضَ- غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَكُتِبَ لَهُ بَرَاءَتَانِ: بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ، وَبَرَاءَةٌ مِنَ النِّفَاقِ» «3» ، انتهى مِن «شَرْح الأربعين» حديثاً.
ثم نهى تعالى عن التعاوُنِ عَلَى الإثْمِ والعُدْوَانِ، ثم أمر بالتقوى، وتوعّد توعّدا
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 406) .
(2) أخرجه مسلم (4/ 2074) ، كتاب «الذكر والدعاء» ، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، حديث (38/ 2699) ، والترمذي (4/ 26) كتاب «الحدود» ، باب ما جاء في الستر على المسلم، حديث (1425) ، (4/ 287- 288) كتاب البر والصلة» ، باب ما جاء في السترة على المسلم، حديث (1930) ، وأبو داود (2/ 704) كتاب «الأدب» ، باب في المعونة للمسلم، حديث (4946) ، وابن ماجة (1/ 82) المقدمة: باب فضل العلماء والحث على طلب العلم، حديث (225) ، وأحمد (2/ 202) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 119) ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 221- بتحقيقنا) كلهم من طريق الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مرفوعا.
قال النووي في «شرح مسلم» (9/ 28) .
ومعنى (نفس الكربة) : أزالها.
وفيه: فضل قضاء حوائج المسلمين، ونفعهم بما تيسر من علم أو مال أو معاونة أو إشارة بمصلحة أو نصيحة وغير ذلك، وفضل الستر على المسلمين، وقد سبق تفصيله، وفضل إنظار المعسر، وفضل المشي في طلب العلم، ويلزم من ذلك الاشتغال بالعلم الشرعي، بشرط أن يقصد به وجه الله تعالى، وإن كان هذا شرطا في كل عبادة، لكن عادة العلماء يقيدون هذه المسألة به لكونه قد يتساهل فيه بعض الناس، ويغفل عنه بعض المبتدئين ونحوهم.
(3) ذكره ابن عراق في «تنزيه الشريعة» (2/ 143) ، وعزاه للمنذري في «جزء غفران الذنوب» من حديث ابن عباس وقال: فيه أحمد بن بكار المصيصي، قال الحافظ في «اللسان» : عندي أنه أحمد بن بكر البالسي خبطوا في نسبه، والحديث موضوع.(2/339)
مجملاً، قال النوويُّ: وعَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ «1» : «أنّه أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقَالَ: جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ البِرِّ والإِثْمِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: استفت قَلْبَكَ البِرُّ: مَا اطمأنت إلَيْهِ النَّفْسُ، واطمأن إلَيْهِ القَلْبُ، والإثْمُ: مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ، وَتَردَّدَ فِي الصَّدْرِ، وَإنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ» «2» حديثٌ حَسَنٌ رَوَيْنَاه في مسنَدِ أحمَدَ، يعني: ابْنَ حَنْبَلٍ، والدَّارِمِي وغيرهما، وفي «صحيح مسلم» ، عن النَّوَّاس بْنِ سَمْعَان، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «البِرُّ حُسْنُ الخُلُقَ، والإثْمُ مَا حَاكَ فِي نَفْسِكَ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ» «3» . انتهى.
__________
(1) وابصة بن معبد بن مالك بن عبيد. وقيل: وابصة بن معبد بن عتبة بن الحارث. أبو سالم. الأسدي.
قال ابن الأثير: له صحبة، سكن الكوفة ثم تحول إلى الرقة فأقام بها إلى أن مات بها. روى عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أحاديث. روى عنه ابناه عمرو، وسالم، والشعبي، وزياد بن أبي الجعد وغيرهم ... وتوفي وابصة بالرقّة، وقبره عند منارة المسجد الجامع بالرافقة.
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (5/ 427) ، «الإصابة» (6/ 309) ، الثقات» (3/ 431) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 125) ، «الاستيعاب» (4/ 1563) ، «بقي بن مخلد» (179) ، «تقريب التهذيب» (2/ 328) ، «تهذيب التهذيب» (11/ 100) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1457) ، «الكاشف» (3/ 232) ، «الجرح والتعديل» (9/ 47) ، «الطبقات الكبرى» (1/ 2928) ، «التاريخ الكبير» (8/ 187) ، «حلية الأولياء» (2/ 23) ، «البداية والنهاية» (5/ 88) .
(2) أخرجه أحمد (4/ 228) ، والدارمي (2/ 245- 246) كتاب «البيوع» ، باب دع ما يربك إلى ما لا يريبك» ، والطبراني في «الكبير» (22/ 147- 148) رقم (402) من حديث وابصة.
(3) أخرجه مسلم (4/ 1981) ، كتاب «البر والصلة» ، باب تفسير البر والإثم، حديث (14/ 2553) ، والبخاري في «الأدب المفرد» رقم (295) ، والترمذي (4/ 597) ، كتاب «الزهد» ، باب ما جاء في البر والإثم، حديث (2389) ، وأحمد (4/ 182) ، وابن حبان (2397) ، والبيهقي (10/ 192) ، وفي «شعب الإيمان» ، (5/ 457) رقم (7272) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 474- بتحقيقنا) كلهم من طريق معاوية بن صالح، عن عبد الرّحمن بن جبير بن نفير، عن أبيه، عن النواس بن سمعان به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه أحمد (4/ 182) ، والدارمي (2/ 322) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (5/ 457) رقم (7273) من طريق صفوان بن عمرو، عن يحيى بن جابر القاضي، عن النواس بن سمعان به.
وللحديث شاهد من حديث أبي ثعلبة الخشني: أخرجه أحمد (4/ 194) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 30) ، والطبراني في «الكبير» (22/ 219) عنه مرفوعا بلفظ: «البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما لم تسكن إليه النفس ويطمئن إليه القلب» .(2/340)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
[سورة المائدة (5) : آية 3]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
وقوله تعالَى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ... الآية: تعديدٌ لما يتلى على الأمَّة ممَّا استثنَي من بهيمة الأَنْعَامِ، وَالدَّمُ: معناه: المَسْفُوح، وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ: مقتض لشخمه بإجماع، وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: قد تقدّم، وَالْمُنْخَنِقَةُ: معناه: التي تموت حنقا، وَالْمَوْقُوذَةُ: التي ترمى أو تُضْرَبُ بِعَصاً، وشبهها، وَالْمُتَرَدِّيَةُ: هي التي تتردى مِنْ عُلْوٍ إلى سُفْلٍ، فتموتُ، وَالنَّطِيحَةُ: فَعِيلَةٌ بمعنى مَفْعُولَةٍ، وَما أَكَلَ السَّبُعُ: يريد كُلَّ ما افترسَهُ ذو نَابٍ، وأظْفَارٍ من الحَيَوان، وكانَتِ العربُ تأكل هذه المذْكُورات، ولم تَعْتَقِدْ ميتةً إلا ما مَاتَ بالوَجَعِ ونحو ذلك.
واختلف العلماءُ في قوله تعالى: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ، فقال ابنُ عباس، وجمهورُ العلماء: الاستثناءُ من هذه المذْكُوراتِ، فما أُدْرِكَ مِنْهَا يَطْرِفُ بِعَيْنٍ أو يُحَرِّكُ ذَنَباً «1» ، وبالجُمْلة/: ما يتحقَّق أنه لم تَفِضْ نفسه، بل له حياةٌ، فإنه يذكى على سُنَّة الذَّكَاة، ويُؤْكَلُ، وما فَاضَتْ نفسه، فهو الميتَةُ، وقال مالكٌ مرَّةً بهذا القَوْلِ، وقال أيضاً، وهو المشهور عنه، وعن أصحابه مِنْ أهْل المدينة: إنَّ قوله تعالى: إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ: معناه: مِنْ هذه المذْكُورات في وَقْتٍ تَصِحُّ فيه ذَكاتُها، وهو ما لم تنفذ مقاتِلها، ويتحقَّق أنها لا تَعِيشُ، ومتى صارَتْ في هذا الحَدِّ، فهي في حُكْمِ المَيْتَة، فالاستثناءُ عند مالك مُتَّصِلٌ كقول الجمهور، لكنه يُخَالِفُ في الحَالِ التي يَصِحُّ فيها ذَكاةُ هذه المذكورات واحتج لمالِكٍ بأنَّ هذه المذكوراتِ لو كَانَتْ لا تحرم إلاَّ بموتها، لكان ذكْرُ المَيْتَة أولاً يُغْنِي عنها، ومِنْ حُجَّة المخالِفِ أنْ قَالَ: إنما ذُكِرَتْ بسبب أنَّ العرب كانَتْ تعتقدُ أنَّ هذه الحوادِثَ كالذَّكَاة، فلو لم يُذْكَرْ لها غَيْرُ الميتةِ، لظَنَّتْ أنها ميتةُ الوَجَعِ حَسْبما كانَتْ عليه، والذَّكَاةُ في كلام العرب: الذَّبْح.
وقوله سبحانه: وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ: عطفٌ على المحرَّمات المذْكُورة، والنُّصُب: حجارةٌ تُنْصَبُ، يذبحون علَيْها، قال ابنُ جُرَيْجٍ: وليسَتِ النُّصُب بأصنامٍ فإن الصَّنَمُ يُصوَّر ويُنْقَشُ، وهذه حجارةٌ تُنْصَبُ، وكَانَتِ العربُ تَعْبُدُها «2» ، قال ابنُ زَيْدٍ: مَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ: شيْءٌ واحدٌ «3» «4» .
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 411) برقم (11036) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 151) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 414) برقم (11052) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 152) . [.....]
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 415) برقم (11061) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 152) .
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 153) .(2/341)
قال ع: ما ذُبِحَ على النصبِ جُزْءٌ مِمَّا أهِلَّ به لغير اللَّه، لكنْ خُصَّ بالذِّكْر بعد جنْسِهِ لشهرة أمْرِه.
وقوله سبحانه: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ: حرَّم سبحانه طَلَبَ القِسْمِ، وهو النَّصِيبِ، أوِ القَسْمِ- بفتح القاف-، وهو المصدَرُ بالأزلامِ، وهي سهَامٌ، قال صاحبُ «سلاح المؤمن» : والاستقسامُ: هُوَ الضَّرْب بها لإخراجِ مَا قُسِمَ لهم، وتَمْيِيزِهِ بزَعْمهم.
انتهى، وأزْلاَمُ العَرَبِ على أنواعٍ منْها الثلاثةُ الَّتي كان يتَّخِذُها كلُّ إنسانٍ لنفسه على أحدها «افعل» ، وعلى الآخر «لاَ تَفْعَلْ» ، وثالثٌ مهملٌ لا شيْءَ عليه، فيجعلها في خريطَةٍ معه، فإذا أراد فِعْلَ شيءٍ أدخَلَ يده، وهي متشابهَةٌ فأخْرَجَ أحدها، وَأْتَمَرَ له، وانتهى بحسب ما يَخْرُجُ له، وإنْ خرج القِدْحُ الذي لا شَيْءَ فيه، أعاد الضَّرْبَ.
وقوله سبحانه: ذلِكُمْ فِسْقٌ: إشارةٌ إلى الاِستقسامِ بالأزلام.
وقوله تعالى: الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ: معناه عند ابن عباس وغيره:
مِنْ أنّ تَرْجِعُوا إلى دينهم «1» ، وظاهر أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمْرِ أصحابِهِ، وظهور الدِّين يقتضي أنَّ يَأْسَ الكُفَّارِ عنِ الرجوعِ إلى دينهم قد كَانَ وَقَعَ مُنْذُ زمانٍ، وإنما هذا اليأسُ عندي من اضمحلال أَمْرِ الإسلام، وفَسَادِ جمعه لأن هذا أمْرٌ كان يترجَّاه مَنْ بَقِيَ من الكفَّار ألا ترى إلى قول أخِي صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ «2» في يَوْمِ هَوَازِنَ حتى انكشف المُسْلمون، وظنَّها هزيمةً: «أَلاَ بَطَلَ السِّحْرُ اليَوْمَ» ، إلى غير هذا مِنَ الأَمثلَة، وهذِهِ الآيةُ في قول الجمهورِ عُمَرَ بْنِ الخطابِ «3» وغيره: نَزَلَتْ في عَشِيَّةِ يَوْمِ عَرَفَةَ يَوْمَ الجمعةِ، وفي ذلك اليَوْمِ امحى أمْرُ الشِّرْكِ مِنْ مَشَاعِرِ الحَجِّ، ولم يحضُرْ من المشركين المَوْسِمَ بَشَرٌ، فيحتملُ قوله تعالى:
الْيَوْمَ: أنْ تكون إشارةً إلى اليومِ بعينه، ويحتملُ أنْ تكون إشارةً إلى الزَّمَنِ والوَقْت، أيْ: هذا الأوانُ يَئِسَ الكفَّار من دينكم.
وقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا/: يعمُّ سائر الكفَّار من العرب وغيرهم وهذا يقوِّي أنَّ اليأْس إنما هو مِنَ انحلال أمْرِ الإسلام، وأمر سبحانه بخَشْيَته الَّتي هِيَ رأس كلّ عبادة كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «ومفتاح كلّ خير» .
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 418) برقم (11079) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 454) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس.
(2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 442) .
(3) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 442) .(2/342)
وقوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ: تحتملُ الإشارةَ ب «اليَوْم» ما قد ذكرناه، حَكَى الطبريُّ «1» أنَّ النبيَّ- عليه السلام- لَمْ يَعِشْ بعد نزول هذه الآية إلاَّ إحدى وثمانِين ليلة، والظاهر أنه عاش صلّى الله عليه وسلّم أكثر بأيامٍ يسيرةٍ، قُلْتُ: وفي سماعِ ابنِ القاسِمِ، قال مالك:
بلَغَنِي أنَّ رسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ في اليومِ الذي تُوُفِّيَ فِيهِ، وَقَفَ على بابه، فقال: «إنِّي لاَ أُحِلُّ إلاَّ مَا أَحَلَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَلاَ أُحَرِّمُ إلاَّ مَا حَرَّمَ اللَّهُ في كِتَابِهِ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ، ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ، اعملا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ فَإنِّي لاَ أُغْنِي عَنْكُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً» ، قال ابن رُشْدٍ: هذا حديثٌ يدلُّ على صحَّته قولُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: مَّا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ، وقال تعالى: تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: 89] ، فالمعنى في ذلك: أنَّ الله عز وجل نَصَّ على بعض الأحكامِ، وأجْمَلَ القَوْلَ في بعضها، وأحَالَ علَى الأدلَّة في سائِرِها بقوله: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83] فبيَّن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما أجمله اللَّه في كتابه كما أمره حيثُ يقول: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] ، فما أحلّ صلّى الله عليه وسلّم، أو حرَّم، ولم يوجَدْ في القُرآن نَصًّا، فهو مما بيَّن مِنْ مُجْمَلِ القُرآن، أو علمه بما نُصِبَ من الأدلَّة فيه، فهذا معنى الحديث، والله أعلم، فما ينطق صلّى الله عليه وسلّم عَنِ الهوى إنْ هو إلاَّ وحْيٌ يوحَى. انتهى من «البيان والتحصيل» .
وفي «الصحيح» «أنَّ عمرَ بْنَ الخطَّابِ، قال لَهُ يَهُودِيٌّ: آيَةٌ في كتابكم تقرءونها، لو علَيْنا نزلَتْ، لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ عيداً، فقال له عُمَرُ: أيُّ آيَة هِيَ؟ فَقَالَ: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، فقالَ له عُمَرُ: قَدْ عَلِمْنَا ذَلِكَ اليَوْمَ نَزَلَتْ على رَسُولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو واقف بعرفة يوم الجمعة» «2» .
__________
(1) ينظر: الطبري (4/ 418) .
(2) أخرجه البخاري (1/ 129) كتاب «الإيمان» ، باب زيادة الإيمان ونقصانه، حديث (45) ، وفي (7/ 712) كتاب «المغازي» ، باب حجة الوداع، حديث (4407) ، وفي (8/ 119) كتاب «التفسير» ، باب الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، حديث (4606) ، وفي (13/ 259) كتاب «الاعتصام» : حديث (7268) ، ومسلم (4/ 2312- 2313) كتاب «التفسير» ، حديث (3- 5/ 3017) ، والترمذي (5/ 250) كتاب «التفسير» ، باب سورة المائدة، حديث (3043) ، والنسائي (5/ 251) كتاب «الحج» ، باب ما ذكر في يوم عرفة، و (8/ 114) كتاب «الإيمان» ، باب زيادة الإيمان، وأحمد (1/ 28) ، والحميدي (31) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» (ص- 40) رقم (30) ، والطبري في «تفسيره» (4/ 421) رقم (11098) ، وابن حبان (185) ، والآجري في «الشريعة» (ص 105) ، والبيهقي (5/ 118) كتاب «الحج» ، كلهم من طريق قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب به.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
والحديث: ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 456) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.(2/343)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
قال ع «1» : فَفِي ذلك اليَوْم عِيدَانِ للإسلامِ، إلى يومِ القِيامةِ، وإتمامُ النعمة هو في ظُهُور الإسلام، ونُورِ العقائدِ، وكمالِ الدِّينِ، وسعةِ الأحوالِ، وغيرِ ذلكَ ممَّا اشتملت عليه هذه المِلَّةُ الحنيفيَّة إلى دخولِ الجَنَّة، والخلودِ في رَحْمَةِ اللَّه سبحانه، جَعَلَنَا اللَّهُ مِمَّنْ شَمِلَتْهُ هذه النعمة.
وقوله سبحانه: وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً: يحتملُ الرِضَا في هذا الموضعِ أنْ يكون بمعنى الإرادةِ، ويحتملُ أنْ يكونَ صفةَ فِعْلٍ عبارةً عَنْ إظهارِ اللَّهِ إياه لأنَّ الرضَا من الصفاتِ المتردِّدة بَيْنَ صفاتِ الذَّاتِ وصفاتِ الأفعال، واللَّه تعالى قد أراد لنا الإسلامَ، وَرَضِيَهُ لنا، وَثَمَّ أشياء يريدُ اللَّه وقوعها ولا يَرْضَاها.
وقوله سبحانه: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ، يعني: مَنْ دَعَتْهُ ضرورةٌ إلى أكل الميتة، وسائر تلك المحرّمات، وسئل صلّى الله عليه وسلّم، متى تَحِلُّ الميتَةُ للنَّاسِ؟ فَقَالَ: «إذَا لَمْ يَصْطَبِحُوا، وَلَمْ يَغْتَبِقُوا «2» ، وَلَمْ يَحْتَفِئُوا «3» بَقْلاً «4» » . والمخمَصَةُ: المجاعَةُ التي تخمص فيها البُطُونُ، أي:
تَضْمُرُ.
وقوله سبحانه: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ هو بمعنى: غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ [البقرة: 173] وقد تقدَّم تفسيره.
قال ص: متجانف: أي: مائلٌ منحرفٌ. انتهى، وقد تقدّم في «البقرة» .
[سورة المائدة (5) : آية 4]
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)
وقول تعالى: يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ: سببُ نزولها أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم/ لمّا أمر بقتل
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 154) .
(2) تفتعلوا من الغبوق، وهو شرب آخر النهار مقابل الصّبوح.
ينظر: «النهاية» (3/ 341) .
(3) قال أبو عبيد: هو من الحفأ، مهموز مقصور، وهو أصل البرديّ الأبيض الرطب منه، وقد يؤكل. يقول:
ما لم تقتلعوا هذا بعينه فتأكلوه. ينظر: «النهاية» (1/ 411) .
(4) أخرجه أحمد (5/ 218) ، والحاكم (4/ 125) ، والبيهقي (9/ 356) من طريق حسان بن عطية، عن أبي واقد الليثي به.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين. ولم يخرجاه.
وقال الذهبي: فيه انقطاع.(2/344)
الكلابِ. سأله عاصمُ بنُ عَدِيٍّ وغيره، مَاذَا يَحِلُّ لَنَا مِنْ هَذِهِ الكِلابِ» «1» .
قال ع «2» : وظاهر الآية أنَّ سائلاً سأل عمَّا يحلُّ للنَّاسِ من المَطَاعِمِ لأنَّ قوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ ليس بجوابٍ عمَّا يحِلُّ للناسِ اتخاذه من الكلاَبِ إلاَّ أنْ يكون مِنْ باب إجَابَةِ السائلِ بأكثر ممَّا سأَلَ عنه، وهو موجود كثيرا من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والطَّيِّبُ:
الحَلاَل.
وقوله سبحانه: وَما عَلَّمْتُمْ: أي: وصَيْدُ ما علَّمتم، قال الضَّحَّاك وغيره: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ: هي الكلاَبُ خاصَّةٌ.
قال العِرَاقِيُّ في مُكَلِّبِينَ: أصحاب أَكْلُبٍ لها مُعَلِّمين. انتهى، وأعلى مراتِبِ التَّعْلِيمِ، أنْ يُشْلى الحَيَوانُ فَيَنْشَلِي، ويدعى فَيُجِيب، ويُزْجَر بَعْد ظَفَرِهِ بالصَّيْد، فينزجر، وجوارِحُ: جمع جَارِحٍ، أي: كاسب، يقال: جَرَحَ فلانٌ، واجترح إذا اكتسب ومنه قوله تعالى: وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام: 60] ، أي: ما كَسَبْتُمْ مِنْ حسنةٍ وسيئةٍ.
قال ع «3» : وقرأ «4» جمهورُ النَّاس: وَما عَلَّمْتُمْ- بفتح العين واللام-، وقرأ ابن عبّاس ومحمّد ابن «5» الحنفيَّة: «عُلِّمْتُمْ» - بضم العين وكسر اللام-: أي: من أمرِ الجوارحِ، والصَّيْدِ بِها، وقرأ جمهورُ النَّاس: «مُكَلِّبِينَ» - بفتح الكاف وشَدِّ اللام-، والمُكَلِّبُ: معلّم الكلاب، ومضرّيها، ويقال لِمَنْ يعلِّم غَيْرَ كَلْبٍ: مُكَلِّب لأنه يَرُدُّ ذلك الحيوان كالكَلْبِ.
وقوله سبحانه: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ: أيْ: تعلمونَهُنَّ الحِيلَةَ في الاصطياد، والتأتّي لتحصيل الحيوان، وهذا جزء مما علّمه الله الإنسان، ف «مِنْ» : للتبعيض.
وقوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ: يحتملُ: ممَّا أمسكْنَ، فلم يأكلْنَ منه شيئاً، ويحتملُ: ممَّا أمسكْن، وإن أكلْنَ منه، وبحَسَبِ هذا الاحتمالِ اختلف العلماءُ في جواز أكْلِ الصيد، إذا أكل منه الجارحُ.
وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ: أمر بالتسمية عند الإرسال، وذهب مالك
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 248) برقم (11138) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 154) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 458) ، وعزاه لابن جرير عن عكرمة.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 156) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 157) . [.....]
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 157) .
(5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 157) ، و «البحر المحيط» (3/ 445) ، و «الدر المصون» (2/ 489) .(2/345)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
وجمهورُ العلماء أنَّ التسمية واجبةٌ، مع الذِّكر، ساقطةٌ مع النِّسْيَان، فمن تركَهَا عامداً، فقد أفْسَدَ الذبيحةَ والصَّيدَ، ومن تَرَكها ناسياً، سمى عند الأكْلِ، وكانَتِ الذبيحةُ جائزةً، وفِقْهُ الصيْدِ والذبْحِ في معنى التسميةِ- واحدٌ.
ثم أمر سبحانه بالتقوى على الجُمْلة، والإشارة إلى ما تضمَّنته هذه الآياتُ مِنَ الأوامِرِ والنواهِي، وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ: وعيدٌ وتحذيرٌ.
[سورة المائدة (5) : آية 5]
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)
وقوله سبحانه: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ: إشارةٌ إلى الزَّمَنِ والأوانِ، والخِطَابُ للمؤمِنِينَ.
وقوله سبحانه: وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ: الطعامُ في هذه الآيةِ:
الذَّبَائِحُ كذا قال أهل التفسير.
واختلفوا في لَفْظَةِ طَعامُ.
فقال الجمهورُ: هي الذبيحةُ كلُّها، وقالتْ جماعة: إنما أحل لنا طعامهم من الذبيحةِ، أي: الحلال لهم منها لا ما لا يَحِلُّ لهم كَالطَّرِيفِ، وَالشُّحُومِ المحْضَةِ.
واختلف في لَفْظة أُوتُوا الْكِتابَ.
فقالتْ طائفة: إنما أحل لنا ذبائح الصُّرَحَاءِ منهم، لا مَنْ كان دخيلاً في هذَيْن الدِّينَيْنِ، وقال جمهورُ الأمَّة ابنُ عَبَّاس، والحسنُ، ومالكٌ، وغيرهم: إنَّ ذبيحةَ كُلِّ نصرانيٍّ حلالٌ، كان مِنْ بني تَغْلِبَ أو غيرهم «1» ، وكذلك اليهودُ، وتأوَّلوا قوْلَ اللَّهِ تعالى:
وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51] .
وقولُهُ سُبْحَانه: وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ: أي: ذبائحكم، فهذه رُخْصَة للمسلمين، لا لأهْلِ الكتابِ، لَمَّا كان الأمْرُ يقتضي أنَّ شيئاً قد تشرَّعنا فيه بالتَّذْكِيَةِ ينبغي لنا أنْ نَحْمِيَهُ منهم، رخَّص اللَّه تعالى لنا في ذلك دفعاً للمشقَّة بحَسَب التجاوُرِ.
وقوله سبحانه: وَالْمُحْصَناتُ: عطْفٌ على الطَّعَام المُحَلَّل، ذهب جماعة منهم
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 441) برقم (11231) عن ابن عباس، (11232) عن الحسن، وذكره ابن عطية (2/ 159) ، وابن كثير في «تفسيره» (2/ 18) .(2/346)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
مالكٌ إلى أنَّ المحصنات في هذه الآيةِ الحرائر «1» ، فمنعوا نِكَاحَ الأَمَةِ الكتابيَّة، / وذهب جماعةٌ إلى أنهنَّ العَفَائِفُ، فأجازوا نكاحَ الأَمَةِ الكتابيَّة، والأجورُ في الآية: المُهُورُ، وانتزع بعضُ العلماءِ من لفظ: آتَيْتُمُوهُنَّ أنَّه لا ينبغِي أنْ يدخل زَوْجٌ بزوجته إلاَّ بَعْدَ أنْ يَبْذُلَ من المَهْر ما يستحلّها به، ومُحْصِنِينَ: معناه: متزوِّجين على السُّنَّة.
وقوله سبحانه: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ: أي: بالأمور التي يَجِبُ الإيمان بها، وباقي الآية بيّن.
[سورة المائدة (5) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... الآية:
قال ابن العَرَبِيِّ: في «أحكامه» «2» : لا خِلاَفَ بَيْن العلماءِ أنَّ هذه الآيةَ مَدَنِيَّةٌ كما أنه لا خِلاَفَ أنَّ الوضوء «3» كانَ مَعْقُولاً قَبْلَ نزولها غَيْرَ مَتْلُوٍّ ولذلك قال علماؤُنا: إنَّ الوُضُوءَ كان بمكَّة سُنَّةً، ومعناه: كان مفْعولاً بالسُّنَّة، وقوله: إِذا قُمْتُمْ: معناه: إذا أردتّم القيام
__________
(1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 159) .
(2) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 558) .
(3) والوضوء بضم الواو: الفعل، وبفتحها: الماء المتوضّأ به، هذا هو المشهور، وحكي الفتح في الفعل، والضّمّ في الماء، وهو في اللغة: عبارة عن النّظافة والحسن والنّقاوة.
ينظر: «لسان العرب» (6/ 4854، 4855) ، «تهذيب اللغة» (12/ 99) ، «ترتيب القاموس المحيط» (4/ 622) .
واصطلاحا:
عرفه الحنفية بأنه: الغسل والمسح في أعضاء مخصوصة.
وعرّفه الشّافعيّة: استعمال الماء في أعضاء مخصوصة مفتتحا بنيّة.
وعرفه المالكية بأنه: إزالة النّجس، أو هو رفع مانع الصلاة.
وعرفه الحنابلة بأنه: استعمال الماء الطّهور في الأعضاء المخصوصة، على صفة مفتتحة بالنيّة.
ينظر: «الاختيار» (1/ 7) ، «مغني المحتاج» (1/ 47) ، «الخرشي» (1/ 20) ، «المبدع» (1/ 113) .
ولمّا كان العبد مكلّفا بالصّلاة التي هي ركن من أركان الدين، والصلاة مناجاة بين العبد وربه، ومن أجل ذلك يكون اللّائق بحال من يخاطب ربّه، ويناجيه أن يكون متطهرا من الأدران والأوزار.
وقد ورد في كثير من الأحاديث أن الذّنوب تنزل عن صاحبها مع كل قطرة من قطرات الوضوء، لذلك شرع الوضوء قبل الصلاة. -(2/347)
إلى الصلاة. انتهى.
قال زيدُ بْنُ أَسْلَمَ والسُّدِّيُّ: معنى الآية: إذا قمتُمْ من المضاجِعِ، يعني النَّوْمَ «1» ، والقصْدُ بهذا التأويلِ أنْ يعمَّ الأحداث بالذِّكْر، وفي الآية على هذا التأويلِ تقديمٌ وتأْخيرٌ، تقديره: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة من النومِ، أو جاء أَحدٌ منكم من الغائِطِ، أو لامَسْتُمُ النِّساء، يعني: الملامسة الصغرى فاغسلوا، وهنا تمَّتْ أحكامُ الحَدَثِ الأَصْغَرِ، ثم قال: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا، فهذا حُكْم نوعٍ آخر، ثم قال للنوعين جميعاً: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ ... فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً، وقال بهذا التأويل محمَّد بْنُ مَسْلمة «2» مِنْ أصحاب مالكٍ وغيره «3» .
وقال جمهورُ أهْلِ العِلْمِ: معنى الآيةِ: إذا قمتم إلى الصلاةِ مُحْدِثِينَ، وليس في الآيةِ على هذا تقديمٌ ولا تأْخيرٌ، بل ترتَّب في الآية حُكْمُ واجِدِ المَاءِ إلى قوله: فَاطَّهَّرُوا، ودخلَتِ الملامسةُ الصغرى في قولنا: «مُحْدِثِينَ» ، ثم ذكَرَ بعد ذلك بقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ... إلى آخر الآية حُكْمَ عادمِ الماءِ مِنَ النوعَيْنِ جميعاً، وكانت الملامسةُ هي الجماعَ.
وقال ص: إِذا قُمْتُمْ أي: إذا أردتُّم، وعبَّر بالقيامِ عن إرادَتِهِ لأنه مُسَبَّبٌ عنها. انتهى.
ومِنْ أحسن الأحادِيثِ وأصحِّها في فَضْل الطهارةِ والصَّلاة: ما رواه مالكٌ في «الموطَّإ» ، عن العَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرحمن «4» ، عن أبِيهِ، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
__________
- وقد فرض الوضوء ليلة الإسراء مع الصلاة، قبل الهجرة، وكان الوضوء أوّل الأمر واجبا لكل صلاة، ثم نسخ ذلك يوم غزوة «الخندق» ، وصار واجبا من الحدث. الباجوري (1/ 20) .
(1) أخرجه الطبري في تفسيره (4/ 452) برقم (11322) عن زيد بن أسلم، (11324) عن السدي، وذكره ابن عطية (2/ 160) .
(2) هو محمد بن مسلمة بن هشام بن إسماعيل أبو هشام، وهشام هذا هو أمير المدينة الذي نسب إليه مد هشام، كان ابن مسلمة من الطبقة الوسطى من أهل المدينة، وكان أفقه فقهاء المدينة من أصحاب مالك فكان ثقة مأمون حجة، جمع العلم والورع، روى عن مالك وتفقه عنده، توفي سنة ست ومائتين هجرية.
ينظر: الديباج المذهب ص 227.
(3) ينظر: ابن عطية (2/ 161) .
(4) العلاء بن عبد الرّحمن بن يعقوب الجهني مولى الحرقة المدني، أحد الأعلام. عن أبيه وأنس وعكرمة.
وعنه ابن جريج وابن إسحاق ومالك وخلق. وثقة أحمد. وقال يحيى بن معين: ليس بذاك. وقال النسائي: ليس به بأس. وقال أبو حاتم: صالح أنكر من حديثه أشياء. قال الواقدي: توفي في خلافة المنصور. ينظر: الخلاصة (2/ 312) .(2/348)
قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرَكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ: إسْبَاغُ الوُضُوءِ عِنْدَ المَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الخُطَا إلَى المَسَاجِدِ، وانتظار الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاَةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ» «1» .
قال أبو عمر في «التمهيد» : هذا الحديثُ مِنْ أَحْسَنِ ما رُوِيَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم في فضائِلِ الأعمالِ.
قال صاحبُ «كتاب العَيْنِ» : الرِّبَاطُ: ملازمةُ الثُّغُور، قال: والرِّبَاطُ مواظبةُ الصلاةِ أَيضاً انتهى.
والغُسْلُ، في اللغة «2» : إيجادُ المَاء في المَغْسُول، مع إمرار شَيْء علَيْه كاليَدِ، والوجه
__________
(1) أخرجه مسلم (1/ 219) في الطهارة: باب فضل إسباغ الوضوء على المكاره (41/ 251) ، والترمذي (1/ 72- 73) في أبواب الطهارة: باب ما جاء في إسباغ الوضوء (51) ، والنسائي (1/ 89) في الطهارة: باب الفضل في إسباغ الوضوء، وابن ماجة (1/ 148) في الطهارة: باب ما جاء في إسباغ الوضوء (428) ، وأحمد (2/ 277، 303) ، وأبو عوانة في «المسند» (1/ 231) ، وأبو يعلى (6503) ، وابن خزيمة (1/ 6) برقم (5) ، ومالك (1/ 161) في قصر الصلاة في السفر (55) ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 251) برقم (146) من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وفي الباب عن أبي سعيد الخدري رواه ابن ماجة في المصدر السابق (427) ، وفي المساجد: باب المشي إلى الصلاة (776) ، وأحمد (3/ 16) ، والدارمي (1/ 177، 178) في الوضوء: باب ما جاء في إسباغ الوضوء، وابن خزيمة برقم (177، 357) ، وابن حبان (394) ، والحاكم في «المستدرك» (1/ 191- 192) ، وأبو يعلى (1355) ، وعبد بن حميد في مسنده (984) .
وقال الهيثمي في «المجمع» (2/ 95- 96) : رواه أحمد بطوله، وأبو يعلى أيضا ... وفيه عبد الله بن محمد بن عقيل، وفي الاحتجاج به خلاف، وقد وثقه غير واحد. وفي الباب أيضا عن جابر رواه البزار (1/ 223) برقم (449، 450) ، وابن حبان (161- موارد) .
وقال الهيثمي في «المجمع» (2/ 40) : رواه البزار ... وإسناد الأول فيه شرحبيل بن سعد، وهو ضعيف عند الجمهور. وذكره ابن حبان في «الثقات» ، وأخرج له في «صحيحه» هذا الحديث، وإسناد الثاني فيه يوسف بن ميمون الصباغ، ضعفه جماعة، ووثقه ابن حبان، وأبو أحمد بن عدي، وقال البزار: صالح الحديث.
(2) قال الجوهريّ: غسلت الشيء غسلا بالفتح، والاسم الغسل بالضم: ويقال: غسل: كعسر وعسر. قال الإمام أبو عبد الله بن مالك في «مثلثه» : والغسل، يعني بالضم: الاغتسال، والماء الذي يغتسل به.
وقال القاضي عياض: الغسل بالفتح: الماء.
والغسل: الإسالة، والغسالة: ما غسلت به الشيء، والغسول: الماء الذي يغتسل به، وكذلك المغتسل، والمغتسل أيضا: الذي يغتسل فيه. والغسل بالكسر: ما يغسل به الرّأس من خطميّ وغيره، ومنه الغسلين، وهو ما انغسل من لحوم أهل النّار ودمائهم. -(2/349)
ما وَاجَهَ النَّاظر وقابله، والنَّاس كلُّهم على أنَّ داخل العينَيْنِ لا يلْزَمُ غسله إلا ما رُوِيَ عنِ ابْنِ عُمَرَ أنه كان يَنْضَحُ «1» الماءَ في عَيْنَيْهِ «2» . واليَدُ لغةً تَقَعُ على العُضْوِ من المَنْكِبِ إلَى أطرافِ الأصابِعِ، وحَدَّ اللَّه سبحانه مَوضِعَ الغُسْلِ منه بقوله: إِلَى الْمَرافِقِ.
واختلف العلماءُ، هل تدخُلُ المرافِقُ في الغُسْلِ أم لاَ، وتحريرُ العبارةِ في هذا المعنى: أنْ يقَالُ: إذا كان مَا بَعْد إلى لَيْسَ مما قَبْلَهَا، فالحَدُّ أولُ المذكورِ بعدها، وإذا كان ما بَعْدَها مِنْ جملة ما قَبْلَهَا/، فالاحتياطُ يُعْطِي أنَّ الحدَّ آخر المذكور بَعْدَها ولذلك يترجَّح دخولُ المرفَقَيْنِ في الغُسْل، والروايتان عن مالكٍ، قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «3» ، وقد رَوَى الدارقطنيُّ وغيره عن جابرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، لَمَّا تَوَضَّأَ أَدَارَ المَاءَ على مِرْفَقَيْهِ «4» . انتهى.
__________
- وفي «المغرب» : غسل الشيء: إزالة الوسخ ونحوه عنه، بإجراء الماء عليه. والغسل بالضّم: اسم من الاغتسال، وهو غسل تمام الجسد، واسم للماء الذي يغتسل به أيضا.
ينظر: «الصّحاح» (5/ 1781) ، «تهذيب اللغة» (8/ 35، 36) ، «لسان العرب» (5/ 3256، 3257) .
واصطلاحا:
عرفه الحنفيّة بأنه: غسل البدن.
وعند الشافعية: سيلان الماء على جميع البدن.
وعند المالكية: إيصال الماء لجميع الجسد بنيّة استباحة الصّلاة مع الدّلك.
وعند الحنابلة: استعمال ماء طهور في جميع بدنه، على وجه مخصوص.
ينظر: «الدرر» (1/ 17) ، «الحرشي» (1/ 161) ، «كشاف القناع» (1/ 139) . [.....]
(1) أصل النضح: الرّشح، وهو هنا الرش، يعني كان يغسل باطن عينيه بالماء.
ينظر: «النهاية» (5/ 70) ، و «لسان العرب» (4450) .
(2) ذكره ابن عطية (2/ 161) .
(3) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 567) .
(4) أخرجه الدارقطني (1/ 83) كتاب «الطهارة» ، باب وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حديث (15) ، والبيهقي (1/ 56) كتاب «الطهارة» ، كلاهما من طريق عباد بن يعقوب، عن القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل، عن جده عن جابر به.
قال الدارقطني: ابن عقيل ليس بقوي.
وقال الزيلعي في «تخريج الكشاف» (1/ 383) .
وهو حديث ضعيف، فعباد بن يعقوب: هو الرواجني، متكلم فيه، روى عنه البخاري مقرونا بآخر، وقال ابن حبان فيه: رافضي داعية، يروي المناكير عن المشاهير، فاستحق الترك. انتهى.
وعبد الله بن محمد بن عقيل أيضا فيه مقال، وكذلك ابن ابنه القاسم بن محمد بن عبد الله بن عقيل، قال فيه ابن معين: ليس بشيء، وذكر ابن أبي حاتم عن أبيه قال: كان متروك الحديث، وذكر عن أبي زرعة أنه قال: أحاديثه منكرة، وهو ضعيف الحديث أيضا، وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يروي عن-(2/350)
واختلفَ في رَدِّ اليدَيْنِ في مَسْح الرَّأْسِ، هل هو فرضٌ أوْ سُنَّة، بعد الإجماع على أنَّ المَسْحَةَ الأولى فَرْضٌ، فالجمهورُ على أنَّه سُنَّة.
وقيل: هو فرضٌ، والإجماع على استحسَانِ مَسْحِ الرأس باليَدَيْنِ جمِيعاً، وعلى الإجزاء بواحدةٍ، واختُلِفَ فِيمَنْ مَسَحَ بأُصْبُعٍ واحدةٍ، والمشهورُ الإجزاءُ ويترجَّح عدم الإجزاءِ لأنه خروجٌ عن سُنَّة المَسْح، وكأنه لَعِبٌ إلاَّ أَنْ يكونَ ذلك عن ضَرَرِ مرضٍ ونحوه، فينبغي ألاَّ يُخْتَلَفَ في الإجزاء.
والبَاءُ في قوله تعالى: بِرُؤُسِكُمْ مؤكّدة زائدة عند من يرى عموم الرأس، والمعنى، عنده: وامسحوا رءوسكم، وهي للإلصاق المحض عند مَنْ يرى إجزاء بعض الرأْسِ كأنَّ المعنى: أوجدوا مسحا برءوسكم، فمَنْ مَسَح، ولو شعرةً فقد فَعَلَ ذلك.
ت: قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» «1» : وقد ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في صِفَةِ مَسْحِ الرأسِ «أَنه أَقْبَلَ بِيَدِهِ، وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إلى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى المَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ» «2» ، وفي البخاريِّ: «فَأَدْبَرَ بِهِمَا، وَأَقْبَلَ» ، وهما صحيحان متوافقان،
__________
- جده عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر. وروى عنه إسحاق بن محمد العزرمي. انتهى. ذكره في أتباع التابعين من كتابه.
ورواه البيهقي أيضا من حديث سويد بن سعيد، عن القاسم بن محمد العقيلي، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر، أما القاسم وجدّه فتقدما، وأما سويد بن سعيد فهو، وإن أخرج له مسلم، فقد قال ابن معين: هو حلال الدم، وقال ابن المديني: ليس بشيء، وقال النسائي: ليس بشيء، وقال أبو حاتم: صدوق إلا أنه كثير التدليس، وقيل: إنه عمي في آخر عمره، فربما لقن ما ليس في حديثه، فمن سمع منه وهو بصير فحديثه عنه حسن، وسكت عنه البيهقي هنا، وقال في باب: من قال لا يقرأ:
تغير بآخره، فكثر الخطأ في روايته. انتهى.
والعجب من البيهقي كيف سكت عن القاسم هنا، وقد قال في باب: لا يطهر بالمستعمل: لم يكن بالحافظ، وأهل العلم مختلفون في الاحتجاج برواياته.
(1) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 575) .
(2) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 18) ، كتاب «الطهارة» ، باب العمل في الوضوء، الحديث (1) ، وعبد الرزاق في المصنف (1/ 6) ، كتاب «الطهارة» ، باب المسح بالرأس، الحديث (5) ، وأحمد (4/ 38) ، والبخاري (1/ 289) ، كتاب «الوضوء» ، باب مسح الرأس، الحديث (185) ، ومسلم (1/ 210- 211) ، كتاب «الطهارة» ، باب في وضوء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الحديث (18) وأبو داود (1/ 86- 87) ، كتاب «الطهارة» ، باب صفة وضوء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الحديث (18) ، والترمذي (1/ 47) ، كتاب «الطهارة» ، باب ما جاء في مسح الرأس، الحديث (32) ، والنسائي (1/ 72) ، كتاب «الطهارة» ، باب صفة مسح الرأس، وابن ماجة (1/ 149- 150) ، كتاب «الطهارة» ، باب ما جاء في مسح الرأس، الحديث (434) ، وابن الجارود في «المنتقى» (ص 35) ، باب صفة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والحميدي-(2/351)
وهي مسألةٌ من «أصول الفقْهِ» في تسمية الفعْلِ بابتدائه أو بغايته. انتهى.
وقرأ حمزة «1» وغيره: «وَأَرْجُلِكُمْ» - بالخفض-، وقرأ نافع وغيره بالنَّصْب، والعاملُ:
«اغسلوا» ، ومن قرأ بالخفْضِ، جعل العامِلَ أقْرَبَ العامِلَيْنِ، وجمهورُ الأَمَّة من الصحابة والتابعِينَ على أنَّ الفَرْضَ في الرجْلَيْن الغَسْلُ، وأنَّ المَسْح «2» لا يجزىءُ، وفي الصحيح:
«وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ «3» من النّار» إذ «4» رأى صلّى الله عليه وسلّم أعقابَهُمْ تلُوحُ، قال ابن العربِيِّ في «القَبَس» :
__________
- (1/ 202) ، وابن خزيمة (1/ 80، 87، 88) ، وابن حبان (2/ 296، 297- الإحسان) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 30) ، والبيهقي (1/ 59) كتاب «الطهارة» ، باب الاختيار في استيعاب الرأس بالمسح والبغوي في «شرح السنة» (1/ 316- بتحقيقنا) عن عبد الله بن زيد.
وله شاهد من حديث معاوية، أخرجه أبو داود (1/ 89) ، كتاب «الطهارة» ، باب صفة وضوء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الحديث (124) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 30) ، كتاب «الطهارة» ، باب فرض مسح الرأس في الوضوء.
وشاهد آخر عن المقدام أخرجه أبو داود (1/ 88) كتاب «الطهارة» ، باب صفة وضوء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الحديث (122) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 32) ، باب حكم الأذنين في وضوء الصلاة.
(1) ينظر: «السبعة» (242- 243) ، و «الحجة» (3/ 214) ، و «حجة القراءات» (221) ، و «العنوان» (87) ، و «إعراب القراءات» (1/ 143) ، و «شرح شعلة» (348) ، و «شرح الطيبة» (4/ 226) ، و «إتحاف» (1/ 530) ، و «معاني القراءات» (1/ 326) .
(2) أجمع المسلمون على وجوب غسل الرجلين، ولم يخالف في ذلك من يعتد به في الإجماع- كما صرح بذلك الشيخ أبو حامد وغيره- وعليه الأئمة الأربعة، وجمهور الفقهاء. وتنحصر أقوال المخالفين في ثلاثة أقوال: الأول: أن الواجب مسحهما وبه قالت الإمامية من الشيعة. الثاني: أن المتوضئ يميز بين غسلهما ومسحهما، وعليه الحسن البصري وحكاه الخطابي عن الجبائي المعتزلي. الثالث: أن الواجب غسلهما ومسحهما جميعا، وعليه بعض أهل الظاهر كداود. والصواب هو مذهب الأئمة الأربعة، والجمهور.
ينظر: «المسح على الخفين» لشيخنا/ محمد سيد أحمد.
(3) الأعقاب: جمع عقب. وهو مؤخر القدم. ينظر: «لسان العرب» (3022) .
(4) ورد هذا الحديث عن جماعة من الصحابة، وهم أبو هريرة، وعبد الله بن عمرو، وعائشة، وجابر، وعبد الله بن الحرث بن جزء الزبيدي، ومعيقيب، وأبو ذر، وخالد بن الوليد، وشر حبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان، وأبو أمامة، وأخوه.
1- حديث أبي هريرة:
أخرجه البخاري (1/ 143) كتاب «الوضوء» ، باب غسل الأعقاب، حديث (165) ، ومسلم (1/ 214) كتاب «الطهارة» ، باب وجوب غسل الرجلين، حديث (28/ 242) وعبد الرزاق (1/ 21) رقم (62) والنسائي (1/ 77) كتاب «الطهارة» ، باب إيجاب غسل الرجلين. والدارمي (1/ 179) كتاب «الطهارة» ، باب ويل للأعقاب من النار. وأحمد (2/ 228، 284، 406، 409، 467، 482) وابن الجارود في «المنتقى» رقم (78، 79) ، وأبو عبيد في «كتاب الطهور» (ص 75) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 38) كتاب «الطهارة» ، وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 406) ، وأبو عوانة (1/ 251- 252) -(2/352)
..
__________
- والبيهقي (1/ 69) كتاب «الطهارة» ، باب الدليل على أن فرض الرجلين الغسل كلهم من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: أسبغوا الوضوء، فإن أبا القاسم قال: «ويل للأعقاب من النار» .
وأخرجه مسلم (1/ 214) كتاب «الطهارة» ، باب وجوب غسل الرجلين، حديث (30/ 242) ، والترمذي (1/ 58) كتاب «الطهارة» ، باب ما جاء في ويل للأعقاب من النار، حديث (41) وابن ماجة (1/ 154) كتاب «الطهارة» ، باب غسل العراقيب حديث (453) وابن خزيمة (1/ 84) رقم (162) كلهم من طريق سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة به.
وللحديث عن أبي هريرة ألفاظ منها: ويل للعقب من النار وويل للعراقيب من النار.
وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.
2- حديث عبد الله بن عمرو:
أخرجه البخاري (1/ 173) كتاب «العلم» ، باب من رفع صوته بالعلم، حديث (60) ، (1/ 228) كتاب «العلم» ، باب من أعاد الحديث ثلاثا ليفهم حديث (96) ومسلم (1/ 214) كتاب «الطهارة» ، باب وجوب غسل الرجلين حديث (27/ 241) ، وأبو داود (1/ 72) كتاب «الطهارة» ، باب في إسباغ الوضوء، حديث (97) والنسائي (1/ 78) كتاب «الطهارة» باب إيجاب غسل الرجلين، وابن ماجة (1/ 154) كتاب «الطهارة» باب غسل العراقيب، حديث (450) وأحمد (2/ 193، 205، 211) وابن خزيمة (1/ 83- 84) رقم (161) والبغوي في «شرح السنة» (1/ 313- بتحقيقنا) عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في سفرة سافرناها فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: «ويل للأعقاب من النار» مرتين أو ثلاثا. لفظ البخاري.
3- حديث عائشة. وله طرق:
فأخرجه ابن ماجة (1/ 154) كتاب «الطهارة» ، باب غسل العراقيب حديث (452) ، وأحمد (6/ 191- 192) ، وابن أبي شيبة (1/ 26) وعبد الرزاق (1/ 23) رقم (69) ، والحميدي (1/ 87) رقم (161) وأبو عوانة (1/ 251) والترمذي في «العلل الكبير» (ص 35) رقم (22) وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 406) وأبو عبيد في «كتاب الطهور» (ص 376) وأبو يعلى (7/ 400) رقم (4426) وابن حبان (1054- الإحسان) والشافعي (1/ 33) كتاب «الطهارة» ، باب في صفة الوضوء، حديث (82) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 38) كتاب «الطهارة» ، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (1/ 167) رقم (70) كلهم من طريق سعيد بن أبي سعيد عن أبي سلمة قال: توضأ عبد الرّحمن عند عائشة فقالت: يا عبد الرّحمن أسبغ الوضوء، إني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ويل للأعقاب من النار» .
ومن هذا الوجه صححه ابن حبان.
وقال البيهقي: قال أحمد: رواه عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن سالم مولى المهري، عن عائشة، وهو من ذلك الوجه مخرج في كتاب مسلم.
وقال الترمذي في «العلل» : سألت محمدا عن هذا الحديث فقال: حديث أبي سلمة عن عائشة حديث حسن. اهـ.
فحديث عائشة من هذا الطريق حسنه البخاري، وصححه ابن حبان. والطريق الذي أشار إليه أحمد.
أخرجه مسلم (1/ 213) كتاب «الطهارة» ، باب وجوب غسل الرجلين حديث (25/ 240) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 38) كتاب «الطهارة» ، وأبو عبيد في «كتاب الطهور» (ص 382) ، والبيهقي-(2/353)
..
__________
- (1/ 230) من طريق عكرمة بن عمار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن سالم مولى المهري، عن عائشة بمثل الطريق الأول، وقد خولف عكرمة بن عمار في هذا الحديث.
خالفه الأوزاعي، وحرب بن شداد، وأبو معاوية النحوي، وعلي بن المبارك، وحسين المعلم، فرووه عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم مولى المهري عن عائشة دون ذكر أبي سلمة، فانفرد عكرمة بن عمار بزيادة أبي سلمة في الإسناد.
وكما هو معروف، فإن رواية عكرمة بن عمار عن يحيى مضطربة قال أحمد: عكرمة مضطرب الحديث عن يحيى بن أبي كثير.
وقال ابن المديني: أحاديث عكرمة عن يحيى بن أبي كثير مناكير ليست بذاك كان يحيى بن سعيد يضعفها.
وقال البخاري: مضطرب في حديث يحيى بن أبي كثير.
وقال أبو داود: ثقة وفي حديثه عن يحيى بن أبي كثير فيه اضطراب.
وقال النسائي: ليس به بأس إلا في حديث يحيى بن أبي كثير.
ينظر: «التهذيب» (7/ 22) .
وقال الحافظ في «التقريب» (2/ 30) : صدوق يغلط، وفي حديثه عن يحيى بن أبي كثير اضطراب. اهـ.
ومخالفة الأوزاعي عند أبي عبيد في «كتاب الطهور» (ص 377) ، وأبو عوانة (1/ 230) .
وابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 57) رقم (148) .
ومخالفة حرب بن شداد عن الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 38) ومخالفة أبي معاوية النحوي عند أبي عبيد في «كتاب الطهور» (ص 382) ، وابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 57- 58) رقم (148) .
ومخالفة علي بن المبارك عند أبي عوانة (1/ 230) .
ومخالفة حسين المعلم عند ابن أبي حاتم في «العلل» (1/ 57) رقم (148) .
فهؤلاء الخمسة الثقات خالفوا عكرمة بن عمار، فلم يذكروا أبا سلمة في الإسناد.
وقد رجح أبو زرعة رواية الأوزاعي، وحسين المعلم، كما في «العلل» لابن أبي حاتم (1/ 57- 58) رقم (148) .
ومما يدل على أن عكرمة بن عمار وهم في هذه الرواية أن جماعة تابعوا يحيى بن أبي كثير، فرووا الحديث عن سالم، عن عائشة، ولم يذكروا أبا سلمة.
فأخرجه مسلم (1/ 214) كتاب «الطهارة» ، باب وجوب غسل الرجلين، حديث (25/ 240) ، وأبو عوانة (1/ 230) والبيهقي (1/ 69) كتاب «الطهارة» ، باب الدليل على أن فرض الرجلين الغسل، من طريق مخرمة بن بكير عن أبيه عن سالم مولى شداد قال: دخلت على عائشة زوج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوم توفي سعد بن أبي وقاص، فدخل عبد الرّحمن بن أبي بكر، فتوضأ عندها فقالت: يا عبد الرّحمن أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ويل للأعقاب من النار» .
وأخرجه مسلم (1/ 214) كتاب «الطهارة» ، باب وجوب غسل الرجلين، حديث (25/ 240) من طريق نعيم بن عبد الله المجمر، عن سالم، عن عائشة وأخرجه مسلم (1/ 214) كتاب «الطهارة» ، باب-[.....](2/354)
..
__________
- وجوب غسل الرجلين، حديث (25/ 240) من طريق محمد بن عبد الرّحمن، عن سالم، عن عائشة وأخرجه الطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 38) من طريق أبي الأسود يتيم عروة عن سالم عن عائشة.
وللحديث طريق آخر عن عائشة.
أخرجه ابن ماجة (1/ 154) كتاب «الطهارة» ، باب غسل العراقيب حديث (451) ، وأبو عوانة (1/ 252) ، والدارقطني (1/ 95) كتاب «الطهارة» ، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
4- حديث جابر بن عبد الله:
أخرجه ابن ماجه (1/ 155) كتاب «الطهارة» ، باب غسل العراقيب، حديث (454) وابن أبي شيبة (1/ 26) ، وأحمد (3/ 369، 393) ، وأبو داود الطيالسي (1/ 53- منحة) رقم (178) ، وأبو يعلى (4/ 52) رقم (2065) وفي «معجم شيوخه» (ص 70) رقم (15) وأبو عبيد في «كتاب الطهور» (ص 382، 383) ، والبخاري في «التاريخ الكبير» (3/ 510) وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 406) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 38) من طريق الأحوص، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كريب عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ويل للعراقيب من النار» .
قال البوصيري في «الزوائد» (1/ 182) ، هذا إسناد رجاله ثقات. اهـ. وللحديث طريق آخر عن جابر.
أخرجه الطبراني في «الصغير» (2/ 7) من طريق الوليد بن القاسم، عن الأعمش، عن أبي سفيان عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويل للعراقيب من النار» .
وقال الطبراني: لم يروه عن الأعمش إلا الوليد تفرد به حماد.
5- حديث عبد الله بن الحارث بن جزء.
أخرجه أحمد (4/ 191) ، والحاكم (1/ 162) كتاب «الطهارة» وابن خزيمة (1/ 84) رقم (163) ، والدارقطني (1/ 95) كتاب «الطهارة» باب وجوب غسل القدمين والعقبين رقم (1) وأبو عبيد في «كتاب الطهور» (ص 375- 376) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (1/ 38) كتاب «الطهارة» ، والبيهقي (1/ 70) كتاب «الطهارة» ، باب الدليل على أن فرض الرجلين الغسل وفي «معرفة السنن والآثار» (1/ 169) رقم (72) كلهم من طريق حيوة بن شريح، عن عقبة بن مسلم التجيبي، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار» وقال الحاكم: صحيح، ولم يخرجا ذكر بطون الأقدام، ووافقه الذهبي، وصححه ابن خزيمة.
وقال الحافظ الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 245) ، رواه أحمد، والطبراني في «الكبير» ... ورجال أحمد والطبراني ثقات.
6- حديث معيقيب:
أخرجه أحمد (5/ 425) والطبراني في «الكبير» (20/ 350) رقم (822) من طريق أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن معيقيب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ويل للأعقاب من النار» .
وعلقه الترمذي في «العلل الكبير» (ص 35) عن أيوب بن عتبة به وقال الترمذي: سألت محمدا عن هذا الحديث، فقال: حديث أبي سلمة عن معيقيب: ليس بشيء كان أيوب لا يعرف صحيح حديثه من سقيمه، فلا أحدث عنه، وضعف أيوب بن عتبة جدا. اهـ. -(2/355)
..
__________
- والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 245) وقال: رواه أحمد والطبراني في الكبير وفيه أيوب بن عتبة، والأكثر على تضعيفه اهـ.
وأيوب بن عتبة ضعفه أحمد وابن معين، وابن المديني، والجوزجاني، ومسلم، والبخاري، والعجلي، وأبو حاتم وغيرهم، كما في «التهذيب» (1/ 408- 409) .
وقال الذهبي في «المغني» (1/ 97) ، ضعفوه، لكثرة مناكيره.
وقال الحافظ في «التقريب» (1/ 90) ، ضعيف.
7- حديث أبي ذر الغفاري:
أخرجه عبد الرزاق (1/ 22) رقم (64) من طريق ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن رجل، عن أبي ذر قال: أشرف علينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن نتوضأ، فقال: «ويل للأعقاب من النار» فطفقنا نغسلها غسلا، وندلكها دلكا.
وزاد نسبته السيوطي في «الأزهار المتناثرة» (ص 26) إلى سعيد بن منصور.
8- حديث خالد بن الوليد وشرحبيل، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان:
أخرجه ابن ماجة (1/ 155) «كتاب الطهارة» ، باب غسل العراقيب، حديث (455) من طريق أبي صالح الأشعري، حدثني أبو عبد الله الأشعري، عن خالد بن الوليد، ويزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وعمرو بن العاص كل هؤلاء سمعوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أتموا الوضوء ويل للأعقاب من النار» .
والحديث قال البخاري كما في «علل الترمذي الكبير» (ص 35) : وحديث أبي عبد الله الأشعري «ويل للأعقاب من النار» حديث حسن اهـ. وصححه ابن خزيمة (665) .
وقال البوصيري في الزوائد (1/ 182) ، هذا إسناد حسن، ما علمت في رجاله ضعفاء اهـ.
9- حديث أبي أمامة وأخيه:
أخرجه الطبراني في «الكبير» (8/ 347) رقم (8109) من طريق علي بن مسهر، عن ليث بن أبي سليم، عن عبد الرّحمن بن سابط، عن أبي أمامة وأخيه قالا: أبصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قوما يتوضئون، فقال:
«ويل للأعقاب من النار» .
وأخرجه الطبراني (8/ 347- 348) رقم (8110، 8111، 8112، 8114، 8115) من طرق عن ليث عن عبد الرّحمن بن سابط، عن أبي أمامة- وحده- به.
وأخرجه الدارقطني (1/ 108) كتاب «الطهارة» ، باب ما روي في فضل الوضوء حديث (4) والطبراني (8/ 348- 349) رقم (8116) من طريق عبد الواحد بن زياد عن ليث، عن عبد الرّحمن بن سابط، عن أبي أمامة، أو عن أخي أبي أمامة ... فذكره.
وقال الهيثمي في «المجمع» (1/ 245) ، رواه الطبراني في «الكبير» من طرق ففي بعضها عن أبي أمامة وأخيه، وفي بعضها عن أبي أمامة فقط، وفي بعضها عن أخيه فقط ... ومدار طرقه كلها عن ليث بن أبي سليم وقد اختلط. اهـ.
وحديث «ويل للأعقاب من النار» صرح السيوطي بتواتره في «الأزهار المتناثرة» (ص 26) رقم (16) وتبعه الشيخ أبو الفيض الكناني (ص 68، 69) وقال: وممن صرح بأنه متواتر الشيخ عبد الرءوف المناوي في «شرح الجامع الصغير» ، وشارح كتاب «مسلم الثبوت» في الأصول اهـ.(2/356)
ومَنْ قرأ «وَأَرْجُلِكُمْ» - بالخَفْض-، فإنه أراد المَسْح على الخُفَّيْن «1» وهو أحد التأويلاتِ في الآية. انتهى، وهذا هو الذي صحَّحه في «أحْكَامِهِ» .
والكلامُ في قوله: إِلَى الْكَعْبَيْنِ كما تقدَّم في قوله: إِلَى الْمَرافِقِ، وفي «صحيح مسلم» وغيره عن عُقْبَة بْنِ عامر، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يتوضَّأُ، فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ، ثِمَّ يَقُومُ، فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مُقْبِلاً عَلَيْهِمَا بِقَلْبِهِ وَوَجْهِهِ، إلاَّ وَجَبَتْ لَهُ الجَنَّة» ، فَقُلْتُ: مَا أَجْوَدُ هذِهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: الَّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ، قَالَ: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَّأُ فَيُسْبِغُ الوُضُوءَ، ثُمَّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمّدا عبده
__________
(1) المسح في اللغة إمرار اليد على الشيء تقول: مسحت الشيء بالماء مسحا إذا أمررت اليد عليه، والمسح على الخفين شرعا إصابة البلة للخف الشرعي على وجه مخصوص، فقولنا: «إصابة» يشمل ما لو كانت بيده بأن أمرّ يده وهي مبتلّة على الخف، أو قطر الماء عليه منها، أو وضعها عليه من غير إمرار، وهي مبتلة، أو غيرها كأن أصاب المطر الخفّ فابتلّ مع نية لابسه المسح بذلك.
وقولنا: «للخف الشرعي» يخرج إصابتها لغيره، سواء كان ذلك الغير خفّا غير شرعي، أو لم يكن خفّا.
وقولنا: «على وجه مخصوص» إشارة إلى الكيفية والشروط والمدة، وإلى النية، ولو حكما بأن يقصد بمسحه رفع حدث الرجلين بدلا عن غسلهما، فخرج ما لم يكن كذلك.
والخف لغة مجمع فرس البعير «والفرس للبعير كالحافر للفرس» وقد يكون للنعام، سوّوا بينهما للتّشابه، وجمعه: أخفاف كقفل وأقفال، والخف أيضا واحد الخفاف التي تلبس، وجمعه: خفاف ككتاب للفرق بينه وبين ما للبعير، وفي «اللسان» أنه يجمع على خفاف وأخفاف أيضا، ويقال: تخفّف الرجل إذا لبس الخفّ في رجليه. وخفّ الإنسان ما أصاب الأرض من باطن قدميه، والخف أيضا القطعة الغليظة من الأرض.
وشرعا: السّاتر للقدمين إلى الكعبين من كل رجل من جلد ونحوه، والمستوفي للشروط. هذا وعبر النووي بالخف وعبر شيخ الإسلام بالخفين وقال: هو أولى من تعبيره بالخف، لأنه يوهم جواز المسح على خف رجل، وغسل الأخرى، وليس كذلك، فكان الأولى أن يعبر بالخفين، ويمكن أن يوجه تعبيره بالخف بأن «أل» فيه للجنس، فيشمل ما لو كان له رجل واحدة لفقد الأخرى، وما لو كان له رجلان فأكثر، وكانت كلها أصلية، أو كان بعضها زائدا، أو اشتبه بالأصلي، أو سامت به، فيلبس كلّا منها خفّا، ويمسح على الجميع.
وأما إذا لم يشتبه، ولم يسامت، فالعبرة بالأصلي دون الزائد، فيلبس الأول خفّا دون الثاني، إلا أن توقّف لبس الأصلي على الزائد، فيلبسه أيضا. أو أنها للعهد الشرعي، أي الخف المعهود شرعا وهو الاثنان. قال علي الشبراملي: وهذا الجواب أولى من الأول لأنه لا يدفع الإيهام لأن الجنس كما يتحقق في ضمن الكل، كذلك يتحقق في ضمن واحدة منهما. أما تعبير شيخ الإسلام بالخفين فإنه يرد عليه أيضا أنه لا يشمل الخف الواحد فيما لو فقدت إحدى رجليه، إلا أن يقال: إنه نظر للغالب وقال القليوبي: ويطلق الخفّ على الفردتين، وعلى إحداهما. فعلى هذا استوت العبارتان.
ينظر: «المغرب» (2/ 266) ، و «لسان العرب» (6/ 4196) ، وينظر: «بدائع الصنائع» (1/ 99) ، و «المدونة» (1/ 41) ، و «الأم» (1/ 29) ، و «المغني» (1/ 268) ، و «المحلى» (1/ 92) .(2/357)
وَرَسُولُهُ إلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أيِّهَا شَاءَ» ، وأخرجه الترمذيُّ من حديثِ أَبِي إدْرِيسَ الخَوْلاَنِيِّ، عن عمر، زاد في آخره: «اللَّهُمَّ، اجعلني مِنَ التَّوَّابِينَ، واجعلني مِنَ المُتَطَهِّرِينَ» «1» . انتهى مختصراً.
واختلَفَ اللغويُّونَ في الْكَعْبَيْنِ.
والجمهورُ على أنهما العَظْمَانِ الناتِئَانِ في جنبتي «2» الرجل.
__________
(1) أخرجه مسلم كتاب «الطهارة» ، باب الذكر المستحب عقب الوضوء، حديث (234) ، وأحمد (1/ 19، 4/ 145- 146، 153) وأبو داود (1/ 29) كتاب «الطهارة» ، باب ما يقول الرجل إذا توضأ حديث (169، 170) ، والنسائي (1/ 92- 93) كتاب «الطهارة» ، باب القول بعد الفراغ من الوضوء، والدارمي (1/ 182) كتاب «الطهارة» ، باب القول بعد الوضوء، وأبو يعلى (1/ 162) رقم (180) .
(2) والكعبان هما: العظمان الناتئان، من جانبي القدمين، عند مفصل الساق والقدم. هذا مذهب الشافعية، وبه قال الجمهور من المفسرين، وأهل الحديث، وأهل اللغة، والفقهاء.
وقال محمد: الكعب: هو موضع الشّراك على ظهر القدم وحكى هذا عن أبي يوسف، وبه قالت الإمامية من الشيعة، وقيل عنهم: قالوا: في كل رجل كعب واحدة «وهي عظم مستقر في وسط القدم» .
وقال الفخر الرازي: إن الكعب عند الشيعة: عبارة عن عظم مستدير، موضوع تحت عظم الساق، حيث يكون مفصل الساق والقدم.
ودليلنا عليهم: الكتاب، والسنة، والإجماع، واللغة، والاشتقاق: أما الكتاب: فقوله تعالى:
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] وهذا يقتضي أن يكون في كل رجل كعبان، وهو لا يكون إلا على مذهبنا، فلو كان في كل رجل كعب واحدة- كما قالوا- لقال: «إلى الكعاب» كما قال: إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6] .
وأمّا السّنة: أولا: ما رواه مسلم، عن عثمان- رضي الله تعالى عنه- في صفة وضوء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثمّ اليسرى كذلك» .
ثانيا: ما رواه أبو داود، والبيهقي، وغيرهما بأسانيد جيدة، عن النعمان بن بشير- رضي الله عنه- أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أقبل علينا بوجهه، وقال: «أقيموا صفوفكم» فلقد رأيت الرّجل منّا يلصق كعبه بكعب صاحبه، ومنكبه بمنكبه» ، وموضع الدلالة منه: قوله: «يلصق كعبه بكعب صاحبه» وهذا لا يكون إلا في الكعب الذي قلنا.
ثالثا: ما روي: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لجابر بن سليم رضي الله عنه: «ارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين» ، فدل على أن الكعبين أسفل الساق، لا ما قالوا من ظاهر القدم.
وأما الإجماع: فما قال الشافعي في «الأم» : «ولم أسمع مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكر الله عز وجل:
في الوضوء الكعبان الناتئان، وهما مجمع مفصل الساق والقدم.
وأما اللغة: فقال الماورديّ: حكي عن قريش كلهم، ولا يختلف لسانهم- أن الكعب: اسم للناتىء بين الساق والقدم، قال: وهم أولى بأن يعتبر لسانهم في الأحكام من أهل «اليمن» لأن القرآن نزل بلغتهم.
وأما الاشتقاق: فهو أن الكعب: اسم لما استدار وعلا، وهو مشتق من التكعب، وهو النتوء مع الاستدارة ولذلك قالوا: كعب ثدي الجارية، إذا استدار وعلا، ويقال: جارية كاعب، إذا أنهد ثديها-(2/358)
وألفاظُ الآيةِ تقتضِي المُوَالاَةَ بَيْن الأعضاء، قال مالك: هو فرضٌ مع الذِّكْر، ساقِطٌ مع النِّسْيان، وروى الدَّارَقُطْنِيُّ في سُنَنِهِ: «مَنْ تَوَضَّأَ، فَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ على وُضُوئِهِ، كَانَ طُهُوراً لِجَسَدِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ، وَلَمْ يَذْكُرِ اسم اللَّهِ على وُضُوئِهِ كَانَ طُهُوراً لأعْضَائِهِ» «1» .
انتهى من «الكوكب الدري» .
وكذلك تتضمَّن ألفاظ الآيةِ الترتيبَ، وفَاطَّهَّرُوا أمر لواجد الماء عند الجمهور،
__________
- (أي: استدار وعلا) ، ومنه سميت الكعبة كعبة لاستدارتها، وهذه صفة الكعب الذي قلناه لا الذي قالوه.
فإن قيل: البهائم لها في كل رجل كعب واحد، فكذلك الآدمي، قلنا: خلقة الآدمي خلاف خلقة البهيمة لأن كعب البهيمة فوق ساقها، وكعب الآدمي في أسفله، فلا يلزم اتفاقهما، فليس لهؤلاء المخالفين حجة تذكر. وإذا علم أن الكعبين ما ذكر، نقول: لا خلاف عندنا في أنه يجب إدخال الكعبين مع القدمين في الغسل، فهما من محل الفرض وبه قال الجمهور، وخالف فيه زفر، وأبو بكر ابن داود، وقالا: لا يجب غسل الكعبين.
ودليلنا: أولا: قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] ، تقريره: أن «إلى» إن كانت بمعنى «مع» كما في قوله تعالى: وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ [البقرة: 14] ، أي: مع شياطينهم، وكقوله تعالى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [آل عمران: 52] أي: مع الله، فدخول الكعبين في محل الفرض ظاهر، وإن كانت حدّا وغاية، فقد قال المبرد: إن الحد إذا كان من جنس المحدود، دخل في جملته، وإن كان من غير جنسه لم يدخل، ألا تراهم يقولون: بعتك الثوب من الطرف إلى الطرف، فيدخل الطرفان في المبيع لأنهما من جنسه، وما معنا الحد فيه من جنس المحدود، فيكون الكعبان داخلين في محل الفرصة وأيضا الإجماع، والاحتياط، وعدم إمكان بيان فاصل بين الكعبين والقدم- قرائن على دخولهما.
وثانيا: ما رواه مسلم عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أنه توضأ، فغسل يديه حتى أشرع في العضدين، وغسل رجليه حتى أشرع في الساقين، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ، فثبت غسله صلّى الله عليه وسلّم للكعبين، وفعله بيان للوضوء المأمور، ولم ينقل تركه ذلك.
واحتجوا أولا: بأن «إلى» لانتهاء الغاية، وما يجعل غاية يكون خارجا، ولذلك لم يدخل إمساك الليل في جملة الصيام في قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] فلم يدخل غسل الكعبين في جملة الغسل.
قلنا أولا: إنما لم يدخل إمساك الليل في جملة الصيام لأنه ليس من جنس النهار، بخلاف ما معنا، وثانيا: قيام القرينة على خروج الليل، وهي عدم وجوب الوصال في الصوم.
واحتجوا ثانيا: بأن خروج الكعبين متيقن، ودخولهما مشكوك فيه، فيقدم اليقين على الشك.
قلنا أولا: لا نسلم أن الشك موجود، فإنه قد رفع بالإجماع على وجوب غسل الكعبين، ولو سلم فالاحتياط أولى.
ينظر: «المسح على الخفين» لشيخنا/ محمد سيد أحمد.
(1) أخرجه الدارقطني (1/ 74) ، كتاب «الطهارة» ، باب التسمية على الوضوء.(2/359)
وقال عمرُ بْنُ الخطَّاب وغيره: لا يتيمَّمِ الجُنُبُ ألبتَّة، بل يدع/ الصلاةَ حتى يجد الماء «1» .
وقوله سبحانه: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ... الآية: الإرادة صفَةُ ذاتٍ، وجاء الفعْلُ مستقبلاً مراعاةً للحوادِثِ التي تَظْهَرُ عن الإرادة، والحَرَجُ: الضِّيق، والحرجة: الشَّجرُ الملْتَفُّ المتضايقُ، ويَجْرِي مع معنى هذه الآية قولُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «دِينُ اللَّهِ يُسْرٌ» ، وقوله- عليه السلام-: «بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» «2» ، وجاء لَفْظُ الآية على العُمُومِ، والشَّيْءُ المذكُورُ بقُرْبٍ هو أمر التيمُّمِ، والرُّخْصَة فيه، وزوالُ الحَرَجِ في تحمُّل الماءِ أبداً ولذلك قال أُسَيْدٌ: «مَا هِيَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِي بَكْرٍ» «3» .
وقوله سبحانه: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ... الآية: إعلامٌ بما لا يوازى بشكر من عظيم تفضّله تبارك وتعالى، ولَعَلَّكُمْ: ترَجٍّ في حقِّ البَشَرِ، وفي الحديثِ الصحيحِ عن أبِي مالك الأشعريِّ «4» ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملأن، أو تملأ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ، وَالصَّلاَةُ نورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، والقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا» ، رواه مُسْلِم، والترمذيُّ، وفي روايةٍ له: «التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأهُ، وَالتَّكْبِيرُ يَمْلأ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ، وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» ، وزاد في رواية أخرى: «وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللَّهُ لَيْسَ لَهَا دُونَ اللَّهِ حجاب حتّى تخلص إليه» «5» . انتهى.
__________
(1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 165) .
(2) تقدم تخريجه.
(3) ذكره ابن عطية (2/ 165) .
(4) كعب بن مالك، وقيل: كعب بن عاصم قال ابن حجر في الإصابة: قال سعيد البردعي: سمعت أبا بكر بن أبي شيبة يقول: أبو مالك الأشعري اسمه: عمرو.
تنظر ترجمته في: «الاستيعاب» (4/ 1445) ، «تلقيح فهوم أهل الأثر» (367) ، «الكاشف» (3/ 373) ، «الإصابة» (7/ 168) ، «تهذيب التهذيب» (12/ 218) ، «الكنى والأسماء» (1/ 52، 188) ، «تقريب التهذيب» (2/ 468) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1643) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 199) ، «أسد الغابة» (6/ 272) .
(5) أخرجه مسلم (1/ 203) كتاب «الطهارة» ، باب فضل الوضوء، حديث (1/ 223) ، والنسائي (5/ 5) كتاب «الزكاة» ، باب وجوب الزكاة، وابن ماجة (1/ 102- 103) كتاب «الطهارة» ، باب الوضوء شطر الإيمان، حديث (280) والدارمي (1/ 167) كتاب «الصلاة» ، باب ما جاء في الطهور، وأبو عوانة (1/ 223) ، وابن أبي شيبة (1/ 6) والطبراني في «الكبير» (3/ 322) رقم (3423، 3424) والبيهقي (1/ 42) كتاب «الطهارة» ، والبغوي في «شرح السنة» (1/ 250، 251- بتحقيقنا) عن أبِي مالك الأشعريِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، ولا إله إلا الله والله أكبر-(2/360)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
[سورة المائدة (5) : الآيات 7 الى 10]
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)
وقوله تعالى: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ ... الاية: خطابٌ للمؤمنين، ونِعْمَةُ اللَّهِ: اسْمُ جنْسٍ، يجمع الإسلامَ، وحُسْنَ الحالِ، وحُسْنَ المَآلِ، والميثاقُ: هو ما وقع للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في بَيْعَةِ العَقَبَةِ، وَبَيْعَةِ الرِّضْوان، وكلُّ موطِنٍ قال الناسُ فيه: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» ، هذا قولُ ابنِ عبَّاس «1» وجماعةٍ من المفسِّرين.
وقال مجاهدٌ: المرادُ: الميثاقُ المأخوذُ على النَّسَمِ حين استخرجوا مِنْ ظَهْر آدم- عليه السلام-.
والأوَّل أرجَحُ وألْيَقُ بنَمَطِ الكلامِ، وباقي «2» الآية بيِّن متكرِّر، قال أبو عمر بن عبد البر في كتابه «بهجة المجالس» : روي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من وعده الله على عمل ثوابا، فهو منجز له ما وعده، ومن أوعده على عمل عقابا، فإن شاء عذبه، وإن شاء غفر له» «3» ، وعن ابن عباس مثله. انتهى
[سورة المائدة (5) : آية 11]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ ... الآية:
__________
- يملآن ما بين السماء وَالأرْضِ، وَالصَّلاَةُ نورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، والقرآن حجة لك أو عليك، وكل الناس يغدو فبعتقها أو موبقها» .
(1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 165) . [.....]
(2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 165) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 469) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد.
(3) أخرجه أبو يعلى (6/ 66) رقم (3316) من حديث أنس، وذكره الهيثمي في «المجمع» (10/ 214) وقال: رواه أبو يعلى، والطبراني في «الأوسط» ، وفيه سهيل بن أبي حزم، وقد وثق على ضعفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
والحديث ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (10416) ، وعزاه إلى أبي يعلى، والخرائطي في «مكارم الأخلاق» ، والبيهقي في «البعث» ، وابن عساكر، عن أنس.(2/361)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمته، والجمهورُ أنَّ سبب هذه الآية أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لمَّا استعان بيَهُودَ في ديةِ الرَّجُلَيْنِ اللذَيْن قَتَلَهُما عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ، وصاحِبُه، قالوا: نَعَمْ، يَا أَبَا القَاسِمِ، انزل حتى نَصْنَعَ لَكَ طَعَامَاً، وَنَنْظُرَ فِي مَعُونَتِكَ، فَنَزَلَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم فِي ظِلِّ جِدَارٍ وَكَانَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ، فَتَآمَرَتْ يَهُودُ فِي قَتْلِهِ، وَقَالُوا: مَنْ رَجْلٌ يَظْهَرُ عَلَى الحَائِطِ، فَيَصُبُّ عَلَيْهِ حجرا يشدخه، فجاء جبريل، فأخبر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الخبر، فقام صلّى الله عليه وسلّم مِنَ المَكَانِ، وَتَوَجَّهَ إلَى المَدِينَةِ، ونزلَتِ الآيةُ في ذلِكَ ويترجَّح هذا القولُ بما يأتِي بَعْدُ من الآياتِ في وَصْفِ غَدْر يهودَ، ونقضهم المواثيق.
[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 13]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً: هذه الآيةُ المتضمِّنة للخَبَرِ عن نَقْضِهِمْ مواثيقَ اللَّه تعالى- تُقَوِّي أنَّ الآية المتقدِّمة في كَفِّ الأَيْدِي، إنَّما كانَتْ في/ أمر بني النَّضِيرِ، والإجماعُ على أنَّ النقيب كَبِيرُ القَوْمِ، القائمُ بأمورهم، قال قتادة وغيره: هؤلاءِ النُّقَبَاءُ قوْمٌ كبارٌ مِنْ كُلِّ سبْطٍ، تكَفَّل بكلِّ واحدٍ سِبْطُهُ، بأنْ يؤمنوا ويلتزموا التقوى «1» .
قال ع «2» : ونحو هذا كانَتِ النقباءُ ليلَةَ بَيْعَةِ العَقَبَةِ، مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والضميرُ في مَعَكُمْ، لبني إسرائيل، أيْ: معكم بنَصْري، وحِيَاطَتِي، وتأييدي، واللام في قوله:
لَئِنْ: هي المُؤْذِنَةُ بمجيء القَسَمِ، ولامُ القَسمِ هي قوله: لَأُكَفِّرَنَّ والدليل على أنَّ هذه اللام إنما هي مؤذنةٌ: أنَّهَا قد يستغنى عنها أحياناً، ويتمُّ الكلامُ دونها، ولو كانَتْ لاَمَ قَسَمٍ، لم يترتَّب ذلك، وإقامةُ الصلاةِ: توفيةُ شروطها، والزكاةُ هنا: شَيْءٌ من المالِ كان مفروضاً عليهم فيما قال بعضُ المفسِّرين، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ: معناه: وقّرتموهم، وعظّمتموهم،
__________
(1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 472) وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة بنحوه.
(2) ينظر ابن عطية في «المحرر الوجيز» (2/ 168) .(2/362)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
ونَصَرْتُموهم، وقرأ عاصمٌ «1» الجَحْدَرِيُّ: «وَعَزَرْتُمُوهُمْ» - خفيفة الزاي- حيثُ وقع، وقرأ في «سورة الفتحِ» : «وتَعْزُرُوهُ» - بفتح التاء، وسكونِ العينِ، وضمِّ الزاي-، وسَواءُ السَّبِيلِ:
وَسَطُه، وسائرُ ما في الآية بَيِّن، واللَّه المستعان.
وقوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً ... الاية: أيْ:
فبنقضِهِمْ، والقَسْوَةُ: غَلِظ القَلْب، ونُبُوُّهُ عن الرِّقَّة والمَوْعِظَة، وصَلاَبَتُهُ حتى لا ينفعلَ لخَيْرٍ.
وقوله تعالى: وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ: نصٌّ على سوءِ فِعْلِهِمْ بأنفسهم، أي: قد كان لهم حظٌّ عظيمٌ فيما ذُكِّروا به، فَنَسُوه، وتركُوه، ثم أخبر تعالى نبيَّه- عليه السلام- أنه لا يَزَالُ في مستأْنَفِ الزَّمان يطَّلع على خائِنَةٍ منهم، وغائلةٍ، وأمورٍ فاسدةٍ.
قالت فرقة: خَائِنَة: مصدرٌ، والمعنى: على خِيَانَةٍ، وقال آخرون: معناه: على فرْقَةٍ خائِنَةٍ، فهي اسمُ فاعلٍ صفةٌ لمؤنَّث.
وقوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ: منسوخٌ بما في «براءة» ، وباقي الآية بيِّن.
[سورة المائدة (5) : آية 14]
وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
وقوله تعالى: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى: «مِنْ» : متعلِّقة ب أَخَذْنا، التقديرُ:
وأخذْنَا مِنَ الذين قالُوا: إنَّا نصارى ميثاقَهُمْ، ويحتملُ أنْ تكون معطوفةً على خائِنَةٍ مِنْهُمْ، والأولُ أرجَحُ، وعلَّق قولهم: «نصارى» بقولهم ودعواهم مِنْ حيث هو اسمٌ شرعيٌّ يقتضي نَصْرَ دينِ اللَّه، وسَمَّوْا به أنفُسَهُمْ دُون استحقاق.
وقوله سبحانه: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ: أي: أثبتْنَاها بيْنَهم وألْصَقْنَاها، والإغْرَاءُ:
مأخوذ من الغِرَاءِ الذي يُلْصَقُ به، وقال البُخَارِيُّ: الإغراءُ: التسليط. انتهى.
والضمير في بَيْنَهُمُ يحتملُ أنْ يعود على اليَهُودِ، والنصارى لأنَّ العداوةَ بَيْنهم موجودةٌ مستمرَّةٌ، ويحتملُ أن يعود على النصارى فقطْ لأنها أُمَّة متقاتِلَةٌ بينها الفِتَنُ إلى يَوْم القيامة، ثم توعَّدهم بعذابِ الآخرة إذْ صُنْعهم كُفْرٌ يوجب الخُلُود في النار.
__________
(1) ورويت عن عمر بن الخطاب كما في الشواذ (ص 38) ، وينظر: «المحتسب» (1/ 208) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 168) ، و «البحر المحيط» (3/ 460) ، و «الدر المصون» (2/ 500) .(2/363)
واعلَمْ (رحمك اللَّه) أنه قَدْ جاءَتْ آثارٌ صحيحةٌ في ذَمِّ الشحناءِ والتباغُضِ والهِجْرَانِ لغَيْر موجِبٍ شرعيٍّ، ففي «صحيح مُسْلِمٍ» ، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «تُفْتَحُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ يَوْمَ الاِثْنَيْنَ وَيَوْمَ الخَمِيسِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لاَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئاً إلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيه شَحْنَاءُ، فَيُقَالُ: انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا، انظروا هَذَيْنِ حتى يَصْطَلِحَا» ، وفي روايةٍ: «تُعْرَضُ الأَعْمَالُ فِي كُلِّ خَمِيسٍ واثنين، فَيَغْفِرُ اللَّهُ فِي ذلك اليوم/ لكلّ امرئ لاَ يُشْرِكُ باللَّهِ شَيْئاً ... » الحديث «1» . انتهى.
وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «لاَ يَحِلُّ لامْرِىءٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُهَاجِرَ مُسْلِماً فَوْقَ ثَلاَثِ لَيَالٍ، فَإنَّهُمَا نَاكِبَانِ عَنِ الْحَقِّ مَا دَامَا على صِرَامِهِمَا، فَأَوَّلُهُمَا فَيْئاً يَكُونُ سَبْقُهُ بِالفَيْءِ كَفَّارَةً لَهُ، وَإنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَقْبَلْ، وَرَدَّ عَلَيْهِ سَلاَمَهُ، رَدَّتْ عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ، وَرَدَّتْ عَلَى الآخَرِ الشَّيَاطِينُ، وإذَا مَاتَا على صِرَامِهِمَا، لَمْ يَدْخُلاَ الجَنَّةَ» ، أُرَاهُ قَالَ: أَبَداً «2» . انتهى، وسنده جيِّد، ونصَّه قال ابن المبارك: أخبرنا شعبةُ عَنْ يزيدَ الرِّشْكِ «3» ، عن مُعَاذَةَ العَدَوِيَّةِ «4» ، قَالَتْ: سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ عامر «5» يقول: سمعت
__________
(1) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 908- 909) ، كتاب «حسن الخلق» ، باب ما جاء في المهاجرة، حديث (17) ومسلم (4/ 1986) كتاب «البر والصلة» ، باب النهي عن الشحناء والتهاجر، حديث (35/ 2565) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 271) رقم (784) والبخاري في «الأدب المفرد» (402) ، وأحمد (4/ 20) ، وابن حبان (5664) من طريق يزيد الرشك، عن معاذة العدوية، عن هشام بن عامر به.
وذكره الهيثمي في «المجمع» (8/ 69) وقال: رواه أحمد، وأبو يعلى، ورجال أحمد رجال الصحيح.
(3) يزيد بن أبي يزيد الضّبعي بضم المعجمة مولاهم أبو الأزهر البصري الذارع القسّام الرّشك بكسر المهملة وإسكان المعجمة. عن: مطرّف بن الشّخّير. وعنه: شعبة، ومعمر. وثقه أبو حاتم. قال ابن منجويه:
مات سنة ثلاثين ومائة. له في (البخاري) فرد حديث.
ينظر: «الخلاصة» (3/ 179) .
(4) معاذة بنت عبد الله العدويّة أم الصّهباء البصرية العابدة، عن علي وعائشة، وعنها أبو قلابة ويزيد الرّشك وأيوب وعاصم الأحول وطائفة، قال ابن معين: ثقة حجة، قال الذهبي: بلغني أنها كانت تحيي الليل، وتقول: عجبت لعين تنام وقد علمت طول الرقاد في القبور، قال ابن الجوزي: توفيت سنة ثلاث وثمانين.
ينظر: «الخلاصة» (3/ 393) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1698) ، «الكاشف» (3/ 481) ، «أعلام النساء» (5/ 60) ، «سير الأعلام» (4/ 508) .
(5) هشام بن عامر بن أمية بن الحسحاس بمهملات ابن مالك. عن عامر بن غنم بن عدي بن النّجّار الأنصاري النّجّاري، صحابي نزل البصرة، له أحاديث، انفرد له مسلم بحديث. وعنه ابنه سعد ومعاذة العدوية. -(2/364)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فذكر الحديثَ.
وقوله: «لَمْ يدخُلاَ الجَنَّةَ» : ليس على ظاهره، أيْ: لم يدخُلاَ الجَنَّة أبداً حتى يقتصَّ لبعضهم من بعض، أو يقع العفو، أو تحلَّ الشفاعة حَسْبما هو معلومٌ في صحيح الآثار.
[سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 17]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
وقوله سبحانه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ ... الآية: أهْلُ الكتابِ: لفظٌ يعمُّ اليهودَ والنصارى، ولكنْ نوازل الإخفاء كالرَّجْم وغيره، إنما حُفِظَتْ لليهود لأنهم كانوا مجاوري رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في مهاجره، وفي إعلامه صلّى الله عليه وسلّم بِخَفِيِّ ما في كُتُبِهِمْ، وهو أُمِّيٌّ لاَ يَكْتُبُ، ولا يَصْحَبُ القُرَّاءَ- دليلٌ على صحَّة نبوَّته لو ألهمهم اللَّه للخَيْر، وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ: أي: لم يفْضَحْهم فيه إبقاءً عليهم، والضمير في يَعْفُوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ: هو محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وكِتابٌ مُبِينٌ: هو القُرآن، ويحتملُ أنْ يريدَ موسى- عليه السلام-، والتوراةُ: أي: لو اتبعتموها حقَّ الاِتِّباع، والأوَّل هو ظاهر الآية، وهو أظهر، وسُبُلَ السَّلامِ: أي: طُرُقَ السلامةِ والنَّجَاةِ، ويحتملُ أنْ يكون «السَّلاَم» هنا اسما من أسماءِ اللَّه عزّ وجلّ، فالمعنى: طرق الله، والظُّلُماتِ: الكفر، والنُّورِ: الإيمان، وباقي الآية بيِّن متكرِّر.
وقوله سبحانه: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ: أيْ: لا مَالِكَ، ولا رادَّ لإرادةِ اللَّه تعالى في المسيحِ، ولا في غَيْرِهِ.
وقوله سبحانه: يَخْلُقُ مَا يَشاءُ: إشارةٌ إلى خلقه المسيحَ في رَحِمِ مَرْيَمَ من غير
__________
- ينظر: «الخلاصة» (3/ 114) ، «الكاشف» (3/ 222) ، «تهذيب الكمال» (3/ 1440) ، «تهذيب التهذيب» (11/ 42) .(2/365)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
والد، بل اختراعاً كآدم- عليه السلام-.
وقوله تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ: عُمُومٌ معناه الخُصُوصُ فيما عدا الذَّات، والصفاتِ، والمحالاتِ.
[سورة المائدة (5) : آية 18]
وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
وقوله سبحانه: وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ... الآية:
البُنُوَّة في قولهم هذا: بنوةُ الحَنَانِ والرأفة، لأنهم ذكروا أن اللَّه سبحانه أوحى إلى إسرائيل أن أول أولادك بكري فضلّوا بذلك، وقالوا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ، ولو صح ما رَوَوْا، لكان معناه: بِكْراً في التشريف أو النبوَّة، ونحوه، وكانت هذه المقالة منهم عند ما دعاهم النبيُّ- عليه السلام- إلى الإيمان به، وخوفِهِم العذابَ، فقالوا: نحن لا نخافُ ما تقول لأنا أبناء اللَّه وأحبَّاؤه ذكر ذلك ابن عباس «1» ، وقد كانوا قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في غير ما موطنٍ: نحن نَدْخل النار، فنقيم فيها أربعين يوماً، فردَّ اللَّه عليهم قولهم، فقال لنبيه- عليه السلام-: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ/ بِذُنُوبِكُمْ: أي: لو كانتْ منزلتكم منه فوق منازِلِ البَشَر، لَمَا عذَّبكم، وأنتم قد أقررتم أنه يعذِّبكم، ثم ترك الكلامَ الأوَّل، وأضرب عنه غَيْرَ مفسدٍ له، ودخل في غيره، فقال: بَلْ أنتم بشَرٌ كسائر الناسِ، والخلقُ أكرمُهم عند اللَّه أتقاهم، يهدي من يشاء للإيمان، فيغفرُ له ويُورِّطُ من يشاء في الكُفْر، فيعذِّبه، وله ملك السموات والأرض وما بينهما، فله بحق المُلْك أنْ يفعل ما يشاء، ولا معقِّب لحُكْمه، وإليه مصير العباد بالحشر والمعاد.
[سورة المائدة (5) : آية 19]
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
وقوله تعالى: يا أَهْلَ الْكِتابِ: يعني: اليهودَ والنصارى: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا:
محمد- عليه السلام-.
وقوله: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ: أي: على انقطاعٍ من مجيئهم مدَّةً ما، والفترة:
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 505) (11616) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 172) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 476) ، وعزاه لابن إسحق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس.(2/366)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
سُكونٌ بعد حَرَكَةٍ في الأجرام، ويستعار ذلك للمعانِي، وقد قال- عليه السلام-: «لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَةٌ، ولِكُلِّ شِرَةٍ فَتْرَةٌ» ، وفي الصحيح أنَّ الفترة التي كانت بين نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وبين عيسى سِتُّمائةِ سَنَةٍ، وهذه الآية نزلَتْ بسبب قولِ اليهود: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ بَعد موسى مِنْ شَيْءٍ قاله ابن عَبَّاس «1» .
وقوله: أَنْ تَقُولُوا: معناه: حِذَاراً أنْ تقولوا يوم القيامة: مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ، وقامتِ الحُجَّة عليكم، وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فهو الهادي والمضلّ لا ربّ غيره.
[سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 22]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22)
وقوله سبحانه: وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ... الآية: المعنى: واذكُرْ لهم، يا محمَّد على جهة إعلامهم بغيب كتبهم ليتحقَّقوا نبوَّتك، ثمَ عَدَّدَ عيُونَ تلك النِّعم، فقال: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ: أي: حاطةٌ، ومنقذون من النار، وشَرَفٌ في الدنيا والآخرة، وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً، أي: فيكم ملوكاً لأن المُلْك شَرَفٌ في الدنيا، وحَاطَةٌ في نوائبها، وَآتاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ، قال مجاهد: هو المَنُّ والسلوى، والحَجَر، والغَمَام «2» ، وقال غيره: كثرة الأنبياء وعلى هذا القول: فالعالَمُونَ على العموم، وعلى القول بأن المؤتى هو آيات موسى، فالعَالَمُونَ عالَمُ زمانهم لأنَّ ما أوتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من آيات الله أكثر من ذلك، والْمُقَدَّسَةَ معناه:
المطهَّرة، قال ابن عباس: هي الطُّور وما حوله «3» ، وقال قتادة: هي الشام «4» ، ...
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 507) (11619) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 173) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 476) وعزاه لابن إسحق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «الدلائل» عن ابن عباس.
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 511) (11642) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 24) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 478) وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد. [.....]
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 511) (11649) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 174) .
(4) . أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 513) (11650) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 478) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد عن قتادة.(2/367)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
قال «1» الطبريُّ: ولا يختلف أنَّها بيْنَ الفُرَاتِ وعريشِ مِصْرَ.
قال ع «2» : وتظاهرت الرواياتُ أنَّ «دِمَشْقَ» هي قاعدةُ الجَبَّارِينَ، ثم حذَّرهم موسى الارتداد على الأدبار، وذلك هو الرجوعُ القهقرى، والخاسرُ: الذي قد نقص حظُّه، ثم ذكر عز وجل أنهم تعنّتوا ونكصوا، فقالوا: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ، والجَبَّار: من الجَبْر كأنه لِقُدْرته وغَشْمه وبَطْشه يَجْبُرُ الناس على إرادته، والنَّخْلَةُ الجُبَارَةُ: العاليةُ التي لا تُنَالُ بيدٍ، وكان من خبر الجَبَّارين أنهم كانوا أهلَ قوَّة، فلما بعث موسى الإثْنَيْ عَشَرَ نقيباً مُطَّلِعِينَ من أمر الجبَّارين، وأحوالهم، رأَوْا لهم قوةٌ وبطْشاً وتخيَّلوا أن لا طاقة لهم بهم، فتعاقدوا بينهم على أنْ يُخْفُوا ذلك مِنْ بني إسرائيل، وأنْ يعلموا به موسى ليرى فيه أمر ربه، فلما انصرفوا إلى بني إسرائيل، خان منهم عَشَرة، فعرَّفوا قراباتِهِمْ، ومَنْ وثِقُوا به، ففشا الخَبَر حتى اعوجّ أمر بني إسرائيل، وقالوا: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا [المائدة: 24] ، ولم يفِ مِنَ النُّقَبَاء إلا يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَكَالِبُ بْنُ يوفتّا/، ويقال فيه: «كالوث» (بثاء مثلّثة) .
[سورة المائدة (5) : الآيات 23 الى 26]
قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لآ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)
وقوله تعالى: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي: يخافُونَ اللَّه سبحانَهُ قال أكْثر المفسِّرين: الرجُلاَن يُوشَعُ بنُ نُونٍ، وهو ابنُ أخْتِ موسى، وكَالِبُ بْنُ يُوفَتَّا، أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان الصحيحِ، ورَبْطِ الجَأْشِ، والثبوتِ، وقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا ... الآية: عبارةٌ تقتضي كفراً، وقيل: المعنى: فاذهب أنْتَ وربك يعينُكَ، وأنَّ الكلام معصية لا كُفْر، وذكر ابن إسحاق وغيره أنَّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلَّم النَّاسَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ لَهُمْ: «أَشِيرُوا عَلَيَّ، أَيُّهَا النَّاسُ، فَقَالَ لَهُ المِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَسْنَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ، وَلَكِنْ نَقُولُ: اذهب أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ «3» ، ثُمَّ تَكَلَّمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ بنَحْوِ هذا المعنى» ، ولما
__________
(1) ينظر: «تفسير الطبري» (4/ 513) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 174) .
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 521) (11685) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 25) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 176) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 480) ، وعزاه لأحمد عن طارق بن شهاب.(2/368)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
سَمِعَ موسى- عليه السلام- قولهم، ورأى عصيانهم، تبرَّأ إلى اللَّه منهم، وقال داعياً عليهم: رَبِّ إِنِّي لآ أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي، يعني: هارونَ.
وقوله: فَافْرُقْ بَيْنَنا: دعاء حرجٍ، والمعنى: فافرق بيننا وبينهم حتى لا نشقى بفسقهم، قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أي: قال اللَّه، وحرَّم اللَّه تعالى على بني إسرائيل دخولَ تلك المدينة أربعين سنةً يتيهونَ في الأرض، أي: في أرض تلك النازلة، وهو فَحْص التيه وهو على ما يحكى: طولُ ثلاثين ميلاً «1» ، في عَرْضِ ستَّةِ فراسِخَ، ويروى أنه لم يدخلِ المدينةَ أحد من ذلك الجِيلِ إلاَّ يُوشَعَ، وكَالُوث، وروي أنَّ يُوشَعَ نُبِّىءَ بعد كمالِ الأربعين سنَةً، وخرَجَ ببني إسرائيل من التيه، وقاتل الجَبَّارين، وفتح المدينةَ، وفي تلك الحَرْب، وقفَتْ له الشمسُ ساعةً، حتى استمرَّ هزم الجبَّارين، والتيه: الذَّهَاب في الأرض إلى غير مقصِدٍ معلوم.
وقوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ معناه: فلا تحزَنْ، والخطابُ بهذه الآية لموسى- عليه السلام-، قال ابنُ عباس: ندم موسى على دعائه على قومه، وحزن عليهم، فقال الله له: فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ «2» .
[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 30]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30)
وقوله تعالى: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ... الآية: اتل:
معناه: اسرد وأَسْمِعْهم إياه، وهذه مِنْ علوم الكتب الأُوَلِ، فهي مِنْ دلائل نبوَّة نبيِّنا محمَّد صلّى الله عليه وسلّم إذْ هي من غامِضِ كتب بني إسرائيل. قال الفَخْر «3» : وفي الآية قولان:
أحدهما: اتل على الناس.
والثاني: اتل على أهْلِ الكتابِ. انتهى.
__________
(1) الميل من الأرض: قدر منتهى مد البصر، وهو ثلث الفرسخ. وهو مقياس للطول قدّر قديما بأربعة آلاف ذراع، وحديثا بستين وسبعمائة وألف ياردة. ينظر: «لسان العرب» (4311) ، و «المعجم الوسيط» (901) .
(2) أخرجه الطبري بنحوه في «تفسيره» (4/ 526) (11705) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 177) .
(3) ينظر: «مفاتيح الغيب» (11/ 160) .(2/369)
وابْنَيْ آدَمَ: هما لصلبه، وهما هَابِيلُ وقَابِيلُ، روت جماعة من المفسِّرين منهم ابن مسعود أنَّ سبب هذا التقريبِ أنَّ حوَّاء كانت تَلِدُ في كلِّ بطْن ذكراً وأنثى، وكان الذَّكَر يتزوَّج أنثَى البطْن الآخر، ولا تحلُّ له أخته توءمته، فولدَتْ مع قابيلَ أختاً جميلةً، ومع هابيلَ أختاً ليست كذلك، فلمَّا أراد آدم أن يزوِّجها من هَابِيلَ، قال قابيل: أنا أحَقُّ بأختي، فأمره آدم، فلم يأتمر، فاتفقوا على التَّقْريب، فتُقُبِّل قربانُ هابيلَ، ووجب أنْ يأخذ أخت قابيلَ فحينئذٍ: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ «1» ، وقولُ هابيلَ: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ: كلامٌ، قبله محذوفٌ، تقديره: ولِمَ تقتلُنِي، وليس لي ذنُبٌ في قبول اللَّه قربانِي، وإنما يتقبَّل اللَّه من المتَّقين؟! وإجماع أهل السُّنَّة في معنى هذه الألفاظ: أنها اتقاء الشِّرْكِ، فمن اتقاه، وهو موحِّد، فأعماله التي تَصْدُقُ فيها نيتُه مقبولةٌ، وأما المتَّقِي للشرْكِ وللمعاصِي، فله الدرجةُ العليا من القَبُول/ والخَتْم بالرحمة، عُلمَ ذلك بإخبار اللَّه تعالى لا أنَّ ذلك يَجِبُ على اللَّه تعالى عقْلاً.
قلتُ:
قال ع: في معنى هذه الألفاظ (يعني حيث وقعت في الشرع) ، وأما في هذه الآية، فليس باتقاء شرك على ما سيأتي، وقولُ هابيلَ: مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ ...
الآية: قال عبد اللَّه بن عمر، وجمهورُ النَّاس: كان هابيلُ أشَدَّ قوةً من قابيلَ، ولكنَّه تحرَّج «2» ، وهذا هو الأظهر.
قال ع «3» : ومن هنا يقوى أن قابيل إنما هو عاصٍ، لا كافر لأنه لو كان كافراً، لم يكن للتحرّج هنا وجه، وتَبُوءَ: معناه: تمضِي متحمِّلاً، وقوله: بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ:
قيل: معناه: بإثم قَتْلي وسائرِ آثامك، وقيل: المعنى: بإثمي الذي يختصُّ بي فيما فَرَط لي، وهذا تأويل يعضده قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يؤتى بِالظَّالِمِ وَالمَظْلُومِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِ الظَّالِمِ، فَتُزَادُ فِي حَسَنَاتِ المَظْلُومِ حتى يَنْتَصِفَ، فَإنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ، أُخِذَ من سيّئات المظلوم، فتطرح عليه» «4» .
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 529) (11718) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 28) ، وابن عطية (2/ 179) والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 481) وعزاه لابن جرير، عن ابن مسعود، عن ناس من الصحابة.
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 532) (11730) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 29) ، وابن عطية (2/ 179) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 484) وعزاه لابن جرير.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 179) .
(4) تقدم تخريجه.(2/370)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
وقوله: وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ يحتملُ: أن يكون مِنْ قول هابيلَ لأخيه، ويحتمل:
أن يكون إخباراً من اللَّه تعالى لمحمَّد- عليه السلام-، قال الفَخْر: وقوله تعالى:
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ قال المفسرون: معناه: سَهَّلَتْ له نفسه قَتْل أخيه. انتهى.
وقوله سبحانه: فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ: أصْبَحَ: عبارةٌ عن جميعِ أوقاتِهِ، وهذا مَهْيَعُ كلامِ العرب ومنه: [المنسرح] أَصْبَحْتُ لاَ أَحْمِلُ السِّلاَح ... البَيْتَ «1» وقول سعد: فَأَصْبَحَتْ بَنُو أَسَدٍ تُعَزِّرُنِي «2» ، إلى غير ذلك مِن استعمال العرب، ومِنْ خسرانِ قابيلَ ما صحَّ، وثبَتَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «مَا قُتِلَتْ نَفْسٌ ظُلْماً إلاَّ كَانَ عَلَى ابن آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا» «3» وذلك لأنه أول من سنّ القتل.
[سورة المائدة (5) : الآيات 31 الى 32]
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
وقوله تعالى: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً ... الآية: قيل: أصبح في ثاني يومٍ قتله يطلب إخفاء أَمْرِ قتله، فلم يَدْرِ ما يصنعُ به، فبعث اللَّه غراباً حيًّا إلى غرابٍ ميتٍ، فجعل يبحث
__________
(1) صدر بيت للربيع بن ضبع الفزاري وعجزه: [المنسرح]
............... ... ... أملك رأس البعير إن نفرا
ينظر: «المعجم» (1/ 321) ، «النوادر» (159) ، «أمالي المرتضى» (1/ 255) ، و «حماسة البحتري» ص (201) ، و «خزانة الأدب» (7/ 384) و «شرح التصريح» (2/ 36) و «الكتاب» (1/ 89) و «لسان العرب» (13/ 259) (ضمن) و «المقاصد النحوية» (3/ 398) وبلا نسبة في «الدر على النحاة» ص (114) و «شرح المفصل» (7/ 105) و «المحتسب» (2/ 99) ، «الدر المصون» (2/ 178) .
(2) ذكره ابن عطية (2/ 180) . [.....]
(3) أخرجه البخاري (6/ 419) ، كتاب «أحاديث الأنبياء» (3335) وفي (12/ 198) كتاب «الديات» ، باب قول الله تعالى: وَمَنْ أَحْياها ... حديث (6867) ، وفي (13/ 314) كتاب «الاعتصام» ، باب إثم من دعا إلى ضلالة، حديث (7321) ومسلم (3/ 1303- 1304) ، كتاب «القسامة» ، باب بيان إثم من سن القتل، حديث (27/ 1677) من حديث ابن مسعود.(2/371)
في الأرض، ويُلْقِي الترابَ على الغُرَاب الميِّت، وظاهرُ الآية أنَّ هابيلَ هو أول مَيِّتٍ من بني آدم، ولذلك جَهِلَ سُنَّة المواراةِ وكذلك حكى الطبريُّ، عن ابن إسحاقَ، عن بعض أَهْلِ العِلْمِ بما في الكُتُب الأَوَلِ، والسَّوْءَةُ: العورةُ، ويحتمل أن يراد الحالة التي تَسُوء النَّاظر، ثم إن قابيلَ وارى أخَاه، ونَدِمَ على ما كان منه مِنْ معصية في قَتْله، حيث لا ينفعه الندم.
واختلف العلماء في قابيلَ، هل هو مِنَ الكُفَّار أو من العُصَاة، والظاهر أنه من العُصَاة، قال الفَخْر: ولم «1» ينتفعْ قابيلُ بندمه لأن نَدَمَهُ كان لأسبابٍ منها: سَخَط أبويه وإخوته، وعدمُ انتفاعه بقتله، وَنَحْوُ ذلك، ولما كان ندمه لهذه الأسبابِ لا لأجْلِ الخَوْف من اللَّه تعالى، فلا جَرَمَ لم ينفعْهُ هذا الندَمُ.
وقوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ هو إِشارة إلى ما تضمَّنته هذه القصَّة من أنواع المفاسِدِ الحاصلة بسبب القَتْل الحرامِ، لا أنه إشارة إلى قصة قابيلَ وهابيلَ. انتهى.
وقوله سبحانه: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ ... الآية: جمهورُ النَّاس على أن قوله: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ: متعلِّق بقوله: كَتَبْنا أي: من أجل هذه النازلة، ومِنْ جَرَّاها كتبنا، وقالَ قومٌ: بل هو متعلِّق بقوله: مِنَ النَّادِمِينَ أي: ندم من أجل ما وقع، والوقْفُ على هذا، على ذلِكَ، والناس على أن الوَقْف مِنَ النَّادِمِينَ، ويقال: فعلْتُ ذلك مِنْ أَجْلِكَ- بفتح الهمزة- ومِنْ إجْلِكَ- بكسرها-.
وقوله سبحانه: بِغَيْرِ نَفْسٍ أي: بغير أن تَقْتُلَ نفْسٌ نفْساً، والفسادُ/ في الأرض:
يجمع الزنا، والارتداد، والحِرَابة.
وقوله سبحانه: فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً روي عن ابن عباس أنه قال: المعنى:
مَنْ قتل نفساً واحدةً، وانتهك حرمتها، فهو مِثْلُ مَنْ قتل الناس جميعاٌ، ومَنْ ترك قتْلَ نفسٍ واحدةٍ، وصان حرمتها مخافَتِي، واستحياها، فهو كَمَنْ أحيا الناسَ جميعاً «2» ، قال الحسنُ وابْنُ زيدٍ: وَمَنْ أَحْياها أي: عفا عمَّن وَجَبَ له قتلُهُ بعد القدرة «3» ، وقيل غير هذا.
ثم أخبر تعالى عن بني إسرائيل أنهم جاءتهم الرسُلُ بالبيِّنات في هذا وفي سواه،
__________
(1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (11/ 32) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 541) (11775) ، وذكره ابن عطية (2/ 182) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 490) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر عن ابن عباس.
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 544) برقم (11792) عن ابن زيد، (11793) عن الحسن، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 182) .(2/372)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ في كلّ عصر يسرفون، ويتجاوزون الحدود.
[سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34]
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
وقوله سبحانه: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... الآية: روى أنس بن مالك وغيره: «أن الآية نزلَتْ في قومٍ مِنْ عُكْلٍ وعُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَى النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فَأَسْلَمُوا، ثم إنهم مَرِضُوا، واستوخموا المدينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنْ يَكُونُوا فِي لقَاح الصَّدَقَةِ، وَقَالَ:
«اشربوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا» ، فخرَجُوا فِيهَا، فَلَمَّا صَحُّوا، قتلوا الرّاعي، واستاقوا الإبل، فبلغ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خَبَرُهُمْ، فَبَعَثَ الطَّلَبَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُخِذُوا، قَالَ جميع الرّواة: فقطع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلاَفٍ، وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ «1» ، - ويروى: وَسَمَلَ «2» - وَتَرَكَهُمْ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ، يَسْتَسْقُونَ، فَلاَ يُسْقَوْنَ» ، فقيل: إن هذه الآية ناسخةٌ لفعْله صلّى الله عليه وسلّم بالعُرَنِيِّينَ، ووقَف الأمْر على هذه الحدودِ.
وقال جماعةٌ: إنها غير ناسخةٍ لذلك الفعْل لأن العرنيين مرتدّون، لا سيّما، وفي
__________
(1) أخرجه البخاري (1/ 400) في الوضوء: باب أبوال الإبل (233) و (3/ 428) في الزكاة، باب استعمال إبل الصدقة وألبانها لأبناء السبيل (1501) ، و (6/ 177) في الجهاد والسير، باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق؟ (3018) ، (7/ 524) في المغازي، باب قصة عكل وعرينة (4192، 4193) ، (8/ 123) في التفسير، باب إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا ... (4610) ، و (10/ 149) في الطب، باب الدواء بأبوال الإبل (5686) ، وباب من خرج من أرض لا تلايمه (5727) ، و (12/ 111) في الحدود، باب المحاربين من أهل الكفر والردة (6802) ، وباب لم يسق المرتدون المحاربون حتى ماتوا (6804) وباب سحر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعين المحاربين (6805) ، وفي الديات، باب القسامة (6899) ، ومسلم (3/ 1296- 1298) في القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين (1409/ 1671) ، وأبو داود (2/ 534) في الحدود، باب ما جاء في المحاربة (4364- 4368) ، والنسائي (1/ 158) في الطهارة، باب بول ما يؤكل لحمه، و (7/ 93- 100) في تحريم الدم. باب قول الله تعالى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ ... ، باب اختلاف الناقلين لخبر حميد عن أنس بن مالك فيه. باب ذكر اختلاف طلحة بن مصرف ومعاوية بن صالح على يحيى بن سعيد في هذا الحديث، وأحمد (3/ 163، 170، 198، 233) .
(2) أي: فقأها بحديدة محماة أو غيرها، وقيل: هو فقؤها بالشوك.
ينظر: «النهاية» (2/ 403) .(2/373)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
بعض الطُّرُق أنهم سَمَلُوا أَعْيُنَ الرِّعَاءِ، وقالوا: هذه الآيةُ هي في المحارِبِ المُؤْمِنِ.
قال مالك: المُحَارِبُ عندنا: مَنْ حَمَلَ على الناس السلاحَ فِي مِصْرٍ أو بَرِّيَّةٍ، فكابرهم عن أنفسهم وأموالهم، دون نَائِرَةٍ «1» ، ولا دَخلٍ، ولا عداوةٍ وبهذا القولِ قال جماعةٌ من أهل العِلْمِ، قالوا: والإمامُ مخيَّرٌ فيه بأن يعاقبه بما رأى مِنْ هذه العقوبات، فأما قَتْلُ المحارِبِ، فبالسَّيْف ضربةً للعنُق، وأما صَلْبه، فبعد القتْلِ عند جماعة، وقال جماعة:
بل يُصْلَبُ حيًّا، ويُقْتلُ بالطعن على الخَشَبة، وروي هذا عن مالك، وهو الأظهر من الآيةِ، وهو الأنكى في النكال، وأما القَطْع، فاليد اليمنى من الرُّسْغ والرِّجْل الشِّمال من المَفْصِلِ.
وقوله سبحانه: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ: الظاهر: أن الأرض في هذه الآية هي أرضُ النازلة، وقد جنب الناس قديماً الأرض التي أصابُوا فيها الذُّنُوب ومنه حديثُ الذي نَاءَ بصَدْره نحو الأرْضِ المقدَّسة، وينبغي للإمام، إنْ كان هذا المحارِبُ المنفيُّ مخُوفَ الجانِبِ، يظنُّ به أن يعود إلى حِرابةٍ وإفسادٍ- أنْ يسجنه في البلد الذي يغرب إلَيْهِ، وإنْ كان غير مخُوفِ الجانبِ، ترك مسرَّحاً، وهذا هو صريحُ مذهب مالك.
وقوله تعالى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا ... الآية: إشارة إلى هذه الحدود التي تُوقَعُ بهم، فيحتمل الخزي لمن عوقب، وعذاب الآخرة لمن سَلِمَ في الدنيا، وبالجملة فهم في المشيئة.
وقوله سبحانه: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا ... الآية: استثنى عز وجل التائِبَ قبل أنْ يُقْدَرَ عليه، وأخبر سبحانه بِسُقُوطِ حقوقِهِ عنْه بقوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، والعلماءُ على أن الآية في المؤمنين، ويؤخذ المحارِب بحقوقِ/ الناسِ، وإن تاب هذا هو الصحيح.
[سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ... الآية: هذه الآية
__________
(1) النائرة: الحقد والعداوة. والدّخل: ما داخل الإنسان من فساد في عقل أو جسم.
ينظر: «لسان العرب» (1342) ، (4593) .(2/374)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
وعْظٌ من اللَّه تعالى بعقب ذكر العقوبات النازلة بالمحاربين، وهذا من أبلغ الوعْظ لأنه يرد على النفوس، وهي خائفةٌ وجِلَةٌ وَابْتَغُوا: معناه: اطلبوا، والْوَسِيلَةَ: القربة، وأما الوسيلة المطلوبة لنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فهي أيضاً من هذا لأن الدعاء له بالوسيلةِ والفضيلةِ إنما هو أنْ يُؤْتَاهُما في الدنيا، ويتَّصف بهما، ويكونُ ثمرةُ ذلك في الآخرةِ التشفيعَ في المَقَامِ المحمودِ، قلْتُ: وفي كلامه هذا ما لا يخفى، وقد فسر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الوسيلةَ التي كان يَرْجُوها من ربه، «وأَنَّهَا دَرَجَةٌ فِي الجَنَّةِ لاَ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ إلاَّ لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ ... » «1» الحديث، وخص سبحانه الجهادَ بالذكْر، وإن كان داخلاً في معنى الوسيلة تشريفاً له إذ هو قاعدةُ الإسلام.
وقوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ: إخبار بأنهم يتمنَّوْنَ هذا، وقال الحسنُ بْنُ أبي الحسن: إذا فَارَتْ بهم النارُ، قَرُبُوا من حاشيتها، فحينئِذٍ يريدونَ الخُرُوجَ، ويطمعون به «2» ، وتأوَّل هو وغيره الآية على هذا قلْتُ: ويؤيِّده ما خرّجه البخاريّ في رؤية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «حَيْثُ أَتَاهُ آتيَانِ، فَأَخَذَا بِيَدِهِ» ، وفيه: «فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهْرِ، فَإذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، رمى الرجل بِحَجَرٍ فِي فِيهِ» ، وفيه أيضاً: «فَانْطَلَقْنَا إلى ثُقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلاَهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ تَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارٌ، فَإذَا اقترب، ارتفعوا، فَإذَا خَمَدَتْ، رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالاَ: انطلق ... » «3» الحديث، وأخبر سبحانه عن هؤلاءِ الكفَّار أنهم ليسوا بخارجين من النار، بل عذابهم فيها مقيم مؤبّد.
[سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40]
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
وقوله سبحانه: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ... الآيةَ: قلت «4» :
المسروق: مال أو غيره.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) ذكره ابن عطية (2/ 187) .
(3) هو حديث المعراج الطويل، وسيأتي تخريجه في موضعه.
(4) السرقة: بفتح السين، وكسر الراء، ويجوز إسكان الرّاء، مع فتح السين، وكسرها يقال: سرق بفتح الراء، يسرق بكسرها سرقا، وسرقة، فهو سارق، والشيء مسروق، وصاحبه مسروق منه، فهي لغة:
أخذ الشيء من الغير خفية، أي شيء كان.
واصطلاحا:(2/375)
فشرط المال: أنْ يكون نصاباً، بعد خروجه، مملوكاً لغير السارقِ، ملكاً محترماً، تامًّا، لا شُبهة «1» له فيه، مُحْرَزاً، مُخْرَجاً منه إلى ما ليس ...
__________
- عرفها الشافعية: بأنها أخذ المال خفية ظلما، من غير حرز مثله بشروط.
وعرفها المالكية: بأنها أخذ مكلّف حرّا لا يعقل لصغره، أو مالا محترما لغيره نصابا، أخرجه من حرزه، بقصد واحد خفية لا شبهة له فيه.
وعرفها الحنفية: بأنها أخذ مكلف عاقل بالغ خفية قدر عشرة دراهم.
وعرفها الحنابلة: بأنها أخذ مال محترم لغيره، وإخراجه من حرز مثله.
ينظر: «الصحاح» (4/ 1496) ، «المغرب» (1/ 393) ، «المصباح» (1/ 419) ، «تهذيب الأسماء» للنووي (2/ 148) ، «درر الحكام» (2/ 77) ، «ابن عابدين» (4/ 82) ، «مغني المحتاج» (4/ 158) ، «المغني» لابن قدامة (9/ 104) ، «كشاف القناع» (6/ 129) ، «الخرشي على المختصر» (8/ 91) .
(1) وإلى ذلك ذهب جماهير الفقهاء فلا يقطع الوالد مثلا من سرقته مال ولده.
وخالفهم الظاهرية، وأبو ثور، وابن المنذر فقالوا: يقطع السارق مطلقا: كانت له شبهة في مال المسروق منه أو لا.
استدل جمهور الفقهاء:
أوّلا: بما رواه الترمذي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله فإنّ الإمام إن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة» .
وثانيا: بما روي من مسند أبي حنيفة للمارتي من طريق مقسم عن ابن عباس: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ادرءوا الحدود بالشّبهات» .
وثالثا: بما رواه ابن ماجة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ادفعوا الحدود ما وجدتم مدفعا» فهذه الأحاديث صريحة في وجوب درء الحدود بالشبهات. والقطع حد فلا يجب مع وجودها.
واستدل الظاهرية ومن وافقهم: بعموم قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] .
فإنه تعالى أوجب القطع من غير تفريق بين من له شبهة في مال المسروق منه، ومن لا شبهة له فيه.
وأجيب عنه بأن عموم الآية مخصوص بالأحاديث التي ذكرناها أدلة لجماهير الفقهاء.
هذا، والحق ما ذهب إليه جمهور الفقهاء فإن القطع عقوبة شديدة فيجب ألا تقام حتى يكون السبب تاما، والاعتداء ظاهرا. ومع وجود شبهة للسارق في مال المسروق منه لا يتحقق ما ذكر، فالقطع حينئذ لا يناسب الجريمة. فوجوبه ظلم حاشا أن يوجد في أحكام الشريعة الإسلامية وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] .
لذلك أوجبت الشريعة درء الحدود بالشبهات، ومنعت من إقامتها حتى تتحقق المناسبة بين الجرم، والعقوبة.
غير أن جماهير الفقهاء اختلفوا فيما يعتبر شبهة دارئة للحد، وما لا يعتبر كذلك تبعا لاختلافهم في اعتبار قوة الشبه. وعدم اعتبارها، وانبنى على ذلك اختلافهم في فروع كثيرة من هذا الباب فمثلا: المالكية لا يوجبون القطع في سرقة الأصول من الفروع، ويوجبونه في سرقة الفروع من الأصول نظرا لقوة الشبهة في الأولى دون الثانية. -(2/376)
بحرز «1» له، استسرارا.
__________
- والأئمة الثلاثة لا يفرقون بينهما في عدم القطع نظرا لتحقق الشبهة في كل منهما. وإن لم تكن قوية في البعض وأوسع المذاهب في هذا مذهب الحنفية. حتى إنهم لا يقطعون في سرقة ذوي الأرحام بعضهم من بعض مع أن الشبهة هنا ضعيفة.
ينظر: «حد السرقة» لشيخنا إبراهيم الشهاوي. [.....]
(1) الحرز في اللغة: الموضع الحصين. ومنه: حديث الدعاء: «اللهمّ اجعلنا في حرز حارز» :
وفي اصطلاح الفقهاء: هو الموضع الذي يحفظ فيه المال عادة، بحيث لا يعد صاحبه مضيعا له بوضعه فيه كالدور والحوانيت والخيم. وهو يختلف باختلاف الأزمان والبلدان، ويتفاوت بتفاوت الأموال، وقوة السلطان وضعفه، وعدله وجوره ولهذا ترك الشارع بيانه، ولم ينص على تحديده كما لم ينص على بيان القبض، والفرقة في البيع، وأشباه ذلك مما يختلف باختلاف العرف، ولو كان له حد معين لما ترك الشارع بيانه.
هذا وقد ذهب جماهير الفقهاء إلى أن أخذ المسروق من حرزه شرط في وجوب القطع، فلا يقطع السارق إلا إذا أخذ المسروق من حرزه.
وذهب أهل الظاهر، والخوارج، وجماعة من أهل الحديث إلى عدم اشتراطه، فيجب عندهم قطع السارق مطلقا أخذ المسروق من حرزه أو لا.
استدل الجمهور بالمنقول، والمعقول:
أما المنقول: فما رواه مالك في «الموطأ» عن عبد الله بن عبد الرّحمن بن حسين المكي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا قطع من ثمر معلّق ولا في حريسة الجبل، فإذا آواه المراح أو الجرين، فالقطع فيما بلغ ثمن المجنّ» .
ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد أثبت القطع في الثمر إذا سرق من جرينه، وفي الحريسة إذا أخذت من مراحها، ونفاه في سرقتهما قبل ذلك، فعلم أن المراح حرز للحريسة، والجرين حرز للثمر، وأن أخذهما من غير حرزهما لا قطع فيه وذلك يقضي باعتبار الأخذ من الحرز شرطا لوجوب القطع فيهما. وحيث لا فرق بين مال ومال، كان الأخذ من الحرز شرطا لوجوب القطع في سرقة كل مال.
وأما المعقول: فإن الله- تعالى- قد جعل الأموال مهيأة للانتفاع بها، فكانت موضع أطماع الناس، وموطن رغباتهم، واقتضت حكمته جل شأنه اختصاص الناس بالملك لأن ترك الأشياء مباحة للكل يجعل النفوس في جشع دائم، وحرص شديد لما جبلت عليه من الأثرة، وحب الذات، فيكون ذلك مثار الفتن، وسبب النزاع المستمر.
وإذا كانت رغبة النفوس في المال قوية وشغفها به أمر مطبوعة عليه، ووجد الاختصاص في الملكية، كان لا بد من شيء يحفظ المال على من اختص به. لذلك وجد النهي والزجر عن أخذ مال الغير بدون رضاه ليرتدع بذلك أصحاب المروءة، والديانة كما وجه الأمر للمالك بحفظ ماله حتى لا يكون طعمة لذوي الأطماع الخبيثة، والنفوس الدنيئة، الذين لا تؤثر فيهم الموعظة، ولا تفيدهم النصيحة حتى يروا العذاب رأي العين.
فإذا قام المالك بما طلب منه، ولم يفرط في صون المال من ناحيته. ثم اقتحم الغير عليه مأمنه، وهتك ما به الصون، كان من الحكمة أن يعاقب بالقطع لارتكابه تلك الجريمة بعد توجيه النهي إليه، وزجره بالعقاب الأخروي. -(2/377)
فالنصاب: ربعُ دينارٍ أو ثلاثةُ دراهم، أو ما يساوي ثلاثة «1» دراهم، وقوله:
__________
- وإذا لم يقم المالك بما طلب منه، وقصر في الصون انتفى القطع لعدم تمام الجريمة بتفريطه.
واستدل الظاهرية ومن وافقهم بعموم قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] .
فإن الله- تعالى- قد رتب وجوب القطع على السرقة، فكانت هي العلة، فمتى تحققت السرقة وجب القطع مطلقا أخذ المسروق من حرزه أو لا.
وأجيب عنه: أن عموم الآية مخصوص بالسنة التي دلت على اعتبار الأخذ من الحرز شرطا في وجوب القطع.
هذا والحق ما ذهب إليه الجمهور من القول بأن الأخذ من الحرز شرط في وجوب القطع لقوة دليله، وضعف دليل مخالفه، حتى قال ابن المنذر: إن اعتبار أخذ المسروق من حرزه شرطا لوجوب القطع يكاد يكون أمرا مجمعا عليه.
وأحقيته من جهة النظر ظاهرة، فإن الأموال غير المحرزة شبيهة بالأموال الضائعة، فالاعتداء عليها ناقص، فلا يتناسب مع القطع.
أما الأموال المحرزة، فالاعتداء عليها كامل بمسارقة عين المالك وهتك الحرز، وإخراجها منه.
فالتناسب ظاهر بينهما.
ينظر: «حد السرقة» لشيخنا إبراهيم الشبهاوي.
(1) يرى جمهور الفقهاء أن السارق لا يقطع إلا إذا سرق نصابا.
ويرى أهل الظاهر، والخوارج، وطائفة من المتكلمين أنه يقطع في القليل والكثير، وليس هناك نصاب محدود لوجوب القطع في السرقة.
وعلم أن جمهور الفقهاء قد اتفقوا على اعتبار النصاب شرطا لوجوب القطع. ومع اتفاقهم على هذا قد اختلفوا اختلافا كثيرا في مقداره الذي لا يقطع السارق من أقل منه، ويقطع فيه وفيما زاد عليه.
فيرى الشافعي وأصحابه أنه ربع دينار، أو ما قيمة ربع دينار سواء أكان قيمة ثلاثة دراهم، أم أكثر، أم أقل منها. فلا قطع عندهم في أقل من ربع دينار- ولو كان قيمة ثلاثة دراهم. كما لا قطع في ثلاثة دراهم، إلا إذا كانت قيمتها ربع دينار.
ويرى مالك، وأصحابه في المشهور عنهم أنه ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما قيمته ثلاثة دراهم.
فيقطع السارق عندهم في ربع دينار، وإن لم تكن قيمته ثلاثة دراهم، ويقطع في ثلاثة دراهم وإن لم تكن قيمة ربع دينار. ويقطع في غير النقدين من العروض بما قيمته ثلاثة دراهم، وإن لم تكن قيمة ربع دينار.
ويرى أحمد، وأصحابه في المشهور عنهم أنه ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، أو ما قيمة تساوي أحدهما.
فيقطع السارق في ربع دينار، وإن لم يساو ثلاثة دراهم، ويقطع في ثلاثة دراهم، وإن لم تساو ربع دينار، ويقطع في سرقة غير النقدين بما قيمته ربع دينار، أو ثلاثة دراهم.
ويرى أبو حنيفة، وأصحابه في المشهور عنهم أنه عشرة دراهم أو ما قيمته عشرة دراهم.
فلا قطع عندهم في أقل من عشرة دراهم، ولو كانت قيمة ربع دينار كما لا قطع في غير الفضية من الذهب، أو العروض بما قيمته أقل من عشرة دراهم، ولو كانت قيمته تساوي ربع دينار. استدل الشافعي، وأصحابه أولا: بما رواه أحمد، ومسلم، والنّسائي، وابن ماجة عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقطع يد السّارق إلّا في ربع دينار فصاعدا» . -(2/378)
..
__________
- ووجه الدلالة من الحديث: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أثبت القطع في ربع دينار، ونفاه عما دون ذلك لأن الحديث قضية محصورة بالنفي، وإلا فتنحل إلى قضيتين: إحداهما موجبة، وهي: تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا، سواء أكان قيمة ثلاثة دراهم، أم أقل أم أكثر. وثانيتهما: سالبة، وهي لا تقطع يد السارق في أقل من ربع دينار، سواء أكان ذلك الأقل قيمته ثلاثة دراهم، أم أقل أم أكثر.
فالقضية الأولى تثبت القطع في ربع دينار، وإن لم يكن قيمة عشرة دراهم، وفي ذلك رد على أبي حنيفة وأصحابه.
والثانية تقتضي نفي القطع في أقل من ربع دينار، ولو كان قيمة ثلاثة دراهم، وفي ذلك رد على مالك، وأحمد، وأصحابهما.
والحديث بجملته يدل على أن الذهب هو الأصل الذي يصار إليه في معرفة قيمة المسروق، فإنه تحديد من الشارع بالقول لا يجوز العدول عنه، وقوم ما عداه به، ولو كان المسروق فضة.
وثانيا: بما رواه النسائي عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقطع يد السّارق فيما دون ثمن المجنّ» قيل لعائشة: ما ثمن المجنّ؟ قالت: ربع دينار. فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد نفى القطع فيما ثمنه دون ربع دينار وأثبته فيما ثمنه ربع دينار بنفيه القطع فيما دون ثمن المجن إذ كان ثمن المجن ربع دينار ببيان السيدة عائشة رضي الله عنها.
والحديث صريح في أن العروض إنما تقوم بالذهب من غير نظر إلى الفضة أصلا لأن البيان من السيدة عائشة في حكم المرفوع، فهو تحديد من الشارع بالنص لا يجوز العدول عنه.
وأجيب عنه من قبل أبي حنيفة، وأصحابه: بأن التقويم أمر ظني تخميني، فيجوز أن تكون قيمة المجن عند عائشة- رضي الله عنها- ربع دينار، وتكون عند غيرها أكثر، فالاعتماد على قول عائشة يقتضي ثبوت القطع مع وجود شبهة.
ورد هذا الجواب: بأن السيدة عائشة- رضي الله عنها- لم تكن لتخبر بما يدل على مقدار ما يقطع فيه، إلا عن تحقيق لعظم أمر القطع..
واستدل مالك، وأحمد وأصحابهما، بما رواه مسلم عن ابن عمر أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم» ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قطع فيما قيمته ثلاثة دراهم، ولم يستفسر عن كون هذه الثلاثة تساوي ربع دينار، أو تقل عنه. وذلك يقضي باعتبار القطع في ثلاثة دراهم، وإن لم تساو ربع دينار، وبذلك يخص مفهوم حديث عائشة- رضي الله عنها- ويكون مفهومه: حينئذ لا تقطع يد السارق في أقل من ربع دينار، إلا إذا ساوى ثلاثة دراهم فتقطع.
والحديث صريح في أن العروض تقوم بالدراهم من غير نظر إلى الذهب أصلا. وأجب عنه من قبل الشافعي، وأصحابه: بأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إنما ترك الاستفسار، لأن طرف الدينار في عهده صلّى الله عليه وسلّم: كان اثني عشر درهما، فمعلوم أن ثلاثة دراهم تساوي ربع دينار، وذلك لا يقتضي أن الدراهم الثلاثة معتبرة في القطع، وفي التقويم حتى ولو تغير صرف الدينار، فإنها قضية عين لا عموم لها.
واستدل أبو حنيفة وأصحابه، أولا: بما رواه أحمد، والدارقطني عن الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا قطع إلّا في عشرة دراهم» .
ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نفى القطع في أقل من عشرة دراهم، سواء أكان ذلك الأقل يساوي ربع دينار، أم يزيد أم يقل عنه، وفي ذلك رد على الأئمة الثلاثة، وأصحابهم وأثبته في عشرة دراهم، وذلك-(2/379)
أَيْدِيَهُما يعني: أَيْمانَ النوعَيْن «1» ، والنَّكَال: العذابُ، والنِّكْل: القيد.
__________
- يقتضي أن العشرة الدراهم هي المعتبرة في القطع.
وأجيب عنه: بأن الحديث لا يصلح للاستدلال، فإن الحجاج بن أرطاة مدلس، ولم يسمع هذا الحديث من عمرو بن شعيب.
وثانيا: بما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقطع يد السّارق فيما دون ثمن المجنّ» : قال عبد الله: وكان ثمن المجنّ عشرة دراهم.
ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نفى القطع فيما ثمنه دون عشرة دراهم بنفيه القطع فيما دون ثمن المجن وأثبته في عشرة دراهم إذ كان ثمن المجن عشرة دراهم كما قال عبد الله.
والحديث صريح في أن العروض تقوم بالدراهم من غير ملاحظة كون الذهب أصلا إذ قوم المجن بها وهو عرض، وأجيب عنه: بأنه لا يصلح للاستدلال لأن في إسناده محمد بن إسحاق وقد عنعن، ولا يحتج بمثله إذا جاء بالحديث معنعنا، وبذلك لا يصلح لمعارضة حديث عائشة في تقدير ثمن المجن بربع دينار، وحديث ابن عمر في تقديره بثلاثة دراهم، ولو سلمت صلاحيته للمعارضة تعين طرحه هو، ومعارضة من الروايات الواردة في تقدير ثمن المجن لعدم ما يدفع به التعارض، ووجب العمل بما تفيده رواية عائشة من إثبات القطع في ربع دينار، وهو دون عشرة دراهم.
ينظر: «حد السرقة» لشيخنا إبراهيم الشهاوي، «نيل الأوطار» (7/ 105) ، «المغني» لابن قدامه (10/ 243) .
(1) اختلف الفقهاء في محل القطع من السارق: فذهب الحنفية، والحنابلة إلى أنه اليد اليمنى، والرجل اليسرى وذهب المالكية، والشافعية: إلى أنه اليدان والرجلان، وذهب داود، وربيعة: إلى أنه اليدان فقط.
وذهب عطاء إلى أنه اليد اليمنى خاصة.
استدل الحنفية، والحنابلة بأدلة: منها ما يخص اليد اليمنى، ومنها ما يعم اليد اليمنى، والرجل اليسرى.
أما ما يخص اليد اليمنى: فقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] .
ووجه الدلالة: أن المراد بأيديهما: أيمانهما لقراءة عبد الله بن مسعود: فاقطعوا أيمانهما، وهي خبر مشهور مقيد لإطلاق الآية، فالذي يقطع من السارق والسارقة بنص الآية اليد اليمنى، فاليد اليسرى خارجة من إطلاق الآية بهذه القراءة، ولم يثبت في السنة من طريق صحيح تعلق القطع بها في السرقة، فعلم من ذلك أنها ليست محلا للقطع.
وأما ما يعم اليد اليمنى، والرجل اليسرى: فأولا: ما رواه الدارقطني عن علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قال: إذا سرق السارق قطعت يده اليمنى، فإن عاد قطعت رجله اليسرى، فإن عاد ضمنته السجن حتى يحدث خيرا، إني لأستحي من الله أن أدعه ليس له يد يأكل بها، ويستنجي بها، ورجل يمشي عليها.
وثانيا: ما رواه ابن أبي شيبة أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله عن السارق، فكتب إليه بمثل قول علي.
وثالثا: ما رواه ابن أبي شيبة أن عمر- رضي الله عنه- قال: «إذا سرق فاقطعوا يده، ثم إن عاد فاقطعوا رجله، ولا تقطعوا يده الأخرى، وذروه يأكل بها ويستنجي بها» .
ورابعا: ما رواه ابن أبي شيبة أن عمر- رضي الله عنه- استشار الصحابة في سارق، فأجمعوا على مثل-(2/380)
وقوله سبحانه: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ ... الآية:
__________
- قول علي.
فهذه الآثار جميعها صريحة في أن ما يقطع من السارق إنما هو اليد اليمنى، والرجل اليسرى، ثم إن عاد إلى السرقة بعد قطعهما، أودع السجن حتى يظهر صلاح حاله.
واستدل المالكية، والشافعية بأدلة: منها ما يخص اليدين، ومنها ما يعم اليدين والرجلين.
أما ما يخص اليدين: فأولا: قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] فإن اسم السيد يطلق على اليد اليسرى، كما يطلق على اليد اليمنى ... وقد أمر الله- تعالى- بقطع يدي كل من السارق والسارقة، فظاهر النص قطعهما معا لولا قيام الإجماع على عدم قطعهما معا في سرقة واحدة، وعلى عدم الابتداء باليسرى.
وأجيب عنه بأن نص الآية لا يتناول اليد اليسرى لتقييده باليمنى من قراءة عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-.
وثانيا: ما رواه مالك في «الموطأ» عن عبد الرّحمن بن القاسم، عن أبيه أن رجلا من اليمن أقطع اليد والرجل قدم فنزل على أبي بكر الصديق، فشكا إليه أن عامل اليمن ظلمه، فكان يصلي من الليل، فيقول أبو بكر- رضي الله عنه- وأبيك ما ليلك بليل سارق ثم إنهم غدوا عند أسماء بنت عيمس امرأة أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- فجعل الرجل يطوف معهم، ويقول: اللهم عليك بمن بيت أهل هذا البيت الصالح، فوجدوا الحلي عند صائغ زعم أن الأقطع جاء به، فاعترف الأقطع، أو شهد عليه، فأمر به أبو بكر فقطعت يده اليسرى. وقال أبو بكر: لدعاؤه على نفسه أشد عليه من سرقته فهذا أشد صريح في أن اليد اليسرى محل للقطع، وإلا لما صح لأبي بكر قطعها.
وأجيب عنه: بأن سارق حلي أسماء لم يكن أقطع اليد، والرجل، بل كان أقطع اليد اليمنى فقط، فقد قال محمد بن الحسن في «موطئه» : قال الزهري: ويروى عن عائشة قالت: إنما كان الذي سرق حلي أسماء أقطع اليد اليمنى، فقطع أبو بكر رجله اليسرى، قال: وكان ابن شهاب أعلم بهذا الحديث من غيره.
وأما ما يعم اليدين، والرجلين: فما رواه الدارقطني من طريق الواقدي، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سرق السّارق فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله، فإن عاد فاقطعوا يده، فإن عاد فاقطعوا رجله» فهذا الحديث صريح في أن القطع يتعلق بجميع أطراف السارق.
وأجيب عنه: بأنه لا يصلح للاحتجاج، فإن في طريقه الواقدي، وفيه مقال، وقد روي هذا المعنى من طرق كثيرة لم تسلم من الطعن. فقد قال الطحاوي: تتبعنا هذه الآثار، فلم نجد بشيء منها أصلا ومما يدل على عدم صلاحيته للحجبة عدم استدلال الصحابة به حينما استشارهم علي- رضي الله عنه- في سارق أقطع اليد والرجل، فلم يقطعه، وجلده جلدا شديدا، ودعوى الجهل به بعيدة، فإن مثل هذا لا يخفى على الصحابة- رضوان الله عليهم- فعدم احتجاجهم به ليس إلا لضعفه، أو نسخه، فإن الحدود كان فيها تغليظ في الابتداء، ألا ترى أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قطع أيدي العرنيين، وسمل أعينهم، ثمّ نسخ ذلك.
واستدل داود، ومن وافقه بقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] .
ووجه الدلالة: أن الله- تعالى- قد نص على قطع اليدين، ولم ينص على قطع الرجلين، فلو كان قطع الرجلين مطلوبا لأمر به- تعالى- والسنة لم يرد فيها من طريق صحيح ما يفيد قطعهما في السرقة، والذي ورد في السنة صحيحا جميعه يتعلق بقطع اليد، فقد قال- عليه الصلاة والسلام-: «لو سرقت فاطمة بنت-(2/381)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
جمهورُ العلماءِ على أَنَّ توبة السارق لا تُسْقِطُ عنه القَطْعَ، وقال الشافعيُّ: إذا تاب السارق قبل أنْ يتلبَّس الحُكَّام بأخْذه، فتوبته تَدْفَعُ عنه حُكْمَ القطع قياساً على توبة المُحَارِبِ.
وقوله سبحانه: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أي: فلا معقِّب لحكمه سبحانه، ولا معتَرِضَ عليه، يفعلُ ما يَشَاء لا إله إلا هو.
[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 43]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43)
__________
- محمّد لقطع محمّد يدها» . وقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تقطع اليد إلّا في ربع دينار فصاعدا» وأمثال ذلك كثير كله متعلق بقطع اليد، ولم يرد الرجل فيها ذكر، وفي ذلك دليل صحيح على أن القطع إنما يتعلق باليدين دون الرجلين وأجيب عنه من قبل الحنفية، والحنابلة بأنه لا دلالة في الآية على أن اليد اليسرى محل للقطع، فإن المراد من قوله تعالى: فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أيمانهما. لقراءة عبد الله بن مسعود: «فاقطعوا أيمانهما» وقطع الرجل اليسرى قد ثبت بالسنة الصحيحة، وإجماع الصحابة على ذلك مما يقطع بصحة السنة الواردة بقطع الرجل اليسرى بعد قطع اليد اليمنى.
واستدل عطاء بقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما [المائدة: 38] .
فإن المراد من قوله: «أيديهما» أيمانهما لقراءة عبد الله: «فاقطعوا أيمانهما» ، فإنها مقيدة لإطلاق الآية، فاليد اليسرى ليست مرادة، ولم يثبت في السنة من طريق صحيح قطع غيرها من الأطراف، فوجب الاقتصار عليها.
وأجيب عنه: بأن السنة الصحيحة قد أثبتت قطع الرجل اليسرى في السرقة، وقام الإجماع على ذلك.
هذا والراجح ما ذهب إليه الحنفية والحنابلة، من أن محل القطع إنما هو اليد اليمنى، والرجل اليسرى، لقوة أدلته، أو لأن القطع إنما شرع للزجر لا للإتلاف، وفي استيفاء الأطراف الأربعة بالقطع إتلاف، أو شبهة إتلاف، وشبهة الإتلاف منزل منزلة الإتلاف فيما يدرأ بالشبهات، والزجر يتحقق بالقطع مرتين، فإن إزالة عضوين من الجسم لهما قيمتهما في البطش، والمشي لأبلغ عظة وأقوى زاجرا لمن خبثت نفسه، ومال به هواه.
ينظر: «حد السرقة» لشيخنا إبراهيم الشهاوي.(2/382)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ... الآية: تسليةٌ لنبيِّه- عليه السلام- وتقويةٌ لنفسه بسبب ما كان يلقى من طوائف المنافقين واليهود، والمعنى: قد وعَدْناك النصْرَ والظهورَ عليهم، فلا يحزنْكَ ما يقعُ منهم، ومعنى المسارعة في الكُفْرِ: البِدَارُ إلى نَصْره، والسعْيُ في كيد الإسلام، وإطفاءِ نوره، قال مجاهدٌ وغيره:
قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ يراد به المنافقون «1» /.
وقوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ: يراد به اليهودُ، ويحتمل أن يراد به اليهود مع المنافقين لأن جميعهم يَسْمَعُ الكذبَ، بعضَهُم مِنْ بعض، ويقبلونه ولذلك جاءَتْ عبارة سَمَاعهم في صيغَةِ المبالغة إذِ المرادُ أنهم يُقْبِلُونَ ويستزيدون من ذلك.
وقوله سبحانه: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ: يحتمل أنْ يريد: يَسْمَعُون منهم، وذكر الطبريُّ «2» عن جابر أن المراد بالقوم الآخرينَ يَهُودُ فَدَكَ «3» ، وقيل: يهود خَيْبَر، ويحتمل أنْ يكون معنى سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ بمعنى: جواسيسَ مُسْتَرِقِينَ الكلامَ لينقلوه لقوم آخرينَ، وهذا مما يمكن أن يتصف به المنافقُونَ ويهودُ المدينة، قلْتُ: وهذا هو الذي نَصَّ عليه ابنُ إسحاق في السِّيَرِ «4» .
قال ع «5» : وقيل لسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ: هل جرى للجاسُوسِ ذكْرٌ في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ؟ فقال: نعم، وتلا هذه الآية: سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ.
وقوله سبحانه: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ: هذه صفةُ اليهود في معنى ما حرَّفوه من التوراةِ، وفيما يحرِّفونه من الأقوال عند كذبهم مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ، أي: من بعد أن وضع مواضعه، وقصدت به وجهه القويمة، يقولون إن أوتيتم هذا، فخذوه، روي أنَّ يهود فَدَك قالوا ليهودِ المدينةِ: استفتوا محمَّداً، فإن أفتاكم بما نَحْنُ عليه من الجَلْد والتَّجْبِيَةِ، فخذوه، وإن أفتاكم بالرَّجْم، فاحذروا الرجْمَ قاله الشعبيُّ وغيره «6» وقيل غير هذا من وقائعهم، فالإشارة ب هذا إلى التحميمِ والجَلْدِ في الزنا، على قولٍ، ثم قال
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 574) برقم (11931) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 191) .
(2) ينظر: «الطبري» (4/ 575) .
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 574) برقم (11933) ، وذكره ابن عطية (2/ 192) .
(4) ذكره ابن عطية، (2/ 192) .
(5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 192) .
(6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 577) برقم (11940) . [.....](2/383)
تعالى لنبيِّه- عليه السلام- على جهة قَطْع الرجاء منهم: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي: محنَتَهُ بالكفر، فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم الذين سَبَقَ لهم في علْمه ألاَّ يطهِّر قلوبَهُم، وأنْ يكونوا مُدَنَّسِينَ بالكُفْر، لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ بالذِّلَّة والمَسْكَنة الَّتي ضُرِبَتْ عليهم في أقطار الأرْضِ، وفي كلِّ أُمَّة.
قال ص: سَمَّاعُونَ، أي: هم سمَّاعون، ومثله أكَّالون. انتهى.
وقوله سبحانه: أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ: فعَّالون بناءُ مبالغة، أي: يتكرَّر أَكْلُهم، ويَكْثُر، والسُّحْت: كل ما لا يَحِلُّ كسبه من المال.
وقوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ: تخييرٌ للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، ولحكَّامِ أُمَّتِهِ بعده، وقال ابنُ عباس وغيره: هذا التخْييرُ منسوخٌ بقوله سبحانه: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «1» [المائدة: 49] ، وقال كثيرٌ من العلماء: هي مُحْكَمَة، وهذا هو الأظهر إن شاء اللَّه، وفِقْهُ هذه الآية أنَّ الأَمَّة مُجْمِعَة فيما علمتُ على أنَّ حاكم المسلمين يحْكُمُ بيْنَ أهْل الذمَّة في تظالمهم، وأمَّا نوازل الأحْكَام التي لا تَظَالُمَ فيها، فالحاكمُ مخيَّر، وإذا رضي به الخَصْمان، فلا بد من رضا أساقِفَتِهِمْ أو أحبارهم قاله ابن القاسِمِ في «العتبية» ، قلت: وعبارة الداوديُّ قال مالك: ولا يَحْكُمُ بينهم، إذا اختار الحكم إلا في المظالم، فيحكم بينهم بما أنزل اللَّه، ولا يحكم فيهم في الزنا إلا أنْ يعلنوه، فيعاقَبُونَ بسبب إعلانه، ثم يردُّون إلى أساقفتهم، قال مالك: وإنما رجم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اليهودِيَّيْنِ قبل أنْ تكون لهم ذمَّة. انتهى.
وقال ابنُ العربيِّ في «أحكامه» : إنما أَنْفَذَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الحُكْمَ بينهم ليحقِّق تحريفَهُم، وتبديلَهم، وكَذِبَهم، وكَتْمَهم ما في التوراة، / ومنه صفته صلّى الله عليه وسلّم فيها، والرجْمُ على زناتهم، وعنه أخبر اللَّه تعالى بقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [المائدة: 15] فيكون ذلك من آياته الباهرةِ، وحُجَجِهِ البيِّنة، وبراهينِهِ القاطعةِ الدَّامغة للأَمَّة المُخْزية اليهودية. انتهى.
وقوله تعالى: وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً: أمَّنَ اللَّه سبحانَهُ نبيَّه من ضررهم، إذا أعْرَضَ عنهم، وحقَّر في ذلك شأنهم، وَإِنْ حَكَمْتَ، أي: اخترت الحكْمَ في نازلةٍ مَّا، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ، أيْ: بالعدل، ثم قال سبحانه:
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 194) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 503) ، وعزاه لابن أبي حاتم، والنحاس في «ناسخه» ، والطبراني، والحاكم، وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس.(2/384)
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ المعنى: وكيفَ يحكِّمونك بنيَّةٍ صادقةٍ، وهم قد خالفوا حُكْمَ التوراة التي يصدِّقون بها، وتولَّوْا عن حُكْمِ اللَّه فيها فأنْتَ الذي لا يؤمِنُونَ بك- أحرى بأن يخالفوا حُكْمَك، وهذا بيِّن أنهم لا يحكِّمونه- عليه السلام- إلا رغبةً في ميله إلى أهوائهم.
وقوله سبحانه: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، أي: مِنْ بعد كونِ حكمِ اللَّه في التوراة في الرجْمِ وما أشبهه.
وقوله تعالى: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ يعني: بالتوراة وبموسى.
[سورة المائدة (5) : آية 44]
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)
وقوله سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً، أي: إرشاد في المعتقَدِ والشرائعِ، والنورُ: ما يستضاء به من أوامرها ونواهيها، والنَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا: هم مَن بُعِثَ من لدنْ موسَى بنِ عمرانَ إلى مدة نبيِّنا محمَّد- عليه السلام-، وأسلموا: معناه أخْلَصُوا وجوهَهُم ومقاصِدَهم للَّه سبحانه، وقوله: لِلَّذِينَ هادُوا: متعلِّق ب يَحْكُمُ أي:
يَحْكُمُونَ بمقتضَى التوراةِ لبني إسرائيل وعليهم، وَالرَّبَّانِيُّونَ: عطف على النبيِّين، أي:
ويحكم بها الرَّبَّانِيُّون، وهم العلماءُ، وقد تقدَّم تفسير الرَّبَّانِيِّ، والأحْبَارُ أيضاً: العلماءُ، واحدُهم: حِبْرٌ- بكسر الحاء، وفتحها-، وكثُر استعمال الفَتْح فرقًا بينه وبين «الحِبْرِ» الذي يُكْتَبُ به، وإنما اللفظ عامٌّ في كلِّ حَبْرٍ مستقيمٍ فيما مضى من الزمان قبل مبعَثِ نبيِّنا محمد- عليه السلام-.
وقوله سبحانه: بِمَا اسْتُحْفِظُوا، أي: بسبب استحفاظ اللَّه تعالى إياهم أمر التَّوْراة، وأخْذِهِ العهدَ علَيْهم في العملِ والقَوْلِ بها، وعرَّفهم ما فيها، فصَارُوا شُهَداء عليه، وهؤلاء ضيَّعوا لَمَّا استحفظوا حتى تبدَّلتِ التوراةُ، والقُرآنُ بخلافِ هذا لقوله تعالى: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] .
وقوله تعالى: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ: حكايةٌ لما قيل لعلماء بني إسرائيل.
وقوله: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا: نَهْيٌ عن جميع المكاسِبِ الخبيثةِ بالعلْمِ والتحيُّلِ للدنيا بالدِّين، وهذا المعنى بعينه يتناوَلُ علماء هذه الأمة وحُكَّامَها، ويحتملُ أنْ يكون قوله: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ ... إلى آخر الآية- خطاباً لأمَّة نبينا محمد- عليه السلام-.(2/385)
واختلف العلماء في المراد بقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ.
فقالتْ جماعة: المرادُ: اليهودُ بالكافرين والظَّالمين والفاسِقِينَ وروي في هذا حديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ طريق البَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قال الفَخْر «1» : وتمسَّكت الخوارجُ بهذه الآية في التكْفِير بالذَّنْب، وأجيبَ بأنَّ الآية نزلَتْ في اليهود، فتكون مختصَّة بهم، قال الفَخْر:
وهَذا «2» ضعيفٌ لأن الاعتبار بعمومِ اللفظِ، لا بخصوصِ السبَبِ/.
قلْتُ: وهذه مسألةُ خلافٍ في العامِّ الوارِدِ على سببٍ، هَلْ يبقى على عمومه، أو يُقْصرُ على سببه «3» ؟ انتهى.
وقالتْ جماعة عظيمةٌ من أهل العلمِ: الآيةُ متناولة كلَّ مَنْ لم يحكُمْ بما أنزل اللَّه، ولكنَّها في أمراء هذه الأمَّة- كُفْرُ معصية لا يخرجهم عن الإيمان «4» ، وهذا تأويل حسن،
__________
(1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 6) .
(2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 6) .
(3) ينظر: «تفعيل مذاهب علماء الأصول في البحر المحيط» (3/ 212) .
(4) قد ورد في القرآن آيات يؤخذ منها حكم ترك العلم بما أنزله الله تعالى من الأحكام. ومن تلك الآيات قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: 44] . وقوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45] . وقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [المائدة: 47] . وقوله: فَلا وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء: 65] .
ففي الآيات الأول وصف الله- تعالى- من لم يحكم بما أنزله بالكفر، والظلم والفسق، وفي الآية الأخيرة أقسم أنه لا يوجد الإيمان إلا إذا حكم الرسول في الشجار، ولم يوجد في النفوس حرج من حكمه، وسلم له كل التسليم. وذلك لأن الرسول لا يحكم إلا بما يشرعه الله له. فمن لم يرض بحكمه، فهو غير راض بشرعه، تعالى، وذلك يقتضي عدم الإيمان. ثم إن الكفر، والظلم والفسق التي وصف الله تعالى بما من لم يحكم بما أنزله واردة في تلك الآيات بمعناها اللغوي. وهي في اللغة تصدق على كل معصية، سواء كانت كفرا أو غيره، فمن فعل معصية دون الكفر صدق عليه لغة أنه كافر، وظالم، وفاسق. وكذلك من كفر بالله تعالى يصدق عليه في اللغة أنه كافر وظالم وفاسق. وعلى هذا فهذه الآيات محتملة لأن يراد منها الكفر الاصطلاحي وهو الخروج من الملة، ولأن يراد منها ما دون ذلك من المعاصي. ولهذا اختلفت أقوال المفسرين فيها فمنهم: من حمل الكفر وغيره فيها على الاصطلاحي وقال: إنها خاصة بأهل الكتاب. ومنهم من قال: المراد من هذه الأوصاف ما دون الكفر الاصطلاحي من المعاصي الكبيرة، ومن هؤلاء ابن عباس، وعلي بن الحسين فقد نقل عنهما أنهما قالا فيها: كفر ليس ككفر الشرك، وظلم ليس كظلم الشرك، وفسق ليس كفسق الشرك. والمراد: أن عدم الحكم بما أنزل الله، وتركه إلى غيره ليس كفرا بمعنى الخروج من الدين، ولكنه من أكبر الذنوب. -(2/386)
وقيل لحذيفة بْنِ اليَمَان: أنزلت هذه الآية في بني إسرائيل، فقال: نِعْمَ الإخْوَةُ لَكُمْ بنو
__________
- والمختار في ذلك التفصيل وهو أن من ترك ذلك استقباحا لحكمه تعالى، أو استهزاء به، أو ترجيحا لغيره عليه فهو كافر بمعنى أنه خارج من الدين. ومن تركه لغلبة الهوى عليه، أو لعلة أخرى غير الاستقباح والاستهزاء، والترجيح للغير فقد فعل ذنبا كبيرا لكنه دون الكفر. وكذلك يفصل في مفهوم الآية الأخيرة بأن يحمل النفي الوارد فيها على نفي أصل الإيمان إذا كان ترك تحكيم الرسول استقباحا أو استهزاء بشرعه، وعلى نفي كمال الإيمان إذا كان تركه لعلة أخرى غير ذلك لا توجب الكفر، وهذا التفصيل في مفهوم الآيات إنما أخذه العلماء من قواعد الدين التي تفيد ذلك.
ومن هنا يعلم حكم العمل بالقوانين الوضعية، وهو أن من عمل بها مستقبحا لحكمه تعالى أو مستهزئا به فهو كافر بمعنى أنه خارج من الدين، ومن عمل بها لعلة أخرى كغلبة الهوى، أو جهل أن الشريعة الإسلامية يوجد بها من القوانين ما يصلح لأن يتحاكم إليه، فقد ارتكب إثما عظيما، لكنه دون الكفر.
وإذا علم هذا فعلى من تقع المسئولية والإثم في ترك حكمه تعالى؟ والجواب: أن الإثم في ذلك يقع على جميع الأمة لأن القيام بتنفيذ أحكامه- تعالى- من فروض الكفايات التي إن لم يقم بها البعض يأثم الجميع، غير أن الإثم في ذلك يتفاوت بالنسبة لأقدار أفراد الأمة. فأصحاب الرأي والنفوذ الذين يمكنهم أن يطالبوا ويسعوا للعمل بحكمه تعالى إثمهم في ترك ذلك أعظم من أثم عامة الأمة الذين ليس لهم من الرأي والنفوذ مثلهم.
وليس الإثم خاصا بالقاضي الذي يحكم بهذه القوانين بل الإثم متعلق بكل الأمة كما قلنا. نعم إن القاضي يختص بإثم خاص غير الإثم الذي يشارك فيه الأمة، وهو إثم المساعدة على تنفيذ غير حكمه تعالى، فكان الواجب عليه، حيث لم يستطع الحكم بما أنزل الله تعالى ألّا يحكم بغيره. وقد يكون العمل بهذه القوانين لا إثم فيه لا على الأمة، ولا على القاضي، وذلك إذا غلبت أمة مسلمة على أمرها، ولم يكن لها من الأمر شيء، وأجبرتها الدولة الغالبة على العمل بهذه القوانين الوضعية، بحيث لم تستطع العمل بقانون دينها، ففي هذه الحالة لا إثم على الأمة، ولا على القاضي إذا كان لا يمكن التنحي عن الحكم بهذه القوانين بل قد يثاب على حكمه بها إذا كانت مصلحة أمته في قيامه هو بالحكم دون غيره لأنه في مثل هذه الحالة لا تكون دار هذه الأمة المغلوبة دار إسلام بل دار حرب، ودار الحرب يجوز فيها التعامل بالعقود الفاسدة في المعاملات والحدود، ونحوها لأن أغلبها موكول لاجتهاد الحاكم أما العبادات وما في معناها كالطلاق والنكاح فلا يجوز العمل فيها بغير حكمه تعالى بأي حال من الأحوال. ثم إذا نظرنا للواقع عندنا في ديارنا المصرية نجد أن الدافع للعمل بهذه القوانين لم يكن استقباح حكمه تعالى، أو تفضيل غيره عليه حتى يكون كفرا بمعنى الخروج من الدين وإنما الدافع إليه هو عدم العلم بما في التشريع الإسلامي من المزايا التي تجعله صالحا لمسايرة أحوال المجتمع، وأن يستنبط منه ما يفوق هذه التنظيمات في إقامة العدل، وإصلاح النظام. يدلك على هذا أن الدولة العلية عند ما أدخلت هذه القوانين في محاكمها كانت تقصد من ذلك تحقيق مصلحة الأمة، بدليل ما جاء في مرسوم العمل بهذه التنظيمات الذي أصدره السلطان عبد المجيد من أن الأخذ بها لا ينافي الدين لأنه يحث على الإصلاح والنظام، واستصدر فتوى من شيخ الإسلام حينئذ هناك بأن ذلك لا ينافي الإسلام، ثم تبعتها مصر في العمل بتلك التنظيمات على ذلك القصد، ثم أدخلت فيها قوانين أوربا الحديثة على اعتبار أنها نوع من ذلك الإصلاح.
فالدافع الحقيقي هو حب الإصلاح، والميل إلى تقليد أوربا في أنظمة حكمها، لا كراهية أحكام الدين، -(2/387)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
إسْرَائِيلَ، إنْ كَانَتْ لَكُمْ كُلُّ حُلْوَةٍ، وَلَهُمْ كلّ مرّة، لتسلكنّ طريقهم قذّ الشّراك «1» .
[سورة المائدة (5) : آية 45]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
وقوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ... الآية، أي: وكتبنا على بني إسرائيل في التوراة، ومعنى هذه الآية: الخَبَرُ بأن اللَّه تعالى كتَبَ فرضاً على بني إسرائيل أنه مَنْ قَتَل نفساً، فيجب في ذلك أخْذُ نفسه، ثم هذه الأعضاءُ المذكورةُ كذلك، ثم استمر هذا الحكم في هذه الأُمَّة بما علم من شرع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عباس: «ورخَّص اللَّه لهذه الأُمَّة، ووسَّع لها بالدِّيَة، ولم يجعلْ لبني إسرائيل ديةً فيما نَزَّل على موسى «2» ، والجمهور أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ: عمومٌ يراد به الخصوصُ في المتماثلين كما ورد في الحديث، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ» «3» ، وكذلك قوله سبحانه: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ: عموم
__________
- ولولا تقاعس العلماء عن الجد في استنباط أنظمة من التشريع الإسلامي تساير هذه الأنظمة في سهولتها وترتيبها ما لجأت الحكومات الإسلامية إلى العمل بهذه القوانين. ويدلك على هذا أن الخديوي إسماعيل باشا كان قد طلب من العلماء أن يستنبطوا له من الشرع الإسلامي قوانين مرتبة كترتيب قوانين أوربا لتكون قانونا للمحاكم المصرية: فاختلفوا وتكاسلوا فما وسعه إلا العمل بهذه القوانين. هكذا رأيت في بعض الكتب.
وعلى هذا، فالعمل بهذه القوانين في بلادنا ليس كفرا لما تبين لك من الدافع إليه- اللهم إلا إذا كان بعض الحكام والقضاة يستقبح حكمه تعالى أو يستهزىء به- فإن من يفعل ذلك منهم يكون كافرا- وإنما العمل بها من الذنوب الكبيرة التي هي دون الكفر، وليس العمل بهذه القوانين إجباريا من الدولة الإنجليزية المحتلة لبلادنا لأن الأخذ بهذه التنظيمات كان من أيام تبعيتها للدولة العلية. والإنجليز بما عرف عنهم من عدم التعرض للشؤون الداخلية في البلاد التي يحكمونها لا يعارضون إذا أرادت الأمة العمل بقانون دينها فلا يقال: إنا مرغمون على العمل بها فلا إثم علينا، فإذا أرادوا الخروج من الإثم فما عليهم إلا المبادرة بتأليف لجنة تقتبس من التشريع الإسلامي قانونا منظما كهذه القوانين، وما أيسر ذلك وأقربه، ثم إحلاله عند إتمامه محل هذه القوانين بالمحاكم. إنهم إن بادروا بذلك خرجوا من الإثم وأرضوا عنهم خالقهم وأمتهم، وكفلوا لأنفسهم السعادة في الدنيا والآخرة، ونسأله تعالى التوفيق.
ينظر: «قضاء الإسلام» لشيخنا علي سيد أحمد.
(1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 196) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 599) (12072) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 197) .
(3) أخرجه أبو داود (4/ 670) ، كتاب «الديات» ، باب إيقاد المسلم بالكافر، حديث (4531) ، والترمذي (4/ 25) كتاب «الديات» ، باب دية الكافر، حديث (1413) وابن ماجة (2/ 887) كتاب «الديات» ، باب لا يقتل مسلم بكافر، حديث (2659) وأحمد (2/ 194) والبيهقي (8/ 29- 30) كتاب «الجنايات» ، باب لا قصاص باختلاف الدينين كلهم من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده به.
وقال الترمذي: حديث حسن.(2/388)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
يراد به الخصوصُ فيما لا يخافُ منها على النفْسِ، وكُتُبُ الفقْهِ محَلُّ استيعابِ الكلامِ على هذه المعانيِ.
قال ص: وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ، أيْ: ذاتُ قصاصٍ. انتهى.
وقوله سبحانه: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، المعنى: أنَّ من تصدَّق بجُرْحه أو دمِ وليه، وعفا، فإنَّ ذلك العَفْوَ كفَّارة لذنوبه يعظم اللَّه أجره بذلك، قال ابن عمر وغيره «1» ، وفي معناه حديثٌ مرويٌّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قلت: وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مَا مِنْ رَجُلٍ يُصَابُ بِشَيْءٍ فِي جَسَدِهِ فَتَصَدَّقَ بِهِ إلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهِ دَرَجَةً، وَحَطَّ عَنْهُ بِهِ خَطِيئَةً» ، رواه الترمذيُّ «2» . انتهى.
وقيل: المعنى: فذلك العفو كفَّارة للجارحِ عن ذلك الذنْبِ كما أن القِصَاص كفَّارة، فكذلك العفو كفَّارة وأما أجر العافي، فعلى اللَّه تعالى قاله ابن عبَّاس وغيره «3» .
وقيل: المعنى: إذَا جنى جانٍ، فجُهِلَ، وخَفِيَ أمره، فتصدَّق هذا الجاني بأن اعترفَ بذلك، ومكَّنَ من نفسه فذلك الفعل كفّارة لذنبه.
[سورة المائدة (5) : الآيات 46 الى 50]
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 600) وعزاه لعبد الله بن عمر، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 198) ، والسيوطي في «الدر المنثور» بنحوه (2/ 511) ، وعزاه للديلمي عن ابن عمر.
(2) أخرجه الترمذي (4/ 14- 15) ، كتاب «الديات» ، باب ما جاء في العفو، حديث (1393) ، وابن ماجة (2/ 898) كتاب «الديات» ، باب العفو في القصاص، حديث (2693) كلاهما من طريق يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر، عن أبي الدرداء به.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ولا أعرف لأبي السفر سماعا من أبي الدرداء، وأبو السفر اسمه: سعيد بن أحمد ويقال: ابن محمد الثوري.
(3) أخرجه الطبري (4/ 601، 602) برقم (12091، 12103) ، وذكره ابن عطية (2/ 198) ، والسيوطي (2/ 511) وعزاه للفريابي، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس.(2/389)
وقوله سبحانه: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ... الآية: الضمير في آثارِهِمْ للنبيِّين.
وقوله: وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ: خُصَّ المتقون بالذِّكْر لأنهم المقصودُ به في عِلْمِ اللَّه وإنْ كان الجميعُ يدعى إلى توحيدِ اللَّه، ويوعَظُ، ولكنَّ ذلك على غَيْرِ المتَّقين عَمًى وحَيْرةٌ.
وقرأ حمزة «1» وحده: «وَلِيَحْكُمَ» - بكسرِ اللامِ، وفتحِ الميمِ- على «لام كَيْ» ، ونصبِ الفعلِ بها، والمعنى: وآتيناه الإِنجيل ليتضمَّن الهدى والنور والتصديق، ولِيَحْكُمَ أهله بما أنزل اللَّه فيه، وقرأ باقي السبْعَةِ: «وَلْيَحْكُمْ» - بسكون لامِ الأمرِ، وجزمِ الفعلِ-، ومعنى أمره لهم بالحكم: أي: هكذا يجبُ عليهم.
قُلْتُ: وإذْ من لازم حكمهم بما أنزلَ اللَّه فيه اتباعهم لنبيِّنا محمد- عليه السلام- والإيمانُ به كما يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيلِ، قال الفَخْر «2» : قيل: المرادُ:
ولْيحكُمْ أهل الإنجيل بما أنزل اللَّه فيه من الدلائلِ الدالَّة على نبوَّة محمّد صلّى الله عليه وسلّم قيل:
والمرادُ بالفاسقين: مَنْ لم يَمْتَثِلْ من النصارَى. انتهى، وحَسُن عَقِبَ ذلك التوقيفُ على وعيدِ/ مَنْ خالف ما أنزل اللَّه.
وقوله سبحانه: وَمُهَيْمِناً، أي: جعل اللَّه القُرآن مهيمناً على الكُتُب، يشهد بما فيها من الحقائقِ، وعلى ما نسبه المحرِّفون إليها، فيصحِّح الحقائق، ويُبْطِلُ التحريفَ، وهذا هو معنى مُهَيْمِناً، أي: شاهدٌ، ومصدِّقٌ، ومؤتَمَنٌ، وأمينٌ حسَبَ اختلافِ عبارة المفسِّرين في اللفظة، وقال المبرِّد: «مهَيْمِن» : أصله «مؤيمن» بني من «أمين» أبدلت
__________
(1) وحجة الباقين في تسكين الميم: أن الله- سبحانه- أمرهم بالعمل بما في الإنجيل، كما أمر نبينا صلّى الله عليه وسلّم في الآية التي بعدها بالعمل بما أنزل الله إليه في الكتاب بقوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ.
ينظر: «السبعة» (244) ، و «الحجة» (3/ 227) ، و «حجة القراءات» (227) ، و «العنوان» (87) ، و «شرح شعلة» (351) ، و «شرح الطيبة» (4/ 230) ، و «إتحاف» (1/ 536) ، و «معاني القراءات» (1/ 322) . [.....]
(2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 10) .(2/390)
همزتُهُ هاءً كما قالوا: أَرَقْتُ المَاءَ، وَهَرَقْتُهُ واستحسنه الزَّجَّاج.
وقوله سبحانه: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ: المعنى عند الجمهور: إن اخترت أنْ تحكم، فاحكم بينهم بما أنْزَلَ اللَّه، وليسَتْ هذه الآيةُ بناسخةٍ لقوله: أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ [المائدة: 42] .
ثم حذَّر اللَّه تعالى نبيَّه- عليه السلام- من اتباع أهوائهم.
وقوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً، أي: لكلِّ أمة قاله الجمهور، وهذا عندهم في الأحكامِ، وأما في المعتَقَدَاتِ، فالدِّين واحدٌ لجميع العالَمِ، ويحتملُ أنْ يكون المرادُ الأنبياءَ، لا سيَّما وقد تقدَّم ذكرهم، وذكر ما أُنْزِلَ عليهم، وتجيء الآيةُ، معَ هذا الاحتمال تنبيهاً لنبيِّنا محمَّد- عليه السلام-، أيْ: فاحفظ شرعتك ومنهاجَكَ لئلاَ تستزلَّك اليهودُ، أو غيرُهم في شيء منْه، وأكثرُ المتأوِّلين على أن الشِّرْعَة والمِنْهَاجَ بمعنًى واحدٍ، وهي الطريقُ، وقال ابن عباس وغيره: شِرْعَةً وَمِنْهاجاً: سبيلاً وسُنَّة «1» ، ثم أخبر سبحانه أنه لَوْ شاء، لَجَعَل النَّاس أُمَّةً واحدةً، ولكنه لم يشأْ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم مِنَ الكُتُب والشرائع كذا قال ابنُ جُرَيْج «2» وغيره.
ثم أمر سبحانه باستباق الخيراتِ في امتثال الأوامر، وخَتَمَ سبحانه بالموعظةِ والتَّذْكير بالمعادِ، فقال: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً، والمعنى: فالبِدَار البِدَارَ.
وقوله سبحانه: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، معناه: في الثَّوَاب والعقَاب، فتُخْبَرُونَ به إخبار إيقاعٍ، وهذه الآية بارعةُ الفَصَاحة، جَمَعتِ المعانِيَ الكثيرةَ في الألفاظِ اليسيرة، وكُلُّ كتابِ اللَّه كذلك، إلاَّ أنَّا بقصورِ أفهامنا يَبِينُ لنا في بَعْضٍ أكثرُ ممَّا يبينُ لنا في بعض.
وقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ... الآية: الهوى مقصورٌ يجمعُ على أهْوَاء، والهَوَاء ممدودٌ يُجْمع على أَهْوِيَةٍ، ثم حذَّر تعالى نبيَّه- عليه السلام- من اليهودِ أنْ يفتنوه بأنْ يَصْرِفُوه عن شيء ممَّا أنزل الله عليه من الأحكام
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 611) (12143) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 43) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 201) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 513) ، وعزاه لعبد بن حميد، وسعيد بن منصور، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، من طرق عن ابن عباس.
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 612) برقم (12154) .(2/391)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
لأنهم كانوا يريدون أن يخدعوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا له مراراً: احكم لنا في نازلةِ كَذَا بكَذَا، ونَتَّبِعَكَ على دينك.
وقوله سبحانه: فَإِنْ تَوَلَّوْا، قبله محذوفٌ، تقديره: فإِنْ حكَّموك واستقاموا، فَنِعِمَّا ذلك، وَإِن تَوَلَّوْا، فَاعْلَمْ ... الآية، وخصَّص سبحانه إصابتهم ببَعْض الذنوبِ دون كلِّها لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا، وذنُوبُهم نوعانِ: نوعٌ يخصُّهم، ونوعٌ يتعدى إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمؤمنين، وبه توعَّدهم اللَّه في الدنيا، وإنما يعذَّبون بالكُلِّ في الآخرة.
وقال الفَخْر «1» : وجوزُوا ببَعْض الذنوبِ في الدنيا، لأنَّ مجازَاتهُمْ بالبَعْض- كافٍ في إهلاكهم وتدميرِهِمْ. انتهى.
وقوله سبحانه: فَاعْلَمْ ... الآية: وعد للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد أنجزه بقصَّة بني قَيْنُقَاعٍ، وقصَّةِ قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ، وإجلاءِ عُمَرَ أهْلَ خيبَرٍ وفَدَك وغيرهم.
وقوله تعالى: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ/ لَفاسِقُونَ: إشارة إليهم، ويندرجُ في عمومِ الآية غَيْرُهُمْ.
وقوله تعالى: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ: إشارة إلى الكُهَّان الذين كانُوا يأخْذُون الحُلْوَان «2» ، ويحكُمُون بحَسَب الشهوات، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً، أي: لا أحد أحسنُ منه حكماً تبارك وتعالى.
[سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ: نهى اللَّه سبحانه المؤمنين بهذه الآية عَن اتخاذِ اليهودِ والنصارى أولياءَ في النُّصْرة والخُلْطة المؤدِّية إلى الامتزاج والمعاضَدَة، وحُكْمُ هذه الآيةِ باقٍ، وكلُّ من أكثر مخالطة هذين الصّنفين، فله
__________
(1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 14) .
(2) حلوان الكاهن: هو ما يعطاه من الأجر والرشوة على كهانته.
ينظر: «النهاية» (1/ 435) (حلن) .(2/392)
حَظُّه من هذا المَقْت الذي تضمَّنه قوله تعالى: فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، وسببُ نزولِ هذه الآيةِ أنَّه لَمَّا انقضت بدْرٌ وشَجَر أمر بني قينقاع، أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَتْلهم، فقام دُونَهم عبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابن سَلُولَ مخاصِماً، وقال: يا محمَّد، أَحْسِنْ في مَوَالِيَّ، فَإنِّي امرؤ أَخَافَ الدوائِرَ، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: قَدْ وهبتُهُمْ لك «1» ، ونزلَتِ الآية في ذلك. وقوله عزَّ وجلَّ: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ: جملةٌ مقطوعة من النَّهْيِ.
وقوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ: إنحاء على عبد اللَّه بْنِ أُبَيٍّ، وعلى كلِّ من اتصف بهذه الصفة.
وقوله سبحانه: فَتَرَى الَّذِينَ: المعنى: فترى يا محمد، الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ إشارةً إلى عبد اللَّه بْنِ أُبَيٍّ ومَنْ تبعه من المنافقين على مذهبه في حماية بني قَيْنُقَاعٍ.
وقوله تعالى: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ: لفظٌ محفوظٌ عن عبد اللَّه بْنِ أُبَيٍّ ومن تبعه من المنافقين، ودَائِرَةٌ: معناه نَازِلَةٌ من الزمان، وإنما كان ابن أبيٍّ يظهر أنه يستَبْقِيهم لِنُصْرة النبيِّ- عليه السلام-، وأنه الرأْيُ، وكان يبطنُ خلافَ ذلك.
وقوله سبحانه: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ، وهو ظهور نبيه- عليه السلام-، وعلوّ كلمته، وتمكينُهُ مِنْ بني قَيْنُقَاعٍ وقريظَةَ والنَّضِيرِ، وفَتْحُ مكَّة، أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ يُهْلِكُ بِهِ أعداءَ الشرع، وهو أيضاً فتْحٌ لا يقع فيه للبَشَر سبَبٌ.
وقرأ ابن الزُّبَيْر «2» : «فَيُصْبِحَ الفُسَّاقُ على مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادمين» .
وقوله تعالى: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، قرأ «3» نافعٌ وغيره: «يَقُولُ» - بغير واو-، وقرأ حمزة وغيره: «وَيَقُولُ» ، وقرأ أبو عمرو وحْده:
«وَيَقُولَ» - بالواو، ونصبِ اللامِ- فذَهَبَ كثيرٌ من المفسِّرين إلى أنَّ هذا القولَ مِنَ المؤمنين إنما هو إذا جاء الفتْحُ، وحصَلَتْ ندامةُ المنافقين، وفَضَحهم الله تعالى، فحينئذ:
__________
(1) أخرجه الطبري بنحوه في «تفسيره» (4/ 615) (12162) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 203) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 515) وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير عن عطية بن سعد.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 205) ، و «البحر المحيط» (3/ 520) .
(3) ينظر: «السبعة» (245) . و «الحجة» (3/ 229) ، و «حجة القراءات» (229) ، و «العنوان» (88) ، و «شرح الطيبة» (4/ 230) ، و «شرح شعلة» (351) ، وإتحاف» (1/ 37) ، و «معاني القراءات» (1/ 333) .(2/393)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59)
يقول المؤمنون: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا ... الآية.
وتحتمل الآيةُ أنْ تكون حكايةً لقولِ المؤمنين في وقْتِ قولِ الذين في قلوبهم مرضٌ:
نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ: إذ فُهِمَ منهم أنَّ تمسُّكهم باليهودِ إنما هو إرصاد لِلَّهِ ولرسولِهِ، فمَقَتَهم النبيُّ- عليه السلام- والمؤمنون، وترك لهم النبيُّ- عليه السلام- بني قَيْنُقَاعٍ رغْبةً في المصلحة والأُلْفة، وأما قراءة أَبي عَمْرٍو: «وَيَقُولَ» - بالنصب-، فلا يتجه معها أَنْ يكون قولَ المؤمنين إلاَّ عند الفَتْح، وظُهورِ ندامة المنافقينَ، وفَضيحَتِهِمْ.
وقوله تعالى: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ: نصْبُ «جَهْدَ» على المصدر المؤكِّد، والمعنى:
أهؤلاء هم المُقْسِمُون باجتهاد منهم في الأيمانِ إنهم لَمَعَكُمْ، قد ظهر الآنَ منهم مِنْ موالاة اليهودِ، وخَذْلِ الشريعةِ- ما يُكَذِّبُ أيمانهم.
وقوله: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ: يحتملُ أنْ يكون/ إخباراً من اللَّه سبحانه، ويحتملُ أنْ يكون مِنْ قول المؤمنين، ويحتمل أنْ يكون قوله: حَبِطَتْ دعاءً، أي: بطلت أعمالهم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 54 الى 59]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ ... الآية: خطابٌ للمؤمنين إلى يوم القيامة، ومعنى الآية أَنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ وعَدَ هذه الأمة أنَّ من ارتدَّ منها، فإنه يجيءُ سبحانه بقومٍ ينصُرُونَ الدِّين، ويُغْنُونَ عن المرتدِّين.
قال الفَخْر «1» : وقدَّم اللَّه تعالى محبَّته لهم على محبَّتهم له إذ لولا حُبُّه لهم، لما وفَّقهم أنْ صاروا محبِّين له. انتهى، وفي كتاب «القصد إلى اللَّه سبحانه» للمُحَاسِبِيِّ، قُلْتُ للشيخ: فَهَلْ يَلْحَقُ المحبِّينَ للَّه عزَّ وجلَّ خَوْفٌ؟ قال: نَعَمِ، الخَوْفُ لازمٌ لهم كما لزمهم الإيمَانُ لا يزولُ إلاَّ بزَوَاله، وهذا هو خَوْفُ عذابِ التَّقْصيرِ في بدايتهم حتى إذا صاروا
__________
(1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 21) .(2/394)
إلى خَوْفِ الفَوْت، صاروا إلى الخوف الذي يكُونُ في أعلى حالٍ، فكان الخوف الأوَّلُ يطرقهم خطراتٍ، وصارِ خوْفُ الفَوْتِ وطنات، قلْتُ: فما الحالَةُ التي تَكْشِفُ عن قلوبهم شَدِيدَ الخَوْف والحُزْن؟ قال: الرجاءُ بحُسْن الظَّنِّ لمعرفتهم بسعة فَضْل اللَّه عزَّ وجلَّ، وأَمَلُهُمْ منه أنْ يظفروا بمرادهم، إذا وَرَدُوا عليه، ولولا حُسْن ظنِّهم بربِّهم، لَتَقطَّعت أنفسهم حسراتٍ، وماتوا كَمَداً، قلْتُ: أيُّ شيءٍ أكثَرُ شُغْلِهِمْ، وما الغالبُ على قلوبِهِمْ في جميعِ أحوالهم؟ قال: كثرةُ الذِّكْر لمحبوبهم على طريق الدوامِ والاستقامةِ، لا يَمَلُّونَ، ولا يَفْتُرُون، وقد أجمع الحكماءُ أنَّ من أحَبَّ شيئاً، أكْثَرَ مِنْ ذكره، ثم قال: قال ذُو النُّونِ: مَا أُولِعَ أحَدٌ بذكْرِ اللَّه إلا أفاد منْهُ حُبَّ اللَّهِ تعالَى. انتهى.
وفي الآية إنحاءٌ على المنافِقِينَ، وعلى من ارتد في مدة النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم.
قال الفَخْر «1» : وهذه الآيةُ إخبارٌ بغَيْبٍ، وقد وقع الخَبَر على وَفْقِهِ فيكون معجزاً، وقد ارتدَّتِ العربُ وغيرهم أيام أبِي بَكْر، فنَصَر اللَّه الدِّين، وأتى بخَيْرٍ منهم. انتهى.
وقوله سبحانه: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، معناه: متذلِّلين مِنْ قِبَلِ أنفسهم، غَيْرَ متكبِّرين، وهذا كقوله عزَّ وجلَّ: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] وكقوله- عليه السلام-: «المُؤْمِنُ هَيِّنٌ لَيِّنٌ» ، وفي قراءة «2» ابن مسعودٍ: «أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ غُلَظَاءَ عَلَى الكَافِرِينَ» .
وقوله تعالى: وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ: إشارةٌ إلى الرَّدِّ على المنافقين في أَنَّهم يعتَذِرُونَ بممالأَة الأحْلاَفِ والمعارِفِ مِنَ الكفَّار، ويراعُونَ أمرهم، قُلْتُ: وخرَّج أبو بكرِ بْنُ الخطيبِ بسنده على أبي ذِر، قال: «أَوْصَانِي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بِسَبْعٍ: أوْصَانِي أَنْ أَنْظُرَ إلى مَنْ هُوَ دُونِي وَلاَ أَنْظُرَ إلى مَنْ هُوَ فَوْقِي- يعني: فِي شَأْنِ الدُّنْيَا-، وأوْصَانِي بِحُبِّ المَسَاكِينِ وَالدُّنُوِّ مِنْهُمْ، وَأَوْصَانِي أَنْ أَقُولَ الحَقَّ وَإنْ كَانَ مُرًّا، وَأَوْصَانِي أَنْ أَصِلَ رَحِمِي وَإنْ أَدْبَرَتْ، وَأَوْصَانِي أَلاَّ أَخَافَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ، وَأَوْصَانِي ألاَّ أَسْأَلَ النَّاسَ شَيْئاً، وَأَوْصَانِي أَنْ أسْتَكْثِرَ مِنْ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللَّهِ» «3» . انتهى.
وقوله سبحانه: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ: الإشارةُ ب «ذلك» إلى كون القومِ يحبّون الله
__________
(1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 20) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 208) ، و «البحر المحيط» (3/ 524) ، و «الدر المصون» (2/ 549) .
(3) أخرجه أحمد (5/ 173) وذكره الهيثمي في «المجمع» (3/ 96) وقال: ورجاله ثقات إلا أن الشعبي لم أجد له سماعا من أبي ذر.(2/395)
عزّ وجلّ ويحبّهم، وواسع: ذو سَعَةٍ فيما يملكُ ويُعْطِي وينعم به سبحانه.
وقوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ... الآية: «إنما» في هذه الآية حاصرةٌ، وقرأ ابن مسعود «1» : «إنَّمَا/ مَوْلاَكُمُ اللَّهُ» ، والزكاةُ هنا: لفظٌ عامٌّ للزكاةِ المفروضةِ، والتطوُّعِ بالصدَقَةِ، ولكلِّ أفعالِ البِرِّ، إذ هي مُنَمِّيَةٌ للحسنات، مطَهِّرة للمَرْءِ مِنْ دَنَسِ السيِّئات، ثم وصفهم سبحانه بتَكْثير الركُوعِ، وخُصَّ بالذكْر لكونه مِنْ أعظم أركان الصلاة، وهي هيئَةُ تواضعٍ، فعبَّر عن جميعِ الصلاَةِ كما قال سبحانه: وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ [الحج: 26] هذا هو الصحيحُ.، وهو تأويل الجمهورِ، ولكن اتفق مع ذلك أنَّ عليَّ بْنَ أبي طالِبٍ (رضي اللَّه عنه) أعطى خاتَمَهُ، وهو راكعٌ «2» .
قال السُّدِّيُّ: وإن اتفَقَ ذلك لعليٍّ، فالآية عامَّة في جميعِ المؤمنين «3» .
ثم أخبر تعالى: أنَّ مَنْ يتولَّى اللَّه ورسولَهُ والمؤمنين، فإنه غالبٌ كُلَّ مَنْ ناوأه، وجاءَتِ العبارةُ عامَّة في أنَّ حِزْبَ اللَّه هم الغالِبُون، ثم نهى سبحانه المؤمنينَ عنِ اتخاذ الَّذينَ اتخذوا دينَنَا هُزُواً ولعباً، وقد ثبت استهزاء الكُفَّار في قوله سبحانه: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] وثبت استهزاء أهْل الكتاب في لفظ هذه الآية، وثبت استهزاءُ المُنَافِقِينَ في قولهم لشياطينهم: إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة: 14] .
ثم أمر سبحانه بتَقْواه، ونبَّه النفوسَ بقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
وقوله سبحانه: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ... الآية: إنحاءٌ على اليَهُودِ، وتبيينٌ لسوء فعلهم.
وقوله: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ: معنى المحاورةِ: هَلْ تَنْقِمُونَ منا إلا مجموعَ هذه الحالِ مِنْ أنا مؤمنون، وأنتم فاسقون كما تقول لمن تخاصمه: هل تَنْقِمُ مني إلاَّ أَنْ صَدَقْتُ أَنَا، وَكَذَبْتَ أَنْتَ، وقال بعضُ المتأوِّلين: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ: معطوفٌ علَى ما كأَنَّه قال: إِلاَّ أَنْ آمنَّا باللَّهِ وبكُتُبِهِ، وبأنَّ أكثركم فاسقُونَ، وهذا مستقيم المعنى، وقال:
__________
(1) ينظر: «الشواذ» ص (39) ، و «الكشاف» (1/ 648) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 208) ، و «البحر المحيط» (3/ 525) ، و «الدر المصون» (2/ 551) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 628) (12215) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 208) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 520) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن عساكر عن سلمة بن كهيل. [.....]
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 628) (12215) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 208) .(2/396)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
أَكْثَرَكُمْ، من حيث إنَّ فيهم مَنْ آمن كابن سلام وغيره.
[سورة المائدة (5) : الآيات 60 الى 63]
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)
وقوله سبحانه: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً، يعني: مرجعاً عند اللَّه يوم القيامة ومنه: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ [البقرة: 125] ، ومشى المفسِّرون في هذه الآية على أنَّ الذين أُمِرَ- عليه السلام- أنْ يقول لهم: هَلْ أُنَبِّئُكُمْ هم اليهودُ والكُفَّار المتَّخِذُون دينَنَا هُزُواً ولعباً قال ذلك «1» الطبريُّ «2» ، وتُوبِعَ عليه، ولم يُسْنِدْ في ذلك إلى متقدِّم شيئاً، والآيةُ تحتملُ أنْ يكون القول للمؤمنين، أي: قُلْ يا محمَّد، للمؤمنين: هَلْ أنبئكم بِشَرٍّ مِنْ حال هؤُلاء الفاسِقِينَ في وَقْتِ المَرْجِعَ إلى اللَّهِ أولئك أسلافهم الَّذين لعنهم اللَّه، وغَضِبَ عليهم.
وقوله سبحانه: وَجَعَلَ، هِيَ بمعنى «صَيَّرَ» ، وقد تقدَّم قصص مَسْخِهِمْ قِرَدَةً في «البقرة» ، وعَبَدَ الطَّاغُوتَ: تقديره: ومَنْ عبَدَ الطاغوتَ، وقرأ حمزةُ وحده «3» «وعَبُدَ الطَّاغُوتِ» - بفتحِ العين، وضمِّ الباءِ، وكسرِ التاء مِنَ الطاغوت- وذلك أنَّ «عَبُدَ» لفظُ مبالغةٍ كقَدُسَ.
قال الفَخْر: قيل: الطاغوتُ هنا: العِجْلُ، وقيل: الطاغوتُ أحبارهم، وكلُّ من أطاع أحداً في معصية اللَّهِ فقد عبده. انتهى.
ومَكاناً: يحتمل أن يريد في الآخرةِ، فالمكان على وجْهه، أي: المحلّ إذْ محلُّهم جهنَّم، ويحتملُ أنْ يريد في الدنيا، فهي استعارةٌ للمكانةِ، والحالة.
وقوله سبحانه: وَإِذا جاؤُكُمْ يعني: اليهودَ، وخاصَّة المنافقين منهم قاله ابن
__________
(1) ينظر: «الطبري» (4/ 632) .
(2) ذكره الطبري في «تفسيره» ، (4/ 632) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 211) .
(3) ينظر: «السبعة» (246) ، و «الحجة» (3/ 236) ، و «إعراب القراءات» (1/ 147) ، و «العنوان» (88) ، و «حجة القراءات» (231) ، و «شرح شعلة» (353) ، و «شرح الطيبة» (4/ 233) ، و «إتحاف» (1/ 539) ، و «معاني القراءات» (1/ 335) .(2/397)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
عباس «1» وغيره.
وقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ: أي: من الكُفْر، والرؤيةُ هنا تَحْتملُ أن تكون قلبية، وأن تكون بصريّة، وفِي الْإِثْمِ، أي: موجباتِ الإثمِ، واللامُ في:
لَبِئْسَ: لام قَسَم.
وقوله تعالى: لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ: تحضيضٌ في ضمنه توبيخٌ لهم، قال الفَخْر «2» : والمعنى: هَلاَّ ينهاهم. انتهى.
قال الطبريُّ «3» : كان العلماءُ يقُولُون: ما في القرآن آيةٌ هي أشَدُّ توبيخاً للعلماءِ من هذه الآية، ولا أخْوَفُ عليهم منْها.
وقال الضحَّاك بنُ مُزَاحِمٍ: ما في القُرآنِ آيةٌ أخْوَفُ عندي منها «4» إنَّا لا ننهى وقال نحو هذا ابنُ عَبَّاس «5» .
وقوله سبحانه: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ: ظاهره أنَّ الإثم هنا يرادُ به الكُفْر، ويحتمل أن يراد سَائِرُ أقوالهم المُنْكَرَة في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين، وقرأ «6» ابن عباس: «بِئْسَ مَا كَانُوا يصنعون» بغير لام قسم.
[سورة المائدة (5) : آية 64]
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
وقوله سبحانه وتعالى: وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ ... إلى قوله: لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ: هذه الآيةُ تعديدُ كبيرةٍ في أقوالهم وكُفْرهم، أي: فَمَنْ يقول هذه العظيمة، فلا
__________
(1) أخرجه الطبري (4/ 637) ، وابن عطية (2/ 214) .
(2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 34) .
(3) ينظر: «تفسير الطبري» (4/ 637) .
(4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 638) (12243) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 214) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 524) ، وعزاه لابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد وابن جرير، وابن المنذر عن الضحاك بن مزاحم.
(5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 638) (12243) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 214) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 524) وعزاه لابن جرير، وأبي الشيخ عن ابن عباس.
(6) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 214) ، و «البحر المحيط» (3/ 532) ، و «الدر المصون» (2/ 565) .(2/398)
يُسْتنكَرُ نفاقُهُ وسعْيُهُ في رَدِّ أمر اللَّه تعالى.
قال ابن عباس وجماعة: معنى قولهم: التبخيلُ وذلك أنهم لحقَتْهم سَنَةٌ وجَهْدٌ، فقالوا هذه المقالة، يعْنُونَ بها أنَّ اللَّه بَخِلَ عليهم بالرِّزْقِ والتوسعَةِ، تعالَى اللَّه عن قَوْلِهِمْ «1» ، وهذا المعنى يشبه ما في قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الإسراء: 29] فإن المراد: لا تَبْخَلْ ومنه قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُتَصَدِّقِ ... »
الحديثَ، وذكر الطبري والنَّقَّاش أن هذه الآية نزلَتْ في فِنْحَاص اليَهُودِيِّ، وأنه قالها «2» .
وقوله سبحانه: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ: خبرٌ يحتملُ في الدنيا، ويحتمل في الآخرة، فإن كان خبراً عن الدنيا، فالمعنى: غُلَّت أيديهم عن الخَيْرِ والإنفاقِ في وجوه البِرِّ ونحوه، وإذا كان خبراً عن الآخرة، فالمعنى: غُلَّتْ في النار، قلْتُ: ويَحْتَمِلُ الأمْرَيْنِ معاً.
وقوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ: العقيدةُ في هذا المعنى: نَفْيُ التشبيه عن اللَّه سبحانه، وأنه ليس بِجِسْمٍ، ولا له جارِحَةٌ، ولا يُشَبَّهُ، ولا يُكَيَّفُ، ولا يَتحيَّز، ولا تَحُلُّهُ الحوادثُ، تعالى عما يقول المبطلون عُلُوًّا كبيراً، قال ابن عبَّاس في هذه الآية: يَداهُ:
نعمتاه «3» ، ثم اختلفت عبارة النَّاس في تَعْيِين «4» النعمتَيْن:
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» بنحوه (4/ 640) برقم (12246) ، وابن عطية (2/ 214) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 640) برقم (12251) عن عكرمة.
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 640) ، ولم يعزه لأحد وذكره ابن عطية (2/ 215) .
(4) أقول وبالله التوفيق: وإنما يجب أن يسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم، من أئمة المسلمين قديما وحديثا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف، ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11] بل الأمر كما قال الأئمة منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري:
من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه، فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه، فيمن أثبت لله- تعالى- ما وردت به الآيات الصريحة، والأخبار الصحيحة، على الوجه الذي يليق بجلال الله تعالى- ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى فالاستواء على العرش صفة لله تعالى يجب الإيمان بها بلا كيف، ويكل العلم فيه إلى الله- عز وجل- وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: 5] كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليا، وعلاه الرحضاء، ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، وما أظنك إلا ضالا.، ثم أمر به فأخرج.
ينظر: «البغوي» (2/ 165) . [.....](2/399)
فقيل: نعمةُ الدنيا، ونعمةُ الآخرةِ، وقيل: النعمة الظاهرة، والنعمة الباطنةُ، والظاهر أن قوله سبحانه: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عبارةٌ عن إنعامه على الجملة، وعبَّر عنها باليدَيْن جرياً على طريقة العرب في قولهم: فُلاَنٌ يُنْفِقُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ ومنه قول الأعشى: [الطويل]
يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفٌّ مُفِيدَة ... وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالمَالِ تُنْفِقُ «1»
ويؤيِّد أن اليدَيْن هنا بمعنى الإنعامِ- قرينةُ الإنفاق، ثم قال تعالى لنبيِّه- عليه السلام-: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ، يعني: اليهودَ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً، ثم قال سبحانه: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، العداوة: أخصُّ من البغضاء لأن كلَّ عدوٍّ، فهو يُبْغضُ، وقد يُبْغضُ مَنْ ليس بعدُوٍّ، والبغضاء: قد لا تتجاوَزُ النفوسَ، وقد ألقى اللَّه سبحانه الأمرَيْن على بني إسرائيل.
قال الفَخْر «2» : وقد أوقع اللَّه بَيْنَ فِرَقِهِمْ الخصومةَ الشَّديدة، وانتهى أمرهم إلى أنْ يُكَفِّرَ بعضهم بعضاً، وفي قوله: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ ... الآية: قولان:
أحدهما: أن المراد ما بَيْن اليهودِ والنصارى من العداوةِ لأنه جرى ذكْرُهُمْ في قوله:
لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة: 51] ، وهذا/ قول الحسنِ ومُجَاهد «3» .
والثاني: ما وقع من العداوة بين فِرَقِ اليهود، فإنَّ بعضهم جبريَّةٌ وبعضهم قَدَرية، وبعضهم مُوَحِّدة، وبعضهم مُشَبِّهة، وكذلك بَيْن فرقِ النصارى كالمَلْكَانِيَّة، والنُّسْطُورِيَّة، واليَعْقُوبيَّة «4» . انتهى.
__________
(1) البيت في ديوانه (225) ، و «الدر المصون» (2/ 566) ، و «البحر المحيط» (3/ 535) .
(2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 38) .
(3) أخرجه الطبري (4/ 642) برقم (12254) عن مجاهد.
(4) ونقل عن طوائف النصارى القول بالاتحاد، وعن بعضهم القول بالحلول، وعن بعضهم القول بأن عيسى ابن الله، وعن بعض طوائف اليهود القول بأن عزيرا ابن الله. واختلف النقل عن النصارى في معنى الاتحاد. فقيل: معناه أن الكلمة وهي صفة العلم ظهرت في عيسى وصارت معه هيكلا. وقيل: معناه المخارجة بمعنى أن تكون من الكلمة وعيسى شيء ثالث- وأما القول بالحلول فمعناه على رأي بعض فرقهم: أن الكلمة وهي صفة العلم حلت في المسيح، وعلى رأي البعض الآخر: أن ذات الله حلت في المسيح. ولما كان كلامهم في الحلول والاتحاد مضطربا وغير منضبط على وجه صحيح، فنذكر الصور العقلية التي تتأتى في الاتحاد والحلول فنقول: إما أن يقولوا باتحاد ذات الله بالمسيح، أو حلول ذاته فيه، أو حلول صفته فيه، وكل ذلك إما ببدن عيسى أو بنفسه وإما ألّا يقولوا بشيء من ذلك. وحينئذ فإما أن يقولوا: أعطاه الله قدرة على الخلق والإيجاد أولا. ولكن خصه الله بالمميزات، وسماه ابنا تشريفا كما سمى إبراهيم خليلا، فهذه ثمانية احتمالات كلها باطلة للأدلة التي أحالت حلول الله واتحاده، والسابع-(2/400)
وقوله سبحانه: كُلَّما أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ: استعارة بليغة، قال
__________
- باطل لما ثبت أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله، وبقي احتمال اتحاد الكلمة بذات المسيح، وهو باطل أيضا لأن الكلمة المراد منها عندهم صفة العلم والاتحاد بجميع معانيه وأفراده مستحيل على الله بالأدلة السابقة والشبهة التي أوقعت النصارى في هذه الكلمات هي ما جاء في الإنجيل في عدة مواضع من ذكر الله بلفظ الأب، وذكر عيسى بلفظ الابن، وذكر الاتحاد والحلول تصريحا أو تلويحا، فمن ذلك ما جاء في إنجيل (يوحنا) في الصحاح الرابع عشر (يا فيلسوف من يراني ويعاينني، فقد رأى الأب، فكيف بقول: أنت أرنا الأب، ولا تؤمن أني بأبي وأبي بي واقع واقع، وأن الكلام الذي أتكلم به ليس من قبل نفسي، بل من قبل أبي الحال في، وهو الذي يعمل هذه الأعمال التي أعمل آمن وصدق أني بأبي وأبي بي) هذا لفظ الإنجيل المنقول إلى العربية المتداول عندهم، فأخذ بعضهم الاتحاد من قوله: (من يراني ويعاينني فقد رأى الأب) وأخذ بعضهم الحلول من قوله: (أبي الحال في) ، وأخذ النبوة من التصريح بلفظ الأب مرة بعد أخرى، وهذا لا يصلح دليلا لوجهين:
الوجه الأول: توافرت الأدلة على حصول التغيير والتبديل في الإنجيل، فاحتمل أن يكون ذلك المذكور في إنجيل يوحنا مما حصل فيه التغيير والتبديل، فلا يصلح حينئذ أن يكون دليلا، فلا يصح به الاستدلال.
الثاني: أن نتنزل ونقول: لا تغيير ولا تبديل في ذلك المنقول، لكن دلالته على مدعاهم ليست يقينية لجواز أن يكون المراد من الاتحاد الذي فهمه بعضهم من الجملة الأولى الاتحاد في بيان طريق الحق، وإظهار كلمة الصدق كما يقال: أنا وفلان واحد في هذا القول، ولجواز أن يكون المراد من الحلول المصرح به في بعض الجمل حلول آثار صنع الله من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص، ولجواز أن يكون المراد من الأب المبدئ، فإن القدماء كانوا يطلقون الأب على المبدئ فمضى قوله: أبي مبدئي وموجدي وسمى عيسى ابنا تشريفا له كما سمى إبراهيم خليلا.
وأيضا فمن كان متوجها لشيء ومقيما عليه يقال له: ابنه كما يقال: أبناء الدنيا، وأبناء السبيل، فجاز أن يكون تسمية عيسى بالابن لتوجهه، في أكثر الأحوال إلى الحق، واستغراقه أغلب الأوقات في جناب القدس، ومما يؤكد ذلك أنه جاء في الصحاح السابع عشر من إنجيل يوحنا حيث دعا عيسى للحواريين ما لفظه: «وكما أنت يا أبي بي وأنا بك، فليكونوا هم أيضا نفسا واحدا يؤمن أهل العلم، بأنك أنت أرسلتني، وأنا قد استودعتهم بالمجد الذي مجدتني به، ودفعته إليهم ليكونوا على الإيمان، كما أنا وأنت أيضا واحد، وكما أنت حال فيّ كذلك أنا فيهم ليكون كمالهم واحدا» هذا لفظ الإنجيل، وقد تبين منه معنى الاتحاد والحلول على وجه مغاير لما فهموه، وجاء في الصحاح التاسع عشر ما لفظه: «إني صاعد إلى أبيكم وإلهي وإلهكم» وهذا يدل بواسطة العطف على أن المراد من الأب الإله، وعلى أنه مساو لهم في معنى النبوة والعبودية، فهذه النصوص تدحض حجتهم، وتلزمهم إذا أرادوا الحق بالرجوع إلى ما قضت به الأدلة العقلية المتقدمة من استحالة الاتحاد والحلول والنبوة.
أما بعض اليهود الذين قالوا: أن عذيرا ابن الله، فقد أشار الله- تعالى- إليه بقوله: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ [التوبة: 30] نسب الله ذلك القول إلى اليهود، مع أنه قول لطائفة منهم، جريا على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد والسبب الذي دعا هذه الطائفة إلى القول بأن عزيرا ابن الله أن اليهود تركوا العمل بما في التوراة، وعملوا بغير الحق فعاقبهم الله تعالى بأن أنساهم التوراة، ونسخها من صدورهم، فتضرع عزير إلى الله، وابتهل إليه، فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه به، فلما جربوه-(2/401)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
مجاهد: معنى الآيةِ: كلَّما أوقدوا ناراً لحَرْبِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أطفأها اللَّه «1» ، فالآيةُ بشارةٌ لنبيِّنا محمد- عليه السلام- وللمؤمنين، وباقي الآية بيّن.
[سورة المائدة (5) : الآيات 65 الى 66]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)
وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا ... الآية: هذه الآية تحتملُ أنْ يراد بها معاصرو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وتحتملُ أنْ يراد بها الأسلافُ، والمعاصِرُونَ.
وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ، أي: أظهروا أحْكَامها، فهي كإقامةِ السُّوق، وإقامةِ الصَّلاةِ.
وقوله سبحانه: وَالْإِنْجِيلَ: يقتضي دخُولَ النصارى في لفظُ أهْلِ الكتابِ في هذه الآية، قلْتُ: وقال مكِّيٌّ: معنى: أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ: أيْ: عملوا بما فيهما، وأقروا بصفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبنبوَّته. انتهى من «الهداية» .
وقوله: وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ: معناه: مِنْ وحْيٍ وسُنَنٍ على ألْسِنَةِ الأنبياء- عليهم السلام-، واختُلِفَ في معنى: مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ، فقال ابن عباس وغيره: المعنى: لأعطتهم السماءُ مطَرها، والأرض نباتَهَا بفَضْلِ اللَّه تعالى «2» ، وقال الطبريُّ «3» وغيره: إن الكلام استعارة ومبالغةٌ في التوسِعَةِ كما يقالِ: فُلاَنٌ قد عمَّهُ الخَيْرُ مِنْ قَرْنِهِ إلى قَدَمِهِ.
وقوله سبحانه: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ: معناه: معتدِلَةٌ، والقَصْد والاقتصاد: الاعتدال والرفْقُ والتوسُّط الحَسَن في الأقوال والأفعال، قال ابنُ زَيْد: وهؤلاءِ هُمْ أهْل طاعَةِ اللَّه من
__________
- وجدوه صادقا فيه، فقالوا: ما تيسر لهذا العزير دون سواه إلا لأنه ابن الله، وهذه شبهة واهية لا يصح الاستناد إليها لأن إجابة المطلب مرتبطة بالقبول والقرب من الله، والخضوع لأوامره، واجتناب نواهيه لا بالنبوة كما يزعمون.
ينظر: «الدرر السنية في تنزيه الحضرة الإلهية» لشيخنا أحمد المستكاوي.
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 644) برقم (12259) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 216) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 645) برقم (12261) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 527) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس.
(3) ينظر: الطبري (4/ 645) .(2/402)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68)
أهْل الكتاب «1» .
قال ع «2» : وهذا هو الراجِحُ.
[سورة المائدة (5) : الآيات 67 الى 68]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَّا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... الآية: هذه الآية أمْرٌ مِنَ اللَّه تعالى لنبيِّه- عليه السلام- بالتبليغِ على الاستيفاء والكمالِ لأنه قد كان بلّغ صلّى الله عليه وسلّم، وإنما أُمِرَ في هذه الآيةِ بِأَلاَّ يتوقَّفَ عن شَيْء مخافةَ أحَدٍ وذلك أنَّ رسالته- عليه السلام- تضمَّنت الطَّعْنَ على أنواع الكَفَرة، وبيان فساد حالهم، فكان يلقى منهم صلّى الله عليه وسلّم عَنَتاً، وربَّما خافهم أحياناً قبل نزول هذه الآية، فقال الله تعالى له: بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، أيْ:
كاملاً، وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، قالتْ عائشةُ أمُّ المؤمنين (رضي اللَّه عنها) : «مَنْ زَعَمَ أنَّ محمداً كَتَمَ شيئاً مِنَ الوَحْيِ، فقد أَعْظَم الفريةَ، والله تعالى يقول: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ... الآية» ، وقال عبدُ اللَّهِ بنُ شَقِيقٍ: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتعقبه أصحابُهُ يحْرُسُونه، فلما نزلَتْ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، خرَجَ، فقَالَ: «يَا أَيُّها النَّاسُ، الحقوا بِمَلاَحِقِكُمْ فَإنَّ اللَّهَ قَدْ عَصَمَنِي» «3» ، قلْتُ: وخرَّج الترمذيُّ هذا الحديثَ أيضاً من طريق عائشة «4» ، وكما وجَبَ عليه التبليغُ- عليه السلام-، وجب على علماءِ أمته، وقد قال- عليه السلام-: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَة» «5» ، وعن زيدِ بنِ ثابتٍ (رضي اللَّه عنه) قَالَ: سَمِعْتُ
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 646) برقم (12271) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 217) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 475) .
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 647) رقم (12277) عن عبد الله بن شقيق.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 530) ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه.
(4) أخرجه الترمذي (5/ 251) كتاب «التفسير» ، باب سورة المائدة رقم (3046) ، والحاكم (2/ 313) ، والطبري (4/ 647) رقم (12279) من طريق سعيد الجريري، عن عبد الله بن شقيق، عن عائشة به.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب وروى بعضهم هذا الحديث عن الجريري، عن عبد الله بن شقيق قال: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحرس، ولم يذكروا فيه عائشة.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 529) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وأبي نعيم، والبيهقي كلاهما في «الدلائل» .
(5) أخرجه البخاري (6/ 572) كتاب «أحاديث الأنبياء» ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، حديث (3461) ، -[.....](2/403)
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «نَضَّرَ اللَّهُ امرأ سَمِعَ مِنَّا حَدِيثاً، فَحَفِظَهُ حتى يُبَلِّغَهُ فَرُبَّ حَامِلٍ فِقْهٍ إلى مَنْ لَيْسَ بِفَقِيةٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ» ، رواه أبو داودَ، واللفظ له، والترمذيُّ والنسائِيُّ وابنُ ماجه، وابن حِبَّانَ في «صحيحِهِ» ، وقال التِّرمذيُّ/: هذا حديثٌ حسنٌ، ورواه مِنْ حديث ابن مسعود، وقال: حسن صحيح «1» . انتهى من «السلاح» .
__________
- والترمذي (5/ 39) كتاب «العلم» ، باب ما جاء في الحديث عن بني إسرائيل، حديث (2669) وقال:
حسن صحيح.
(1) ورد من حديث ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وجبير بن مطعم.
فأما حديث ابن مسعود أخرجه الترمذي (5/ 33) في العلم، باب ما جاء في الحث على تبليغ السماع (2657، 2658) ، وابن ماجة (1/ 85) في المقدمة، باب من بلغ علما (232) والحميدي في «مسنده» (88) ، وأحمد (1/ 437) ، والشافعي في «مسنده» (1/ 16) ، وأبو يعلى (5226، 5296) ، وابن حبان (74، 75، 76) موارد، والرامهرمزي في «المحدث الفاصل» برقم (6، 7، 8) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (188، 189، 190، 191) ، وأبو نعيم في «الحلية» (7/ 331) . والخطيب في «الكفاية» ص (173) ، وفي «شرف أصحاب الحديث» ص (18، 19) ، والبيهقي في «معرفة السنن والآثار» (1/ 15- 16، 43) ، وفي «الدلائل» (6/ 540) والقضاعي في «مسند الشهاب» (1419، 1420) ، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/ 9، 10) وأبو الشيخ في «الأمثال» (204) ، وأبو نعيم في «تاريخ أصبهان» (2/ 90) ، والحاكم في «معرفة علوم الحديث» ص (322) من طرق عنه.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأما حديث زيد بن ثابت أخرجه أبو داود (2/ 346) في العلم، باب فضل نشر العلم (3660) ، والترمذي (2656) وابن ماجة (230) ، وأحمد (5/ 183) وابن حبان (72- 73) موارد، والدارمي (1/ 75) ، والطحاوي في «مشكل الآثار» (2/ 232) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (184، 185، 186، 187) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (94) ، وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/ 11) ، والرامهرمزي (423) والخطيب في «شرف أصحاب الحديث» (ص 17، 18) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 71) .
وقال الترمذي: حديث حسن.
وأما حديث جبير بن مطعم فأخرجه ابن ماجة (231) ، وأحمد (4/ 80، 82) والدارمي (1/ 74- 75) والطبراني في «الكبير» (1541) ، وأبو يعلى في مسنده (7413) والقضاعي في «مسند الشهاب» (1421) والطحاوي في «المشكل» (2/ 232) وابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» (2/ 10) ، وابن حبان في «المجروحين» (1/ 4- 5) ، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم» (195) ، والحاكم في «المستدرك» (1/ 87) من طرق عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن محمد بن جبير عن أبيه.
وأخرجه ابن ماجة (231) ، والطبراني في «الكبير» (1542) ، والطحاوي في «المشكل» (2/ 232) من طريق ابن إسحاق، عن عبد السلام بن أبي الجنوب، عن الزهري، عن محمد بن جبير به.
وقال البوصيري في «الزوائد» (1/ 99) : هذا إسناد ضعيف لضعف عبد السلام..
وأخرجه الطبراني (1543) وابن أبي حاتم (1/ 10) من طريق ابن إسحاق، عن عمرو بن أبي عمرو، عن محمد بن جبير، عن أبيه به. -(2/404)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)
وقال محمد بن كَعْبٍ القُرَظِيُّ: نزِلَتْ هذه الآيةُ بسبب الأعرابيِّ الذي اخترط سيْفَ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم ليقتُلَهُ به «1» .
قال ابنُ العربيِّ: قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ: معناه: يَجْعَلْ بينَكَ وبينهم حجاباً يمنع من وصُولِ مكروههم إلَيْك كَعِصَامِ الْقِرْبَةِ الذي يَمْنَعُ سَيَلاَنَ الماءِ منها، ولعلمائنا في الآية تأويلاتٌ.
أصحها: أنَّ العصمة عامَّة في كلِّ مكروهٍ، وأنَّ الآية نزلَتْ بعد أن شجّ وجهه، وكسرت رباعيته صلّى الله عليه وسلّم «2» .
وقيل: إنه أراد مِنَ القتل خاصَّة، والأول أصحّ، وقد كان صلّى الله عليه وسلّم أُوتِيَ بَعْضَ هذه العَصْمَةِ بمكَّة في قوله تعالى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر: 95] ثم كمُلَتْ له العصْمَةُ بالمدينةِ، فعُصِمَ من النَّاس كلِّهم. انتهى من كتابه في تفسير أفعال اللَّه الواقعة في القرآن.
ثم أمر تعالى نبيَّه- عليه السلام- أنْ يقولَ لأهْل الكتابِ الحاضِرِينَ معه: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ، أيْ: على شيءٍ مستقيمٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ، وفي إقامتهما الإيمانُ بنبيِّنا محمَّد- عليه السلام-، قلْتُ: وهذه الآية عنْدِي مِنْ أَخْوَفِ آية في القرآنِ كما أشار إلى ذلك سفيانُ، فتأمَّلها حقَّ التأمُّل.
وقوله سبحانه: وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ... الآية: يعني به القرآن.
[سورة المائدة (5) : الآيات 69 الى 70]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70)
__________
- وأخرجه أبو يعلى في «مسنده» (7414) ، والحاكم (1/ 87- 88) من طريق ابن إسحاق عن عمرو بن أبي عمرو عن عبد الرّحمن بن الحويرث عن محمد بن جبير به.
وتابعه عليه إسماعيل بن جعفر، عن عمرو به، وأخرجه الدارمي في «سننه» (1/ 74) .
وأخرجه الطبراني (1544) ، والحاكم (1/ 87) من طريق نعيم بن حماد قال: ثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن محمد بن جبير. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 648) (12281) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 218) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 530) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير عن محمد بن كعب القرظي.
(2) أخرجه مسلم (3/ 1417) ، كتاب «الجهاد والسير» ، باب غزوة أحد (104- 1791) .(2/405)
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ: الذين آمنوا: لفظٌ عامٌّ لكلِّ مؤمنٍ من مِلَّةِ نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ومِنْ غَيْرها من المِلَلِ، فكأنَّ ألفاظ الآية حُصِرَ بها الناسُ كلُّهم، وبُيِّنَتِ الطوائفُ على اختلافها، وهذا هو تأويلُ الجمهور، وقد مَضَى الكلامُ في «سورة البقرة» ، فراجعْهُ هناك، وقرأ الجمهورُ: «وَالصَّابِئُونَ» ، وقرىء خارجَ السبعة «1» :
«والصَّابِئِينَ» ، وهي بيِّنة الإعراب، وأما على قراءة الجمهورِ، فاختلف في إعرابها، ومَذْهَبُ سبيَوَيْهِ، والخَلِيلِ، ونُحَاةِ البَصْرة: أنه من المقدَّم الذي معناه التأْخِيرُ، كأنَّه قال: إنَّ الذين آمنوا والذين هَادُوا، مَنْ آمَنَ باللَّه واليومِ الآخِرِ وعَمِلَ صالحاً، فلا خَوْفٌ عليهم ولا هم يحزنُونَ، والصَّابِئُونَ والنصارى كذلك.
قال ص: ووجه ثانٍ أنَّ خبر «إنَّ» محذوفٌ، أي: إنَّ الذين آمنوا لهم أجرهم، وخبر «الصّابئين» : مَنْ آمَنَ وما بعده، قال ابنُ عُصْفُورٍ وهو حَسَنٌ جدًّا إذ ليس فيه أكثر من حَذْفِ خبرِ «إنَّ» للفهم، وهو جائزٌ في فصيحِ الكلامِ. انتهى.
قلتُ: قال ابْنُ مالكٍ: وهو أسهلُ من التقديمِ والتأخيرِ، وقيل: إن الصابِئين في موضِعِ نَصْبٍ، ولكنه جاء على لغة بَلْحَارِثِ الذين يَجْعَلُونَ التثنيةَ بالأَلِفِ على كل حال، والجَمْعَ بالواو على كُلِّ حال قاله أبو البقاء، وقيل غير هذا.
[سورة المائدة (5) : الآيات 71 الى 75]
وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
__________
(1) وهي قراءة عثمان، وأبي بن كعب، وعائشة، وسعيد بن جبير، والجحدري، كما في «المحتسب» (1/ 217) .
وينظر: «الكشاف» (1/ 662) ، و «المحرر الوجيز» (1/ 219) ، و «البحر المحيط» (3/ 541) ، و «الدر المصون» (2/ 576) .(2/406)
وقوله سبحانه: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ: المعنى في هذه الآيةِ: وظَنَّ هؤلاءِ الكفرةُ باللَّه، والعصاةُ مِنْ بني إسرائيل ألاَّ يكونَ مِنَ اللَّه ابتلاءٌ لهُمْ وأخذ في الدنيا، فلَجُّوا في شهواتهم، وعَمُوا فيها، إذْ لم يُبْصِرُوا الحقّ، وهذا كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «حُبُّكَ الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ» «1» .
وقوله سبحانه: ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، قالتْ جماعة من المفسِّرين: هذه التوبةُ هِيَ رَدُّهم إلى بَيْتِ المَقْدِس بعد الإخراج الأول، ورَدُّ مُلْكِهِمْ وحَالِهِم، ثم عَمُوا وصَمُّوا بعد ذلك حتى أُخْرِجُوا الخرجةَ الثانيةَ، ولم ينجبرُوا أبداً، ومعنى: تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي:
رجَعَ بهم إلى الطاعةِ والحقِّ، ومِنْ فصاحة القُرآن: / استناد هذا الفعْلِ الشريفِ إلى اللَّه تعالى، واستناد العمى وَالصَّمَمَ اللَّذَيْن هما عبارةٌ عن الضَّلال إليهم، ثم أخبر تعالى إخباراً مؤكَّداً بلام القَسَمِ عن كُفْر القائلين: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذا قولُ اليَعْقُوبِيَّةِ من النصارى، ثم أخبر تعالى عن قول المسيحِ لهم، فقال: وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ... الآية، فضَلُّوا هم، وكفروا بسَبَب ما رأَوْا على يديه من الآيات.
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/ 755) كتاب «الأدب» ، باب في الهوى حديث (5130) ، وأحمد (5/ 194، 6/ 450) والبخاري في «التاريخ الكبير» (2/ 1/ 172) ، والدولابي في «الكنى» (1/ 101) وابن عدي في «الكامل» (2/ 472) والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (2/ 328) وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص 20) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (219) كلهم من طريق أبي بكر بن أبي مريم، عن خالد بن محمد الثقفي، عن بلال بن أبي الدرداء، عن أبيه مرفوعا وهذا إسناد ضعيف لاختلاط ابن أبي مريم.
وأخرجه أحمد (5/ 194) عن أبي اليمان، عن أبي مريم به، إلا أنه رواه موقوفا.
قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (ص 181- 182) .
وقد بالغ الصغاني فحكم عليه بالوضع، وكذا تعقبه العراقي، وقال: إن ابن أبي مريم لم يتهمه أحد بكذب، إنما سرق له حلي فأنكر عقله، وقد ضعفه غير واحد، ويكفينا سكوت أبي داود عليه، فليس بموضوع، بل ولا شديد الضعف، فهو حسن انتهى، وفي الباب مما لم يثبت عن معاوية، قال العسكري: أراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن من الحب ما يعميك عن طريق الرشد ويصمك عن استماع الحق، وأن الرجل إذا غلب الحب على قلبه ولم يكن له رادع من عقل أو دين أصمه حبه عن العدل، وأعماه عن الرشد، وكذا قال بعض الشعراء.
وعين أخي الرضى عن ذاك تعمى وقال آخر:
فعين الرضى عن كل عيب كليلة ... ولكن عين السخط تبدي المساويا
وعن ثعلب قال: تعمى العين عن النظر إلى مساويه، وتصم الأذن عن استماع العذل فيه وأنشأ يقول:
وكذبت طرفي فيك والطرف صادق ... وأسمعت أذني فيك ما ليس تسمع
وقيل تعمى وتصم عن الآخرة، وفائدته النهي عن حب ما لا ينبغي الإغراق في حبه.(2/407)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
وقوله تعالى: وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ، يحتملُ أن يكون من قول عيسى- عليه السلام- لبني إسرائيل، ويحتمل أنْ يكون إخباراً من اللَّه سبحانه لنبيِّه محمد- عليه السلام-.
وقوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ ...
الآية: إخبارٌ مؤكِّد كالذي قبله، عن هذه الطائفة النَّاطقة بالتثليث، وهم فِرَقٌ، منهم النُّسْطُورِيَّة وغيرهم، ولا معنى لذكْر أقوالهم في كُتُب التَّفْسِير.
وقوله سبحانه: ثالِثُ ثَلاثَةٍ: لا يَجوزُ فيه إلاَّ الإضافةُ، وخفض «ثلاثة» لأن المعنى أحدُ ثلاثةٍ، فإنْ قلت: زَيْدٌ ثَالِثُ اثنين، أَوْ رَابِعُ ثَلاَثَةٍ، جاز لك أنْ تضيفَ كما تقدَّم، وجاز ألاَّ تضيفَ، وتَنْصِب «ثَلاَثة» على معنى: زَيْدٌ يربِّع ثلاثةً.
وقوله سبحانه: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ ... الآية: خَبَرٌ صادِعٌ بالحَقِّ، وهو سبحانه الخالِقُ المُبْدِعُ المتَّصِفُ بالصفات العُلاَ، سبحانه وتعالى عَمَّا يقول الظالمون علوًّا كبيراً، ثم توعَّدهم، إنْ لم ينتهوا عما يقولُونَ، ثم رَفَق جلَّ وعلا بهم بتحضيضه إيَّاهم على التوبة، وطَلَبِ المَغْفرة، ثم وصَفَ نفسه سبحانه بالغُفْرَانِ والرَّحْمة استجلابا للتائِبِينَ وتَأْنيساً لهم ليكونوا على ثِقَةٍ من الانتفاعِ بتوبتهم.
قال ص: لَيَمَسَّنَّ: اللامُ فيه جوابُ قَسَمٍ محذوفٍ قبل أداة الشرطِ. انتهى.
وقوله تعالى: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ: بناءُ مبالغةٍ مِنَ الصِّدْقِ، ويحتملُ من التَّصْديق وبه سُمِّيَ أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ (رضي اللَّه عنه) وهذه الصفةُ لمريم تدفع قولَ مَنْ قال: إنها نَبِيَّةٌ.
وقوله سبحانه: كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ: تنبيهٌ على نقص البشريَّة، وعلى حالٍ مِنَ الاحتياجِ إلى الغذاء تنتفي معها الألوهيّة، ويُؤْفَكُونَ: معناه: يصرفون ومنه قوله عز وجل: يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ [الذاريات: 9] ، والأرْضُ المأْفُوكَةُ الَّتِي صُرِفَتْ عن أن ينالها المَطَرُ، والمَطَرُ في الحقيقةِ هو المَصْرُوفُ، ولكنْ قيل: أرضٌ مأفوكة لما كانت مأفوكا عنها.
[سورة المائدة (5) : الآيات 76 الى 77]
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)
وقوله تعالى: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ(2/408)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ...
الآية: الضَّرُّ- بفتح الضاد-: المصدَرُ، وبضمها الاسم، وهو عدم الخير، والسَّمِيعُ لأقوالهم والْعَلِيمُ بنيَّاتهم، والغُلُوُّ: تجاوُزُ الحدِّ من غَلاَ السَّهْمُ إذا تجاوَزَ الغَرَضَ المقصُودَ، وتلك المسافَةُ هي غَلْوَتُهُ، وهذه المخاطَبَةُ هي للنصارَى الذي غَلَوْا في عيسى، والقوم الذين نُهِيَ النصارى عن اتباع أهوائهم هو بَنُو إسرائيل، ووَصَف تعالى اليهودَ بأنهم ضَلُّوا قديماً، وأضلوا كثيراً من أتباعهم، ثم أكَّد الأمر بتَكْرار قوله تعالى: وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ.
[سورة المائدة (5) : الآيات 78 الى 81]
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
وقوله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ ... الآية: قال ابنُ عباس (رضي اللَّه عنه) : لُعِنُوا بكلِّ لسانٍ لُعِنُوا في التوراةِ، وفي الزَّبُورِ، والإنجيلِ، والفُرْقَانِ «1» .
وقوله سبحانه: كانُوا لاَ يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ ... الآية: ذَمَّ اللَّه سبحانه هذه الفِرْقَةَ الملْعُونَةَ بأنهم كانوا لا يَتَنَاهَوْن عن منكرٍ فعلوه، أي: أنهم كانوا يتجاهرون بالمعاصي، / وإن نهى منهم ناه، لم يمتنعْ عن مواصلةِ العاصِي، ومؤاكلتِهِ، وخُلْطَتِهِ ورَوَى ابن مسعود، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ الرَّجُلَ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ، إذَا رأى أَخَاهُ على ذَنْبٍ، نَهَاهُ عَنْهُ تَعْذِيراً، فَإذَا كَانَ مِنَ الغَدِ، لَم يَمْنَعْهُ مَا رأى مِنْهُ أَنْ يَكُونَ أَكِيلَهُ أَوْ خَلِيطَهُ، فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ تعالى ذَلِكَ مِنْهُمْ، ضَرَبَ بِقُلُوبِ بَعْضِهِمْ على بَعْضٍ، وَلَعَنَهُمْ على لِسَانِ نَبِيِّهِمْ دَاوُدَ وعيسى» ، قال ابنُ مسعود: وكانَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مُتَّكِئاً فَجَلَسَ، وَقَالَ: «لاَ، وَاللَّهِ حتى تَأْخُذُوا على يَدِ الظَّالِمِ، فَتَأطُرُوهُ عَلَى الحَقِّ أَطْراً» «2» ،
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/ 656) (12303) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 223) .
(2) أخرجه الترمذي (5/ 252) كتاب «التفسير» ، باب سورة المائدة، حديث (3047) وأبو داود (2/ 524- 525) كتاب «الملاحم» ، باب الأمر والنهي، حديث (4336) وابن ماجة (2/ 1328) كتاب «الفتن» ، باب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حديث (4006) من طريق علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، وقد روي هذا الحديث، عن محمد بن مسلم بن أبي الوضاح، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وبعضهم يقول عن أبي عبيدة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مرسلا.(2/409)
والإجماعُ على أن النهْيَ عن المنْكَرِ- واجبٌ لمن أطاقه، ونهى بمعروفِ، أي: برفْقٍ، وقَوْلٍ معروفٍ، وأمْنِ الضرر عليه، وعلى المؤمنين، فإن تعذَّر على أحَدٍ النَّهْيُ لشيءٍ من هذه الوجوه، ففَرْضٌ عليه الإنكارُ بقلبه، وألاَّ يخالِطَ ذا المُنْكَرِ، وقال حُذَّاق أهْل العِلْم:
لَيْسَ مِنْ شروط الناهِي أنْ يكون سليماً من المَعْصية، بل ينهَى العُصَاةُ بعضُهم بعضاً.
وقوله سبحانه: لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ: اللامُ لامُ قسَمٍ، وروى أبو داود عن أبي سعيدٍ الخدري، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ» ، أو قَالَ: «كَلِمَةُ عَدْلٍ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ أوْ أَمِيرٍ جَائِرٍ» «1» . انتهى.
وقوله تعالى لنبيِّه محمَّد- عليه السلام-: تَرى كَثِيراً يحتمل أن تكون رؤيةَ عَيْن فلا يريد إلاَّ معاصريه، ويحتمل أنْ تكونَ رُؤْيَة قَلْب وعلى هذا، فيحتمل أن يريد المعاصرين له، ويحتمل أن يريد أسلافهم، والَّذِينَ كَفَرُوا: عبدة الأوْثَان.
وقوله سبحانه: لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ ... الآية، أي: قدَّمته للآخرة، واجترحته، ثم فسَّر ذلك قولُه تعالى: أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ف أَنْ سَخِطَ: في موضع رَفْعٍ بدَلٍ من ما، ويحتمل أن يكون التقدير: هو أنْ سَخِطَ اللَّه عليهم.
وقوله تعالى: وَالنَّبِيِّ إنْ كان المرادُ الأَسْلاَفَ، فالنبيُّ: داودُ وعيسى، وإنْ كان المرادُ معاصري نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فالمراد ب «النبيّ» هو صلّى الله عليه وسلّم.
وذهب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ قوله سبحانه: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ كلامٌ منقطعٌ من ذكر بني إسرائيل، وأنه يعني به المنافقين ونحوه لمجاهد «2» .
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/ 527- 528) ، كتاب «الملاحم» ، باب الأمر والنهي، حديث (4344) ، وابن ماجة (2/ 1329) كتاب «الفتن» ، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حديث (4011) من طريق عطية العوفي، عن أبي سعيد الخدري به.
وأخرجه الحميدي (752) ، والحاكم (4/ 505- 506) من طريق علي بن زيد بن جدعان، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري به.
وقال الحاكم: تفرد به ابن جدعان، ولم يحتج به الشيخان وقال الذهبي في «التلخيص» : هو صالح الحديث.
(2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 225) .(2/410)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)
وقوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا ...
الآية: اللامُ في قوله: لَتَجِدَنَّ: لام ابتداءٍ، وقال الزَّجَّاج «1» : هي لامُ قَسَمٍ، وهذا خبر مُطْلَقٌ منسحبٌ على الزمان كلِّه، وهكذا هو الأمر حتَّى الآن، وذلك أن اليهودَ مَرَنُوا على تكذيبِ الأنبياء وقَتْلِهِمْ، ومَرَدُوا على استشعار اللعْنَةِ، وضَرْبِ الذِّلَّة والمَسْكنة، فهم قد لَجَّتْ عداوتهم، وكَثُر حَسَدهم، فهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين وكذلك المشركون عبدةُ الأوثانِ والنِّيران، وأما النصارى، فإنهم يعظمون من أهْلِ الإسلام مَنِ استشعروا مِنه صِحَّة دِينٍ، ويستهينُونَ مَنْ فهموا منه الفِسْقَ، فهم إنْ حاربوا، فإنما حَرْبهم أَنَفَةٌ، لا أنَّ شرعهم يأخذهم بذلك، وإذا سالموا، فَسِلْمُهم صافٍ، واليهودُ (لعنهم اللَّه) ليسوا على شيء من هذه الخِلالِ، بل شأنهم الخُبْث، واللَّيُّ بالألسنة، والمَكْر، والغَدْر، ولم يصفِ اللَّه تعالَى النصارى بأنهم أهْلُ وُدٍّ، وإنما وصفهم بأنهم أقرَبُ من اليهود والمشركين، وفي قوله سبحانه: الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى: إشارةٌ إلى معاصري نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم/ من النصارى بأنهم ليسوا على حقيقيَّة النصرانيَّة، وإنما هو قولٌ منهم، وزَعْم.
وقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً ... الآية: معناه: ذلك بأن منهم أهْلَ خشْيَةٍ وانقطاع إلى اللَّه تعالى، وعبادةٍ، وإنْ لم يكونوا على هُدًى، فهم يَميلُونَ إلى أهل العبادةِ والخَشْيَةِ، وليس عند اليهود ولا كان قَطُّ- أهْلُ دياراتٍ وصوامِعَ وانقطاعٍ عن الدنيا، بل هم معظِّمون لها، متطاولُون في البنيان، وأمورِ الدنيا حتى كأنهم لا يؤمنون بالآخرة فلذلك لا يرى فيهم زاهد، قال الفَخْر «2» : القُسُّ والْقِسِّيسُ: اسمُ رئيس النصارى، والجمْعُ: قِسِّيسُونَ، وقال قُطْرُب: القُسُّ والقِسِّيس: العَالِمُ بلغة الرُّوم، وهذا مما وقع الوِفَاقُ فيه بَيْن اللغتَيْنِ. انتهى.
ووصف اللَّه سبحانه النصارى، بأنهم لا يستكبرون، وهذا موجودٌ فيهم حتى الآن، واليهوديُّ متى وجد عِزًّا، طغى وتكبَّر، ثم مدحهم سبحانه، فقال: وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ
__________
(1) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (2/ 199) .
(2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 56) .(2/411)
إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ... الآية: قال النوويُّ: ينبغي للقارىء أن يكون شأنُهُ الخشوعَ والتدبُّر والخضوعَ فهذا هو المقصود المطلوبُ، وبه تنشرح الصدورُ، وتستنيرُ القُلُوب، ودلائلُه أكْثَرُ من أنْ تُحْصَر، وأشهرُ من أنْ تُذْكَر، وقد بات جماعةٌ من السَّلَف يتلو الواحدُ منهم آيةً واحدةً، ليلةً كاملةً، أو معظمَ ليلةٍ يتدَبَّرها، وصُعِقَ جماعاتٌ منهم عند سماع القرآن، وقراءتِهِ، وماتَ جماعاتٌ منهم، ويستحب البكاءُ والتباكِي لِمَنْ لا يقدر على البكاء فإن البكاء عند القراءة صفةُ العارفين، وشعارُ عُبَّادِ اللَّه الصَّالحين، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء: 109] وقد وردَتْ آثار كثيرة في ذلك. انتهى من «الحلية» للنوويِّ.
وذكر ابن عباس وابن جُبَيْر ومجاهد أنَّ هذه الآية نزلَتْ بسبب وَفْدٍ بعثهم النجاشيّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليروه ويعرفوا حاله، فقرأ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليهم القُرآن، فَبَكَوْا وآمَنُوا، ورَجعُوا إلى النجاشيِّ، فآمن، ولم يَزَلْ مؤمناً حتى ماتَ، فصلى عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «1» ، وروي أنَّ نَعْشَ النجاشيِّ كُشِفَ للنبيِّ- عليه السلام- فكان يراه مِنْ موضعه بالمدينةِ وجاء الخَبَرُ بعد مدة أنَّ النجاشيَّ دُفِنَ في اليوم الذي صلّى فيه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليه، قال أبو صالح: كانوا سبعةً وستين رجلاً «2» ، وقال ابن جُبَيْرٍ: كانوا سبعين، عليهم ثيابُ الصُّوف، وكُلُّهم صاحبُ صَوْمَعَة اختارهم النجاشيُّ «3» .
وصَدْرُ الآية في قُرْب المودَّة عامٌّ فيهم، ولا يتوجَّه أنْ يكون صَدْر الآية خاصًّا فيمن آمن، وإنما وقع التخصيص مِنْ قوله تعالى: وَإِذا سَمِعُوا، وجاء الضمير عامّا إذا قد تُحْمَدُ الجماعةُ بفعْلِ واحدٍ منهم، وفي هذا استدعاء للنصارى، ولُطْفٌ من اللَّه بهم ليؤمنوا.
قال ص: مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ: «مِن» الأولى لابتداءِ الغاية.
قال أبو البقاء: ومعناها: مِنْ أجْل الذي عَرَفُوا، و «من» الثانية لبيان «ما» الموصولة.
انتهى.
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 3) برقم (12319) عن مجاهد، (12318) عن سعيد بن جبير، (12320) عن ابن عباس، وذكره ابن عطية (2/ 226) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 537) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، عن سعيد بن جبير، وعزاه أيضا لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، عن مجاهد. [.....]
(2) أخرجه الطبري (5/ 5) برقم (12326) ، وذكره ابن عطية (2/ 226) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 6) برقم (12328) ، وذكره ابن عطية (2/ 226) ، والسيوطي (2/ 537) وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.(2/412)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
قال العراقيُّ: تَفِيضُ، أي: تسيل منها العَبْرَةُ، وفي الحديثِ: «اقرءوا القُرْآنَ، وابكوا، فَإنْ لَمْ تَبْكُوا، فَتَبَاكَوْا» ، خرَّجه البزِّار «1» . انتهى من «الكوكب الدري» ، وفيه عن البزَّار أيضاً أنَّ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «مَنْ خَرَجَ مِنْ عَيْنَيْهِ مِثْلُ جَنَاحِ ذُبَابٍ دُمُوعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، لَمْ يَدْخُلِ النَّارَ حتى يَعُودَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِهِ» . انتهى.
وقولهم: مَعَ الشَّاهِدِينَ، يعني: نبيّنا محمّدا صلّى الله عليه وسلّم، وأمته قاله ابن عباس «2» وغيره، وقال «3» الطبريُّ: لو قال قائلٌ: معنى ذلك: «مع الشاهِدينَ بتَوْحيدك من جميع العَالَمِ» ، لكان صواباً، وهو كلامٌ صحيحٌ وكأن ابنَ عَبَّاس خصَّص أمة محمد لقول اللَّه سبحانه: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً ... [البقرة: 143] الآية، وقولهم: وَما لَنا لاَ نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ: توقيفٌ لأنفسهم أو مُحَاجَّةٌ لِمَنْ عارضهم من الكفار، والقومُ الصالِحُون: محمَّد صلّى الله عليه وسلّم، وأصحابه قاله ابن زيد وغيره «4» من المفسِّرين، ثم ذكر تعالى ما أثابهم به مِنَ النعيم على إيمانهم وإحسانهم، ثم ذكر سبحانه حال الكافرين المكذّبين، وأنهم قرناء الجحيم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 89]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ... الآية: قال ابن عباس وغيره «5» نزلَتْ بسبب جماعة من أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بلغَتْ منهم المواعظ، وخوفُ اللَّه تعالى إلى أنْ حرَّم بعضهم النساء، وبعضُهم النوْمَ بالليلِ، والطِّيبَ، وهَمَّ بعضهم بالاختصاءِ، فبلَغَ ذلك النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فقال: «أَمَّا أنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وآتي
__________
(1) تقدم «تفسيره» في أول التفسير.
(2) أخرجه الطبري (5/ 7) برقم (12336) ، وذكره ابن عطية (2/ 227) .
(3) ينظر: الطبري (5/ 8) .
(4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (2/ 8) (12339) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 226) .
(5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 11) (12351) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 228) ، و «صحيفة علي بن أبي طلحة عن ابن عباس» (ص 186/ 334) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 544) وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس.(2/413)
النِّسَاءَ، وَأَنَالُ الطِّيبَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي» ، قال الطبريُّ: كان فيما يتلى:
«مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِكَ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِكَ، وَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ» ، والطيباتُ في هذه الآية: المستلَذَّات بدليل إضافتها إلى ما أحلَّ اللَّه وبقرينة ما ذُكِرَ من سبب الآية.
وقوله سبحانه: وَلا تَعْتَدُوا، قال عكرمة وغيره: معناه: في تحريم ما أحلَّ اللَّه «1» ، وقال الحسنُ بنُ أبي الحَسَنِ: المعنى: ولا تعتدُوا، فَتُحِلُّوا ما حرَّم اللَّه «2» ، فالنهْيَان على هذا تضمَّنا الطرفَيْن كأنه قال: لا تشدِّدوا فتحرِّموا حلالاً، ولا تترخَّصوا فتحلُّوا حراماً، قلتُ: وروى مالكٌ في «الموطإ» ، عن أبي النَّضْر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لَمَّا ماتَ عثمانُ بْنُ مظعونٍ، ومُرَّ بجَنَازَتِهِ: «ذَهَبْتَ، وَلَمْ تَلْتَبِسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ» «3» .
قال أبو عمر في «التمهيد» : هذا الحديثُ في «الموطإ» مقطوعٌ، وقد رُوِّينَاه متصلاً مُسْنَداً من وجه صالحٍ حسن، ثم أسند أبو عمر عن عائشةَ، قالَتْ: «لمَّا ماتَ عُثْمَانُ بنُ مظعونٍ، كشف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الثَّوْبَ عن وجْهِهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وبكى بُكَاءً طويلاً، فلما رُفِعَ عَلَى السَّرِيرِ، قَالَ: طوبى لَكَ يَا عُثْمَان! لَمْ تَلْبَسْكَ الدُّنْيَا وَلَمْ تَلْبَسْهَا» «4» .
قال أبو عمر: كان عثمانُ بنُ مظعونٍ أحد الفُضَلاء العُبَّاد الزاهدين في الدنيا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المتبتِّلين منهم، وقد كان هو وعليُّ بن أبي طالب هَمَّا أنْ يترهَّبا ويَتْرُكَا النساء، ويُقْبِلا على العبادة، ويحرِّما طيِّباتِ الطعامِ على أنفسهما، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ ... الآية. ونقل هذا مَعْمَرٌ وغيره عن قتادة «5» . انتهى.
وقوله سبحانه: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ: معناه: شدَّدتم، وعَقْدُ اليمينِ كَعَقْدِ الحبل والعهد قال الحطيئة: [البسيط]
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 13) (12356) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 228) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 13) (12358) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 228) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 547) وعزاه لعبد بن حميد، عن الحسن.
(3) أخرجه مالك في «الموطأ» (1/ 242) كتاب «الجنائز» ، باب جامع الجنائز، حديث (54) .
(4) أخرجه أبو داود (3/ 301) كتاب «الجنائز» ، باب في تقبيل الميت، حديث (3163) والترمذي (3/ 314- 315) كتاب «الجنائز» ، باب ما جاء في تقبيل الميت، حديث (989) من حديث عائشة.
وقال الترمذي: حسن صحيح.
(5) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 10) (12346) .(2/414)
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْداً لِجَارِهِمُ ... شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا «1»
قال «2» الفَخْر: وأما وجه المناسبة بَيْنَ هذه الآية والَّتي قبلها، فهو ما تقدَّم مِنْ أنَّ قوماً من الصحابة (رضي اللَّه عنهم) حَرَّموا على أنفسهم المطاعِمَ والمَلاَذَّ، وحلفوا على ذلك، فلمَّا نهاهم/ اللَّه تعالى عن ذلك، قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فكيف نصنع بأَيْمَانِنَا؟ فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية. انتهى.
وقوله سبحانه: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ، أي: إشباعهم مرةً واحدةً، وحكم هؤلاءِ ألاَّ يتكرَّر واحدٌ منهم في كفَّارة «3» يمينٍ واحدةً.
واختلفَ في معنى قوله سبحانه: مِنْ أَوْسَطِ، فرأى مالك وجماعةٌ معه هذا التوسُّط في القَدْر، ورأى ذلك جماعةٌ في الصِّنْف، والوَجْهُ أن يُعَمَّ بلفظ «الوسَطِ» القَدْرُ والصِّنْفُ، فرأى مالكٌ أنْ يُطْعَمَ المسكينُ ب «المدينة» مدّا بمدّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وذلك رطل
__________
(1) البيت للحطيئة ص (15) ، واللسان (عنج) .
وعقد الحبل والعهد يعقده عقدا، وأعقدت العسل والدواء أعقدهما إعقادا والعناج: حبل يشدّ أسفل الدلو إذا كانت ثقيلة، ثم يشد إلى العراقيّ، فإذا انقطعت الأوذام، فانقلبت، أمسكها العناج، يقال: قد عنجت الدلو أعنجها، واسم الحبل: العناج. والكرب: عقد الرشاء الذي يشدّ على العراقي، يقال:
أكربت الدلو أكربها إكرابا، والعراقي: العودان المصلبان اللذان تشدّ إليهما الأوذام، فأراد أنهم إذا عقدوا لجارهم عقدا أحكموه.
(2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 61) . [.....]
(3) لا نعلم خلافا بين العلماء في أن المكفر بالإطعام يخرج عن عهد الكفارة بإطعام عشرة مساكين لكل مسكين ما وجب له.
كما لا نعلم خلاف بينهم أيضا في أنه لا يخرج عن عهدة الكفارة بدفعه ما وجب عليه من الطعام لمسكين واحد في يوم واحد دفعة واحدة لأن ذلك لا يسمى إطعام عشرة مساكين لا حقيقة ولا حكما. فهو مخالف لظاهر الآية. وليس في السنة ما يؤيده.
وإنما الخلاف بينهم في دفع ما وجب عليه من الطعام لمسكين واحد في عشرة أيام، أو في يوم واحد على دفعات متفرقة على سبيل التمليك.
فجمهور العلماء، ومنهم الأئمة: مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور من مذهبه ذهبوا إلى أن ذلك لا يجوز، ولا يخرج به المكفر عن العهدة، ولا بد من إعطاء تسعة مساكين آخرين لكل واحد منهم ما وجب له، فعدد العشرة عندهم معتبر.
ومنهم من ذهب إلى أن ذلك جائز، ومسقط للعهدة، وهو الإمام أبو حنيفة وأصحابه، والإمام أحمد في رواية، غير أن الحنفية يجيزون دفعها لمسكين واحد في أيام متعددة من غير خلاف بينهم، وأمّا دفعها له في يوم واحد على دفعات على سبيل التمليك، فذلك محل خلاف بينهم.
ينظر: «الكفارات» لشيخنا حسن علي حسن الكاشف.(2/415)
وثُلُثٌ، وهذا لضيقِ المعيشة بالمدينة، ورأى في غيرها أنْ يتوسَّع، ورأى من يقول: إنَّ التوسُّط إنما هو في الصِّنْف أنْ يكون الرجُلُ المكفِّر يتجنب أدنى ما يأكل الناس في البلد، وينحطُّ عن الأعلى، ويكفِّرُ بالوَسَط من ذلك، ومذهب «المدونة» أنْ يراعي المكفِّر عيش البلد، وتأويلُ العلماء في الحانث في اليمين باللَّه: أنه مخيَّر في الإطعام، أو الكُسْوة، أو العِتْق، والعلماءُ على أنَّ العتق أفضلُ ذلك، ثم الكسوة، ثم الإطعام، وبدأ اللَّه تعالى عباده بالأيسر، فالأيسر، قال الفَخْر «1» : وبدأ سبحانه بالإطعام لأنه أعمُّ وجوداً، والمقصودُ منه التنبيهُ على أنه سبحانه يُرَاعِي التخفيفَ، والتسهيلَ في التكاليفِ، وثانيها: أنَّ الإطعام أفضلُ، قلتُ: وهذا هو مشهورُ مذهب مالكٍ. انتهى، ويجزىء عند مالكٍ من الكُسْوَة في الكفارة ما يجزىء في الصّلاة «2» .
__________
(1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 64- 65) .
(2) النوع الثاني من الأنواع المخيّر فيها في كفارة اليمين، هي كسوة عشرة مساكين، وهو ما يشير إليه قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ [المائدة: 89] .
اتفقت كلمة الفقهاء على أن المكفر إذا أعطى لكل مسكين من العشرة ثوبين فأكثر، كفاه ذلك، وسقطت عنه الكفارة.
ولكنهم اختلفوا في أقل ما يعطاه المسكين الواحد: فذهب الشافعي- رضي الله عنه-، وجمهور أهل الظاهر: إلى أن أقل ما يعطاه المسكين الواحد هو ما يطلق عليه اسم الكسوة، كالمنديل، أو العمامة، أو الإزار، ولا يشترط أن يكون صالحا للمعطى، بل جائز أن يعطى ما يصلح للكبير للصغير، وما للرجل للمرأة وبالعكس، كما لا يشترط أن يكون جديدا.
وذهب الإمام مالك، وأصحابه إلى أن المجزئ من ذلك ثوب تصح فيه الصّلاة، فإن كان المسكين رجلا وجب أن يعطى ثوبا يستر جميع البدن، وإن كان امرأة وجب أن تعطى ثوبا تستر به جميع بدنها، وخمارا تغطي به رأسها، وفي ذلك يقول مالك في الموطأ: «أحسن ما سمعت في الذي يكفر عن يمينه بالكسوة أنه إن كسا الرجال كساهم ثوبا ثوبا، وإن كسا النساء كساهم ثوبين ثوبين درعا وخمارا وذلك أدنى ما يجزىء كلّا في صلاته» وليس بلازم أن يكون الثوب، أو ما معه جديدا، بل يكفي أن يكون صالحا للبس كما أنه ليس بلازم أن يكون المسكين كبيرا، بل الصغير والكبير في الكسوة سواء.
وذهب أبو حنيفة، وأبو يوسف إلى أن المجزئ من ذلك هو ما يستر البدن، ويسمى به الشخص مكتسيا، وذلك كالقميص، أو الإزار السابخ، أو القباء، أو الكساء أو الملحفة، وخالفهما الإمام محمّد حيث قال: يجزىء من ذلك ثوب تصح فيه الصلاة للرجل والمرأة، فيجوز عنده السراويل للرجل لأنه يسمى لابسا شرعا، ولا يجزىء عندهما لأن لابسه لا يسمى مكتسيا عرفا.
وذهب الإمام أحمد إلى أن المجزئ من ذلك ثوب يصح للرجل أن يصلّي فيه، وللمرأة درع وخمار، وقال: لا يجزىء إزار وحده أو سروال.
ينظر: «الكفارات» لشيخنا حسن علي حسن الكاشف.(2/416)
وقوله سبحانه: أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ، أيْ: مؤمنة قاله مالك «1» وجماعةٌ لأن هذا المطْلَق راجعٌ إلى المقيدِ في عِتْقِ الرقبة في قَتْل الخطإ.
وقوله سبحانه: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ: معناه: لم يجدْ في ملكه أحد هذه الثلاث
__________
(1) ذهب الجمهور، ومنهم مالك، والشافعي، وأحمد في مشهور مذهبه، والأوزاعي: إلى أن عتق الرقبة الكافرة في كفارة اليمين لا يجزىء، ولا تسقط الكفارة به.
وذهب الإمام أبو حنيفة، وأصحابه، والثوري، وعطاء، وأبو ثور إلى أن ذلك مجزىء، ومسقط للكفارة، وهو رواية عن الإمام أحمد.
احتج الجمهور بما رواه مسلم، والنّسائيّ عن معاوية بن الحكم قال: «كانت لي جارية فأتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقلت: عليّ رقبة. أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أين الله؟ فقالت في السّماء فقال: من أنا؟
فقالت: أنت رسول الله. فقال صلّى الله عليه وسلّم: أعتقها، فإنّها مؤمنة» .
ووجه الدلالة: أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخّر الجواب عن السائل، حتى علم ما عليه تلك الرقبة من الإيمان أو الكفر، فلما تأكد له إيمانها، أجابه صلّى الله عليه وسلّم بأن يعتقها، وقال له: «فإنّها مؤمنة» . فلو لم يكن وصف الإيمان له دخل في إجزاء العتق، لما كان لهذا التأخير فائدة، ومثل ذلك يجلّ عنه مقام الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام علّق عتقها على الإيمان، وتعليق ذلك يدل على أن الإيمان علّة الإجزاء لأن تعلّق الحكم بالمشتق مؤذن بأن مبدأ الاشتقاق علة فيه.
وقالوا: إن الرقبة في الآية، وإن كانت مطلقة غير مقيدة بوصف الإيمان، إلا أن هذا الحديث يصلح أن يكون مقيدا لها، فيكون المقصود من الرقبة فيها: هي الرقبة المؤمنة أو يقال: إن كفارة اليمين قد اتحد الحكم فيها مع كفارة القتل، ففي كل وجب عتق رقبة، واختلف سببهما إذ كفارة اليمين سببها اليمين، وكفارة القتل سببها القتل، والمطلق والمقيد متى اتحد حكمهما حمل المطلق على المقيد، وإن اختلف سببهما متى وجدت علّة جامعة بينهما، فتكون الرقبة في كفارة اليمين محمولة على الرقبة في كفارة القتل، فتقيد بالإيمان، كما قيدت به في كفارة القتل لأن العلة التي تجمعهما: هي حرمة السبب.
واحتج الإمام أبو حنيفة، ومن معه بأن الآية غير مقيدة، فهي شاملة للرقبة المؤمنة، وللرقبة الكافرة، والمطلق يجب بقاؤه على إطلاقه، حتى يرد من الشرع ما يقيده، ولم يرد ما يقيد الرقبة بالإيمان هاهنا، فكانت باقية على إطلاقها، فعتق الكافرة مجزىء كعتق المسلمة، وليس حمل المطلق على المقيد عند اتحاد الحكم مع اختلاف السبب أمرا متفقا عليه، بل نحن لا نقول به، وبالنظر في وجهة كل نجد أن مذهب الجمهور هو الراجح، لأن الحديث المتقدم مقيد للآية، فلم تبق على إطلاقها ولأن الكفارة عبادة يتقرب بها إلى الله عز وجل، فوجب أن تكون خاصة بأهل عبادته من المؤمنين كمال الزكاة، وذبائح النّسك.
نعم، إن الإسلام دين الرحمة العامة، والصدقة فيه حتى على الكفار غير المحاربين مستحبة، ولكن فرقا بين الصدقة المطلقة، وبين العبادات المحددة المقيدة، فتكفير الذنب إنما يرجى بما في العتق من إعانة العتيق على طاعته تعالى، حتى من قال بإجزاء الكافرة لا يمكنه أن ينكر أن الاحتياط في إبراء الذمة إنما هو بإعتاق الرقبة المؤمنة، فتقديم المجمع عليه المتيقن إجزاؤه أولى بالاعتبار من المظنون المختلف فيه.
ينظر: «الكفارات» لشيخنا حسن علي حسن الكاشف.(2/417)
المذكورة. واختلفَ العلماءُ في حدِّ هذا العادِمِ، ومتى يصحُّ له «1» الصيام فقال الشافعيُّ ومالكٌ وجماعة من العلماء: إذا كان المكفِّر لا يملك إلاَّ قوته، وقُوتَ عياله، يَوْمَهُ وليلته، فله أنْ يصوم، فإن كان عنده زائدٌ على ذلك مَا يُطْعِم عشرةَ مساكينَ، لزمه الإطعام، قال «2» الطبريُّ: وقال آخرون: جائز لِمَنْ لم يكُنْ له فضْلٌ على رأس ماله الذي يتصرَّف به في معايشه أنْ يصوم، وقرأ أبيُّ بن كعبٍ، وابن مسعود: «ثلاثة أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ» ، وقال بذلك جماعة.
وقال مالك وغيره: إن تابع، فحَسَنٌ، وإن فرق، أجزأ، وقوله: إِذا حَلَفْتُمْ، معناه: وأردتم الحِنْثَ، أو وقعتم فيه.
__________
(1) من خصال كفارة اليمين هي صيام ثلاثة أيّام، والعلماء متفقون على أن تلك الخصلة لا ينتقل إليها المكفر إلا بعد العجز عن الخصال السابقة لقوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ [المائدة: 89] .
ولكنهم مختلفون في شيء آخر وراء هذا، وهو: هل يجب التتابع في صوم تلك الأيام الثلاثة بحيث لا يتخللها فطر أو لا يجب ذلك فيه خلاف.
ذهبت الشافعية في الراجح من مذهبهم، والمالكية، والظاهرية، وأحمد في رواية عنه: إلى عدم اشتراط التتابع محتجين بأنه صوم نزل به القرآن غير مقيد بالتتابع، فجاز متفرقا ومتتابعا لأنّه لم يوجد من السنة دليل ثابت يصح أن يقيد به هذا الإطلاق، فالتقييد بالتتابع تقييد بلا دليل.
وذهبت الحنفية، وأحمد في مشهور مذهبه، والثّوريّ وأبو عبيد: إلى اشتراط التتابع محتجين بقراءة أبيّ، وابن مسعود «فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيّام متتابعات» قائلين: إن ثبت القرآن بهذا كان حجة ووجب حمل المطلق على المقيد لأن القرآن يفسّر بعضه بعضا، وإن لم تثبت القرآنية بهذا، فلا يخرج ذلك عن أن يكون رواية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمعها ابن مسعود، وأبي معه، فلها حكم الحديث المرفوع، وهو حجة، فيقيد به مطلق الكتاب، وأيّا ما كان، فالتتابع ثابت بهذا، فلا يصح التفريق في الصّيام ونحن إذا نظرنا إلى وجهة كل نجد أن القول بالتتابع هو الراجح، لأن القائلين بعدم التتابع قد حملوا المطلق في تحرير الرقبة على المقيد فيها في كفارة القتل، حتى أوجبوا اعتبار وصف الإيمان في الرقبة مع أن السبب فيهما مختلف، وليس لهم مستند في ذلك إلا أن كلّا من الكفارتين تجمعهما علة واحدة هي: حرمة السبب، وهذه العلة بذاتها موجودة في الصوم في كفارة اليمين، وقراءة أبيّ، وابن مسعود: «فصيام ثلاثة أيّام متتابعات» . فهذه القراءة، وإن لم تثبت قرآنية هذا اللفظ لأن القرآن لا يثبت بالآحاد إلّا أنها رواية عن صحابي سمعها من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فلا ينبغي أن يتقوّل عليه ما لم يقله لأنه يعرف حقّ المعرفة معنى قوله عليه الصلاة والسلام: «من كذب عليّ متعمّدا، فليتبوّأ مقعده من النّار» فتكون مقيدة للآية.
فقول من قال: إن الآية مطلقة، ولم يرد ما يقيدها لا يقبل بعد البيان السابق، وخصوصا إذا أمكن حمل المطلق هاهنا على المقيد في كفارة القتل، أو الظهار، ولا مانع منه.
ينظر: «الكفارات» لشيخنا حسن علي حسانين الكاشف، «الخطيب على المنهاج» (4/ 328) ، «الشرح الكبير» (2/ 118) ، «المغني» (11/ 273) ، «فتح القدير» (4/ 18) .
(2) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 30) .(2/418)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92)
[سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 92]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ ... الآية:
قال ع «1» : وفي معنى الأزلام: الزَّجْرُ بالطيرِ، وأخْذُ الفألِ في الكتب ونحوه ممَّا يصنعه الناسُ، وأخبر سبحانه أنَّ هذه الأشياء رجْسٌ، قال ابن عباس في هذه الآية: رِجْسٌ:
سَخَطَ «2» ، وقال ابن زَيْدٍ: الرجْسُ «3» الشرُّ.
قال ع «4» : الرِّجْس: كلُّ مكروهٍ ذميمٍ، وقد يقال للعذابِ والرجْزِ: العذابُ لا غَيْر، والرِّكْس: العَذِرَةُ لا غَيْر، والرِّجْسُ يقال للأمرين.
وقوله سبحانه: فَاجْتَنِبُوهُ: أمر باجتنابه، فحرمت الخمر بظاهر القرآن، ونصِّ الأحاديث، وإجماع الأمة، وأمْرُ الخمر إنما كان بتدريجٍ ونوازلَ كثيرةٍ كقصَّة حمزة، حين جَبَّ الأسْنِمَة، وقولِهِ: وهل أنتم إلا عبيدُ أبِي، ثم أعلم سبحانه عباده أنَّ الشيطان إنَّمَا يريد أنْ تقع العداوةُ بسَبَبِ الخَمْر، وما يعتري عليها بَيْنَ المؤمنينِ، وبسبب المَيْسر إذ كانوا يتقَامَرُونَ عَلَى الأموال حتى رُبَّما بَقِيَ المقمور فقيراً، فَتَحْدُثُ من ذلك ضغائِنُ وعداواتٌ، فإن لم يصلِ الأمر إلى حَدِّ العداوة، كانَتْ بغضاء، ولا تحسُنُ عاقبة قومٍ متباغضين، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَلاَ تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَاناً» «5» ، وباجتماع النفوس والكلمة يحمى الدين، ويجاهَدُ العدوُّ، والبغضاءُ تنقضُ عُرَى الدِّين، وتهدم عمادَ الحمايةِ، وكذلك أيضاً يريدُ الشيطانُ أنْ يصدَّ المؤمنين عَنْ ذكْر اللَّه، وعنِ الصلاة، ويشغلهم عنها باتباع الشهواتِ، والخمرُ والميسرُ والقمَارُ كلُّه مِنْ أعظم الآفات في ذلك، وفي قوله سبحانه: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ: وعيدٌ زائد على معنى: «انتهوا» .
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 233) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 33) (1254) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 232) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 566) وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، من طريق علي، عن ابن عباس.
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 33) (12515) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 233) .
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 233) .
(5) تقدم تخريجه.(2/419)
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94)
[سورة المائدة (5) : الآيات 93 الى 94]
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)
وقوله سبحانه: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا ...
الآية: قال ابن عباس وغيره: لما نزل تحريمُ الخَمْر، قال قومٌ من الصحابة: يا رسول اللَّه، كَيْفَ بِمَنْ مات مِنَّا، وهو يشربها، ويأكل المَيْسِرَ، ونحو هذا من القَوْل، فنزلَتْ هذه الآية «1» ، وهذا نظيرُ سؤالِهِمْ عَمَّن مات على القبلة الأولى، والجُنَاحُ: الإثم والحَرَج، والتَّكرار في قوله سبحانه: «اتَّقوا» يقتضي في كلِّ واحدة زيادةً على التي قبلها، وفي ذلك مبالغةٌ في هذه الصِّفَات لهم، وليسَتِ الآيةُ وقفاً على مَنْ عمل الصالحاتِ كلَّها، واتقى كلَّ التقوى، بل هي لكلِّ مؤمن، وإن كان عاصياً أحياناً إذا كان قد عَمِلَ من هذه الخصالِ المَمْدُوحة ما استحق به أنْ يوصف بأنه مؤمنٌ عامل للصالحات متَّقٍ في غالبِ أمره، محسنٌ، فليس على هذا الصِّنْف جُنَاحٌ فيما طعم ممَّا لم يُحَرَّم عليه، وطَعِمُوا: معناه:
ذَاقُوا فصَاعداً في رُتَب الأكل والشُّرب، وقد يستعار للنوم وغيره، وحقيقتُهُ في حاسَّة الذّوق.
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ، أي: ليختبرنَّكم ليرى طاعتكم مِنْ معصيتكم، وقوله: «بشيءٍ» يقتضي تبعيضاً، و «مِنْ» : يحتمل أنْ تكون للتبعيض، ويحتمل أنْ تكون لبيانِ الجِنْس كقوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] .
وقوله تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ: معناه: ليستمرَّ علمه تعالى عليه، وهو موجودٌ إذ قد علم تعالى ذلك في الأزل، وبِالْغَيْبِ: قال الطبريُّ «2» : معناه: في الدنيا حيثُ لا يَرَى العبْدُ ربَّه، فهو غائبٌ عنه، والظاهر أنَّ المعنى: بالغَيْب من الناس، أي: في الخَلْوة ممَّن خاف اللَّه. انتهى، قلتُ: وقول الطبريِّ أظهر، ثم توعَّد تعالى من اعتدى بعد النهْيِ بالعذابِ الأليم، وهو عذابُ الآخرة.
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 38) (12529) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 234) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 567) ، وعزاه لابن مردويه، من طريق العوفي، عن ابن عباس.
(2) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 41) .(2/420)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
[سورة المائدة (5) : الآيات 95 الى 98]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ... الآية: الصَّيْد:
مصدرٌ عومِلَ معاملةَ الأسماء، فأوقع على الحَيَوانِ المَصِيدِ، ولفظُ الصيد هنا عامٌّ، ومعناه الخصوصُ فيما عدا ما استثني، وفي الصحيح عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ: الغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالفَأْرَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ العَقُورُ» «1» ، وأجمع النَّاس على إباحة قتل الحَيَّة، وبَسْطُ هذا في كتب الفقه، وحُرُمٌ: جمع حرامٍ، وهو الذي يدخُلُ في الحَرَم، أو في الإحرام، واختلف في قوله: مُتَعَمِّداً، فقال مجاهد وغيره:
معناه: متعمِّداً لقتله، ناسياً لإحرامه «2» ، فهذا يُكَفِّرُ، وأما إنْ كان ذاكراً لإحرامه، فهو أعظم
__________
(1) ورد هذا الحديث عن ابن عمر، وعائشة، وحفصة، وأبي سعيد الخدري، وابن عباس، وأبي رافع، وأبي هريرة.
أما حديث ابن عمر فله طرق.
فأخرجه مسلم (2/ 858) كتاب «الحج» ، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، حديث (73/ 1200) وأبو داود (2/ 424) كتاب «المناسك» ، باب ما يقتل المحرم من الدواب، حديث (1846) ، والنسائي (5/ 1900) كتاب «الحج» ، باب قتل الغراب، وأحمد (2/ 8) وابن الجارود رقم (440) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 165) والبيهقي (5/ 209) كتاب «الحج» ، باب ما للمحرم قتله من دواب البر في الحلّ والحرم، والحميدي (2/ 279) رقم (619) والخطيب في «تاريخ بغداد» (4/ 292- 293) وأبو يعلى (9/ 311) رقم (5428) من طريق الزهري عن سالم، عن أبيه مرفوعا.
وأخرجه مالك (1/ 356) كتاب «الحج» ، باب ما يقتل المحرم من الدواب حديث (88) والشافعي في «المسند» (1/ 319) كتاب «الحج» ، باب فيما يباح للمحرم ... (735) والبخاري (6/ 355) كتاب «بدء الخلق» ، باب إذا وقع الذباب في شراب أحدكم ... (3315) ومسلم (2/ 858) كتاب «الحج» ، باب ما يندب للمحرم وغيره قتله من الدواب في الحل والحرم، حديث (76/ 1199) والنسائي (5/ 187- 188) كتاب «الحج» ، باب ما يقتل المحرم من الدواب. [.....]
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 41) برقم (12551) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 237) .(2/421)
مِنْ أن يكفِّر، وقد حَلَّ ولا رخْصَة له.
وقال جماعة من أهْل العلْمِ، منهم ابن عباس ومالكٌ والزُّهْرِيُّ وغيرهم: المتعمِّد:
القاصد للقتلِ، الذَّاكرُ لإِحرامه «1» ، فهو يكفِّر، وكذلك الناسِي والقاتلُ خطأً يكفِّران، وقرأ نافع «2» وغيره: «فَجَزَاءُ مِثْلِ» ، - بإضافة الجزاء إلى «مثل» -، وقرأ حمزة وغيره: «فَجَزَاءُ» - بالرفع-، «مِثْلُ» - بالرفع أيضاً-، واختلفَ في هذه المماثلة، كيف تكُون، فذهب الجمهور إلى أنَّ الحَكَمين ينظران إلى مِثْلِ الحيوان المَقْتُول في الخِلْقَة، وعظم المرأى، فيجعلانِ ذلك من النَّعَم جزاءه/، وذهب الشَّعْبيُّ وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة يُقَوَّم الصيدُ المقتول، ثم يشتري بقيمته نِدٌّ من النَّعَم، ورد الطبريُّ «3» وغيره هذا القولَ، والنَّعَم: لفظ يقع علَى الإبل والبَقَر والغَنَم، إذا اجتمعت هذه الأصنافُ، فإن انفرد كلُّ صِنْفٍ لم يُقَلْ «نَعَم» إلا للإبل وحْدها، وقَصَرَ القرآنُ هذه النازَلَة على حَكَمين عدْلَيْن عالِمَيْن بحُكْم النازلة، وبالتقدير فيها، وعلى هذا جمهورُ الناس.
قال ابنُ وهْب في «العتبية» : من السنة أن يُخَيِّرَ الحَكَمان مَنْ أصاب الصيد كما خَيَّره اللَّه تعالى في أنْ يخرج هَدْياً بالغَ الكَعْبة، أو كفارةً طعامَ مساكينَ، أو عَدْلَ ذلك صياماً، فإن اختار الهَدْيَ، حَكَما عليه بما يريانِهِ نَظيراً لما أصاب ما بينهما وبَيْن أن يكون عَدْلَ ذلك شاةً لأنها أدنَى الهَدْيِ، فما لم يبلُغْ شاةً، حَكَمَا فيه بالطعامِ، ثم خُيِّر في أنْ يطعمه أو يصوم مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يوماً، وكذلك قال مالكٌ في «المدوَّنة» : إذا أراد المصيبُ أنْ يطعم أو يصوم، فَإنْ كان لِمَا أصاب نظيرٌ من النَّعَم، فإنه يقوَّمُ صيدُهُ طعاماً، لاَ دَرَاهِمَ، قال: وإن قوَّماه دراهمَ، واشتري بها طعامٌ، لَرَجَوْتُ أنْ يكون واسعاً، والأول أصْوَبُ، فإنْ شاء، أطعمه، وإلا صام مَكَانَ كلِّ مُدٍّ يوماً، وإن زاد ذلك على شهرين، أو ثلاثة، وقال يحيى بن عمر من أصحابنا: إنما يقالُ: كَمْ مِنْ رجلٍ يَشْبَعُ من هذا الصيدِ، فيعرف العددَ، ثم يقال: كَمْ من الطعامِ يُشْبِعُ هذا العَدَدَ؟ فإن شاء، أخرج ذلك الطعام، وإن شاء، صام عدد أمداده، وهذا قولٌ حسنٌ احتاط فيه لأنه قد تكونُ قيمةُ الصيدِ مِنَ الطعامِ قليلةً، فبهذا النَّظَر يكثر الإطعام.
__________
(1) ابن عطية في «تفسيره» (2/ 227) .
(2) ينظر: «الحجة» (3/ 254) ، و «حجة القراءات» (235) ، و «إعراب القراءات» (1/ 149) ، و «العنوان» (88) ، و «شرح الطيبة» (4/ 235) ، و «شرح شعلة» (354) ، و «إتحاف» (1/ 542) ، و «معاني القراءات» (2/ 338) .
(3) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 48) .(2/422)
وقوله تعالى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ ذكرت «الكعبة» لأنها أم الحَرَم، والحَرَمُ كلُّه مَنْحَرٌ لهذا الهَدْيِ ولا بد أن يجمع في هذا الهَدْي بَيْن الحِلِّ والحَرَمِ حتى يكون بالِغَ الكعبة، فالهَدْيُ لا ينحر إلا في الحَرَمِ.
واختلفَ في الطَّعَام، فقال جماعةٌ: الإطعام والصَّوْمِ حيث شاء المكفِّر من البلاد، وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: الهَدْيُ والإطعام بمكَّة «1» ، والصوم حيث شِئْتَ.
وقوله سبحانه: لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ: الذوق هنا مستعارٌ، والوبالُ: سوءُ العاقبةِ، والمرعَى الوَبِيلُ هو الذي يتأذى به بَعْد أكله، وعبَّر ب أَمْرِهِ عن جميع حاله مِنْ قتلٍ وتكْفيرٍ، وحكمٍ علَيْه، ومُضِيِّ مالِهِ، أو تعبِهِ بالصَّوْمِ، واختلف في معنى قوله سبحانه:
عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ... الآية: فقال عطاءُ بن أبي رباح، وجماعة: معناه: عفا اللَّه عما سَلَفَ في جاهليَّتكم مِنْ قتلكم الصيد في الحرمة «2» ، ومَنْ عاد الآنَ فِي الإسلام، فإن كان مستحلاًّ، فينتقم اللَّه منه في الآخرة، ويكفَّرُ في ظاهر الحُكْم، وإن كان عاصياً، فالنقْمَةُ هي في إلزامُ الكَفَّارة فقَطْ، قالوا: وكلَّما عاد المُحْرِمُ، فهو يكفِّر.
قال ع «3» : ويخاف المتورِّعون أنْ تبقى النِّقْمة مع التكفير، وهذا هو قول الفقهاء مالكٍ ونظرائه، وأصحابِهِ (رحمهم اللَّه) ، وقال ابن عباس وغيره: أما المتعمِّد، فإنه يكفِّر أول مرَّةٍ، وعفا اللَّه عن ذَنْبه، فإن اجترأ، وعاد ثانياً، فلا يُحْكَم عليه، ويقال له: ينتقم اللَّه منْكَ «4» كما قال اللَّه تعالى.
وقوله سبحانه: وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ: تنبيهٌ على صفتين تقتضيان خَوْفَ من له بصيرةٌ، ومن خاف، ازدجر، ومن هذا المعنى قولُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «من خاف أدلج «5» ، ومن
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 240) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 59) (12640) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 584) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وأبي الشيخ عن عطاء.
(3) ذكره ابن عطية (2/ 240) .
(4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 61) (12655) ، والبغوي في «تفسيره» (2/ 65) ، وابن عطية (2/ 240) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 584) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، من طريق عكرمة عن ابن عباس.
(5) يقال: أدلج- بالتخفيف-: إذا سار من أول الليل.
ينظر: «النهاية» (2/ 129) .(2/423)
أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ» «1» ، قلت: والصيد لِلَّهْوِ مكروه، وروى أبو داود في سُنَنه، عن ابنِ عبّاس، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ سَكَنَ البَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ اتبع الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أتَى السُّلْطَانَ، افتتن» «2» . انتهى.
وقوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ ... الآية: البَحْر: الماء الكثيرُ، مِلْحاً كان أو عَذْباً، وكلُّ نهر كبير: بحرٌ، وطعامه: هو كل ما قَذَفَ به، وما طَفَا عليه قاله جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وهو مذهب مالك.
ومَتاعاً: نصبٌ على المَصْدر، والمعنى: مَتَّعَكُمْ به متاعاً تنتفعون به، وتأتدمون، ولَكُمْ: يريد حاضري البحر ومدنه، ولِلسَّيَّارَةِ: المسافرينَ، واختلف في مقتضى قوله سبحانه: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً، فتلقاه بعضهم على العُمُوم من جميع جهاته فقالوا: إنَّ المُحْرِمَ لا يحلُّ له أنْ يصيد، ولا أنْ يأمر من يَصِيد، ولا أن يأكل صيداً صِيدَ من أجله، ولا مِنْ غير أجله، وأنَّ لَحْم الصيد بأيِّ وجه كان حرامٌ على المُحْرِمِ، وكان عمر بنُ الخطَّاب (رضي اللَّه عنه) لاَ يرى بأساً للمُحْرِمِ أنْ يأكل ما صَادَهُ حلالٌ لنفسه، أو لحلالِ مثله «3» ، وقال بمثل قولِ عمر- عثمانُ بنُ عفَّان والزُّبَيْر بنُ العَوَّام وهو الصحيح «4» لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أَكَلَ مِنَ الحِمَارِ الَّذِي صَادَهُ أبو قَتَادَةَ، وهو حلال، والنبيّ- عليه السلام- محرم «5» .
__________
(1) أخرجه الترمذي (4/ 546) كتاب «صفة القيامة» ، باب من خاف أدلج، حديث (2450) والحاكم (4/ 307- 308) من طريق هاشم بن القاسم، عن أبي عقيل الثقفي، عن يزيد بن سنان، عن بكير بن فيروز، عن أبي هريرة به.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر هاشم بن القاسم.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه أبو داود (2/ 124) كتاب «الصيد» ، باب في اتباع الصيد، حديث (2859) ، والترمذي (4/ 523) ، كتاب «الفتن» ، حديث (2256) والنسائي (7/ 195- 196) كتاب «الفرع والعتيرة» ، باب اتباع الصيد، وأحمد (1/ 357) وابن أبي شيبة (12/ 336) وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 72) والبيهقي (10/ 101) ، والطبراني في «الكبير» (11/ 56- 57) رقم (11030) كلهم من طريق سفيان الثوري عن أبي موسى اليماني، عن وهب بن منبه، عن ابن عباس مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من حديث ابن عباس لا نعرفه إلا من حديث الثوري.
(3) أخرجه الطبري بنحوه في «تفسيره» (5/ 64) (12671) وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 242) .
(4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 242) .
(5) أخرجه البخاري (6/ 98) ، كتاب «الجهاد» ، باب ما قيل في الرماح، حديث (2914) ، ومسلم (2/ 852) ، كتاب «الحج» ، باب تحريم الصيد للمحرم، حديث (57/ 1196) ، وأبو داود (2/ 428، -[.....](2/424)
ثم ذكَّر سبحانه بأمر الحَشْر والقيامةِ، مبالغةً في التحذير ولما بان في هذه الآيات تعظيمُ الحَرَمِ والحُرْمة بالإحرام من أجْل الكعبة، وأنَّها بيْتُ اللَّه تعالى، وعنصر هذه الفَضَائلَ ذَكَرَ سبحانه في قوله: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ تنبيهاً سَنَّهُ في الناس، وهداهم إلَيْهِ، وحَمَلَ عليه الجاهليَّة الجهلاَءَ من التزامهم أنَّ الكعبة قِوَامٌ، والهَدْي قِوَامٌ، والقلائد قِوَام، أي: أمر يقوم للناس بالتَّأمين، ووَضْعِ الحربِ أوزارها، وأعلَمَ تعالى أنَّ التزامَ النَّاس لذلك هو ممّا شرعه وارتضاه، وجَعَلَ، في هذه الآيةِ: بمعنى «صَيَّر» ، والكَعْبَة بيْتُ مكة، وسمي كعبةً لتربيعه، قال أهْل اللُّغَة: كلُّ بَيْتٍ مربَّع، فهو مكعَّب، وكَعْبة، وذهب بعض المتأوِّلين إلى أنَّ معنى قوله تعالى: قِياماً لِلنَّاسِ، أي: موضع وُجُوب قيامٍ بالمناسك والتعبُّدات، وضَبْطِ النفوسِ في الشهر الحرام، ومع الهَدْيِ والقلائدِ، قال مَكِّيٌّ:
معنى قِياماً لِلنَّاسِ، أي: جعلها بمنزلة الرئيس الَّذي يقُومُ به أمر أتباعه، فهي تحجزهم عَنْ ظُلْم بعضهم بعضاً، وكذلك الهَدْيُ والقلائد جُعِلَ ذلك أيضاً قياماً للناس فكان الرجُلُ إذا دَخَل الحَرَمِ أَمِنَ مِنْ عدوه، وإذا ساق الهَدْي كذلك، لم يعرض لَهُ، وكان الرجُلُ إذا أراد الحجَّ، تقلَّد بقلادة مِنْ شعر، وإذا رجع تقلَّد بقلادة من لِحَاءِ شَجَر الحَرَمِ، فلا يعرض له، ولا يؤذى حتى يَصِلَ إلى أَهله، قال ابنُ زيد: كان الناسُ كلُّهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضُهُم عن بعض، ولم يكُنْ في العرب ملوكٌ تدفع عن بعضهم ظُلْمَ بعضٍ، فجعل اللَّه لهم البَيْتَ الحرامَ قياماً يدفَعُ بعضَهُمْ عن بعض. انتهى من «الهداية» .
والشهرُ هنا: اسمُ جنسٍ، والمراد الأشهر الثلاثةُ بإجماع من العرب، وشَهْرُ مُضَرَ، وهو رَجَبٌ، وأما الهَدْيُ، فكان أماناً لمن يسوقه لأنه يعلم أنه في عبادةٍ لم يأت لحَرْبٍ، وأما القلائد، فكذلك كان الرجُلُ إذا خَرَج يريدُ الحَجِّ/، تقلَّد مِنْ لحاء السَّمُرِ أو غيره
__________
- 429) ، كتاب «المناسك» (الحج) ، باب لحم الصيد للمحرم، حديث (1852) ، والترمذي (3/ 204، 205) ، كتاب «الحج» ، باب ما جاء في أكل الصيد للمحرم، حديث (847) ، والنسائي (5/ 182) ، كتاب «الحج» ، باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد، وابن ماجة (2/ 1033) ، كتاب «المناسك» ، باب الرخصة في ذلك إذا لم يصد له، حديث (3093) ، ومالك (1/ 350) ، كتاب «الحج» ، باب ما يجوز للمحرم أكله من الصيد، حديث (76) ، وأحمد (5/ 302) . والدارمي (2/ 38) كتاب «المناسك» ، باب في أكل لحم الصيد للمحرم إذا لم يصد هو، والشافعي (1/ 321) كتاب «الحج» ، باب فيما يباح للمحرم وما يحرم (837) ، والحميدي (1/ 204) رقم (424) وعبد الرزاق (8337، 8338) ، وابن خزيمة (4/ 176) رقم (2635) وابن الجارود (435) والدارقطني (2/ 291) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (2/ 173- 174) والبيهقي (5/ 189) والبغوي في «شرح السنة» (4/ 157- بتحقيقنا) من طرق عن أبي قتادة به.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.(2/425)
مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
شيئاً، فكان ذلك أماناً له، وكذلك إذا انصرفوا، تقلَّدوا من شجر الحَرَمِ، وقوله ذلِكَ:
إشارةٌ إلى أنَّ جعل اللَّه هذه الأمور قياماً.
وقوله سبحانه: بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ: عامٌّ عموماً تامًّا في الجزئيَّات ودَقائِقِ الموجودات، والقولُ بغير هذا إلحاد في الدّين وكفر.
[سورة المائدة (5) : الآيات 99 الى 100]
ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
وقوله سبحانه: مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ ... الآية: إخبارٌ للمؤمنين مضمَّنه الوعيدِ، إنِ انحرفوا، ولم يمتثلُوا ما بلغ الرسُولُ إليهم، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ، قلت: قال الشيخُ أبو مَدْيَن (رضي اللَّه عنه) : الحَقُّ تعالى مطَّلع على السرائر والظواهرِ في كلِّ نَفَسٍ وحالٍ، فأيُّما قلْبٍ رآه مؤثراً له، حَفِظَهُ من الطوارق والمِحَنِ ومضلاَّت الفِتَن، وقال (رحمه الله) : ما عرف الحَقَّ مَنْ لم يُؤْثره، وما أطاعه مَنْ لم يَشْكُرْه.
انتهى.
وقوله تعالى: قُلْ لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ ... ألاية: لفظ عامٌّ في جميع الأمور، فيتصوَّر في المكاسِب، وعدد النَّاس، والمعارفِ مِنَ العلوم ونحوِهَا، فالخبيثُ مِنْ هذا كلِّه لا يُفْلِحُ ولا يُنْجِبُ، ولا تحسُنُ له عاقبةٌ، والطَّيِّبُ وإنْ قَلَّ: نافعٌ جميل العاقبة، ويَنْظُرُ إلى هذه الآيةِ قوله تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: 58] ، والخبث: هو الفساد الباطنُ في الأشياء حتى يظن بها الصَّلاح، وهي بخلافِ ذلك. وقوله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ: تنبيهٌ على لزوم الطَّيِّب في المعتقَدِ والعملِ، وخُصَّ أولو الألباب بالذِّكْر لأنهم المتقدِّمون في مَيْز هذه الأمور، والذين لا ينبغي لهم إهمالها مع ألبابهم وإدراكهم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ... الآية:
اختلف الرواةُ في سببها، والظاهرُ مِنَ الروايات أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَلَحّت علَيْه الأعراب والجُهَّال بأنواع من السؤالاتِ، حَسْبَما هو معلومٌ في الروايات، فزَجَرهم اللَّه تعالى عَنْ ذلك بهذه الآيةِ، وأشْيَاء: اسمٌ لجَمْعِ شيْءٍ، قال ابنُ عباس: معنى الآية: لا تسأَلُوا عن(2/426)
أشياء في ضِمْن الأنباء عنْها مساءَةٌ لكم «1» إما بتكليفٍ شرعيٍّ يلزمكم، وإما بخَبَر يسوءُكم، ولكن إذا نزل القرآن بشيء، وابتدأكم ربُّكم بأمر، فحينئذٍ إنْ سألتم عن تَفْصيله وبَيَانِهِ بيّن لكم، وأبدي، ويحتمل قوله: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ أنْ يكون في معنى الوعيدِ كأنه قال: لا تسألوا، وإن سألتم، لَقِيتُمْ غِبَّ ذلك وصعوبته، قال النوويُّ: وعن أبي ثعلبة الخشنيّ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلاَ تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُوداً فَلاَ تَعْتَدُوهَا، وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلاَ تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً بِكُمْ، لاَ عَنْ نِسْيَانٍ فَلاَ تَبْحَثُوا عَنْهَا» ، ورُوِّينَاه في «سنن الدارقطنيِّ» «2» .
انتهى، وفي «صحيح البخاريِّ» ، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قَالَ: «دَعُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، إنَّما هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ واختلافهم على أَنْبِيَائِهِمْ، فَإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ، فاجتنبوه، وَإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ، فأتوا منه ما استطعتم» «3» . انتهى.
__________
(1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 246) .
(2) أخرجه الدارقطني (4/ 184) كتاب «الرضاع» ، حديث (42) والحاكم (4/ 115) والبيهقي (10/ 13) كتاب «الضحايا» ، باب ما لم يذكر تحريمه، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 17) والخطيب في «الفقيه والمتفقه» (2/ 9) كلهم من طريق داود بن أبي هند، عن مكحول، عن أبي ثعلبة الخشني به.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (1/ 174) وقال: رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح.
وذكره أيضا الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (3/ 72) رقم (2909) ، وعزاه لمسدد، وقال:
رجاله ثقات، إلا أنه منقطع.
وللحديث شاهد من حديث أبي الدرداء.
أخرجه الدارقطني (4/ 298) باب الصيد والذبائح والأطعمة، حديث (104) من طريق نهشل الخراساني عن الضحاك بن مزاحم، عن طاوس، عن أبي الدرداء، وقال أبو الطيب آبادي في «التعليق المغني» (4/ 297) : نهشل الخراساني. قال إسحاق بن راهويه: كان كذابا، وقال أبو حاتم والنسائي: متروك. وقال يحيى، والدارقطني: ضعيف.
ويبدو أن للحديث طريقا آخر، فقد ذكره الهيثمي في «المجمع» (1/ 174) وقال: رواه الطبراني في «الأوسط» و «الصغير» ، وفيه أصرم بن حوشب، وهو متروك، ونسب إلى الوضع.
(3) أخرجه البخاري (130/ 264) كتاب «الاعتصام بالكتاب والسنة» ، باب الاقتداء بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديث (7288) ومسلم (4/ 1831) كتاب «الفضائل» ، باب توقيره صلّى الله عليه وسلّم، حديث (131/ 1337) ، وأحمد (2/ 258) والحميدي (2/ 477) رقم (1125) وأبو يعلى (11/ 195) رقم (6305) كلهم من طريق أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم» .
ومن طريق أبي الزناد أخرجه البغوي في «شرح السنة» (1/ 177- بتحقيقنا) وللحديث طرق أخرى عن أبي هريرة.
فأخرجه مسلم (2/ 975) كتاب «الحج» ، باب فرض الحج مرة في العمر حديث (412/ 1337) -(2/427)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
وعَفَا اللَّهُ عَنْها: معناه: تركَها، ولم يُعَرِّفْ بها، قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ...
الآية: قال الطبريُّ «1» : كقومِ صالحٍ في سؤالهم الناقة وكبني إسرائيل في سؤالهم المائدةَ، أي: وكطلب الأممِ قديماً التعمُّقَ في الدِّين من أنبيائها، ثم لم تف بما كلّفت.
[سورة المائدة (5) : الآيات 103 الى 104]
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)
وقوله سبحانه: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ ... الآية:
أي: لم يجعلْ سبحانه شيئاً مِنْ ذلك، ولا سَنَّهُ لعباده، المعنى: ولكن الكُفَّار فعلوا ذلك/ كعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ وغيره مِنْ رؤسائهم يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بقولهم: هذه قربةٌ إلى اللَّهِ، وَأَكْثَرُهُمْ، يعني: الأتْبَاعَ لاَ يَعْقِلُونَ، بل يتّبعون هذه الأمور تقليدا، وجَعَلَ في هذه الآية: لا يتَّجه أنْ تكون بمعنى «خَلَقَ» ، ولا بمعنى «صَيَّرَ» ، وإنما هي بمعنى: «مَا سَنَّ ولا شَرَعَ» .
قال ص: مَّا جَعَلَ: ذَهَبَ ابن عطيةَ والزمخشريُّ «2» إلى أنها بمعنى: «شرع» ،
__________
- والنسائي (5/ 110) كتاب «الحج» ، باب وجوب الحج، وأحمد (2/ 447- 448، 457، 467، 508) وابن خزيمة رقم (2508) من طريق محمد بن زياد، عن أبي هريرة. وأخرجه عبد الرزاق (11/ 220) رقم (20374) ومسلم (4/ 1831) كتاب «الفضائل» ، باب توقيره صلّى الله عليه وسلّم (131/ 1337) وأحمد (2/ 313) والبغوي في «شرح السنة» (1/ 176- بتحقيقنا) من طريق همام بن منبه، عن أبي هريرة.
وأخرجه أحمد (2/ 247، 428، 517) ، والحميدي (2/ 477) رقم (1125) وابن حبان (2097- الإحسان) من طريق محمد بن عجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة.
وأخرجه مسلم (4/ 1831) كتاب «الفضائل» ، باب توقيره صلّى الله عليه وسلّم حديث (131/ 1337) ، والترمذي (5/ 45- 46) كتاب «العلم» ، باب في الانتهاء عما نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حديث (2679) من طريق همام بن المنبه، عن أبي هريرة به.
(1) ينظر: الطبري (5/ 86، 87) .
(2) محمود بن عمر بن محمد بن أحمد الخوارزمي، الزمخشري، جار الله أبو القاسم ولد سنة (467 هـ) في زمخشر (من قرى خوارزم) ، من أئمة العلم بالدين والتفسير واللغة والآداب، سافر إلى مكة، فجاور بها زمنا، فلقب بجار الله. أشهر كتبه: «الكشاف» و «أساس البلاغة» و «المفصل» ومن كتبه:
«المقامات» و «مقدمة الأدب» و «نوابغ الكلم» و «ربيع الأبرار» . توفي بالجرجانية بخوارزم سنة (538 هـ) .
ينظر: «وفيات الأعيان» (2/ 81) ، «لسان الميزان» (6/ 4) ، «الجواهر المضيئة» (2/ 160) ، «آداب اللغة» (3/ 46) ، «الأعلام» (7/ 178) .(2/428)
قال ابن «1» عطيَّة: ولا تكونُ بمعنى «خلق» ، لأن اللَّه تعالى خَلَقَ هذه الأشياء كلَّها، ولا بمعنى «صيَّر» لعدم المفعولِ الثاني، قال أبو حيَّان «2» : ولم يذكر النحويُّون لها هذا، وقد جاء حَذْفُ أحد مفعولَيْ «ظَنَّ» وأخواتِها قليلاً، فتحمل هذه على حَذْفِ المفعولِ الثانيِ، أي: ما صَيَّر اللَّه بحيرةً ولا سائبةً ولا وصيلةً ولا حامياً- مشروعاً، وهو أولى من إثبات معنًى لم يُسْمَعْ فيها، وذكر أبو البقاء أنها هنا بمعنى «سَمَّى» انتهى.
قُلْتُ: وحاصل كلامِ أبي حيَّان أنه شهادةٌ على نفْيٍ، وعلى تقدير صحَّته، فيحمل كلام ابن عطيَّة على أنه تفسيرُ معنًى، لا تفسير إعرابٍ.
وبحيرة: فعليةٌ بمعنى مَفْعُولة، وبَحَرَ: شَقَّ، كانوا إذا نُتِجَتِ النَّاقَةُ عَشَرَةَ بُطُونٍ، شَقُّوا أذنها بِنِصْفَيْن طُولاً، فهي مَبْحُورة، وتُرِكَتْ ترعى، وتَرِدُ الماء، ولا ينتفعُ بشيء منْها، ويحرَّمُ لحْمُها إذا ماتَتْ على النساء، ويُحلَّلُ للرِّجَال وذلك كلُّه ضلالٌ، والسائبة: هي الناقة تسيَّب للآلهة، والناقةُ أيضاً إذا تابَعَتْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ إناثاً ليس فيهِنَّ ذكَرٌ، سُيِّبَتْ، وكانت السوائبُ أيضاً في العرب كالقُرْبة عند المرَضِ يُبْرَأُ منه، والقُدُوم من السفرِ، وإذا نزل بأحدهم أمْرٌ يُشْكَرُ اللَّه تعالى عليه، تقرَّب بأنْ يسيِّب ناقةً، فلا ينتفعُ منها بِلَبَنٍ، ولا ظَهْر، ولا غَيْره، يَروْنَ ذلك كعِتْقَ بني آدمَ ذكَره «3» السُّدِّيُّ وغيره، وكانَتِ العربُ تعتقدُ أنَّ مَنْ عَرَضَ لهذه النوقِ، فأخذها أو انتفع منْهَا بشيْءٍ، فإنه تلحقه عُقُوبةٌ مِنَ اللَّه، والوصيلةُ: قال أكثر النَّاس: إن الوصيلَةَ في الغَنَمِ، قالوا إذا وَلَدتِ الشاة ثلاثةَ بُطونٍ، أو خمسةً، فإن كان آخرها جَدْياً، ذبحوه لِبَيْت الآلهة، وإن كان عَنَاقاً، استحيوها، وإن كان جَدْيٌ وعَنَاقٌ، استحيوهما، وقالوا: هذه العَنَاقُ وَصَلَتْ أخاهَا، فمنعتْهُ مِنْ أنْ يُذْبَحَ، وعلى أن الوَصِيلة في الغَنَم، جاءت الرِّوايات عن أكثر الناس، وروي عَنِ ابن المسيَّب أن الوصيلة مِنَ الإبل، وأما الحامِي فإنه الفَحْل من الإبل، إذا ضَرَبَ في الإبل عشر سنين «4» ، وقيل: إذا وُلِدَ من صُلْبه عَشْرٌ، وقيل: إذا وُلِدَ مِن وَلَدِ ولده، قالوا: حمى ظهره، فسيَّبوه، لا يركب، ولا يسخَّر في شيء، وعبارةُ الفَخْر «5» : وقيل: الحامِي: الفَحْلُ إذا رَكِبَ وَلَدُ وَلَدِهِ. انتهى، قلتُ: والذي في «البخاريِّ» : والحامِ: فحلُ الإبلِ يضرب الضّراب المعدود، وإذا قضى
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 247) .
(2) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 38) .
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 91) (12843) .
(4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 91) (12844) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 248) .
(5) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 91) .(2/429)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
ضِرَابه، وَدَعُوهُ للطَّواغيتِ، وأعْفَوْه من الحمل، فلم يُحْمَلْ شيءٌ عليه، وسمَّوْه الحامِيَ.
انتهى.
وقوله سبحانه: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ، يعني: لهؤلاءِ الكفار المستنِّينَ بهذه الأشياء:
تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، يعني: القرآن الذي فيه التحريمُ الصحيحُ، قالُوا حَسْبُنا، معناه: كفانا.
[سورة المائدة (5) : آية 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ...
الآية: قال أبو ثعلبة الخُشَنِيُّ: سَأَلتُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ هذه الآيةِ، فَقَالَ: «ائتمروا بِالمَعْرُوفِ وانهوا عَنِ المُنْكَرِ، فَإذَا رَأَيْتَ دُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَشُحًّا مُطَاعاً، وإعْجَابَ كُلِّ ذِيَ رَأْيٍ بِرَأْيِهِ، فَعَلَيْكَ بِخُوَيْصَّةِ نَفْسِكَ، / وذَرْ عَوَامَّهُمْ فَإنَّ وَرَاءَكِمُ أَيَّاماً أَجْرُ العَامِلِ فِيهَا كَأَجْرِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ» «1» ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ الَّذِي لاَ نَظَرَ لأحَدٍ مَعهُ لأنَّهُ مُسْتَوْفٍ لِلصَّلاَحِ صادرٌ عن النبيِّ- عليه السلام-، وجملةُ ما عليه أهْلُ العِلْمِ في هذا أنَّ الأمر بالمعروفِ متعيِّن، متى رُجِيَ القبولُ، أو رُجِيَ ردُّ الظالم، ولو بعنف ما لم يَخَفِ الآمرُ ضرراً يلحقه في خاصَّته، أو فتنةً يُدْخِلُها على المُسْلمين إما بشَقِّ عَصَا، وإما بضَرَرٍ يلحق طائفةً من الناس، فإذا خيف هذا، ف عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ: محكَمٌ واجبٌ أنْ يوقَفَ عنده.
وقوله سبحانه: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، هذا تذكيرٌ بالحَشْر وما بعده، وذلك مُسَلٍّ عن أمور الدنيا، مكروهِهَا ومحبوبِها، رُوِيَ عن بعض الصالحين أنه قال: ما مِنْ يَوْمٍ إلاَّ ويجيءُ الشيطانُ، فيقول: ما تأكلُ، وما تلبسُ، وأين تَسْكُنُ، فأقول له: آكُلُ المَوْتَ، وألبس الكفن، وأسكن القبر.
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/ 526) في الملاحم، باب الأمر والنهي (4341) والترمذي (5/ 240) في التفسير:
باب «من سورة المائدة» (3058) وابن ماجة (2/ 1330- 1331) في الفتن، باب قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ (4014) ، وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 30) والطبري (5/ 97) برقم (12866- 12867) ، والحاكم (4/ 322) وابن حبان (1850- موارد) . والبيهقي في السنن (10/ 91- 92) ، والبغوي في «شرح السنة» (7/ 358) (4051) عن عتبة بن أبي حكيم، حدثني عمرو بن جارية اللخمي، حدثنا أبو أمية الشعباني به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.(2/430)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
قال ع «1» : فَمَنْ فكَّر في مرجعه إلى اللَّه سبحانه، فهذا حاله، قلْتُ: وخرَّج البغويُّ في «المسند المنتخب» ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمْ تَعْمَلُونَ أَعْمَالاً تَعْزُبُ عَنْكُمْ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وَتُوشِكُ العوازب أن تئوب إلى أَهْلِهَا، فَمَسْرُورٌ بِهَا، وَمَكْظُومٌ» «2» . انتهى من «الكوكب الدري» ، والله المستعان.
[سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)
وقوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ... الآيةَ، إلى قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ [المائدة: 109] : قال مكِّيٌّ: هذه الآياتُ عند أهْل المعانِي مِنْ أشكل ما في القرآن إعراباً، ومعنًى، وحُكْماً.
قال ع «3» : وهذا كلام من لم يقع له الثَّلَجُ في تفسيرها وذلك بيِّن من كتابه، وباللَّه نستعين.
لا نَعْلَمُ خلافاً أن سبب هذه الآيةِ أنّ تميما الدّاريّ «4» ...
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 250) . [.....]
(2) أخرجه الطبراني في «الكبير» (2/ 94) رقم (1416) من طريق يحيى بن عبد الحميد الحماني، ثنا جعفر بن سليمان، عن أبي عبد الله الشامي، عن عائذ الله أبي إدريس، عن ثوبان مرفوعا.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 234) وقال: رواه الطبراني في «الكبير» ، وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني، وهو ضعيف.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 250) .
(4) هو: تميم بن أوس بن حارثة (خارجة) ابن سود (سواد) ابن جذيمة بن دراع بن عدي بن الدار ... أبو رقية. الداري. قال ابن حجر في الإصابة: مشهور في الصحابة، وكان نصرانيا، وقدم المدينة فأسلم، وذكر للنبي صلّى الله عليه وسلّم قصة الجساسة والدجال، فحدث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عنه بذلك على المنبر، وعد ذلك من مناقبه.
قال ابن السكن: أسلم سنة تسع هو وأخوه نعيم ولهما صحبة.
وقال ابن إسحاق: قدم المدينة، وغزا مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقال أبو نعيم: كان راهب أهل عصره وعابد أهل فلسطين، وهو أول من أسرج السراج في المسجد. -(2/431)
وعَدِيَّ بْن بَدَّاء «1» ، وكانا نصرانيَّيْنِ، سافرا إلى المدينةِ، يريدانِ الشامَ لتجارتهما، وقَدِمَ المدينة أيضاً ابْنُ أَبِي مَارِية مولى عَمْرِو بنِ العاصِي، يريد الشامَ تاجِراً، قال الفخْر «2» : وكان مُسْلماً، فخرَجُوا رفاقة، فمرض ابنُ أبي مارية في الطريقِ، وأوصى إلى تميمٍ وعديٍّ أنْ يؤدِّيَا رَحْلَهُ إلى أوليائه من بني سَهْم «3» ، وروى ابْنُ عباس عن تميمٍ الداريِّ أنه قال: بَرِىءَ النَّاسُ من هذه الآيةِ غيري وغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاء، وذكر القصَّة «4» ، إلا أنه قال: وكان معه جَامُ فِضَّةٍ، يريد به المُلْكَ، فأخذتُهُ أَنَا وعديٌّ، فبْعنَاه بألفٍ، وقَسَّمنا ثمنه، فلما أسلَمْتُ بعد قُدُومِ رسُولِ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم المدينةَ، تَأَثَّمْتُ من ذلك، فأتيْتُ أهْلَهُ، فأخبرتهم الخبر، وأدَّيْتُ خمسمائة، فوثَبُوا إلى عَدِيٍّ فأتوا به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحلَفَ عمْرُو بن العاصِي، ورجُلٌ آخر معه، ونُزِعَتْ من عَدِيٍّ خَمْسُمِائَةٍ «5» .
قال ع «6» : واختلفتِ ألفاظ هذه القصَّة، وما ذكرتُهُ هو عمود الأمْر، ولم تصحَّ لعديٍّ صُحْبة فيما عَلِمْتُ، ولا ثبت إسلامه، وقد صنَّفه في الصحابة بعض المتأخّرين، ولا وجه
__________
- رواه الطبراني من حديث أبي هريرة، وأول من قص وذلك في عهد عمر. رواه ابن إسحاق بن راهويه، وانتقل إلى الشام بعد مقتل عثمان.
تنظر ترجمته في: «أسد الغابة» (1/ 256) ، «الإصابة» (1/ 191) ، «الثقات» (3/ 39) ، «الجرح والتعديل» (2/ 440) ، «تقريب التهذيب» (1/ 113) ، «سير أعلام النبلاء» (2/ 442) ، «جمهرة أنساب العرب» (454) ، (422) ، «المتفردات والوحدان» (62) ، «مشاهير علماء الأمصار» (52) .
(1) عدي بن بدّاء: بتشديد الدال قبلها موحدة مفتوحة.
قال ابن حبان: له صحبة، وأخرجه ابن منده، فأنكر عليه ذلك أبو نعيم، وقال: لا يعرف له إسلام.
قال ابن عطيّة: لا يصح لعدي عندي صحبة، وقد وضعه بعضهم في الصحابة، ولا وجه لذكره عندي فيهم، وقوّى ذلك ابن الأثير بأن السياق عند ابن إسحاق: فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يستحلفوا عديّا بما يعظم على أهل دينه.
والذي عندي أن بداء، بفتح الموحدة وتشديد الدال مقصور، وقيل: ممدود. ورأيته بخط الخطيب في سياق القصة عن تفسير مقاتل عديّ بن بندا، بنون بين الموحدة والدال.
ينظر ترجمته في: «الإصابة» (4/ 387) ، «الثقات» (3/ 318) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 376) ، «أسد الغابة» ت (3605) .
(2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 95) .
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 115) (12970) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 74) ، وابن عطية في «تفسيره» (2/ 250) .
(4) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 250) .
(5) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 251) .
(6) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 251) .(2/432)
عندي لذكْره في الصَّحابة.
وأما معنى الآية مِنْ أولها إلى آخرها، فهو أن اللَّه سبحانه أخبر المؤمنين أنَّ حكمه في الشهادةِ عَلَى المُوصِي، إذا حضره الموتُ: أنْ تكونَ شهادة عَدْلَيْنِ، فإن كان في سَفَرٍ، وهو الضَّرْب في الأرض، ولم يكن معه من المؤمنين أحدٌ، فليُشْهِدْ شاهدَيْنِ ممن حَضَرَهُ مِنْ أهْل الكُفْر، فإذا قدما، وأَدَّيا الشهادةَ على وصيَّته، حَلَفَا بعد الصَّلاة أنهما ما كَذَبَا، ولا بَدَّلاَ، وأنَّ ما شهدْنَا به حقٌّ ما كتمنا فيه/ شهادةَ اللَّه، وحُكِمَ بشهادتهما، فإن عُثِرَ بعد ذلك على أنهما كَذَبَا، أو خَانَا، أو نَحْوِ هذا ممَّا هو إثْم، حَلَفَ رُجلانِ مِنْ أولياء المُوصِي في السفر، وغُرِّمَ الشاهدانِ ما ظَهَرَ علَيْهما، هذا معنى الآيةِ على مذهب أبي موسَى الأشعريِّ، وابن عبَّاس، وسعيدِ بْنِ المسيَّب، ويحيى بن يَعْمَرَ، وابنِ جُبَيْر، وأبي مِجْلَزٍ، وإبراهيم، وشُرَيْحٍ، وعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ، وابن سِيرِينَ، ومجاهدٍ وغَيْرِهم «1» ، قالوا: ومعنى قوله:
مِنْكُمْ، أي: مِنَ المؤمنين، ومعنى: مِنْ غَيْرِكُمْ، أي: من الكافرين.
قال بعضهم: وذلك أن الآية نزلَتْ، ولا مؤمن إلا بالمدينة، وكانوا يسافرون في التِّجارة مع أنواع الكَفَرة، واختلفتْ هذه الجماعةُ المذْكُورة، فمذهبُ أبي مُوسَى الأشعريِّ وغيره أن الآية مُحْكَمَةٌ، ومذهب جماعة منهم أنها منسوخةٌ بقوله:
وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] وبما عليه إجماعُ جمهور النَّاس أن شهادة الكُفَّار لا تجوزُ.
قال ع «2» : ولنرجع الآنَ إلى الإعراب، ولنقصِدِ القَوْل المفيد لأن الناس خلطوا في تفسيره هذه الآية تخليطاً شديداً، وذِكْرُ ذلك والرَّدُّ عليه يطولُ، وفي تَبْيِينِ الحَقِّ الذي تتلَقَّاه الأذهانُ بالقَبُول مَقْنَعٌ، واللَّه المستعان.
فقوله تعالى: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ، هي الشهادةُ «3» التي تُحْفَظُ لتؤدى، ورفعها بالابتداء،
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 251) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 252) .
(3) الشهادات: جمع شهادة: وتجمع باعتبار أنواعها. وإن كانت في الأصل مصدرا. تعريف الشهادة:
للشهادة في اللغة معان: منها: الإخبار بالشيء خبرا قاطعا. تقول: شهد فلان على كذا، أي أخبر به خبرا قاطعا. ومنها: الحضور. تقول: شهد المجلس أي حضره قال تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة: 185] وقال عليه الصلاة والسلام: «الغنيمة لمن شهد الرفعة» أي حضرها. ومنها:
الاطلاع على الشيء، ومعاينته، تقول: شهدت كذا. أي اطلعت عليه وعاينته. ومنها: إدراك الشيء.
تقول: شهدت الجمعة. أي أدركتها، ومنها: الحلف: تقول أشهد بالله لقد كان كذا. أي: أحلف. -(2/433)
والخَبَرُ في قوله: اثْنانِ، وقوله تعالى: إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ: إذا قارب الحضُورَ، والعاملُ في «إذا» المصدرُ الذي هو «شهادة» ، وهذا على أنْ تجعل «إذا» بمنزلة «حِينَ» ، لا تحتاج إلى جوابٍ، ولك أن تجعل «إذا» في هذه الآية المحتاجةَ إلى الجوابِ، لكن استغني عن جوابها بما تقدَّم في قوله: شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذ المعنى: إذا حَضَر أحدَكُمُ المَوْتُ، فينبغي أن يُشْهِدَ، وقوله: حِينَ الْوَصِيَّةِ: ظرْفُ زمانٍ، والعاملُ فيه حَضَرَ، وإنْ شِئْتَ، جعلته بَدَلاً مِنْ «إذا» ، وقوله: ذَوا عَدْلٍ: صفة لقوله: اثْنانِ، ومِنْكُمْ: صفةٌ أيضاً بعد صفةٍ، وقوله: مِنْ غَيْرِكُمْ: صفة ل آخَرانِ وقوله:
تَحْبِسُونَهُما: صفة ل آخَرانِ أيضاً، واعترض بَيْن الموصوفِ والصفةِ بقوله: إِنْ أَنْتُمْ، إلى الْمَوْتُ، وأفاد الاِعتراضُ أنَّ العدول إلى آخرَيْنِ من غَيْر الملَّة، إنما يكونُ مع ضَرُورة السَّفَر، وحلولِ الموتِ فيه، واستغني عن جواب «إنْ» لِمَا تقدَّم من قوله: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وقال جمهورٌ مِن العلماء: الصلاةُ هنا صلاةُ العَصْر، وقال ابنُ عباس:
إنما هي صلاة الذِّمِّيِّين «1» ، وأما العصر، فلا حُرْمَة لها عنْدَهما، والفاءُ في قوله:
فَيُقْسِمانِ: عاطفةٌ جملةً على جملةٍ لأن المعنى تَمَّ في قوله: مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ، وقوله: إِنِ ارْتَبْتُمْ شرطٌ لا يتَّجه تحليفُ الشاهدَيْن إلا به، والضميرُ في قول الحالِفَيْن:
لاَ نَشْتَرِي بِهِ: عائدٌ على القَسَمِ، أو على اسم اللَّهِ، وقوله: لاَ نَشْتَرِي جوابٌ يقتضيه قوله: فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لأن «أقسم» ونحوه يتلقى بما تتلقى به الإيْمَانُ، وقوله:
ثَمَناً، أي: ذا ثَمَنٍ، وخُصَّ ذو القربى بالذِّكْر لأن العرب أمْيَلُ النَّاس إلى قراباتهم، واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يُسْتَسْهَل، وقوله: وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ، أضاف الشهادةَ إلَيْه تعالى مِنْ حيث هو الآمِرُ بإقامتها، الناهِي عن كتمانها، وروي عن الشِّعْبِيِّ وغيره: «شَهَادَةً» - بالتنوين-، «اللَّه» - بقطع الألف دون مَدٍّ وخفضِ الهاءِ-، وقال أيضاً:
__________
- ومنها: العلم، قال تعالى: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة: 6] أي عليم. والفعل من باب علم.
وقد تسكن هاؤه فتقول: شهد فلان شهادة، وجمع الشاهد، شهد وشهود وأشهاد، والمشاهدة المعاينة.
عرفها الشافعية بأنها: إخبار صادق بلفظ الشهادة لإثبات حق لغيره على غيره، في مجلس القضاء، ولو بلا دعوى.
عرفها المالكية بأنها: إخبار حاكم عن علم ليقضي بمقتضاه.
عرفها الحنفية بأنها: إخبار بحق للغير على آخر.
ينظر: «مغني المحتاج» (4/ 426) ، «أدب القضاء» لابن أبي الدم (1/ 175) ، «نهاية المحتاج» (8/ 277) ، «حاشية الدسوقي» (4/ 164) ، «الدرر» (2/ 270) ، «الفتاوى الهندية» (3/ 450) . [.....]
(1) أخرجه الطبري بنحوه (5/ 111) برقم (12958) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 253) .(2/434)
يقف على الهاء مِن: «شهادة» بالسكون، ثم يقطع الألفَ المكتوبَةِ منْ غير مَدٍّ كما تقدَّم، ورُوِيَ عنه كان يقرأ: / «آللَّهِ» - بمد ألفِ الإستفهامِ في الوجْهَيْن-، أعني: بسكون الهاء من «شهادة» ، وتحريكها منوَّنةً منصوبةً، ورُوِيَتْ هذه التي هي تَنْوينُ «شهادة» ، ومدُّ ألف الاستفهام بَعْدُ عن عَلِيِّ بن أبي طالب، قال أبو الفَتْح: إنما تُسَكَّن هاء «شهادة» في الوقْف عليها.
وقوله سبحانه: فَإِنْ عُثِرَ: استعارة لما يوقع على علمه بعد خفائه، واسْتَحَقَّا إِثْماً: معناه: استوجباه مِنَ اللَّه، وكانا أهْلاً له لأنهما ظَلَمَا وخَانَا.
وقوله تعالى: فَآخَرانِ، أي: إذا عُثِرَ على خيانتهما، فَالأَوْلَيَانِ باليمينِ وإقامةِ القضية: آخرَانِ من القَوْم الذين هُمْ ولاة المَيِّت، واستَحَقَّ عليهم حظُّهم، أو نصيبهم، أو مالهم، أو مَا شِئْتَ من هذه التقديراتِ، وقرأ نافعٌ «1» وغيره: «استحق» - مضمومةَ التاءِ-، «والأَوْلَيَانِ» على تثنية الأولى، ورُوِيَ عنِ ابنِ كَثِيرٍ: «استحق» - بفتح التاء- وكذلك روى حَفْصٌ عن عاصم.
وفي قوله: اسْتَحَقَّ: استعارة لأنه وَجْه لهذا الاستحقاق إلاَّ الغلبة على الحالِ بحُكْمِ انفرادِ هذا المَيِّت وعَدَمه لقرابَتِه أو لأهل دِينه، فاستحق هنا كما تقول لظالمٍ يظلمُكَ:
«هذا قَدِ استحق علَيَّ مالِي أوْ مَنْزِلِي بظلمه» ، فتشبهه بالمستَحِقِّ حقيقةً إذْ تصوَّر تصوُّره، وتملَّك تملُّكه وهكذا هي «استحقَّ» في الآية على كلِّ حال، وإنْ أسندتَّ إلى النصيب ونحوه.
وقرأ حمزة «2» وعاصمٌ في رواية أبي بَكْر: «استحق» - بضم التاء-، «الأَوَّلِينَ» : على جَمْعِ أوَّل ومعناها: من القومِ الذين استحق عليهم أمْرُهُمْ إذْ غُلِبُوا علَيْه، ثم وصَفَهم بأنَّهم أوَّلُون، أي: في الذِّكْر في هذه الآية، وذلك في قوله: اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ، ثم بعد ذلك قال: أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ، وقوله: فَيُقْسِمانِ، يعني: الآخَرَيْنِ اللذَيْنِ يقُومانِ مَقَامَ شاهِدَيِ الزُّورِ، وقولُهما: لَشَهادَتُنا أي: لَمَا أَخْبَرْنَا نَحْنُ به، وذَكَرْنَاهُ مِنْ نَصِّ القصَّة- أحقُّ مما ذَكَراه أوَّلاً وحرَّفاه، وَمَا اعْتَدَيْنا في قولنا هذا، وقولهما:
__________
(1) ينظر: «السبعة» (248، 249) ، و «الحجة» (3/ 260- 261) ، و «حجة القراآت» (238) ، و «العنوان» (88) ، و «إعراب القراآت» (1/ 149- 150) ، و «شرح شعلة» (355) ، و «شرح الطيبة» (4/ 237) ، و «إتحاف» (1/ 543) ، و «معاني القراآت» (1/ 341) .
(2) ينظر السابق.(2/435)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ: تَبَرٍّ في صيغة الاِستعظامِ والاِستقباحِ للظُّلْمِ.
وقوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ ... الآية: الإشارة ب «ذلك» هي إلى جميع مَا حَدَّ قَبْلُ مِنْ حَبْسِ الشاهدَيْن من بعد الصلاة لليمينِ، ثم إنْ عثر على جَوْرهما، رُدَّتِ اليمينُ، وغَرِمَا، فذلك كلُّه أقربُ إلى اعتدال هذا الصِّنْف فيما عسى أنْ ينزل من النوازلِ لأنهم يخافُونَ الفضيحة، وردَّ اليمين هذا قولُ ابنِ عبَّاس «1» ، وجُمِعَ الضميرُ في يَأْتُوا ويَخافُوا إذ المرادُ صِنْفٌ ونوعٌ من الناسِ، والمعنى: ذلك الحُكْم كلُّه أقربُ إلى أنْ يأتوا، وأقربُ إلى أنْ يخافوا، وباقي الآية بيِّن.
[سورة المائدة (5) : الآيات 109 الى 111]
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111)
وقوله تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ذهب قومٌ إلى أن العاملَ في يَوْمَ: ما تقدَّم مِنْ قوله تعالى: لاَّ يَهْدِي، وذلك ضعيفٌ، ورصْفُ الآيةِ وبراعَتُها إنما هو أنْ يكونَ هذا الكلامُ مستأنَفاً، والعاملُ مقدَّر، إما «اذكر» ، أو: «تَذَكَّرُوا» ، أو «احذروا» ، ونحو هذا ممَّا حَسُنَ اختصاره لعِلْم السامعِ به، والإشارة بهذا اليوم إلى يومِ القيامةِ، وخُصَّ الرسلُ بالذكْر لأنهم قادةُ الخَلْق، وهم المكلَّمون أوَّلاً، وماذا أُجِبْتُمْ: معناه: ماذا أجابَتْكُمْ الأُمَمُ، وهذا السؤالُ للرُّسُل إنما هو لتقُومَ الحجة على الأممِ، واختلف الناسُ في معنى قولهم- عليهم السلام-: لاَ عِلْمَ لَنا: قال الطبريُّ «2» : ذُهِلُوا عن الجوابِ، لهولِ المَطْلَع وقاله الحسنُ «3» ، وعن مجاهدٍ أنه قال: يَفْزَعُون، فيقولُون: لا علْمَ لنا، وضعَّف «4» بعضُ النَّاس هذا المنْزَع بقوله تعالى: / لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ
__________
(1) أخرجه الطبري بنحوه (5/ 123) (12983) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 256) .
(2) ينظر الطبري (5/ 125) .
(3) أخرجه الطبري بنحوه (5/ 126) برقم (12991) .
(4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 126) برقم (12992) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 256) ، -(2/436)
[الأنبياء: 103] ، وقال ابنُ عبَّاس: معنى الآية: لاَ عِلْمَ لنا إلا ما علَّمتنا أنْتَ أعلم به منَّا، وقولُ «1» ابنِ عباس حَسَن، وهو أصوبُ هذه المناحِي لأنه يتخرَّج على التسليم للَّه تعالى، وردِّ الأمر إلَيْه إذ هو العالِمُ بجميعِ ذلك على التَّفْصيل والكمالِ، فرأَوُا التسليمَ والخضوعَ لعلْمه المحيطِ سبحانه، قال مكِّيٌّ: قال ابنُ عباس: المعنى: لا علم لنا إلاَّ عِلمٌ أنت أعلَمُ به «2» منَّا، وهو اختيار «3» الطبريِّ، وقيل: لما كان السؤالُ عامًّا يقتضي بعمومه سؤالَهُم عَنْ سِرِّ الأمم وعلانِيَتِها، رَدُّوا الأمر إلَيْهِ إذ ليس عندهم إلاَّ علْمُ الظاهر قال مكِّيٌّ: وهذا القولُ أحبُّ الأقوالِ إلَيَّ، قال: ومعنى مسألة اللَّه الرُسلَ عمَّا أَجِيبُوا، إنما هو لمعنَى التوبيخِ لمَنْ أرسلوا إليه كما قال تعالى: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ [التكوير: 8] ، انتهى من «الهداية» .
وقوله تعالى: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ ... الآية: قالَ هنا بمعنى يَقُولُ لأن ظاهر هذا القولِ أنه في القيامة تقدمة لقوله سبحانه: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: 116] .
وقوله سبحانه: وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى، أي: من قبورهم، وكفُّ بني إسرائيل عنه- عليه السلام- هو رَفْعُهُ حِينَ أحاطوا به في الَبيْتِ مع الحواريِّين، وكذلك مَنْعُه منْهم قَبْل ذلك إلى تلك النازلةِ الأخيرةِ، فهناك ظَهَر عِظَمُ الكَفِّ.
وقوله سبحانه: وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ، هو مِنْ جملة تعديدِ النّعم على عيسى- عليه السلام-: وأَوْحَيْتُ في هذا الموضع: إما أن يكون وحْيَ إلهامٍ أَو وحْيَ أمْرٍ، وبالجملةِ فهو إلقاءُ معنًى في خفاءٍ، أوْصَلَهُ سبحانه إلى نفوسهم، كيف شاء، والرسولُ في هذه الآية: عيسى، وقولُ الحواريِّين: وَاشْهَدْ: يحتملُ أن يكون مخاطبةً منهم للَّه سبحانه، ويحتملُ أنْ يكون لعيسى.
__________
- والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 606) وعزاه للفريابي، وعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد.
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 126) برقم (12994) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 257) والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 607) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق علي، عن ابن عباس.
(2) ينظر السابق.
(3) ينظر: الطبري (5/ 126) .(2/437)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
[سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 113]
إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113)
وقوله سبحانه: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ ... الآية: اعتراضٌ أثناء وَصْفِ حالِ قول اللَّه لعيسى يوم القيامة، مضمّن الاعتراض إخبار نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وأمته بنازلةِ الحواريِّين في المائدة، إذ هي مثالٌ نافعٌ لكلِّ أُمَّة مع نبيِّها تقتدِي بمحاسِنِهِ، وتزدجرُ عمَّا ينفُر منه مِنْ طلب الآياتِ ونحوه، وقرأ الجمهورُ: «هَلْ يَسْتَطِيعُ ربُّك» - بالياءِ ورَفْعِ الباءِ- من «رَبُّكَ» ، والمعنى: هلْ يفعلُ ربُّك هذا، وهلْ تَقَعُ منه إجابةٌ إليه، ولم يكُنْ منهم هذا شَكًّا في قدرة اللَّه سبحَانَهُ إذ هم أعرفُ باللَّه مِنْ أنْ يشكُّوا في قُدْرته، وقرأ الكسائيُّ «1» : «هلْ تسْتَطِيعُ رَبَّكَ» - بالتاء ونصبِ الباءِ مِنْ «رَبَّكَ» -، والمعنى: هل تَسْتطيعُ سؤَالَ ربِّك، وأدغم اللام في التاء، أعني الكسائيَّ، وقال قومٌ: قال الحواريُّون هذه المقالةَ فِي صَدْر الأمر قبل عِلْمهم بأنه يُبْرِىءُ الأكمه والأبْرَصَ، ويُحْيِي الموتى، ويظهر من قوله- عليه السلام-: اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ: إنكارٌ لقولهم، واقتراحهم الآياتِ، والتعرُّضِ لسَخطِ اللَّه بها، وقلَّةِ طُمَأْنينتهم إلى ما قد ظهر، ولمَّا خاطبهم- عليه السلام- بهذه المخاطَبَة، صرَّحوا بمقاصدهم الَّتي حملَتْهم على طَلَب المائدةِ، فقالوا: نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها فنَشْرُفَ في العالَم، وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا، أي: تسكُنَ فِكرُنَا في أمرك بالمعايَنَةِ لأَمْرٍ نازلٍ من السماء بأعيننا، وَنَعْلَمَ علْمَ الضرورةِ والمشاهدةِ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا فلا تَعْرِضُنا الشُّبَهُ التي تَعْرِضُ في عِلْم الاستدلالِ وهذا يؤيِّد أنَّ مقالتهم كانَتْ في مبدأ أَمْرهم، ثم استمروا على إيمانهم، وصَبَرُوا، وهَلَكَ مَنْ كَفَر، وقولهم: وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ، أي: من الشاهدينَ بهذه النازلةِ، النَّاقلين لها إلى غيرنا الدَّاعين إلى هذا الشَّرْع/ بسببها، ورُوِيَ أن الذي نَحَا بهم هذا المنحى مِنَ الاقتراح هو أنَّ عيسى قال لهم مرَّةً: «هَلْ لَكُمْ فِي صِيَامِ ثَلاَثِينَ يَوْماً لِلَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ إنْ سَأَلْتُمُوهُ حَاجَةً، قَضَاهَا» ، فَلَمَّا صَامُوهَا، قَالُوا: يا معلِّم الخَيْر، إنَّ حقَّ مَنْ عمل عملاً أنْ يُطْعَمَ، فَهَلْ يستطيعُ ربُّكَ، فأرادوا أن تكون المائدة عيد ذلك الصّوم.
__________
(1) والمعنى على هذه القراءة: هل تقدر يا عيسى أن تسل ربك، فإنهم كانوا مؤمنين، وكانت عائشة تقول:
كان القوم أعلم بالله من أن يقولوا: هل يستطيع ربك، إنما قالوا: هل تستطيع ربك.
ينظر: «السبعة» (249) ، و «الحجة» (3/ 273) ، و «حجة القراءات» (240- 241) ، و «العنوان» (88) ، و «إعراب القراءات» (1/ 150) ، و «شرح الطيبة» (4/ 239) ، و «شرح الشعلة» (356) ، و «إتحاف» (1/ 545) ، و «معاني القراءات» (1/ 343) .(2/438)
قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
[سورة المائدة (5) : الآيات 114 الى 115]
قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)
وقوله سبحانه: قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ...
الآية، أي: أجابهم عيسى- عليه السلام- إلى ما سألوا، فيروى أنه لَبِسَ جُبَّة شَعْرٍ، ورداءَ شَعْرٍ، وقام يصلِّي، ويبْكِي، والعيدُ: المجتمعُ، وقوله: لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا، رُوِيَ عن ابن «1» عَبَّاس أن المعنى: يكون مجتمعاً لجميعنا أوّلِنا وآخرنا، قال: فأكل من المائدة حِينَ وُضِعَتْ أولُ النَّاس كما أكل آخرهم، وَآيَةً مِنْكَ، أيْ: وعلامةً على صِدْقي، فأجاب اللَّه تعالى دعوةَ عيسى- عليه السلام-، وقال: إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ، ثم شَرَطَ عليهم سبحانه شرْطَهُ المتعارَفَ في الأمم أنه مَنْ كَفَر بعد آية الاقتراح، عُذِّب أشدَّ عذابٍ، والجمهور أنَّ المائدة نزلَتْ كما أخبر اللَّه سبحانه، واختلفوا في كيفيَّة ذلك، فقال أبو عبد الرحمن السُّلَمي: نزلَتِ المائدةُ خُبْزاً وسَمَكاً، وقال عطية: المائدةُ سمكَةٌ فيها طَعْمُ كُلِّ طعامٍ، وقال ابنُ عبَّاس: نزل خُوَانٌ عليه خْبُزٍ وسَمَكٌ يأكلون منه أينما نَزَلُوا، إذا شاءوا «2» ، وقال عمَّار بن ياسر: سألوا عيسى مائدةً يكون عليها طعامٌ لا ينفَذُ، فقيل لهم: إنها مقيمةٌ لكم ما لم تُخَبِّئُوا، أو تخونُوا، فإن فعلتم، عُذِّبتم، قال: فما مضى يومٌ حتى خَبَّئُوا، وخانوا، يعني: بني إسرائيل، فمُسِخُوا قردةً وخنازيرَ «3» ، وقال ميسرة: كانَتِ المائدة، إذا وُضِعت لبني إسرائيل، اختلفت عليهم الأيدِي بكلِّ طعامٍ إلا اللحم «4» ، وأكثَرَ الناسُ في قصص المائدةِ ممّا رأيت اختصاره لعدم سنده.
__________
(1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 261) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 133) برقم (13010) وابن عطية في «تفسيره» (2/ 261) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 613) ، وعزاه لابن جرير، وابن الأنباري في كتاب «الأضداد» من طريق عكرمة، عن ابن عباس. [.....]
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 134) برقم (13016) ، وذكره ابن عطية (2/ 261) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 612) ، وعزاه للترمذي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في كتاب «الأضداد» ، وأبي الشيخ، وابن مردويه عن عمار.
(4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 135) برقم (13022) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 261) .(2/439)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
[سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 118]
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
وقوله سبحانه: وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... الآية: اختلف المفسِّرون في وَقْت وقوعِ هذا القَوْل، فقال السدي وغيره: لما رفَع اللَّه عيسى إلى السماء، قالَتِ النصارى ما قالَتْ، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك، فسأله تعالى عَنْ قولهم، فقال: سُبْحانَكَ ... «1» الآية، ويجيء على هذا قولُهُ:
وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ، أي: في التوبة مِنَ الكُفْر لأن هذا قاله، وهم أحياء في الدنيا، وقال ابن عباس، وجمهورُ النَّاس: هذا القولُ مِنَ اللَّه إنما هو يَوْمَ القيامة يقوله اللَّه له على رءوس الخلائقِ، فَيَرَى الكفَّار تبرِّيَهُ منهم، ويعلَمُون أنّ ما كانوا فيه باطل، فقال «2» على هذا التأويلِ بمعنى: «يَقُولُ» ونُزِّل الماضِي موضِعَ المستقبلِ لدلالته على كون الأمر وثبوته، وقولُه آخِراً: وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ: معناه: إن عذَّبَتْ العالَمَ كلَّه، فبحقِّك، فهم عبادُكَ تصنعُ بحَقِّ المُلْكِ ما شِئْت لا اعتراض علَيْك، وإن غفَرْتَ وسبَقَ ذلك في عِلْمك فلأنك أهْلٌ لذلك لا معقِّب لحكمك، ولا مُنَازَعَ لك، فيقولُ عيسى هذا على جهة التسليمِ والتعزِّي عنهم، مع علمه بأنهم كَفَرةٌ قد حُتِمَ عليهم العذابُ، وهذا القولُ عنْدِي أَرجَحُ ويتقوَّى بما يأتي بعدُ، وهو قوله سبحانه: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة: 119] .
وقوله: سُبْحانَكَ، أي: تنزيهاً لك عَنْ أن يقال هذا، ويُنْطَقَ به مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ، أي: ما يكون/ لبَشَرٍ مُحْدَثٍ أنْ يَدَّعِيَ الألوهية، ثم قال: إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ لأنك أحطت بكلِّ شيء علماً، وأحصيتَ كلَّ شيء عدداً، فوفَّق اللَّه عيسى لهذه الحُجَّة البالغةِ، وقوله: تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي، خصَّ النفْسَ بالذكْرِ لأنها مَظِنَّةُ الكَتْم والانطواء على المعلومات.
والمعنى: أن اللَّه- سبحانه- يعلم ما في نَفْسِ عيسى، ويعلم كل أَمْرِهِ مما عسى ألا يكون في نفسه.
__________
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 137) برقم (13031) ، وذكره ابن عطية (2/ 262) ، والسيوطي (2/ 615) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي.
(2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 262) .(2/440)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
وقوله: وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ: معناه: ولا أعلم ما عندك من المعلومات، وما أحَطْتَ به، وذكْر «النفْس» هنا مقابلةٌ لَفْظِيَّةٌ، وفي اللسان العربي يقتضيها الإيجَازُ وهذا ينظر من طَرْفٍ خَفِيٍّ إلى قوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران: 54] واللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] فتسمية العُقُوبَةِ باسم الذَّنْبِ إنما قاد إليها طَلَبُ المُقَابَلَةِ اللفظية، إذ هي من فَصِيحِ الكلام، وبَارِعِ العبارة.
ثم أقر عيسى- عليه السلام- للَّه تعالى بأنه- سبحانه- عَلاَّمُ الغيوب، أي: ولا عِلْمَ لي أنا بغيب.
وقوله: فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي: أي: قبضتني بالرَّفْعِ، والتصيير في السّماء، والرَّقِيبَ:
الحافظ المراعي.
وقوله: فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ: أي: في قدرتك، الْحَكِيمُ في أفعالك.
والمعنى: إن يكن لك في النَّاسِ مُعَذَّبُونَ، فهم عبادك، وإن يكن مغفور لهم، فَعزَّتُكَ وحكمتك تَقْتَضِي هذا كله.
[سورة المائدة (5) : الآيات 119 الى 120]
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ فدخل تحت هذه العِبَارَةِ كل مؤمن باللَّه- سبحانه-، وكُلُّ ما كان أتقى، فهو أَدْخَلُ في العبارة، وجاءت هذه العبارة مُشِيرَةً إلى عيسى- عليه السلام- في حاله، وصدْقه فيحصل له بذلك في المَوْقِفِ شَرَفٌ عظيم، وإن كان اللفظ يعمه وسواه.
ثم ذكر- تعالى- ما أعدَّهُ لهم برحمته، وطوله، جعلنا اللَّه منهم بمَنِّهِ، وسَعَةِ جُودِهِ، لا رَبّ غيره، ولا مرجو في الدَّارَيْنِ سواه، وباقي الآية بَيِّنٌ. جعل اللَّه ما كتبناه من هذه الأحرف نوراً يسعى بين أيدينا بمَنِّهِ. والحمد للَّه كما هو أهْلُهُ، وصلى اللَّه على سيدنا محمد وعلى آله وسلّم.(2/441)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
تفسير سورة الأنعام
قال ابن عبّاس: نزلت سورة الأنعام، وحولها سبعون ألف ملك، لهم زجل يجأرون بالتسبيح «1» .
قلت: وعن جابر بن عبد الله، قال: لما نزلت سورة الأنعام، سبّح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «لقد شيّع هذه السّورة من الملائكة ما سدّ الأفق» . رواه الحاكم في «المستدْرك عَلَى الصَّحِيحَيْنِ» . وقال: صحيحٌ على شرط مسلم «2» . انتهى من «السلاح» .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 2]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2)
قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ.
قال علي بن عبد الرحمن اليفرني في شرحه ل «البرهانية» : قال الإمام الفَخْرُ «3» : لفظ الحمد مُعَرَّفاً لا يقال إلا في حقّ الله عز وجل لأنه يدلُّ على التعظيم، ولا يجوز أن يقال: الحمد لِزَيْدٍ. قاله سيبويه.
وذكر ابن العَرَبِيِّ في «القانون» عن أنس أن النبيِ صلّى الله عليه وسلّم قال: «ما مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّ إلى اللَّهِ مِنَ الحَمْدَ، وأَبْلَغُ الحَمْدِ الحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كلّ حال» «4» .
__________
(1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 265) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 3) ، وعزاه لأبي عبيد، وابن الضريس، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه عن ابن عباس.
(2) أخرجه الحاكم (2/ 314- 315) ، وعنه البيهقي في «شعب الإيمان» (2/ 470) رقم (2431) من طريق جعفر بن عون، ثنا إسماعيل بن عبد الرّحمن، ثنا محمد بن المنكدر، عن جابر مرفوعا وقال الحاكم:
صحيح على شرط مسلم، فإن إسماعيل هذا هو السدي وتعقبه الذهبي فقال: ولم يدرك جعفر السدي، وأظن هذا موضوعا.
والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 3) ، وزاد نسبته إلى الإسماعيلي في «معجمه» .
(3) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 118، 119) .
(4) أخرجه أبو يعلى (7/ 247- 248) برقم (4256) عن أنس بن مالك به. -(2/442)
قال ابن العربي: وفي بعض الآثار: «ما من نِعْمَةٍ عَظْمَتْ إلا والحمد للَّه أعْظَمُ منها» «1» . انتهى.
قال ع «2» : وجَعَلَ هاهنا بمعنى: «خلق» ، ولا يجوز غَيْرُ ذلك.
قال قتادة، والسُّدِّيُّ وجمهور من المفسرين: الظلمات الليل، والنور النهار.
وقالت فرقة: الظُّلمات الكُفْرُ، والنور الإيمان.
قال/ ع «3» : وهذا على جهة التَّشْبِيهِ صحيح، وعلى ما يفهمه عُبَّادُ الأوثان غير جيد لأنه إخراج لَفْظ بين في اللغة عن ظاهره الحقيقي إلى بَاطِنٍ لغير ضَرُورَةٍ، وهذا هو طريق اللُّغْزِ الذي بَرِىءَ القُرْآنُ منه، والنور أيضاً هنا لِلْجِنْسِ.
وقوله تعالى: ثُمَّ دالة على قُبْحِ فعل الذين كَفَرُوا لأن المعنى: أن خلقه السَّمَوَاتِ والأَرْض، وغيرها الموجبة لحمده، وتوحيده قد تقرر، وآياته قد سَطَعَتْ، وإنعامه بِذَلِكَ على العباد قد تَبَيَّنَ، فكان الواجب عليهم إخْلاَصَ التوحيد له، ثم هم بعد هذا كله بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ أي: يُسَوّون، ويمثلون، وعدل الشيء قرينه ومثيله.
والَّذِينَ كَفَرُوا في هذا المَوْضِعِ كل من عَبَدَ شَيْئاً سوى اللَّه إلا أن السَّابِقَ من حال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن الإشَارَةَ إلى عَبَدَةِ الأوثان من العرب لمجاورتهم له، ولفظ الآية أيضاً يشير إلى المَانَوِيَّةِ العابدين للنور، القائلين: إن الخَيْرَ من فِعْلِ النور، والشر من فِعْلِ الظلام.
وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ فالمعنى: خَلَقَ آدم من طِينٍ.
وقوله سبحانه: ثُمَّ قَضى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ اختلف في هذين الأَجَلَيْنِ، فقال الحسن بن أبي الحَسَنِ وغيره: أَجَلًا أَجَلُ الإنسان من لَدُنْ وِلاَدَتِهِ إلى موته،
__________
- وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 22) وقال: رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح.
وذكره الحافظ في «المطالب العالية» (3/ 35) رقم (2812) وعزاه إلى أبي بكر، وأحمد بن منيع، والحارث، وأبي يعلى.
(1) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 143) برقم (13043) عن السدي، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 266) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 6) ، وعزاه لابن جرير.
(2) ينظر: «المحرر» (2/ 265) .
(3) ينظر: «المحرر» (2/ 266) .(2/443)
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
والأجل المسمى عنده من وَقْت موته إلى حَشْره، ووصفه ب مُسَمًّى عِنْدَهُ لأنه استأثر- سبحانه- بعِلْمِ وَقْتِ القيامة. وقال ابن عباس: أَجَلًا الدنيا، وَأَجَلٌ مُسَمًّى الآخرة «1» .
وقيل غير هذا.
وتَمْتَرُونَ معناه: تشكون.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 3 الى 6]
وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)
وقوله سبحانه: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ قاعدة الكلام في هذه الآية: أن حُلُولَ اللَّه في الأمَاكِنِ مُسْتَحِيلٌ- تعالى- أن يَحْوِيَهُ مكان، كما تَقَدَّسَ أن يَحُدَّهُ زمان، بل كان قبل أن خَلَقَ المكان والزمان، وهو الآن على ما عليه كان.
وإذا تَقَرَّرَ هذا، فقالت فرقة من العلماء: تَأْوِيلُ ذلك على تقدير صِفَةٍ محذوفة من اللفظ ثَابِتَةٍ في المعنى، كأنه قال: وهو اللَّه المَعْبُودُ في السموات، وفي الأرض. وعبر بعضهم بأن قدر: وهو اللَّه المدبر للأمر في السموات والأرض.
وقال الزَّجَّاجُ: فِي متعلقة بما تَضَمَّنَهُ اسْمُ اللَّه من المعاني، كما يقال: أمير المؤمنين الخليفة في المَشْرِقِ والمغرب.
قال ع «2» : وهذا عِنْدِي أَفْضَلُ الأقوال، وأكثرها إحرازاً لِفَصَاحَةِ اللفظ، وجزالة المعنى.
وإيضاحه: أنه أراد أن يَدُلَّ على خلقه، وآثار قدرته، وإحاطته، واستيلائه، ونحو هذه الصفات، فجمع هذه كلها في قَوْلِهِ: وَهُوَ اللَّهُ أي: الذي له هذه كلها في السموات، وفي الأرض، كأنه قال: وهو اللَّه الخَالِقُ، الرازق، المحيي، المحيط في السموات وفي
__________
(1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 267) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 7) ، وعزاه للفريابي، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والحاكم، وصححه عن ابن عباس.
(2) ينظر: «المحرر» (2/ 271) . [.....](2/444)
الأرض، كما تقول: زيد السلطان في المَشْرِقِ والمغرب و «الشام» و «العراق» ، فلو قصدت ذَاتَ زَيْد لَقُلْتَ مُحَالاً، وإذا كان مَقْصِدُ قولك الآمِرَ، النَّاهِيَ، الناقض، المُبْرِمَ، الذي يعزل ويُوَلِّي في المشرق والمغرب، فأقمت السلطان مقام هذه، كان فصيحاً صحيحاً، فكذلك في الآية أقام لَفْظَةَ اللَّهُ مقام تلك الصِّفَاتِ المذكورة.
وقالت فرقة: وَهُوَ اللَّهُ ابتداء وخَبَرٌ، تم الكَلاَمُ عنده، ثم استأنف، وتعلق قوله:
فِي السَّماواتِ بمفعول يَعْلَمُ، كأنه قال: وهو اللَّه يَعْلَم سِرَّكُمْ وجهركم في السموات، وفي الأرض.
وقوله تعالى: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ خبر في ضمنه تحذير وزجر، وتَكْسِبُونَ لفظ/ عام لجميع الاعْتِقَادَاتِ، والأقوال، والأفعال.
وقوله سبحانه: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ تضمنت هذه الآية مَذَمَّةَ هؤلاء الذين يَعْدِلُونَ باللَّه سواه، بأنهم يُعْرِضُونَ عن كل آية، وكذبوا بالحق، وهو محمد- عليه السلام- وما جاء به.
قال ص: مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ «من» الأولى زَائِدَةٌ للاستغراق، وما بعدها فاعل بقوله: تَأْتِيهِمْ.
و «من» الثانية للتبعيض انتهى.
وقوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ هذا وَعِيدٌ لهم شديد، وهذه العُقُوبَاتُ التي تُوُعِّدُوا بها تعمُّ عُقُوبَاتِ الدنيا كَبَدْرٍ وغيرها، وعقوبات الآخرة.
وقوله سبحانه: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ هذا حَضٌّ على العِبْرَةِ، والرؤية هنا رُؤْيَةُ القلب، والقَرْنُ: الأمة المقترنة في مُدَّةٍ من الزمن.
واختلف في مدة القَرْنِ «1» كم هي؟
فالأكثر على أنها مائة سنة.
وقيل غير هذا.
__________
(1) ينظر هذا الاختلاف في «لسان العرب» (3609) (قرن) .(2/445)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
وقيل: القَرْنُ الزمن نَفْسُهُ، وهو على حَذْفِ مضاف، تقديره: من أَهْلِ قرن. قال عياض في «الإكمال» : واختلف في لَفْظِ القَرْنِ، وذكر الحربي «1» فيه الاخْتِلاَفَ من عَشْرِ سنين إلى مائة وعشرين، ثم قال يعني الحربي: وليس منه شيء وَاضِحٌ، وأرى القرن كُلّ أمة هَلَكَتْ، فلم يَبْقَ منها أحد. انتهى.
والضمير في مَكَّنَّاهُمْ عائد على القَرْنِ، والمخاطبة في لَكُمْ هي للمؤمنين، ولجميع المُعَاصِرِينَ لهم من سائر الناس، والسَّماءَ هنا المطر، ومِدْراراً بناء تكثير، ومعناه: يدرُّ عليهم بِحَسَبِ المنفعة.
وقوله سبحانه: وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ.
أَنْشَأْنا: اخترعنا، وخلقنا، ويظهر من الآية أن القَرْنَ إنما هو وَفَاةُ الأَشْيَاخِ، ثم وِلاَدَةُ الأطفال.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 7 الى 9]
وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)
وقوله تعالى: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ الآية.
لمْا أَخْبَرَ عنهم- سبحانه- بأنهم كذبوا بكل ما جَاءَهُمْ من آية أَتْبَعَ ذلك بإخْبَارٍ فيه مُبَالغة، والمعنى: ولو نزلنا بِمَرْأًى منهم عليك كتاباً أي: كلاماً مَكْتُوباً في قِرْطَاسٍ، أي:
في صحيفة.
فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ يريد: أنهم بالغوا في مَيْزِهِ وتقليبه ليرتفع كل ارْتِيَابٍ لعاندوا فيه، وتابعوا كُفْرَهُمْ وقالوا: هذا سحر مبين.
وقوله سبحانه: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ أي: يصدّق محمداً في نبوءته، ثم ردّ
__________
(1) إبراهيم بن إسحاق بن بشير بن عبد الله البغدادي الحربي، أبو إسحاق، من أعلام المحدثين. أصله من مرو، واشتهر وتوفي ببغداد، ونسبته إلى محلة فيها. كان حافظا للحديث عارفا بالفقه بصيرا بالأحكام، قيما بالأدب، زاهدا، أرسل إليه المعتضد ألف دينار فردها. تفقه على الإمام أحمد، وصنف كتبا كثيرة منها «غريب الحديث» و «سجود القرآن» و «الهدايا والسنة فيها» و «الحمام وآدابه» و «دلائل النبوة» وكان عنده اثنا عشر ألف جزء، في اللغة وغريب الحديث، كتبها بخطه.
ينظر: «الأعلام» (1/ 32) ، «تذكرة الحفاظ» (2/ 147) ، و «إرشاد الأريب» (1/ 37) ، و «صفوة الصفوة» (2/ 228) .(2/446)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12)
اللَّه عليهم بقوله: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ قال ابن عَبَّاسٍ وغيره: في الكلام حَذْفٌ «1» ، تقديره: ولو أنزلنا مَلَكاً، فكذبوه لَقُضِيَ الأمر بعَذَابِهِمْ، ولم يُنْظَرُوا حسبما سَلَفَ في كل أمة اقْتَرَحَتْ بآية، وكذبت بعد أن أُظْهِرَتْ إليها.
وقالت فرقة: لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي: لَمَاتُوا من هَوْلِ رؤية المَلَكِ في صورته، ويؤيد هذا التَّأْوِيلَ ما بعده من قوله: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا فإن أَهْلَ التأويل مُجْمِعُونَ أن ذلك لأنهم لم يكونوا يُطِيقُونَ رؤية المَلَكِ في صورته، فإذ قد تَقَعَّدَ أنهم لا يطيقون رُؤْيَةَ المَلَكِ في صورته، فالأولى في قوله: لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي: لماتوا لِهَوْلِ رؤيته، ثُمَّ لاَ يُنْظَرُونَ، أي: لا يُؤَخَّرُونَ.
ومما يؤيد هذا المعنى الحَدِيثُ الوَارِدُ عن الرجلين اللذين صَعَدَا على الجَبَلِ يوم بَدْرٍ ليريا ما يَكُونُ في حَرْبِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للمشركين، فَسَمِعَا حِسَّ الملائكة، وقَائِلاً يقول في السحاب: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فانكشف قِنَاعُ قَلْبِ أحدهما، فمات لِهَوْلِ ذلك، فكيف برؤية مَلَكٍ في خِلْقَتِهِ.
وَلَلَبَسْنا أي: لفعلنا لهم/ في ذَلِكَ فِعلاً مُلْبَساً يطرق لهم إلى أن يَلْبَسوا به، وذلك لا يحسن.
قلت: وفي البخاري «2» : وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ: لشبهنا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 12]
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12)
وقوله سبحانه: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ الآية تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالأُسْوَةِ في الرسل، وتقوية لنفسه على مُحَاجَّةِ المشركين، وإخبار يَتَضَمَّنُ وعيد مُكَذِّبِيهِ، والمستهزئين به.
وفَحاقَ معناه: نزل، وأحاط، وهي مَخْصُوصَةٌ في الشر يقال: حَاقَ يَحِيقُ حَيْقاً.
وقوله سبحانه: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ حَضٌّ على الاعتبار بآثارَ من مضى ممن
__________
(1) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 270) .
(2) ينظر: صحيح البخاري (8/ 136) كتاب «التفسير» ، باب سورة الأنعام.(2/447)
فَعَلَ مِثْلَ فعلهم.
وقوله سبحانه: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ.
قال بعض أَهْلِ التَّأوِيلِ: تَقْدِيرُ الكلام: قُلْ لِمَنْ مَا فِي السموات والأرض، فإذا تحيروا فلم يُجِيبُوا قل للَّه.
والصحيح من التَّأويل أن اللَّه- عزَّ وَجَلَّ- أمر نبيه- عليه السلام- أن يَقْطَعَهُمْ بهذه الحُجَّةِ، والبرهان القطعي الذي لا مُدَافَعَةَ فيه عندهم، ولا عند أَحَدٍ ليعتقدَ هذا المعتقد الذي بينه وبينهم، ثم يَتَرَكَّب احْتِجَاجُهُ عليه، فكأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: يا أيها الكافرون العَادِلُونَ بربهم لمن ما في السموات والأَرْضِ، ثم سَبَقَهُمْ فقال: للَّه أي لا مُدَافَعَةَ في هذا عندكم، ولا عند أحد.
ثم ابتدأ يخبر عن اللَّه تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ معناه: قضاها وأَنْفَذَهَا.
وفي هذا المعنى أحاديث صَحِيحَةٌ ففي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مَائَةً جُزْءٍ، فأمسك عنده تِسْعَةً وَتِسْعِينَ وَأنْزَلَ في الأَرْضِ جُزْءاً وَاحِداً، فمن ذَلِكَ الجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الخَلاَئِقُ حتى تَرْفَعُ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أن تُصِيبَهُ» «1» .
ولمسلم في طَرِيقٍ آخرُ: «كُلُّ رَحْمَةٍ مِنْهَا طبَاقُ مَا بَيْنِ السَّمَاءِ والأَرْضِ، فإذا كان يَوْمُ القِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بهذه الرَّحْمة» «2» .
وخرج مسلم، والبخاري، وغيرهما عنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما خَلَقَ اللَّه الخَلْقَ كَتَبَ في كِتَابٍ، فهو عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ: إن رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي» «3» .
وفي طريق: «سَبَقَتْ غَضَبِي» إلى غير ذلك من الأحاديث. انتهى.
قال ع «4» : فما أشقى مَنْ لم تَسَعْهُ هذه الرَّحَمَاتُ. تغمّدنا الله بفضل منه.
__________
(1) أخرجه مسلم (4/ 2108) كتاب «التوبة» ، باب في سعة رحمة الله تعالى، وأنها سبقت غضبه، حديث (17/ 2752) والبخاري (10/ 446) كتاب «الأدب» ، باب جعل الله الرحمة في مائة جزء، حديث (6000) وفي «الأدب المفرد» (100) ، والدارمي (2/ 321) ، والمروزي في «زوائد الزهد» لابن المبارك (1039) ، وابن حبان (6148) كلهم من طريق الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة به.
(2) أخرجه مسلم (4/ 2109) كتاب «التوبة» باب في سعة رحمة الله- تعالى- وأنها سبقت غضبه، حديث (21/ 2753) من حديث سلمان.
(3) تقدم تخريجه.
(4) ينظر: «المحرر» (2/ 271) .(2/448)
وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
ويتضمن هذا الإخبار عن اللَّه- سبحانه- بأنه كتب الرَّحْمَةَ لتأنيس الكفار، ونفي يَأْسهم من رَحْمَةِ اللَّه إذا أَنَابُوا.
واللام في قوله: لَيَجْمَعَنَّكُمْ لام قَسَم، والكلام مستأنف، وهذا أظهر الأَقْوَالِ «1» وأصحها.
وقوله سبحانه: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ.
الَّذِينَ رفع بالابتداء، وخبره: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 13 الى 16]
وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
وقوله تعالى: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ الآية.
وَلَهُ عطف على قوله: لِلَّهِ، وسَكَنَ هي من السُّكْنَى، ونحوه أي: ما ثَبَتَ وتَقَرَّرَ. قاله السدي «2» ، وغيره.
وقالت فرقَةٌ: هو من السُّكُونِ، وهو ضعيف.
وقوله تعالى: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية.
قال الطبري «3» وغيره: أُمِرَ- عليه السلام- أن يَقُولَ هذه المَقَالَةَ لِلْكَفَرَةِ الذين دعوه إلى عبادة أوثانهم، فَتَجِيءُ الآية على هذا جَوَاباً لكلامهم.
قال ع «4» : وهذا يَحْتَاجُ إلى سَنَدٍ، والفصيح أنه لما قَرَّرَ معهم أن اللَّه- تعالى- له ما في السَّمَوَاتِ والأرض، وله ما سَكَنَ في اللَّيْلِ والنهار، أُمِرَ أن يقول لهم على جِهَةِ التَّوْبِيخِ والتوقيف: أغَيْرَ اللَّه الذي هذه أَفْعالُهُ أتخذ وليًّا، بمعنى: أن هذا خَطَأٌ بَيِّنٌ/ ممن يفعله.
والولي لفظ عام لمَعْبُودٍ وغير ذلك.
__________
(1) ينظر: «الدر المصون» (3/ 17) .
(2) ذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 272) .
(3) ينظر الطبري (5/ 158) .
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 273) .(2/449)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
ثم أخذ في صفات اللَّه- تعالى- فقال: فاطِرِ بخفض الراء نعت لله عز وجل.
قال ص: فاطِرِ الجمهور «1» بالجَرِّ، وَوَجَّهَهُ ابن عَطِيَّةَ «2» ، وغيره على أنه نَعْتٌ لِلَّهِ.
وأبو البقاء على أنه بَدَلٌ، وكأنه رأى الفَصْلَ بين البَدَلِ والمبدل أَسْهَلَ لأن البَدَلَ في المشهور على نِيَّةِ تَكْرَارِ العامل. انتهى.
و «فطر» معناه: ابتدع، وخلق، وأنشأ، وفطر أيضاً في اللُّغَةِ: شَقَّ، ومنه هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: 3] أي: من شقوق.
ويُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ المقصود به: يَرْزُقُ ولا يُرْزَقُ.
وقوله: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ ... إلى عَظِيمٍ.
قال المفسرون: المعنى أول من أَسْلَمَ من هذه الأمة، وبهذه الشَّرِيعَةِ، ولفظة عَصَيْتُ عامة في أنواع المَعَاصِي، ولكنها هاهنا إنما تُشِيرُ إلى الشِّرْكِ المَنْهِيِّ عنه. واليوم العَظِيمُ هو يَوْمُ القيامة.
وقرأ نَافِعٌ «3» وغيره «من يُصْرَف عنه» مسنداً إلى المفعول، وهو الضمير العائد على العَذَابِ.
وقرأ حمزة وغيره «مَنْ يَصْرِف» بإسناد الفَعْلِ إلى الضمير العائد إلى «ربي» ، ويعمل في ضَمِيرِ العَذَابِ المذكور، ولكنه محذوف.
وقوله: وَذلِكَ إشارة إلى صَرْفِ العذاب، وحُصُولِ الرحمة، والْفَوْزُ النّجاة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 19]
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
__________
(1) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 90) و «الدر المصون» (3/ 20) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 273) . [.....]
(3) ينظر: «الدر المصون» (3/ 22) ، و «حجة القراءات» (243) ، و «الكشاف» (2/ 10) ، و «النشر» (2/ 257) ، و «البحر المحيط» (4/ 91) ، و «السبعة» (254) ، و «التبيان» (1/ 484) (485) ، و «الزجاج» (2/ 256) ، و «المشكل» (2/ 247) ، و «معاني القراءات» (1/ 346) ، و «الحجة» (3/ 285) ، و «العنوان» (90) ، و «شرح الطيبة» (4/ 242) ، و «إعراب القراءات» (1/ 152) .(2/450)
وقوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ.
يَمْسَسْكَ: معناه يُصِبْكَ، ويَنَلْكَ، والضُّرُّ بضم الضاد: سوء الحَالِ في الجِسْمِ وغيره، وبفتحها ضِدُّ النَّفْعِ، ومعنى الآية: الإخْبَارُ أن الأَشْيَاءَ كلها بِيَدِ اللَّه إن ضَرَّ فلا كَاشِفَ لضره غَيْرُه، وإن أصَابَ بِخَيْرٍ، فكذلك أيضاً.
وعن ابن عَبَّاسٍ قال: كنت خلف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يوماً فقال: «يا غُلاَمُ إنِّي أُعَلِّمَكَ كَلِمَاتٍ:
احْفَظِ اللَّهِ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّه، وإذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، واعْلَم أنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعَتْ عَلَى أنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ، لم يَنْفَعُوكَ إلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّه لَكَ، وإن اجْتَمَعُوا عَلَى أن يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لم يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيْءٍ قد كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رفعت الأَقْلاَمُ وَجَفَّتِ الصُّحُفُ» . رويناه في الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح «1» .
وفي رواية غير الترمذي زيادة: «احْفَظِ اللَّه تَجِدْهُ أمَامَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللَّهِ في الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، واعْلَمْ أن ما أَخْطَأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ ... » وفي آخره: «واعلم أن النَّصْرَ مع الصَّبْرِ، وأنّ الفَرَجَ مع الكَرْبِ، وأن مع العُسْرِ يُسْراً» «2» .
قال النووي: هذا حديث عَظِيمُ الموقع. انتهى من «الحِلْيَة» .
وقرأت فرقة: «وَأَوْحَى إلَيَّ هذا القُرآن» على بناء الفعل للفاعل، ونصب «القرآن» ، وفي «أوحى» ضمير يَعُودُ على اللَّه تعالى.
وقوله: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ معناه على قول الجمهور: بلاغ القرآن، أي:
لأنْذِرَكُمْ وأُنْذِرَ مَنْ بَلَغَهُ، ففي «بلغ» ضمير محذوف لأنه في صلة «من» فحُذِفَ لطول الكلام.
__________
(1) أخرجه الترمذي (4/ 667) كتاب «صفة القيامة» ، باب (59) ، حديث (2516) وأحمد (1/ 307) .
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(2) أخرجه عبد بن حميد في «المنتخب» (ص 214) رقم (636) من طريق المثنى بن الصباح، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس به.
والمثنى بن الصباح ضعيف.(2/451)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
وقالت فرقة: ومن بلغ الحُلُمَ.
وروي في معنى التأويل الأَوَّلِ أَحَادِيثُ. وظاهر الآية أنها في عَبَدَةِ الأصنام.
وذكر الطبري «1» أنه قد وَرَدَ من وَجْهٍ لم تثبت صحته أنها في قَوْمٍ من اليهود، قالوا:
يا محمد ما تَعْلَمُ مع اللَّه إلهاً غيره، فقال لهم: «لا إلهَ إلاَّ اللَّهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ» فنزلت الآية.
واللَّه أعلم.
وأمر اللَّه- سبحانه- نَبِيَّهُ- عليه السلام- أن يعلن بالتَّبَرِّي من شهادة الكفرة، والإعلان بالتوحيد لله- عز وجل- والتبرِّي من إشراكهم.
قال الغزالي في «الإحياء» . وينبغي للتَّالِي أن يقدر أنه المقصود بكل خِطَابٍ في القرآن، فإن سمع أمراً أو نَهْياً قَدَّرَ المَنْهِيُّ، والمأمور، وكذا إن سَمِعَ وَعْداً أو وعيداً، وكذا ما يَقِفُ عليه من القَصَصِ/، فالمقصود به الاعْتِبَارُ. قال تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود: 120] .
وقال تعالى: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 138] .
وقال: وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ.
قال محمد بن كَعْبٍ القُرظي: من بلغه القرآن فكأنما كَلَّمَهُ الله عز وجل «2» انتهى.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 22]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)
وقوله سبحانه: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ.
قال قتادة، وغيره: يعرفون محمداً- عليه السلام- «3» .
وقوله: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ الآية روي أن كل عَبْدٍ له مَنْزِلٌ في الجَنَّةِ، ومنزل في النار، فالمؤمنون يَنْزِلُونَ مَنَازِلَ أهل الكُفْرِ في الجَنَّةِ، والكافرون يَنْزِلُونَ مَنَازِلَ أهل الجنّة
__________
(1) ينظر الطبري (5/ 163) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 162) (13127) بلفظ: «من بلغه القرآن، فقد أبلغه محمد صلّى الله عليه وسلّم» ، وذكره البغوي (2/ 88) بلفظ: «من بلغه القرآن، فكأنما رأى محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وسمع منه» .
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 162) برقم (13133) ، وذكره ابن عطية في «تفسيره» (2/ 276) .(2/452)
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
في النار، فهنا هي الخِسَارَةُ البَيِّنَةُ، والربح للآخرين. وباقي الآية بَيِّنٌ.
وقوله سبحانه: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ المعنى: واذكر يوم نحشرهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 23 الى 26]
ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26)
وقوله تعالى: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ.
الفِتْنَةُ في كلام العرب لفظة مشتركة، تقال بمعنى حُبِّ الشيء، والإعجاب به، وتقال بمعنى الاخْتِبَارِ. ومن قال: إن أَصْلَ الفتنة الاخْتِبَارُ من: فَتَنْتُ الذَّهَبَ في النَّارِ، ثم يُسْتَعَارُ بعد ذلك في غَيْرِ ذلك، فقد أَخْطَأَ لأن الاسْمَ لا يُحْكَمُ عليه بمعنى الاسْتِعَارَةِ حتى يقطع عليه باسْتِحَالَةِ حَقِيقَتِهِ في المَوْضِع الذي استعير له، كقول ذي الرّمّةِ: [الطويل] وَلَفَّ الثُّرَيَّا فِي مُلاَءَتِهِ الفَجْرُ «1» ونحوه، والفتنة لا يَسْتَحِيلُ أن تكون حَقِيقَةً في كل مَوْضِعٍ قيلت عليه، وباقي الآية مضى تَفْسِيرُهُ عند قوله سُبْحَانَهُ: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً [النساء: 42] فانظره هناك.
قال ع «2» : وعبر قَتَادَةُ عن الفِتْنَةِ هنا بأن قال: معذرتهم «3» .
وقال الضَّحَّاك»
: كلامهم.
وقيل غير هذا مما هو في ضِمْنِ ما ذكرناه.
وقوله سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ هذا خِطَابٌ للنبي صلّى الله عليه وسلّم والنظر نَظَرُ القَلْبِ، وقال: كَذَبُوا في أَمْرِ لم يَقَعْ إذ هي حِكَايَةٌ عن يوم القيامة، فلا إشكال في
__________
(1) ينظر: «المحرر» (2/ 278) .
(2) ينظر: «المحرر» (2/ 279) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 166) برقم (13141) ، وذكره ابن عطية (2/ 279) والسيوطي (3/ 14) ، وعزاه لعبد بن حميد عن قتادة.
(4) أخرجه الطبري (5/ 166) برقم (13140) ، وذكره ابن عطية (2/ 279) .(2/453)
اسْتِعْمَالِ المَاضِي فيها موضع المستقبل، ويفيدنا استعمال الماضي تَحْقِيقاً في الفعل، وإثْبَاتاً له، وهذا مَهْيَعٌ في اللُّغَةَ.
وَضَلَّ عَنْهُمْ معناه: ذَهَبَ افْتِرَاؤُهُمْ في الدنيا، وكَذِبُهُمْ على اللَّه.
وقوله سبحانه: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً الآية.
«أكِنَّة» جمع: كنان، وهو الغِطَاءُ أَنْ يَفْقَهُوهُ أي: يفهموه، والوَقْرُ الثقل.
وقوله سبحانه: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِها. الرؤية هنا رُؤْيَةُ العَيْنِ، يريد كانشقاق القَمَرِ وشبهه.
وقولهم: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ إشارة إلى القرآن، والأَسَاطِيرُ جمع أَسْطَار، كأقوال وأقاويل، وأسطار جمع سَطْر أوْ سَطَر. وقيل: أَسَاطِير جمع إسْطَارَة، وهي التُّرَّهَاتُ.
وقيل: جمع أسطورة كأعجوبة، وأضحوكة. وقيل: هو اسم جمع، لا واحد له من لفظه كعَبَادِيدَ وشَمَاطِيطَ «1» ، والمعنى: إخبار الأولين وقصصهم وأحاديثهم التي تُسَطَّرُ، وتحكى، ولا تُحَقَّقُ كالتواريخ، وإنما شَبَّهَهَا الكفار بأحاديث النَّضْرِ بن الحَارِثِ، وعبد اللَّه بن أبي أُمَيَّة، عن رستم ونحوه، ومُجَادَلَة الكفار كانت مُرَادّتهم نُورَ اللَّهِ بأقوالهم المُبْطَلَةِ.
وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ قال/ قتادة وغيره: المعنى: يَنْهَوْنَ عن القرآن «2» .
وقال ابن عباس وغيره: ينهون عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمعنى: ينهون غَيْرَهُمْ، ويبعدون هم بأنفسهم «3» ، والنَّأْيُ البعد.
__________
(1) العباديد: الخيل المتفرقة في ذهابها ومجيئها، ولا واحد له، ولا يقع إلا في جماعة. ولا يقال للواحد:
عبديد.
وكذلك الشماطيط. قال الفراء: العباديد والشماطيط لا يفرد له واحد. ينظر: «لسان العرب» (2327، 2780) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 171) برقم (13168) ، وذكره البغوي في «تفسيره» (2/ 91) ، وابن عطية (2/ 280) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 16) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة.
(3) أخرجه الطبري (5/ 171) برقم (13163) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 280) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 15) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.(2/454)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28)
قال ص: وَإِنْ يُهْلِكُونَ: إن نافية بمعنى «ما» ، وأَنْفُسَهُمْ مفعول ب يُهْلِكُونَ انتهى. وَما يَشْعُرُونَ معناه: ما يَعْلَمُونَ عِلْمَ حسٍّ، ونَفْيُ الشعور مذمَّةٌ بالغة إذ البهائم تشعر وتحسّ، فإذا قلت: فلان لا يَشْعُرُ، فقد نَفَيْتَ عنه العِلْمَ النفي العام الذي يقتضي أنه لا يَعْلَمُ ولا المحسوسات.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 28]
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ مَّا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)
وقوله جَلَّتْ عظمته: وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ الآية: المخاطبة فيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم وجواب «لو» محذوف، تقديره في آخر الآية: لرأيت هولا عظيما ونحوه.
ووُقِفُوا معناه: حسُّوا، ويحتمل قوله: وُقِفُوا عَلَى النَّارِ بمعنى «دخلوها» .
قاله الطَّبَرِيُّ «1» .
ويحتمل أن يكون أشرفوا عليها، وعاينوها.
وقولهم: يا لَيْتَنا نُرَدُّ معناه إلى الدنيا.
وقوله سبحانه: بَلْ بَدا لَهُمْ مَّا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ الآية: يَتَضَمَّنُ أنهم كانوا يُخْفُونَ أموراً في الدنيا، فظهرت لهم يوم القِيَامَةِ، أو ظهر وَبَالُ ذلك وعاقبته، فحذف المُضَاف، وأقيم المضَافُ إليه مقامه.
وقيل: إن الكُفَّارَ كانوا إذَا وعظهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خافوا، وأَخْفَوْا ذلك الخوف لَئلا يشعر بهم أتباعهم، فظهر لهم ذَلِكَ يوم القيامة.
ويصح أن يكون مَقْصِدُ الآية الإخْبَارَ عن هَوْلِ ما لقوه، فعبِّر عن ذلك بأنهم ظَهَرَتْ لهم مَسْتُورَاتهم في الدنيا من مَعَاصٍ وغيرها، فكيف الظَّنُّ بما كانوا يعلنونه من كُفْرٍ ونحوه.
وينظر إلى هذا التأويل قوله تعالى في تَعْظِيمِ شَأْنِ يوم القيامة: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق: 9] . وقوله سبحانه: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا إخبار عن أَمْرٍ لا يكون كَيْفَ كان يُوجَدُ، وهذا النوع مما اسْتَأْثَرَ اللَّه- تعالى- بعِلْمِهِ، فإن أعلم بشيء منه علم، وإلا لم يُتَكَلَّمْ فيه.
قال الفخر «2» : قال الوَاحِدِيُّ: هذه الآية من الأدلة الظاهرة على فَسَادِ قول المعتزلة
__________
(1) ينظر: الطبري (5/ 173) بلفظ: حبسوا. [.....]
(2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 160) .(2/455)
وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31)
لأن اللَّه- تعالى- حكى عن هؤلاء أنهم لو رُدُّوا لَعَادُوا لما نُهُوا عنه، وما ذاك إلا للقضاء السابق فيهم. انتهى.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 29 الى 31]
وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31)
وقوله تعالى: وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ هذا على تأويل الجمهور ابتداء كَلاَمٍ، وإخبار عنهم بهذه المَقَالَةِ، و «إن» نافية، ومعنى الآية عنهم التكذيب بالحَشْرِ والعَوْدَة إلى اللَّه.
وقوله سبحانه: أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ الإشَارَةُ بهذا إلى البَعْثِ الذي كذبوا به/ في الدنيا، وقولهم: بَلى وَرَبِّنا أَيْمَانٌ، ولكنه حِينَ لا يَنْفَعُ.
وقوله: فَذُوقُوا استعارة بليغة، والمعنى باشروه مباشرة الذائق، وبَغْتَةً معناه:
فجأة، تقول: بَغَتَنِي الأمر أي: فجأني، ومنه قول الشاعر: [الطويل]
وَلَكِنَّهُمْ بَانُوا وَلَمْ أَخْشَ بَغْتَةً ... وَأَفْظَعُ شَيْءٍ حِينَ يَفْجَأُكَ البَغْتُ «1»
ونصبها على المَصْدَرِ في موضع الحال.
وقولهم: يا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها نداء الحَسَرَةِ على تعظيم الأمر، وتشنيعه.
وفَرَّطْنا معناه: قَصَّرْنَا، والضمير في قوله: فِيها عائد على السَّاعَةِ أي: في التَّقْدِمَةِ لها. قاله الحسن «2» .
ويحتمل أن يَعُودَ الضمير على الدنيا، إذ المعنى يَقْتَضِيهَا، ومجيء الظرفية أمكن.
قلت: قال عَبد الحق في «العَاقِبَةِ» : لا يَعْرِفُ مِقْدَارَ الحياة إلا الموتى لأنهم قد ظَهَرَتْ لهم الأمور، وانكشفت لهم الحَقَائِقُ، وتَبَدَّتْ لهم المَنَازِلُ، وعلموا مِقْدَارَ الأعمال الصَّالِحَةِ، ولما اسْتَبَانَ لهم ذلك، وعلموا مِقْدَارَ ما ضيعوا، وقيمة ما فيه فَرَّطُوا، نَدِمُوا وَأَسِفُوا، وودُّوا أنهم إلى الدنيا رَجَعُوا، فالذي عمل صالحًا ودَّ أن لو رجع إلى الدنيا ليزداد
__________
(1) البيت ليزيد بن ضبة. اللسان (بغت) .
(2) ذكره ابن عطية (2/ 284) .(2/456)
وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
من عَمَلِهِ الصالح، ويكثر من تَجْرِهِ الرابح، والمُقَصِّرُ يَوَدُّ أنه لو رُدَّ ليستدرك ما فيه فَرَّطَ، وقد قال عليه السَّلاَمُ: «ما مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ إلاَّ نَدِمَ» قَالُوا: وَمَا ندامته يا رسول الله؟ قال:
«إن كان محسنا ندم ألا يكون ازداد، وإن كان مُسِيئاً نَدِمَ ألا يَكُونَ نَزَعَ» خرجه الترمذي «1» .
انتهى.
وقوله تعالى: وَهُمْ يَحْمِلُونَ الواو واو الحَالِ، والأَوْزَارُ جمع وِزْر بكسر الواو، وهو الثّقْلُ من الذنوب، والوِزْرُ هنا تَجَوُّز وتَشْبِيهٌ بثقل الأَحْمَالِ. ومن قال: إنه من الوَزَرِ، وهو الجَبَلُ الذي يُلْجَأُ إلَيْهِ، فهو قول غير بَيِّنِ.
وقال الطبري «2» وغيره: هذا على جهة الحَقِيقَةِ، وَرَوَوْا في ذلك خَبَراً: أنَّ المُؤْمِنَ يَلْقَاهُ عمله في أَحْسَنِ صُورَةً وأَفْوَحِهَا فَيُسَلِّمُ عليه وَيَقُولُ طَالَ مَا رَكِبْتُكَ في الدُّنْيَا وَأَجْهَدْتُكَ، فَارْكَبْنِي اليَوْمَ. قال: فَيَحْمِلُهُ تِمْثَالُ العَمَلِ. وإن الكَافِرَ يَلْقَاهُ عَمَلَهُ في أَقْبَحِ صُورَةً وأَنْتَنِهَا فَيَشْتِمُهُ، ويقول: أنا عَمَلُكَ الخَبِيثُ طَالَ مَا رَكِبْتَنِي فِي الدُّنْيَا بِشَهَوَاتِكَ فَأَنا أرْكَبُك اليَوْمَ، قال: فيحمل تِمْثَالَ عَمَلِهِ الخَبِيثَ وَأَوْزَارَهُ على ظَهْرِهِ.
قلت: والأحاديث الصحيحة في معنى ما ذَكَرَهُ الطبري كثيرةٌ كأحاديث مَانِعِي الزكاة، وغيرها.
قال مكي: وروى المَقْبُرِيُّ عن أبي هريرة في حديث يرفعه، قال: «إذا كان يَوْمُ القِيَامَةِ بَعَثَ اللَّه مع كل امرئ مُؤْمِنٍ عَمَلَهُ، وبَعَثَ مع الكافر عَمَلَهُ فلا يرى المُؤْمِنُ شَيْئاً يروعه، ولا شَيْئاً يُفْزِعُهُ ويخافه إلاَّ قَالَ له عَمَلُهُ: أَبْشِرْ بالَّذِي يَسُرُّكَ فَإنَّكَ لَسْتَ بِالَّذِي يُرَادُ بهذا. ولا يرى الكَافِر شَيْئاً يُفْزِعُهُ ويروعه ويَخَافُهُ إلا قال له عَمَلُهُ: أبْشِرْ يَا عَدُوَّ اللَّهِ بالذي يسوءك، فو الله إنك لأنت الذي تراد بهذا» . انتهى.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 32 الى 33]
وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33)
__________
(1) أخرجه الترمذي (4/ 603- 604) كتاب «الزهد» باب (58) ، حديث (2403) وابن المبارك في «الزهد» (ص 11) رقم (33) ، وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 178) والبيهقي في «الزهد» (ص 279) رقم (716) كلهم من طريق يحيى بن عبيد الله قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبا هريرة يقول: فذكر الحديث.
وقال الترمذي: هذا حديث إنما نعرفه من هذا الوجه، ويحيى بن عبيد الله تكلم فيه شعبة، وهو يحيى بن عبيد الله بن موهب مدني اهـ.
وقال أبو نعيم: غريب من حديث يحيى.
(2) ينظر: الطبري (5/ 178) .(2/457)
وقوله سبحانه: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ الآية. هذا ابتداء خَبَرٍ عن حَالِ الدنيا، والمعنى: أنها إذ كانت فَانِيَةٌ لا طائل لها أشبهت اللَّعِبَ، واللهو الذي لا طَائِلَ له إذا تقضى. وهذه الآية تتضمن الرَّدَّ على قولهم: إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [الأنعام: 29] وهو المقصود بها.
قال عبد الحق في «العاقبة» : اعلم- رحمك الله- أن حُبَّ الدُّنْيَا هو سَبَبُ طُولِ الأَمَلِ، والإكْبَابُ عليها يَمْنَعُ من الفِكْرَةِ في الخروج عنها، والجهل بغَوَائِلِهَا يحمل على الإرادة لها، والازدياد منها لأن من أَحَبَّ شَيْئاً أحَبَّ/ الكَوْنَ معه، والازدياد منه، ومن كان مَشْغُوفاً بالدنيا مُحِبًّا لها قد خَدَعَتْهُ بزُخْرُفِهَا وَأَمَالَتْهُ برَوْنَقِهَا كيف يحبُّ مفارقتها، أو يحب مُزَايَلَتَهَا، هذا أمر لم تَجْرِ العادة به، ولا حُدِّثْنَا عنه، بَلْ نجد مَنْ كَانَ على هذه الصفة أَعْمَى عَنْ طريق الخَيْرِ، أصم عن دَاعِي الرشد، أَفِنَ الرأي، سَيِّىءَ النظر، ضَعِيفَ الإيمان، لم تترك له الدُّنْيَا ما يَسْمَعُ به، ولا ما يرى، إنما دِينُهُ وشغله وحديثه دُنْيَاهُ، لها ينظر، ولها يَسْمَعُ، قد ملأت عينه وقلبه، ثم قال: واعلم أن أَهْلَ القُبُورِ إنما يَنْدَمُونَ على ما يتركون، ويفرحون بما يُقَدِّمُونَ، فما عليه أهل القُبُورِ يندمون، أَهْلُ الدنيا عليه يَقْتَتِلُون. انتهى.
وقوله سبحانه: قَدْ نَعْلَمُ ... الآية: نَعْلَمُ إذا كانت من اللَّه- تعالى- تَتَضَمَّنُ استمرار العَلْمِ وقِدَمَهُ، فهي تعمُّ الماضي، والحال، والاستقبال.
قلت: ونحو هذا لأبي «1» حَيَّانَ قال: وعبر هنا بالمُضَارِعِ لأنَّ المُرَادَ الاتصاف بالعلم، واستمراره، ولم يلحظ فيه الزمان، كقولهم: فلان يعطي ويمنع. انتهى.
وقرأ نافع «2» وحده «لَيُحْزِنُكَ» من أَحْزَنَ.
وقرأ الباقون: «لَيَحْزُنْكَ» من حَزَنْتُ الرجلَ.
وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر، وعاصم، وحمزة «لا يكذّبونك» «3» - بتشديد
__________
(1) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 115) .
(2) ينظر: «حجة القراءات» ص (241) ، «السبعة» ص (257) ، «النشر» (2/ 257) ، «التبيان» (1/ 490) ، «المشكل» (1/ 251) ، «المصاحف» لابن أبي داود ص (45) ، «البحر المحيط» (4/ 114) ، «الدر المصون» (3/ 46) ، و «الحجة» (3/ 304) ، و «العنوان» (90) .
(3) ينظر: «الدر المصون» (3/ 48) ، «البحر المحيط» (4/ 116) ، «حجة القراءات» ص (247) ، «الكشاف» (2/ 18) ، «النشر» (2/ 257- 258) ، «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 10) ، و «السبعة» -(2/458)
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
الذال، وفتح الكاف- وقرأها ابن عباس، ورَدَّهَا على قارئ قرأ عليه «يُكذبونك» بضم الياء، وقال: إنهم كانوا يسمونه الأَمِينَ.
وقرأ نافع والكسائي- بسكون الكاف، وتخفيف الذال-، وهما قراءتان مشهورتان صحيحتان، وهما بمعنى واحد، فمعنى: لا يكذبونك، أي: لا يعتقدون كذبك، وإنهم يعلمون صِدْقَكَ، ولكنهم يَجْحَدُونَ عنَاداً وظُلْماً، وهذا تأويل قتادة والسُّدي وغيرهما «1» .
وحكي عن طائفة من الكُفَّارِ أنها كانت تَقُولُ: إنا لنعلم أن محمداً صادق، ولكن إذا آمنَّا به فضلنا بنو هاشم بالنبوءة، فنحن لا نُؤْمِنُ به أَبَداً. رويت هذه المَقَالَةِ عن أَبِي جَهْلٍ «2» ، ومن جرى مجراه.
وأسْنَدَ الطَّبَريُّ «3» : «أن جِبْريلَ وجد النبي صلّى الله عليه وسلّم حَزِيناً فسأله، فقال: كذبني هؤلاء، فقَال: إنهم لا يكذبونك بل يعلمون أَنَّكَ صَادِقٌ ولكن الظالمين بآيات اللَّه يَجْحَدُونَ» وجَحْدُ العِنَادِ جائز الوقوع بمقتضى النظر، وظواهر القرآن تعطيه، ويَجْحَدُونَ: حِقِيقِتُهُ في كلام العرب الإنْكارُ بعد معرفة، وهو ضد الإقرار.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 34 الى 36]
وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
__________
- (257) ، و «الحجة» (3/ 302) ، و «إعراب القراءات» (1/ 155) ، و «العنوان» (90) ، و «شرح الطيبة» (4/ 248) ، و «شرح شعلة» (360) .
(1) أخرجه الطبري (5/ 181) رقم (13195، 13196) ، بنحوه، وذكره البغوي (2/ 93، 94) عن السدي، وذكره ابن عطية (2/ 286) ، وذكره ابن كثير (2/ 129، 130) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 18) وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة، ولابن أبي حاتم، عن الحسن بنحوه.
(2) عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومي القرشي: أشد الناس عداوة للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأحد سادات قريش، وأبطالها ودهاتها في الجاهلية، كان يقال له: أبو الحكم، كان عنيدا عنيفا، حتى كانت وقعة بدر الكبرى، فشهدها مع المشركين فكان من قتلاها سنة 2 هـ.
ينظر: «الكامل» (2/ 127) ، و «فتح الباري» (7/ 293- 296) ، «عيون الأخبار» (1/ 230) ، «السيرة الحلبية» (2/ 33) ، «دائرة المعارف الإسلامية» (1/ 322) ، «إمتاع الأسماع» (1/ 18) ، «الأعلام» (5/ 87) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 182) رقم (13202، 13203) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 287) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 19) ، وعزاه لابن جرير عن الضحاك، ولابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج بنحوه.(2/459)
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا الآية.
قال ابن جُرَيْجٍ، والضحاك: عزى اللَّه بهذه الآية نَبِيَّهُ- عليه السلام- «1» ثم قَوَّى سبحانه رَجَاء نَبِيِّهِ فيما وَعَدَهُ من النصر، بقوله: وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ، أي: لاَ رَادَّ لأَمْرِهِ، وكلماته السابقة بما يكون، فكأن المعنى: فاصبر كما صَبَرُوا، وانتظر ما يأتي، وَثِقْ بهذا الإخبار، فإنه لا مُبَدِّلَ له.
وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ... الآية فيها إلزام الحجة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتقسيم الأحوال عليه حتى يبين أنْ لاَ وَجْهَ إلا الصَّبر، والمعنى: إن كنت تعظم تكذيبهم، وكفرهم على نَفْسِكَ، وتلتزم الحُزْنَ، فإن كنت تقدر على دخول سرب في أعمال الأرض، أو على ارْتِقَاءِ سُلَّمٍ في السماء، فافعل، أي: ولست بِقَادِرٍ على شيء من هذا، ولا بُدَّ لك من التزام الصَّبْرِ، واحتمال المشقة، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ في أن تَأْسَفَ وتحزن على أَمْرٍ أراده اللَّه، وأمضاه. وروى الدّارقطنيّ في «سننه» / عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قال: «إذا أَصَابَ أَحَدَكُمْ هَمٌّ أوْ حُزْنٌ فليقل سَبْعَ مَرَّاتٍ: اللَّه اللَّه رَبِّي لاَ أُشْرِكُ بِه شَيْئاً» «2» انتهى من «الكوكب الدّري» .
وفَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أي: بعلامة.
وقال مَكّي، والمَهْدوي: الخِطَابُ بقوله: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ للنبي صلّى الله عليه وسلّم والمُرَادُ أمته، وهذا ضَعِيفٌ لا يقتضيه اللفظ. قلت وما قاله ع: فيه عندي نَظَرٌ لأن هذا شَأْنُ التأويل إخراج اللَّفْظِ عن ظاهره لموجب، عَلَى أن أَبَا محمد مَكِّيًّا- رحمه اللَّه- نَقَلَ هذا القول عن غيره نَقْلاً، ولفظه: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أي: ممن لا يعلم أن اللَّه لو شَاءَ لَجَمَعَ على الهُدَى جميع خَلْقِهِ.
وقيل: معنى الخطاب لأمّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمعنى: فلا تكونوا من الجاهلين، ومثله في القرآن كثير. انتهى من «الهِدَايَةِ» .
وقوله سبحانه: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ هذا من النَّمَطِ المتقدّم في التسلية،
__________
(1) ينظر: الطبري (5/ 178) .
(2) ذكره الهندي في «كنز العمال» (2/ 117) رقم (3410) ، وعزاه للطبراني في «الأوسط» . [.....](2/460)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
أي: لا تحفل بمن أعرض، فإنما يَسْتَجِيبُ لداعي الإيمان الذين يَفْهَمُونَ الآيات، ويتلقون البَرَاهِينَ بالقَبُولِ، فعبر عن ذلك كله ب يَسْمَعُونَ إذ هو طريق العلم، وهذه لفظة تستعملها الصُّوفِيَّةُ- رضي اللَّه عنهم- إذا بلغت المَوْعِظَةُ من أحد مبلغاً شافياً، قالوا:
سمع.
ثم قال تعالى: وَالْمَوْتى يُرِيدُ الكفار أي: هم بمَثَابَةِ الموتى، فعبر عنهم بِضِدِّ ما عبر عن المؤمنين، وبالصفة التي تُشْبِهُ حالهم في العمى عن نور اللَّه، والصَّمَمِ عن وَعْيِ كلماته. قاله مجاهد، والحسن، وقتادة «1» .
ويَبْعَثُهُمُ اللَّهُ يحتمل معنيين: قال الحسن: معناه يبعثهم بأن يُؤْمنوا حين يوفقهم «2» ، وقراءة الحسن «ثم إليه تُرْجَعُون» بالتاء من فوق «3» ، فَتَنَاسَبَت الآية.
وقال مجاهد، وقتادة: وَالْمَوْتى يريد الكفار يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ، أي: يَحْشرهم يوم القيامة، ثُمَّ إِلَيْهِ، أي: إلى سطوته، وعقابه يُرْجَعُونَ «4» .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 37 الى 38]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)
وقوله سبحانه: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ «لَوْلاَ» تحضيض بمعنى «هلاَ» ، ومعنى الآية: هلا نزل على محمد بَيَانٌ واضح كَمَلَكٍ يَشْهَدُ له، أو كَنْزٍ، أو غير ذلك من تَشَطُّطهِم المَحْفُوظِ في هذا، ثم أُمِرَ- عليه السلام- بالرَّدِّ عليهم بأن اللَّه- عز وجل- قَادِرٌ على ذلك، ولكن أكثرهم لا يَعْلَمُونَ أنها لو نَزَلَتْ، ولم يؤمنوا لَعُوجِلُوا بالعَذَابِ، ويحتمل وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أنه- سبحانه- إنما جعل الإِنْذَارَ في آيات معرضة للنظر، والتأمّل ليهتدي قوم ويضلّ آخرون.
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 185) رقم (13209، 13211، 13212) وذكره ابن عطية (2/ 289) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 19) وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن الحسن، ولعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، عن مجاهد بنحوه.
(2) ذكره ابن عطية (2/ 289) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 289) .
(4) ذكره ابن عطية (2/ 289) .(2/461)
وقوله سبحانه: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ المعنى: في هذه الآية التَّنْبِيهُ على آيات اللَّه المَوْجُودَةِ في أنواع مَخْلُوقَاتِهِ المَنْصُوبَةِ لمن فَكَّرَ واعتبر كالدواب والطير، ويدخل في هَذَيْنِ جَمِيعُ الحَيَوَانِ، وهي أمم أي: جَمَاعَاتٌ مماثلة للناس في الخَلْقِ، والرزق، والحَيَاةِ، والمَوْتِ، والحَشْرِ.
ويحتمل أن يريد بالمُمَاثَلَةِ في كونها أمماً لا غير، إلا أن الفَائِدَةَ في هذه الآية بأن تكون المُمَاثَلَةُ في أَوْصَافٍ غير كونها أمماً.
قال الطبري «1» ، وغيره: والمُمَاثَلَةُ في أنها يُهْتَبَلُ بأعمالها، وتحاسب، ويقتصّ لبعضها من بَعْضٍ، على ما روي في الأحَادِيثِ أي: فإذا كان هذا يُفْعَلْ بالبهائم، فأنتم أَحْرَى إذ أنتم مُكَلَّفُونَ عُقَلاَء.
وروى أبو ذَرٍّ: أنه انتطحت عنزان بحضرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: «أَتَعْلَمُونَ فِيمَا انْتَطَحَتَا» ؟ / قِلْنَا: لا، قال: فَإنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَسَيَقْضِي بَيْنَهُمَا» «2» .
وقال مَكّي: المُمَاثَلَةُ في أنها تَعْرِفُ اللَّه، وتعبده.
وقوله: بِجَناحَيْهِ تأكيد، وبيان، وإزالة للاستعارة المُتَعَاهَدَةِ في هذه اللفظة إذ يقال: طائر السَّعْدِ، والنَّحْسِ. وقال تعالى: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ( [الإسراء: 13] ، ويقال: طار لفلان طائر كذا، أي: سهمه في المقتسمات، فقوله تعالى: بِجَناحَيْهِ إخراج للطائر عن هذا كله.
وقوله سبحانه: مَّا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ التفريط: التقصير في الشَّيْءِ مع القُدْرَةِ على تَرْكِ التقصير.
قال أبو حيان «3» : أصل فَرَّطْنَا يَتَعَدَّى ب «في» ثم يضمن معنى أغفلنا، فيتعدى إلى مَفْعُولٍ به، وهو هنا كذلك، فيكون مِنْ شَيْءٍ في موضع المفعول به. انتهى.
والْكِتابِ: القرآن وهو الذي يقتضيه نَظَامُ المعنى في هَذِهِ الآيَاتِ.
وقيل: اللوح المحفوظ، ومِنْ شَيْءٍ على هذا القول عَامٌّ في جَمِيعِ الأشياء، وعلى
__________
(1) ينظر الطبري (5/ 186) .
(2) أخرجه أحمد (5/ 172) ، والطيالسي (480) من حديث أبي ذر.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 355) ، وقال: وفيه راو لم يسم.
(3) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 126) .(2/462)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)
القول بأنه القرآن خاصّ.
ويُحْشَرُونَ قالت فرقة من العلماء: حَشْرُ البهائم بَعْثُهَا، واحتجوا بالأَحَادِيثِ المضمنة أن اللَّه- تعالى- يَقْتَصُّ لِلْجَمَّاءِ من القَرْنَاءِ، ومن قال: إنما هي كِنَايَةٌ عن العَدْلِ، وليست بحقيقة، فهو قول مردود ينحو إلى القول بالرّموز ونحوها.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 39 الى 41]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ ... الآية كأنه قال: وما من دَابَّةٍ، ولا طائر، ولا شَيْءٍ، إلاَّ وفيه آية منصوبة دالة على وَحْدَانِيَّةِ اللَّه- تعالى- ولكن الذين كَذَّبُوا بآياتنا صُمّ وبكم لا يتلقون ذلك، ولا يَقْبَلُونَهُ، وظاهر الآية أنها تعمُّ كل مُكَذِّبٍ.
وقال النقاش: نزلت في بني عَبْدِ الدَّارِ.
قال ع «1» : ثم تَنْسَحِبُ على سواهم.
وقوله: فِي الظُّلُماتِ يَنُوبُ عن عمي، وفي الظلمات أَهْوَل عبارة، وأفصح، وأوقع في النَّفْسِ.
قال أبو حَيَّانَ «2» : فِي الظُّلُماتِ خبر مبتدإ مَحْذُوفٍ، أي: هم في الظلمات، أو صفة ل بُكْمٌ أي: كائنون في الظلمات، أو حال من الضمير المقدر في الخبر، أي:
ضالون في الظلمات. انتهى.
وقوله سبحانه: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ ابتداء احْتِجَاجٍ على الكفار الجاعلين للَّه شركاء، والمعنى: أرأيتم إذا خِفْتُمْ عَذَابَ اللَّه، أو خفتم هَلاَكاً، أو خفتم السَّاعَةَ، أتدعون أَصْنَامَكُمْ وتَلْجَئُون إليها في كَشْفِ ذلك إن كنتم صادقين في قولكم: إنها آلهة، بل إنما تدعون اللَّه الخَالِقَ الرازق، فيكشف ما خِفْتُمُوه، إن شاء، وتنسون أصنامكم، أي: تتركونهم، فعبر عن التَّرْكِ بأعظم وجوهه الذي هو مَعَ التَّرْكِ ذهول، وإغفال، فكيف يجعل إلهاً من هذه حاله في الشدائد والأزمات.
__________
(1) ينظر: «المحرر» (2/ 290) .
(2) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 127) .(2/463)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 42 الى 45]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ في الكلام حَذْفٌ، تقديره: فكذبوا فأخذناهم؟ أي: تابعناهم بالبَأْسَاءِ الآية، والبأساء المَصَائِبُ في الأموال، والضراء في الأَبْدَانِ. هذا قول الأكثر.
وقيل: قد يُوضَعُ كل واحد بَدَلَ الآخر، والتضرُّعُ التذلل، والاستكانة، ومعنى الآية توعد الكفار، وضرب المثل لهم، وفَلَوْ لا تحضيض، وهي التي تلي الفِعْلَ بمعنى:
«هلا» وهذا على جِهَةِ المعاتبة لِمُذْنِبٍ غائب، وإظهار سوء فعله مع تَحَسُّرِ ما عليه.
قلت: أي: مع تَحَسُّرٍ ما، باعتبار حالة البَشَرِ.
وقوله سبحانه: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ... الآية عبر عن الترك بالنّسيان، وفَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ أي: من النِّعَمِ الدنيوية بعد الذي أَصَابَهُمْ من البَأْسَاءِ والضراء، وفَرِحُوا معناه: بطروا، / وأعجِبوا، وظنوا أن ذَلِكَ لا يَبيدُ، وأنه دَالٌّ على رضا اللَّه عنهم، وهو اسْتِدْرَاجٌ من اللَّه تعالى.
وقد رُوِيَ عن بعض العلماء: رحم اللَّه عبداً تَدَبَّر هذه الآية حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً.
وروى عقبة بن عامر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا رأيت اللَّه- تعالى- يعطي العِبَادَ ما يشاءون على مَعَاصيهم، فذلك اسْتِدْرَاجٌ ثم تلا: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ ... الآية «1» كلها، وأَخَذْناهُمْ في هذا المَوْضِعِ معناه: استأصلناهم بَغْتَةً أي: فجأة، والمبلس الحَزِينُ الباهت اليَائِسُ من الخَيْرِ الذي لا يَحِيرُ جَوَاباً لشدة ما نَزَلَ به من سوء الحال.
وقوله تعالى: فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ ... الآية.
__________
(1) أخرجه أحمد (4/ 145) ، والدولابي في «الكنى» (1/ 111) ، والطبري (5/ 194) رقم (13244) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (4/ 128) رقم (4540) ، والطبراني في «الكبير» (17/ 330- 331) رقم (913) ، وابن أبي الدنيا في كتاب «الشكر» (ص 9) من حديث عقبة بن عامر والحديث ذكره العراقي في «تخريج الإحياء» (4/ 115) وقال: رواه أحمد، والطبراني، والبيهقي في «الشعب» بسند حسن.(2/464)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
الدَّابر: آخر القوم الذي يَأتي من خَلْفِهِم، وهذه كناية عن استئصال شأفتهم، ومَحْوِ آثارهم، كأنهم وَرَدُوا العَذَابَ حتى ورد آخرهم الذي دَبَرَهُمْ، وحَسُنَ الحمد عَقِبَ هذه الآية لِجَمَالِ الأفعال المتقدمة في أن أرسل- سبحانه- الرسل، ولطف في الأَخْذِ بالبَأْسَاءِ والضَّرَّاءِ ليتضرع إليه، فيرحم، وينعم، وقطع في آخر الأمر دابر الظَّلَمَة، وذلك حَسَنٌ في نفسه، ونعمة على المؤمنين، فحسن الحَمْدُ عقب هذه الأفعال، وبحمده سبحانه ينبغي أن يُخْتَمَ كل فعل، وكل مَقَالٍ، إذ هو المحمود على كُلِّ حال لا رب غيره، ولا خير إلا خيره.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 49]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ ... الآية أَخَذَ معناه أَذْهَبَ، والضمير في بِهِ عائد على المأخوذ، ويَصْدِفُونَ معناه: يعرضون، وينفرون، ومنه قول الشاعر: [البسيط]
إذَا ذَكَرْنَ حَدِيثاً قُلْنَ أَحْسَنَهُ ... وَهُنَّ عَنْ كُلِّ سُوءٍ يُتَّقَى صُدُفُ «1»
وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً ... الآية وعيد وتهديد.
قال ع «2» : أَرَأَيْتُمْ عند سيبويه: تَتَنَزَّلُ منزلةَ «أخبروني» ولذلك لا تَحْتَاجُ إلى مفعولين.
وقوله: بَغْتَةً: معناه: لم يتقدّم عندكم منه علم، وجَهْرَةً، معناه: تبدو لكم مَخَايلُهُ ومَبَاديه، ثم يتوالى حتّى ينزل.
__________
(1) البيت لعدي بن الرقاع، وهو في «تفسير الطبري» (11/ 366) ، «البحر» (4/ 117) و «الدر المصون» (3/ 66) .
وصدف: جمع: صدوف، كصبر في جمع صبور. وقيل: معنى صدف: مال، مأخوذ من الصدف في البعير، وهو أن يميل خفه من اليد إلى الرجل من الجانب الوحشيّ. والصّدف: جمع صدفة، وهي المحارة التي تكون فيها الدّرّة، قال: [البسيط]
وزادها عجبا أن رحت في سمل ... وما درت درّ أنّ الدّرّ في الصّدف
والصّدف والصّدف- بفتح الصاد والدال وضمهما، وضم الصاد وسكون الدال- ناحية الجبل المرتفع.
(2) ينظر: «المحرر» (2/ 293) .(2/465)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
قال الحَسَنُ بْنُ أبي الحَسَنِ: بَغْتَةً لَيْلاً، وجَهْرَةً»
: نهارا.
وقال مجاهد: بَغْتَةً فجاءة آمنين. وجَهْرَةً: وهم ينظرون «2» .
قال أبو حَيَّان «3» : هَلْ يُهْلَكُ؟ «هل» حَرْفُ استفهام، معناه هنا النَّفْيُ، أي: ما يهلك ولذلك دخَلَتْ «إلاَّ» على ما بعدها. انتهى.
وقوله سبحانه: وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ، أي: إلاَّ ليبشِّروا بإنعامنا وَرَحْمَتِنَا مَنْ آمن، ومُنْذِرِينَ بعذابنا وعِقَابنا مَنْ كَذَّب وكَفَر، قال أبو حَيَّان: مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ:
حالٌ فيها معنَى العِلِّيَّة، أي: أرسلناهم للتبشير والإنذار. انتهى.
ثم وَعَدَ سبحانَهُ مَنْ سلَكَ طريقَ البِشَارة، فآمَنَ وأصْلَح في امتثال الطاعةِ، وأوعد الآخرين.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 53]
قُلْ لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)
وقوله تعالى: قُلْ لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ... الآية: هذا مِنَ الرَّدِّ على القائلين: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ [الأنعام: 37] والطَّالِبِينَ أنْ ينزَّل ملَكٌ، أو تكونَ له جَنَّةٌ أو كَنْزٌ، ونَحْوُ هَذَا، والمعنى: إنما أنا بشر، وإنما أَتَّبِعُ ما يوحى إليَّ، وهو القرآنُ وسَائِرُ ما يأتيه مِنَ اللَّه سبحانه، أي: وفي ذلك عِبَرٌ وآياتٌ لمن تأمَّل.
وقوله سبحانه: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ، أي: هل يستوي المؤمِنُ المُفَكِّرُ في الآياتِ، معِ الكافِرِ المُعْرِضِ عَنِ النَّظَر أفلا تتفكَّرون، وجاء الأمر بالفِكْرة في عبارة العرض والتّحضيض/.
__________
(1) ذكره البغوي (2/ 98) ، وذكره ابن عطية (2/ 293) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 196) برقم (13253) ، وذكره ابن عطية (2/ 293) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 24) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد بنحوه. [.....]
(3) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 126) .(2/466)
وقوله تعالى: وَأَنْذِرْ بِهِ، أي: وأنذر بالقرآن الذين هُمْ مَظِنَّةُ الإيمان، وأهْلٌ للاِنتفاعِ، والضميرُ في بِهِ عائدٌ على ما يوحى.
وقوله سبحانه: لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ: إخبارٌ من اللَّه سبحانه عَنْ صفة الحالِ يَوْمَ الحَشْرِ، قال الفَخْر «1» : قوله: لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ: قال ابن عَبَّاس: معناه:
وأنذرهم لكَيْ يخافوا في الدنيا، وينتهوا عن الكُفْر والمعاصِي. انتهى.
وقوله سبحانه: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ: المرادُ ب الَّذِينَ ضَعَفَةَ المُؤْمنين في ذلك الوَقْت في أمور الدُّنْيا كَبَلاَلٍ. وصُهَيْبٍ، وعَمَّارٍ، وَخَبَّابٍ «2» ، وصُبَيْحٍ، وذي الشِّمَالَيْنِ والمِقْدَادِ، ونحوِهِمْ، وسببُ الآية أنَّ بعض أشراف الكفّار قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: نَحْنُ لِشَرَفِنَا وأقْدَارِنَا لاَ يُمْكِنُنَا أنْ نختلطَ بهؤلاءِ، فلو طَرَدْتَّهم، لأتَّبَعْنَاكَ، وَرَدَ في ذلك حديثٌ عن ابْنِ مسعود، وظاهر الأمر أنهم أرادوا بذلك الخديعة، فنزلت الآية، ويَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ: قال الحَسَنُ بنُ أبي الحَسَن «3» : المراد به صلاةُ مكَّة الَّتي كانَتْ مرَّتين في اليومِ بُكْرةً وعَشِيًّا، وقيل: قوله: بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ: عبارةٌ عن استمرار الفعْلِ، وأنَّ الزمان معمورٌ به، والمرادُ على هذا التأويل، قيل: الصلواتُ الخَمْس قاله ابنُ عَبَّاس وغيره «4» ، وقيل: الدُّعاء، وذِكْرُ اللَّه، واللفظةُ على وجهها، وقيل: القُرآنُ وتعلُّمه قاله أبو جعفر «5» ، وقيل: العبادة قاله الضّحّاك «6» .
__________
(1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (12/ 193) .
(2) (خبّاب) بن الأرت: - بتشديد المثناة- بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم التميمي، ويقال: الخزاعي، أبو عبد الله.
سبي في الجاهليّة، فبيع بمكّة، فكان مولى أم أنمار الخزاعية، وقيل غير ذلك. ثم حالف بني زهرة، وكان من السّابقين الأوّلين.
وقال ابن سعد: بيع بمكّة، ثم حالف بني زهرة. وأسلم قديما وكان من المستضعفين، روى الباوردي أنه أسلم سادس ستة، وهو أول من أظهر إسلامه، وعذّب عذابا شديدا لأجل ذلك.
ينظر: «الإصابة» (2/ 221) ، «طبقات ابن سعد» (3/ 164) ، «تهذيب الكمال» (373) ، «تهذيب التهذيب» (3/ 133) .
(3) ذكره ابن عطية (2/ 295) .
(4) أخرجه الطبري (5/ 201) برقم (13269) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 295) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 26) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم من طريق علي عن ابن عباس بنحوه.
(5) ينظر الطبري (5/ 204) .
(6) أخرجه الطبري (5/ 203) رقم (13291) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 295) .(2/467)
وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57)
وقوله تعالى: يُرِيدُونَ وَجْهَهُ قلتُ: قال الغَزَّالِيُّ في «الجَوَاهر» : النيةُ والعَمَلُ بهما تمامُ العبادةِ، فالنِّيَّة أحد جُزْأيِ العبَادةِ، لكنها خير الجزأَيْن، ومعنى النيَّة إرادةُ وَجْه اللَّه سبحانه بالعَمَلِ، قال اللَّه تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ، ومعنى إخلاصها تصفيةُ الباعِثِ عن الشوائِبِ، ثم قال الغَزَّالِيُّ: وإذا عرفْتَ فَضْل النية، وأنَّها تحلُّ حَدَقَةَ المقْصود، فاجتهد أنْ تستكثر مِنَ النِّيَّة في جميع أعمالِكَ حتى تنوي بعملٍ واحدٍ نيَّاتٍ كثيرة، ولو صَدَقَتْ رغبتُكَ، لَهُدِيتَ لطريقِ رشدك. انتهى.
وقوله سبحانه: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، قال الحَسَنُ والجمهورُ: أيْ: مِنْ حسابِ عملهم، والمعنى: أنك لم تُكَلَّفْ شيئاً غيْرَ دعائهم «1» ، وقوله: فَتَطْرُدَهُمْ: هو جوابُ النفْيِ في قوله: مَا عَلَيْكَ، وقوله: فَتَكُونَ: جوابُ النهْيِ في قوله: وَلا تَطْرُدِ.
وفَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ، أي: ابتلينا، ولِيَقُولُوا: معناه: ليصيرَ بحُكْم القَدَرِ أمرُهُمْ إلى أن يقولُوا على جهة الاِستخْفَافِ والهُزْء: أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا، فاللامُ في لِيَقُولُوا: لامُ الصَّيْرورة.
وقوله سبحانه: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ، أي: يا أيّها المستخفُّون، ليس الأمر أمر استخفاف، فاللَّه أعلَمُ بمن يشكر نعمه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 54 الى 57]
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57)
وقوله سبحانه: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ... الآية: قال جمهور المفسِّرين: هؤلاءِ هم الذينَ نَهَى اللَّهُ عَنْ طردهم، وشَفَعَ ذلك بِأنْ أَمَرَ سبحانه أنْ يسلِّم النبيُّ- عليه السلام- عليهم، ويُؤْنِسَهُمْ، قال خَبَّابُ بْنُ الأَرَتَّ: لما نزلَتْ: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا ... الآية، فكنّا نأتي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فيقولُ لنا: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، ونقعُدُ معه، فإذا أراد أنْ يقوم، قَامَ، وتركَنا، فأنزل اللَّه تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 296) .(2/468)
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ... «1» [الكهف: 28] الآية، فكان يَقْعُدُ معنا، فإذا بَلَغَ الوقْتَ الذي يقوم فيه، قمنا وتركناه، حتّى يقوم، وسَلامٌ عَلَيْكُمْ: ابتداءٌ، والتقديرُ: سَلاَمٌ ثابتٌ أو واجبٌ عليكم، والمعنَى: أمَنَةً لكُمْ مِنْ عذاب اللَّه في الدنيا والآخرة، ولفظه لفظُ الخَبَر، وهو في معنى الدُّعَاء، قال الفَخْر «2» قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ: النّفس هاهنا:
بمعنى الذَّات، والحقيقةِ، لا بمعنى الجِسْمِ، واللَّهُ تعالى مقدَّس عنه. انتهى.
قلتُ: قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في كتاب «تفسير الأَفْعَال الواقعة في القُرآن» : قوله تعالى:
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، قال علماؤنا: كَتَبَ: معناه أَوْجَبَ، وعندي أنه كتب حقيقة، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ اللَّهَ خَلَقَ القَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكتب، فَكَتَبَ مَا يَكُونُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ» «3» . انتهى.
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 296) .
(2) ينظر: «مفاتيح الغيب» (13/ 4) .
(3) ورد ذلك في حديث عبادة بن الصامت، وابن عباس، وابن عمر، وأبي هريرة.
فأما حديث عبادة فرواه أبو داود (2/ 637- 638) في السنة، باب في القدر (4700) ، والترمذي (4/ 398) في القدر، باب (17) (2155) وأحمد (5/ 317) ، والبخاري في «التاريخ» (6/ 92) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (102- 105) ، والبيهقي في «السنن» (10/ 204) ، من طرق عنه به مرفوعا، وكذا رواه الطبري (12/ 177) (34543، 34548) .
وقال الترمذي: هذا حديث غريب من هذا الوجه.
وأما حديث ابن عباس فروي مرفوعا أو موقوفا.
فأما المرفوع فرواه أبو يعلى (2329) ، والبيهقي في «السنن» (9/ 3) ، وفي «الأسماء والصفات» ص (378) من طريق عبد الله بن المبارك قال: «أخبرنا رباح بن زيد، عن عمرو بن حبيب، عن القاسم بن أبي بزة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعا» . إن أول شيء خلقه الله القلم، وأمره فكتب كل شيء.
وكذا رواه الطبري (34544) .
وأخرجه الطبراني في «الكبير» (11/ 433) (12227) عن مؤمل بن إسماعيل، ثنا حماد بن زيد، عن عطاء بن السائب عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، عن ابن عباس مرفوعا «إن أول ما خلق الله تعالى القلم والحوت قال: ما أكتب؟ قال: كل شيء كان إلى يوم القيامة» ثم قرأ ن وَالْقَلَمِ [القلم: 1] فالنون: الحوت. والقلم: القلم.
وقال الطبراني: لم يرفعه عن حماد بن زيد إلا مؤمل بن إسماعيل.
وقال في «المجمع» (7/ 131) ومؤمل ثقة كثير الخطأ، وقد وثقه ابن معين وغيره، وضعفه البخاري، وبقية رجاله ثقات.
وأما الموقوف فرواه الطبري (34528، 34530، 34531) وابن منده في «التوحيد» (1/ 94، 192) برقم (15، 65) ، وأبو الشيخ في «العظمة» (897) ، والحاكم في «المستدرك» (2/ 498) ، والبيهقي في-(2/469)
وقرأ عاصمٌ «1» ، وابنُ عَامِرٍ أنَّهُ- بفَتْحِ الهَمْزةِ في الأولى- والثانيةِ «فأنَّهُ» : الأولى بدلٌ من الرَّحْمَةَ، و «أنّه» الثانية: خبر ابتداء مضمر، تقديره: فأمره أنّه عفور رحيمٌ، هذا مذْهَبُ سيبَوَيْه، وقرأ ابنُ كَثِيرٍ، وأبو عَمْرٍو، وحمزة، والكسائي «إنَّهُ» - بكسر الهمزة في الأولى والثانية-، وقرأ نافعٌ بفَتْح الأولى وكَسْر الثانية، والجهالةُ في هذا الموضِعِ: تعمُّ التي تُضَادُّ العِلْمَ، والتي تُشَبَّه بها وذلك أنَّ المتعمِّد لفعْلِ الشيء الذي قَدْ نُهِيَ عنه تسمى معصيته تِلْكَ جِهَالَةً، قال مجاهدٌ: مِنَ الجهالةِ ألاَّ يعلم حَلاَلاً مِنْ حرامٍ «2» ، ومن جهالته أنْ يركِّب الأمر.
قُلْتُ: أيْ: يتعمَّده، ومن الجهالة الَّتي لا تُضَادُّ العلم قوله صلّى الله عليه وسلّم في استعاذته: «أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» «3» ومنها قولُ الشَّاعر: [الوافر]
أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أحد علينا ... فنجهل فوق جهل الجاهلينا
«4»
__________
- «الأسماء والصفات» ص (481) من طرق عن الأعمش، عن أبي ظبيان عنه قال: أول ما خلق الله عز وجل القلم، فقال له: اكتب، فقال: يا رب، ما أكتب؟ قال: اكتب القدر، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة.....
وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
وله طرق أخرى عند الطبري (34538) ، والحاكم (2/ 453- 454) وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في «الدر» (6/ 387) وزاد نسبته لعبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه، وابن أبي حاتم، والخطيب في «تاريخه» ، والضياء في «المختارة» .
وأما حديث ابن عمر فرواه ابن أبي عاصم (106) ، والآجري في «الشريعة» (ص 175) عن بقية، حدثني أرطاة بن المنذر، عن مجاهد بن جبير عنه مرفوعا به.
وأما حديث أبي هريرة فرواه الحكيم الترمذي كما في «الدر المنثور» (6/ 388) .
(1) ينظر: «الدر المصون» (3/ 68) ، «البحر المحيط» (4/ 139) ، «حجة القراءات» ص (251) ، «النشر» (2/ 258) ، «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 12- 13) ، و «إعراب القراءات» (1/ 157) ، و «شرح شعلة» (362، 363) ، و «العنوان» (91) ، و «شرح الطيبة» (4/ 253) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 207) رقم (13297) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 100) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 297) . [.....]
(3) تقدم تخريجه.
(4) البيت لعمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب من بني تغلب أبو الأسود، وهو من معلقته المشهورة.
ومعناه: نهلكه ونعاقبه بما هو أعظم من جهله، فنسب الجهل إلى نفسه، وهو يريد الإهلاك والمعاقبة ليزدوج اللفظتان، فتكون الثانية على مثل لفظة الأولى، وهي تخالفها في المعنى لأن ذلك أخف عن اللسان وأحضر من اختلافهما.
ينظر: «شرح القصائد العشر» للتبريزي (288) ، وينظر «البحر المحيط» (1/ 186) ، و «الدر المصون» (1/ 126) .(2/470)
قال الفخْر «1» : قال الحَسَنُ: كُلُّ مَنْ عَمِلَ معصيةً، فهو جاهلٌ، فقيل: المعنى أنه جاهلٌ بمقدارِ ما فاتَهُ منَ الثَّواب، وما استحقه من العقابِ، قلْتُ: وأيضاً فهو جاهلٌ بقَدْر مَنْ عصاه. انتهى.
والإشارةُ بقوله تعالى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ، إلى ما تقدَّم من النهْيِ عن طَرْدِ المؤمنين، وبَيَانِ فَسَادِ مَنْزَعِ العارضين لذلك، وتفضيل الآياتِ: تبيينُها وشَرْحُها وإظهارُها، قلْتُ: ومما يناسِبُ هذا المَحَلَّ ذِكْرُ شيء ممَّا ورد في فَضْلِ المُصَافَحَة، وقد أسند أبُو عُمَر في «التمهيد» ، عن عبد الرحْمَنِ بْنِ الأسود «2» ، عن أَبِيهِ وعلقمة أنهما قَالاَ: «مَنْ تَمَامِ التَّحِيَّةِ المُصَافَحَةُ» ، وروى مالكٌ في «الموطإ» ، عن عطاءٍ الخراسانيّ، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «تَصَافَحُوا يَذْهَبُ الغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا، وَتَذْهَب «3» الشَّحْنَاءُ» ، قال أبو عمر في «التمهيد» : هذا الحديث يتَّصلُ مِنْ وجوه شتى حِسَانٍ كلُّها، ثم أسند أبو عُمَر من طريقِ أبي دَاوُد وغَيْره، عن البَرَاءِ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، فَيَتَصَافَحَانِ إلاَّ غُفِرَ لهما قبل أن يتفرّقا» «4» ، ثم أسند أبو عُمَرَ عن البَرَاء بنِ عازب، قال:
«لقيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَأَخَذَ بِيَدِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنْ كُنْتُ لأحْسِبُ أَنَّ المُصَافَحَةَ لِلْعَجَمِ فَقَالَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِالمُصَافَحَةِ مِنْهُمْ مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، فَيَأْخُذُ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ مَوَدَّةً بَيْنَهُمَا، ونَصِيحَةً، إلاَّ أُلْقِيَتْ ذُنُوبُهُمَا بَيْنَهُمَا» «5» ، وأسند أبو عُمَرَ عن عمر بْنِ الخَطَّابِ، قال: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: «إذَا التقى المُسْلِمَانِ، فَتَصَافَحَا، أنْزَلَ اللَّهُ عَلَيهِمَا مِائَةَ رَحْمَةٍ تِسْعُونَ مِنْهَا لِلَّذِي بَدَأَ بِالمُصَافَحَةِ، وَعَشَرَةٌ لِلَّذِي صُوفِحَ، وَكَانَ أَحَبَّهُمَا إلَى اللَّهِ أحسنهما بشرا بصاحبه» «6» . انتهى.
__________
(1) ينظر: «مفاتيح الغيب» (13/ 5) .
(2) عبد الرّحمن بن الأسود بن يزيد النّخعي أبو حفص الفقيه. عن أبيه وعائشة. وعنه: الأعمش، وأبو إسحاق الشّيباني. وثقه ابن معين. حج ثمانين حجة، واعتمر ثمانين عمرة. مات سنة ثمان وتسعين.
ينظر: «الخلاصة» (2/ 125) .
(3) أخرجه مالك في «الموطأ» (2/ 908) كتاب «حسن الخلق» ، باب ما جاء في المهاجرة، حديث (16) عن عطاء مرسلا.
(4) تقدم تخريجه.
(5) ذكره الهندي في «كنز العمال» (9/ 134- 135) رقم (25368) ، وعزاه للروياني، وابن أبي الدنيا في كتاب «الإخوان» ، والضياء المقدسي في «المختارة» .
(6) ذكره الهندي في «كنز العمال» (9/ 114) رقم (25245) ، وعزاه للحكيم الترمذي، وأبي الشيخ عن عمر.(2/471)
وقد ذكرنا/ طَرَفاً مِنْ آدَابِ المُصَافحة فِي غَيْرِ هذا الموضعِ، فَقِفْ عليه، واعمل به، تَرْشَدْ، فإنَّ العلْم إنما يرادُ للعَمَل، وباللَّه التوفيق.
وخُصَّ سبيلُ المُجْرمينَ بالذِّكْر لأنهم الذين آثَرُوا ما تقدَّم من الأقوال، وهو أهَمُّ في هذا الموضِعِ لأنها آياتُ رَدٍّ علَيْهم.
وأيضاً: فتَبْيِينُ سَبِيلِهِمْ يتضمَّن بيانَ سَبِيلِ المُؤْمنين، وتَأوَّلَ ابنُ زَيْد أنَّ قوله:
الْمُجْرِمِينَ مَعْنِيٌّ به الآمِرُونَ بطَرْد الضَّعَفَةِ «1» .
وقوله سبحانه: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ ... الآية: أَمَرَ اللَّهُ سبحانه نَبيَّه- عليه السلام- أنْ يجاهرهم بالتبرّي ممّا هم فيه، وتَدْعُونَ: معناه تعبدون، ويْحْتَمَلُ أنْ يريدَ: تَدْعُونَ في أموركُمْ، وذلك مِنْ معنى العبَادةِ، واعتقادهم الأصنامَ آلهة.
وقوله تعالى: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي: المعنى: قل إني على أمْر بيِّن، وَكَذَّبْتُمْ بِهِ، الضمير في «بِهِ» عائدٌ على «بَيِّن» ، أو علَى الرَّبِّ، وقيل: على القُرآن، وهو جليٌّ، وقال بعضُ المفسِّرين: الضميرُ في «به» الثانِي عائدٌ على «مَا» ، والمُرَادُ بها الآياتُ المقْتَرَحَةُ على ما قال بعض المفسِّرين، وقيل: المرادُ به العذابُ، وهو يترجَّح من وجْهَيْن:
أحدهما: مِنْ جهة المعنى وذلك أنَّ قوله: وَكَذَّبْتُمْ بِهِ يتضمَّن أنَّكم واقعتم مَا تَسْتَوْجِبُون به العَذَابَ إلاَّ أنه ليس عنْدِي.
والآخَرُ: مِنْ جهة لَفْظِ الاستعجالِ الذي لَمْ يأت في القُرآن إلاَّ للعذابِ.
وأما اقتراحهم للآيَاتِ، فَلمْ يكُنْ باستعجال.
وقوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ، أي: القضاء والإنفاذ، ويَقُصُّ الْحَقَّ، أيْ: يخبر به والمعنى: يقُصُّ القَصَص الحَقَّ، وقرأ حمزةُ «2» والكِسَائيُّ وغيرهما: «يَقْضِي الحَقَّ» ، أي: ينفذه.
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 207) رقم (13302) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 298) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 27) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن زيد بنحوه.
(2) ينظر: «الدر المصون» (3/ 77) ، «البحر المحيط» (4/ 145) ، «حجة القراءات» ص (254) ، «النشر» (2/ 258) ، «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 14) ، «الكشاف» (2/ 30) ، و «الحجة» (3/ 318) ، و «السبعة» (259) ، و «إعراب القراءات» (1/ 159) ، و «معاني القراءات» (1/ 359) ، و «شرح الطيبة» (4/ 254) ، و «شرح شعلة» (363) ، و «العنوان» (91) .(2/472)
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 58 الى 59]
قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)
وقوله سبحانه: قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ:
المعنى: لو كان عندي الآياتُ المُقْتَرَحةُ، أو العذابُ علَى التأويل الآخر، لقُضِيَ الأمر، أي: لَوَقَع الانفصال، وتَمَّ النزاعُ لظهور الآية المُقْتَرَحَةِ، أو لِنزولِ العذابِ بحسب التأْويلَيْنِ، وقِيلَ: المعنى: لَقَامَتِ القيامةُ، وقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ: يتضمَّن الوعيدَ والتَّهْديدَ.
وقوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ: مفَاتِحُ: جَمْعُ مَفْتَحٍ، وهذه استعارة عبارةً عن التوصُّل إلى الغيوب كما يَتوصَّل في الشاهِدِ بالمِفْتَاحِ إلى المُغَيَّب، ولو كان جَمْعَ «مِفْتَاحٍ» ، لقال: مَفَاتِيح، ويظهرُ أيضاً أنَّ «مَفَاتِح» جمْعُ «مَفْتَح» - بفتح الميم-، أي: مواضِعِ تَفْتَحُ عن المغيَّبات ويؤيِّد هذا قَوْلُ السُّدِّيِّ وغيره: مَفاتِحُ الْغَيْبِ: خزائِنُ الغَيْب، فأما مِفْتَح «1» - بالكسر-، فهو بمعنى مِفْتَاح، قال الزَّهْرَاوِيُّ:
وَمِفْتَحٌ أفصحُ، وقال ابنُ عَبَّاسٍ وغيره: الإشارةُ بِمَفَاتِحِ الغَيْبِ هي إلى الخَمْسة في آخر لُقْمَان: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ ... «2» [لقمان: 34] الآية، قلت: وفي «صحيحِ البخاريِّ» ، عن سالمِ بنِ عبد اللَّهِ «3» ، عَنْ أبيه أنَّ رسُولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إلاَّ اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 210) برقم (13308) ، وذكره ابن عطية (2/ 299) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 28) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي.
(2) أخرجه الطبري (5/ 210، 211) برقم (13310) ، وذكره ابن عطية (2/ 299) . وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 28) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس.
(3) سالم بن عبد الله بن عمر العدوي المدني الفقيه أحد السبعة وقيل: السابع أبو سليمان بن عبد الرّحمن. وقيل: أبو بكر بن عبد الرّحمن بن الحارث، قاله أبو الزناد. عن أبيه، وأبي هريرة، ورافع بن خديج، وعائشة. وعنه: ابنه أبو بكر، وعبيد الله بن عمر، وحنظلة بن أبي سفيان. قال ابن إسحاق: أصح الأسانيد كلها الزهري، عن سالم، عن أبيه. وقال مالك: كان يلبس الثوب بدرهمين.
وعن نافع: كان ابن عمر يقبّل سالما، ويقول: شيخ يقبل شيخا. وقال البخاري: لم يسمع من عائشة.
مات سنة ست ومائة على الأصح.
ينظر: «تهذيب الكمال» (1/ 460) ، «تهذيب التهذيب» (3/ 436) ، «الكاشف» (3/ 344) ، «الثقات» (4/ 305) ، «سير الأعلام» (4/ 457) .(2/473)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
وَما تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [لقمان: 34] » انتهى «1» .
وقوله سبحانه: مِنْ وَرَقَةٍ، أي: من وَرَقِ النَّبَاتِ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ، يريدُ: في أشدِّ حالِ التَّغَيُّبِ، وحكى بعضُ النَّاسِ عن جَعْفَرِ بنِ محمَّد قولاً: / أنَّ الورقَةَ يُرَادُ بها السِّقْطُ مِنْ أولادِ بني آدم، والحَبَّة: يرادُ بها الذي لَيْسَ بِسِقْطٍ، والرَّطْب يرادُ به الحَيُّ، واليابسُ يراد به المَيِّت، وهذا قولٌ جارٍ على طريقةِ الرُّمُوز، ولا يصحُّ عن جعفر بن محمَّد، ولا ينبغي أن يُلْتَفَتَ إلَيْه «2» .
وقوله تعالى: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ، قيل: يعني كتاباً على الحقيقةِ، ووجْهُ الفائدة فيه امتحان ما يكتبه الحَفَظَةُ، وذلك أنَّه رُوِيَ أنَّ الحَفَظَةَ يرفَعُونَ مَا كَتَبُوهُ، ويُعَارِضُونَهُ بهذا الكِتَابِ المُشَارِ إلَيْه ليتحقَّقوا صِحَّة ما كتبوه، وقيل: المراد بقوله: إِلَّا فِي كِتابٍ: عِلْمِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ المحيطِ بكلِّ شيءٍ.
قال الفَخْرُ «3» : وهذا هو الأصْوَبُ، ويجوزُ أنْ يقالَ: ذَكر تعالى ما ذَكَر مِنَ الوَرَقَةِ وَالحَبَّة تنبيهاً للمكلَّفين على أمر الحساب. انتهى.
قال مَكِّيٌّ: قالَ عبْدُ اللَّه بْنُ الحارِثِ: ما في الأرْض شَجَرٌ، ولا مَغْرَزُ إبرةٍ إلاَّ علَيْها مَلَكٌ، موكَّل، يأتي اللَّه بعلْمها بيَبَسِها إذا يَبِسَتْ، ورُطُوبَتِها إذا رَطِبَتْ «4» .
وقيل: المعنى في كَتْبِها أنه لتعظيمِ الأمرِ، ومعناه: اعلموا أنَّ هذا الذي لَيْسَ فيه ثوابٌ ولا عقابٌ- مكتوبٌ فكيف ما فِيهِ ثوابٌ أو عقاب. انتهى من «الهداية» .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 60 الى 64]
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
__________
(1) أخرجه البخاري (8/ 141) كتاب «التفسير» ، باب وعنده مفاتيح الغيب، حديث (4627) ، والطيالسي (2/ 22- منحة) رقم (1966) ، وأبو يعلى (9/ 345) رقم (5456) كلهم من طريق الزهري، عن سالم، عن أبيه به.
وأخرجه البخاري (2/ 609) كتاب «الاستسقاء» ، باب لا يدري متى يجيء المطر إلا الله، حديث (1039) وأحمد (2/ 24، 52، 58) ، من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر به. [.....]
(2) ذكره ابن عطية (2/ 300) .
(3) ينظر: «مفاتيح الغيب» (13/ 10) .
(4) أخرجه الطبري (5/ 211) برقم (13311) ، وذكره ابن كثير (2/ 137) .(2/474)
وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ، يعني به: النّوم، ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ، أي: مَا كَسَبْتم بالنَّهار، ويحتمل أنْ يكون جَرَحْتُمْ هنا من الجرح كأن الذنْبَ جرح في الدِّين، والعربُ تقولُ:
............ ... وَجُرْحُ اللّسان كجرح اليد «1»
ويَبْعَثُكُمْ: يريد به الإيقاظَ، والضميرُ في فِيهِ عائدٌ على النهار قاله مجاهد وغيره «2» ، ويحتملُ أنْ يعود الضمير على التوفِّي، أي: يوقظُكُم في التوفِّي، أي: في خلالِهِ وتضاعِيفِهِ قاله عبد الله بن «3» كثير.
ولِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى: المراد به آجالُ بني آدمَ، ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ يريدُ:
بالبَعْثِ والنشورِ، ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ، أي: يُعْلِمُكُمْ إعلامَ توقيفٍ، ومحاسبةٍ، ففي هذه الآية إيضاحُ الآياتِ المنصوبةِ للنَّظَر، وفيها ضَرْبُ مثالٍ للبعْثِ من القبور لأن هذا أيضاً إماتةٌ وبعْثٌ على نَحوٍ مَّا.
وقوله سبحانه: وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ: القاهرُ إنْ أُخِذَ صِفَةَ فِعْلٍ، أي: مظهر القَهْر بالصواعقِ والرياحِ والعذابِ، فيصحُّ أنْ تجعل فَوْقَ ظرفيةً للجهةِ لأن هذه الأشياء إنما تعاهَدَها العبادُ مِنْ فوقهم، وإنْ أُخِذَ الْقاهِرُ صفَةَ ذَاتٍ، بمعنى القُدْرة والاستيلاء، ف فَوْقَ: لا يجوزُ أنْ تكون للجهةِ، وإنما هي لعلُوِّ القَدْر والشِّأن على حد ما تقولُ: اليَاقُوتُ فَوْقَ الحديد، والأحرار فوق العبيد، ويُرْسِلُ عَلَيْكُمْ: معناه: يبثّهم فيكم، وحَفَظَةً: جمع حَافِظٍ، والمراد بذلكَ الملائكةُ الموكَّلون بكَتْبِ الأعمال، ورُوِيَ أنهم الملائكةُ الَّذين قالَ فيهِمُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يتعاقب فيكم ملائكة باللّيل وملائكة
__________
(1) عجز بيت لامرىء القيس وصدره: [المتقارب]
ولو عن نثا غيره جاءني ... ............... ..............
ينظر: «ديوانه» (185) ، «الخصائص» (1/ 21) ، «الدر المصون» (1/ 265) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 213) برقم (13318) ، وذكره ابن عطية (2/ 300) ، وذكره ابن كثير (2/ 138) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 30) وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد بنحوه.
(3) ذكره ابن عطية (2/ 300) ، وذكره ابن كثير (2/ 138) بنحوه.(2/475)
بِالنَّهَارِ» «1» وقال السُّدِّيُّ وقتادة «2» ، وقال بعْض المفسِّرين: حَفَظَةً يَحفظُونَ الإنسانَ مِنْ كلِّ شيءٍ حتى يأتي أجله، والأول أظهر.
وقرأ «3» حمزةُ وحْده: «تَوَفَّاهُ» .
وقوله تعالى: رُسُلُنا: يريد به على ما ذكر ابنُ عباس، وجميعُ أهل التأويل:
ملائكةً مقترنينَ بمَلَكِ المَوْت، يعاونونه ويَأْتَمِرُونَ له «4» ، ثُمَّ رُدُّوا، أي: العبادُ، إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ، وقوله: الْحَقِّ: نعْتٌ ل مَوْلاهُمُ، ومعناه: الذي لَيْسَ/ بباطلٍ، ولا مَجَاز، أَلا لَهُ الْحُكْمُ: كلامٌ مضمَّنه التنبيهُ، وهَزُّ النفوسِ، وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ:
قيل لِعَليٍّ (رضي اللَّه عنه) : كَيْفَ يُحَاسِبُ اللَّهُ العِبَادَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ؟! قَالَ: كَمَا يَرْزُقُهُمْ فِي الدُّنْيَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ» «5» .
وقوله تعالى: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ...
الآية: هذا تَمَادٍ في توبيخِ العادِلِينَ باللَّه الأوثانَ، وتركِهِمْ عبادَةَ الرَّحْمَنِ الذي يُنْجِي من الهَلَكَاتِ، ويُلْجَأُ إليه في الشّدائد، ودفع الملمّات، وظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ: يريدُ بها شدائِدَهُما، فهو لفظٌ عامٌّ يستغرقُ ما كان مِنَ الشدائدِ بظلمةٍ حقيقيةٍ، وما كان بغَيْر ظلمةٍ، والعَرَبُ تقول: عَامٌ أَسْوَدُ، ويَوْمٌ مُظْلِمٌ، ويَوْمٌ ذو كواكِبَ، يريدُونَ به الشِّدَّة، قال قتادة وغيره: المعنى: مِنْ كَرْبِ البَرِّ والبَحْرِ، وتَدْعُونَهُ: في موضعِ الحالِ، والتَّضَرُّعُ: صفَةٌ باديةٌ على الإنسانِ، وخُفْيَة: معناه: الاختفاء «6» ، وقرأ عاصمٌ «7» في رواية أبي بكر: «وخفية»
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) أخرجه الطبري (5/ 214) رقم (13326، 13327) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 301) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 30) وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن السدي بنحوه، وكذلك عزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة بنحوه.
(3) ينظر: «السبعة» (259) ، و «الحجة» (3/ 321) ، و «معاني القراءات» (1/ 361) ، و «شرح شعلة» (363) ، و «العنوان» (91) ، و «حجة القراءات» (254) .
(4) أخرجه الطبري (5/ 215) برقم (13332، 13333، 13338) ، وذكره ابن عطية (2/ 301) ، وذكره ابن كثير (2/ 138) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 30) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس.
(5) ذكره ابن عطية (2/ 301) .
(6) أخرجه الطبري (5/ 216) برقم (13346) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 302) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 31) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة.
(7) ينظر: «الحجة» (3/ 316) ، و «إعراب القراءات» (1/ 159) ، و «حجة القراءات» (255) ، و «معاني-(2/476)
قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
- بكسر الخاء-، وقرأ الأعمشُ: «وخِيفَةً» من الخَوْف «1» .
وقوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها ... الآية: سبق في المُجَادَلة إلى الجَوَابِ إذْ لا محيدَ عنْه، وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ: لفظٌ عامٌّ أيضاً، ليتَّضِحَ العُمُومُ الذي في «الظلماتِ» ، ثُمَّ أَنْتُمْ، أي: ثم بَعْدَ معرفتكم بهذا كلِّه، وتحقّقكم له، أنتم تشركون.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 65 الى 67]
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67)
وقوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ... الآية: هذا إخبارٌ يتضمَّن الوعيدَ، والأظهرُ مِنْ نَسَقِ الآياتِ: أنَّ هذا الخطابَ للكفَّار الذين تَقَدَّم ذكرهم، وهو مَذْهَبُ الطبريِّ «2» .
وقال أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ، وجماعة: هو للمؤمِنِينَ، وهم «3» المرادُ.
وهذا الاختلافُ إنما هو بحَسَبِ ما يَظْهَرُ منْ أنَّ الآية تتناوَلُ معانِيهَا المشركِينَ والمؤمنينَ وفي «البخاريِّ» وغيره مِنْ حَدِيثِ جابر وغيره: «أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، لما نزلَتِ الآيةُ:
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ، قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، فلما نزلَتْ:
أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ، قَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِكَ، فلما نزلَتْ: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ قال: هذه أهونُ أو أيَسر» «4» فاحتج بهذا الحديثِ من قال: إنّها
__________
- القراءات» (1/ 362) ، و «العنوان» (91) ، و «شرح الطيبة» (4/ 258) ، و «شرح شعلة» (364) . [.....]
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 302) ، و «البحر المحيط» (4/ 154) ، و «الدر المصون» (3/ 84) .
(2) ينظر الطبري (5/ 223) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 213) برقم (13384) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 302) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 32) وعزاه لابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، وأبي نعيم من طريق أبي العالية، عن أبي بن كعب بنحوه.
(4) أخرجه البخاري (13/ 309) كتاب «الاعتصام» ، باب قول الله تعالى: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً، حديث (7313) والترمذي (5/ 261) كتاب «التفسير» ، باب ومن سورة الأنعام، حديث (3067) ، وأحمد (3/ 309) والحميدي (1259) ، وأبو يعلى (3/ 362) رقم (1829) من طريق سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه البخاري (8/ 142) كتاب «التفسير» ، باب قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ، حديث (4628) من طريق حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر.(2/477)
وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
نَزَلَتْ فِي المؤمنينَ، قال الطَّبريُّ «1» وغيره: مُمْتَنِعٌ أن يكون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تعوَّذ لأمَّته مِنْ هذه الأشياءِ الَّتي توعَّد بها الكُفَّار، وهَوَّنَ الثالثةَ لأنَّها بالمعنى هي التي دعا فيها، فمنع حسب حديثِ «المُوطَّإ» وغيره، ومِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ: لفظٌ عامٌّ للمنطبقِينَ علَىَ الإنسان، وقال السُّدِّيُّ، عن أبي مالِكٍ: مِنْ فَوْقِكُمْ: الرَّجْم، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ
: الخَسْف «2» وقاله سعيدُ بن جُبَيْر ومجاهد «3» .
وقوله سبحانه: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً: معناه: يخلِّطكم فِرَقاً، والبأْسُ: القَتْل، وما أشبهه من المَكَارِهِ، وفي قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ: استرجاعٌ لهم، وإنْ كان لفظها لَفْظَ تعجيب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم فمضمَّنها أنَّ هذه الآياتِ والدلائلَ إنما هي لاستصرافهم عن طريقِ غَيِّهم، والفِقْهُ: الفَهْمُ.
وقوله تعالى: وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ، الضمير في بِهِ عائدٌ على القُرآن الذي فيه جاءَ تصريفُ الآياتِ قاله السُّدِّيُّ «4» ، وهذا هو الظاهرُ، ويحتملُ أنْ يعود الضميرُ على الوَعِيدِ الذي تضمَّنَتْه الآيةُ، ونحا إليه الطبريُّ «5» ، وقوله: قُلْ لَسْتُ/ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ: معناه: لسْتُ بمدفوعٍ إلى أخْذكم بالإيمان والهدى، وهذا كان قَبْلَ نزول آياتِ الجهادِ والأمْرِ بالقتالِ، ثم نُسِخَ.
وقوله سبحانه: لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ: أيْ: غايةٌ يعرف عندها صدقه من كذبه، وسَوْفَ تَعْلَمُونَ: تهديد محض ووعيد.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 69]
وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
وقوله تعالى: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ
__________
(1) ينظر الطبري (5/ 223) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 217) برقم (13347) بنحوه، (13350) بنحوه وذكره ابن عطية (2/ 303) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 217) برقم (13348) ، (13349) بنحوه وذكره ابن عطية (2/ 303) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 32) وعزاه لابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد بنحوه.
(4) أخرجه الطبري (5/ 224) رقم (13385) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 303) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 37) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن السدي بنحوه.
(5) ينظر الطبري (5/ 224) .(2/478)
: هذا خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمؤمنون داخلُونَ في الخطاب معه، هذا هو الصحيحُ لأنَّ علَّة النهْي، وهي سماعُ الخَوْض في آياتِ اللَّه، تَشْمَلُهُمْ وإيَّاه، فأُمِرَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم هو والمؤمنون أنْ ينابذُوا الكُفَّار بالقيام عنهم، إذا استهزءوا وخاضوا ليتأدَّبوا بذلك، ويدَعُوا الخَوْضَ والاستهزاءَ، قلْتُ: ويدلُّ على دخولِ المؤمنينَ مع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الخطابِ- قولُهُ تعالى: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [النساء: 140] . انتهى.
والخَوْضُ: أصله في الماءِ، ثم يستعملُ بعدُ في غمرات الأشياء التي هي مجاهلُ تشبيهاً بغَمَرَات الماء.
وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ: «إما» : شرط، وتلزمها النونُ الثقيلة في الأغلب، وقرأ ابن عامر «1» وحده: «يُنَسِّيَنَّكَ» - بتشديدِ السينِ، وفتحِ النونِ-، والمعنى واحدٌ إلا أن التشديد أكثر مبالغةً، والذِّكْرى والذِّكْر واحدٌ في المعنى، ووصْفُهم ب الظَّالِمِينَ متمكِّن لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه، وفَأَعْرِضْ في هذه الآية: بمعنى المفارقة على حقيقة الإعراض، وأكملِ وجوهه ويدُلُّ على ذلك: فَلا تَقْعُدْ.
وقوله سبحانه: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وروي أنه لما نزلَتْ: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ [النساء: 140] قال المؤمنون: إذا كنا لا نقْرَبُ المشركين، ولا نسمع أقوالهم، فلا يمكننا طَوَافٌ ولا قضاءُ عبادةٍ في الحرمِ، فنزلَتْ لذلك: وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ ... الآية.
قال ع «2» : فالإباحة في هذا هي في القَدْر الذي يحتاجُ إلَيْه من التصرُّف بَيْن المشركين في عبادةٍ ونحوها، وقيل: إن هذه الآية الأخيرةَ ليْسَتْ إباحة بوجه، وإنما معناها: لا تَقْعُدوا معهم، ولا تَقْرَبوهم حتى تسمعوا استهزاءهم وخوضهم، وليس نهيكم عن القعود لأنَّ عليكم شيئاً من حسابهم، وإنما هو ذكرى لكم، ويحتملُ المعنى: ولكنْ ذكرى لعلَّهم إذا جانبتموهم، يتقون بالإمساكِ عن الاستهزاءِ، ويحتمل المعنى: ولكن
__________
(1) وحجته ما جاء في البخاري: «ما لأحدهم يقول: نسيت آية كيت وكيت، بل هو نسّي» .
ينظر: «حجة القراءات» (256) ، و «السبعة» (260) ، و «الحجة» (3/ 324) ، و «إعراب القراءات» (1/ 160) ، و «معاني القراءات» (1/ 363) ، و «العنوان» (91) ، و «شرح الطيبة» (4/ 259) ، و «شرح شعلة» (364) .
(2) ينظر: «المحرر» (2/ 304) .(2/479)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
ذكِّروهم ذكرى، وينبغي للمؤمن أنْ يمتثل حكم هذه الآية مع المُلْحِدِين، وأهْلِ الجدلِ والخَوْضِ فيه، وحكى الطبريُّ «1» ، عن أبي جعفر أنه قال: «لاَ تُجَالِسُوا أَهْلَ الخُصُومَاتِ فإنَّهُمْ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِ «2» اللَّهِ» ، وفي الحديث، عنه صلّى الله عليه وسلّم: «أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ المِرَاءَ وَإنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الكَذِبَ وإنْ كَانَ مَازِحاً، وبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقه» ، خَرَّجه أبو داود «3» . انتهى من «الكوكب الدري» ، وقد ذكرنا هذا الحديثَ من غير طريقِ أبي داود بلفظ أوضَحَ من هذا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 70 الى 73]
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
وقوله سبحانه: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً: هذا أمر بالمتاركة، وكان ذلك بحَسَب قلَّة المسلمين يومَئِذٍ، قال قتادة: ثم نُسِخَ ذلك، وما جرى مجراه بالقتَالِ «4» ، وقال مجاهد: الآيةُ إنما هي للتهديدِ والوعيدِ، فهي كقوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «5» [المدثر: 11] ، وليس فيها نَسْخٌ لأنها متضمنة خبراً، وهو التهديدُ، وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا، أيْ: خدعتهم من الغُرُور، وهو الأطماعُ بما لا يتحصَّل فاغتروا بنعم/ الله
__________
(1) ينظر الطبري (5/ 225) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 226) برقم (13395) ، وذكره ابن عطية (2/ 305) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 38) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وأبي نعيم في «الحلية» عن أبي جعفر.
(3) أخرجه أبو داود (2/ 668) كتاب «الأدب» باب في حسن الخلق، حديث (4800) من حديث أبي أمامة مرفوعا. [.....]
(4) أخرجه الطبري (5/ 228) برقم (13407، 13408) بنحوه، ذكره ابن عطية (2/ 305) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 39) ، وعزاه لعبد بن حميد، وأبي داود، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والنحاس عن قتادة بنحوه.
(5) أخرجه الطبري (5/ 228) برقم (13405) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 305) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 39) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد بنحوه.(2/480)
وإمهاله، وطَمَعُهُمْ ذلك فيما لم يتحصَّل من رحمته، واعلم أنَّ أعقلَ العقلاء مؤمنٌ مقبِلٌ على آخرته قد جَعَلَ الموْتَ نُصْبَ عينيه، ولم يغترَّ بزخارف الدنيا كما اغتر بها الحمقى، بل جعل همَّهُ واحداً هَمَّ المعادِ وما هو صائرٌ إليه وقد روى البَزَّار في مسنده، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنَّهُ قَالَ: «مَنْ جَعَلَ الهُمُومَ هَمًّا وَاحِداً هَمَّ المَعَادِ، كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ الدُّنْيَا، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الهُمُومُ هُمُومُ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ اللَّهُ تعالى فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ» «1» . انتهى من «الكوكب الدريِّ» .
وقوله سبحانه: وَذَكِّرْ بِهِ: أي بالقرآن، وقيل: الضمير في بِهِ عائد على الدّين، وأَنْ تُبْسَلَ في موضع المفعولِ له، أي: لَئِلاَّ تُبْسَلَ، ومعناه: تُسْلَمَ قاله الحسن وعكرمة «2» وقال قتادةُ: تُحْبَسَ وتُرْهَنْ «3» ، وقال ابن عبَّاس: تُفْضَح «4» ، وقال ابن زيد «5» : تجزى، وهذه كلُّها متقاربةُ المعنى ومنه قول الشّنفرى «6» : [الطويل]
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (1/ 95) المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، حديث (257) والعقيلي في «الضعفاء» (4/ 309- 310) وأبو نعيم في «الحلية» (2/ 105) من طريق نهشل بن سعيد، عن الضحاك، عن الأسود، عن ابن مسعود به.
وقال أبو نعيم: غريب من حديث الأسود لم يرفعه إلا الضحاك، ولا عنه إلا نهشل.
وقال البوصيري: إسناده ضعيف، فيه نهشل بن سعيد قيل: إنه يروي المناكير. وقيل: بل الموضوعات.
وللحديث شاهد من حديث ابن عمر.
أخرجه الحاكم (2/ 443) وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(2) أخرجه الطبري (5/ 228) برقم (13409، 13410) ، وذكره البغوي (2/ 106) عن عكرمة، وذكره ابن عطية (2/ 305) وذكره ابن كثير (2/ 144) عن الحسن، وعكرمة.
(3) أخرجه الطبري (5/ 229) برقم (13415، 13416) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 106) ، وذكره ابن عطية (2/ 305) ، وذكره ابن كثير (2/ 144) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 40) ، وعزاه لعبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة.
(4) أخرجه الطبري (5/ 229) رقم (13418) ، وذكره ابن عطية (2/ 305) ، وذكره ابن كثير (2/ 144) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 39) وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(5) أخرجه الطبري (5/ 229) برقم (13417) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 106) ، وذكره ابن عطية (2/ 305) ، وذكره ابن كثير (2/ 144) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 40) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن ابن زيد بنحوه.
(6) عمرو بن مالك الأزدي، من قحطان شاعر جاهلي، يماني، من فحول الطبقة الثانية. كان من فتاك العرب وعدّائيهم. وهو أحد الخلعاء الذين تبرأت منهم عشائرهم. قتله بنو سلامان. وهو صاحب «لامية العرب» التي مطلعها: [الطويل]
«أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل» -(2/481)
هُنَالِكَ لاَ أَرْجُو حَيَاةً تَسُرُّنِي ... سَمِيرَ اللَّيَالِي مُبْسَلاً بِالْجَرَائِرِ «1»
وباقي الآية بيِّن.
وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ، أي: وإن تعط كلَّ فدية، وإنْ عظُمت، فتجعلها عِدْلاً لها، لا يُقْبَل منها، وقال أبو عُبَيْدة: وَإِنْ «2» تَعْدِلْ، هو من العَدْلِ المضادِّ للجور وردَّه الطبريُّ «3» بالإجماع على أنَّ توبة الكافر مقبولةً.
قال ع «4» : ولا يلزم هذا الردُّ، لأنَّ الأمر إنما هو يوم القيامة، ولا تقبلُ فيه توبة، ولا عملٌ. قلْتُ: وأجلى من هذا أنْ يحمل كلامُ أبي عُبَيْدة على معنى أنَّه لا يقبلُ منها عدلُها لاختلال شَرْطه، وهو الإيمان، وأُبْسِلُوا: معناه: أُسْلِمُوا بما اجترحوه من الكُفْر، والحميمُ: الماءُ الحارُّ ومنه: الحَمَّام، والحَمَّة.
وقوله سبحانه: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا، المعنى: قل في احتجاجك: أنطيع رأيكم في أنْ ندعو من دون اللَّه، والدعاءُ: يعم العبادة وغيرها لأن مَنْ جعل شيئاً موضعَ دعائه، فإياه يَعْبُدُ، وعليه يتوكّل، وما لاَ يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا: يعني:
الأصنام، وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا: تشبيهٌ بمَشْيِ القهقرى، وهي المِشْية الدنيَّة فاستعمل المَثَل بها فيمَنْ رجَعَ مِنْ خيرٍ إلى شَرٍّ.
وقوله سبحانه: كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ في الكلام حذفٌ، تقديره: ردًّا كَرَدِّ الذي، واسْتَهْوَتْهُ: بمعنى: استدعت هواه وأمالته، وهَدانَا: بمعنى: أرشَدَنَا، فسياقُ هذا المثل كأنه قال: أيَصْلُحُ أن نكون بعد الهدى نعبد الأصنام فيكون ذلك منَّا ارتدادا على العَقِبِ فنكون كَرَجُلٍ على طريق واضحٍ، فاستهوته عنه الشياطينُ، فخرج عنه إلى دعوتهم، فبقي حائرا.
__________
- شرحها الزمخشري في «أعجب العجب» .
ينظر: «الأعلام» (5/ 85) ، «الأغاني» (21/ 134- 143) ، «المقتطف» (6/ 186) ، «خزانة الأدب» (2/ 16- 18) .
(1) البيت في ديوانه (36) ، و «المغتالين» لابن حبيب (873) ، و «الحماسة» (242) ، «العقد الفريد» (1/ 53) ، «محاضرات الراغب» (1287) ، وابن أبي الحديد (2/ 294) ، وفي «الحيوان» (6/ 153) لتأبط شرّا، وفي «المرتضى» (3/ 158) ،
(2) ذكره ابن عطية (2/ 306) .
(3) ينظر الطبري (5/ 230) .
(4) ينظر: «المحرر» (2/ 306) .(2/482)
وقوله: لَهُ أَصْحابٌ: يريد: له أصحابٌ على الطريق الذي خَرَجَ منه، فيشبَّه بالأصحاب على هذا المؤمنون الذين يَدْعُونَ مَن ارتد إلى الرجوع إلى الهدى، وهذا تأويلُ مجاهد وابن عباس «1» ، وائْتِنا: من الإتيان، بمعنى المجيء، وقول من قال: إن المراد بالذي في هذه الآية: عبدُ الرحمنِ بْنُ أبي بَكْرٍ: وبالأصحاب: أبواه- قول ضعيفٌ يردُّه قول عائشة في الصحيحِ: «مَا نَزَلَ فِينَا مِنَ القُرآنِ شَيْءٌ إلاَّ بَرَاءَتِي» ، قلتُ: تريد وقصَّة الغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ [التوبة: 40] ، وقوله: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ ...
[النور: 22] إذ نزلَتْ في شأن أبي بكر، وشأن مِسْطَحٍ «2» .
قال ع «3» : حدثني أبي (رضي الله عنه) قال: سمعْتُ الفقيه الإمام أبا عبد اللَّه المعروفَ بالنحْويِّ المجاوِرِ بمكَّة، يقول: مَنْ نازع أحداً من المُلْحِدِينَ، فإنما ينبغي أن يردَّ عليه بالقرآن والحديث فيكونُ كَمَنْ يدعو إلى الهدى بقوله: ائْتِنا، ومَنْ ينازعهم بالجَدَل، ويحلِّق عليهم به، فكأنه بَعُدَ من الطريق الواضح أكْثَرَ، ليردَّ هذا الزائغَ/، فهو يخافُ علَيْه أنْ يضلَّ.
قال ع «4» : وهذال انتزاعٌ حسنٌ جدًّا، وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، أي: لم يخلقْها باطلاً لغير معنًى، بل لمعانٍ مفيدةٍ، وحقائقَ بيِّنة.
وقوله سبحانه: وَيَوْمَ يَقُولُ «يوم» : نصب على الظرْفِ، وتقديرُ الكلامِ: واذكر الخَلْق والإعادة يَوْمَ، وتحتمل الآية مع هذا أنْ يكون معناها، واذكر الإعادة يَوْمَ يقولُ اللَّه للأجساد: كوني معادةً.
وقوله تعالى: يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ، الجمهورُ أنَّ الصُّورَ هو القَرْن الذي قال فيه
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 233) برقم (13431) بنحوه عن مجاهد، وذكره ابن عطية (2/ 307) . [.....]
(2) مسطح بن أثاثة: بن عباد بن المطلب بن عبد مناف بن قصيّ المطلبيّ. كان اسمه عوفا، وأما مسطح فهو لقبه وأمه بنت خالة أبي بكر، أسلمت، وأسلم أبوها قديما وكان أبو بكر يمونه لقرابته منه، ومات مسطح سنة أربع وثلاثين في خلافة عثمان ويقال: عاش إلى خلافة عليّ، وشهد معه صفّين، ومات في تلك السّنة سنة سبع وثلاثين.
ينظر: «الإصابة» (6/ 74) ، «طبقات ابن سعد» (3/ 1/ 36) ، «أسد الغابة» (ت 4872) ، «الاستيعاب» (ت 2579) ، «حلية الأولياء» (2/ 20) ، «تهذيب الأسماء واللغات» (2/ 89) ، «العبر» (1/ 35) .
(3) ينظر: «المحرر» (2/ 307) .
(4) ينظر: «المحرر» (2/ 308) .(2/483)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّهُ يُنْفَخُ فِيهِ لِلصَّعْقِ ثُمَّ لِلْبَعْثِ» «1» ، وباقي الآية بيّن.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 75]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)
وقوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ، قال الطبري «2» : نبه الله نبيّنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم على الاقتداء بإبراهيم في محاجّته قومه إذا كانوا أهل أصنام، وكان قوم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أهل أصنام، وقوله: أَصْناماً آلِهَةً:
مفعولانِ، وذُكِرَ أن آزر أبا إبراهيِمَ- عليه السلام- كَانَ نَجَّاراً محسناً، ومهنْدِساً، وكان نُمْرُود يتعلَّق بالهندسةِ والنجُومِ، فحَظِيَ عنده آزر لذلك، وكان على خُطَّةِ عملِ الأَصنامِ تُعْمَلُ بأمره وتَدْبيره، ويَطْبَع هو في الصنمِ بخَتْمٍ معلومٍ عنده وحينئذٍ يُعْبَدُ ذلك الصنمُ، فلما نشأ إبراهيمُ ابنه على الصفة التي تأتي بعْدُ، كان أبوه يكلِّفه ببيعها، فكان إبراهيم ينادِي عليها: مَنْ يَشْتَري ما يضرُّه ولا ينفعه، ويستخفُّ بها، ويجعلها في الماءِ منكوسةً، ويقول لها: اشربي، فلما اشتهر أمْرُه بذلك، وأخذ في الدعاءِ إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، قال لأبيه هذه المقالة، وأَراكَ في هذا الموضعِ: يشترك فيها القلبُ والبصرُ، ومُبِينٍ: بمعنى:
ظاهر واضح.
وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: الآيةُ المتقدِّمةُ تقْضِي بهدايةِ إبْرَاهيم- عليه السلام-، والإشارةُ ب «ذلك» هي إلى تلك الهداية، أي: وكما هدَيْنَاه إلى الدعاء إلى الله وإنكار الكفر، أريناه ملكوت، ونُرِي: لفظها: الاستقبال، ومعناها: المضيُّ، وهذه الرؤْية قيل: هي رؤية البَصَر، ورُوِيَ في ذلك أنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ فرج لإِبراهيم- عليه السلام- السمواتِ والأرْضَ حتى رأَى ببَصَره الملكوتَ الأعلى، والملكوتَ الأسفلَ وهذا هو قولُ مجاهدٍ «3» قال: تفرّجت له السموات والأرضون، فرأى
__________
(1) أخرجه البخاري (8/ 116) كتاب «التفسير» ، باب قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ حديث (4604) ، ومسلم (4/ 1843) كتاب «الفضائل» ، باب من فضائل موسى عليه السلام، حديث (159/ 2373) من حديث أبي هريرة.
(2) ينظر: الطبري (5/ 238) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 242) برقم (13454) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 311) وذكره ابن كثير (2/ 150) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 44) وعزاه لآدم بن أبي إياس، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والبيهقي عن مجاهد بنحوه.(2/484)
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
مكانه في الجنَّة، وبه قال سعيدُ بنُ جُبَيْر، وسلمانُ الفارسيُّ «1» ، وقيل: هي رؤيةَ بَصرٍ في ظاهر الملكوت، وقع له معها من الاعتبارِ ورؤيةِ القَلْب: ما لم يقعْ لأحد من أهل زمنه الذين بُعِثَ إليهم قاله ابن عباس «2» وغيره، وقيل: هي رؤية قَلْب، رأى بها ملكوتَ السمواتِ والأرضِ بفكرته ونظره، ومَلَكُوتَ: بناءُ مبالغةٍ، وهو بمعنى المُلْك، والعربُ تقول: لفلانٍ مَلَكُوتُ اليَمَنِ، أي: مُلْكُه، واللام في: لِيَكُونَ: متعلِّقة بفعلٍ مؤخَّر، تقديره: وليكونَ من الموقنين، أَرَيْنَاهُ، والمُوقُنِ: العالِمُ بالشيء علماً لا يمكنُ أنْ يطرأ له فيه شك، وروي عن ابنِ عبَّاس في تفسير: وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ قال: جلى له الأمورَ سرَّها وعلانيتَها، فلم يَخْفَ عليه شيْءٌ من أعمال الخلائق «3» ، فلما جعل يلْعَنُ أصحابَ الذنوبِ، قال اللَّه له: إنَّكَ لاَ تَسْتَطِيعُ هذا، فَرَدَّه لا يرى أعمالهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 76 الى 79]
فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
وقوله سبحانه: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي ... الآية: جَنَّ اللَّيْلُ: ستَرَ وغطى بظلامه، ذهب ابن عباس/ وناسٌ كثيرون إلى أنَّ هذه القصة وقعَتْ في حال صباه وقبل البلوغ والتكليفِ «4» ، ويحتملُ أنْ تكون وقعتْ له بعد بلوغه وكونه مكلَّفاً، وحكى الطبريُّ هذا عَنْ فرقةٍ، وقالتْ: إنه استفهم قومَهُ على جهة التوقيفِ والتوبيخِ، أي:
هذا ربِّي، وحكي أن النمرودَ جَبَّارَ ذلك الزمان رأى له منجِّموه أنَّ مولوداً يُولَدُ في سَنَةِ كذا في عمله يكون خَرَابُ المُلْك على يديه، فجعل يَتَتَبَّعُ الحبالى، ويوكِّل بهن حُرَّاساً، فمن وضَعَتْ أنثى، تُركَتْ، ومَنْ وضعتْ ذكَراً، حمل إلى المَلِك فذَبَحه، وأن أمَّ إبراهيمَ حَمَلَتْ، وكانَتْ شابَّة قويةً، فسَتَرَتْ حملها، فلما قربت ولادتُها، بعثَتْ أبا إبراهيم إلى
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 242) رقم (13455، 13456) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 108) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 311) ، وذكره ابن كثير (2/ 150) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 45) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وأبي الشيخ عن سلمان.
(2) أخرجه الطبري (5/ 241) رقم (13445) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 108) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 311) ، وذكره ابن كثير (2/ 150) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 243) رقم (13464) ، وذكره ابن عطية (2/ 312) ، وذكره ابن كثير (2/ 150) .
(4) أخرجه الطبري (5/ 245) رقم (13468) بنحوه عن ابن عباس، وذكره ابن كثير (2/ 151) بنحوه.(2/485)
سَفَر، وتحيَّلت لمضيِّه إليه، ثم خرجَتْ هي إلى غارٍ، فولدَتْ فيه إبراهيم، وتركته في الغار، وكانَتْ تتفقَّده فوجدَتْه يتغذى بأنْ يمصَّ أصابعه، فيخرج له منها عسلٌ وسَمْنٌ ونحو هذا، وحُكِيَ: بل كان يغذِّيه مَلَكٌ، وحُكِيَ: بل كانَتْ أمه تأتيه بألبان النِّساء التي ذُبِحَ أبناؤهن، واللَّه أعلم، أيُّ ذلك كان، فشبَّ إبراهيم أضعافَ ما يشب غيره، والمَلِكُ في خلالِ ذلك يحسُّ بولادته، ويشدِّد في طلبه، فمكَثَ في الغار عَشَرَةَ أعوامٍ، وقيل: خمسَ عَشْرة سنةً، وأنه نظر أول ما عَقَل من الغارِ، فرأى الكواكِبَ، وجرَتْ قصة الآية، واللَّه أعلم «1» .
فإن قلنا بأنه وقعَتْ له القصّة في الغار في حال الصّبوة، وعدمِ التكليفِ على ما ذهب إليه بعض المفسّرين، ويحتمله اللفظ، فذلك ينفسم على وجْهين: إما أنْ يجعل قوله:
هذا رَبِّي تصميماً واعتقادا، وهذا باطلٌ لأن التصميم على الكُفْر لم يقع من الأنبياء- صلوات اللَّه عليهم-، وإما أنْ نجعله تعريضاً للنظر والاستدلال كأنه قال: أَهَذَا المُنِيرُ البهيُّ ربِّي إن عضّدت ذلك الدلائل.
وإنا قلنا إن القصَّة وقَعَتْ له في حال كِبَرِهِ، وهو مكلَّف، فلا يجوز أنْ يقولَ هذا مصمِّماً ولا مُعَرِّضاً للنظر لأنها رتبة جهلٍ أو شكٍّ، وهو- عليه السلام- منزَّه معصوم من ذلك كلِّه فلم يبق إلاَّ أنْ يقولها على جهة التَّقْرير لقومه والتوبيخ لهم، وإقامةِ الحُجَّة عليهم في عبادة الأصنام كأنه قال: أَهَذَا المُنِيرُ ربِّي، وهو يريد: على زعمكم كما قال تعالى:
أَيْنَ شُرَكائِيَ [النحل: 27] ، أي: على زعمكم، ثم عَرَضَ إبراهيم عليهم مِنْ حَرَكَة الكوكب وأفولِهِ أَمارةَ الحدوث، وأنه لا يصلحُ أن يكون ربًّا، ثم في آخر أعظم منه وأحرى كذلك، ثم في الشَّمْس كذلك فكأنه يقول: فإذا بان في هذه المُنِيرَاتِ الرفيعةِ أنها لا تصلح للربوبيَّة، فأصنامكم التي هي خشبٌ وحجارةٌ أحرى أنْ يبين ذلك فيها ويَعْضُدُ عندي هذا التأويلَ قولُهُ: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ، قلت: وإلى ترجيحِ هذا أشار عِيَاضٌ في «الشفا» قال: وذهب معظمُ الحُذَّاق من العلماء والمفسرين إلى أن إبراهيم إنما قال ذلك مبكِّتاً لقومه، ومستدلاًّ عليهم.
قال ع «2» : ومَثَّلَ لهم بهذه الأمور لأنهم كانوا أصْحَابَ علْمِ نجومٍ ونظرٍ في الأفلاك، وهذا الأمر كلُّه إنما وقع في ليلةٍ واحدةٍ، رأى الكوكب، وهو الزّهرة في قول
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 312) .
(2) ينظر: «المحرر» (2/ 313) .(2/486)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
قتادة «1» ، وقال السُّدِّيُّ: هو المشتري جانحاً إلى الغروب «2» ، فلما أَفَلَ بزغ القمر، وهو أول طلوعه، فَسَرَى الليل أجْمَعُ، فلما بزغَتِ الشمسُ، زال ضوء القمرِ قبلها لانتشار الصباحِ، وخَفِيَ نوره، ودنا أيضاً مِنْ مغربه، فسمى ذلك أفولاً لقربه من الأُفُولِ التامِّ على تجوُّز في التسمية، وهذا الترتيبُ يستقيمُ في الليلة الخامسةَ عَشَرَ من الشَّهْر إلى ليلة عشْرين، وليس يترتَّب في ليلةٍ واحدة كما/ أجمع أهل التفسير، إلاَّ في هذه الليالي، وبذلك يصحُّ التجوُّز في أفول القمر، «وأَفَلَ» في كلام العرب: معناه: غاب، وقيل: معناه، ذَهَبَ، وهذا خلافٌ في العبارة فقَطْ، والبزوغُ في هذه الأنوارِ: أوَّلُ الطلوع، وما في كَوْنِ هذا الترتيب في ليلةٍ من التجوُّز في أفول القمر لأنَّ أفوله لو قدَّرناه مَغِيبَهُ، لكان ذلك بَعْد بزوغ الشمسِ، وجميع ما قلناه يعطيه الاعتبار، ويَهْدِيَنِي: يرشدْنِي وهذا اللفظ يؤيِّد قول من قال: إن القصة في حالِ الصِّغَر، والقومُ الضالُّون هنا عبدةُ المخلوقاتِ كالأصنام وغيرها، ولما أفَلَتِ الشمسُ، لم يبقَ شيءٌ يمثِّل لهم به، فظهرَتْ حُجَّته، وقَوِيَ بذلك على منابذتهم والتبرِّي من إشراكهم، وقوله: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ: يؤيِّد قول من قال: إن القصة في حال الكبر والتكليف، ووَجَّهْتُ وَجْهِيَ، أي: أقبلْتُ بقَصْدي وعبادتِي وتوحيدِي وإيمانِي للذي فطر السموات والأرض، أي: اخترعها وحَنِيفاً: أي مستقيماً، والحَنَف: المَيْل فكأنه مال عن كلّ جهة إلى القوام.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 82]
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82)
وقوله تعالى: وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ، أي: أتراجعوني في الحجَّة في توحيد اللَّه، وَقَدْ هَدانِ، أي: قد أرشدني إلى معرفتِهِ وتوحيده، وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ، الضميرُ في بِهِ يعودُ على اللَّهِ والمعنى: ولا أخافُ الأصنامُ التي تشركونَهَا باللَّه في الربوبيَّة، ويحتمل أنْ يعود على «ما» ، والتقديرُ: ما تشركون بسَبَبِهِ، وقوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً: استثناء ليس من الأوّل، وشَيْئاً: منصوب
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 313) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 46) وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة بنحوه.
(2) ذكره ابن عطية (2/ 313) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 46) وعزاه لابن أبي حاتم، عن السدي بنحوه. [.....](2/487)
وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86)
ب يَشاءَ، ولما كانتْ قوة الكلامِ أنه لا يخَافُ ضرراً، استثنى مشيئةَ ربِّه تعالى في أن يريده بضرّ، وعِلْماً: نصبٌ على التمييز، وهو مصدرٌ بمعنى الفاعل كما تقول العرب: تَصَبَّبَ زَيْدٌ عَرَقاً، المعنى: تصبَّبَ عَرَقُ زَيْدٍ فكذلك المعنى هنا وِسَعِ علْمُ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ، أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ: توقيفٌ وتنبيه وإظهار لموضعِ التقصيرِ منهم، وقوله: وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ ... الآيةَ إلى تَعْلَمُونَ، هي كلُّها من قول إبراهيم- عليه السلام- لقومه، وهي حجته القاطعة لهم، والمعنى: وكيف أخاف أصناماً لا خَطْب لها، إذ نبذتُها، ولا تخافُونَ أنتم اللَّهَ عزَّ وجلَّ، وقد أشركتم به في الربوبيَّة مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً والسلطانُ: الحُجَّة، ثم استفهم على جهة التقرير: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ، مني ومنكم أَحَقُّ بِالْأَمْنِ، قال أبو حَيَّان «1» : وَكَيْفَ: استفهام، معناه التعجّب والإنكار. انتهى.
وقوله سبحانه: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ ... الآية، قال ابنُ إسحاق، وابنُ زيدٍ، وغيرهما: هذا قولٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ ابتداء حُكْمٍ فَصْلٍ عامٍّ لِوَقْتِ مُحاجَّة إبراهيم وغيره، ولكلِّ مؤمن «2» تقدَّم أو تأَخَّر.
قال ع «3» : هذا هو البيِّن الفصيحُ الذي يرتبطُ به معنى الآية، ويحسُنُ رصْفها، وهو خبرٌ من اللَّه عزَّ وجلَّ، ويَلْبِسُوا: معناه: يَخْلِطُوا، والظُّلْم في هذا الموضع:
الشِّرْك تظاهرت بذلك الأحاديثُ الصحيحةُ، وفي قراءة «4» مجاهدٍ: «وَلَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُمْ بِشِرْكٍ» وَهُمْ مُهْتَدُونَ، أي: راشدون.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 83 الى 86]
وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86)
وقوله تعالى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ: «تلك» : إشارةٌ إلى هذه الحجَّة المتقدِّمة.
وقوله سبحانه: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ، «الدرجات» : أصلها في الأجسام، ثم
__________
(1) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 175) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 250) رقم (13477، 13478) بنحوه وذكره ابن عطية (2/ 316) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 316) .
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 315) ، و «البحر المحيط» (4/ 175- 176) .(2/488)
وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
تستعملُ في المراتِبِ والمنازل المعنويَّة.
وقوله سبحانه: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ... الآية: وَوَهَبْنا: عطْفٌ على «آتينا» وإسحاق ابنُهُ من سارَّة، ويعقوبُ هو ابْنُ إسحاقَ، وقوله: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ: المعنى:
وهَدَيْنَا من ذرِّيته، والضمير في ذُرِّيَّتِهِ، قال الزَّجَّاج «1» : جائزٌ أنْ يعود على إبراهيم، ويعترض هذا بذكْرِ لوطٍ- عليه السلام- إذ ليس هو مِنْ ذرِّيَّة إبراهيم، بل هو ابْنُ أخيه، وقيلَ: ابنُ أختِهِ، ويتخرَّج ذلك عند مَنْ يرى الخالَ أباً، وقيل: يعود الضميرُ على نوح، وهذا هو الجيّد، ونصب/ داوُدَ: يحتملُ أنْ يكون ب وَهَبْنا، ويحتمل أنْ يكون ب هَدَيْنا، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ: وعدٌ من اللَّه عزَّ وجلَّ لمن أحْسَنَ في عبادته، وترغيبٌ في الإحسان، وفي هذه الآية أنَّ عيسى- عليه السلام- مِنْ ذرِّية نوحٍ أو إبراهيم بحَسَب الاختلاف في عَوْد الضمير من ذُرِّيَّتِهِ، وهو ابنُ ابنة وبهذا يستدلُّ في الأحباس على أنَّ ولد البنْتِ من الذِّرِّيَّة، ويُونُسُ هو ابن متى، وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ: معناه:
عالمي زمانهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 87 الى 90]
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)
وقوله سبحانه: وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ: المعنى: وهدَيْنا من آبائهم وذرياتهم وإخوانهم جماعاتٍ، ف «مِنْ» للتبعيض، والمراد: مَنْ آمن منهم، نبيّا كان أو غير نبيّ، واجْتَبَيْناهُمْ، أي: تخيَّرناهم وهَدَيْنَاهم، أيْ: أرشدْناهم إلى الإيمان، والفوز برضا اللَّه عزَّ وجلَّ، والذرية: الأبناءُ، ويطلَقُ على جميعِ البَشَر ذرِّيَّة لأنهم أبناء.
وقوله تعالى: ذلِكَ هُدَى اللَّهِ ... الآية: ذلِكَ: إشارة إلى النعمة في قوله:
وَاجْتَبَيْناهُمْ وأُولئِكَ: إشارة إلى مَنْ تقدَّم ذكره، والكتابُ يراد به الصُّحُفُ والتوراةُ والإنجيل والزَّبُور.
وقوله سبحانه: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ: إشارة إلى كُفَّار قريشٍ، وإلى كلِّ كافر في ذلك العَصْر قاله ابن عباس وغيره «2» ، وقوله: فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ:
__________
(1) ينظر: «معاني القرآن» للزجاج (2/ 269) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 260) رقم (13530) ، وذكره البغوي (2/ 14) ، وذكره ابن عطية (2/ 318) ، -(2/489)
هم مؤمنو أهْل المدينة قاله ابن عباس وغيره «1» ، والآية على هذا التأويلِ، وإن كان القصْدُ بنزولها هذَيْن الصِّنْفَيْن، فهي تعم الكَفَرة والمؤمنين إلى يوم القيامة، وقال الحسن وغيره:
المراد ب «القَوْم» : مَنْ تَقَدَّم ذكْره من الأنبياء والمؤمنين «2» ، وقال أبو رجاء: المرادُ:
الملائكةُ «3» .
قلتُ: ويحتمل أنْ يكون المراد الجميعَ.
وقوله سبحانه: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ، والظاهر في الإشارة ب أُولئِكَ إلى المذكورين قبلُ من الأنبياء ومَنْ معهم من المؤمنين المهدِّيين، ومعنى الاقتداء: اتباع الأثر في القول والفعل والسّيرة، وإنما يصحّ اقتداؤه صلّى الله عليه وسلّم بجميعهم في العقودِ، والإيمان، والتوحيدِ الذي ليْسَ بينهم فيه اختلاف، وأما أعمالُ الشرائع فمختلفةٌ، وقد قال عزَّ وجلَّ: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48] ، واعلم أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو وغيره مخاطَبٌ بشَرْع مَنْ قبله في العقود والإيمانِ والتوحيدِ «4» لأنا نجد شرعنا ينبىء أنّ الكفار الذين كانوا قبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كَأَبَوَيْهِ وغيرهما في النَّار، ولا يُدْخِلُ اللَّهُ تعالى أحداً النار إلا بتَرْك ما كُلِّفَ، وذلك في قوله سبحانه: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ، وغير ذلك، وقاعدةُ المتكلِّمين: أن العقل لا يوجِبُ ولا يكلِّف، وإنما يوجب «5» الشرْعُ، فالوجه في هذا أنْ يقال: إنَّ آدم- عليه السلام- فَمَنْ بعده، دعا إلى توحيد اللَّه (عزَّ وجلَّ) دعاءً عامًّا، واستمر ذلك على العالَمِ، فواجبٌ على الآدميّ أن
__________
- وذكره ابن كثير (2/ 155) بنحوه. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 52) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس بنحوه.
(1) أخرجه الطبري (5/ 206) رقم (13530) ، وذكره البغوي (2/ 114) ، وذكره ابن عطية (2/ 316) ، وذكره ابن كثير (2/ 155) بنحوه وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 52) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس بنحوه.
(2) ذكره ابن عطية (2/ 318) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 260) رقم (13531) ، وذكره البغوي (2/ 114) وذكره ابن عطية (2/ 318) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 52) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، عن أبي رجاء بنحوه.
(4) ينظر: «أحكام الآمدي» (4/ 121) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (139) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (1/ 442) ، «حاشية البناني» (2/ 352) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (4/ 191) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (2/ 393) ، «المعتمد» لأبي الحسين (2/ 336) ، «التحرير» لابن الهمام» (359) ، «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (3/ 129) .
(5) تقدم الكلام على الحسن والقبح.(2/490)
يبحث عن الشرْعِ الآمِرِ بتوحيدِ اللَّهِ تعالى، وينظر في الأَدلَّة المنصوبة على ذلك بحسب إيجاب الشرعِ النَّظَرَ فيها، ويؤمنَ، ولا يَعْبُدَ غير اللَّه، فمَنْ فَرَضْناه لم يجدْ سبيلاً إلى العلْمِ بشرعٍ آمِرٍ بتوحيد اللَّهِ، وهو مع ذلك لم يَكْفُرْ، ولا عَبَدَ صنماً، بل تخلى، فأولئك أَهْلُ الفَتراتِ الذين أَطْلَقَ عليهم أهل العلْمِ أنهم في الجَنَّة، وهم بمنزلةِ الأطفالِ والمجانينِ، ومَنْ قَصَّرَ في النظر والبَحْث، فعبد صنماً أو غيره، وكَفَرَ، فهو تاركٌ للواجب عليه، مستوجِبٌ للعقاب بالنَّار، فالنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم قَبْلَ مبعثِهِ ومَنْ كان معه مِنَ النَّاس وقَبْلَه- مخاطَبُونَ على أَلْسِنَةِ الأنبياء قَبْلُ بالتوحيد، وغيرُ مخاطبين بفُرُوعِ «1» شرائعهم إذ هي مختلفةٌ، وإذ لم يدعهم إليها نبيٌّ قال/ الفَخْر «2» : واحتجَّ العلماءُ بهذه الآية على أن محمداً صلّى الله عليه وسلّم أَفْضَلُ من جميع الأنبياءِ- عليهم السلام- وتقريره: أنا بيَّنَّا أنَّ خصال الكمالِ وصفاتِ الشَّرَفِ كانَتْ مفرَّقة فيهم، ثم إنه تعالى، لمَّا ذكر الكل، أمر محمدا صلّى الله عليه وسلّم أنْ يجمع من خصال الطاعة والعبوديَّة والأخلاقِ الحميدة كُلَّ الصفاتِ التي كانَتْ مفرَّقة فيهم بأجمعهم، ولمَّا أمره اللَّه تعالى بذلك، امتنع أنْ يقال: إنه قصَّر في تحصيلها فثبت أنه حَصَّلها، ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أنه اجتمع فيه مِنْ خصال الخَيْر ما كان فيهم مفرَّقاً بأسرهم، ومتى كان الأمر كذلك، وجب أنْ يقال: إنه أفضلهم بكلِّيَّتهم واللَّه أعلم. انتهى.
وقرأ حمزة «3» والكسائيُّ: «فَبِهُدَاهُمُ اقتد» - بحذف الهاءِ في الوَصْل، وإثباتها في الوَقْف-، وهذا هو القياسُ شبيهة بألفِ الوَصْل في أنها تُقْطَعُ في الابتداء، وتَسْقُط في الوصل.
وقوله سبحانه: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً، أي: قل لهؤلاء الكفرة المعاندين: لا أسألكم على دعائي إياكم بالقُرآن إلى عبادة اللَّه تعالى- أُجْرَةً إن هو إلا موعظة وذكرى
__________
(1) ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (3/ 36) ، «التمهيد» للأسنوي ص (364) ، و «نهاية السول» له (1/ 359) ، «زوائد الأصول» (ص 179) ، «منهاج العقول» للبدخشي (1/ 203) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (1/ 321) ، «المنخول للغزالي» ص (31) ، «الإبهاج» لابن السبكي (1/ 177) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (1/ 285) ، «تخريج الفروع على الأصول» للزنجاني (ص 98) ، «كشف الأسرار» للنفسي (1/ 137) ، «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (1/ 213) ، «نسمات الأسحار» لابن عابدين (ص 60) ، «ميزان الأصول» للسمرقندي (1/ 304) ، «البرهان في أصول الفقه» (1/ 107) ، «أصول الفقه» لمحمد أبي النور زهير (1/ 184) .
(2) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 58) . [.....]
(3) وحجة الباقين بإثبات الهاء في الوصل أنها مثبتة في المصحف، فكرهوا إسقاط حرف من المصاحف.
ينظر: «حجة القراءات» (260) ، و «السبعة» (262) ، و «الحجة» (3/ 350، 351) ، و «إعراب القراءات» (1/ 164) ، و «العنوان» (91) ، و «إتحاف» (2/ 21) .(2/491)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
ودعاء لجميع العالمين.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 92]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)
وقوله سبحانه: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... الآية: قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في بني إسرائيل «1» ، قال النَّقَّاش: وهي آية مدنية، وقيل: المراد رجُلٌ مخصوص منهم، يقال له مالك بن الصّيف قاله ابن جُبَيْر «2» ، وقيل: فنْحَاص قاله السُّدِّيُّ «3» ، وقَدَرُوا: هو من توفيَةِ القَدْرِ والمنزلةِ، وتعليلُه بقولهم: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ: يقضي بأنهم جَهِلُوا، ولم يعرفوا الله حقّ معرفته إذا أحالوا عليه بعثةَ الرُّسُل، قال الفَخْر «4» : قال ابن عباس: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ، أيْ: ما عظَّموا اللَّه حقَّ تعظيمه «5» ، وقال الأخفشُ:
ما عَرَفُوه حقَّ معرفته، وقال أبو العالية: ما وصفوه حقَّ قُدْرته وعَظَمته، وهذه المعانِي كلُّها صحيحةٌ. انتهى، وروي أنَّ مالك بن الصَّيْفِ كان سَمِيناً، فجاء يخاصم النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم بزعمه، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أَنْشُدُكَ اللَّه، أَلَسْتَ تَقْرَأُ فِيمَا أُنْزِلَ على موسى: إنَّ اللَّهَ يَبْغَضُ الْحِبْرَ السَّمِينَ» «6» ، فَغَضِبَ، وقال: «واللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ» ، قال الفَخْر «7» :
وهذه الآية تدلُّ على أن النكرة في سياقِ النفْي «8» تعمُّ، ولو لم تفد العمومَ، لما كان قوله
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 263) رقم (13544) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 114) ، وذكره ابن عطية (2/ 320) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 53) وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عباس بنحوه.
(2) أخرجه الطبري (5/ 362) برقم (13539) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 114) ، وذكره ابن عطية (2/ 320) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 54) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن جبير.
(3) أخرجه الطبري (5/ 363) برقم (13541) ، وذكره البغوي (2/ 114) ، وذكره ابن عطية (2/ 320) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 53، 54) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن السدي.
(4) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 60) .
(5) أخرجه الطبري (5/ 264) برقم (13545) بنحوه.
(6) ذكره الزيلعي في «تخريج أحاديث الكشاف» (1/ 442- 443) رقم (450) ، وعزاه للطبري، والواحدي في «أسباب النزول» .
(7) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 63) .
(8) «البحر المحيط» (3/ 110- 122) ، «تقريب الوصول إلى علم الأصول» (ص 75) ، «نهاية السول» -(2/492)
تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً- إبطالاً لقولهم ونقْضاً عليهم.
انتهى.
وقوله تعالى: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ، يعني: التوراة، وقَراطِيسَ: جمع قِرْطَاس، أي: بطائق وأوراقاً، وتوبيخهم بالإبداء والإخفاء هو على إخفائهم أمر محمّد صلّى الله عليه وسلّم وجَميعَ ما عليهم فيه حُجَّة.
وقوله سبحانه: وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ، يحتمل وجهين:
أحدهما: أنْ يقصد به الامتنانَ عليهم، وعلى آبائهم.
والوجه الثاني: أنْ يكون المقصود ذمَّهم، أي: وعلِّمتم أنتم وآباؤكم ما لم تعلموه، فما انتفعتم به لإعراضكم وضلالكم.
ثم أمره سبحانه بالمبادرة إلى موضع الحُجَّة، أي: قل اللَّه هو الذي أنْزَلَ الكتابَ على موسى، ثم أمره سبحانَهُ بتَرْك مَنْ كَفَر، وأعرض، وهذه آية منسوخةٌ بآية القتالِ إن تُؤُوِّلَتْ موادعةً، ويحتمل ألاَّ يدخلها نسْخٌ إذا جُعِلَتْ تتضمَّن تهديداً ووعيداً مجرَّداً من موادعة.
وقوله سبحانه: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ: «هذا» : إشارة إلى القرآن، وقوله:
مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ، يعني: التوراةَ والإنجيل لأن ما تقدّم، فهو بين يدي ما تأخّر، وأُمَّ الْقُرى: مكَّة، ثم ابتدأ تباركَ وتعالى بمَدْحِ قومٍ وصفهم، وأخبر عنهم أنهم يؤمنون بالآخرةِ والبَعْثِ والنشورِ، ويؤمنون بالقُرآن، ويصدِّقون بحقيقتِهِ، ثم قوى عزَّ وجلَّ مدحهم بأنهم يحافظون على صَلاَتهم التي هي قاعدةُ العباداتِ، وأمُّ الطاعاتِ، وإذا انضافت الصلاةُ إلى ضميرٍ، لم تكتب/ إلا بالألِفِ، ولا تكتبُ في المُصْحَف بواوٍ إلا إذا لم تُضَفْ إلى ضمير.
وقد جاءت آثار صحيحةٌ في ثواب مَنْ حافظ على صلاته، وفي فَضْل المشْيِ إليها ففي «سنن أبي داود» ، عن بُرَيْدة، عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «بشّر المشّائين في الظّلم إلى
__________
- (2/ 329) ، «الحاصل من المحصول» (1/ 510) ، «التمهيد» للأسنوي ص (318- 324) ، «البدخشي على المنهاج» (3/ 84) ، «الإبهاج في شرح المنهاج» (2/ 106) ، «الأحكام» (2/ 190) ، «ميزان الأصول» (ص 402) ، «البرهان» (1/ 337- 339) ، «تنقيح الفصول» (ص 181) ، «شرح الكوكب المنير» (3/ 136- 137) «نشر البنود» (1/ 210) ، «شرح المنهاج» للأصفهاني (1/ 354) ، «التحرير» (ص 70) ، «كشف الأسرار» (1/ 185- 186) .(2/493)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
المَسَاجِدِ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ القِيَامَةِ» «1» ، وروى أبو داود أيضاً بسنده، عن سعيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، قال: حضر رجلاً من الأنصار المَوْتُ، فقال: إني محدِّثكم حديثاً ما أحدثكموه إلا احتسابا، سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَأَحْسَنَ الوُضُوءَ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّلاَةِ، لَمْ يَرْفَعْ قَدَمَهُ اليمنى إلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ حَسَنَةً، وَلَمْ يَضَعْ قَدَمَهُ اليسرى إلاَّ حَطَّ اللَّهُ عَنْهُ سَيِّئَةً، فَلْيَقْرُبْ أَوْ لِيُبْعِدْ، فَإنْ أَتَى المَسْجِدِ، فصلى فِي جَمَاعَةٍ، غُفِرَ لَهُ، فَإنْ أَتَى المَسْجِدَ، وَقَدْ صَلَّوْا بَعْضاً، وَبَقِيَ بَعْضٌ، صلى مَا أَدْرَكَ وَأَتَمَّ مَا بَقِيَ- كَانَ كَذَلِكَ فَإنْ أَتَى المَسْجِدَ، وَقَدْ صَلَّوْا، فَأَتَمَّ الصَّلاَةَ، كَانَ كَذَلِكَ» «2» ، وأخرج أبو داودَ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ رَاحَ فَوَجَدَ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا، أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ مِثْلَ أَجْرِ مَنْ صَلاَّهَا أَوْ حَضَرَهَا، لاَ ينقص ذلك من أجورهم» «3» انتهى.
[سورة الأنعام (6) : آية 93]
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)
وقوله سبحانه: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ
__________
(1) أخرجه أبو داود (1/ 209) كتاب «الصلاة» ، باب ما جاء في المشي إلى الصلاة في الظلم، حديث (561) ، والترمذي (1/ 435) كتاب «الصلاة» ، باب ما جاء في فضل العشاء والفجر في جماعة، حديث (223) والبغوي في «شرح السنة» (2/ 118- بتحقيقنا) والقضاعي في «مسند الشهاب» رقم (752) من حديث بريدة.
وأخرجه ابن ماجة (1/ 256) كتاب «المساجد» ، باب المشي إلى الصلاة، حديث (780) والحاكم (1/ 212) وابن خزيمة (1498، 1499) ، والطبراني في «الكبير» (5800) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه.
وأخرجه ابن ماجه (1/ 256- 257) كتاب «المساجد» ، باب المشي إلى الصلاة، حديث (781) والحاكم (1/ 212) والقضاعي في «مسند الشهاب» (751) من حديث أنس. وقال البوصيري في «الزوائد» (1/ 276) : هذا إسناد ضعيف سليمان بن داود قال فيه العقيلي: لا يتابع على حديثه.
وأخرجه أبو يعلى (2/ 361) رقم (1113) من حديث أبي سعيد الخدري.
وقال الهيثمي في «المجمع» (2/ 33) : رواه أبو يعلى، وفيه عبد الحكم بن عبد الله، وهو ضعيف.
(2) أخرجه أبو داود (1/ 209- 210) كتاب «الصلاة» ، باب ما جاء في الهدى في المشي إلى الصلاة، حديث (563) وهذا الحديث لم يخرجه أحد من أصحاب الكتاب الستة سوى أبي داود.
(3) أخرجه أبو داود (1/ 210) كتاب «الصلاة» ، باب فيمن خرج يريد الصلاة، فسبق إليها، حديث (564) .(2/494)
شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ، هذه ألفاظٌ عامَّة، فكل مَنْ واقَعَ شيئاً مما يدخُلُ تحت هذه الألفاظ، فهو داخلٌ في الظُّلْم الذي قد عَظَّمه اللَّه تعالى، وقال قتادةُ «1» وغيره:
المرادُ بهذه الآياتِ مُسَيْلِمَةُ «2» ، والأسودُ العَنْسِيُّ «3» .
قال عكرمة «4» : أوَّلها في مُسَيْلِمَة، والآخر في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ «5» ، وقيل:
نزلَتْ في النَّضْرِ بنِ الحارِثِ، وبالجملة فالآيةُ تتناولُ مَنْ تعرَّض شيئاً من معانيها إلى يوم القيامةِ كَطُلَيْحَةَ الأَسَدِيِّ «6» ، والمُخْتَارِ بن أبي عبيد وسواهما.
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 269) رقم (13561، 13562، 13563) بنحوه، وذكره البغوي (2/ 115) ، وذكره ابن عطية (2/ 322) ، وذكره ابن كثير (2/ 157) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 56) ، وعزاه لأبي الشيخ عن قتادة. [.....]
(2) أبو ثمامة مسيلمة بن ثمامة بن كبير بن حبيب الحنفي الوائلي. متنبىء، من المعمرين، ولد ونشأ ب «اليمامة» بوادي حنيفة، في نجد، تلقب في الجاهلية ب «الرّحمن» ، وعرف ب «رحمان اليمامة» ، وقد أكثر مسيلمة من وضع أسجاع يضاهي بها القرآن، وكان مسيلمة ضئيل الجسم، قالوا في وصفه: «كان رويجلا، أصيغر، أخينس» ، ويقال: كان اسمه: «مسلمة» ، وصغره المسلمون تحقيرا له. قتل سنة (12 هـ) في معركة قادها خالد بن الوليد- في عهد أبي بكر الصديق- للقضاء على فتنته.
ينظر: «سيرة ابن هشام» (3/ 74) ، و «الروض الأنف» (2/ 340) ، و «الكامل» لابن الأثير (2/ 137) .
(3) عيهلة بن كعب بن عوف العنسي المذحجي، ذو الخمار: متنبىء مشعوذ، من أهل اليمن. كان بطاشا جبارا. أسلم لما أسلمت اليمن، وارتد في أيام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فكان أول مرتد في الإسلام. وادعى النبوة، وأرى قومه أعاجيب استهواهم بها، فاتبعته مذحج. وتغلّب على نجران وصنعاء، واتسع سلطانه حتى غلب على ما بين مفازة حضر موت إلى الطائف إلى البحرين والأحساء إلى عدن. وجاءت كتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى من بقي على الإسلام في اليمن، بالتحريض على قتله، فاغتاله أحدهم وكان مقتله قبل وفاة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بشهر واحد. وقال البلاذري: سمى نفسه «رحمان اليمن» كما تسمى مسيلمة «رحمان اليمامة» .
ينظر: «الأعلام» (5/ 111) ، «جمهرة الأنساب» (381) .
(4) أخرجه الطبري (5/ 268) رقم (13559) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 322) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 56) ، وعزاه لأبي الشيخ عن عكرمة.
(5) عبد الله بن سعد بن أبي سرح القرشي العامري، فاتح إفريقية، أسلم قبل الفتح، وهو من أهل «مكة» ، كان من كتاب الوحي، وكان على ميمنة عمرو بن العاص حين افتتح مصر. وكان واليا على «مصر» .
واعتزل الحرب التي دارت بين علي ومعاوية. مات ب «عسقلان» وهو قائم يصلي، وأخباره كثيرة.
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (3/ 173) ، و «البداية والنهاية» (7/ 250) ، و «الروض الأنف» (2/ 274) ، و «الأعلام» (4/ 88- 89) .
(6) طليحة بن خويلد الأسدي، يقال له: «طليحة الكذاب» لأنه ادعى النبوة، وله صيت في الشجاعة، وقد كان مسلما ثم ارتد في حياة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
ينظر ترجمته في: «تهذيب ابن عساكر» (7/ 89) ، و «الأعلام» (3/ 230) .(2/495)
وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
وقوله تعالى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ ... الآية: جوابُ «لو» محذوفٌ، تقديره: «لرأيت عجبا أو هولا، ونحو هذا، وحذف هذا الجواب أبلغ في نفس السامع، والظَّالِمُونَ لفظٌ عامٌّ في أنواعِ الظلمِ الذي هو كُفْر، و «الغَمَرَاتُ» : جمع غَمْرةٍ، وهي المُصِيبة المُذْهِلة، وهي مشبَّهة بغمرة الماء، والملائكة، يريد: ملائكة قبض الرّوح، وباسِطُوا أَيْدِيهِمْ: كنايةٌ عن مدِّها بالمكروهِ، وهذا المكروهُ هو لا مَحَالة أوائلُ العذابِ، وأماراته، قال ابنُ عبَّاس: يَضْرِبُون وجوههم وأدبارهم، وقوله: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ: حكايةٌ لما تقولُه الملائكة «1» ، والتقدير: يقولون لهم: أخرجوا أنْفُسَكم، وذلك على جهةِ الإهانة، وإدْخَال الرعْبِ عليهم، ويحتملُ: أخرجوا أنفسكُمْ مِنْ هذه المصائبِ والمحنِ، إنْ كان ما زعمتموه حقًّا في الدنيا، وفي ذلك توبيخٌ وتوقيفٌ على سالف فعلهم القبيحِ، قلت: والتأويل الأولُ هو الصحيحُ، وقد أسند أبو عمر في «التمهيد» ، عن ابن وَضَّاحٍ، قال: حدَّثنا أبو بكرِ بْنُ أبي شَيْبة، ثم ذَكَر سنده، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «المَيِّتُ تَحْضُرُهُ المَلاَئِكَةُ، فَإذَا كَانَ الرَّجُلُ الصَّالِحُ، قَالَتِ: اخرجي، أيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةِ كَانَتْ فِي الجَسَدِ الطَّيِّبِ، اخرجي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَانٍ، قَالَ: فَلاَ تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى تَخْرُجَ، ثُمَّ يُعْرَجُ بِهَا إلَى السَّمَاءِ، فَيُفْتَحُ لَهَا، فَيُقَالُ: مَنْ هَذَا؟ فَيَقُولُون: فُلاَنٌ، فَيُقَالُ: مَرْحَباً بِالنَّفْسِ الطَّيِّبَةِ، كَانَتْ فِي الجَسَدِ الطَّيِّبِ، ادخلي حَمِيدَةً، وَأَبْشِرِي بِرَوْحٍ وَرَيْحَانٍ.، وَرَبٍّ غَيْرِ غَضْبَان، فَلاَ تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حتى يَنْتَهِيَ بِهَا إلَى السَّمَاءِ، يَعْنِي: السَّابِعَةَ، وَإذَا كَانَ الرُّجُلُ السُّوءُ، وَحَضَرَتْهُ المَلاَئِكَةُ عِنْدَ مَوْتِهِ، قالَتِ/: اخرجي، أيَّتُهَا النَّفْسُ الخَبِيثَةُ، كَانَتْ فِي الجَسَدِ الخَبِيثِ، اخرجي ذَمِيمَةً، وَأَبْشِرِي بِحَمِيمٍ وَغَسَّاقٍ، وآخَرَ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٍ، فَلاَ تَزَالُ يُقَالُ لَهَا ذَلِكَ حتى تخرج ... »
وذكر الحديث «2» . انتهى، والْهُونِ: الهَوَان.
وقوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ... الآية: لفظ عامٌّ لأنواع الكفر، ولكنه يظهر منه الإنحاءُ على مَنْ قرب ذكره.
[سورة الأنعام (6) : آية 94]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
__________
(1) ذكر ابن عطية (2/ 323) بنحوه.
(2) أخرجه ابن ماجه (2/ 1423- 1424) كتاب «الزهد» ، باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث (4262) من حديث أبي هريرة.
وقال البوصيري في «الزوائد» (3/ 310- 311) : هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات.(2/496)
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ... الآية: هذه حكايةٌ عما يقالُ لهم بعد قَبْض أرواحهم، واعلم أيها الأخُ أنَّ هذه الآية الكريمةَ ونَحْوَها من الآيِ، وإن كان مساقها في الكُفَّار، فللمؤمن الموقِنِ فيها مُعْتَبَرٌ ومزدَجَر، وقد قيل: إن القبر بحْرُ النداماتِ، وقد روى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده، عن أبي هريرة، قَالَ: قَالَ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من أحد يموت إلا ندم» ، قالوا: وما ندامته، يا رسول الله؟ قال: «إن كان محسنا، ندم ألا يكون ازداد، وإن كَانَ مُسِيئاً، نَدِمَ أَلاَّ يَكُونَ نَزَعَ» «1» . انتهى.
وكَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ: تشبيهاً بالاِنفراد الأول في وقت الخلقة، وخَوَّلْناكُمْ، معناه: أعطيناكم، ووَراءَ ظُهُورِكُمْ: إشارة إلى الدنيا لأنهم يتركون ذلك موجوداً.
وقوله سبحانه: وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ: توقيفٌ على الخطإ في عبادة الأصنام، واعتقادهم أنها تشفع وتُقَرِّب إلى اللَّه زلفى، قال «2» أبو حَيَّان: وَما نَرى: لفظه لفظُ المستقبلِ، وهو حكاية حال. انتهى.
وقرأ نافع «3» والكسائي: «بَيْنَكُمْ» - بالنصب- على أنه ظرْفٌ، والتقدير: لقد تقطَّع الاِتصال والاِرتباطُ بينكم، ونحْوُ هذا، وهذا وجهٌ واضحٌ وعليه فسَّره الناس مجاهد وغيره «4» ، وقرأ باقي السَّبْعة: «بَيْنُكُمْ» - بالرفع-، وقرأ ابن مسعود «5» وغيره: «لقد تقطّع ما بينكم» ، وضَلَّ، معناه: تلف وذهب، وما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ، يريد: دعواهم أنها تشفَعُ، وأنها تشاركُ اللَّه في الألوهيَّة، تعالى اللَّه عن قولهم.
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 190) .
(3) وهي حفص عن عاصم، واستدلوا بقراءة ابن مسعود الآتية: «لقد تقطع ما بينكم» .
ينظر: «السبعة» (263) ، و «الحجة» (3/ 357) ، و «إعراب القراءات» (1/ 164) ، و «معاني القراءات» للأزهري (1/ 371) ، و «حجة القراءات» (261) ، و «العنوان» (92) ، و «شرح الطيبة» (4/ 264) ، و «إتحاف» (2/ 22) .
(4) أخرجه الطبري (5/ 274) رقم (13578، 13579) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 60) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد بنحوه.
(5) ينظر: «الشواذ» (ص 44) ، و «الكشاف» (2/ 47) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 325) وزاد نسبتها إلى مجاهد والأعمش، وينظر: «البحر المحيط» (4/ 186) ، و «الدر المصون» (3/ 128) ، و «التخريجات النحوية والصرفية لقراءة الأعمش» (ص 365) .(2/497)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 97]
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى، هذا ابتداءُ تنبيهٍ على العبرة والنظَرِ، ويتصلُ المعنى بما قبله لأن المقصد أنَّ اللَّه فالقُ الحبِّ والنوى لا هذه الأصنامُ، قال قتادة وغيره: هذه إشارة إلى فعل اللَّه سبحانه في أنّ يشُقَّ جميع الحَبِّ عن جميع النباتِ الذي يكُونُ منه، ويشُقُّ النوى عن جميع الأشجار الكائِنَة مِنه «1» .
وقوله: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ... الآية: قال ابن عباس وغيره: الإشارة إلى إخراج الإنسان الحيِّ من النطفة الميِّتة، وإخراج النطفة الميِّتة من الإنسان الحيِّ «2» ، وكذلك سائرُ الحيوان من الطَّير وغيره، وهذا القول أرجح ما قيل هنا.
وقوله سبحانه: ذلِكُمُ اللَّهُ ابتداء وخبَرٌ متضمِّن التنبيه، فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ، أي:
تصرفون وتصدّون، وفالِقُ الْإِصْباحِ، أي: شاقّه ومظهره، والفلق: الصبح، وحُسْباناً: جمع حسابٍ، أي: يجريان بحسَابٍ، هذا قول ابنِ عباس «3» وغيره، وقال مجاهد «4» في «صحيح البخاريِّ» : المرادُ بحُسْبَان كحسبان الرحى، وهو الدَّوْلاَب والعُودُ الذي عليه دَوَرانه.
وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ... الآية: هذه المخاطبةُ تعمُّ المؤمنين والكافرين، والحُجَّةُ بها على الكافرين قائمةٌ، والعبرة بها للمؤمنين متمكّنة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 98 الى 99]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 275) رقم (13586) ، بنحوه، وذكره البغوي (2/ 117) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 325) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 61) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة بنحوه.
(2) أخرجه الطبري (5/ 277) برقم (13598) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 325) . [.....]
(3) أخرجه الطبري (5/ 279) رقم (13609، 13610) بنحوه وذكره ابن عطية (2/ 326) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 62) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس بنحوه.
(4) ذكره ابن عطية (2/ 326) .(2/498)
وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ، يريد: آدم- عليه السلام-، فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ، اختلف المتأوِّلون في معنى هذا الاستقرارِ والاِستيداعِ.
فقال الجمهور: مستقَرٌّ في الرحِمِ، ومستودَعٌ في ظهور الآباءِ حتى يَقْضِيَ/ اللَّه بخروجهم، قال ابنُ عَوْن: مشَيْتُ إلى منزل إبراهيمَ النَّخَعيِّ وهو مريضٌ، فقالوا: قد تُوُفِّيَ، فأخبرني بعضهم أنَّ عبد الرحمن بْنَ الأسود سأله عن: فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ، فقال:
مستقرٌّ في الرحِمِ، ومستودع في الصُّلْبِ «1» ، وقال ابن عباس: المستقرُّ: الأرض، والمستودَعُ: عند الرحمن «2» ، وقال ابن جُبَيْر: المستودَعُ: في الصلب، والمستقَرُّ في الآخرة «3» ، قال الفَخْر: والمنقول عن ابن عباس في أكثر الرواياتِ أن المستقرَّ هو الأرحام، والمستودَعُ الأصلاب «4» ، ثم قرأ: وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ مَا نَشاءُ [الحج: 5] ومما يدلُّ على قوة هذا القولِ أنَّ النطفة لا تبقى في صُلْب الأب زماناً طويلاً، والجنينُ في رَحِمِ الأم يبقى زماناً طويلاً، ولما كان المُكْث في الرحمِ أكثر مما في صُلْب الأب، كان حمل الاستقرارِ على المُكْث في الرحمِ أولَى. انتهى.
قال ع «5» : والذي يقتضيه النظر أنَّ ابن آدم هو مستودَعٌ في ظهر أبيه، وليس بمستقِرٍّ فيه استقرارا مطلقاً لأنه يتنقَّل لا محالة، ثم ينتقلُ إلى الرحِمِ، ثم ينتقل إلى الدنيا، ثم ينتقلُ إلى القبر، ثم ينتقلُ إلى المَحْشَر، ثم ينتقلُ إلى الجَنَّة أو النار، فيستقرُّ في أحدهما استقرارا مطلقاً، وليس فيها مستودَعٌ لأنه لا نُقْلَة له بَعْدُ، وهو في كلِّ رتبة متوسِّطة بين هذين الطرفَيْن مُسْتَقِرٌّ بالإضافة إلى التي قبلها، ومستودَعٌ بالإضافة إلى التي بعدها لأن لفظ الوديعةِ يقتضي فيها نُقْلة، ولا بُدَّ.
وقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ،
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 285) برقم (13654) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 327) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 282) برقم (13627) ، وذكره ابن عطية (2/ 327) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 283) برقم (13630) ، وذكره ابن عطية (2/ 327) .
(4) أخرجه الطبري (5/ 283، 284) رقم (13638، 13639) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 66) ، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والحاكم عن ابن عباس بنحوه.
(5) ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 327) .(2/499)
السَّماءِ في هذا الموضع: السحابُ، وكلُّ ما أظلَّك فَهُو سماءٌ، وقوله: نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ، قيل: معناه: ممَّا ينبتُ، وقال الطبريُّ «1» : المراد ب كُلِّ شَيْءٍ: كلُّ ما ينمو مِنْ جميع الحيوان والنباتِ والمعادِنِ، وغير ذلك لأن ذلك كله يتعذى وينمو بنزولِ الماء من السماءِ، والضمير في مِنْهُ يعود على النباتِ، وفي الثاني يعود على الخضر، وخَضِراً: بمعنى: أَخْضَر ومنه قوله- عليه السلام-: «الدُّنْيَا خَضِرَةً حُلْوَةٌ» «2» ، بمعنى: خضراء وكأن خَضِراً إنما يأتي أبداً لمعنى النَّضَارة، وليس لِلَّوْن فيه مدخلٌ، وأخضر إنما تمكُّنه في اللون، وهو في النّضارة تجوّز، وحَبًّا مُتَراكِباً: يعم جميع السنابلِ وما شاكَلَها كالصَّنَوْبر، والرُّمَّان، وغيرِ ذلك.
وقوله: وَمِنَ النَّخْلِ، تقديره: ونُخْرِجُ مِنَ النخلِ والطَّلْعِ أولَ ما يخرج من النّخل، في أكمامه، وقِنْوانٌ: جمع قِنْو، وهو العِذْق- بكسر العين-، وهي الكِبَاسَةُ، والعُرْجُونُ: عوده الذي فيه ينتظمُ التمر، ودانِيَةٌ: معناه: قريبةٌ من التناول قاله ابن عباس «3» وغيره.
وقرأ الجمهور: «وجَنَّاتٍ» - بالنصب- عطفاً على قوله: «نَبَاتَ» ، وروي عن «4» عاصم: «وجَنَّاتٌ» - بالرفع- على تقدير: ولكُمْ جناتٌ أو نحو هذا، وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ- بالنصب إجماعاً- عطفاً على قوله: «حبّا» ، ومُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ، قال قتادة: معناه يتشابه في الوَرَقِ ويتبايَنُ في الثَّمَرِ «5» ، وقال الطبريُّ «6» : جائز أن يتشابه في الثَّمَر ويتبايَنُ في الطَّعْم، ويحتمل أن يريد يتشابه في الطَّعْمِ ويتباين في المنظر، وهذه الأحوال موجودة
__________
(1) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 287) .
(2) تقدم تخريجه.
(3) أخرجه الطبري (5/ 288) برقم (13666) ، وذكره ابن عطية (2/ 228) ، وابن كثير (2/ 159) ، والسيوطي (3/ 67) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(4) ينظر: «حجة القراءات» (264) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 328) ، وزاد نسبتها إلى محمد بن أبي ليلى، والأعمش.
وينظر: «البحر المحيط» (4/ 193) ، و «الدر المصون» (2/ 140) ، و «التخريجات النحوية» (ص 200) .
(5) أخرجه الطبري (5/ 289) برقم (13674) ، وذكره البغوي (2/ 118) ، وابن عطية (2/ 228) ، وابن كثير (2/ 159) ، والسيوطي (3/ 67) وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة.
(6) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 289) .(2/500)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
بالاعتبار في أنواع الثمرات.
وقوله سبحانه: انْظُرُوا، وهو نظرُ بَصَرٍ تتركَّب عليه فكرةُ قَلْبٍ، «والثمر» في اللغة: جَنَى الشجر وما يطلع، وإن سمي الشجر: ثماراً، فبتجوُّز، وقرأ جمهور «1» الناس:
وَيَنْعِهِ- بفتح الياء-، وهو مصدر يَنَعَ يَيْنَعُ إذا نَضِجَ، وبالنُّضْج فسره ابن «2» عباس، وقد يستعمل «يَنَعَ» بمعنى استقل واخضر ناضراً، قال الفخر «3» : وقدَّم سبحانه الزَّرع لأنه غذاء، والثِّمار فواكهٌ وإنما قدَّم النخل على الفواكِهِ لأن التمر يجرِي مجرى الغذاءِ/ بالنسبة إلى العرب. انتهى.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 102]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)
وقوله سبحانه: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ: جَعَلُوا: بمعنى صيّروا، والْجِنَّ: مفعول، وشُرَكاءَ مفعولٌ ثانٍ.
قال ص: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ: جَعَلُوا: بمعنى: صَيَّروا، والجمهورُ على نَصْب «الجنِّ» ، فقال ابن عطيَّة «4» وغيره: هو مفعولٌ أول ل جَعَلُوا، وشُرَكاءَ الثاني، وجوَّزوا فيه أن يكون بدلاً من شُرَكاءَ، ولِلَّهِ في موضع المفعول الثاني، وشُرَكاءَ الأول، وردَّه أبو حَيَّان «5» بأن البدل حينئذ لا يَصحُّ أن يحل محلَّ المبدل منه إذ لو قلْتَ: وجعلوا للَّه الجنَّ، لم يصحَّ، وشرط البدل أنْ يكون على نيَّة تكرار العامل على الأشهر، أو معمولاً للعاملِ، في المُبْدَلِ منه على قول، وهذا لا يصحُّ كما ذكرنا، قلْتُ: وفيه نظر. انتهى، قلتُ: وما قاله الشيخُ أبو حَيَّان عندي ظاهرٌ، وفي نظر الصَّفَاقُسِيِّ نَظَرٌ، وهذه الآية مشيرة إلى العادِلِينَ باللَّه تعالى، والقائلين: إن الجنَّ تعلم الغيْبَ، العابدين للجنِّ، وكانت طوائفُ من العرب تفعَلُ ذلك، وتستجير بجِنِّ الوادِي
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 328) ، و «البحر المحيط» (4/ 195) ، و «الدر المصون» (2/ 143) . [.....]
(2) أخرجه الطبري (5/ 290) برقم (13677، 13678) ، وذكره ابن عطية (2/ 328) ، وابن كثير (2/ 159) ، والسيوطي (3/ 67) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس.
(3) ينظر: «الرازي» (13/ 89) .
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 329) .
(5) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 196) .(2/501)
لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
في أسفارها ونحوِ هذا، وأما الذين خَرَقُوا البنين، فاليهود في ذكر عزيز، والنصارى في ذكر المسيحِ، وأما ذاكرو البناتِ، فالعربُ الذين قالوا: الملائكةُ بناتُ اللَّهِ، تعالى اللَّه عن قولهم فكأنَّ الضمير في جَعَلُوا وخَرَقُوا لجميع الكفَّار إذ فَعَلَ بعضُهم هذا، وبعضُهم هذا، وبنحو هذا فسَّر السُّدِّيُّ وابن «1» زَيْد، وقرأ الجمهورُ «2» : «وَخلَقَهُمْ» - بفتح اللام- على معنى: وهو خلقهم، وفي مصحف ابنِ «3» مسعود: «وَهُوَ خَلَقَهُمْ» ، والضمير في خَلَقَهُمْ يَحْتَمِلُ العودَةَ على الجاعلين، ويحتملُها على المجْعُولِينَ، وقرأ السبعة «4» سوى نافعٍ: «وَخَرَقُوا» - بتخفيف الراء- بمعنى اختلقوا وافتروا، وقرأ نافع: «وَخَرَّقُوا» - بتشديد الراء- على المبالغة، وقوله: بِغَيْرِ عِلْمٍ نصٌّ على قُبْح تقحُّم المجهلة، وافتراء الباطل على عمى، وسُبْحانَهُ: معناه: تنزَّه عن وصفهم الفاسدِ المستحيلِ عليه تبارك وتعالى، وبَدِيعُ: بمعنى: مبدع، وأَنَّى: بمعنى: كيف، وأين، فهي استفهام في معنى التوقيفِ والتقريرِ، وهذه الآيةُ ردٌّ على الكفار بقياس الغائِبِ على الشاهد.
وقوله سبحانه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ لفظٌ عامٌّ لكلِّ ما يجوز أن يدخل تحته، ولا يجوز أن تدخل تحته صفاتُ اللَّهِ تعالى، وكلامُهُ، فليس هو عموماً مخصَّصاً على ما ذهب إليه قوم لأن العموم المخصَّص هو أن يتناول العموم شيئاً، ثم يخرجه التخصيصُ، وهذا لم يتناولْ قطُّ هذه التي ذكرناها، وإنما هذا بمنزلة قَوْلِ الإنسان: قَتَلْتُ كُلَّ فَارِسٍ، وأَفْحَمْتُ كُلَّ خَصْمٍ، فلم يدخلِ القائلُ قطُّ في هذا العمومِ الظاهرِ من لفظه، وأما قوله:
وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فهو عمومٌ على الإطلاق لأنه سبحانه يعلم كلَّ شيء، لا ربَّ غيره، وباقي الآية بيّن.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 103 الى 107]
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 292) برقم (13691) عن السدي، و (13692) عن ابن رشد، وذكره ابن عطية (2/ 329) ، وابن كثير (2/ 160) عن السدي، والسيوطي (3/ 68) ، وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 329) .
(3) ينظر السابق.
(4) ومعنى القراءة بالتشديد أي: مرة بعد مرة، قال الزمخشري: وقرىء: وخرّقوا بالتشديد للتكثير لقوله:
بَنِينَ وَبَناتٍ.
ينظر: «الكشاف» (2/ 53) ، و «السبعة» (264) ، و «الحجة» (3/ 372) ، و «إعراب القراءات» (1/ 166) ، و «معاني القراءات» (1/ 376) ، و «العنوان» (92) ، و «شرح الطيبة» (4/ 266) ، و «شرح شعلة» (371) ، و «إتحاف» (2/ 25) .(2/502)
وقوله سبحانه: لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، أجمع أهلُ السنَّة على أن اللَّه عزَّ وجلَّ يرى يوم القيامة، يَرَاهُ المؤمنون، والوَجْه أنْ يبيَّن جواز ذلك عقلاً، ثم يستند إلى ورود السمعِ بوقوعِ ذلك الجائِزِ، واختصار تبْيِينِ ذلك: أنْ يعتبر بعلمنا باللَّه- عز وجل- فمن حيثُ جاز أنْ نعلمه لا في مكانٍ، ولا متحيِّزاً، ولا مُقَابَلاً، ولم يتعلَّق علمنا بأكثر من الوجودِ، جاز أن نراه غير مقابلٍ، ولا محاذًى، ولا مكيَّفاً، ولا محدَّداً، وكان الإمام أبو عبد اللَّه النحويُّ يقولُ: مسألةُ العِلْمِ حَلَقَتْ لِحَى المُعْتَزِلة، ثم ورد الشرْعُ بذلك/ كقوله عزَّ وجلَّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] ، وتعدية النَّظَر ب «إلى» إنما هو في كلام العربِ لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار على ما ذهب إليه المعتزلة ومنه قول النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فيما صحَّ عنه، وتواتر، وكثر نقله: «إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ» «1» ، ونحوه من الأحاديث الصحيحةِ علَى اختلاف ألفاظها، واستمحل «2» المعتزلةُ الرؤيةَ بآراءٍ مجرَّدةٍ، وتمسَّكوا بقوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وانفصال أهل السنَّة عن تمسُّكهم بأن الآية مخصُوصَةٌ في الدنيا «3» ، ورؤية الآخرة ثابتةٌ بأخبارها وأيضاً فإنا نَفْرُقُ بين معنى الإدراك، ومعنى الرؤية، ونقول: إنه عز وجل تراه الأبصار، ولا تدركه وذلك أن الإدراك يتضمَّن الإحاطة بالشيء، والوصولَ إلى أعماقِهِ وحَوْزِهِ من جميع جهاتِهِ، وذلك كلُّه محالٌ في أوصافِ اللَّه عزَّ وجلَّ، والرؤيةُ لا تفتقرُ إلى أنْ يحيطَ الرائي بالمرئيِّ، ويبلغ غايته، وعلى هذا التأويل يترتَّب العَكْس في قوله: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، ويحسن معناه، ونحو هذا رُوِيَ عن ابن عباسٍ وقتادة وعطيَّة العَوْفِيِّ «4» أنهم فرقوا بين الرؤية والإدراك، واللَّطِيفُ: المتلطّف في خلقه واختراعه،
__________
(1) أخرجه البخاري (8/ 462- 463) كتاب «التفسير» ، باب وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، حديث (4851) ، ومسلم (1/ 439- 440) كتاب «المساجد» ، باب فضل صلاة الصبح والعصر والمحافظة عليهما، حديث (211، 212/ 633) من حديث جرير.
(2) يعني: استبعد. ينظر: «لسان العرب» (4147، 4148) ، و «المعجم الوسيط» (863) .
(3) تقدم الكلام على الرؤية مفصلا.
(4) أخرجه الطبري (5/ 294) برقم (13698) عن ابن عباس (13699) عن قتادة (13700) عن عطية العوفي، وذكره البغوي (2/ 120) عن ابن عباس، وابن عطية (2/ 330) ، وابن كثير (2/ 161، 162) ، والسيوطي (3/ 69) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس، وعزاه لعبد بن حميد، وأبي الشيخ عن قتادة، وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي، وعطية هذا هو عطية بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي أبو الحسن-(2/503)
والبَصَائِرُ: جمع بَصِيرة، فكأنه قال: قد جاءكم في القرآن والآياتِ طرائقُ إبصار الحقِّ، والبصيرةُ للقَلْبِ مستعارةٌ من إبصارِ العَيْن، والبصيرةُ أيضاً هي المعتقد.
وقوله سبحانه: فَمَنْ أَبْصَرَ، ومَنْ عَمِيَ: عبارةٌ مستعارةٌ فيمن اهتدى، ومَنْ ضَلَّ، وقوله: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ- كان في أول الأمر وقَبْلَ ظهور الإسلام، ثم بعد ذلك كان صلّى الله عليه وسلّم حفيظاً على العَالَمِ، آخذاً لهم بالإسلام أو السيفِ.
وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي: نردِّدها ونوضِّحها، وقرأ الجمهور «1» : «وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ» - بكسر اللام- على أنها لامُ كَيْ، وهي على هذا لامُ الصيرورة، أي: لَمَّا صار أمرهم إلى ذلك، وقرأ نافع وغيره: «دَرَسْتَ» ، أي: يا محمد دَرَسْتَ في الكتبِ القديمةِ ما تجيئُنا به، وقرأ ابن كثير وغيره: «دَارَسْتَ» ، أي: دارَسْتَ غيرك وناظرته، وقرأ ابن عامر: «دَرَسَتْ» - بإسناد الفعل إلى الآيات- كأنهم أشاروا إلى أنها تردَّدت على أسماعهم حتى بَلِيَتْ في نفوسهم، وامحت، واللام في قوله:
لِيَقُولُوا، وفي قوله: وَلِنُبَيِّنَهُ: متعلِّقانِ بفعلِ متأخِّر، وتقديره: «صَرَّفْنَاهَا» ، وذهب بعض الكوفيِّين إلى أنَّ «لا» : مضمرةٌ بعد «أَنِ» المقدَّرةِ في قوله: وَلِيَقُولُوا، فتقدير الكلام عندهم: وَلأنْ لاَ يَقُولُوا دَرَسْتَ كما أضمروها في قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] .
قال ع «2» : وهذا قَلِقٌ، ولا يجيز البصريُّون إضمار «لا» في موضعٍ من المواضعِ.
قلت: ولكنه حسن جدًّا من جهة المعنى إذ لا يعلمون أنه دَرَسَ أو دارس أحدا صلّى الله عليه وسلّم، فتأمَّله.
وقوله سبحانه: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... الآية: هذه الآية فيها موادعة، وهي منسوخة.
__________
- الكوفي، عن: أبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وعنه: ابناه عمر، والحسن.
ينظر: «الخلاصة» (2/ 233) .
(1) ينظر: «السبعة» (264) ، و «الحجة للقراء السبعة» (3/ 372) ، و «إعراب القراءات» (1/ 166) ، و «معاني القراءات» (1/ 376) ، و «شرح الطيبة» (4/ 266) ، و «شرح شعلة» (372) ، و «حجة القراءات» (264) ، و «العنوان» (92) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 25) . [.....]
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 331) .(2/504)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 108 الى 110]
وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
وقوله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ... الآية: مخاطبة للمؤمنين والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال ابن عباس: سببها أن كفَّار قريشٍ قالوا لأبي طَالِبٍ: إما أنْ ينتهِيَ محمَّد وأصحابه عن سَبِّ آلهتنا والغَضِّ منها، وإما أنْ نَسُبَّ إلهه ونَهْجُوه «1» ، فنزلَتِ الآية، وحكْمُها على كلِّ حال باقٍ في الأمة/، فلا يحلُّ لمسلمٍ أنْ يتعرَّض إلى ما يؤدِّي إلى سبّ الإسلام أو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أو اللَّه عزَّ وجلَّ، وعبَّر عن الأصنامِ بالذين، وهي لا تَعْقِلُ، وذلك على معتقدِ الكَفَرة فيها، وفي هذه الآية ضَرْبٌ من الموادعة، وعَدْواً: مصدر من الاعتداء، وبِغَيْرِ عِلْمٍ: بيانٌ لمعنى الاعتداءِ.
وقوله تعالى: كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ: إشارة إلى ما زَيَّنَ لهؤلاء من التمسُّك بأصنامهم، وتَزْيينُ اللَّه عَمَلَ الأممِ هو ما يخلقه سبحانه في النُّفُوس من المحبَّة للخَيْر والشَّرِّ، وتزيينُ الشيطان هو ما يَقْذِفُه في النفُوسِ من الوسوسة وخَطَراتِ السُّوء، وقوله:
ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ ... الآية: تتضمَّن وعداً جميلاً للمحسنين، ووعيداً ثقيلاً للمسيئين.
وقوله سبحانه: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها: اللام في قوله: لَئِنْ لامُ توطئة للقَسَمِ، وأما المُتَلَقِّيَةُ للقَسَمِ فهي قوله: لَيُؤْمِنُنَّ بِها، وآيَةٌ: يريد: علامة، وحُكِيَ أنَّ الكفار لمَّا نزلَتْ: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء: 4] ، أقسموا حينئذٍ أنها إنْ نزلَتْ، آمنوا، فنزلَتْ هذه الآيةُ، وحُكِيَ أنهم اقترحُوا أنْ يعود الصفا ذَهَباً، وأقسموا على ذلك، فقام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَدْعُو في ذلك، فجاءه جِبْريلُ، فقال له: إنْ شئْتَ أصْبَحَ ذَهَباً، فإن لم يؤمنُوا، هَلَكُوا عَنْ آخرهم معاجلَةً كما فعل بالأمم المُقْتَرِحَةِ، وإن شئْتَ، أُخِّرُوا حتى يتوبَ تائبهم، فقال- عليه الصلاة والسلام-: بل حتّى يتوب تائبهم «2» ، ونزلت الآية.
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 304) برقم (13742) ، وذكره البغوي (2/ 121) ، وابن عطية (2/ 332) ، وابن كثير (2/ 164) ، والسيوطي (3/ 71) وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس.
(2) أخرجه الطبري (5/ 306) عن محمد بن كعب القرظي به.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 72) ، وعزاه لابن جرير.(2/505)
قال ابنُ العربيِّ: قوله: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ، يعني: غاية أيمانهم التي بلغها علمهم، وانتهت إليها قدرتهم. انتهى من «الأحكام» .
ثم قال تعالى: قل لهم، يا محمَّد على جهة الردِّ والتخطئةِ: إنما الآياتُ عند اللَّه وليْسَتْ عندي، فَتُقْتَرَحَ علَيَّ، ثم قال: وَما يُشْعِرُكُمْ، قال مجاهدٌ: وابن زيد:
المخاطَبُ بهذا الكفَّار «1» ، وقال الفَرَّاء وغيره: المخاطَبُ بهذا المؤمنون، وَما يُشْعِرُكُمْ:
معناه: وما يُعْلِمُكم وما يُدْرِيكم، وقرأ ابن كثير «2» وغيره: «إنَّهَا» - بكسر الألف-، على القطعِ، واستئناف الأخبار، فمن قرأ «تُؤْمِنُونَ» «3» - بالتاء-، وهي قراءة ابن عامر وحمزة استقامت له المخاطبةُ، أولاً وآخراً، للكفَّار، ومن قرأ بالياء، وهي قراءةُ نافعٍ. وغيره، فيحتمل أنْ يخاطب، أولاً وآخراً، المؤمنين، ويحتمل أن يخاطب بقوله: وَما يُشْعِرُكُمْ الكفَّار، ثم يستأنف الإخبار عنهم للمؤمنين، وقرأ نافعٌ وغيره: «أَنَّهَا» - بفتح الألف-، فقيل: إنَّ «لا» زائدةٌ في قوله: لاَ يُؤْمِنُونَ كما زيدَتْ في قوله تعالى: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ [الأنبياء: 95] ، ودعا إلى التزامِ هذا حفْظُ المعنى، لأنها لو لم تكُنْ زائدةً، لعاد الكلام عذراً للكفَّار، وفَسَدَ المراد بالآية، وضَعَّف الزَّجَّاج وغيره زيادةَ «لا» ، ومنهم مَنْ جعل أَنَّها بمعنى لَعَلَّها، وحكاه سيبَوَيْهِ عن الخليلِ، وهذا التأويل لا يحتاجُ معه إلى تقديرِ زيادةٍ، «لا» ، وحكى الكسائيُّ: أنه كذلك في مُصْحف أُبَيٍّ «وَمَا أَدْرَاكُمْ لَعَلَّهَا إذَا جَاءَتْ» ، ورجَّح أبو عليٍّ أنْ تكون «لا» زائدةً، وبسط شواهده في ذلك.
وقوله سبحانه: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ، فالمعنى على ما قالت فرقة: ونقلِّب أفئدتهم وأبصارهم في النَّار، وفي لهبها في الآخرة، لمَّا لم يُؤْمِنُوا في الدنيا، ثم استأنف على هذا: ونَذَرُهُمْ في الدنيا في طغيانهم يعمهون، وقالتْ فرقة: إنما المراد بالتقْلِيبِ التّحويل عن الحقّ والهدى والتّرك في
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 306) برقم (13748) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (2/ 333) ، والسيوطي (3/ 72) وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد.
(2) ينظر: «السبعة» (265) ، و «الحجة» (3/ 375) ، و «إعراب القراءات» (1/ 167) ، و «معاني القراءات» (1/ 378) ، و «حجة القراءات» (265) ، و «شرح الطيبة» (4/ 268) ، و «العنوان» (92) ، و «شرح شعلة» (372) ، و «إتحاف» (2/ 26) .
(3) ينظر: «السبعة» (265) ، و «الحجة» (3/ 382) ، و «إعراب القراءات» (1/ 167) ، و «معاني القراءات» (1/ 379) ، و «حجة القراءات» (267) ، و «العنوان» (92) ، و «شرح الطيبة» (4/ 268) ، و «شرح شعلة» (373) ، و «إتحاف» (2/ 26) .(2/506)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)
الضلالةِ والكُفْر، ومعنى الآية: أن هؤلاء الذين أقسموا أنَّهم يؤمنُون إنْ جاءت آية- نحْنُ نقلِّب أفئدتهم وأبصارهم أنْ لو جاءت فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا أولَ مرَّة بما دُعُوا إلَيْه من عبادة اللَّه تعالى، فأخبر اللَّه عزَّ وجلَّ على هذا التأويل بصورة فعله بهم، وقالتْ فرقة: قوله: كَما في هذه الآية: إنما هي بمعنى المجازاة، أي: لما لم يؤمنوا أولَ مرَّة، نجازيهم، بأنْ نقلِّب أفئدتهم عن الهدى، ونطبع على قلوبهم، فكأنه قال: ونحْنُ نقلِّب أفئدتهم وأبصارهم، جَزَاءً لِمَا لم يؤمنوا أول مرة بما دُعُوا إلَيْه من الشرع، والضميرُ في بِهِ يحتمل أنْ يعود على اللَّه عزَّ وجلَّ، أو على القرآن، أو على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَنَذَرُهُمْ: معناه: نتركُهم، والطغيانُ: التخبُّط في الشرِّ، والإفراط فيما يتناوله المرء، ويَعْمَهُونَ: معناه: يتردّدون في حيرتهم.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 112]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112)
وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ... الآية: أخبر سبحانه أنه لو أتى بجميع ما اقترحوه مِنْ إنزال ملائكةٍ وإحياءِ سلفهم حَسْبما اقترحه بعضُهم أنْ يُحْشَرَ قُصَيٌّ وغيره، فيخبر بصدْقِ محمَّد- عليه السلام-، أو يحشر عليهم كلُّ شيء قُبُلاً- ما آمنوا إلا بالمشيئةِ واللُّطْفِ الذي يخلقه ويَخْتَرِعُه سبحانه في نفْسِ مَنْ يشاء، لا ربَّ غيره.
وقرأ نافع «1» وغيره: «قبلاً» ، ومعناه مواجهةً ومعاينةً قاله ابن عباس «2» وغيره، ونصبه علَى الحالِ، وقال المبرِّد: معناه: ناحيةً كما تقول: لِي قِبَلَ فلانٍ دَيْنٌ.
قال ع «3» : فنصبه على هذا: هو على الظرفِ، وقرأ حمزة «4» وغيره: «قبلا» - بضمّ
__________
(1) ينظر: «السبعة» (265- 266) ، و «الحجة» (3/ 383- 387) ، و «إعراب القراءات» (1/ 167) ، و «معاني القراءات» (1/ 380) ، و «حجة القراءات» (267) ، و «شرح الطيبة» (4/ 269) ، و «العنوان» (92) ، و «شرح شعلة» (374) ، و «إتحاف» (2/ 27) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 312) برقم (13761) ، وذكره ابن عطية (2/ 335) ، وابن كثير (2/ 165) ، والسيوطي (3/ 73) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 335) .
(4) ينظر مصادر القراءات السابق.(2/507)
القافِ والباءِ-، واختلف في معناه، فقال بعضهم: هو بمعنى «قِبَل» بكسر القافِ، أي:
مواجهةً كما تقول: قُبُل ودُبُر.
وقال الزَّجَّاج والفَرَّاء: هو جَمْعُ قَبِيلٍ، وهو الكفيل، أي وحشرنا عليهم كلّ شيء كفلاء بصدق محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقال مجاهد وغيره: هو جمع قَبِيلٍ، أي: صنفاً صنفاً، ونوعاً نوعاً «1» ، والنصب في هذا كلّه على الحالة، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ، أي: يجهلون في اعتقادهم أن الآية تقتَضِي إيمانهم، ولا بُدَّ، فيقتضي اللفظ أنَّ الأقلَّ لا يجهل، فكان فيهم من يعتقد أنَّ الآية لو جاءت لم يُؤْمِنْ إلا مَنْ شاء اللَّه منه ذلك، قُلْتُ: وقال مكِّيٌّ: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ، أي: في مخالَفَتِكَ، وهم يعلمون أنَّك نبيٌّ صادقٌ فيما جئتهم به، وروي أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ يُدَاعِبُ أَبَا سُفْيَانَ بَعْدَ الفَتْحِ بِمِخْصَرَةٍ فِي يَدِهِ، وَيَطْعُنُ بِهَا أَبَا سُفْيَانَ، فَإذَا أحرقته، قال: نحّ عنّي مخصرتك، فو الله، لَوْ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذَا الأَمْرَ، مَا اختلف عليك فيه اثنان. فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَسْأَلُكَ بِالَّذِي أَسْلَمْتَ لَهُ، قِتَالُكَ إيَّايَ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ؟ فَقَالَ لَهُ أَبُو/ سُفْيَانَ: تَظُنُّ أَنِّي كُنْتُ أُقَاتِلُكَ تَكْذِيباً مِنِّي لَكَ، وَاللَّهِ، مَا شَكَكْتُ فِي صَدْقِكَ قَطُّ، وَمَا كُنْتُ أُقَاتِلُكَ إلاَّ حَسَداً مِنِّي لَكَ، فَالحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَزَعَ ذَلِكَ مِنْ قَلْبِي، فَكَانَ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَشْتَهِي ذَلِكَ مِنْهُ، وَيَتَبَسَّمُ» . انتهى من «الهداية» .
وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ ... الآيةَ: تتضمَّن تسلية النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم وعَرْضَ القُدْوة عليه، أي: هذا الذي امتحنت به، يا محمَّد، مِن الأعداء قد امتحن به غَيْرُك من الأنبياء ليبتليَ اللَّه أُولِي العزم منهم، وشَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ:
يريد: المتمردين من النوعين، ويُوحِي: معناه: يلقيه في اختفاء، فهو كالمناجاةِ والسِّرَارِ، وزُخْرُفَ الْقَوْلِ: محسَّنه ومُزَيَّنه بالأباطيل قاله عكرمة ومجاهد «2» ، والزخرفة أكثر ما تستعملُ في الشرِّ والباطل، وغُرُوراً: مصدرٌ، ومعناه يغرُّون به المضلَّلين، والضمير في فَعَلُوهُ عائدٌ على اعتقادهم العداوةَ، ويحتملُ على «الوحْيِ» الذي تضمَّنه يُوحِي.
وقوله سبحانه: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ: لفظٌ يتضمَّن الأمر بالموادعة، وهو منسوخ
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 312، 313) برقم (13764، 13765) ، وذكره ابن عطية (2/ 335) ، وابن كثير (2/ 165) ، والسيوطي (3/ 73) وعزاه لأبي الشيخ عن مجاهد.
(2) أخرجه الطبري (5/ 315، 316) برقم (13778) عن عكرمة، وبرقم (13780، 13781) عن مجاهد، وذكره ابن عطية (2/ 336) ، والسيوطي (3/ 74) ، وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي نصر السجزي في «الإبانة» ، وأبي الشيخ عن مجاهد.(2/508)
وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
قال قتادة: كُلُّ «ذَرْ» في كتاب اللَّه- منسوخ بالقتال «1» .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 113 الى 115]
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
وقوله سبحانه: وَلِتَصْغى: معناه: لِتَمِيلَ، قال «2» الفَخْر: والضميرُ في قوله:
وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ- يعود على زُخْرفِ القولِ، وكذلك في قوله: وَلِيَرْضَوْهُ والاقترافُ: معناه الاكتساب.
وقال الزجّاج: ولِيَقْتَرِفُوا، أي: يختلقوا ويَكْذِبوا، والأول أفصحُ. انتهى.
والقُرَّاء على كسر اللامِ في الثلاثةِ الأفعالِ على أنها لام كي معطوفة على غرورا وحَكَماً أبلغُ من حاكِمٍ إذ هي صيغةٌ للعَدْلِ من الحكام، والحاكم جَارٍ على الفعل، فقَدْ يقال للجائر، ومُفَصَّلًا: معناه: مزالُ الإشكال، والكتاب أولاً هو القرآن، وثانياً اسم جنسٍ للتوراةِ والإنجيلِ والزبورِ والصُّحُفِ.
وقوله تعالى: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ: تثبيتٌ ومبالغةٌ وطَعْنٌ على الممترين.
قلتُ: وقد تقدَّم التنبيه على أنه صلّى الله عليه وسلّم مَعْصُومٌ، وأنَّ الخطاب له، والمراد غيره ممَّنْ يمكن منه الشّكّ.
وقوله سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا ... الآية: تَمَّتْ في هذا الموضع: بمعنى: استمرت وصحَّتْ في الأزل صدقاً وعدلاً، وليس بتمامٍ مِنْ نقصٍ، ومثله ما وقَع في كتب «السِّيرة» مِنْ قولهم: وتَمَّ حَمْزَةُ على إسْلاَمِهِ، في الحديثِ مع أبي جهل، والكلمات: ما أنزل على عباده، ولا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ: معناه: في معانيها.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 116 الى 118]
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118)
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 336) .
(2) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 129) . [.....](2/509)
وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
وقوله سبحانه: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ ... الآية: المعنى: فامض، يا محمَّد لما أُمِرْتَ به، وبلِّغ ما أُرْسِلْتَ به، فإنك إنْ تطع أكثر من في الأرض يضلُّوك، قال ابنُ عباس «1» : الأرض هنا: الدنيا، وحُكِي أنَّ سبب هذه الآية أنَّ المشركين جادلوا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أمر الذبائحِ، وقالوا: أتأكُلُ ما تقتُلُ، وتترُكُ ما قَتَلَ اللَّه، فنزلَتِ الآية، ثم وصفهم تعالى بأنهم إنما يقتدون بظنونهم ويتَّبعون تخرُّصهم، والخَرْصُ: الحَرْز والظنُّ، وهذه الآية/ خبر في ضمْنه وعيدٌ للضالِّين، ووعدٌ للمهتدين، وقوله سبحانه: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ ... الآية: القصْد بهذه الآية النهْيُ عما ذبح للنُّصُب وغيرها، وعن الميتة وأنواعها، ولا قصد في الآية إلى ما نَسِيَ المؤمن فيه التسميَة أو تعمّدها بالترك.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 119 الى 121]
وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
وقوله سبحانه: وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا ... الآية: «ما» : استفهام يتضمَّن التقريرَ، وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ، أي: فصَّل الحرامَ من الحلالِ، وانتزعه بالبيانِ، و «ما» في قوله: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ، يريد بها: مِنْ جميع ما حَرَّم كالميتة وغيرها، وهي في موضع نَصْب بالاستثناء، والاستثناءُ منقطعٌ.
وقوله سبحانه: وَإِنَّ كَثِيراً يريد الكفرة المحادِّين المجادلين، ثم توعَّدهم سبحانه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ.
وقوله جلَّت عظمته: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ- نهْيٌ عامٌّ، والظاهرُ والباطنُ:
يستوفيان جميع المعاصي، وقال قوم: الظاهر: الأعمالُ، والباطنُ: المعتَقَد، وهذا أيضاً حسن لأنه عامٌّ، وروى ابن المبارك في «رقائقه» بسنده، عن أبي أُمَامة، قال: سأل رجل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: مَا الإثْمُ؟ قَالَ: «مَا حَكَّ فِي صَدْرِكَ، فَدَعْهُ» «2» ، وروى ابن المبارك أيضاً بسنده أنَّ رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَحِلُّ لِي مِمَّا يَحْرُمُ عَلَيَّ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 338) .
(2) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 284) رقم (825) .(2/510)
فَرَدَّ عَلَيْهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ فِي كُلِّ ذَلِكَ يَسْكُتُ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ» فَقَالَ: أَنَا ذَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «مَا أَنْكَرَ قَلْبُكَ، فَدَعْهُ» «1» . انتهى، وقد ذكرنا معناه مِنْ طرُقٍ في غير هذا الموضعِ، فأغنى عن إعادته.
ثم توعَّد تعالى كَسَبَةَ الإثمِ بالمجازاةِ على ما اكتسبوه من ذلك، والاقتراف:
الاكتساب.
وقوله سبحانه: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ... الآية:
مقصد الآية النهْيُ عن الميتة إذ هي جواب لقول المشركين: تَتْرُكُونَ ما قَتَلَ اللَّهُ، ومع ذلك، فلفظها يعمُّ ما تُرِكَتِ التسميةُ عليه من ذبائِحِ الإسلام «2» ، وبهذا العمومِ تعلَّق ابن عمر وابنُ سيرينَ والشَّعْبِيُّ وغيرهم فقالوا: ما تُرِكَتِ التسميةُ علَيْه، لم يؤكَلْ، عمدا كان أو نسيانا «3» ، وجمهورُ العلماء على أنه يؤكل إن كان تركُها نسياناً بخلاف العَمْدِ، وقيل:
يؤكل، سواءٌ تركَتْ عمداً أو نسياناً، إلا أنْ يكون مستخِفًّا.
وقوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ ... الآية: قال عكرمة: هم مردة الإنس من مجوس
__________
(1) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» (ص 283- 284) رقم (824) .
(2) أجمع الفقهاء على مشروعية التسمية عند الذبح، وعند الإرسال: والرمي إلى الصيد.
ولكنهم اختلفوا في كونها شرطا في حل الأكل: فذهب الشافعي وأصحابه إلى أنها سنة، فلو تركها عمدا أو سهوا، حل الصيد والذبيحة.
وهي رواية عن «مالك» ، و «أحمد» .
وروي ذلك عن ابن عباس، وأبي هريرة، وعطاء، وسعيد بن المسيب والحسن، وجابر بن زيد، وعكرمة، وأبي عياض، وأبي رافع، وطاوس، وإبراهيم النخعي، وعبد الرّحمن بن أبي ليلى، وقتادة.
وذهب أبو حنيفة- رحمه الله تعالى- إلى أن التسمية شرط للإباحة مع الذكر دون النسيان، فإن تركها عمدا، فالذبيحة ميتة.
وهو مذهب جماهير العلماء، والصحيح من مذهب مالك- رضي الله عنه-، والمشهور عن أحمد في الذبيحة.
وقال أهل الظاهر: إن تركها عمدا، أو سهوا لم يحل.
وهو الصحيح عن أحمد في الصيد.
وروي عن ابن سيرين، وعبد الله بن عياش، وعبد الله بن عمر، ونافع، وعبد الله بن يزيد الخطمي، والشعبي، وأبي ثور.
ينظر: «الزكاة» ، لشيخنا عبد الله حمزة.
(3) أخرجه الطبري (5/ 329) عن ابن سيرين برقم (13832) ، وذكره البغوي (2/ 127) ، وابن عطية (2/ 340) ، وابن كثير (2/ 169) والسيوطي (3/ 80) ، وعزاه لعبد بن حميد، عن محمد بن سيرين.(2/511)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
فَارِس «1» ، وذلك أنهم كانوا يوالُونَ قُرَيْشاً على عداوة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ من قريش لِيُجادِلُوكُمْ بقولهم: تأكلون ما قَتَلْتُمْ ولا تأكلون ما قَتَلَ اللَّه فذلك من مخاطبتهمْ هو الوحْيُ، والأولياء هم قريشٌ، وقال ابن زَيْد وعبد اللَّه بن كثير: بل الشياطينِ الجِنُّ، واللفظة على وجْهها، وأولياؤهم: كَفَرة قريش، ووحْيُهم بالوسوسة، وعلى ألسنة الكُهَّان.
ثم نهى سبحانه عن طاعتهم بلفظ يتضمَّن الوعيدَ وعرض أصعب مثالٍ في أن يشبه المؤمن بالمُشْرك، قال ابن العربيِّ «2» : قوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ، سمَّى اللَّه تعالى ما يقع في القلوبِ من الإلهام وحياً/، وهذا مما يطلقه شيوخُ المتصوِّفة، وينكره جُهَّال المتوسِّمين بالعلْمِ، ولم يعلموا أن الوحْيَ على ثمانيةِ أقسامٍ، وأن إطلاقه في جميعها جائزٌ في دِينِ اللَّه. انتهى من «أحكام القرآن» .
[سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 124]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)
وقوله سبحانه: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ، لما تقدَّم ذكْر المؤمنين، وذكْر الكافرين، مثَّل سبحانه في الطائفتين بأنْ شَبَّه الذين آمنوا بَعْد كفرهم بأمواتٍ أُحْيُوا، هذا معنى قول ابن عباس «3» ومجاهد وغيرهما، وشَبَّه الكافرين وحَيْرَةَ جهلهم بقَوْمٍ في ظلمات يتردَّدون فيها، ولا يمكنهم الخروجُ منها ليبيِّن عزَّ وجلَّ الفرق بيْنَ الطائفتَيْن، والبَوْن «4» بين المنزلتين، ونُوراً أمكن ما يعني به الإيمان، قيل: ويحتمل أن يراد به النُّور الذي يُؤْتَاهُ المؤمن يوم القيامة، وجَعَلْنا في هذه الآية: بمعنى صيّرنا، فهي تتعدّى إلى
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 340) .
(2) ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 747) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 332) برقم (13843، 13844، 13845) عن مجاهد وبرقم (13846، 13847) عن ابن عباس، وبرقم (13849) عن السدي، وبرقم (13850) عن ابن زيد، وذكره ابن عطية (2/ 341) ، والسيوطي (3/ 81) وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ عن مجاهد.
(4) البون والبون: مسافة ما بين الشيئين. ينظر: «لسان العرب» (391) .(2/512)
مفعولَيْن، الأول: مُجْرِمِيها، والثاني: أَكابِرَ، وفي الكلام على هذا: تقديمٌ وتأخير، وتقديره: وكذلك جعلنا في كلِّ قريةٍ مجرميها أَكَابِرَ، وقدَّم الأهمَّ إذ لعلَّة كِبْرهم أجرموا، ويصح أن يكون المفعولُ الأول: «أكابر» ، و «مجرميها» «1» مضافٌ، والمفعولُ الثاني: في قوله: فِي كُلِّ قَرْيَةٍ، ولِيَمْكُرُوا: نصب بلامِ الصيرورةِ والأكابر: جمع أكْبَر كما الأفاضلُ جمع أفْضَل، قال الفَخْر «2» : وإنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل
__________
(1) اختلف في تقديرهما، والصحيح: أن يكون «في كلّ قرية» مفعولا ثانيا قدم على الأول، والأول «أكابر» مضافا ل «مجرميها» .
والثاني: أن يكون «في كلّ قرية» مفعولا ثانيا أيضا مقدما، و «أكابر» هو الأول، و «مجرميها» بدل من «أكابر» ذكر ذلك أبو البقاء.
الثالث: أن يكون «أكابر» مفعولا ثانيا قدم، و «مجرميها» مفعول أول آخر، والتقدير: جعلنا في كل قرية مجرميها أكابر- فيتعلق الجار بنفس الفعل قبله، ذكر ذلك ابن عطية.
قال الشيخ: «وما أجازاه- يعني أبا البقاء وابن عطية- خطأ وذهول عن قاعدة نحوية، وهو أن «أفعل» التفضيل إذا كان ب «من» ملفوظا بها أو مقدرة، أو مضافة إلى نكرة كانت مفردة مذكرة على كل حال، سواء كانت لمذكر أم مؤنث مفرد أو مثنى أم مجموع. وإذا ثنيت أو جمعت أو أنثت، طابقت ما هي له، ولزمها أحد أمرين: إمّا الألف واللام، وإمّا الإضافة لمعرفة. وإذا تقرر ذلك، فالقول بكون «مجرميها» بدلا، وبكونه مفعولا أول، و «أكابر» مفعول ثان خطأ، لاستلزام أن يبقى «أكابر» مجموعا، وليست فيه ألف ولام، ولا هي مضافة لمعرفة. قال: وقد تنبه الكرماني إلى هذه القاعدة فقال: «أضاف «أكابر» إلى «مجرميها» لأن «أفعل» لا يجمع إلّا مع الألف واللام، أو مع الإضافة» . قال الشيخ: وكان ينبغي أن يقيد بالإضافة إلى معرفة. قلت: أما هذه القاعدة فمسلمة ولكن قد ذكر مكي ما ذكر ابن عطية سواء، وما أظنه أخذ إلّا منه، وكذلك الواحدي أيضا، ومنع أن يجوز إضافة «أكابر» إلى «مجرميها» . قال الواحدي- رحمه الله-: «والآية على التقديم والتأخير، تقديره: جعلنا مجرميها أكابر، ولا يجوز أن يكون «الأكابر» مضافة، لأنه لا يتم المعنى، ويحتاج إلى إضمار المفعول الثاني للجعل، لأنك إذا قلت:
جعلت زيدا، وسكت، لم يفد الكلام حتّى تقول: رئيسا أو ذليلا أو ما أشبه ذلك، ولأنك إذا أضفت «الأكابر» فقد أضفت النعت إلى المنعوت، وذلك لا يجوز عند البصريين» . قلت: هذان الوجهان اللذان ردّ بهما الواحدي ليسا بشيء. أما الأول فلا نسلم أنا نضمر المفعول الثاني، وأنه يصير الكلام غير مفيد، وما أورده من الأمثلة فليس مطابقا، لأنا نقول: إنّ المفعول الثاني هنا مذكور مصرح، وهو الجار والمجرور السابق. وأما الثاني فلا نسلم أنه من باب إضافة الصفة لموصوفها، لأن المجرمين: أكابر، وأصاغر، فأضاف للبيان، لا لقصد الوصف.
الرابع: أن المفعول الثاني محذوف. قالوا: وتقديره: جعلنا في كلّ قرية أكابر مجرميها فسّاقا ليمكروا.
وهذا ليس بشيء لأنه لا يحذف شيء، إلا الدليل، والدليل على ما ذكروه غير واضح. وقال ابن عطية:
ويقال: أكابرة، كما يقال: أحمر وأحامرة.
ينظر: «الدر المصون» (3/ 171- 172) .
(2) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 143) .(2/513)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
رياستهم أقْدَرُ على الغَدْرِ والمَكْرِ ورُكُوبِ الباطلِ من غيرهم ولأن كثرة المال والجاه يَحْمِلاَنِ الإنسان على المبالغةِ في حِفْظهما وذلك الحِفْظُ لا يتمُّ إلا بجميع الأخلاق الذميمةِ كالغَدْر والمَكْر والكَذِب والغِيبة والنَّميمة والأَيْمَان الكاذبة ولو لم يكن للمالِ والجاهِ سوى أنَّ اللَّه تعالى حَكَم بأنه إنما وصفَ بهذه الأوصافِ الذميمةِ مَنْ كان له مالٌ وجاه، لكفى ذلك دليلاً على خَسَاسة المالِ والجَاهِ. انتهى، وما ذكره من المال والجاه هو الأغلَبُ.
وَما يَشْعُرُونَ، أي: ما يعلمون.
وقوله سبحانه: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ، أي: علامةٌ ودليلٌ على صحَّة الشرع، تشطَّطوا، وقالوا: لَنْ نؤمن حتَّى يُفْلَقَ لنا البَحْرُ، ويحيى لنا الموتى، ونحْوَ ذلك، فردَّ اللَّه تعالى عليهم بقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ فيمن اصطفاه، وانتخبه، لا فيمن كَفَرَ، وجعل يتشطَّط على اللَّه سبحانه، قال الفَخْر «1» : قال المفسِّرون: قال الوليدُ بْنُ المُغِيرَةِ «2» :
لو كانتِ النبوَّة حقًّا، لكنْتُ أولى بها، قال الضَّحَّاك: أراد كلُّ واحد من هؤلاء الكفرة أنْ يُخَصَّ بالوحْيِ والرسالةِ كما أخبر عنهم سبحانه: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر: 52] انتهى.
ثم توعَّد سبحانه بأن هؤلاء المجرمين الأكابر في الدنيا سيصيبهم عند اللَّه صَغَارٌ وذلَّة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 129]
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)
__________
(1) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 143) .
(2) الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، أبو عبد شمس: من قضاة العرب في الجاهلية، ومن زعماء قريش، ومن زنادقتها. يقال له «العدل» لأنه كان عدل قريش كلها: كانت قريش تكسو «البيت» جميعها، والوليد يكسوه وحده. وكان ممن حرم الخمر في الجاهلية، وضرب ابنه هشاما على شربها. وأدرك الإسلام، وهو شيخ هرم، فعاداه وقاوم دعوته. قال ابن الأثير: وهو الذي جمع قريشا، وقال: «إن الناس يأتونكم أيام الحج، فيسألونكم عن محمد، فتختلف أقوالكم فيه، فيقول هذا: كاهن:
ويقول هذا: شاعر، ويقول هذا: مجنون وليس يشبه واحدا مما يقولون، ولكن أصلح ما قيل فيه:
«ساحر» لأنه يفرق بين المرء وأخيه، والزوج وزوجته!» وهلك بعد الهجرة بثلاثة أشهر، ودفن بالحجون. وهو والد سيف الله خالد بن الوليد.
ينظر: «الأعلام» (8/ 122) ، «الكامل» لابن الأثير (2/ 26) ، «اليعقوبي» (1/ 215) .(2/514)
وقوله سبحانه: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ ... الآية: مَنْ:
شرط، ويَشْرَحْ جوابُ الشرط.
والآيةُ نصٌّ في أن اللَّه تعالى يريدُ هدى المؤمن، وضلالَ الكافر، وهذا عند جميعِ أهْل السنَّة بالإرادةِ القديمةِ التي هي صفةُ ذاته تبارك وتعالى، والهدى هنا: هو خَلْق الإيمان في القَلْبِ، وشَرْحُ الصدرِ: هو تسهيلُ الإيمان، وتحبيبُه، وإعدادُ القَلْبِ لقبولِهِ وتحصيلِهِ، والصَّدْر: عبارةٌ عن القلب، وفي يَشْرَحْ ضمير يعود على اسم اللَّهِ عزَّ وجلَّ/ يَعْضُدُهُ اللفظ والمعنى، ولا يَحْتَمِلُ غَيْرَهُ، والقولُ بأنه عائدٌ على «المَهْدِيِّ» - قولٌ يتركَّب عليه مذهب القَدَريَّة في خَلْق الأعمال، ويجبُ أن يُعتقد ضَعْفُهُ، والحَذَرُ منه، ورُوِيَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم «أنه لَمَّا نزلَتْ هذه الآية، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يُشْرَحُ الصَّدْرُ؟ قَالَ: إذَا نَزَلَ النُّورُ فِي القَلْبِ، انشرح لَهُ الصَّدْرُ، وانفسح، قَالُوا: وَهَلْ لِذَلِكَ عَلاَمَةٌ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: نَعَمِ، الإنَابَةُ إلَى دَارِ الخُلُودِ، وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الغُرُورِ، والاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ، قَبْلَ المَوْتِ» ، والقول «1» في قوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ كالقول في قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ، وقرأ حمزة وغيره: «حَرَجاً» - بفتح الراء-، وروي أن عمر بن الخطاب (رضي اللَّه عنه) قرأها يوماً بفتح الراء، فقرأها له بعضُ الصَّحابة بكَسْر الراء، فقال: ابغوني رجُلاً من كِنَانَةَ، وليكنْ رَاعياً، وليكُنْ من بني مدلج، فلما جاء، قال له: يَا فتى، مَا الحَرِجَةُ عنْدَكُمْ؟ قال الشَّجَرَةُ تكُونُ بَيْن الأشجار لا تَصِلُ إليها راعيَةٌ ولا وَحْشِيَّة، قال عمر: كذلِكَ قَلْبُ المنافق لا يَصِلُ إليه شَيْءٌ من الخير «2» .
وقوله سبحانه: كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ، أي: كأنَّ هذا الضّيّق الصّدر متى حاول
__________
(1) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 83) عن ابن مسعود. وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا، وابن جرير، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والحاكم، والبيهقي في «الشعب» وعزاه إلى عبد بن حميد، عن الفضيل بنحوه. [.....]
(2) أخرجه الطبري (5/ 337) برقم (13865) ، وذكره البغوي (2/ 129) وابن عطية (2/ 343) ، وابن كثير (2/ 175) ، والسيوطي (3/ 84) وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ عن أبي الصلت الثقفي، عن عمر بن الخطاب.(2/515)
الإيمان أو فكَّر فيه، يجد صعوبته عليه، والعياذُ باللَّه، كصعوبةِ الصُّعود في السماء، قاله ابن جريج وغيره «1» ، وفِي السَّماءِ، يريد: مِنْ سفل إلى علوٍ، وتحتمل الآية أنْ يكون التشبيهُ بالصاعدِ في عَقَبَةٍ كَئُود كأنه يَصْعَدُ بها في الهواء، ويَصْعَدُ: معناه: يعلو، ويَصَّعَّدُ:
معناه: يتكلَّف من ذلك ما يشقُّ عليه.
وقوله: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ، أي: وكما كان الهدى كله من اللَّه، والضلال بإرادته تعالى ومشيئته كذلك يجعل اللَّه الرجْسَ، قال أهل اللغة: الرجْسُ يأتي بمعنى العَذَابِ، ويأتي بمعنى النَّجَس.
وقوله تعالى: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ... الآية: هذا إشارة إلى القرآن والشرْعِ الذي جاء به نبيُّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم قاله ابن عباس، وفَصَّلْنَا، معناه: بيَّنا وأوضحنا «2» .
وقوله سبحانه: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ، أي: للمؤمنين، والضمير في قوله: لَهُمْ دارُ السَّلامِ عائد عليهم، والسَّلام: يتجه أن يكون اسما من أسماء اللَّه عزَّ وجلَّ، ويتجه أن يكون مصدراً بمعنى السلامة.
وقوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يريد في الآخرة بعد الحشر، ووليّهم، أي: وليّ الإنعام عليهم، وبِما كانُوا يَعْمَلُونَ، أي: بسَبَبِ ما كانوا يُقَدِّمون من الخير، ويفعلون من الطاعة والبر.
وقوله سبحانه: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ، والمعنى: واذكر يَوْمَ، وفي الكلامِ حذفٌ، تقديره: نقول: يا معشر الجنِّ، وقوله: قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ: معناه: أفرطتم، ومِنَ الْإِنْسِ: يريد: في إضلالهم وأغوائهم قاله ابن عباس وغيره «3» ، وقال الكُفَّار من الإنْس، وهم أولياء الجنِّ الموبَّخين على جهة الاعتذار عن الجنِّ: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ، أي: انتفع وذلك كاستعاذتهم بالجنِّ إذ كان العربيُّ إذا نزل وادياً، ينادي: يا رَبَّ الوادِي، إنِّي أستجيرُ بك في هذه الليلة، ثم يرى سلامته إنما هي بحفْظِ جَنِّيِّ ذلك الوادِي، ونحو ذلك، وبلوغ الأجل المؤجّل: هو
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 340) برقم (13878، 13879) ، وذكره ابن عطية (2/ 343) ، وابن كثير (2/ 175) ، والسيوطي (3/ 84) ، وعزاه لأبي الشيخ عن ابن جريج.
(2) أخرجه الطبري (5/ 442) برقم (13886) ، وذكره ابن عطية (2/ 344) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 442) برقم (13888) ، وذكره ابن عطية (2/ 345) ، والسيوطي (3/ 85) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس.(2/516)
الموتُ، وقيل: هو الحشر.
وقوله تعالى: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ ... الآية: إخبارٌ من اللَّه تعالى/ عما يقولُ لهم يوم القيامة إثْرَ كلامهم المتقدّم، ومَثْواكُمْ، أي: موضع ثوائكم كَمُقَامِكُمُ الذي هو مَوْضِعُ الإقامة قاله الزَّجَّاج، والاستثناءُ في قوله: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ قالتْ فرقة: «مَا» بمعنى «مَنْ» ، فالمراد: إلا مَنْ شاء اللَّه مِمَّنْ آمن في الدنيا بعد، إن كان مِنْ هؤلاء الكَفَرة، وقال الطبريُّ «1» : إن المستثنى هي المُدَّة التي بَيْنَ حشرهم إلى دخولهم النار، وقال الطبريُّ «2» ، عن ابن عباس: إنه كان يتأوَّل في هذا الاستثناء أنه مبلغ حالِ هؤلاء في علْمِ اللَّه «3» ، ثم أسند إليه أنه قال: إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحَدٍ أنْ يحكم على اللَّه في خَلْقه لا يُنْزِلُهم جنَّةً ولا ناراً.
قال ع «4» : والإجماع على التخليد الأبديِّ في الكُفَّار، ولا يصحُّ هذا عن ابن عباس (رضي اللَّه عنه) .
قال ص: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ: قيل: استثناء منقطعٌ، أي: لكِنْ ما شاء اللَّه مِنَ العذابِ الزائِدِ على النَّار، وقيل: متصلٌ، واختلفوا في تقديره، فقيل: هو استثناء مِنَ الأشخاصِ، وهم مَنْ آمن في الدنيا، ورُدَّ بأنه يختلف زمان المستثنى والمستثنى منه، فيكون منقطعاً لا متصلاً لأنَّ مِنْ شرط المتصل اتحاد زمانَيِ المُخْرَجِ والمُخْرَجِ منه. انتهى، وقيل غير هذا.
وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً، قال قتادة «5» : معناه: نجعل بعضهم وليَّ بعض في الكفر والظلم، وقال أيضاً: المعنى نجعلُ بعضهم يَلِي بعضاً في دخول النار، وقال ابن زيد: معناه: نسلِّط بعض الظالمين على بعض، ونجعلهم أولياء النقمة «6» منهم.
__________
(1) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 343) .
(2) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 343) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 343) برقم (13895) ، وذكره البغوي (2/ 131) ، وابن عطية (2/ 345) ، وابن كثير (2/ 176) ، والسيوطي (3/ 85) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن عباس.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 346) .
(5) أخرجه الطبري (5/ 344) برقم (13896) ، وذكره البغوي (2/ 131) ، وابن عطية (2/ 346) ، وابن كثير (2/ 176) ، والسيوطي (3/ 85) وعزاه لعبد الرزاق، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة.
(6) أخرجه الطبري (5/ 344) برقم (13898) ، وذكره ابن عطية (2/ 346) ، وابن كثير (2/ 176) ، والسيوطي (3/ 85) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن ابن زيد.(2/517)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
قال ع «1» : وقد حفظ هذا في استعمال الصحابة والتابعين كقول ابن الزُّبَيْر: أَلاَ إنَّ فم الذّبّان قتل لطيم الشّيطان «2» وكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 130 الى 132]
يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
وقوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ ...
الآية: هذا الكلامُ داخلٌ في القول يَوْمَ الحشر.
قال الفَخْر «3» : قال أهل اللغة: المَعْشَر: كلُّ جماعةٍ أَمْرهم واحدٌ، وتَحْصُلُ بينهم معاشرةٌ ومخالطةٌ، فالمَعْشَر: المُعَاشِر. انتهى، ونْكُمْ
: يعني: مِنَ الإنس قاله ابن جُرَيْج «4» وغيره، وقال ابن عباس: من الطائفَتَيْنِ «5» ، ولكنْ رسلُ الجنّ هم رسل رسل الإنس، وهم النّذر، وقُصُّونَ
: من القصص، وقولهم: هِدْنا
: إقرار منهم بالكفر.
وقوله سبحانه: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
: التفاتة فصيحةٌ تضمَّنت أنَّ كفرهم كان بأذَمِّ الوجوه لهم، وهو الاغترار الذي لا يواقعه عاقل، ويحتمل رَّتْهُمُ
أن يكون بمعنى:
أشبعتهم وأطعمتهم بحَلْوَائها كما يقال: غَرَّ الطَّائِرُ فَرْخَهُ.
وقوله سبحانه: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
: الجمع بيْنَ هذه الآية وبَيْن الآي التي تقتضي إنكار المشركين الإشْرَاكَ هو إمَّا بأنها طوائفُ، وإما بأنها طائفةٌ واحدةٌ في مواطنَ شتى.
وقوله: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، أي: ذلك الأمر، والْقُرى: المدن، والمراد: أهل
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 346) .
(2) ذكره ابن عطية (2/ 346) .
(3) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 159) .
(4) أخرجه الطبري (5/ 345) برقم (13900) نحوه، وذكره ابن عطية (2/ 346) نحوه، وابن كثير (2/ 177) ، والسيوطي (3/ 86) وعزاه لابن المنذر عن ابن جريج بنحوه، وعزاه أيضا لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد. [.....]
(5) أخرجه الطبري (5/ 345) برقم (13900) ، وذكره ابن عطية (2/ 346) ، وابن كثير (2/ 177) بنحوه.(2/518)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
القرى، وبِظُلْمٍ: يحتمل معنيين:
أحدهما: أنه لم يكُنْ سبحانه لِيُهْلِكَهم دون نِذَارة، فيكون ظُلْماً لهم، واللَّه تعالى ليس بظلاَّم للعبيد.
والآخر: أنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ لم يُهْلِكْهم بظلمٍ واقعٍ منهم دون أنْ ينذرهم، وهذا هو البيِّن القويُّ، وذكر الطبري (رحمه اللَّه) التأويلين.
وقوله سبحانه: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ... الآية: إخبارٌ من اللَّه سبحانه أنَّ المؤمنين في الآخرة على درجاتٍ من التفاضُل بحَسَب أعمالهم، وتفضُّل المولى سبحانه عليهم، ولكنْ كلٌّ راضٍ بما أعطِيَ غايةَ الرضا، / والمشركون أيضاً على دركاتٍ من العذابِ، قلتُ: وظاهر الآية أن الجنَّ يثابون وينالُونَ الدَّرَجَاتِ والدَّرَكَاتِ، وقد ترجم البخاريُّ على ذلك، فقال: ذِكْر الجنِّ وثَوَابِهِم وعقابِهِم لقوله تعالى: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ...
الآية، إلى قوله: وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ، قال الداوديّ: قال الضحاكُ: مِنَ الجنِّ مَنْ يدخل الجنَّة، ويأكل ويشرب «1» . انتهى.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 135]
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
وقوله سبحانه: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَّا يَشاءُ الآيةُ متضمِّنةٌ وعيداً وتحذيراً من بطْشِ اللَّه عزَّ وجلَّ في التعجيل بذلك، وإمَّا مع المُهْلَة ومرورِ الجَدِيدَيْن فذلك عادته سبحانه في الخَلْق بإذهاب خَلْقِ واستخلاف آخرين.
وقوله سبحانه: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ، هو من الوعيدِ بقرينة: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ، أي: وما أنتم بناجين هَرَباً فتعجزوا طالبكم، ثم أمرَ سبحانَه نبيَّه- عليه السلام- أنْ يتوعدَّهم بقوله: اعْمَلُوا، أي: فسترون عاقبةَ عملكم الفاسدِ، وصيغةُ «افعل» هنا: هي بمعنى الوعيد والتهديد، وعَلى مَكانَتِكُمْ: معناه: على حالكم وطريقتكم، وعاقِبَةُ الدَّارِ، أي: مآل الآخرة، ويحتمل مآل الدنيا بالنصر والظهور، ففي الآية إعلام بغيب.
__________
(1) ذكره السيوطي (3/ 87) ، وعزاه لابن المنذر، وأبي الشيخ في «العظمة» عن الضحاك.(2/519)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 138]
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138)
وقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ، يعني: مشركي العربِ الذين تقدَّم الردُّ عليهم من أول السورة، وذَرَأَ: معناه: خلَق وأنشأَ وبَثَّ، وسبَبُ نزول هذه الآية أنَّ العرب كانَتْ تجعل من غَلاَّتها وزُرُوعها وثمارها وأنعامها جُزْءاً تسميِّه للَّه، وَجْزْءاً تسميه لأصنامها، وكانت عادتها التحفِّي والاهتبال بنَصيبِ الأصنام أكْثَرَ منها بنصيب اللَّهِ إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فَقْر، وليس ذلك باللَّه سبحانه، فكانوا إذا جمعوا الزَّرْعَ، فهبَّت الريحُ، فحملَتْ مِنَ الذي للَّه إلى الذي لشركائِهِمْ، أقروه، وإذا حملَتْ من الذي لشركائِهِمْ إلى الذي للَّه، ردُّوه، وإذا لم يُصِيبُوا في نصيبِ شركائهم شيئاً، قالوا: لا بُدَّ للآلهة مِنْ نفقةٍ، فيجعلون نصيب اللَّه تعالى في ذلك قال هذا المعنى ابن عباس ومجاهدٌ والسديُّ وغيرهم «1» أنهم كانوا يفعلُونَ هذا ونحوه من الفعْلِ وكذلك في الأنعامِ كانوا إذا أصابتهم السَّنَةُ، أكلوا نصيبَ اللَّه، وتحامَوْا نصيبَ شركائهم.
وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ، الكثير هنا يرادُ به مَنْ كان يَئِدُ «2» مِنْ مشركي العرب، والشركاء هاهنا: الشياطين الآمِرُونَ بذلك، المزيِّنون له، والحاملون عليه أيضاً من بني آدم، ومقصد الآية الذمُّ للوأد والإنحاء على فعلته، ولِيُرْدُوهُمْ: معناه: ليهلكوهم من الرّدى، ولِيَلْبِسُوا: معناه: ليخلّطوا.
وقوله سبحانه: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ يقتضي أن لا شيء إلا بمشيئة اللَّه
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 350) برقم (13902) عن ابن عباس، وبرقم (13905) عن مجاهد، وبرقم (13909) عن السدي، وذكره ابن عطية (2/ 349) ، وابن كثير (2/ 179) عن ابن عباس، والسيوطي (3/ 89) وعزاه لابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس، وعزاه أيضا لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد.
(2) وأد البنات، أي: قتلهن، قال المفسرون: كان الرجل في الجاهلية إذا ولدت له بنت، دفنها حين تضعها والدتها حية مخافة العار والحاجة.
ينظر: «لسان العرب» (4745) .(2/520)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
عزَّ وجلَّ، وفيها ردٌّ على من قال بأن المرء يَخْلُقُ أفعاله، وقوله: فَذَرْهُمْ: وعيدٌ محضٌ.
وقوله سبحانه: وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها الآيةُ تتضمَّن ما شرعوه لأنفسهم والتزموه على جهة القربة كذباً منهم على الله سبحانه، وحِجْرٌ: معناه: التحجيرُ، وهو المنعُ والتحريمُ، وَأَنْعامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا: قال جماعةٌ من المفسِّرين: إنَّهم كانت لهم سُنَّة في أنعامٍ مَّا ألاَّ يُحَجُّ عليها، فكانَتْ تُرْكَبُ في كلِّ وجه إلا في الحَجِّ، وقالت فرقة: بل ذلك في الذبائحِ، جعلوا لآلهتهم نصيباً منها لا يذكرون الله على ذبحها.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 139 الى 140]
وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)
وقوله سبحانه: وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا ... الآية: كان/ مِنْ مذاهبهم الفاسدةِ في بَعْض الأنعامِ أنْ يحرِّموا ما وَلَدَتْ على نسائهم، ويخصِّصونه لذُكُورهم، ف أَزْواجِنا: يراد به جماعةُ النساءِ التي هِيَ معدَّة أن تكون أزواجاً قاله مجاهد «1» ، وقوله: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً، يعني: أنه كان من سُنَّتهم أنَّ ما خرج من الأجنَّة ميتاً مِنْ تلك الأنعام الموقوفة، فهو حلالٌ للرجال والنساء جميعاً، وكذلك ما مات مِنَ الأنعامِ الموقوفةِ نَفْسِها، ثم أعقب تعالى بوعيدهم على ما وصفوا أنه من القربات.
وقوله سبحانه: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ ... الآية: تتضمَّن التشنيع بسوء فعلهم، والتَّعْجيبَ مِنْ سوء حالهم فيما ذَكَر، قال عكرمة: وكان الوَأْدُ في رَبِيعَةَ وفِي مُضَرَ «2» .
قال ع «3» : وكان جمهورُ العرب لا يفعله، ثم إنَّ فاعليه كان منهم مَنْ يفعله
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 358) برقم (13944) ، وذكره البغوي (2/ 134) ، وابن عطية (2/ 352) ، والسيوطي (3/ 90) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن مجاهد.
(2) أخرجه الطبري (5/ 360) برقم (13953) ، وذكره البغوي (2/ 134) ، وابن عطية (2/ 352) ، والسيوطي (3/ 91) ، وعزاه لابن المنذر، وأبي الشيخ عن عكرمة.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 352) .(2/521)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
خَوْفَ العَيْلَة والافتقار، وكان منهم من يفعله غيرة مخافة السّباء، وقَدْ ضَلُّوا: إخبارٌ عنهم بالحَيْرة، وَما كانُوا: يريد في هذه الفَعْلَةِ، ويحتمل أن يريدَ: وما كانوا قبل ضلالهم بهذه الفَعْلة مهتدين، ولكنَّهم زادوا بهذه الفعلة ضلالا.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 142]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ ... الآية: تنبيهٌ على مواضع الاِعتبار، وأَنْشَأَ: معناه: خلق واخترع، ومَعْرُوشاتٍ، قال ابنُ عَبَّاس: ذلك في ثَمَر العِنَبِ، مِنْها: ما عرش وسمك، ومنها: ما لم يعرش «1» ، ومُتَشابِهاً: يريد: في المنظر، وغَيْرَ مُتَشابِهٍ: في الطعم قاله ابن جُرَيْج وغيره «2» ، وقوله: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ: نصٌّ في الإباحة، وقوله سبحانه: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ:
قال ابن عباس وجماعة: هي في الزكاة المفْرُوضة «3» .
قال ع «4» : وهذا القولُ مُعْتَرَضٌ بأن السورة مكِّيَّةٌ وبأنَّه لا زكاة فيما ذُكِرَ من الرُّمَّانِ، وما في معناه، وحكى الزجَّاج أنَّ هذه الآية قيل فيها: إنها نزلَتْ بالمدينة، وقال مجاهدٌ وغيره: بل قوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ: نَدْبٌ إلى إعطاء حقوقٍ مِنَ المال غَيْر الزكاة «5» ، والسُّنَّة أن يُعْطِيَ الرجُلُ من زرعه عند الحصَادِ، وعِنْدَ الذَّرْوِ، وعنْدَ تكديسه في البَيْدَرِ «6» ، فإذا صفى وكال، أخرج من ذلك الزكاة.
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 361) برقم (13961) ، وذكره البغوي (2/ 135) ، وابن عطية (2/ 353) ، وابن كثير (2/ 181) ، والسيوطي (3/ 92) ، وعزاه لأبي الشيخ عن ابن عباس.
(2) أخرجه الطبري (5/ 362) برقم (13962) ، وابن عطية (2/ 353) ، وابن كثير (2/ 181) ، والسيوطي (3/ 92) ، وعزاه لابن المنذر، وأبي الشيخ، عن ابن جريج.
(3) أخرجه الطبري (5/ 363) برقم (13974) ، وذكره البغوي (2/ 135) ، وابن عطية (2/ 353) ، وابن كثير (2/ 181) ، والسيوطي (3/ 94) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 353) .
(5) أخرجه الطبري (5/ 365) برقم (13996) ، وذكره البغوي (2/ 135) ، وابن عطية (2/ 353) ، وابن كثير (2/ 181) ، والسيوطي (3/ 92) وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ والبيهقي عن مجاهد.
(6) البيدر: الأندر (شامية) وأندر القمح الكدس منه خاصة. وفي المعجم الوسيط: البيدر: الجرن، والقمح-(2/522)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
وقالتْ طائفة: هذا حكم صدَقَاتِ المسلمين حتى نزلَت الزكاةُ المفروضةُ، فنسخَتْها.
قال ع «1» : والنسخ غَيْرُ مترتِّب في هذه الآية، ولا تَعَارُضَ بينها وبيْن آية الزكاة، بل تَنْبَنِي هذه على النَّدْبِ، وتلك على الفرض.
وقوله سبحانه: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ النهْيُ عن الإسراف: إما للناس عن التمنُّع عن أدائها لأن ذلك إسراف من الفعْلِ، وإما للولاة عن التشطُّط على الناسِ والإذاءة لهم، وكلٌّ قد قيلَ به في تأويل الآية.
وقوله سبحانه: وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً حَمُولَةً: عطْفٌ على جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ. التقدير: وأنشأنا من الأنعامِ حمولةً، والحَمُولَةُ: ما تحمل الأثقال مِنَ الإبل والبقر عنْدَ مَنْ عادته أنْ يحمل عليها، والفَرْش: ما لا يحمل ثقلاً كالغنم وصِغَار البَقَر والإبل، وهذا هو المرويُّ عن ابْنِ مسعود وابن عباس والحَسَن «2» وغيرهم، ولا مَدْخَل في الآية لغَيْر الأنعام، وقوله: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ: نصُّ إباحةٍ، وإزالةُ مَا سَنَّه الكفرة من البَحِيرَة والسَّائبة وغير ذلك، ثم تابع النهْيَ عن تلك السُّنَن/ الآفكة بقوله سبحانه: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ، وهي جمع خُطْوَة، أي: لا تَمْشُوا في طريقه، قُلْتُ: ولفظ البخاريِّ: خُطُواتِ من الخَطْو، والمعنى: آثاره. انتهى.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 143 الى 145]
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لآ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
__________
- ونحوه بعد دياسه وتقويمه.
ينظر: «لسان العرب» (229، 4382) ، و «المعجم الوسيط» (78) . [.....]
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 353) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 372، 373) برقم (14050، 14055، 14056، 14057) عن ابن مسعود، (14051، 14060، 14061) عن ابن عباس، و (14058، 14059، 14067) عن الحسن، وغيرهم منهم (14052، 14053، 14054) عن مجاهد، و (14063، 14064) عن قتادة، وذكره ابن عطية (2/ 354) ، وابن كثير (2/ 182) ، والسيوطي (3/ 94) وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وأبي عبيد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والطبراني، والحاكم، وصححه عن ابن مسعود.(2/523)
وقوله سبحانه: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ، واختلف في نَصْبِها فقيل: على البدل من «مَا» في قوله: كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ، وقيل: على الحال، وقيل: على البدل من قوله: حَمُولَةً وَفَرْشاً، وهذا أصوب الأقوال، وأجراها على «1» معنى الآيةِ، والزَّوْج: الذكر، والزَّوْج الأنثى، فكل واحدٍ منهما زَوْجُ صاحبِهِ، وهي أربعة أنواعٍ فتجيء ثمانية أزواجٍ، والضَّأْن:
جمع ضَائِنَة وضَائِن.
وقوله سبحانه: قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ، هذا تقسيمٌ على الكفَّار حتى يتبيَّن كذبهم على اللَّه، أي: لا بد أن يكون حَرَّم الذكَرَيْن فيلزمكم تحريمُ جميعِ الذُّكور، أو الأنثيين فيلزمكم تحريمُ جميع الإناث، أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ، فيلزمكم تحريمُ الجميعِ، وأنتم لم تلتزموا شيئاً يوجبه هذا التقسيمُ، وفي هذه السؤالاتِ تقريعٌ وتوبيخٌ، ثم أتْبَعَ تقريعَهُم بقوله: نَبِّئُونِي، أي: أخبروني بِعِلْمٍ، أي: من جهة نبوَّة أو كتابٍ من كتب الله إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ، وإِنْ شرطٌ، وجوابه في نَبِّئُونِي.
وقوله سبحانه: وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ ... الآية:
القولُ في هذه الآية في المعنى وترتيبِ التقسيمِ كما تقدَّم، فكأنه قال: أنتم الذين تدَّعون أن اللَّه حرم خصائصَ مِنْ هذه الأنعام لا يَخْلُو تحريمه مِنْ أن يكون في الذَّكَرَيْن أو في الأُنْثَيَيْن، أو فيما اشتملت عليه أرحامُ الأنثيين، لكنه لم يُحَرِّم لا هذا ولا هذا ولا هذا فلم يَبْقَ إلا أنه لم يَقَعْ تحريمٌ، قال الفَخْر «2» : والصحيحُ عندي أن هذه الآية لم ترد على سبيل الاستدلال على بطلان قولهم، بل هي استفهام على سبيل الإنكار، وحاصلُ الكلام: أنكم لا تعترفُون بنبوَّة أحد من الأنبياء، فكيف تثبتون هذه الأحكام المختلفة. انتهى.
وقوله سبحانه: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا: استفهامٌ على سبيل التوبيخ، وشُهَداءَ: جمعُ شهيدٍ، وباقي الآية بيِّن.
وقوله تعالى: قُلْ لآ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ... الآية: هذه الآيةُ نزلَتْ بمكَّة، ولم يكن في الشريعة في ذلك الوقْتِ شيء محرّم
__________
(1) في أ: علي.
(2) ينظر: «تفسير الرازي» (13/ 178) .(2/524)
غير هذه الأشياء، ثم نزلَت، سورة المائدة بالمدينة، وزيدَ في المحرَّمات كالخمر، وكأكل كل ذي نابٍ من السباعِ ممَّا وردَتْ به السُّنَّة.
قال ع «1» : ولفظة التحريمِ، إذا وردَتْ على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإنَّها صالحةٌ أن تنتهي بالشيء المذكور غَايَةَ المنْعِ والحظرِ، وصالحةٌ بحسب اللغة أنْ تقف دون الغاية في حَيِّز الكراهية ونحوها، فما اقترنت به قرينةُ التسليمِ من الصحابة المتأوِّلينِ، وأجمع عليه الكلُّ منهم، ولم تَضْطَرِبْ فيه ألفاظ الأحاديث، وأمضاه الناسُ- وجب بالشَّرْعِ أنْ يكون تحريمه قَدْ وصَل الغايةَ من الحَظْر والمَنْع، ولحق بالخنزير والميتة، وهذه صفة تحريم الخمر، وما اقترنت به قرينةُ اضطراب ألفاظ الحديثِ، واختلف الأمة فيه، مع علمهم بالأحاديث كقوله- عليه السلام-: «كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السّباع حرام» «2» ، وقد روي عنه
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 356) .
(2) أخرجه البخاري (9/ 657) كتاب «الذبائح والصيد» ، باب أكل كل ذي ناب من السباع.
حديث (5530) ، ومسلم (3/ 1533) كتاب «الصيد والذبائح» ، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، حديث (13، 14/ 1932) ومالك (2/ 496) رقم (13) والطيالسي ص (136) ، حديث (1016) ، وأحمد (4/ 193) والدارمي (2/ 84- 85) كتاب «الأضاحي» ، باب ما لا يؤكل من السباع وأبو داود (4/ 159) كتاب «الأطعمة» ، باب النهي عن أكل السباع حديث (3802) ، والترمذي (4/ 73) ، كتاب «الأطعمة» ، باب ما جاء في كراهية كل ناب، حديث (1477) ، والنسائي (7/ 200- 201) وابن ماجة (2/ 1077) كتاب «الصيد» ، باب أكل ذي ناب من السباع، حديث (3232) .
وابن الجارود (889) والشافعي (2/ 172- 173) كتاب «الصيد والذبائح» ، رقم (604، 605) والحميدي (2/ 386) رقم (875) ، وابن حبان (5255- الإحسان) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 190) وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 28) والبيهقي (9/ 331) والبغوي في «شرح السنة» (6/ 31- بتحقيقنا) من طريق أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة به.
وقال الترمذي: حديث مشهور من حديث أبي ثعلبة حسن صحيح.
وأما حديث أبي هريرة:
أخرجه مسلم (3/ 1534) كتاب «الصيد والذبائح» ، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، حديث (16/ 1934) ، ومالك (2/ 496) كتاب «الصيد» ، باب تحريم أكل كل ذي ناب من السباع، حديث (14) والشافعي (2/ 172) كتاب «الصيد والذبائح» ، حديث (603) وأحمد (2/ 236) ، والترمذي (4/ 74) كتاب «الأطعمة» ، باب ما جاء في كراهية كل ذي ناب وذي مخلب، حديث (1479) والنسائي (7/ 200) كتاب «الصيد والذبائح» ، باب تحريم أكل السباع، وابن ماجة (2/ 1077) كتاب «الصيد» ، باب أكل كل ذي ناب من السباع، حديث (3233) والبيهقي (9/ 315) كتاب «الضحايا» باب ما يحرم من جهة ما لا تأكل العرب. بلفظ أكل كل ذي ناب من السباع حرام، أما حديث جابر بن عبد الله قال:
«حرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم خيبر الحمر الإنسية، ولحوم البغال، وكل ذي ناب من السباع، وذي مخلب من الطير» . -(2/525)
«نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ» «1» ، ثم اختلفتِ الصحابة ومَنْ بعدهم في تحريمِ ذلك، فجاز لهذه الوجوه لِمَنْ ينظر أَنْ يحمل لفظ التحريم على المَنْع الذي هو على الكراهية ونحوها، وما اقترنت به/ قرينةُ التأويل كتحريمه- عليه السلام-
__________
- أخرجه أحمد (3/ 323) ، والترمذي (4/ 73) كتاب «الأطعمة» باب ما جاء في كراهية كل ذي ناب وذي مخلب.
حديث (1478) ، والبزار، والطبراني في «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (5/ 47) .
وقال الترمذي: حسن غريب.
أما حديث خالد بن الوليد قال: «غزوت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خيبر، فأتت اليهود، فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها، وحرام عليكم حمر الأهلية وخيلها وبغالها وكل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير» .
أخرجه أحمد (4/ 89، 90) وأبو داود (4/ 160- 161) كتاب «الأطعمة» ، باب النهي عن أكل السباع، حديث (3806) والنسائي (7/ 202) كتاب «الصيد والذبائح» ، باب تحريم أكل لحوم الخيل، والدارقطني (4/ 287) باب الصيد والذبائح والأطعمة، حديث (60، 61، 63) ، والبيهقي (9/ 328) كتاب «الضحايا» ، باب بيان ضعف الحديث الذي روي في النهي عن لحوم الخيل.
وقال النسائي في الحديث (يشبه أن يكون صحيحا، ولكنه منسوخ بإباحة الخيل بعد ذلك) .
أما حديث المقدام بن معد يكرب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل ذو ناب من السباع، ولا الحمار الأهلي، ولا اللقطة، من مال معاهد» .
أخرجه أحمد (4/ 131) ، وأبو داود (4/ 160) كتاب «الأطعمة» باب النهي عن أكل السباع، حديث (3804) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 209) كتاب «الصيد والذبائح» ، باب أكل لحوم الحمر الأهلية، والدارقطني (4/ 287) ، باب الصيد والذبائح، حديث (59) والبيهقي (9/ 332) كتاب «الضحايا» ، باب ما جاء في أكل لحوم الحمر الأهلية.
(1) أخرجه مسلم (3/ 1543) كتاب «الصيد والذبائح» ، باب تحريم أكل كل ذي ناب، حديث (16/ 1934) وأبو داود (2/ 383) كتاب «الأطعمة» ، باب النهي عن أكل السباع، حديث (3803) والدارمي (2/ 85) كتاب «الأضاحي» ، باب ما لا يؤكل من السباع وأحمد (1/ 244، 289، 302، 373) ، وابن الجارود (892) وابن حبان (5256- الإحسان) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 190) والبيهقي (9/ 315) كتاب «الضحايا» ، باب ما يحرم من جهة ما لا تأكل العرب، وأبو نعيم في «الحلية» (4/ 95) والبغوي في «شرح السنة» (6/ 32- بتحقيقنا) . من طريق أبي بشر- والحكم عند بعضهم- عن ميمون بن مهران عن ابن عباس به.
وقد رواه ميمون بن مهران، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أخرجه أبو داود (2/ 383) كتاب «الأطعمة» ، باب النهي عن أكل السباع، حديث (3805) والنسائي (7/ 206) كتاب «الصيد والذبائح» ، باب إباحة أكل لحوم الدجاج، وابن ماجة (2/ 1077) كتاب «الصيد» ، باب أكل كل ذي ناب من السباع حديث (3234) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 190) وأحمد (1/ 339) والبيهقي (9/ 315) كتاب «الضحايا» ، باب ما يحرم من جهة ما لا تأكل العرب، وابن الجارود (893) من طريق علي بن الحكم، عن ميمون بن مهران، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.(2/526)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
لُحُومَ الحُمُرِ الأنْسِيَّةِ «1» ، فتأول بعض الصحابة الحاضِرِينَ ذلك لأنها لم تخمَّس، وتأوَّل بعضهم أن ذلك لئَلاَّ تفنى حمولةُ النَّاس، وتأول بعضهم التحريمَ المَحْضَ، وثبت في الأمة الاختلافُ في لَحْمها، فجائز لِمَنْ ينظر من العلماءِ أنْ يحمل لفظ التحريمِ بحسب اجتهاده وقياسه على كراهية أو نحوها، وباقي الآية بيّن.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 146 الى 150]
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
وقوله سبحانه: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ... الآية: هذا خبر مِنَ اللَّهِ سبحانه يتضمَّن تكذيبَ اليَهُودِ في قولهم: «إن اللَّه لم يحرِّم علينا شيئاً، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حَرَّمه إسرائيل على نفسه» ، وكُلَّ ذِي ظُفُرٍ: يراد به الإبلُ، والنَّعَام، والإوَزُّ ونحوه من الحيوانِ الذي هو غير مُنْفَرِجِ الأصابع، وله ظُفُر، وأخبرنا سبحانه في هذه الآية بتحريمِ الشحومِ عليهم، وهي الثُّرُوب وشَحْمُ الكلى، ومَا كان شحماً خالصاً خارجاً عن الاستثناء الذي في الآية، واختلف في تحريم ذلك على المسلمين من ذبائحهم، فعن مالكٍ: كراهيةُ شحومهم من غير تحريمٍ.
وقوله تعالى: إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما، يريد: ما اختلط باللحْمِ في الظَّهْرِ والأجنابِ ونحوه، قال السُّدِّيُّ وأبو صالح: الأَلْيَاتُ ممَّا حملَتْ ظهورهما «2» ، والحَوَايَا: ما تحوى في البَطْن، واستدار، وهي المَصَارِينُ والحُشْوة ونحوها، وقال ابن عباس وغيره:
هي المَبَاعِر «3» ، وقوله: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ، يريد: في سائر الشخص.
__________
(1) في أ: الأهلية.
(2) أخرجه الطبري (5/ 384) برقم (14112) عن السدي، و (14113) عن أبي صالح، وذكره ابن عطية (2/ 358) ، والسيوطي (3/ 101) وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن أبي صالح.
(3) أخرجه الطبري (5/ 384) برقم (14114، 14124) عن ابن عباس، وبرقم (14115، 14116، 14117) عن مجاهد، وبرقم (14120، 14121) عن قتادة (14119) ، (14120) عن سعيد بن-(2/527)
وقوله سبحانه: ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ يقتضي أنَّ هذا التحريم إنما كان عقوبةً لهم على بغيهم، واستعصائهم على أنبيائهم.
وقوله سبحانه: وَإِنَّا لَصادِقُونَ: إخبار يتضمَّن التعريضَ بكَذِبهم في قولهم: ما حرَّم اللَّهُ علينا شيئاً.
وقوله سبحانه: فَإِنْ كَذَّبُوكَ: أي: فيما أخبرْتَ به أنَّ اللَّه حرَّمه عليهم، فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ أي في إمهاله إذ لم يعاجلْكم بالعقوبةِ، مع شدَّة جُرْمِكم، ولكنْ لا تغترُّوا بسعة رحمته فإن له بَأْساً لا يُرَدُّ عن القوم المجْرِمِين، إما في الدنيا وإما في الآخرة، وهذه الآية وما جانَسَها من آياتِ مكَّة مرتفعٌ حكْمُها بآية القتالِ، ثم أخبر سبحانه نبيَّه- عليه السلام- بأن المشركين سيحتجُّون لتصويبِ ما هُمْ عليه من شركهم وتديُّنهم:
بتحريمِ تلك الأشياءِ بإمهال اللَّه تعالى لهم، وتقريرِهِ حالهم، وأنه لو شاء غَيْرَ ذلك، لما تَرَكَهم على تلْك الحال، ولا حُجَّة لهم فيما ذكَروه لأنه سبحانه شاء إشراكهم وأقدرهم على الاكتساب، ويلزمهم على احتجاجهم أنْ تكون كلُّ طريقةٍ وكلُّ نحلةٍ صواباً، إذْ كلها لو شاء اللَّه لَمْ تكُنْ، وفي الكلامِ حذفٌ يدلُّ عليه تناسُقُ الكلامِ كأنه قال: سيقول المشركون كذا وكذا، وليس في ذلك حُجَّة لهم، ولا شَيْء يقتضي تكذيبَكَ، ولكن، كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بنحو هذه الشبهة مِنْ ظَنِّهم أنَّ ترك اللَّه لهم دليلٌ على رضاه بحالهم، وفي قوله تعالى: حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا: وعيدٌ بيِّن.
وقوله سبحانه: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ. أي: مِنْ قِبَلِ اللَّه، قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ، يريد البالغةَ غاية المَقْصِدِ في الأمر الذي يحتجُّ له، ثم أعلم سبحانه أنَّه لو شاء، لهدى العالم بأسره، وهَلُمَّ: معناها: هَاتِ وهي حينئذ متعدِّية، وقد تكون بمعنى:
«أَقْبِلْ» فلا تتعدى، وبعضُ العرب يجعلها اسم فعْلٍ ك «رُوَيْدَكَ» ، وبعضهم يجعلها فِعْلاً، ومعنى الآية: قل هاتوا شهداءكم الذين يشهدون أن اللَّه حرَّم ما زعمتم تحريمَهُ، فَإِنْ شَهِدُوا، أي: فإن افترى لهم أحدٌ أو زَوَّرَ شهادةً أو خبراً عن نبوَّة ونَحوَ ذلك، فجَنِّبْ أنْتَ ذلك، ولا تَشْهد معهم، قلْتُ: وهذه الآية/ والتي بعدها مِنْ نوعَ ما تقدّم من أن الخطاب له صلّى الله عليه وسلّم، والمراد غيره ممَّن يمكن ذلك منه، وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ، أي: يجعلون لَهُ أنداداً يسوُّونهم به، تعالى الله عن قولهم.
__________
- جبير، (14125) عن السدي، وذكره ابن عطية (2/ 358) ، والسيوطي (3/ 100) وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في «سننه» عن ابن عباس.(2/528)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
وقوله سبحانه: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً: هذا أمر من اللَّه عزَّ وجلَّ لنبيِّه- عليه السلام- أنْ يدعو جميع الخَلْق إلى سماع تلاوة ما حَرَّم اللَّه بشَرْع الإسلام المبعوثِ به إلى الأسود والأحمر، وما نصبَتْ بقوله: أَتْلُ، وهي بمعنى «الَّذِي» ، و «أنْ» ، في قوله: أَلَّا تُشْرِكُوا في موضع رفع، التقدير: الأمر أنْ، أو ذَاكَ أنْ، وقال كعب الأحبار: هذه الآية هي مفتتحُ التوراة: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ... » إلى آخر الآيات «1» ، وقال ابن عباس: هذه الآيات هي المحْكَمَات المذْكُورة في آل عمران، اجتمعت عليها شرائعُ الخَلْقِ، ولم تنسخ قطُّ في «2» ملة، وقد قيل: إنها العَشْر الكلمات المنزَّلة على موسى، والإملاق: الفَقْر وعدَمُ المال قاله ابن عباس وغيره، قال القُشَيْريُّ: خوفُ الفقر قرينةُ الكفر، وحُسْنُ الثقةِ بالرَّبِّ سبحانه نتيجةُ الأَيمان. انتهى من «التحبير» .
وقوله سبحانه: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
، قال مجاهد: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
: التجارة فيه «3» ، والأَشُدُّ هنا: الحَزْمُ والنظرُ في الأمور وحُسْنُ التصرُّف فيها، وليس هذا بالأَشُدِّ المقرونِ بالأربعين، بل هذا يكون مع صِغَر السِّنِّ في ناسٍ كثيرٍ.
وقوله سبحانه: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ
: أمر بالاعتدال.
وقوله سبحانه: لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
: يقتضي أن هذه الأوامر إنما هِيَ فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفّظ والتحرّز.
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 361) ، والسيوطي (3/ 103) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن الضريس، وابن المنذر عن كعب.
(2) ذكره ابن عطية (2/ 361) . [.....]
(3) أخرجه الطبري (5/ 393) برقم (14152) ، وذكره البغوي (2/ 141) ، وابن عطية (2/ 362) .(2/529)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
وقوله تعالى: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا
: يتضمَّن الشهاداتِ والأحكامَ والتوسُّطَ بيْنَ الناسِ وغيْرَ ذلك، أي: ولو كان ميل الحقِّ على قراباتكم.
وقوله سبحانه: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ: الإشارة ب هذا هي إلى الشرعِ الذي جَاءَ به نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقال الطبريُّ «1» : الإشارة هي إلى هذه الوصايا التي تقدَّمت مِنْ قوله: قُلْ تَعالَوْا، وقال ابن مسعود: إن اللَّه سبحانه جَعَلَ طريقه صراطا مستقيما طرفه محمّد صلّى الله عليه وسلّم وشرعه، ونهايتُه الجنَّة، وتتشعَّب منه طُرُقٌ، فمن سَلَك الجادَّة نجا، ومن خَرَج إلى تلْكَ الطرُقِ أفْضَتْ به إلى النَّار «2» ، وقال أيضاً: خطّ لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَوْماً خطًّا، فَقَالَ: «هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ» ثُمَّ خَطَّ عَنْ يَمِينِ ذَلِكَ وَعَنْ شِمَالِهِ خُطُوطاً، فَقَالَ: «هَذِهِ سُبُلٌ على كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إلَيْهَا» ، ثم قرأ هذه «3» الآية.
قال ع «4» : وهذه الآية تعمُّ أهل الأهواء والبِدَع والشُّذُوذ في الفُرُوع وغير ذلك من أهل التعمُّق في الجَدَلِ، والخَوْضِ في الكلامِ، هذه كلّها عرضة للزّلل، ومظنّة لسوء المعتقد، ولَعَلَّكُمْ ترجٍّ بحسبنا، ومن حيث كانَتِ المحرَّمات الأوَلُ لا يقع فيها عاقلٌ قد نظر بعَقْله، جَاءَتِ العبارةُ: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، والمحرَّمات الأُخَرُ شهواتٌ، وقد يقع فيها من العقلاءِ مَنْ لم يتذكَّر، وركوبُ الجادَّة الكاملة يتضمَّن فعل الفضائلِ، وتلك درجة التقوى.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157]
ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)
__________
(1) ينظر الطبري (5/ 396) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 397) برقم (14175) ، وذكره البغوي (2/ 141) نحوه، وابن عطية (2/ 364) ، وابن كثير (2/ 190) نحوه، والسيوطي (3/ 106) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن مردويه عن ابن مسعود.
(3) أخرجه أحمد (1/ 435، 465) ، والنسائي في «التفسير» (1/ 485) رقم (194) ، والطيالسي (244) والطبري (8/ 65) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (17) ، والبزار (2210- كشف) ، والدارمي (1/ 67- 68) ، وابن حبان (1741- موارد) ، والحاكم (2/ 318) ، وأبو نعيم في «الحلية» (6/ 263) عن ابن مسعود مرفوعا.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 106) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 364) .(2/530)
وقوله سبحانه: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ، ثُمَّ في هذه الآية: إنما مُهْلَتها في ترتيب القول الذي أمر به نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم كأنه قال: ثم ممَّا قضَيْناه أنَّا آتينا موسَى الكتاب ويدعو إلى ذلك أن موسى- عليه السلام-/ متقدِّم بالزمانِ على نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وتلاوته ما حرّم الله، والْكِتابَ: التوراة، وتَماماً: مصدر، وقوله:
عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ: مختلفٌ في معناه، فقالت فرقة: الَّذِي بمعنى الّذين وأَحْسَنَ: فعلٌ ماضٍ صلَةُ «الذين» ، وكأن الكلام: وآتينا موسَى الكتابَ تفضُّلاً على المحسنين من أهْل ملَّته، وإتماماً للنعمة عليهم، وهذا تأويل مجاهد «1» ويؤيِّده ما في مصحف ابْنِ «2» مسعود: «تَمَاماً عَلَى الَّذِينَ أحْسَنُوا» ، وقالت فرقة: المعنى: تماماً على ما أحْسَنَ هو مِنْ عبادة ربِّه، يعني: موسى- عليه السلام- وهذا تأويل الربيع وقتادة «3» ، وقالت فرقة: المعنى: تماماً على الذي أحسن اللَّه فيه إلى عبادة من النبوُّات وسائر النعم وبِلِقاءِ رَبِّهِمْ، أي: بالبعث.
وقوله سبحانه: وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، هذا إشارة إلى القرآن، ومُبارَكٌ: وصف بما فيه من التوسُّعات وأنواعِ الخَيْرات، ومعناه:
مُنَمًّى خيره مُكثَّر، والبركةُ: الزيادةُ والنموُّ، فَاتَّبِعُوهُ: دعاء إلى الدِّين، وَاتَّقُوا: أمر بالتقوَى العامَّة في جميع الأشياء بقرينةِ قوله: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، و «أنْ» في قوله: أَنْ تَقُولُوا في موضعِ نصبٍ، والعاملُ فيه: أَنْزَلْناهُ، والتقدير: وهذا كتاب أنزلناه كراهيةَ أنْ تقولوا، والطائفتان: اليهودُ والنصارى بإجماع المتأوِّلين، والدِّرَاسَة: القراءةُ والتعلُّم بها، ومعنى الآية: إزالة الحجة مِنْ أيدي قُرَيْشٍ وسائرِ العربِ، ولما تقرَّر أن البينة قد جاءَتْهم، والحجَّةَ قد قامَتْ عليهم- حَسُنَ بعد ذلك أنْ يقع التقريرُ بقوله سبحانه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها، أي: حاد عنها، وزاغ، وأعرض، وسَنَجْزِي الَّذِينَ: وعيد.
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 398) برقم (14176، 14177) ، وذكره ابن عطية (2/ 364) ، وابن كثير (2/ 192) ، والسيوطي (3/ 106) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وأبي الشيخ عن مجاهد.
(2) ينظر: «الشواذ» (ص 47) ، و «الكشاف» (2/ 80) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 364) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 399) برقم (14178) عن الربيع، وبرقم (14179، 14180) ، عن قتادة، وذكره ابن عطية (2/ 364) ، والسيوطي (3/ 106) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن قتادة.(2/531)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
[سورة الأنعام (6) : آية 158]
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
وقوله سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ، أي: ينتظرُونَ، يعني: العرب المتقدّم الآن ذكرهم، والْمَلائِكَةُ هنا: هم ملائكة المَوْت الذين يصحبون «1» عزرائيل المخْصُوصَ بقَبْض الأرواح، قاله مجاهد وقتادة وابنُ جْرَيْج «2» .
وقوله تعالى: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ، قال الطبريُّ «3» : لموقف الحساب يَوْمَ القيامة، وأسند ذلك إلى قتادة وجماعةٍ من المتأوِّلين «4» ، وقال الزَّجَّاج «5» : إن المراد: «أو يأتي عذاب ربك» .
قال ع «6» : وعلى كلِّ تأويل فإنما هو بحذفِ مضافٍ، تقديره: أمر ربك، أو بَطْش رَبِّك، أو حسابُ ربك، وإلا فالإتيانُ المفهومُ من اللغة مستحيلٌ على اللَّه تعالى ألا ترى أن اللَّه عزَّ وجلَّ يقول: فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر: 2] فهذا إتيان قد وقع، وهو على المجازِ، وحذفِ المضافِ.
قال الفَخْر «7» : والجواب المعتمَدُ عليه هنا أنَّ هذا حكايةُ مذهب الكفَّار، واعتقادِهِم، فلا يفتقر إلى تأويله، وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علاماتُ القيامةِ. انتهى.
قلتُ: وما ذكره الفَخْر من أن هذا حكايةُ مذهب الكفار هي دعوى تفتقر إلى دليلٍ.
وقوله سبحانه: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ، قال مجاهد وغيره هي إشارة إلى طلوع
__________
(1) ولا يصح تسميته ملك الموت بهذا حيث لم يرد عندنا أثر صحيح بذلك.
(2) أخرجه الطبري (5/ 404، 405) برقم (14200) عن مجاهد، وبرقم (14201، 14202) عن قتادة، و (14205) ، عن ابن جريج، وذكره ابن عطية (2/ 366) ، والسيوطي (3/ 108) وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة، ولعبد بن حميد عن مجاهد.
(3) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 404) .
(4) أخرجه الطبري (5/ 404، 405) برقم (14201، 14202) عن قتادة، و (14200) عن مجاهد، و (14205) عن ابن جريج، وذكره ابن عطية (2/ 366) ، والسيوطي (3/ 108) وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن قتادة.
(5) ينظر: «معاني القرآن» (2/ 307) .
(6) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 366) . [.....]
(7) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 159) .(2/532)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
الشمْسِ من مغربها بدليلِ الَّتي بعدها.
قال ع «1» : ويصحُّ أن يريد سبحانه بقوله: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ جميعَ ما يُقْطَعُ بوقوعه من أشراط الساعة، ثم خصَّص سبحانه بعد ذلك بقوله: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ الآيةَ التي ترتفع التوبةُ معها، وقد بيَّنت الأحاديثُ الصِّحاح في البخاريِّ ومسلمٍ أنها طلوع الشمس مِنْ مغربها، ومقْصِدُ الآية تهديدُ الكفَّار بأحوالٍ لا يخلُونَ منها، وقوله: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً يريد: جميعَ أعمال البرِّ، وهذا الفَصْل هو للعُصَاة من المؤمنين كما أن قوله: لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ هو للكافرين، / فالآية المشارُ إليها تقطع توبة الصّنفين، قال الداوديّ: قوله تعالى: أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً، يريد أن النفس المؤمنة التي ارتكبت الكبائر لا تُقْبَلُ منها التوبة يومئذ، وتكونُ في مشيئة اللَّه تعالى كأن لم تَتُبْ، وعن عائشة (رضي اللَّه عنها) : إذا خرجَتْ أول الآيات، طُرِحَتِ الأقلامُ، وحُبِسَتِ الحَفَظَةُ، وشَهِدَتِ الأجساد على الأعمال. انتهى.
وقوله سبحانه: قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ: لفظ يتضمّن الوعيد.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 159 الى 161]
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161)
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، قال ابن عباس وغيره: المراد ب «الذين» اليهود والنصارى «2» ، أي: فَرَّقوا دين إبراهيم، ووَصَفَهم ب «الشِّيَعِ» إذ كل طائفة منهم لها فرق واختلافات، ففي الآية حضٌّ للمؤمنين على الائتلاف وتركِ الاختلافِ، وقال أبو الأحْوَص وأم سلمة زوجُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: الآية في أهْل البدع والأهواء والفتنِ، ومَنْ جرى مجراهم من أمة نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم «3» ، أي: فرّقوا دين
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 367) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 413، 414) برقم (14266) عن ابن عباس، و (14263، 14264) عن قتادة، (14267) عن الضحاك.، وذكره البغوي (2/ 145) ، وابن عطية (2/ 367) ، وابن كثير (2/ 196) عن مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي، والسيوطي (3/ 117) وعزاه للنحاس في «ناسخه» عن ابن عباس.
(3) أخرجه الطبري (5/ 415) برقم (14273) عن أبي الأحوص، و (14275) عن أم سلمة، وذكره ابن عطية (2/ 367) ، والسيوطي (3/ 118) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ عن أبي الأحوص، وعزاه لابن منيع في «مسنده» ، وأبي الشيخ عن أم سلمة.(2/533)
الإسلام، وقرأ حمزة «1» والكسائيُّ: «فارَقُوا» ، ومعناه: تركوا.
وقوله تعالى: لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ: أي: لا تشفع لهم، ولا لهم بك تعلُّق، وهذا على الإطلاق في الكفَّار، وعلى جهة المبالغة في العُصَاة.
وقوله سبحانه: إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ... الآية: وعيدٌ محضٌ، وقال السدي: هذه آية لم يؤمر فيها بقتالٍ، فهي منسوخة بالقتال «2» .
قال ع «3» : الآية خبر لا يدخله نسخٌ، ولكنها تضمَّنت بالمعنى أمراً بموادعةٍ، فيشبه أنْ يقال: إن النسخ وقع في ذلك المعنَى الذي قد تقرَّر نسخه في آيات أخرى.
وقوله سبحانه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ... الآية: قال ابن مسعود وغيره: بِالْحَسَنَةِ هنا: «لا إله إلا الله» ، وبِالسَّيِّئَةِ: الكفر «4» .
قال ع «5» : وهذه هي الغاية من الطرفَيْنِ، وقالت فرقة: ذلك لفظٌ عامٌّ في جميع الحسناتِ والسيئاتِ، وهذا هو الظاهر، وتقديرُ الآية: مَنْ جاء بالحسنة، فله ثوابُ عَشْرِ أمثالها، وقرأ «6» يعقوبُ وغيره: «فَلَهُ عَشْرٌ» - بالتنوين- «أَمْثَالُهَا» - بالرفع-.
وقوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ...
الآية: في غاية الوضوح والبيان، وقِيَماً: نعت للدّين، ومعناه: مستقيما، ومِلَّةَ:
بدل من الدّين.
__________
(1) وحجة الباقين قوله بعد: وَكانُوا شِيَعاً أي: صاروا أحزابا وفرقا.
ينظر: «السبعة» (274) ، و «الحجة» (3/ 437، 438) ، و «إعراب القراءات» (1/ 73) ، و «معاني القراءات» (1/ 396) ، و «حجة القراءات» (278) ، و «العنوان» (93) ، و «شرح الطيبة» (4/ 288) ، و «شرح شعلة» (385) ، و «إتحاف» (2/ 39) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 414) برقم (14272) ، وذكره ابن عطية (2/ 368) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 368) .
(4) أخرجه الطبري (5/ 416) برقم (14278) ، وذكره ابن عطية (2/ 368) ، وابن كثير (2/ 197) ، والسيوطي (3/ 118) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي نعيم في «الحلية» عن ابن مسعود.
(5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 368) .
(6) ينظر: «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 39) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 368) ، وزاد نسبتها إلى الحسن، وسعيد بن جبير، وعيسى بن عمر، والأعمش.
وينظر: «البحر المحيط» (4/ 261) ، و «الدر المصون» (3/ 227) ، و «شرح الطيبة» (4/ 288) .(2/534)
قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 162 الى 165]
قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
وقوله سبحانه: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي ... الآية: أمر من اللَّه عزَّ وجلَّ لنبيِّه- عليه السلام- أنْ يعلن بأنَّ مقصده في صلاته، وطاعتِهِ من ذبيحة وغيرها، وتصرفَهُ مدَّةَ حياتِهِ، وحالهُ من إخلاصٍ وإيمانٍ عند مماته- إنما هو للَّه عزَّ وجلَّ، وإرادةِ وجهه، وطَلَبِ رضاه، وفي إعلان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بهذه المقالة ما يلزمُ المؤمنين التأسِّي به حتى يلتزموا في جميع أعمالهم قَصْدَ وجه اللَّه عزَّ وجلَّ، ويحتمل أن يريد بهذه المقالة أنَّ صلاته ونسكه وحياته ومماته «1» بِيَدِ اللَّه عزَّ وجلَّ، واللَّه يصرفه في جميع ذلك كَيْفَ شاء سبحانه، ويكون قوله: وَبِذلِكَ أُمِرْتُ على هذا التأويل- راجعاً إلى قوله: لاَ شَرِيكَ لَهُ فقطْ، أو راجعاً إلى القول وعلى التأويل الأول، يرجع إلى جميع ما ذُكِرَ من صلاة وغيرها، وقالتْ فرقة: النُّسُكُ في هذه الآية: الذبائح.
قال ع «2» : ويُحَسِّن تخصيصَ الذبيحة بالذِّكْر في هذه الآية أنها نازلةٌ قد تقدَّم ذكرها، والجَدَل فيها في السُّورة، وقالتْ فرقة: النسك في هذه الآية: جميع أعمال الطاعاتِ مِنْ قولك: نَسَكَ فُلاَنٌ، فَهُوَ نَاسِكٌ إذا تعبَّد، وقرأ السبعة سوى نافع:
«وَمَحْيَايَ» - بفتح الياء-، وقرأ نافع «3» وحده: «وَمَحْيَايْ» - بسكون/ الياء-، قال أبو حَيَّان «4» : وفيه جمع بين ساكنَيْنِ، وسوَّغ ذلك ما في الألفِ من المَدِّ القائمِ مَقَام الحركَة.
انتهى، وقوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ، أي: من هذه الأمة.
وقوله سبحانه: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ... الآية: حكى
__________
(1) في أ: ومونة.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 369) .
(3) ينظر: «السبعة» (274) ، و «الحجة» (3/ 440) ، و «إعراب القراءات» (1/ 174) ، و «معاني القراءات» (1/ 398) ، و «العنوان» (94) ، و «شرح الطيبة» (4/ 289) ، و «شرح شعلة» (386) ، و «حجة القراءات» (279) ، و «إتحاف» (2/ 40) .
(4) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 262) . [.....](2/535)
النَّقَّاش أنه روي أنَّ الكُفَّار قالوا للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: ارجع يا محمَّد إلى ديننا، واعبد آلهتنا، واترك ما أنت عليه، ونحن نتكفَّل لك بكلِّ تباعة تتوقَّعها في دُنْيَاك وآخرتك، فنزلَتْ هذه الآية «1» ، وهي استفهام يقتضي التوبيخَ لهم، وأَبْغِي: معناه أَطْلُبْ فكأنه قال: أفَيَحْسُنُ عندكم أن أَطْلُبَ إلهاً غير اللَّه الذي هو رَبُّ كلِّ شيء، وما ذكَرْتُم من كَفَالَتِكُمْ باطلٌ ليس الأمرُ كما تظُنُّون، فلا تَكْسِبُ كلُّ نفس من الشَّرِّ والإثم إلا عليها وحْدها، وَلا تَزِرُ، أي: تحملُ وازِرَةٌ، أي: حاملةٌ حمل أخرى وثقلها، و «الوِزْر» : أصله الثقل، ثم استعمل في الإثم تجوُّزاً واستعارة، ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ: تهديد ووعيد، وقوله: فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ، أي: في أمري في قول بعضكم: هو سَاحِرٌ، وبعضكم: هو شاعرٌ، إلى غير ذلك قاله بعض المتأوِّلين، وهذا التأويلُ يَحْسُنُ في هذا الموضع، وإن كان اللفظ يعمُّ جميع أنواع الاختلافاتِ بَيْن الأديان والملل والمذاهب وغير ذلك، وخَلائِفَ:
جمع خَلِيفَةِ، أي: يخلف بعضُكم بعضاً لأن مَنْ أتى خليفةٌ لِمَنْ مضى، وهذا يتصوَّر في جميع الأممِ وسائرِ أصنافِ الناسِ، ولكنه يحسن في أمة نبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم أن يسمى أهلها بجملتهم خلائِف للأمم، وليس لهم من يخلفهم إذ هم آخر الأمم، وعليهم تقومُ الساعة، وروى الحَسَنُ بْنُ أبي الحسن أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «تُوفونَ سَبْعِينَ أُمَّةً أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ، ويروى: «أَنْتُمْ آخِرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ» .
وقوله: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ: لفظٌ عامٌّ في المالِ، والقوةِ، والجاهِ، وجودةِ النفُوسِ والأذهانِ، وغير ذلك، وكل ذلك إنما هو ليختبر اللَّه سبحانه الخلْقَ، فيَرَى المحْسِنَ من المُسيء، ولما أخبر اللَّه عزَّ وجلَّ بهذا، ففسح للنَّاس مَيْدَانَ العَمَل، وحضَّهم سبحانه على الاستباقِ إلى الخيراتِ، توعَّد ووَعَد تخويفاً منه وترجيةً، فقال: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ إما بأخَذَاته في الدنيا، وإما بعقاب الآخرة، وحَسُنَ أنْ يوصف عقابُ الآخرة ب «سريع» لما كان متحقّقاً مضمون الإتيانِ والوقوعِ، وكلُّ آت قريبٌ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ: ترجيةٌ لمن أذنب وأراد التوبة، وهذا في كتاب اللَّه كثيرٌ، وهو اقتران الوعيد بالوعدِ لطفاً من اللَّه سبحانه بعبادِهِ، اللَّهم اجعلنا مِمَّنْ شملته رحْمَتُكَ وغُفْرانُكَ، بجُودِكَ وإحسانِكَ، ومِنْ كلام الشيخ الولي العارف أبي الحسن الشاذلي (رحمه اللَّه) قَالَ: من أراد ألاَّ يضره ذنْبٌ، فليقل: ربِّ أعوذ بك من عذابِكَ يَوْمَ تبعث عبادَكَ، وأعوذ بك مِنْ عاجل العذابِ، ومِنْ سوء الحسابِ، فإنك لسريعُ الحِسَاب، وإنك لغفور رحيم، ربّ إني ظلمت
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 370) .(2/536)
نفسي ظُلْماً كثيراً، فاغفر لي وتُبْ عليَّ لا إله إلا أنت، سبحانك، إني كنت من الظالمين.
انتهى، نسأل اللَّه أنْ ينفع به ناظِرَهُ وأنْ يجعله لنا ذخراً ونوراً يسعى بين أيدينا يوم لقائه، والحمدُ للَّه الَّذي بنعمته تتمُّ الصالحاتُ، وصلى اللَّه على سيدنا محمّد وآله وصحبه وسلّم تسلما/.
انتهى هذا الجزء مصحّحا بالمقابلة على خط مؤلفه شكر الله سعيه، وقدّس سرّه ويليه الجزء الثالث وأوله سورة الأعراف ولله الحمد والمنة(2/537)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
[الجزء الثالث]
تفسير سورة الأعراف
مكّيّة، كلها. قاله الضحاك «1» ، وغيره.
وقال مقاتل: هي مكّيّة، إلا قوله سبحانه: «وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ» إلى قوله: «مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ» فإن هذه الآيات مدنية «2» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)
قوله جَلَّتْ عظمتُهُ: المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ تقدم القول في تَفْسِيرِ الحروف المقطعة في أوائل السور، والحَرَجُ:
الضيقُ ومنه: الحَرِجَةُ الشجر الملتف الذي قد تَضَايَقَ، والحرج هاهنا يعم الشَّك، والخوف، والهم، وكلَ ما يَضِيقُ الصدر، والضمير في «منه» عائد على الكتاب، أي:
بسبب من أسبابه.
وقوله سبحانه: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ اعتراض في أثناء الكلام، ولذلك قال بعض الناس: إن فيه تَقْدِيماً وتأخيراً.
وقوله: وَذِكْرى معناه تَذْكرة وإِرشاد.
وقوله سبحانه: اتَّبِعُوا مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أَمْرٌ يعمُّ جَمِيعَ الناس، وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ، أي: من دون ربَكُمُ أَوْلِياءَ يريد: كل مَنْ عُبِدَ، واتبعَ من دون اللَّه، وقَلِيلًا: نعت لمصدر نصب بفعل مُضْمَر.
وقال مكي: هو منصوب بالفِعْلِ الذي بَعْدَهُ، و «ما» «3» في قوله: ما تَذَكَّرُونَ مصدرية.
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 372) .
(2) ذكره ابن عطية (2/ 372) .
(3) ذكره ابن عطية (2/ 373) .(3/5)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 4 الى 5]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)
وقوله سبحانه: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ قالت فرقة: المراد وكم من أَهْلِ قرية.
وقالت فرقة: اللفظ يَتَضَمَّنُ هَلاَكَ القرية وأهلها، وهو أعظم العُقُوبَةِ، و «الفاء» في قوله سُبْحَانَهُ: فَجاءَها بَأْسُنا لترتيب القَوْلِ فقط.
وقيل: المعنى أَهْلَكْنَاهَا بالخذلان، وعدم التوفيق، فجاءها بَأْسُنَا بعد ذَلِكَ وبَياتاً، نصب على المصدر في موضع الحال، وقائِلُونَ من القائلة، وإنما خَصَّ وَقْتَيِ الدَّعَةِ «1» والسكون لأن مجيء العَذَابِ فيهما أَفْظَعُ وأَهْوَلُ لما فيه من البَغْتَةِ والفَجْأَةِ.
قال أبو «2» حيان: أو للتفصيل، أي: جاء بعضهم بَأْسُنَا لَيْلاً، وبعضهم نهارا «3» انتهى.
وقوله عز وجل: فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ هذه الآية يَتَبَيَّنُ منها أن المراد في الآية قبلها أهل القُرَى، والدعوى «4» في كلام العَرَبِ تأتي لمعنين:
أحدهما: الدعاء، ومنه قوله عَزَّ وَجَلَّ: فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ [الأنبياء: 15] .
والثاني: الادِّعاءُ، وهذه الآية تَحْتَمِلُ المعنيين، ثم استثنى سُبْحَانَهُ من غير الأول كأنه قال: لم يكن منهم دُعَاءٌ أو ادِّعَاءٌ إِلاَّ الإقرار «5» ، والاعتراف، أي: هذا كان بدل الدعاء،
__________
(1) الدّعة: الخفض من العيش والراحة، والهاء عوض من الواو.
ينظر: «لسان العرب» (4795) (ودع) .
(2) ينظر «البحر المحيط» (4/ 269) .
(3) ذكره ابن عطية (2/ 374) بنحوه.
(4) هي قول مقبول يقصد به الإنسان إيجاب حق له على غيره، سواء كان ذلك حال المنازعة أو لا، وتقول العرب: ادعى كذا ادعاء: زعم أن له حقّا أو باطلا، والاسم منه الدعوى، والجمع: دعاوى بالفتح، ودعاو بالكسر، وهو الراجح عند سيبويه عند الإضافة إلى الضمير، وغلب الكسر في دعوى النسب، والفتح في المأدبة، واسم المدعي يتناول في العرف من لا حجة له، ولا يتناول من له حجة، ولذا يقال لمسيلمة الكذاب: مدعي النبوة، ولا يقال ذلك بالنسبة للنبي صلّى الله عليه وسلّم لأن نبوته ثبتت بالمعجزة، فالمطالب بحقه قبل قيام حجته يسمى مدعيا، وبعدها يسمى محقّا.
ينظر: «الدعوى» لشيخنا: عبد الحميد سليمان الدسوقي.
(5) الإقرار لغة: إفعال، من قرّ- الشيء: إذا ثبت- يقر، من باب ضرب وعلم وثبت وسكن، وأقره في مكانه: أثبته-(3/6)
فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
والادعاء، واعترافهم.
وقولهم: إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ هو في المُدَّةِ التي ما بين ظُهُورِ العَذَابِ إلى إتيانه على أنفسهم، وفي ذلك مُهْلَةٌ بحسب نَوْعِ العذاب تَتَّسِعُ لهذه المَقَالَةِ، وغيرها.
وروى ابن مسعود، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما هَلَكَ قَوْمٌ حتى يعذروا من أنفسهم» «1» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 6 الى 7]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7)
وقوله سبحانه: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ... الآية وعيد مِنَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ لجميع العالم أخبر سبحانه أنه يسأل الأمم أجمع عما بلغ إليهم عنه وعن جميع أعمالهم، ويسأل النَّبيين عما بَلَّغُوا، وهذا هو سُؤَالُ التقرير، فإن اللَّه سبحانه قد أَحَاطَ علماً بكل ذلك قبل السؤال، فأما الأَنْبِيَاءُ والمؤمنون، فيعقبهم جوابهم رحمة وكرامة،
__________
- بعد أن كان مزلزلا، وأقرّ له بحقّه: أذعن واعترف، إذا فالإقرار إثبات لما كان متزلزلا بين الإقرار والجحود.
ينظر: «الصحاح» (2/ 788) ، «لسان العرب» (5/ 3582) ، «أنيس الفقهاء» ص: (243) .
واصطلاحا:
عرفه الشّافعية بأنه: إخبار بحقّ على المقر.
وعرفه المالكية بأنه: خبر يوجب حكم صدقه على قائله فقط بلفظه، أو لفظ نائبه.
وعرفه الحنفية بأنه: إخبار بحق لآخر، لا إثبات له عليه.
وعرفه الحنابلة بأنه: إظهار مكلّف مختار ما عليه بلفظ أو كتابة، أو إشارة أخرس، أو على موكله، أو موليه، أو مورثه بما يمكن صدقه.
ينظر: «حاشية الباجوري» (2/ 2) ، «الخرشي» (6/ 86- 87) ، «الدرر» (2/ 357) ، «منتهى الإرادات» (2/ 684) .
ومحاسن الإقرار كثيرة منها ما يأتي.
(أ) إسقاط واجب النّاس عن ذمّته، وقطع ألسنتهم عن مذمّته.
(ب) إيصال الحقّ إلى صاحبه، وتبليغ المكسوب إلى كاسبه، فكان فيه إنفاع صاحب الحقّ، وإرضاء خالق الخلق.
(ج) إحماد النّاس المقرّ بصدق القول، ووصفهم إيّاه بوفاء العهد، وإنالة النول.
(د) حسن المعاملة بينه وبين غيره.
(1) أخرجه الطبري (5/ 429) برقم: (14328) ، وذكره ابن عطية (2/ 374) ، وابن كثير (2/ 201) ط:
«دار إحياء الكتب العربية» ، والسيوطي (2/ 126) .(3/7)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
وأما الكفار، ومن نفذ عليه الوَعِيد من العُصَاةِ، فيعقبهم جوابهم عَذَاباً وتوبيخاً.
ت: وروى أبو عمر بن عبد البر «1» في كتاب «فَضْلِ العلمِ» بِسَنَدِهِ عن مَالِك أنه قال: بلغني أن العلماء يُسْأَلُونَ يوم القيامة كما تُسْأَلُ الأنبياء يعني عن تَبْلِيغ العِلمِ/ انتهى.
وخرج أبو نُعَيْم الحافظ من حديث الأَعْمَشِ، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من عَبْدٍ يخطو خطوةً إِلا يُسْأَلُ عنها ما أَرَادَ بها» «2» .
وقد ذكرنا حَدِيثَ مسلم عن أبي برزة في غير هذا المَوْضِعِ. وخرج الطبراني بسنده عن ابن عُمَرَ قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إذا كان يَوْمُ القِيَامَةِ دَعَا اللَّه بِعَبْدٍ من عِبَادِهِ، فيوقفه بين يَدَيْهِ، فيسأله عن جَاهِهِ، كما يسأله عن عَمَلِهِ» «3» . انتهى.
وروى مالك عن يحيى بن سَعِيدٍ، قال: بلغني أن أَوَّلَ ما ينظر فيه من عَمَلِ الْمَرْءِ، الصلاة، فإن قُبِلَتْ منه نُظِرَ في ما بقي من عمله، وإن لم تقبل منه لم يُنْظَرْ في شَيْءٍ من عمله.
وروى أبو داود، والترمذي، والنَّسائي، وابن ماجه معنى هذا الحديث مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أول ما يُحاسَبُ به النَّاسُ يوم القِيَامَةِ من أعمالهم الصَّلاَةُ» قال: يقول رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ للملائكة انْظُرُوا في صَلاَةِ عَبْدِي أتمَّهَا أم نَقَصَها، فإن كانت تَامَّةً كتبت تَامَّةً، وإن كان انتُقِصَ منها شيءٌ، قال الله: انظروا هل لعبدي من تَطَوُّعٍ؟ فإن كان له تَطَوَّع قال: أتموا لعبدي فَرِيضَتَهُ من تَطَوُّعِهِ، ثم تؤخذ الأعمال «4» على ذلك. انتهى.
واللفظ لأبي داود.
وقال النسائي: ثم سائر الأعمال تجري على ذلك انتهى من «التذكرة» » .
وقوله سبحانه: فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ أي: فَلنسْرِدَنَّ عليهم أعمالهم قِصَّةً قصة، بِعِلْمٍ أي: بحقيقة ويقين وَما كُنَّا غائِبِينَ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 8 الى 10]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)
__________
(1) ينظر: «جامع بيان العلم وفضله» (1/ 493) .
(2) أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (8/ 212) ، عن الأعمش مرسلا.
(3) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (10/ 349) ، وقال: رواه الطبراني في «الصغير» ، وفيه يوسف بن يونس أخو أبي مسلم الأفطس، وهو ضعيف جدا. [.....]
(4) تقدم تخريجه.
(5) ينظر: «التذكرة» (1/ 379) .(3/8)
وقوله عز وجل: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ التقدير: والوزن الحق ثابت، أو ظاهر يومئذٍ، أي يوم القيامة.
قال جمهور الأمّة: إنّ الله عز وجل أراد أن يبين لعباده أن الحِسَابَ والنظر يوم القِيَامَةِ هو في غَايَةِ التحرير، ونهاية العَدْلِ بأَمْرٍ قد عرفوه في الدُّنْيَا، وعهدته أفهامهم، فميزان القِيَامَةِ له عمود وَكِفَّتَانِ على هيئة مَوَازِينِ الدنيا، جَمَع لفظ «المَوَازِين» إذ في الميزان مَوْزُونَاتٌ كثيرة، فكأنه أراد التَّنْبِيه عليها.
قال الفخر «1» : والأظْهَرُ إثبات مَوَازِينَ في يوم القيامة لا ميزان واحدِ، لظواهر الآيات، وحمل الموازين على الموزونات، أو على الميزان الواحد يوجبان العُدُولَ عن ظَاهِرِ اللفظ، وذلك إنما يُصَارُ إليه عند تَعَذُّرِ حَمْلِ الكلام على ظَاهِرِهِ، ولا مانع هاهنا منه، فوجب إِجْرَاءُ اللفظ على حقيقته، فكما لم يمتنع إثبات مِيزانٍ له كِفَّتان، فكذلك لا يمتنع إِثْبَاتُ موازين بهذه الصِّفَةِ، وما الموجب لتَرْكِهِ، والمصير إلى التأويل. انتهى. قال أبو حَيَّان «2» : موازينه جُمِعَ باعتبار المَوْزُونَاتِ «3» ، وهذا على مذهب الجمهور في أن الميزَانَ واحد.
وقال الحسن: لكل واحدِ ميزَانٌ «4» ، فالجمع إذن حَقِيقَةٌ انتهى.
والآيات هُنَا البَرَاهِينُ والأوامر والنواهي.
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ... الآية خطاب لجميع الناس، والمعايش: بكسر الياء دون هَمْزٍ جمع معيشة، وهي لفظة تعمُّ جَمِيعَ المأكول الذي يُعَاشُ به، والتحرف الذي يُؤَدِّي إليه، وقَلِيلًا نصب ب تَشْكُرُونَ ويحتمل أن تكون مَّا مع الفعل بتأويل المصدر، وقَلِيلًا نعت لِمَصْدَرٍ محذوف، تقديره: شكراً قليلاً شكركم، أو شكرا قليلا تشكرون.
__________
(1) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 23) .
(2) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 271) .
(3) ذكره ابن عطية (2/ 376) بنحوه.
(4) ذكره ابن عطية (2/ 376) بنحوه.(3/9)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 11 الى 18]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ... الآية: هذه الآية مَعْنَاهَا التَّنْبِيهُ على مواضع العِبْرَةِ، والتعجيب من غريب الصنعة، وإسداء النعمة.
واختلف العلماء في تَرْتِيبِ هذه الآية لأن ظاهرها/ يَقْتَضِي أن الخَلْقَ والتصوير لبني آدم قَبْلَ القَوْلِ للملائكة أَن يَسْجُدُوا، وقد صححت الشريعة أن الأَمْرَ لم يَكُنْ كذلك، فقالت فرقة: المُرَادُ بقوله سبحانه: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ آدم، وإن كان الخِطَابُ لبنيه.
وقال مجاهد: المعنى: ولقد خَلَقْنَاكم، ثم صورناكم في صُلْبِ آدم، وفي وقت استخراج ذريّة آدم من ظَهْرِهِ أمثال الذّر في صورة البَشَرِ «1» ، ويترتب في هَذَيْنِ القولين أن تكون «ثم» على بابها في الترتيب، والمُهْلَةِ.
وقال ابن عباس، والربيع بن أنس: أما «خلقناكم» فآدم، وأما «صورناكم» فذرّيته في بُطُونِ الأمهات «2» .
وقال قتادة، وغيره: بل ذلك كله في بُطُونِ الأمهات من خَلْقٍ، وتصوير «3» ، وثُمَّ لترتيب الأخبار بهذه الجمل لا لترتيب الجُمَلِ في أنفسها.
وقوله سبحانه: فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ تقدم الكلام على قصص الآية في «سورة البقرة» .
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 437) برقم: (14356) بلفظ: «في صلب آدم» ، وذكره ابن عطية (2/ 378) ، وذكر نحوه البغوي (2/ 150) بلا نسبة.
(2) أخرجه الطبري (5/ 436) ، برقم: (1443- 1444) ، وذكره ابن عطية (2/ 378) ، وذكره ابن كثير (2/ 203) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 134) .
(3) ذكره ابن عطية (2/ 378) .(3/10)
«وما» في قوله: مَا مَنَعَكَ استفهام على جِهَةِ التوبيخ والتقريع، و «لا» في قوله:
أَلَّا تَسْجُدَ قيل: هي زائدة، والمعنى: ما مَنَعَكَ أن تَسْجُدَ، وكذلك قال أبو حَيَّان «1» :
إنها زائدة «2» ، كهي في قوله تعالى: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: 29] .
قال: ويدلُّ على زيادتها سُقُوطها في قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [ص: 75] في «ص» انتهى. وجواب إبليس اللعين ليس بمُطابق لما سئل عنه، لكن [لما] جاء بِكَلاَمٍ يتضمن الجَوَابَ والحجة، فكأنه قال: منعني فَضْلِي عليه، إذ أنا خير منه، وظن إبليس أن النار أَفْضَلُ من الطين، وليس كذلك بل هما في دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ من حيث إنهما جَمَادٌ مخلوق، ولما ظن إبليس أن صُعُودَ النار، وَخِفَّتَهَا يقتضي فَضْلاً على سُكُونِ الطين وبلادته، قَاسَ أن ما خُلِقَ منها أَفْضَلُ مما خُلِقَ من الطين، فأخطأ قياسه، وذهب عليه أن الروح الذي نُفِخَ في آدم ليس من الطِّين.
وقال الطبري «3» : ذهب عليه ما في النَّارِ من الطَّيْشِ، والخِفَّةِ، والاضطراب، وفي الطين من الوَقَارِ، والأَنَاةِ والحِلْمِ، والتثبت وروي عن الحسن، وابن سيرين أنهما قالا: أول مَنْ قَاسَ إبليس، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالقِيَاس «4» ، وهذا القَوْلُ منهما ليس هو بإنكار للقياس «5» . وإنما خرّج كلاهما نَهْياً عما كان في زمانهما من مَقَايِيسِ الخوارج
__________
(1) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 273) .
(2) ذكره ابن عطية (2/ 378) ، ولم يعزه لأحد.
(3) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 440) .
(4) أخرجه الطبري (5/ 441) ، برقم: (14360) ، وبرقم: (14361) ، بلفظ: «قاس إبليس، وهو أول من قاس» ، وذكره ابن عطية (3/ 379) ، والبغوي (2/ 150) ، وذكره ابن كثير (2/ 203) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 134) عن الحسن نحوه.
(5) ينظر: الكلام على القياس في:
«البرهان» لإمام الحرمين (2/ 743) ، «البحر المحيط» للزركشي (5/ 5) ، «الإحكام في أصول الأحكام للآمدي» (3/ 167) ، «سلاسل الذهب» للزركشي ص: (364) ، «التمهيد» للأسنوي ص: (463) ، «نهاية السول» له (4/ 2) ، «زوائد الأصول» له ص: (374) ، «منهاج العقول» للبدخشي (3/ 3) ، «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري ص: (211) ، «التحصيل من المحصول» للأرموي (2/ 155) ، «المنخول» للغزالي ص: (323) ، «المستصفى» له (2/ 228) ، «حاشية البناني» (2/ 202) ، «الإبهاج» لابن السبكي (3/ 3) ، «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (4/ 2) ، «حاشية العطار على جمع الجوامع» (2/ 239) ، «المعتمد» لأبي الحسين (2/ 195) ، «إحكام الفصول من أحكام الأصول» للباجي ص:
(528) ، «الإحكام في أصول الأحكام» لابن حزم (7/ 368) ، (8/ 487) ، «أعلام الموقعين» لابن القيم (1/ 101) ، «التحرير» لابن الهمام ص: (415) ، «تيسير التحرير» لأمير باد شاه (3/ 263) «التقرير والتحبير» لابن أمير الحاج (3/ 117) . [.....](3/11)
وغيرهم، فأرادا حمل الناس على الجَادَّةِ.
وقوله سبحانه: فَاهْبِطْ مِنْها الآية: يظهر منه أنه أهبط أولاً، وأخرج من الجَنَّةِ، وصار في السماء لأن الأخبار تَظَاَهَرَتْ أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجَنَّة، ثم أُمِرَ آخراً بالهُبُوطِ من السماء مع آدم، وحواء، والحية. وقوله: إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ حكم عليه بضدِّ معصيته التي عصى بها، وهي الكبرياء، فعوقب بالحمل عليه، بخلاف شهوته، وأمله والصَّغَارُ: الذل قاله السدي.
ومعنى: أَنْظِرْنِي أخِّرْنِي «1» فَأَعْطَاهُ اللَّه النَّظِرَةَ إلى النفخة الأولى. قاله/ أكثر الناس «2» وهو الأصح والأشهر في الشَّرْع.
وقوله: فَبِما يريد به القَسَمَ، كقوله في الآية الأخرى: فَبِعِزَّتِكَ [ص: 82] وأَغْوَيْتَنِي قال الجمهور: معناه: أضللتني من الغيِّ، وعلى هذا المعنى قال محمد بن كَعْبٍ القرظي: قاتل اللَّه القدرية لإِبْلِيسُ أعلم باللَّه منهم، يُرِيدُ في أنه علم أن اللَّه يَهْدِي وَيضل «3» .
وقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ المعنى: لاعترضنَّ لهم في طَريق شرعك، وعبادتك، ومنهج النجاة، فَلأَصُدَّنهم عنه.
ومنه قوله عليه السلام: «إن الشيطان قَعَدَ لابن آدَمَ بأطرُقِهِ «4» نَهَاهُ عن الإِسْلاَمِ، وقال: تَتْرُكُ دِينَ آبائك، فَعَصَاهُ فأسلم، فنهاه عن الهِجْرَةِ فقال: تَدَعُ أَهْلَكَ وَبَلَدَك، فعصاه فهاجر، فنهاه عن الجِهَاد، فقال: تُقْتَلُ وتترك وَلَدَكَ، فَعَصَاهُ فجاهد فله الجَنَّة «5» ... »
الحديث.
وقوله سبحانه: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا
__________
(1) وذكره ابن عطية (2/ 379) ، والبغوي (2/ 151) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 442) ، برقم: (14365) نحوه، وذكره ابن عطية (2/ 379) ، والبغوي (2/ 151) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 444) ، برقم: (14368) ، وذكره ابن عطية (2/ 380) .
(4) هي جمع طريق على التأنيث لأن الطريق تذكر وتؤنث، فجمعه على التذكير: أطرقة: كرغيف وأرغفة، وعلى التأنيث: أطرق، كيمين وأيمن.
ينظر: «النهاية» (3/ 133) .
(5) أخرجه ابن أبي شيبة (5/ 293) ، والنسائي (6/ 21- 22) ، كتاب «الجهاد» ، باب: ما لمن أسلم وهاجر وجاهد، وابن حبان (1601- موارد) ، والطبراني في «الكبير» (7/ 138) ، من حديث سبرة بن أبي الفاكه.(3/12)
تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ مقصد الآية أن إبليس أَخْبَرَ عن نفسه أنه يأتي إِضْلاَلَ بني آدم من كُلِّ جهة، فعبر عن ذلك بأَلْفَاظٍ تقتضي الإِحَاطَةَ بهم، وفي اللفظ تَجَوُّزٌ، وهذا قَوْلُ جَمَاعَةٍ من المفسرين.
قال الفخر «1» : وقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ أي: على صِرَاطِكَ. أجمع النحاة على تقدير «على» في هذا الموضع. انتهى.
وقوله: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ أخبر اللعين أن سَعَايَتَهُ تفعل ذلك ظَنًّا منه، وتوسُّماً في خِلْقَةِ آدم حين رأى خِلْقَتَهُ من أشياء مختلفة، فعلم أنه سَتَكُونُ لهم شِيَمٌ تقتضي طَاعَتَهُ، كالغِلِّ، والحَسَدِ، والشهوات، ونحو ذلك.
قال ابن عباس، وقتادة: إلا أن إبليس لم يَقُلْ: إنه يأتي بني آدم من فَوْقِهِمْ، ولا جعل اللَّه له سبيلاً إلى أن يَحُولَ بينهم وبين رحمة اللَّه وعفوه ومَنِّهِ، وما ظنه إبليس صدقه اللَّه عز وجل «2» .
ومنه قوله سبحانه: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [سبأ: 20] فجعل أكثر العالم كفرة، ويبيّنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في الصَّحيح: «يَقُولُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: يا آدَمُ أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، فيقول: يا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ، فيقول: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعمَائةً وتِسْعَةً وتَسْعِينَ إلى النَّارِ، وواحداً إلى الجَنَّةَ» «3» .
ونحوه مما يخصُّ أمة نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم: «ما أنتم في الأمم إلا كالشَّعرة البَيْضَاءِ في الثور الأسود» «4» وشاكِرِينَ معناه: مُؤْمنين لأن ابن آدم لا يَشْكُرُ نعمة اللَّه إلا بأن يُؤمن. قاله ابن عباس وغيره «5» .
وقوله سبحانه: اخْرُجْ مِنْها أي: من الجنة مَذْؤُماً أي مَعِيباً مَدْحُوراً أي:
مقصيًّا مبعداً.
لَمَنْ تَبِعَكَ بفتح اللام هي لام قسم.
__________
(1) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 32) .
(2) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 32) .
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه.
(5) ذكره ابن عطية (2/ 381) .(3/13)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
وقال أبو حيان «1» : الظاهر أنها المُوَطِّئة لِلْقَسَمِ «2» ، و «من» شرطية في موضع رَفَعٍ بالابتداء، وحذف جواب الشرط لدلالة جَوَابِ القَسَم عليه، ويجوز أن تكون لام ابتداء، و «من» موصولة في مَوْضَعِ رَفْعٍ بالابتداء، والقَسَمُ المحذوف، وجوابه، وهو «لأملأن» في موضع خبرها. انتهى.
وقال الفخر «3» : وقيل/: مَذْؤُماً، أي: محقوراً فالمَذْؤومُ المحتقر. قاله الليث.
وقال ابن الأنباري «4» : المذءوم المذموم.
وقال الفَرّاءُ: أَذْأَمْتُهُ إِذا عَيَّبْتُهُ. انتهى.
وباقي الآية بَيِّنٌ. اللهم إنا نَعُوذُ بك من جَهْدِ البَلاَءِ، وسوء القَضَاءِ، ودَرك الشَّقَاء، وشماتة الأعداء.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 21]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
وقوله جل وعلا: وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ إذا أُمِرَ الإنسان بِشَيْءٍ، وهو متلبس به، فإنما المقصد من ذلك أن يستمر على حاله، ويتمادى في هَيْئَتِهِ.
وقوله سبحانه لآدم: اسْكُنْ هو من هذا البَابِ، وقد تَقَدَّمَ الكلام في «سورة البقرة» على «الشَّجَرَةِ» وتعيينها، وقوله سبحانه: «هذه» قال (م) : الأَصْلُ هَذِي، وَالهَاءُ بَدَلٌ من الياء، ولذلك كسرت الذال، إذ ليس في كلامهم هاء تأنيث قبلها كسرة انتهى.
__________
(1) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 278) .
(2) ذكره ابن عطية (2/ 382) .
(3) ينظر: «تفسير الرازي» (14/ 37) .
(4) عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الأنصاري، كمال الدين الأنباري، ولد في 513 هـ، من علماء اللغة والأدب وتاريخ الرجال، كان زاهدا عفيفا، لا يقبل من أحد شيئا، له مصنفات منها: «نزهة الألباء في طبقات الأدباء» ، «لمعة الأدلة» ، «الميزان» ، توفي في 577 هـ.
ينظر: «الفوات» (1/ 262) ، «بغية الوعاة» (301) ، «الوفيات» (1/ 279) ، «أدب اللغة» (3/ 41) ، «الأعلام» (3/ 327) . [.....](3/14)
وقوله عز وجل: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما الوَسْوَسَةُ الحديث في إخفاء همساً وإسْرَاراً من الصوت، والوسواس صَوْتُ الحُلِيِّ، فشبه الهمس به، وسمى إِلْقَاءُ الشيطان في نَفْسِ ابن آدم وَسْوَسَةً، إذ هي أَبْلَغُ الإسرار وأخفاه.
هذا في حال الشيطان معنا الآن، وأما مع آدم، فممكن أن تكون وَسْوَسَة بمُحَاوَرَةٍ خفية، أو بإلقاء في نَفْسٍ، واللام في «ليبدي» هي في قول الأكثرين لام الصَّيْرُورَةِ والعاقبة، ويمكن أن تكون لام «كي» على بابها «1» .
وما وُورِيَ معناه ما ستر من قولك: وارى يُوَارِي إذا ستر، والسَّوْأَةُ الفَرْجُ والدُّبر، ويشبه أن يسمى بذلك لأن منظره يسوء.
وقالت طائفة: إن هذه العِبَارَةَ إنما قصد بها أنها كُشِفَتْ لهما مَعَائِبهما، وما يسوءهما، ولم يقصد بها العورة، وهذا القَوْلُ محتمل، إلا أن ذِكْرَ خَصْفِ الوَرَقِ يَرُدُّهُ إلا أن يُقَدَّرَ الضمير في عَلَيْهِما عائد على بدنيهما فيصحّ.
وقوله سبحانه: وَقالَ مَا نَهاكُما ... الآية، هذا القول المَحْكِيُّ عن إبليس يدخله من التأويل ما دَخَلَ الوَسْوَسَةَ، فممكن أن يقول هذا مخاطبةً وحِوَاراً، وممكن أن يقولها إلْقَاءً في النفس، ووحيا.
وإِلَّا أَنْ تقديره عند سيبويه والبصريين: إلا كراهِيَة أن، وتقديره عند الكوفيين: «2» «إلا أن لا» على إضمار «لا» ، ويرجح قَوْلُ البصريين أن إضمار الأسماء أَحْسَنُ من إِضْمَارِ الحروف.
وقرأ جمهور الناس «مَلَكَيْنِ» بفتح اللام.
وقرأ ابن عباس: «مَلِكَيْنِ «3» » بكسرها، ويؤيده قوله: وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه: 120]
__________
(1) في هذه اللام قولان:
أظهرهما أنها لام العلة على أصلها، لأن قصد الشيطان ذلك. وقال بعضهم: اللام للصيرورة والعاقبة، وذلك أن الشيطان لم يكن يعلم أنهما يعاقبان بهذه العقوبة الخاصة، فالمعنى: أن أمرهما آيل إلى ذلك.
والجواب أنه يجوز أن يعلم ذلك بطريق من الطرق.
ينظر: «الدر المصون» (3/ 247) .
(2) وقول البصريين أولى: لأن إضمار الاسم أحسن من إضمار الحرف.
(3) وقرأ بها يحيى بن أبي كثير، والضحاك، والحسن بن علي، والزهري، وابن حكيم.
ينظر: «الشواذ» ص: (48) و «البحر المحيط» (4/ 280) ، و «الدر المصون» (3/ 248) .(3/15)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
وقال بعض الناس: يؤخذ من هذه الألفاظ أن الملائكة أَفْضَلُ من البَشَرِ، وهي مسألة اختلف النَّاسُ فيها، وتمسَّكَ كل فريق بِظَوَاهِرَ من الشريعة، والفضل بِيَدِ اللَّه يؤتيه من يشاء.
وقاسَمَهُما أي: حلف لهما باللَّه، وهي مُفَاعلة، إذ قبول المحلوف له اليمين كالقسم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 22 الى 25]
فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)
وقوله عز وجل: فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ قال: ع»
: يشبه عندي أن تكون هذه اسْتعَارَةً من الرَّجُلِ يدلي آخر من هُوَّةٍ بحبل قد أَرمَ أو سَبَبٍ ضعيف يغترُّ به، فإذا تَدَلَّى به، وتوركَ عليه، انقطع به، وهلك، فيشبه الذي يغرُّ بالكلام حتى يصدقه، فيقع في مصيبة بالذي يُدْلي من هوة بِسَبَبٍ ضعيف.
وقوله سبحانه: بَدَتْ قيل: تمزقت عنهما ثياب الجنة وملابسها، وتطايرت تبرّيا منهما، ويَخْصِفانِ معناه: يلصقانها، والمخصف الأشفى «2» وضم الورق بعضه إِلَى بَعْضٍ أشبه بالخَرَزِ منه بالخياطة.
قال البخاري: يَخْصِفَانِ يؤلفان الوَرَقَ بعضه إلى بعض/ انتهى. وهو معنى ما تقدم.
وروى أبيٌّ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن آدم عليه السلام كان يَمْشي في الجنة كأنه النخلة السَّحُوقُ «3» فلما أَكَلَ من الشجرة وَبَدَتْ له حاله فَرَّ على وَجْهِهِ، فأخذت شجرة بِشَعَرِ رَأْسِهِ، فقال لها: «أرسليني» فقالت: ما أنا بمرسلتك، فناداه ربه جَلَّ وَعَلاَ أَمِنِّي تفرُّ يا آدم؟
فقال: لا يَا رَبّ، ولكن أَسْتَحْيِيكَ، فقال: أما كان لك فيما مَنَحْتُكَ من الجنة مندوحة عما حرمت عليك. قال: بلى يا رب، ولكن وَعِزَّتَكَ مَا ظَنَنْتُ أن أحداً يَحْلِفُ بك كاذبا، قال:
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 385) .
(2) الإشفى: فعلى، وهو أداة للإسكاف، والجمع: أشافي.
ينظر: «لسان العرب» (85) (أشف) .
(3) أي: الطويلة التي بعد ثمرها على المجتني. ينظر: «النهاية» (2/ 347) .(3/16)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
فبعزَّتي لأهبطنك إِلى الأَرْضِ، ثم لا تنال العَيْشَ إلا كدًّا «1» .
وقوله: عَنْ تِلْكُمَا بِحَسَبِ اللفظ أنه إنما أشار إلى شَجَرَةٍ مخصوصة، وَأَقُلْ لَكُما: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ إشارة إلى الآية التي في «طه» في قوله: فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [طه: 117] وهذا هو العَهْد الذي نَسِيَهُ آدم على مَذْهَبِ من جعل النسيان على بابه، وقولهما: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا اعتراف من آدَمَ وحواء عليهما السلام وطَلَبٌ للتوبة، والستر، والتغمُّد بالرحمة، فطلب آدم هذا، فأجيب، وطلب إبليس النَّظِرَةَ، ولم يطلب التَّوْبَة، فوكل إلى سوء رأيه.
قال الضحاك وغيره: هذه الآية هي الكَلِمَاتُ التي تلقى آدم من ربّه، وقوله عز وجل:
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ المُخَاطَبَةُ بقوله: اهْبِطُوا.
قال: أبو صَالِحٍ، والسدي، والطبري، وغيرهم: هي لآدم، وحوّاء، وإبليس، والحية.
وقالت فرقة: هي مخاطبة لآدم وذريته، وإبليس وذريته.
قال ع «2» : وهذا ضَعِيفٌ لعدمهم في ذلك الوَقْت.
ت: وما ضعفه رحمه اللَّه صَحَّحَهُ في «سورة البقرة» ، فتأمله هناك، وعداوة الحية معروفة.
روى قتادة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما سالمناهنّ منذ حاربناهنّ» «3» .
[سورة الأعراف (7) : آية 26]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
وقوله سبحانه: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ الآية خطاب لجميع الأمم وقت النبي صلّى الله عليه وسلّم والسَّبَب والمراد: قريش، ومَنْ كان مِنَ العَرَبِ يتعرّى في طوافه بالبيت.
__________
(1) تقدم تخريجه في أوائل سورة البقرة.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 387) .
(3) ورد هذا الحديث مسندا من حديث أبي هريرة، وابن عباس.
حديث أبي هريرة: أخرجه أبو داود (2/ 785) ، كتاب «الأدب» ، باب: في قتل الحيات، حديث (5248) ، وأحمد (2/ 232، 247، 520) ، وابن حبان (1079- موارد) ، وابن ماجه (3224) ، والدارمي (2/ 88- 89) ، والبيهقي (9/ 317) . أما حديث ابن عباس: أخرجه أبو داود (2/ 785) : كتاب «الأدب» ، باب:
في قتل الحيات، حديث (5250) ، وعبد الرزاق (10/ 434) برقم: (19617) .(3/17)
قال مجاهد: ففيهم نَزَلَتْ هذه الأربع آيات «1» .
وقوله: أَنْزَلْنا يحتمل التَّدْرِيجَ أَي: لما أنزل المَطَر، فكان عنه جميع ما يلبس، ويحتمل أن يريد ب أَنْزَلْنا خلقنا، كقوله: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: 6] ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد: 25] ولِباساً عام في جميع ما يلبس، ويُوارِي: يستر.
وقرأ الجمهور: «وريشاً» ، وقرأ عاصم، وأبو عمرو «ورياشاً» وهما عِبَارَتَانِ عن سَعَةِ الرزق، ورفاهة العَيْشِ، وَجَوْدَةِ الملبس والتمتع.
وقال البخاري: قال ابن عباس: وريشاً: المال انتهى «2» .
وقرأ نافع «3» ، وغيره: «ولباسَ» بالنصب.
وقرأ حمزة، وغيره بالرفع. وقوله: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ إشارة إلى جَمِيعِ ما أنزل اللَّه من اللِّبَاسِ والرِّيشِ. وحكى النَّقَّاشُ: أن الإِشَارَةَ إِلى لِبَاسِ التَّقوى أي: هو في العبد آية أي: علامة وأمارة من اللَّه تعالى أنه قد رَضِيَ عنه، ورحمه.
وقال ابن عَبَّاسٍ: لباس التقوى هو السَّمْتُ الحَسَنُ «4» في الوَجْهِ. وقاله عثمان بن عفان على المنبر.
وقال ابن عَبَّاسٍ أيضاً: هو العَمَلُ الصالحَ «5» .
وقال عُرْوَةُ بن الزبير: هو خَشْيَةُ اللَّه «6» وقيل: هو لباس الصوف، وكل ما فيه تواضع لله عز وجل.
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 455) برقم: (14425) ، وذكره ابن عطية (2/ 388) .
(2) أخرجه البخاري معلقا بصيغة الجزم (6/ 416) : كتاب «أحاديث الأنبياء» ، باب: «خلق آدم وذريته» ، وقال ابن حجر: «هو قول ابن عباس، ووصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عنه» ، والطبري (5/ 457) برقم: (14433) ، وذكره ابن عطية (2/ 389) ، والبغوي (2/ 154) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 141) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(3) وقرأ بها ابن عامر والكسائي. عطفوا على الريش، والمعنى: وأنزلنا عليكم لباس التقوى.
ينظر: «السبعة» (280) ، و «الحجة» (4/ 12) ، و «حجة القراءات» (280) ، و «إعراب القراءات» (1/ 178) ، و «العنوان» (95) ، «شرح الطيبة» (4/ 293) ، «شرح شعلة» (387) ، «إتحاف» (1/ 46) ، «معاني القراءات» (1/ 403) .
(4) أخرجه الطبري (50/ 458) برقم: (14449) ، وذكره ابن عطية (2/ 389) ، والسيوطي (3/ 142) .
(5) أخرجه الطبري (5/ 458) برقم: (14449) وذكره ابن عطية (2/ 389) ، والبغوي (2/ 155) . [.....]
(6) أخرجه الطبري (5/ 459) برقم: (14452) ، وذكره ابن كثير (2/ 207) .(3/18)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
وقال الحَسَنُ «1» : هو الوَرَعُ.
وقال معبد الجهني: هو «2» الحَيَاءُ.
وقال ابن عَبَّاسٍ أيضاً: لِبَاسُ التقوى العفة «3» .
قال ع «4» وهذه كلها مثل، وهي من لباس التقوى، ولَعَلَّهُمْ ترجّ بحسبهم، ومبلغهم من المعرفة.
[سورة الأعراف (7) : آية 27]
يا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27)
وقوله عز وجل: يا بَنِي آدَمَ/ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ الآية: خطاب لجميع العالم، والمقصود بها في ذلك الوَقْتِ مَنْ كان يطوف من العَرَبِ بالبيتِ عُرْيَاناً.
قيل: كانت العَرَبُ تَطُوفُ عُرَاةً إِلا الحُمْس «5» ، وهم قريش، ومن وَالاَهَا، وهذا هو الصحيح، ثم نودي ب «مكة» في سنة تسع: لا يحجّ بعد العام مُشْرِكٌ، ولا يطوف بالبيت عريان «6» والفتنة في هذه الآية الاسْتِهْوَاءُ، والغَلَبَةُ على النفس، وأضاف الإِخْرَاجَ في هذه الآية إلى إبليس تجوُّزاً لما كان هو السَّبَب في ذلك.
قال أبو حيان «7» : كَما أَخْرَجَ «كما» في موضع نَصْبٍ، أي: فتنة مثل فتنة إِخْرَاجِ أبويكم انتهى.
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 389) وزاد فيه: «والسمت والحسن في الدنيا» .
(2) أخرجه الطبري (5/ 458) برقم: (14446) ، وذكره ابن عطية (2/ 389) ، والسيوطي (3/ 142) .
(3) ذكره ابن عطية (2/ 389) .
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 389) .
(5) الحمس: جمع الأحمس، وهم قريش ومن ولدت قريش، وكنانة وجديلة قيس، سمّوا حمسا لأنهم تحمسوا في دينهم، أي: تشددوا. والحماسة: الشجاعة.
ينظر: «النهاية (1/ 440) .
(6) أخرجه البخاري (3/ 483) : كتاب «الحج» ، باب: لا يطوف بالبيت عريان، الحديث (1622) ، ومسلم (2/ 982) : كتاب «الحج» ، باب: لا يحج البيت مشرك، الحديث (435/ 1347) واللفظ له، من حديث أبي هريرة قال: «بعثني أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الحجّة التي أمّره عليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قبل حجة الوداع في رهط يؤذنون في الناس يوم النحر: لا يحجّ بعد العام مُشْرِكٌ، ولا يطوف بالبيت عريان» .
(7) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 284) .(3/19)
وقوله سبحانه: إِنَّهُ يَراكُمْ ... الآية زيادة في التحذير، وإعلام بأن الله عز وجل قد مَكَّنَ إبليس من بَني آدَمَ في هذا القدر، وبحسب ذلك يَجِبُ أن يكون التّحرّز بطاعة الله عز وجل وقَبِيلُ الشيطانُ يُرِيدُ نوعه، وصنفه، وذريته، والشيطان مَوْجُودٌ، وهو جسم.
قال النووي «1» : وروينا في كتاب ابن السّني عن أَنَسٍ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«ستر ما بين أَعْيُنِ الجِنِّ وَعَوْرَاتِ بَنِي آدَمَ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ المُسْلِمُ إِذَا أَراد أن يطرح ثِيَابَهُ:
بسم اللَّه الذي لا إله إِلاَّ هُوَ» «2» انتهى.
وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ستر ما بين الجنِّ وعَوْرَاتِ بني آدَمَ إِذا دَخَلُوا الكُنُفَ أَن يقولوا: بسم اللَّه» .
رواه الترمذي، وقال: إسناده ليس بالقَوِيِّ «3» .
قال النووي: قال العلماء من المحدثين والفقهاء وغيرهم: يجوز ويُسْتَحَبُّ العَمَلُ في الفَضَائِلِ، والترغيب، والترهيب بالحديث الضعيف ما لم يكن موضوعاً وأما الأحكام كالحَلاَلِ، والحرام، والبيع، والنكاح، والطلاق، وغير ذلك فلا يُعْمَلُ فيها إلا بالحديث الصحيح «4» ، أو الحسن «5» إلا أن يكون في احْتِيَاطٍ في شيء من ذلك، كما إذا ورد حديث
__________
(1) ينظر: «الأذكار» ص: (51) .
(2) أخرجه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» برقم: (274) من حديث أنس مرفوعا به.
(3) أخرجه الترمذي (2/ 503- 504) : كتاب «الصلاة» ، باب: ما ذكر من التسمية عند دخول الخلاء، حديث (606) ، وابن ماجه (1/ 109) : كتاب «الطهارة» ، باب: ما يقول الرجل إذا دخل الخلاء، حديث (297) من حديث علي، وقال الترمذي: إسناده ليس بالقوي.
(4) الصحيح: في اللغة فعيل بمعنى فاعل من الصحة، وهي ذهاب المرض والبراءة من كل عيب.
وفي اصطلاح المحدثين يختلف عند المتقدمين وعند المتأخرين.
أما عند المتقدمين فقال الخطابي: الصحيح: ما اتصل سنده وعدلت نقلته.
وأما الصحيح لذاته عند المتأخرين، فقال ابن الصلاح: هو الحديث المسند الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط إلى منتهاه، ولا يكون شاذا ولا معللا.
والصحيح لغيره: هو الحديث الذي لم يكن صحيحا لذاته وارتقى إلى درجة الصحيح بجابر يجبر القصور فيه، وذلك هو الحديث الحسن لذاته إذا جبر بجابر بأن تقوى بمتابع أو شاهد مساو أو راجح أو بأكثر من طريق إن كان أدنى. وعليه فنقول إنه:
هو ما اتصل سنده بنقل عدل قلّ ضبطه عن الدرجة العليا للضبط وتوبع بطريق آخر مساو أو راجح أو بأكثر من طريق إن كان أدنى وكان غير شاذ ولا معل.
ينظر: «غيث المستغيث» ص: (32، 33، 35) .
(5) الحسن: في اللغة الجمال، والحسن الجميل.(3/20)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
ضعيف بكَرَاهِةِ بعض البيوع، أو الأنكحة، فإن المستحبَّ أن يتنزَّه عنه، ولكن لا يَجِبُ انتهى.
ونحوه لأبي عمر بن عبد البر في كتاب «فضل العلم» : ثم أخبر عز وجل أنه صَيَّرَ الشياطين أولياء، أي: صحابة، ومتداخلين للكفرة الذين لا إيمان لهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 28 الى 30]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
وقوله: وإذا فَعَلُوا وما بعده دَاخِلٌ في صفة الذين لا يؤمنون، والفاحشة في هذه الآية، وإن كان اللفظ عَامّاً هي كَشْفُ العَوْرَةِ عند الطَّوَافِ، فقد روي عن الزهري أنه قال:
إن في ذلك نزلت هذه الآية. وقاله ابن عبّاس ومجاهد «1» .
وقوله عز وجل: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ تضمن معنى اقسطوا، ولذلك عطف عليه قوله: وَأَقِيمُوا حملاً على المعنى، والقِسْطُ العَدْلُ واختلف في قوله سبحانه: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فقال مجاهد، والسدي: أراد إلى الكعبة «2» ، والمقصد على هذا
__________
وفي الاصطلاح: لهم فيه عبارات كثيرة لعدم ضبط الأقدمين له حتى قال البلقيني: الحسن لما توسط بين الصحيح والضعيف عند الناظر كان شيئا ينقدح في نفس الحافظ. وقد تقصر عبارته عنه كما قيل في الاستحسان، فلهذا صعب تعريفه لكن استقر الرأي أخيرا على أنه:
هو الحديث الذي اتصل سنده بنقل العدل الضابط الذي قصر به حفظه وإتقانه عن درجة رجال الصحيح غير شاذ ولا معل.
والحسن لغيره: هو الحديث الذي يكون في أصله غير حسن، ثم يرتقي بالجابر حتى يكون في درجة الحسن، وذلك أن الحديث إذا فقد أحد الشروط الخمسة المعتبرة في الصحيح لذاته والحسن لذاته ينزل إلى درجة الضعيف، لكن الضعيف منه ما يقبل الجبر، ومنه ما لا يقبل الجبر بحال، فتوقفت معرفة الحسن لغيره على معرفة ما يقبل الجبر من الضعيف- ويسمى عندهم ما يعتبر به أي حديث يكتب للاعتبار به في المتابعات والشواهد- ومعرفة ما لا يقبل الجبر منه- ويسمى عندهم ما لا يعتبر به.
ينظر: «الغيث المستغيث» ص: (34، 35) . [.....]
(1) أخرجه الطبري (5/ 463) برقم: (14467- 14468- 14469- 14473- 14474) ، وابن عطية (2/ 391) ، والبغوي (2/ 155) ، وابن كثير (2/ 208) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 143) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 464) برقم: (14478) وبرقم: (14479) ، وذكره ابن عطية (2/ 391) ، والبغوي (2/ 156) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 143) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.(3/21)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
شَرْعُ القبلة والتزامها.
وقيل: أراد الأمر بإحضار النية لله في كُلِّ صَلاَةٍ، والقصد نحوه، كما تقول: وَجَّهْتُ وَجْهِي لله قاله الربيع «1» .
وقيل: المراد إبَاحَةُ الصلاة في كُلِّ موضع من الأرض، أي: حيث ما كنتم فهو مَسْجِدٌ لكم تلزمكم عند الصَّلاَةِ إقامة وجوهكم فيه لله عز وجل. وقوله سبحانه: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ قال ابن عَبِّاسٍ، وقتادة، ومجاهد: المعنى: كما أوجدكم، واخترعكم، كذلك يعيدكم بعد الموتِ «2» والوقف على هذا التأويل تعودون و «فريقاً» نصب ب «هدى» والثاني منصوب بِفِعْلٍ تقديره: وعذب فريقاً.
وقال جابر بن عبد اللَّه/ وغيره: وروي معناه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن المُرَادَ الإعلام بأن مَنْ سَبَقَتْ له من اللَّه الحُسْنَى، وكتب سعيداً كان في الآخِرَةِ سَعِيداً، ومن كتب عليه أنه من أَهْلِ الشَّقَاءِ، كان في الآخرة شَقِيًّا، ولا يتبدَّل من الأمور التي أحكمها وَدَبَّرَهَا، وأنفذها شيء، فالوقف في هذا التأويل في قوله: تَعُودُونَ غير حسن وفَرِيقاً على هذا التأويل نصب على الحال، والثاني عطف على الأول.
وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ معناه: يظنُّونَ.
قال الطبري «3» : وهذه الآية دَلِيلٌ على خَطَإ من زَعَمَ أن اللَّه لا يعذب أحداً على معصية ركبها، أو ضلالة اعتقدها، إلا أن يأتيها على علم منه بموضع الصواب.
[سورة الأعراف (7) : آية 31]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
وقوله سبحانه: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ الآية: هذا خطاب عَامٌ لجميع العالم كما تقدم، وأمروا بهذه الأَشْيَاءِ بسبب عصيان حاضري ذلك الوقت من مُشْرِكِي العَرَبِ فيها، والزينة الثياب الساترة. قاله مجاهد وغيره «4» . وعِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 465) برقم: (14482) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 391) ، وابن كثير (2/ 208) بنحوه.
(2) أخرجه الطبري (5/ 967) برقم: (14502) ، وذكره ابن عطية (2/ 392) ، والبغوي (2/ 156) .
(3) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 469) .
(4) أخرجه الطبري (5/ 470) برقم: (14520- 14521) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 392) ، والبغوي (2/ 157) ، وابن كثير (2/ 210) ، والسيوطي (3/ 145) بنحوه.(3/22)
أي: عند كل مَوْضِعِ سُجُودٍ، فهي إشارة إلى الصلوات، وستر العورة فيها.
ت: ومن المستحسن هنا ذكر شيء مما جاء في اللِّبَاسِ، فمن أحسن الأحاديث في ذلك، وأصحها ما رواه مالِكٌ في «الموطأ» عن أبي سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنَّ أُزْرَةَ المُؤْمِنِ إِلى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ لا جُنَاحَ عليه فيما بينه وبَيْنَ الكَعْبَيْنِ، ما أَسْفَلَ من ذَلِكَ ففي النَّارِ» قال ذلك ثلاث مرات: «لاَ يَنْظُرُ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِلَى مَنْ جَرَّ إزَارَهُ بَطَراً» «1» .
وحَدَّثَ أَبو عمر في «التمهيد» بسنده عن ابن عمر قال: فيما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الإزَارِ فهو في القَمِيصِ يعني ما تَحْتَ الكَعْبَيْنِ من القَمِيصِ في النار «2» ، كما قال في الإزَارِ، وقد روى أبو خيثمة زهير بن مُعَاوِيةَ «3» قال: سمعت أَبا إِسْحَاقَ السبيعي يقول: أدركتهم وقمصهم إلى نِصْفِ الساق أو قريب من ذلك، وكُمُّ أحدهم لا يُجَاوِزُ يَدَهُ انتهى. وروى أبو داود عن أسماء بنت يَزِيدَ قالت: كانت يَدُ كُمِّ قميص رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الرّسْغ «4» ، وأما أحبُّ اللِّبَاسِ فما رواه أبو داود عن أم سلمة قالت: كان أحبّ الثياب إلى رسول
__________
(1) أخرجه مالك (2/ 914- 915) : كتاب «اللباس» ، باب: ما جاء في إسبال الرجل ثوبه، حديث (12) ، وأبو داود (2/ 457) كتاب «اللباس» ، باب: في قدر موضع الإزار، حديث (4093) ، وابن ماجه (2/ 1183) : كتاب «اللباس» ، باب: موضع الإزار أين هو؟، حديث (3573) من طريق العَلاءِ بْنِ عَبْدِ الرحمن، عن أبِيهِ، عن أبي سعيد الخدري به.
(2) روي هذا المعنى أيضا من حديث أبي هريرة بلفظ: «ما أسفل الكعبين من الإزار فهو في النار» .
أخرجه البخاري (10/ 268) ، في كتاب «اللباس» ، باب: «ما أسفل من الكعبين فهو في النار» (5787) ، والنسائي في «المجتبى» (8/ 207) ، في كتاب: «الزينة» ، وابن ماجه (3573) ، وأحمد في «المسند» (2/ 461) ، (5/ 9) ، وابن أبي شيبة في «المصنف» (8/ 204) .
(3) زهير بن معاوية بن حديج بضم المهملة الأولى مصغرا، وآخره جيم ابن الرّجيل بجيم مصغرا ابن زهير بن خيثمة الجعفي أبو خيثمة الكوفي أحد الحفاظ والأعلام. عن سماك بن حرب والأسود بن قيس، وزياد بن علاقة، وأبي الزّبير، وخلق، وعنه القطّان، وابن مهدي، وأبو نعيم، والأسود بن عامر، وعمر بن خالد، وخلق.
قال شعيب بن حرب: زهير أحفظ من عشرين مثل شعبة.
وقال أحمد: زهير ثبت سمع من أبي إسحاق بآخره.
قال الخطيب: حدث عنه ابن جريج، وعبد الغفار الحراني، وبين وفاتيهما بضع وستون سنة، توفي سنة ثلاث وسبعين ومائة، ومولده سنة مائة.
ينظر: «الخلاصة» (1/ 340) ، «تهذيب الكمال» (1/ 436) ، «تهذيب التهذيب» (3/ 351) ، «الكاشف» (1/ 327) ، «الثقات» (6/ 337) .
(4) أخرجه أبو داود (2/ 441) : كتاب «اللباس» ، باب: ما جاء في القميص، حديث (4027) .(3/23)
الله صلّى الله عليه وسلّم القميص «1» . انتهى.
وجاء في المُسْبِلِ وَعيدٌ شديد وعنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال لرجل أَسْبَلَ إزاره: «إن هذا كان يصلي وهو مُسْبِلٌ إزَارَهُ وإِن اللَّه لا يَقْبَلُ صَلاَةَ رَجُلٍ مسبل إزاره» رواه أبو داود «2» . انتهى.
وقوله سبحانه: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا إباحة لما التزموه من تَحْرِيمِ اللحم، والودك «3» في أيام المواسم. قاله ابن زَيْدٍ وغيره، ويدخل في ذلك «4» البَحِيرَةُ والسائبة، ونحو ذلك نصّ على ذلك قَتَادَةُ.
وقوله سبحانه: وَلا تُسْرِفُوا معناه: لا تفرطوا. قال أهل التأويل: يريد تُسْرِفُوا بأن تحرموا ما لم يحرّم الله عز وجل واللفظةَ تَقْتَضِي النهي عن السَّرَفِ مُطْلَقاً، ومن تَلَبَّسَ بفعلٍ مباح، فإن مشى فيه على القَصْدِ، وأوسط الأمور، فحسن، وإن أفْرَطَ جعل أيضا من المسرفين.
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/ 440) كتاب «اللباس» ، باب: ما جاء في القميص، حديث (4025، 4026) ، والترمذي (4/ 237- 238) كتاب «اللباس» ، باب: ما جاء في القميص، حديث (1762) ، وفي «الشمائل» رقم: (55) ، وابن ماجه (2/ 1183) كتاب «اللباس» ، باب: لبس القميص، حديث (3575) ، وأحمد (6/ 317) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» برقم: (1540) ، وأبو يعلى (12/ 445) رقم (7014) ، وأبو الشيخ في «أخلاق النبي» ص: (100) ، والطبراني في «الكبير» (23/ 421) برقم: (1018) ، والحاكم (4/ 192) ، والبيهقي (2/ 239) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 146- بتحقيقنا) . كلهم من طريق عبد المؤمن بن خالد عن عبد الله بن بريدة، عن أم سلمة به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، إنما نعرفه من حديث عبد المؤمن بن خالد، تفرد به وهو مروزي، وروى بعضهم هذا الحديث عن أبي تميلة عن عبد المؤمن بن خالد، عن عبد الله بن بريدة، عن أمه، عن أم سلمة.
(2) أخرجه أبو داود (1/ 228) كتاب «الصلاة» ، باب: الإسبال في الصلاة، حديث (638) ، وفي (2/ 455) كتاب «اللباس» ، باب: ما جاء في إسبال الإزار، حديث (4086) ، والبيهقي (2/ 241) كتاب «الصلاة» ، من حديث أبي هريرة، وهذا الحديث لم يخرجه سوى أبي داود من أصحاب الكتب الستة.
(3) الودك: دسم اللحم، ودهنه الذي يستخرج منه.
ينظر: «النهاية» (5/ 169) .
(4) البحيرة: أنهم كانوا إذا ولدت إبلهم سقيا (يعني ولد الناقة) بحروا أذنه: أي شقوها، وقالوا: اللهم إن عاش ففتيّ وإن مات فذكي، فإذا مات أكلوه وسموه البحيرة، وقيل: البحيرة: هي بنت السائبة، كانوا إذا تابعت الناقة بين عشر إناث لم يركب ظهرها ولم يجز وبرها، ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو ضيف، وتركوها مسيّبة لسبيلها وسموها السائبة، فما ولدت بعد ذلك من أنثى شقوا أذنها، وخلوا سبيلها، وحرم منها ما حرم من أمها، وسموها البحيرة.
ينظر: «النهاية» (1/ 100) . [.....](3/24)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
وقال ابن عَبَّاس في هذه الآية: أحلَّ اللَّه الأكل والشرب ما لم يكن سَرَفاً أو مخيلة «1» .
قال ابن العربي «2» : قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا الإِسْرَافُ تَعَدِّي الحد، فنهاهم سبحانه عن تعدي الحَلاَل إلى الحرام.
وقيل: لا يزيد على قَدْرِ الحاجة، وقد اختلف فيه على قولين فقيل/ حرام.
وقيل: مكروه، وهو الأصح.
فإن قدر الشبع يختلف باختلاف البُلْدَانِ، والأَزْمَانِ، والإِنسان، والطعمان. انتهى من «أحكام القرآن» .
[سورة الأعراف (7) : آية 32]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
وقوله سبحانه: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ أي: قل لهم على جِهَةِ التوبيخ. وَزِينَةُ اللَّه هي ما حَسَّنته الشَّرِيعَةُ، وقررته، وزِينَةُ الدنيا كل ما اقتضته الشَّهْوَةُ، وطلب العلو في الأرض كالمَالِ والبنين.
والطَّيِّباتِ قال الجمهور: يريد المُحَلّلات.
وقال الشافعي وغيره: هي المُسْتَلَذَّاتُ أي: من الحلال، وإنما قاد الشَّافعي إلى هذا تحريمه المستقذرات كالوَزَغِ «3» ونحوهَا، فإنه يقول: هي من الخَبَائِث.
ت: وقال مكي: المعنى قل مَنْ حَرَّمَ زينة اللَّه، أي: اللِّبَاس الذي يزين الإنسان بأَن يستر عَوْرَتهُ، ومن حرم الطيبات من الرزق المُبَاحَةِ.
وقيل عنى بذلك ما كَانَتِ الجَاهِلِيَّةُ تحرمه من السوائب والبَحَائِر. انتهى.
وقوله سبحانه: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ قال ابن
__________
(1) أخرجه ابن جرير (5/ 472) برقم: (14535) ، وذكره ابن عطية (2/ 393) ، وابن كثير (2/ 210) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 146) .
(2) ينظر: «الأحكام» (2/ 781) .
(3) الوزغ: دويبة، وهي سوام أبرص.
ينظر: «اللسان» (4826) .(3/25)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
جُبَيْرٍ: المعنى: قل هي للذين آمَنُوا في الحَيَاةِ الدنيا يَنْتَفِعُونَ بها في الدُّنْيَا، ولا يتبعهم إثمها يوم القِيَامَةِ «1» .
وقال ابن عباس، والضحاك، والحسن، وقتادة، وغيرهم: المعنى هو أن يخبر صلّى الله عليه وسلّم أن هذه الطَّيبات المَوْجُودَاتِ هي في الحياة الدنيا للذين آمنوا، وإن كانت أيْضاً لغيرهم معهم، وهي يوم القيامة خالصة لهم، أي: لا يشركهم أحد في استعمالها في الآخرة «2» .
وقرأ نافع «3» وحده «خالصةٌ» بالرفع، والباقون بالنَّصْب.
وقوله سبحانه: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي: كما فَصَّلنا هذه الأشياء المتقدمة الذِّكر نُفَصِّلُ الْآياتِ أي: نبين الأمَارَاتِ، والعَلاَمَاتِ، والهِدَايَاتِ لقوم لهم علم ينتفعون به.
[سورة الأعراف (7) : آية 33]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (33)
وقوله عز وجل: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ ... الآية:
لما تقدم إنكار ما حرمه الكُفَّار بآرائهم أتبعه بذِكْرِ ما حرم الله عز وجل.
والفَوَاحِشُ في اللغة ما فَحُشَ وشنع، وأصله من القُبْحِ في النظر، وهي هنا إنما هي إشارة إلى ما نص الشرع على تحريمه، فكل ما حرمه الشَّرْعُ، فهو فاحش، والإثم لفظ عام في جَمِيعِ الأفعال والأقوال التي يَتَعَلَّقُ بمرتكبها إثم. هذا قول الجمهور.
وقال بعض الناس: هي الخَمْرُ وهذا قول مردود لأن هذه السورة مَكيّة، وإنما حرمت الخَمْرُ ب «المدينة» بعد أُحد وَالْبَغْيَ التعدي، وتجاوز الحد.
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ من أنه حرم البَحِيرَةَ والسائبة ونحوه.
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 475) برقم: (14556) ، وابن عطية (2/ 393) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 473- 474- 475) برقم: (14546- 14555) ، وذكر البغوي (2/ 157) بنحوه، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 150) .
(3) والتقدير على قراءة الرفع أي: هي خالصة للذين آمنوا.
ينظر: «السبعة» (280) و «الحجة» (4/ 13) ، و «حجة القراءات» (281) ، و «العنوان» (95) و «إعراب القراءات» (1/ 180) ، و «شرح الطيبة» (4/ 294) ، و «شرح شعلة» (388) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 47) و «معاني القراءات» (1/ 404) .(3/26)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 34 الى 36]
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36)
وقوله سبحانه: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ المعنى: ولكل أمة أجل مُؤَقَّت لمجيء العَذَابِ إذا كفروا، وخالفوا أَمْرَ ربهم، فأنتم أيتها الأمة كذلك. قاله الطبري «1» وغيره.
وقوله: ساعَةً لفظ عين به الجزء القليل من الزمان، والمراد جميع أجزائه، والمعنى: لا يستأخرون سَاعَة، ولا أقل منها، ولا أكثر.
وقوله عز وجل: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ/ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ الخِطَابُ في هذه الآية لجميع العالم، و «إن» هي الشرطية دخلت عليها «ما» مؤكدة، وكان هذا الخطاب لجميع الأُمم قَدِيمِها وحَدِيثِهَا هو متمكن لهم، ومتحصِّل منه لحاضري نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم أن هذا حُكْمُ اللَّه في العالم منذ أنشأه، ويَأْتِيَنَّكُمْ مستقبل وُضِعَ موضع ماضٍ ليفهم أن الإتيان بَاقٍ وَقْتَ الخطاب، لِتَقْوَى الإشارة بصحّة النبوءة إلى نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم وهذا على مُرَاعَاةِ وَقْتِ نزول الآية.
وأسند الطَّبَري إلى أبي سَيَّارٍ السُّلمي قال: «إن الله سبحانه خاطب آدم وذريته، فقال:
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ... الآية: قال: ثم نظر سبحانه إلى الرّسل، فقال:
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ... [المؤمنون: 51، 52] » الحديث «2» .
قال ع «3» : ولا مَحَالَةَ أن هذه المُخَاطَبَة في الأزل.
وقيل: المراد بالرسل نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم ذَكَرَهُ النقاش ويَقُصُّونَ أي: يسردون، ويوردون، «والآيات» لَفْظٌ جامع لآيات الكُتُب المنزلة، وللعلامات التي تقترن بالأنبياء، ونفي الخوف والحزن يعم جَمِيعَ أنواع مكاره النفس وأنكادها.
__________
(1) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 476) .
(2) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 477) برقم: (14560) من حديث أبي سيار السلمي، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 153) وعزاه لابن جرير.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 396) .(3/27)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
[سورة الأعراف (7) : آية 37]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37)
قوله سبحانه: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ... الآية: هذه الآية وَعِيدٌ واستفهام على جهة التقرير، أي: لا أحد أظلم منه، والكتاب هو اللوح المَحْفُوظُ في قول الحَسَنِ وغيره.
وقيل: ما تكتبه الحَفَظَةُ، ونصيبهم من ذلك هو الكُفْرُ وَالمَعَاصي. قاله مجاهد، وغيره.
وقيل: هو القرآن، وحَظُّهم فيه سَوَادُ الوجوه يوم القيامة.
وقال الربيع بن أنس، وغيره: المعنى بالنصيب مَا سَبَقَ لهم في أُم الكتاب من رِزْق، وعمر، وخير، وشر في الدنيا، ورجحه «1» الطبري.
واحتج له بقوله تعالى بعد ذلك: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي: عند انقضاء ذلك، فكان معنى الآية على هذا التأويل: أولئك يتمتعون، ويتصرَّفُونَ في الدنيا بِقَدْرِ ما كتب لهم حتى إِذا جاءتهم رُسُلنا لموتهم وهذا تأويل جَمَاعَةٍ، وعلى هذا يترتّبُ ترجيحُ الطبري.
وقالت فرقة: رُسُلُنا يريد بهم مَلاَئِكَةَ العَذَابِ يوم القيامة، ويَتَوَفَّوْنَهُمْ معناه عندهم يستوفونهم عَدَداً في السوق إلى جهنم.
وقوله سبحانه حكايةً عن الرسل أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ استفهام تقرير، وتوبيخ، وتوقيف على خِزْيٍ، وتَدْعُونَ معناه: تعبدون، وتؤمِّلُون.
وقولهم: ضَلُّوا عَنَّا معناه: هلكوا، وتلفوا، وفقدوا.
ثم ابتدأ الخبر عن المشركين بقوله سبحانه: وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 38 الى 39]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
__________
(1) ينظر: «تفسير الطبري» (5/ 481) .(3/28)
قوله سبحانه: قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ هذه حكاية ما يَقُولُ اللَّه سبحانه لهم يَوْمَ القيامة، بواسطة ملائكة العَذَابِ، نسأل اللَّه العافية. وعبر عن يقول ب «قال» لتحقُّق وقوع ذلك، وصدق القصة، وهذا كثير، وخَلَتْ حكاية عن حَالِ الدنيا، أي: ادخلوا في النَّار في جملة الأمم السابقة لكم في الدنيا الكافرة.
ت: وكذا قدره «1» أبو حَيَّانَ في جملة «أمم» ، قال: وقيل: «في» بمعنى «مع» أي: مع أمم، وتقدم له في «البقرة» أن «في» تجيء للمُصَاحَبَةِ، كقوله تعالى: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ انتهى.
وقدم ذِكْرَ الجن لأنهم أَعْرَقُ/ في الكفر، وإبليس أَصْلُ الضلال والإغواء، وهذه الآية نص في أن كفرة الجنِّ في النار، والذي يقتضيه النظر أن مُؤمنيهم في الجَنَّةِ لأنهم عُقَلاَءُ، مُكَلَّفُونَ، مبعوث إليهم، آمنوا وصدقوا، وقد بَوَّب البخاري رحمه اللَّه باباً في ذِكْرِ الجن، وثوابهم، وعقابهم.
وذكر عبد الجليل: أن مؤمني الجن يكونون تُرَاباً كالبهائم، وذكر في ذلك حديثاً مجهولاً، وما أَراه يصحُّ. واللَّه أعلم. والإِخْوَةُ في هذه الآية إِخْوَةُ الملة.
قال ص: في «النار» متعلق ب «خَلَتْ» ، أو بمحذوف، وهو صفة ل «أمم» أي:
في أمم سابقة، في الزمان كائنة، من الجن والإنس كائنة في النار، ويحتمل أن يتعلق ب «ادخلوا» على أن «في» الأولى بمعنى «مع» ، والثانية للظرفية، وإذا اختلف مَدْلُول الحرفين، جاز تعلقهما بمحلّ واحد. انتهى.
وادَّارَكُوا معناه: تلاحقوا، أصله: تداركوا أدغم، فجلبت ألف الوَصْل.
وقال البخاري: ادَّارَكُوا اجتمعوا. انتهى. وقوله سبحانه: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ معناه: قالت الأمم الأخيرة التي وجدت ضلالات متقررة، وسنناً كاذبةً مستعملة للأولى التي شرعت ذلك، وافترت على اللَّه، وسَلَكَتْ سبيل الضَّلال ابتداءً رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا، أي: طرقوا لنا طُرُقَ الضلال، قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي: عذاب مشدَّد على الأول والآخر وَلكِنْ لاَّ تَعْلَمُونَ أي المقادير، وصور التضعيف.
__________
(1) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 297) .(3/29)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)
قوله سبحانه: وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ أي: قد اسْتَوَتْ حالنا وحالكم فَذُوقُوا الْعَذابَ باجْتَرَامِكُمْ، وهو من كلام الأمة المتقدمة للمتأخّرة.
وقيل: قوله: فَذُوقُوا هو من كلام الله عز وجل لجميعهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 42]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42)
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ الآية، هذه الآية عامة في جميع الكَفَرَةِ قديمهم وحديثهم.
قرأ نافع «1» وغيره: «تُفَتَّح» بتشديد التاء الثانية، وقرأ أبو عمرو: «تُفْتَح» بالتاء أيضاً وسكون الفاء، وتخفيف الثانية، وقرأ حمزة «يفتح» بالياء من أسفل، وتخفيف التاء، ومعنى الآية: لا يرتفع لهم عَمَلٌ، ولا روح، ولا دعاء، فهي عامة في نفي ما يوجب للمؤمنين.
قاله ابن عباس، وغيره.
ثم نفى سبحانه عنهم دُخُولَ الجنة، وعلق كونه بِكَوْنٍ محال، وهو أن يدخل الجمل في ثُقْبِ الإبرة حيث يدخل الخَيْطُ، والجمل كما عهد، والسَّمّ كما عهد، وقرأ جمهور «2» المسلمين «الجمل» واحد الجمال، وقرأ ابن عباس وغيره «3» «الجُمّل» بضم الجيم وتشديد الميم، وهو حَبْلُ السفينة «4» والسّمّ: الثقب من الإبرة وغيرها، وكَذلِكَ أي: وعلى هذه
__________
(1) والتشديد أي: مرة بعد مرة. وحجة هؤلاء قوله تعالى: مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: 50] .
ينظر: «السبعة» (280) ، و «الحجة» (4/ 18) ، و «حجة القراءات» (282) ، و «إعراب القراءات» (1/ 180) ، و «العنوان» (95) ، و «شرح الطيبة» (4/ 294) ، و «شرح شعلة» (388) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 48) ، و «معاني القراءات» (1/ 405) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 400) ، و «البحر المحيط» (4/ 300) ، و «الدر المصون» (3/ 269) .
(3) وقرأ بها سعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، وأبي العلاء بن الشّخير، ورويت عن أبي رجاء.
ينظر: «الشواذ» (48) ، و «المحتسب» (1/ 249) ، و «الكشاف» (2/ 103) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 400) ، وزاد نسبتها إلى عكرمة، وينظر: «البحر المحيط» (4/ 300) ، وزاد في نسبتها إلى ابن يعمر، وأبي مجلز، وأبي رزين، وابن محيصن، وأبان عن عاصم، وينظر: «الدر المصون» (3/ 270) . [.....]
(4) أخرجه الطبري (5/ 487) ، وابن كثير (2/ 214) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 157) .(3/30)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
الصفة، وبمثل هذا الحتم، وغيره نجزي الكفرة وأهل الجَرَائِمِ على اللَّه.
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي: فراش، ومسكن، ومضجع يتمهَّدُونه، وهي لهم غَوَاشٍ جمع غاشية، وهي ما يَغْشَى الإنسان أي: يغطيه، ويستره من جهة فَوْق.
وقوله سبحانه: لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ هذه آية وعد مخبرةٌ أن جميع المؤمنين هم أصْحَابُ الجنة، ولهم الخُلْدُ فيها، ثم اعترض فيها القَوْل بعقب الصِّفَةِ التي شرطها في المؤمنين باعتراض يُخَفِّفُ الشرط، ويرجى في رحمة اللَّه، ويعلم أن دينه يُسْر، وهذه الآية نصٌّ في أن الشريعة لا يَتَقَرَّرُ من تكاليفها شَيْءٌ لا يُطَاقُ، وقد/ تقدم ذلك في «سورة البقرة» .
«والوُسْعُ» معناه: الطاقة، وهو القدر الذي يتّسع له البشر.
[سورة الأعراف (7) : آية 43]
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
وقوله سبحانه: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ هذا إخبار من الله عز وجل أنه ينقي قُلُوبَ ساكني الجنة من الغِلِّ، والحِقْدِ، وذلك أن صاحب الغل مُعَذَّبٌ به، ولا عذاب في الجَنَّةِ.
وورد في الحديث: «الغلُّ على بَابِ الجنة كَمَبَارِكِ الإِبِلِ قد نَزَعَهُ اللَّه من قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ» «1» .
والغل: الحِقْدُ والإِحنة الخَفِيَّةُ في النفس. وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا الإِشارة ب «هذا» يتجه أن تكون إلى الإيمان، والأعمال الصالحات المؤدية إلى الجنة، ويحتمل أن تكون إلى الجنة نَفْسِهَا، أي: أرشدنا إلى طرقها.
وقرأ ابن عامر «2» وَحْدَهُ: «ما كنا لنهتدي» بسقوط الواو، وكذلك هي في مَصَاحِف أهل «الشام» ، ووجهها أن الكَلاَمَ مُتَّصِلٌ، مرتبط بما قبله.
ولما رأوا تصديق ما جاءت به الأنبياء عن اللَّه سبحانه، وعاينوا إنجاز المواعيد قالوا:
__________
(1) ينظر: «تفسير القرطبي» (7/ 208) .
(2) ينظر: «شرح طيبة النشر» (4/ 295) ، و «شرح شعلة» (389) ، و «العنوان» (95) ، و «معاني القراءات» (1/ 407) ، و «إتحاف» (2/ 49) .(3/31)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أي: قيل لهم بِصِيَاحٍ، وهذا النداء من قِبَلِ اللَّه، «وأن» مفسرة لمعنى النداء، بمعنى: أي.
وقوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لا على طَرِيق وجوب ذلك على اللَّه تعالى لكن بقرينة رحمته، وتغمده، والأعمال أمارة من اللَّه سبحانه وطريق إلى قوة الرَّجَاء، ودخولُ الجَنَّة إنما هو بِمُجَرَّدِ رحمته، والقَسْمُ فيها على قدر الأعمال. «وأورثتم» مشيرة إلى الأقسام.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 46]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)
وقوله سبحانه: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا ... الآية.
هذا النداء من أهل الجنة لأهل النار تَقْرِيعٌ، وتوبيخ، وزيادة في الكَرْبِ، وهو بأن يشرفوا عليهم، ويخلق الإدراك في الأسماع والإبصار.
وقوله سبحانه: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أي: أعلم معلم، والظالمون هنا هم الكافرون.
ت: حكي عن غير وَاحِدٍ أن طاوس دخل على هشام بن عبد الملِكِ «1» فقال له: اتّق الله، واحْذَرْ يوم الأذان، فقال: وما يوم الأذان؟ فقال قوله تعالى: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ فصعق هشام، فقال طاوس: هذا ذُلُّ الوَصْفِ، فكيف ذل المُعَايَنَةِ انتهى.
وَيَبْغُونَها عِوَجاً أي: يطلبونها، أو يطلبون لها، والضمير في يَبْغُونَها عائد على السَّبيل.
__________
(1) هشام بن عبد الملك بن مروان: من ملوك الدولة الأموية في الشام. ولد في دمشق وبويع فيها بعد وفاة أخيه يزيد سنة 105 هـ، خرج عليه زيد بن علي بن الحسين سنة 120 هـ بأربعة عشر ألفا من أهل الكوفة، فوجه إليه من قتله وفلّ جمعه، نشبت في أيامه حرب هائلة مع خاقان الترك في ما وراء النهر، كان حسن السياسة، يقظا في أمره، يباشر الأعمال بنفسه. ولد سنة 71 هـ، وتوفي في سنة 125 هـ.
انظر: «ابن الأثير» (5/ 96) «الطبري» (8/ 283) ، «اليعقوبي» (3/ 57) ، «ابن خلدون» (3/ 80) ، «الأعلام» (8/ 86) .(3/32)
وقوله سبحانه: وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ.
وَبَيْنَهُما: أي: بين الجنة والنار، ويحتمل بين الجَمْعَيْنِ، والحِجَابُ هو السور الذي ذكره الله عز وجل في قوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ [الحديد: 13] .
قال ابن عباس، وقال مجاهد: الأعراف حجاب بين الجنة والنار «1» .
وقال ابن عباس أيضاً: هو تَلٌّ بين الجنة والنار» .
وذكر الزّهراويّ حديثا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن أُحُداً جَبَلٌ يحبنا ونحبُّه، وإِنَّه يَوْمَ القِيَامَةِ يمثلُ بينَ الجَنَّةِ وَالنَّارِ، يَحْتَبِسُ عَلَيْهِ أَقْوَامٌ، يعرفون كُلاًّ بِسِيماهُمْ، هُمْ إِن شَاءَ اللَّه من أَهْلِ الجَنَّةِ» «3» .
والأعراف جمع عرف، وهو المرتفع من الأرض، ومنه عُرْفُ الفرس، وعرف الديك لعلوِّهُمَا.
وقال بعض الناس: سُمِّيَ الأعراف أَعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس.
قال ع «4» : وهذه عُجْمَةٌ، وإنما المراد على أعراف ذلك الحِجَاب، أي أعاليه.
وقوله: رِجالٌ قال الجمهور: إنهم رِجَالٌ من البَشَرِ، ثم اختلفوا في تعيينهم، فقال شرحبيل بن سَعْدٍ: هم المستشهدون في سَبِيلِ اللَّه الذين خَرَجُوا عُصَاةً لآبائِهِم «5» .
وذكر الطَّبَرِيُّ في ذلك/ حَدِيثاً عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه تعادل عُقُوقُهم، واستشهادهم «6» .
وقال ابن عباس، وغيره: هم قوم اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وسيئاتهم «7» ، ووقع في «مسند
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 498) برقم: (14687) ، (14688) وبرقم: (14686) ، وذكره ابن عطية (2/ 404) ، وابن كثير (2/ 216) ، وذكره السيوطي (3/ 160) ، (3/ 161) .
(2) أخرجه الطبري (5/ 498) برقم: (14685) ، وذكره ابن عطية (2/ 404) ، وابن كثير (2/ 216) ، والسيوطي (3/ 161) .
(3) الحديث بهذا اللفظ لم أجده أما قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أحد جبل يحبنا ونحبه» فثابت من قول النبي صلّى الله عليه وسلّم.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 404) .
(5) أخرجه الطبري (5/ 501) برقم: (14711) ، وابن عطية (2/ 404) ، والبغوي (2/ 162) بنحوه.
(6) أخرجه الطبري في «تفسيره» (5/ 501) برقم: (14713) والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 163) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وأحمد بن منيع، والحارث بن أبي أسامة، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في كتاب «الأضداد» ، والخرائطي في «مساوئ الأخلاق» ، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث» .
(7) أخرجه الطبري (5/ 500) برقم: (14700- 14705- 14706) ، وذكره ابن عطية (2/ 404) ، والبغوي (2/ 162) ، وابن كثير (2/ 216) ، والسيوطي (3/ 163) .(3/33)
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
خيثمة «1» بن سليمان» في آخر الجزء الخامس عشر عن جَابِرِ بن عَبْدِ اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم: «تُوضَعُ المَوَازِينُ يوم القيامة، فتوزن الحَسَنَاتُ والسَّيِّئَاتُ، فَمَنْ رَجَحَتْ حَسَنَاتُهُ على سيئاته مِثْقَالَ صُؤَابَةٍ دخل الجَنَّةَ، ومن رَجَحَتْ سيئاته على حَسَنَاتِهِ مِثْقَالَ صُؤَابَةٍ دخل النار. قيل: يا رَسُولَ اللَّه فمن استوت حَسَنَاتُهُ وسيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأَعْرَافِ لم يَدْخُلوها وهم يَطْمَعُون» «2» .
وقيل غير هذا من التَّأويلات.
قال ع «3» : واللازم من الآية أن على أعراف ذلك السُّور، أو على مواضع مرتفعة عن الفَرِيقَيْنِ حيث شاء اللَّه تعالى رِجَالاً مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ يتأخر دخولهم، ويقع لهم ما وصف من الاعتبار.
ويَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ، أي: بِعَلاَمَاتِهِمْ من بياض الوجوه، وحُسْنِهَا في أهل الجنة، وسَوَادِهَا وقبحها في أهل النَّارِ إلى غير ذلك في حَيِّزِ هؤلاء، وحيز هؤلاء.
وقوله: لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ المراد به: أهل الأعراف فقط، وهو تأويل ابن مَسْعُودٍ، والسدي، وقتادة، والحسن «4» وقال: واللَّه ما جعل اللَّه ذلك الطَّمَعَ في قلوبهم إلا لخير أَرَادَهُ بهم.
قال ع «5» : وهذا هو الأظهر الأليق مما قيل في هذه الآية، ولا نَظَرَ لأَحَدٍ مع قول النبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 47 الى 49]
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
__________
(1) الإمام الثّقة المعمّر، محدّث الشّام، أبو الحسن، خيثمة بن سليمان بن حيدرة بن سليمان، القرشي، الشّامي، الأطرابلسي، مصنّف «فضائل الصّحابة» .
كان رحّالا جوّالا صاحب حديث. وثّقه الخطيب، وقال: ثقة ثقة.
ينظر: «سير أعلام النبلاء» (15/ 412- 413) ، «العبر» (2/ 262) ، «النجوم الزاهرة» (3/ 312) .
(2) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 162) ، وعزاه إلى ابن عساكر، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 404) . [.....]
(4) ذكره ابن عطية (2/ 405) .
(5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 405) .(3/34)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
وقوله سبحانه: وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ أي: أبصار أصحاب الأعراف، فهم يسلمون على أصحاب الجنة، وإذا نظروا إلى النار، وأهلها، قالوا: رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قاله ابن عباس «1» ، وجماعة من العلماء.
وقوله سبحانه: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ يريد من أهل النار.
مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ «ما» استفهام بمعنى التَقْرِيرِ، والتوبيخ، و «ما» الثانية مصدرية، و «جمعكم» لفظ يعم المال والأَجْنَادَ والخَوَلَ.
وقوله سبحانه: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أهل الأعراف هم القائلون: «أهؤلاء» إشارة إلى أهل الجنة، والذين خوطبوا هم أهل النار، والمعنى: أهؤلاء الضُّعَفَاء في الدنيا الذين حَلَفْتُمْ أن اللَّه لا يعبؤبهم، قيل لهم: ادخلوا الجنة.
وقال النقاش: اقسم أهْلُ النَّارِ أن أصحاب الأعراف داخلون النَّارَ «2» معهم، فنادتهم المَلاَئِكَةُ: أهؤلاء، ثم نادت أصحاب الأَعْرَافِ: ادخلوا الجنة.
وقرأ عكرمة «3» : «دخلوا الجَنَّة» على الإخبار بفعل ماض.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 53]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)
وقوله سبحانه: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ ...
الآية: لفظة النداء تتضمن أن أهل النار وَقَعَ لهم علم بأن أهل الجنّة يسمعون نداءهم،
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 505) برقم: (14743) بلفظ: «إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم قالوا: رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وذكره ابن عطية (2/ 405) بمثله، وابن كثير (2/ 218) بنحوه.
(2) ذكره ابن عطية (2/ 406) ، والبغوي (2/ 163) بنحوه، والسيوطي (3/ 166) بنحوه، وعزاه للربيع.
(3) ينظر: «الشواذ» (49) ، و «الكشاف» (2/ 107) ، و «المحتسب» (1/ 249) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 406) ، و «البحر المحيط» (4/ 306) ، و «الدر المصون» (3/ 276) .(3/35)
وجائز أن يكون ذلك، وهم يرونهم بإِدراك يجعله اللَّه لهم عَلَى بُعْدِ السُّفْلِ من العلو، وجائز أن يكون ذلك، وبينهم السُّورُ والحجاب المتقدم الذِّكْر.
وروي أن ذلك النداء هو عند اطِّلاَع أهل الجنة عليهم.
وقوله سبحانه: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ إشارة إِلى الطعام. قاله السدي «1» .
فيقول لهم أهل الجنة: إن اللَّه حَرَّمَ طعام الجَنَّةِ وشَرَابَهَا على الكافرين، وإجابة أهل الجنة بهذا الحُكْمِ هو عن أَمْرِ اللَّه تعالى.
ومعنى قوله تعالى: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً أي بالإِعْرَاضِ والاستهزاء. بِمَنْ يدعوهم إلى الإسلام.
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي: خدعتهم بزخرفها، واعتقادهم أنها الغَايَةُ القصوى.
وقوله: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ هو من إخبار اللَّه عز وجل عما يَفْعَلُ بهم والنسيان هنا بمعنى التَّرْكِ، أي: نتركهم في العذاب، كما تركوا النَّظَر/ للقاء هذا اليوم. قاله ابن عباس «2» وجماعة.
«وما كانوا» عطف على «ما» من قوله: «كما نسوا» ، ويحتمل أن تقدر «ما» الثانية زائدة، ويكون قوله: و «كانوا» عَطْفاً على قوله: «نسوا» .
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ الضمير في جِئْناهُمْ لمن تَقَدَّم ذكره، و «الكتاب» اسم جنس، واللام في «لقد» لام قَسَم.
وقال يحيى بن سلام: بل الكلام تَمَّ في يَجْحَدُونَ، وهذا الضمير لمكذبي نبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم «3» وهو ابتداء كلام آخر، والمراد بالكتاب القرآن، وعَلى عِلْمٍ معناه: على بَصِيرَةٍ.
وقوله سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ أي ينتظرون إِلَّا تَأْوِيلَهُ، أي مآله وعاقبته يوم القيامة. قاله ابن عباس «4» وغيره.
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 509) برقم: (14757) ، وذكره ابن عطية (2/ 406) ، وابن كثير (2/ 219) ، والسيوطي (3/ 166) ، وعزاه للسدي.
(2) أخرجه الطبري (5/ 510) برقم: (14766- 14767) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 407) ، وابن كثير (2/ 219) .
(3) ذكره ابن عطية (2/ 407) .
(4) أخرجه الطبري (5/ 512) برقم: (14775) ، وذكره ابن عطية (2/ 408) ، وابن كثير (2/ 220) ، والسيوطي (3/ 168) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.(3/36)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
وقال السدي: مآله في الدنيا وقعة بَدْرٍ وغيرها، ويوم القيامة «1» أيضاً، ثم أخبر تعالى أن مآل حال هذا الدين يوم يأتي يَقَعُ معه نَدَمُهُمْ، ويقولون تأسُّفاً على ما فاتهم من الإيمان:
لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ، فالتأويل على هذا من آل يؤول، وَنَسُوهُ يحتمل أن يكون بمعنى الترك، وباقي الآية بَيِّنٌ.
ت: وهذا التقرير يرجّح تأويل ابن سلام المتقدم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 54 الى 55]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... الآية خطاب عام يقتضي التوحيد، والحجة عليه بدلائله، وجاء في التفسير والأحاديث أن اللَّه سبحانه ابتدأ الخَلْقَ يوم الأَحدِ، وكملت المَخْلُوقَاتُ يوم الجمعة، وهذا كله والساعة اليَسِيرَةُ في قُدْرَةِ اللَّه سبحانه سواء.
قال م: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ «ستة» أصلها سِدْسَة، فأبدلوا من السِّين تاء، ثم أدغموا الدال في التاء، وتصغيره سديس وسديسة. انتهى.
وقوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ معناه عند أبي المعالي وغيره من حُذَّاق المتكلمين: الملك، والسلطان «2» ، وخصّ العرش بالذِّكْرِ تشريفاً له إذ هو أَعْظَمُ المخلوقات.
وقوله سبحانه: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ «ألا» : استفتاح كلام. وأخذ المفسرون «الخَلْق» بمعنى المخلوقات، أي: هي كلها مِلْكُهُ، واختراعه، وأخذوا الأمر مَصْدَراً من أمر يأمر.
قال ع «3» : ويحتمل أن تؤخذ لفظة «الخَلْقِ» على المصدر من: خلق يخلق خَلْقاً، أي: له هذه الصفة إذ هو المُوجِدُ للأشياء بعد العَدَمِ، ويؤخذ الأمر على أنه واحد
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 512) برقم: (14773) ، وذكره ابن عطية (2/ 408) ، والبغوي (2/ 164) بلفظ:
«عاقبته» ، والسيوطي (3/ 168) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(2) ذكره ابن عطية (2/ 408) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 409) .(3/37)
الأمورِ، فيكون بمنزلة قوله: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ [هود: 123] وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [البقرة: 210] .
وكيف ما تَأَوَّلَتِ الآية، فالجميع للَّه سبحانه.
وتَبارَكَ معناه: عظم، وتعالى، وكثرت بركاته، ولا يوصف بها إلا الله سبحانه.
وتَبارَكَ لا يَتَصَرَّفُ في كلام العرب، فلا يقال منه: يتبارك، والْعالَمِينَ جمع عالم.
قوله عز وجل: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ هذا أمر بالدعاء، وتعبد به، ثم قرن سبحانه بالأَمْرِ به صفات تحسن معه. وقوله: تَضَرُّعاً معناه بخشوع، واستكانة، والتضرع لفظة تَقْتَضِي الجَهْرَ، لأن التضرع إنما يكون بإشَارَاتِ جوارح وهيئات أعضاء تقترن بالطلب، وخُفْيَةً يريد في النفس خاصة، وقد أثنى اللَّه سبحانه على ذلك في قوله سبحانه: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم: 3] ، ونحو هذا قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ» «1» والشريعة مقررة أن السر فيما لم يفرض من أعمال البر أعظم أَجْراً من الجَهْرِ.
ت: ونحو هذا لابن العربي لما تكلَّمَ على هذه الآية، قال: الأَصْلُ في الأعمال الفرضية الجَهْرُ، والأصل في الأعمال النَّفْلية السِّرُّ، وذلك لما يتطرق إلى النفل من الرِّيَاءِ، والتَّظَاهُر بذلك في الدنيا، والتفاخر على الأصحاب بالأعمال، وقلوب الخَلْقِ جُبِلَتْ بالمَيْلِ إلى أهل الطاعة. انتهى/ من «الأحكام» .
وقوله سبحانه: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ يريد في الدعاء، وإن كان اللفظ عامّاً، والاعتداء في الدعاء على وجوه منها: الجَهْرُ الكثير، والصياح، وفي «الصحيح» عنه صلّى الله عليه وسلّم:
«أيها النَّاسُ ارْبَعُوا على أَنفُسِكُمْ إِنَّكُمْ لاَ تدعون أصمّ ولا غائبا» «2» .
__________
(1) أخرجه أحمد (1/ 187) ، وفي «الزهد» ص: (10) ، وعبد بن حميد في «المنتخب من المسند» ص:
(76) برقم: (137) ، وأبو يعلى (2/ 81- 82) برقم: (731) ، وابن حبان (2323- موارد) ، من طريق محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة عن سعد بن أبي وقاص به.
وذكره الهيثمي في «المجمع» (10/ 84) وقال: رواه أحمد وأبو يعلى، وفيه محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة، وقد وثقه ابن حبان، وقال: روى عن سعد بن أبي وقاص. قلت: وضعفه ابن معين، وبقية رجالهما رجال الصحيح.
(2) أخرجه البخاري (7/ 537) كتاب «المغازي» ، باب: غزوة خيبر، حديث (4205) ، وفي (11/ 191) كتاب «الدعوات» ، باب: الدعاء إذا علا عقبه، حديث (6384) ، وفي (11/ 217) كتاب «الدعوات» ، [.....](3/38)
ومنها: أن يدعو في مُحَالٍ، ونحو هذا من التشطّط وروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قالُّ:
«سَيَكُونُ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ في الدُّعَاءِ، وحَسْبُ المرء أن يَقُولَ: اللَّهُمَّ إني أَسْأَلُكَ الجَنَّةَ وَمَا قَرَّب إِلَيْهَا من قَوْلٍ، أو عَمَلٍ، وأَعُوذُ بك من النَّارِ، وما قَرَّبَ إلَيْهَا مِنْ قَوْلِ، أو عَمَلٍ» «1» .
وقال البخاري: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ أي: في الدعاء وغيره. انتهى.
ت: قال الخطابي: وليس معنى الاعتداء الإكثار، فقد جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُلِحِّينَ في الدّعاءِ» «2» ، وقال: «إِذَا دَعَا أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَكْثرْ، فإنما هُوَ يَسْأَلُ رَبَّهُ» «3» . انتهى.
وروى أبو داودَ في «سُنَنَهِ» عن عبد اللَّه بن مُغَفَّل، قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «سَيَكُونُ في هَذِهِ الأُمَّةِ قوم يَعْتَدُونَ في الطّهر والدّعاء» «4» انتهى.
__________
- باب: قَوْلَ لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ باللَّهِ، حديث (6409) ، وفي (13/ 384) كتاب «التوحيد» ، باب:
وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً، حديث (7386) ، ومسلم (4/ 2076) كتاب «الذكر والدعاء» ، باب:
استحباب خفض الصوت بالذكر، حديث (44- 45/ 2704) ، وأبو داود (1/ 478) كتاب الصلاة، باب في الاستغفار، حديث (1526) ، و (1527) ، و (1528) ، والترمذي (5/ 457) ، كتاب «الدعوات» باب: (3) ، حديث (3374) ، وابن ماجه (2/ 1256) كتاب «الأدب» باب: ما جاء في لا حول ولا قوة إلا بالله، حديث (3824) ، وأحمد (4/ 402، 403، 407، 417، 418، 419) ، وأبو يعلى (13/ 241) برقم: (7252) ، وابن حبان (792) ، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» برقم: (521) كلهم من طريق أبي عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(1) أخرجه أحمد (1/ 172، 182) ، وأبو داود (1/ 466- 467) كتاب «الصلاة» باب: الدعاء، حديث (1480) ، والطبراني في «الدعاء» (55) ، وابن أبي شيبة (10/ 288) ، وأبو يعلى (10/ 71) برقم:
(715) من حديث سعد بن أبي وقاص.
(2) أخرجه العقيلي في «الضعفاء» (4/ 452) من طريق يوسف بن السفر عن الأوزاعي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة مرفوعا.
وأسند العقيلي عن البخاري قوله في يوسف بن السفر: منكر الحديث، والحديث موضوع آفته يوسف هذا.
(3) أخرجه البخاري (11/ 144) كتاب «الدعوات» باب: ليعزم المسألة فإنه لا مكره له، حديث (6338) ومسلم (4/ 2063) كتاب «الذكر والدعاء» باب: العزم، حديث (9/ 2679) ، وأحمد (2/ 486) وأبو داود (1/ 467) كتاب «الصلاة» ، باب: الدعاء، حديث (1483) من حديث أبي هريرة.
(4) أخرجه أبو داود (1/ 72) كتاب «الطهارة» باب: الإسراف في الماء، حديث (96) ، وابن ماجه (2/ 1271) كتاب «الدعاء» باب: كراهية الاعتداء في الدعاء، حديث (3864) ، وأحمد (4/ 87) (5/ 55) ، وابن أبي شيبة (10/ 288) ، والحاكم (1/ 162) ، وابن حبان (6764) ، والطبراني في «الدعاء» (59) -(3/39)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
[سورة الأعراف (7) : آية 56]
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
وقوله سبحانه: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ... الآية ألفاظها عامة تتضمن كل فَسَادٍ قَلّ أو كثر بعد صَلاَحٍ قل أو كثر، والقَصْدُ بالنهي هو [على] العموم، وتخصيص شيء دون شَيْءٍ، في هذا تحكم إلا أن يُقَالَ على جهة المثال.
وقوله سبحانه: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أمر بأن يكون الإنسان في حالة تقرب، وتحرز، وتأميل لله عز وجل حتى يَكُونَ الخَوْفُ والرجاء كالجَنَاحَيْنِ للطير يَحْمِلاَنِهِ في طريق استقامة، وإن انفرد أحدهما هَلَكَ الإنسان.
وقد قال كثير من العلماء: ينبغي أن يَغْلِبَ الخَوْفُ الرَّجَاءَ طُولَ الحياة، فإذا جاء المَوْتُ غلب الرَّجَاءُ.
وقد رأى كثير من العلماء أن يكون الخَوْفُ أغلب على المَرْءِ بكثير، وهذا كله طَرِيقُ احتياط، ومنه تَمَنَّى الحسن البصري أَن يَكون الرَّجُل الذي هو آخِرُ مَنْ يدخل «1» الجَنَّةَ، وتمنى سَالِمٌ مولى أبي حذيفة أن يكون من أَصْحَابِ الأَعْرَافِ «2» .
ثم آنسَ سبحانه بقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 58]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
وقوله سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا ... الآية: هذه آية اعتبار، واستدلال. وقرأ عاصم «3» «الرياح» بالجمع، «بشرا»
__________
- كلهم من طريق حماد بن سلمة، عن سعيد الجريري، عن أبي دغامة، عن عبد الله بن مغفل به.
وأخرجه أحمد (4/ 86) من طريق حماد بن سلمة، عن يزيد الرقاشي، عن أبي دغامة، عن ابن المغفل به.
(1) ذكره ابن عطية (2/ 411) .
(2) ذكره ابن عطية (2/ 411) .
(3) ينظر: «السبعة» (283) ، و «الحجة» (4/ 31، 32) ، و «حجة القراءات» (285) ، و «إعراب القراءات» (1/ 186) ، و «شرح شعلة» (391) ، و «شرح الطيبة» (4/ 299) ، و «العنوان» (96) ، و «إتحاف» (2/ 53) ، و «معانى القراءات» (1/ 408، 409) .(3/40)
بالباء المضمومة والشين الساكنة، وروي عنه «بُشُراً» بضم الباء والشين، ومن جمع الريح في هذه الآية، فهو أسعد وذلك أن الرِّيَاحَ حيث وَقَعَتْ في القرآن فهي مقترنة بالرحمة، كقوله: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الروم: 46] وأكثر ذِكْرِ الريح مفردة إنما هو بقرينة عَذَابٍ، كقوله سبحانه: وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ [الذاريات: 41] وقد تقدم إيضاح هذا في «سورة البقرة» .
ومن قرأ في هذه الآية «الريح» بالإفراد، فإنما يريد به اسْمَ الجِنْسِ، وأيضاً فتقييدها ب «بشراً» يزيل الاشتراك.
والإِرْسَالُ في الريح هو بمعنى الإجراءِ، والإطلاق، وبُشْرَاً، أي: تَبْشُرُ السحابَ، وأما «بُشُراً» بضم الباء والشين، فجمع بَشِير، كنذير ونذور، والرحمة في هذه الآية المطر، وبَيْنَ يَدَيْ، أي: أمام رحمته وقدامها، وأَقَلَّتْ معناه: رفعته من الأرض، واستقلّت به، وثِقالًا معناه من الماء، والعَرَبُ تَصِفُ السحاب بالثّقَلِ، والرِّيحُ تَسُوقُ السحاب من ورائه فهو سوق حقيقة، والضمير في سُقْناهُ عائد على السحاب، ووصف البلد بالمَوْتِ استعارة بسبب شعثه وجدوبته.
والضمير في قوله فَأَنْزَلْنا بِهِ يحتمل أن يَعُودَ على السحاب، أي منه، ويحتمل أن يعود على البلد، ويحتمل أن يعود على الريح.
وقوله تبارك وتعالى: كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى يحتمل مقصدين:
أحدهما: أن يراد كهذه/ القُدْرَةِ العظيمة هي القدرة على إِحْيَاءِ الموتى، وهذا مثال لها.
الثاني: أن يراد أن هكذا نَصْنَعُ بالأموات من نزول المَطَرِ عليهم، حتى يحيوا به، حَسَبَ ما وردت به الآثار، فيكون الكَلاَمُ خبراً لا مثالاً.
وقوله سبحانه: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ ... آية مُتَمِّمَةٌ للمعنى الأول في الآية قبلها، معرفة بِعَادَةِ اللَّه سبحانه في إنبات الأرضين، فمن أراد أن يجعلها مِثَالاً لقلب المؤمن، وقلب الكافر، كما هو محكي عن ابن عَبَّاسٍ، ومجاهد، وقتادة، والسدي «1» ، فذلك مترتب، لكن أَلْفَاظَ الآية لا تقتضي أن المَثَل قصد به ذلك، والطيب: هو الجَيِّدُ التُّرَابِ الكريمُ الأَرْضِ وخص بإذن ربه مَدْحاً وتشريفاً، وهذا كما تقول لمن تغضّ منه: أنت
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 519) برقم: (14794) ، وذكره ابن عطية (2/ 414) ، وذكره ابن كثير (2/ 222) .(3/41)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
كما شَاءَ اللَّه، فهي عبارة تعطي مُبَالَغَةً في مَدْحٍ أو ذم. والخبيث هو السّبَاخُ ونحوها من رَدِيء الأرض.
والنَّكدُ العَسِيرُ القليل. كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي هكذا نبين الأمور، ويَشْكُرُونَ معناه: يؤمنون ويثنون بآلاء الله سبحانه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)
قوله عز وجل: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ.
قال الطبري «1» : أقسم اللَّه تعالى أنه أرسل «2» نوحاً، وكذا قال أبو حيان «3» : «لقد» اللام جواب قسم محذوف. انتهى.
و «غَيْرُهُ» بالرفع بَدَلٌ من قوله: مِنْ إِلهٍ لأنه في موضع رَفْعٍ، ويجوز أن يكون نَعْتاً على الموضع لأن التقدير ما لكم إله غيره، والمَلأُ الجماعة من الأشراف.
قيل: إنهم مأخوذون من أنهم يملئون النَّفْسَ والعَيْنَ، ويحتمل من أنه إذا تمالؤوا على أَمْر تمّ.
وقولهم: إِنَّا لَنَراكَ يحتمل من رُؤْيَةِ البصر، ويحتمل من رؤية القَلْبِ، وهو أظهر.
وفِي ضَلالٍ أي في تَلَفٍ وجهالة بما تسلك.
وقوله لهم جواب عن هذا:
__________
(1) ينظر: الطبري في «تفسيره» (5/ 520) .
(2) ذكره ابن عطية (2/ 414) .
(3) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 323) .(3/42)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ مبالغة في حُسْنِ الأدب، والإعراض عن الجَفَاءِ منهم، وتناول رفيق، وسعة صدر حسب ما تقتضيه خلق النبوة.
وقوله: وَلكِنِّي رَسُولٌ تعرض لمن يريد النظر، والبَحْثَ، والتأمل في المعجزة.
وقوله عليه السلام: وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ لفظ مُضَمَّنُهُ الوَعِيد، لا سيما وهم لم يسمعوا قطّ بأمة عذبت.
وقوله: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ.
الاستفهام هنا على جِهَةِ التقرير والتوبيخ، وقوله: عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ قيل: «على» بمعنى «مع» .
وقيل: هو على حَذْفِ مضاف، تقديره: على لسان رجل، ويحتمل أن يكون معناه منزَّل على رَجُلٍ منكم إذ كل ما يأتي من اللَّه سبحانه فله حكم النزول، ولَعَلَّكُمْ تَرَجٍّ بحسب حال نوح ومعتقده.
وقوله سبحانه: فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ... الآية.
وفي التفسير: إن الذين كانوا مع نوح في السفينة أربعون رَجُلاً.
وقيل: ثمانون رجلاً وثمانون امرأة وقيل: عشرة وقيل: ثمانية. قاله قتادة.
وقيل: سبعة. واللَّه أعلم.
وفي كثير من كتب الحديث التِّرْمذِيِّ وغيره أن جَمِيعَ الخَلْقِ الآن من ذُرِّيَّةِ نوح عليه السلام وقوله: عَمِينَ جمع عَمٍ، ويريد عَمِيَّ البَصَائر، وأتى في حديث الشفاعة وغيره أن نُوحاً أَوَّلُ الرسل «1» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 70]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)
__________
(1) تقدم تخريجه. [.....](3/43)
وقوله سبحانه: وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ عاد اسم الحَيِّ، وهم عَرَبٌ فيما يذكر، و «أخاهم» نصب ب «أرسلنا» وهو معطوف على نوح، وهذه أيضاً نذارة من هود عليه السلام.
وقوله: أَفَلا تَتَّقُونَ استعطاف إلى التقوى، والإيمان.
وقوله: أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.
قوله: وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ أي في الخِلْقَةِ، والبَسْطَةُ الكمال في الطول والعَرْضِ.
وقيل: زادكم على أهل عصركم.
وقال الطبري: زادكم على قَوْمِ نوح. وقاله قتادة «1» .
قال ع «2» : واللفظ يقتضي أن الزيادة على جَمِيع العَالم، وهو الذي يقتضيه ما يذكر عنهم.
وروي أن طُولَ الرجل منهم كان مائة ذِرَاعٍ، وطول أقصرهم ستّون ونحوها. والآلاء جمع «إلًى» على مثل «معًى» ، وهي النعمة والمنة.
قال الطبري: وعاد هؤلاء فيما حدث ابن إِسْحاقَ من ولد عاد بن إرم بن عوض بن سَام بن نوح، وكانت مَسَاكنهم «الشّحر» من أرض «اليمن» وما وَالى «حَضْرَمَوْتَ» إلى «عمان» «3» .
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 417) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 418) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 524) برقم: (14809) ، وذكره ابن عطية (2/ 418) .(3/44)
قال السدي: وكانوا بالأَحْقَافِ، وهي الرمال، وكانت بلادهم أَخْصَبَ بلاد، فردها اللَّه صحارى «1» .
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إن قبر هُودٍ عليه السلام هنالك في كَثِيبٍ أحمر تُخَالطه مدرة ذات أَراكٍ وسِدْر، وكانوا قد فشوا في جميع الأَرْض، وملكوا كثيراً بِقُوَّتِهِمْ وعَدَدِهِمْ، وظَلَمُوا النَّاسَ وَكَانُوا ثَلاَثَةَ عَشَرَ قَبِيلَةً، وكانوا أَصْحَابَ أَوثان، فبعث اللَّه إليهم هُوداً من أفضلهم وأوسطهم نَسَباً، فدعاهم إِلى تَوْحِيدِ اللَّه سبحانه وإلى تَرْكِ «2» الظُّلْمِ.
قال ابن إسحاق: ولم يأمرهم فيما يذكر بِغَيْرِ «3» ذلك، فكذبوه وعتوا، واستمروا على ذلك إلى أن أراد اللَّه إنفاذ أمره أمْسَكَ عنهم المَطَرَ ثلاث سنين، فشقوا بذلك، وكان الناس في ذلك الزمان إذا دهمهم أمر، فزعوا إلى المسجد الحرام ب «مكَّة» فدعوا اللَّه فيه تَعْظِيماً له مؤمنهم وكافرهم، وأهل «مكة» يومئذٍ العَمَالِيقُ، وسيدهم رجل يسمى معاوية بن بَكْرٍ، فاجتمعت عاد على أن تجهز منهم وَفداً إلى «مكة» يَسْتَسْقُونَ اللَّه لهم، فبعثوا قيل بن عنز، ولقيم بن هزال، وعتيل بن ضد بن عاد الأكبر، ومرثد بن سعد، وكان هذا مؤمناً يكتم إيمانه، وجلهمة بن الخيبري في سَبْعِينَ رَجُلاً من قومهم، فلما قدموا «مكة» نَزَلُوا على معاوية بن بكر، وهو بظاهر «مكة» خارج الحَرَمِ، فأنزلهم، وأقاموا عنده شَهْراً يشربون الخَمْرَ، وتغنيهم الجَرَادَتَانِ قَيْنَتَا معاوية، ولما رأى معاوية إقامتهم، وقد بعثهم عَادٌ لِلْغَوْثِ أشفق على عَادٍ، وكان ابن أختهم أمه: كلهدة ابنة الخيبري أخت جلهمة، وقال: هَلَكَ أخوالي، وشق عليه أن يأمر أَضْيَافَهُ بالانصراف عنه، فشكا ذلك إلى قَيْنَتَيْهِ، فقالتا: اصنع شِعْراً نغني به، عسى أَن نُنَبِّهَهُمْ، فقال: [الوافر]
أَلاَ يَا قَيْلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِمْ ... لَعَلَّ اللَّهَ يُصْبِحُنَا غَمَامَا
فَيَسْقِي أَرْضَ عَادٍ إنَّ عَاداً ... قَدَ امسوا لاَ يُبَينُونَ الكَلاَمَا
مِنَ العَطَشِ الشَّدِيدِ فَلَيْسَ نَرْجُو ... بِهِ الشَّيْخَ الكَبِيرَ وَلاَ الغُلاَمَا
وَقَدْ كَانَتْ نِسَاؤُهُمُ بِخَيْر ... فَقَدْ أَمْسَتْ/ نِسَاؤُهُمُ عيامى
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 524) برقم: (14810) ، وذكره ابن عطية (2/ 418) ، والسيوطي (3/ 178) ، وعزاه لابن أبي حاتم.
(2) ذكره ابن عطية (2/ 418) ، وابن كثير (2/ 224) بنحوه.
(3) أخرجه الطبري (5/ 524) برقم: (14812) ، وذكره ابن عطية (2/ 418) ، والسيوطي (3/ 178) ، وعزاه لإسحاق بن بشر، وابن عساكر.(3/45)
وَإِن الوُحْشَ تَأْتِيهِمْ جَهَاراً ... وَلاَ تخشى لِعَادِيٍّ سِهَامَا
وَأَنْتُمْ هَاهُنَا فِيمَا اشْتَهَيْتُم ... نَهَارَكُمُ وَلَيْلَكُمُ التَّمَامَا
فَقُبِّحَ وَفْدُكُمْ مِنْ وَفْدِ قَوْمِ ... وَلاَ لُقُّوا التَّحِيَّةَ وَالسَّلاَمَا «1»
فغنت به الجَرَادَتَانِ، فلما سمعه القَوْمُ قال بعضهم: يا قوم إنما بعثكم قومكم لما حَلَّ بهم، فادخلوا هذا الحَرَمَ، وادعوا لَعَلَّ اللَّه يغيثهم فخرجوا لذلك، فقال لهم مرثد بن سعد: إنكم واللَّه ما تسقون بدعائكم، ولكنكم إن أطعتم نبيكم وآمنتم سقيتم، وأظهر إيمانه يومئذٍ، فَخَالَفَهُ الوَفْدُ، وقالوا لمعاوية بن بكر وأبيه بكر: احْبِسَا عنا مرثداً، ولا يدخل معنا الحَرَم، فإنه قد اتبع هُوداً، ومَضَوْا إلى الحرم، فاستسقى قيل بن عنز، وقال: يا إلاهنا إن كان هود صادقاً، فاسقنا، فإنا قد هلكنا، فأنشأ اللَّه تعالى سحائب ثَلاَثاً بيضاء وحمراء وسوداء، ثم نادى مُنَادٍ من السماء: يَا قَيْلُ اختر لنفسك ولقومك من هذه السحائب ما شِئْتَ، فقال قيل: قد اخترت السَّوداء فإنها أكثرهن مَاءً، فنودي:
قد اخترت رَمَاداً رَمْدداً ... لاَ تُبْقُي مِنْ عَادٍ أَحَدَا
لا وَالِداً وَلاَ وَلَداً ... إِلاَّ جَعَلْتُهُمْ هَمَدَا
وساق اللَّه السَّحَابَةَ السوداء التي اختارها قيل إلى عاد حتى خرجت عليهم من وَادٍ لهم يقال له: المُغِيثُ، فلما رأوها، قالوا هذا عَارِضٌ ممطرنا، حتى عرفت أنها ريح امرأة منهم يقال لها: مهدر، فصاحت وصعقت، فلما أفاقت قيل لها: ما رأيت؟ قالت: ريحاً فيها كَشُهبِ النار، أمامها رجال يَقُودُونَهَا، فسخرها اللَّه عليهم سَبْعَ ليال، وثمانية أيام حُسْوماً، والحُسُوم: الدائمة، فلم تَدَعْ من عَادٍ أحداً إلا هلك، فاعتزل هود، ومن معه من المُؤْمنين في حَظِيرَةٍ ما يصيبه من رِيحٍ إلا ما يلتد به.
قال ع «2» : وهذا قصص وقع في «تفسير الطبري» مطولاً، وفيه اختلاف، فاقتضبت عيون ذلك بحسب الإيجاز، وفي خبرهم: أن الريح كانت تَدْمَغُهُمْ بالحِجَارَةِ، وترفع الظَّعِينَةَ عليها المرأة حتى تلقيها في البحر.
وفي خبرهم: أن أقوياءهم كان أحدهم يسدّ بنفسه مَهَبَّ الريح حتى تَغْلبَهُ فتلقيه في البَحْر، فيقوم آخر مكانه حتى هَلَكَ الجَمِيعُ. وقال زيد بن أسلم: بلغني أن ضبعا ربّت
__________
(1) الأبيات في «الكامل» (1/ 86) ، و «تاريخ الطبري» (1/ 220) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 418) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 419) .(3/46)
قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
أولادها في حِجَاجِ عَيْنِ رَجُلٍ منهم. وفي خبرهم: أن اللَّه سبحانه لما أهلكهم بَعَثَ طيراً، فنقلت جِيفَهُمْ حتى طرحتها في البَحْرِ، فذلك قوله سبحانه: فَأَصْبَحُوا لاَ يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ [الأحقاف: 25] وفي بعض ما رُويَ من شأنهم أن الريح لم تُبْعَثْ قط إلا بِمِكْيَالٍ إلا يومئذٍ، فإنها عَتَتْ على الخَزَنَةِ، فغلبتهم، فذلك قوله سبحانه: فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ [الحاقة: 6] وروي أن هوداً لما هلكت عاد نزل بمن آمَنَ معه إلى «مكة» فكانوا بها حتى مَاتُوا، فاللَّه أعلم أي ذلك كَانَ.
وقولهم: أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ ... الآية: ظاهر قولهم وحده أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم، ويفردون العبادة للَّه مع إقرارهم بالإله الخَالِقِ المُبْدِعِ، وهذا هو الأظهر فيهم، وفي عباد الأوثان كلهم، ولا يجحد ربوبية اللَّه تعالى من الكَفَرَةِ إلا مَنْ أفرطت غباوته.
وقولهم: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا: تصميم على التكذيب، واستعجال للعقوبة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 71 الى 72]
قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
وقوله سبحانه: قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا ... الآية: أعلمهم بأن القَضَاءَ قد نَفذ، وحَلَّ عليهم الرجس، وهو السخط والعذاب.
/ وقوله: أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أي: في مسمّيات سميتموها آلهة، وَقَطَعْنا دابِرَ استعارة تُسْتَعْمَلُ فيمن يُسْتأصَل بالهلاك، والدابر: الذي يَدْبُرُ القوم، ويأتي خَلْفَهُمُ، فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك، فلم يبق أحد.
وقوله: كَذَّبُوا بِآياتِنا دالّ على المعجزة، وإن لم تتعين.
ت: ومن مُعْجِزَاتِهِ قوله: فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود: 55] على ما سيأتي إن شاء الله في موضعه.(3/47)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)
[سورة الأعراف (7) : آية 73]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73)
وقوله سبحانه: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ قرأ الجمهور: «وإلى ثَمُودَ» بغير صَرْفٍ «1» على إرادة القبيلة، وقرأ يحيى بن وثَّاب «2» والأعمشُ: «وإلى ثَمُودٍ» بالصرف على إرادة الحيِّ والقراءتان فصيحتان، مستعملتان، وقد قال تعالى: أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ [هود: 68] ، وأَخاهُمْ عطْفٌ على «نوح» ، والمعنى: وأرسلنا إِلى ثمود أخاهم، وهي أخوَّة نسب، وهم قومٌ عربٌ، فَهُودٌ وَصَالِحٌ عربيَّان، وكذلك إِسماعيل وشُعَيْب كذا قال الناس، وفي أمر إِسماعيل نَظَرٌ.
ت: النظرُ الذي أشار إليه لا يخفى عليك وذلك أن إِسماعيل والدهُ إبراهيم عليه السلام أَعْجميٌّ، وتعلَّم إسماعيل العربيةَ من العرب الَّذين نَزَلُوا عليه بمكَّة حَسَب ما ذكره أهْل السيرة فهذا وجْهُ النظر الذي أشار إليه، وفي نظره رحمه الله نَظَرٌ يمنعني مِنَ البَحْث معه ما أنا له قاصدٌ من الإيجاز والاختصار، دون البَسْط والانتشار، نَعَمْ خَرَّج أبو بكر الآجُرِّيُّ من حديث أَبي ذر رضي اللَّه عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «وأَرْبَعَةٌ من العَرَبِ:
هُودٌ، وَشُعَيْبٌ، وَصالحٌ وَنَبيُّكَ، يَا أَبَا ذَرًّ» انتهى، ولم يذكر إِسماعيل، فهذا الحَديثُ قد يَعْضُدُ ما قاله ع: وصالحٌ عليه السلام هو صالحُ بنُ عُبَيْدِ بن عَابِرِ بنْ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ كذا ذكر «3» مكِّيٌّ.
قال وهْبٌ «4» : بعثه اللَّه حين راهق الحُلُمَ، ولمَّا هلك قومُهُ، ارتحل بمَنْ معه إِلى مكَّة، فأقاموا بها حتى ماتوا فقُبُورُهُمْ بَيْنَ دار الندوة والحِجْر، أي: كما ارتحلَ هودٌ بمَنْ معه إِلى مكَّة صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين.
__________
(1) ينظر: «الكشاف» (2/ 120) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 420) ، و «البحر المحيط» (4/ 330) ، و «الدر المصون» (3/ 292) .
(2) ينظر: «الشواذ» ص: (50) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 420) ، و «البحر المحيط» (4/ 330) ، و «الدر المصون» (3/ 292) ، و «التخريجات النحويّة» (154) .
(3) ذكره ابن عطية (2/ 421) .
(4) ذكره ابن عطية: (2/ 421) ، وابن كثير (2/ 230) بنحوه، والسيوطي (3/ 185) بنحوه، وعزاه لوهب.(3/48)
وقوله: قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي: آيةٌ أو حجة أو موعظة بيِّنة من ربكم، قال بعض الناس: إِن صالحاً جاء بالناقة من تلقاء نَفْسه.
وقال الجمهور: بل كانَتْ مقْتَرَحَةً، وهذا أليقُ بما ورد في الآثارِ من أمرهم، رُوِيَ أنَّ قومه طَلَبُوا منْهُ آية تضْطَرُّهم إِلى الإِيمان، وقالوا: يا صالح، إن كنْتَ صادقاً، فادع لنا ربَّكَ يُخْرِجْ لنا من هذه الهَضْبَةِ، وفي بعضِ الروايات مِنْ هذه الصَّخْرَةِ- لِصَخَّرةٍ بالحِجْر- نَاقَةً عُشَراءَ، فَدَعَا اللَّهَ، فتمخَّضت تلك الهَضْبةُ، وانشقت عن ناقةٍ عظيمة، وروي أنها كانَتْ حاملاً، فولدَتْ سَقَبَها المشهور.
ورُوِيَ أنه خرج معها فَصِيلُها من الصخْرة.
وقيل لها: ناقَةُ اللَّهِ تشريفاً لها، وتخصيصاً، وهي إِضافةُ خَلْقٍ إلى خالقِ، وجعل اللَّه لها شِرْباً يوماً، ولهم شِرْب يومٍ، وكانت آية في شُرْبها وحَلْبها.
قال المفسِّرون: كانت خلقاً عظيماً تأتي إِلى الماء بين جبلين، فيزحمانها من العَظْم، وقاسَمَتْ ثمود في الماء يوماً بيومٍ، فكانت الناقةُ تَرِدُ يومها، فتستوفي ماءَ بئْرهم شُرْباً، ويحلبونها ما شَاؤوا من لَبَنٍ، ثُم تمكُثُ يوماً، وترد بعد ذلك غِبًّا، فاستمر ذلك ما شاء اللَّه حتى ملَّتها ثمود، وقالوا: مَا نَصْنَعُ باللَّبَنِ الماءُ أَحبُّ إِلينا منه، وكان سببُ المَلَلِ فيما روي: أنها كانَتْ تصيفُ في بطن الوادِي، وادي الحجر/ وَتَشْتُو في ظاهره، فكانت مواشيهم تفرُّ منها، فتمالؤوا على مَلَلِ الناقةِ، وَرُوِيَ أن صالحاً أوحى اللَّه إِلَيْهِ أَنَّ قومك سَيَعْقُرونَ الناقة، وينزلُ بهم العذابَ عند ذلك، فأخبرهم بذلك، فقالوا: عِيَاذاً بِاللَّهِ أنْ نفعل ذلك، فقال: إِنْ لم تفعلوا أنْتُمْ أوْشَكَ أنْ يولَدَ فيكم مَنْ يفعله، وقال لهم صفةَ عَاقِرِها:
أَحْمرُ، أشْقَرُ، أَزْرَقُ، فَوُلِدَ قُدَارٌ على الصفة المذكورة، فكان الذي عَقَرها بالسيف، وقيل:
بالسهم في ضَرْعها، وهَرَب فَصِيلها عند ذلك حتَّى صَعِدَ على جبلٍ يقال له القَارة، فَرَغَا ثلاثاً، فقال: يا صَالحُ، هذا ميعادُ ثلاثةِ أيامٍ للعذابِ، وأمرهم قبل رُغَاءِ الفَصِيل أنْ يطلبوه عسى أنْ يصلوا إِلَيْهِ، فيندفع عنهم العذابُ به، فرامُوا الصعودَ إِلَيْهِ في الجبل فارتفع الجبلُ في السماء حتى ما تناله الطيرُ وحينئذٍ رغا الفصيلُ، وروي أنَّ صالحاً عليه السلام قال لهم، حين رغا الفَصيلُ: سَتَصْفَرُّ وجوهُكم في اليوم الأولَ، وتحمرُّ في الثاني، وتسودُّ في الثالث، فلمَّا ظهرت العلامَاتُ التي قال لهم، أيْقَنُوا بالهلاك، واستعدوا، ولَطَّخُوا أبدانهم بالمُرِّ، وحفروا القبورَ، وتحنَّطوا وتكفَّنوا في الأنطاع، فأَخذتْهم الصيحةُ، وخرج صالحٌ ومَنْ آمن معه حتى نَزَلَ رَمْلَةَ فلسطينَ، وقد أكثر الناسُ في هذا القصص، وهذا القَدْر(3/49)
كافٍ، وَمِنْ أراد استيفاء هذا القصص، فليطالِعِ الطبريَّ «1» .
قال ع «2» : وبلادُ ثَمُود هِيَ بَيْنَ الشامِ والمدينة، وهي التي مَرَّ بها رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم مع المسلمين في غَزْوَةِ تَبُوك «3» فقال: «لاَ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ إِلاَّ أَنَّ تَكُونُوا بَاكينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، ثُمَّ اعتجر «4» بِعمامَةٍ» ، وَأَسْرَعَ السَّيْرَ، حتى جَازَ الوادي صلّى الله عليه وسلّم.
ت: ولفظُ البخاريِّ: ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ، وَأَسْرَعَ السّير ... الحديث «5» .
__________
(1) ينظر: الطبري في «تفسيره» (5/ 530، 531) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 422) . [.....]
(3) «غزوة تبوك» : في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة- لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حصار الطائف إلى المدينة بلغه أن هرقل ملك الروم ومن عنده من متنصرة العرب قد حشدوا له جمعا كثيرا يريدون غزوة في عقر داره، فأراد أن يلاقيهم على حدود بلادهم قبل أن يغشوه على غرة، فسار بجيشه حتى وصل تبوك، وكانت الروم قد بلغها أمر هذا الجيش وقوته، فآثرت الانسحاب بجيشها، لتتحصن في داخل بلاد الشام، فرأى النبي صلّى الله عليه وسلّم أن من الحكمة ألا يتبعهم داخل بلادهم، فلم يتبعهم. وهناك جاءه يوحنا بن رؤبة، فصالحه على الجزية كما صالحه أهل «جرباء» وأهل «أذرح» من بلاد الشام، وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك صاحب «دومة الجندل» ، فأتى به خالد أسيرا بعد أن قتل أخاه، فحقن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دمه، وصالحه على الجزية وأخلى سبيله. وأقام بضع عشرة ليلة لم يقدم عليه الروم ولا العرب المتنصرة فعاد إلى المدينة.
ولما بلغ ملك الروم ما فعله يوحنا أمر بقتله، وصلبه عند قريته. لم يكن من المعقول بعد ذلك أن يتهاون المسلمون فيما أصابهم من قتل رسولهم وأبطالهم ومعاهدهم الذي آمنوه على نفسه وماله بأخذ الجزية، وإعطاء العهد، كما أنه لم يكن معقولا أن الروم بعد أن رأوا حضور المسلمين للقصاص يكفون عن مناجزتهم والإيقاع بهم أينما وجدوا لذلك سبيلا.
لهذا عاد النبي صلّى الله عليه وسلّم في آخر حياته إلى تجهيز جيش آخر تحت إمرة أسامة بن زيد، ولكن لم يكد يتم أمره حتى قبض الرسول صلوات الله عليه، وانتقل إلى الرفيق الأعلى، وتولى أمر المسلمين بعده صاحبه أبو بكر، فارتأى رضي الله عنه أن الحزم في إنفاذ هذا الجيش حتى لا يطمع في الإسلام أعداؤه، ويتألب عليه خصومه، وتوالت بعد ذلك حروب الروم حتى فتح المسلمون بلادهم في عهد أبي بكر وعمر رضي الله عنهما بعد نضال عنيف، وحروب كثيرة.
(4) الاعتجار بالعمامة: هو أن يلفها على رأسه، ويردّ طرفها على وجهه، ولا يعمل منها شيئا تحت ذقنه.
ينظر: «النهاية» (3/ 185) .
(5) أخرجه البخاري (7/ 731) كتاب «المغازي» باب: نزول النبي صلّى الله عليه وسلّم الحجر، حديث (4419) ، ومسلم (4/ 2286) كتاب «الزهد والرقائق» باب: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، حديث (39/ 2980) ، وأبو يعلى (9/ 425) رقم (5575) كلهم من طريق الزهري عن سالم، عن أبيه. وأخرجه البخاري (7/ 731) كتاب «المغازي» باب: نزول النبي صلّى الله عليه وسلّم الحجر، حديث (4420) ، ومسلم (4/ 2285) كتاب «الزهد والرقائق» باب: لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم، حديث (38/ 2980) ، -(3/50)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 74 الى 79]
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ ...
الآية: بَوَّأَكُمْ: معناه مكَّنكم، وهي مستعملة في المكانِ وظروفِهِ، و «القُصُور» : جمع قَصْر، وهي الديارُ التي قصرت على بقاع من الأرض مخصوصةٍ بخلاف بُيُوت العمود، وقُصِرَتْ على الناس قصراً تامًّا، و «النحْتُ» : النَّجْرُ والقَشْر في الشيء الصُّلْب كالحَجَر والعُودِ، ونَحْوه، وكانوا ينحتون الجبالَ لطولِ أعمارِهِمْ، وَ (تَعْثَوْا) معناه تُفْسِدُوا.
قال أبو حيان «1» : ومُفْسِدِينَ: حال موكّدة. انتهى.
والَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا هم الأشرافُ والعظماء الكَفَرة، و «الَّذِينَ استضعفوا» : هم العامة والأَغْفَالُ في الدنيا، وهم أتْبَاعُ الرُّسُلِ، وقولهم: أَتَعْلَمُونَ: استفهام على معنى الاستهزاء والاستخفاف، فأجاب المؤمنون بالتصديق والصَّرامة في دين اللَّه، فحملت الأنفةُ الأشرافَ عَلى مناقَضَةِ المؤمنين في مَقَالَتهم، واستمروا على كُفْرِهم.
وقوله سبحانه: فَعَقَرُوا النَّاقَةَ يقتضي بتشريكهم أجمعين في الضمير أن عقر الناقة كان على تَمَالُؤٍ منهمْ واتفاقٍ، وكذلك رُوِيَ أنَّ قُدَاراً لم يعقرها حتّى كان يستشير، وعَتَوْا: معناه: خَشُنُوا وصَلُبُوا، ولم يذعنوا للأمر والشرعِ، وصمَّموا على تكذيبه، واستعجلوا النِّقْمة بقولهم: ائْتِنا بِما تَعِدُنا، فحلّ بهم العذاب، والرَّجْفَةُ: ما تؤثِّره الصيحةُ أو الطَّامَّة التي يُرْجَفُ بها الإِنسانُ، وهو أن يتحرَّك ويضْطَرِب/، ويرتَعِدَ ومنه:
«فرجع بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَرْجُفُ فُؤَادُهُ» وروي أنَّ صيحة ثَمُود كان فيهَا مِنْ كلِّ صوتٍ مهولٍ، وكانت مُفْرَطة شقّت قلوبهم، فجثموا على صدورهم، والجاثم اللّاطئ «2» بالأرض
__________
- وأحمد (2/ 9، 58) ، والحميدي (2/ 290) برقم: (653) كلهم من طريق عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.
(1) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 332) .
(2) لطأت بالأرض ولطئت أي: لزقت.
ينظر: «اللسان» (4038) (لطا) .(3/51)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
على صَدْره، ف جاثِمِينَ: معناه: باركين قَدْ صُعِقَ بهم، وهو تشبيه بجُثُوم الطير، وجُثُوم الرماد، وقال بعض المفسرين: معناه: حميماً محترقين كالرماد الجاثم، وذهب صاحبُ هذا القول إلى أن الصيحة اقترن بها صواعقُ مُحْرِقَةٌ، وروي أن الصيحةَ أصابَتْ كلَّ مَنْ كان منهم في شَرْق الأرض وغَرْبِهَا إِلاَّ رَجُلاً كان في الحَرَم، فمنعه الحرمُ ثُمَّ هَلَكَ بَعْدَ خروجه من الحَرَم ففي «مُصَنَّف أبي داود» ، قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ ذَلِكَ الرَّجُلُ؟ قال: أبو رغال «1» ، وذكره الطبريّ أيضا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا الخبر يردُّ ما في السير من أَنَّ أَبا رُغَالٍ هو دليلُ الفِيل، وقوله: فَتَوَلَّى عَنْهُمْ، أي: تولَّى عنهم وقت عَقْر الناقة، وذلك قبل نزول العذاب وكذلك رُوِيَ أنه عليه السلام خَرَجَ مِنْ بين أظهرهم قبل نزول العذاب، وهو الذي تقتضيه مخاطبته لهم، ويحتمل أن يكون خطابُهُ لهم وهُمْ موتى على جهة التفجُّع عليهم، وذكر حالهم أو غير ذلك كما خاطب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أهْل قليب بَدْر. قال الطبريُّ وقيل: إنه لم تَهْلِكْ أُمَّة، ونبيُّها «2» معها، ورُوِيَ أنه ارتحلَ بمَنْ معه حتَّى جاء مكَّة، فأقام بها حتى مات، ولفظ التولِّي يقتضي اليأْس مِنْ خَيْرهم، واليقينَ في إِهلاكهم، وقوله:
وَلكِنْ لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ: عبارةٌ عن تغليبهم الشهواتَ عَلَى الرأْي السديد إذ كلامُ الناصح صَعْبٌ مُضادٌّ لشهوة الذي يُنصحُ، ولذلك تقول العرب: أمر مبكياتك لا أمر مضحكاتك.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
وقوله سبحانه: وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ.
لوطٌ عليه عليه السلام بعثه اللَّه سبحانه إِلى أُمَّة تسّمى «سدوم» وروي أنه ابن أخي
__________
(1) أخرجه أبو داود (2/ 198) كتاب «الإمارة» باب: نبش القبور العادية يكون فيها المال، حديث (3088) ، والبيهقي (4/ 156) ، وفي «الدلائل» (7/ 297) من حديث عبد الله بن عمرو.
(2) ذكره الطبري (5/ 539) ، وابن عطية (2/ 424) ، وابن كثير (2/ 230) ، والسيوطي بنحوه (3/ 185) .(3/52)
إِبراهيمَ عليه السلام ونَصْبُه: إما ب «أرسلنا» المتقدِّم في الأنبياء، وإما بفعل محذوف، تقديره: واذكر لوطا، والْفاحِشَةَ: إتيان الذكور في الأَدْبَارِ، ورُوِيَ أنه لم تكُنْ هذه المعصيةُ في أُمَّة قبلهم، وحُكْم هذه الفاحشة عند مالك وغيره: الرجْمُ، أُحْصِنَ أم لم يُحْصن «1» ، وحرَّقُ أبو بكر الصديقُ رضي الله عنه رجلا عمل عَمِلَ قومِ لوط «2» ، وقرأ نافع وغيره: «أَنَّكُمْ» على الخبر كأنه فَسَّر الفاحشة، والإِسرافُ: الزيادةُ الفاسدةُ، ولم تكُنْ مراجعةُ قومه باحتجاج منهم، ولا بمدافعة عقليَّة، وإِنما كانَتْ بكُفْر وخِذْلان، ويَتَطَهَّرُونَ: معناه: يتنزَّهون عن حالنا وعادَتِنا.
قال قتادة: عَابُوهم بِغَيْرِ عَيْبٍ، وذمُّوهم بغير ذَمٍّ «3» واستثنى اللَّه سبحانه امرأة لوطٍ عليه السلام من الناجينَ، وأخبر أنها هَلَكَتْ، والغابِرُ: هو الباقي هذا هو المشهور في اللغة، وقد يجيء الغَابِرُ بمعنى الماضِي، وكذلك حَكَى أهل اللغةُ «غَبَرَ» بمعنى بَقِيَ، وبمعنى «مضى» ، وقوله: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً ... الآية، أي: بحجارةٍ، ورُوِيَ أنَّ اللَّه تعالى بعث جبريل، فاقتلعها بجناحِهِ، وهي ستُّ مدن.
/ وقيل خمسٌ، وقيل: أربع، فرفعها حتَّى سمع أَهْلُ السماء الدنيا صُرَاخَ الدِّيَكَة، وَنُبَاحَ الكِلاَبِ، ثم عكَسَها، وَرَدَّ أعلاها أَسْفَلَهَا، وأرسلها إِلى الأرض، وتبعتهم الحِجَارَةُ مع هذا، فأهلكَتْ مَنْ كان منهم، مَنْ كان في سَفَر، أو خارجاً من البقع المرفوعةِ، وقالت امرأة لوط، حين سمعت الوجبة: وا قوماه، والتفتت، فأصابتها صخرة فقتلتها.
__________
(1) حكم الإمام مالك في اللواطة بالرجم، وهو مذهب الشعبي، والزهري، ومالك، وأحمد، وإسحاق، والشافعي، في قول له، وذهب جمع أنه يحرق بالنار منهم: أبو بكر، وعبد الله بن الزبير، وهشام بن عبد الله.
وذهب سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والحسن والثوري، والأوزاعي، والإمام يحيى، والشافعي في قول له أنه كالزنا.
وذهب أبو حنيفة، والشافعي في قول له، والمرتضى، والمؤيد بالله إلى أنه يعزر اللوطي فقط.
ولم يشترط ما اشترطه في الرجم في الزنا من الإحصان والإسلام والحرية، واختلفوا في الفاعل المكره، فقيل: يرجم على المشهور من أن الانتشار اختيار. وقيل: لا يرجم لأن الإكراه شبهة تدرأ الحد، أما المفعول المكره فينبغي ألّا يرجم قولا واحدا إذا كان المرتكب لهذه الجريمة ممن لم يبلغوا الحلم، وقد كان مميزا فعقابه التأديب بما يراه الإمام زاجرا.
(2) ذكره ابن عطية (2/ 425) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 541) برقم: (14849) ، وذكره ابن عطية (2/ 425) ، وابن كثير (2/ 230) ، والسيوطي (3/ 186) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وأبي الشيخ.(3/53)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 93]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)
وقوله سبحانه: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ... الآية: قيل في مَدْيَنَ إِنه اسم بلد وقُطْرٍ، وقيل: اسم قبيلةٍ، وقيل: هم مِنْ ولد مَدْيَنَ بْنِ إِبراهيمَ الخليلِ، وهذا بعيدٌ، ورُوِي أَنَّ لوطاً هو جَدُّ شعيبٍ لأُمِّه.
وقال مكِّيّ: كان زوج بنت لوط، وأَخاهُمْ: منصوبٌ ب «أرسلنا» في أول القصص، و «البيِّنة» : إشارة إِلى معجزته، وَلا تَبْخَسُوا معناه ولا تظلموا ومنْه قولهم:
تَحْسَبُهَا حَمْقَاءَ، وَهِيَ بَاخِسٌ، أي: ظالمة خادعة، وقال في «سورة هود» : البَخْس:
النَّقْصَ.
ت: ويحتمل واللَّه أعلم أنَّ البَخْسَ هو ما اعتاده النَّاسُ من ذَمِّ السِّلَع ليتوصَّلوا بذلك إلى رُخَصها، فتأمَّله، واللَّه أعلم بما أراد سبحانه.
قال أبو حَيانَ: ولا تَبْخَسُوا: متعدٍّ إلى مفعولين، تقول: بَخَسْتُ زَيْداً حَقَّهُ، أي:
نقصته إياه. انتهى.
وأَشْياءَهُمْ: يريد أمتعتهم وأموالهم، وَلا تُفْسِدُوا: لفظٌ عامٌّ في دقيق الفساد وجليله وكذلك الإصلاح عامٌّ، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ، أيْ: عند اللَّه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ،(3/54)
أي: بشرط الإِيمان والتوحيد، وإِلا فلا ينفع عَمَلٌ دون إِيمانٍ، وَلاَ تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ ... الآية: قال السديُّ: هذا نهيٌ عن العَشَّارين والمتغلِّبين ونحوه مِنْ أخْذ أموال الناس بالباطِل «1» ، و «الصِّرَاطُ» : الطريقُ، وذلك أنهم كانوا يكثرون من هذا لأنه من قبيل بَخْسهم ونَقْصهم الكيلَ والوزْنَ، وقال أبو هريرة رضي اللَّه عنه: هو نهْيٌ عن السَّلْبِ وقطْع الطرقِ «2» ، وكان ذلك مِنْ فعلهم، وروي في ذلك حديث عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وما تقدَّم من الآية يؤيِّد هذين القولَيْنِ، وقال ابنْ عَبَّاس وغيره: قوله: وَلا تَقْعُدُوا نهيٌّ لهم عمَّا كانوا يفعلونه مِنْ رَدِّ الناس عَنْ شُعَيْب «3» وذلك أنهم كانوا يَقْعُدونَ على الطُّرُقات المفضية إلى شُعَيبٍ، فيتوعَّدون مَنْ أَراد المجيءَ إِلْيه، ويصُدُّونه، وما بعد هذا مِنَ الألفاظ يشبه هذا مِنَ القول، والضميرُ في «به» يحتمل أن يعود على اسم اللَّه، وأنْ يعود على شُعَيْب في قول مَنْ رأى القعودَ على الطُّرُق للرَّدِّ عن شعيب، قال الداوديّ: وعن مجاهد تَبْغُونَها عِوَجاً:
يلتمسون «4» لها الزيْغَ. انتهى.
ثم عدَّد عليهم نِعَمَ اللَّه تعالَى، وأنه كَثَّرهم بعد قلَّةِ عددٍ.
وقيل: أغناهم بعد فَقْر، ثم حذرهم ومثَّل لهم بمن امتحن من الأممِ، وقوله: وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا ... الاية: قوله:
فَاصْبِرُوا تهديدٌ للطائفة الكافرة، وقولهم: أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا معناه: أو لتَصِيرُنّ، و «عَادَ» في كلام العرب على/ وجهين:
أحدُهُمَا: عَادَ الشَّيْءُ إِلى حالٍ قد كان فيها قبل ذلك، وهي على هذا الوجه لا تتعدى، فإِن عُدِّيَتْ، فبحرف ومنه قول الشاعر: [الطويل]
أَلاَ لَيْتَ أَيَّامَ الشَّبَابَ جَدِيدُ ... وعمرا تولّى يا بثين يعود «5»
__________
(1) أخرجه الطبري (5/ 544) برقم: (14860) ، وذكره ابن عطية (2/ 426) بمثله، والبغوي (2/ 180) ، وابن كثير (2/ 231) ، والسيوطي (3/ 190) ، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(2) أخرجه الطبري (5/ 544) برقم: (14861) ، وذكره ابن عطية (2/ 426) .
(3) أخرجه الطبري (5/ 544) برقم: (14856) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 427) ، وابن كثير (2/ 231) والسيوطي (3/ 190) ، وعزاه لابن جرير وابن أبي حاتم. [.....]
(4) أخرجه الطبري (5/ 545) برقم: (14862) .
(5) روي البيت هكذا:
ألا ليت أيّام الصّفاء جديد ... وعهدا تولّى يا بثين يعود
وهو لجميل بثينة في «ديوانه» ص: (61) ، و «الأغاني» (2/ 350) ، و «أمالى القالي» (1/ 272، 2/-(3/55)
ومنْه قوله تعالى: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] .
والوجه الثاني: أنْ تكون بمعنى «صَارَ» ، وعاملةً عملَهَا، ولا تتضمَّن أن الحال قد كانَتْ متقدِّمة ومنه قول الشاعر: [البسيط]
تِلْكَ المَكَارِمُ لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيباً بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالاَ «1»
ومنه قول الآخر:
وَعَادَ رَأْسِي كالثَّغامَةِ ... «2»
ومنه قوله تعالى: حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس: 39] ، عَلى أن هذه محتملةٌ بقوله في الآية: أَوْ لَتَعُودُنَّ، وشعيبٌ عليه السلام لَمْ يَكُ قطُّ كافراً، فيقتضي أنها بمعنى «صار» ، وأما في جهة المؤمنين به بَعْدَ كُفْرهم، فيترتَّب المعنى الآخر، ويخُرُج عنه شعيبٌ، وقوله: أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ توقيفٌ منه لهم على شِنْعَة المعصيةِ، وطَلَبٌ أن يقروا بألسنتهم بإِكراهِ المُؤْمنين على الإِخراج ظُلْماً وغشماً.
قال ص: قَدِ افْتَرَيْنا: هو بمعنى المستقبل لأنه سَدَّ مسد جواب الشرط، وهو: إِنْ عُدْنا أو هو جوابه، على قول. انتهى.
وقوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا يحتملُ أن يريد إلاَّ أنْ يسبق علينا في ذلك مِنَ اللَّه سابقُ سُوء، وينفذ منه قضاءٌ لا يُرَدُّ.
قال ع «3» : والمُؤمنون هم المجوزون لذلك، وأما شُعَيْبٌ، فقد عصمته النبوَّة، وهذا أظهر ممَّا يحتملُ القول، ويحتمل أنْ يريد استثناء ما يمكن أن يتعبَّد اللَّهُ به المؤمنين ممَّا يفعله الكُفَّارُ من القربات.
__________
299) و «الحماسة البصرية» (2/ 105) و «خزانة الأدب» (10/ 450) و «شرح عمدة الحافظ» ص:
(505) ، و «مجالس ثعلب» ص: (597، 598) .
(1) روي البيت هكذا:
هذي المفاخر لاَ قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ شِيباً بِمَاءٍ فَعَادَا بعد أبوالا هو لأبي الصلت الثقفي والد أميّة في «الشعر والشعراء» ص: (469) ، و «العقد الفريد» (2/ 23) ولأميّة بن أبي الصلت في «ديوانه» ص: (52) ، وللنابغة الجعدي في «ديوانه» ص: (112) ، وللثقفي في «شرح المفصّل» (8/ 104) .
(2) وهو من شواهد «المحرر الوجيز» (2/ 429) . ويروى في «اللسان» : [ثغم] برواية: وصار رأس الشيخ كثغامة وعليه يكون من بحر الرجز، وفي «القاموس» : والرأس صار كالثغامة بياضا.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 428) .(3/56)
وقيل: إِنَّ هذا الاستثناء إِنما هو تَسَنُّنٌ وَتَأَدُّبٌ، وقوله: وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً:
معناه: وَسِعَ عِلْمُ رَبنا كلَّ شيء كما تقول: تَصَبَّبَ زَيْدٌ عَرَقاً أَيْ: تصبَّب عَرَقُ زيدٍ، وَوَسِعَ بمعنى «أحاط» ، وقوله: افْتَحْ معناه: احكم، وقوله: عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا:
استسلام للَّه سبحانه، وتمسُّكٌ بلطفه وذلك يؤيِّد التأويل الأول في قوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا. وقوله سبحانه: وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً ...
الآية: أي: قال الملأ لتباعهم ومقلّديهم، والرَّجْفَةُ: الزلزلةُ الشديدةُ التي يَنَالُ الإِنسانَ معها اهتزاز وارتعاد واضطراب، فيحتملُ أنَّ فرقةً من قومٍ شُعَيْب هلكَتْ بالرجفة، وفرقةً بالظُّلَّة، ويحتمل أن الظُّلَّة والرَّجْفَة كانتا في حِينٍ واحدٍ.
ت: والرجفةُ هي الصَّيْحة يَرْجُفُ بسببها الفؤاد وكذلك هو مصرَّح بها في قصَّة قوم شُعَيْب في قوله سبحانه: وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ... الآية [هود: 94] ، وقوله سبحانه: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الضميرْ في قوله «فيها» عائدٌ على دارِهِمْ، وَيَغْنُوا:
معناه: يقيمونَ بنَعْمَة وخَفْضِ عيش، وهذا اللفظ فيه قوَّةُ الإِخبار عن هلاكهم، ونزولِ النقمةِ بهم، والتنبيه عَلَى العبرة والاتعاظ بهم، ونحوُ هذا قولُ الشاعر: [الطويل]
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أَنِيسٌ وَلَمْ يَسْمُرْ بِمَكَّةَ سَامِرُ «1»
قال ع «2» : فَغَنيتُ في المكان، إنما يقالُ في الإِقامة التي هي مقترنة بتنعّم وعيش مرضيّ، وقوله: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ: كلامٌ يقتضي حزناً وإِشفاقاً لَمَّا رأى هلاكَ قومه إِذْ كان أمله فيهم غَيْرَ ذلك، ولمَّا وجد في نفسه ذلك،
__________
(1) وهو لعمرو بن الحارث بن مضاض أو للحارث الجرهمي في «لسان العرب» (13/ 109) (جحن) وبلا نسبة في «شرح قطر الندى» ص: (159) .
واستشهد بقوله: «كأن لم يكن» حيث خفّف «كأن» فحذف اسمها، وأتى بخبرها جملة فعليّة. وذكر ياقوت في «معجم البلدان» (2/ 260) (الحجون) ، ونسبه إلى مضّاض بن عمرو الجرهمي يتشوّق مكة لما أجلتهم عنها خزاعة:
كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الحَجُونِ إِلَى الصَّفَا ... أنيس، ولم يسمر بمكة سامر
بلى! نحن كنا أهلها، فأبادنا ... صروف الليالي والجدود العواثر
فأخرجنا منها المليك بقدرة، ... كذلك، يا للناس، تجري المقادر
فصرنا أحاديثا وكنا بغبطة، ... كذلك عضّتنا السنون الغوابر
وبدّلنا كعب بها دار غربة، ... بها الذئب يعوي والعدوّ المكاشر
فسحّت دموع العين تجري لبلدة، ... بها حرم أمن وفيها المشاعر
ينظر: «المعجم» (1/ 375) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 430) .(3/57)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)
طَلَب أنْ يثير في نفسه سَبَبَ التسلِّي عنهم، فجعل يعدِّد معاصيهم وإِعراضهم، ثم قال لنفسه لمّا نظر وفكّر: فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ، ونحو هذا قوله صلّى الله عليه وسلّم لأَهْل قليب بَدْرٍ، وأسى معناه: أحزن.
/ قال مَكِّيٌّ: وسار شعيبٌ بمن معه حتَّى سكن مكّة إلى أن ماتوا بها «1» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 96]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96)
وقوله سبحانه: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أخبر سبحانه أنَّه ما بعث نبيًّا في قرية، وهي المدينةُ إِلاَّ أخذ أهلها المكذِّبين له بِالْبَأْساءِ وهي المصائبُ في المال، وعوارضُ الزَّمَن وَالضَّرَّاءِ وهي المصائبُ في البدن كالأمراض ونحوها، لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي: ينقادون إلى الإِيمان، وهكذا قولهم:
الحُمَّى أَضْرَعَتْنِي لَكَ، ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ، وهي البأساءُ والضرَّاءُ الْحَسَنَةَ، وهي السرَّاء والنِّعمة حَتَّى عَفَوْا: معناه: حتى كَثُرُوا، يقال: عَفَا النباتُ والرِّيشُ إِذا كَثُر نباته ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أحْفُوا الشَّوَارِبَ، وَأعْفُوا اللحى» «2» ولما بدَّل اللَّه حالهم بالخَيْر لُطْفاً بهم فَنَمْوا، رأوا أن إِصابة الضَّرَّاء والسَّرَّاء إنما هي بالاتِفاق، وليستْ بقَصْد كما يخبر به النبيُّ، واعتقدوا أنَّ ما أصابهم مِنْ ذلك إِنما هو كالاتفاق الذي كان لآبائهم، فجعلوه
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 431) .
(2) أخرجه مالك (2/ 947) كتاب «الشعر» باب: السنة في الشعر، حديث (1) ، والبخاري (10/ 351) كتاب «اللباس» باب إعفاء اللحى، حديث (5893) ، ومسلم (1/ 222) كتاب «الطهارة» باب: خصال الفطرة، حديث (52، 53/ 259) ، وأبو داود (2/ 483) كتاب «الترجل» ، باب: في أخذ الشارب، حديث (4198) ، والترمذي (5/ 95) كتاب «الأدب» باب: ما جاء في إعفاء اللحية، حديث (2763، 2764) ، والنسائي (1/ 16) كتاب «الطهارة» باب: إحفاء الشارب وإعفاء اللحى، حديث (15) ، وفي (8/ 181- 182) كتاب «الزينة» باب: إحفاء الشوارب وإعفاء اللحية، حديث (5226) ، وأبو عوانة (1/ 189) ، وابن أبي شيبة (8/ 376) ، وابن المنذر في «الأوسط» (1/ 239) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (4/ 230) ، والبيهقي (1/ 151) كتاب «الطهارة» وفي «الآداب» برقم: (830) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (6/ 247) ، وفي «الجامع لأخلاق الراوي» (1/ 375) برقم: (863) ، والبغوي في «شرح السنة» (6/ 219 بتحقيقنا) من طرق عن نافع، عن ابن عمر به.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.(3/58)
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
مثالاً، أي: قد أصاب هذا آباءنا، فلا ينبغي لنا أنْ نُنْكَره، ثم أخبر سبحانه أنه أخذ هذه الطوائفَ الَّتي هذا معتَقَدُها، وقوله: بَغْتَةً أي: فجأَةً وأخْذَةَ أَسَفٍ، وبَطْشاً للشقاء السابق لهم في قديم علمه سبحانه.
وقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ، أي: مِنْ بركاتِ المطرِ والنباتِ، وتسخير الرياحِ والشمْسِ والقمر في مصالح العبادِ وهذا بحَسَب ما يدركُه نَظَر البشر، وللَّه سبحانه خُدَّامٌ غير ذلك لا يحصى عددهم، وما في علم الله أكثر.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 97 الى 100]
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100)
وقوله سبحانه: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ ... الآية تتضمَّن وعيداً للكافرين المعاصرين لنبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، لأنه لما أخبر عما فعل في الأمم الخالية، قال: وهل يأْمَنُ هؤلاء أنْ ينزلَ بهم مثلُ ما نَزَلَ بأولئك، وهذا استفهام على جهة التوقيف، والبأس: العذاب، ومَكْرَ اللَّهِ هي إضافة مخلوقٍ إلى خالقٍ، والمراد فِعْلٌ يعاقب به مَكَرة الكَفَرةِ، والعربُ تسمِّي العقوبةَ باسْمِ الذنْب.
وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها ... الآية: هذه ألِفُ تقريرٍ دَخَلَتْ على واو العطف، و «يَهْدي» : معناه: يبيَّن، فيحتملُ أنْ يكون المبيِّن اللَّه سبحانه، ويحتملُ أنْ يكون المبيِّن قولَهُ: أَنْ لَوْ نَشاءُ، أي عِلْمُهُمْ بذلك، وقال ابنُ عباس، ومجاهد، وابن زيد: يهْدِي: معناه: يتبيَّن، وهذه أيضاً آيةُ وعيد، أي: أَلَمْ يظهر لوارثي الأرض بَعْد أولئك الذين تقدَّم ذكرهم، وما حَلَّ بهم- أنا نَقْدِرُ لو شئناً أصبناهم بذنوبهم كما فعلنا بمن تقدَّم، وفي العبارة وعْظٌ بحالِ مَنْ سلف من المهلكين.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 101 الى 108]
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105)
قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)(3/59)
وقوله سبحانه: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ «تلك» ابتداءٌ، و «القرى» قال قوم: هو نعْتٌ، والخبر «نَقْصُّ» ، وعندي: أن «أهل القرَى» هِي خَبَر الابتداءِ، وفي ذلك معنى التعظيمِ لها، ولِمُهْلِكِها وهذا كما قيل في قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 2] وكما قال عليه السلام: «أُولَئِكَ الملأ» وكقول ابن أبي الصلت:
[البسيط]
تِلْكَ المَكَارِمُ............. ... ............... .... «1»
وهذا كثير.
ثم ابتدأ سبحانهُ الخبر عن جميعهم بقوله: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ، هذا الكلامُ يحتملُ وجوهاً من التأويل:
أحدها: / أنْ يريد أنَّ الرسول جاء لكلِّ فريقٍ منهم، فكذَّبوه لأول أمره، ثم استبانت حجته، وظهَرتِ الآياتُ الدالَّة على صدقه، مع استمرار دعوته.، فلَجُّوا هم في كفرهم، ولم يؤمنوا بما سَبَقَ به تكذيبُهم.
والثاني: من الوجوه: أنْ يريد: فما كان آخرهم في الزّمنِ لِيُؤْمِنَ بما كَذَّب به أوَّلهم في الزمَنِ، بل مشى بعضهم على سَنَن بعضٍ في الكُفْرِ أشار إِلى هذا التأويلِ النَّقَّاش «2» .
والثالث: أنَّ هؤلاء لَوْ رُدَّوا من الآخرة إلى الدنيا، لم يكُنْ منهم إِيمانٌ قاله مجاهد «3» ، وقرنه بقوله: وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] .
والرابع: أنه يحتمل: فما كانوا ليُؤْمنوا بما سَبَق في عِلم اللَّه سبحانه أنهم مكذّبون به وذكر هذا التأويل المفسّرون.
__________
(1) تقدم قريبا.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 437) ، و «البحر المحيط» (4/ 359) و «الدر المصون» (3/ 317) .
(3) أخرجه الطبري (6/ 13) برقم: (14912) ، وذكره ابن عطية (2/ 434) ، والبغوي (2/ 184) ، وابن كثير (2/ 235) ، والسيوطي (3/ 194) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.(3/60)
وقوله سبحانَه: وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ ... الآية: أخبر سبحانه أنه لم يجدْ لأكثرهم ثبوتاً على العَهْد الذي أخذه سبحانه على ذريِّة آدم وقْتَ استخراجهم من ظهره قاله أبو العالية «1» عن أبيِّ بنْ كَعْب، ويحتمل أن يكون المعنى: وما وجدنا لأكثرهم التزامَ عَهْدٍ، وقبولَ وصاةٍ ممَّا جاءتهم به الرسُلُ عن اللَّه، ولا شَكَروا نعم اللَّه عزَّ وجلَّ.
قال ص: لِأَكْثَرِهِمْ: يحتمل أن يعود على «النَّاس» أو على أَهْلَ الْقُرى أو «الأُمم الماضية» . انتهى.
وقوله سبحانه: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها ...
الآيات في هذه الآية: عامٌّ في التسْع وغيرِهَا، والضميرُ في «مِنْ بعدهم» عائدٌ على الأنبياءِ المتقدِّم ذكْرُهم، وعلى أممِهِمْ.
وقوله سبحانه: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ: فيه وعيدٌ، وتحذيرٌ للكَفَرة المعاصرين لنبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقوله سبحانه: وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، قرأ نافعٌ «2» وحده: «عَلَيَّ» بإِضافة «على» إِليه، وقرأ الباقون: «على» بسكون الياء.
قال الفارسيُّ: معنى هذه القراءة أنَّ «عَلَى» وضعتْ موضع الباء كأنه قال: حقيقٌ بأن لا أقولَ على اللَّه إِلاَّ الحَقَّ، وقال قوم: «حقيقٌ» صفةٌ ل «رَسُولٌ» ، تم عندها الكلامُ، و «عَليَّ» : خبرٌ مقدّمٌ و «أَلاَّ أقول» : ابتداءٌ، وإِعراب «أَنْ» ، على قراءة مَنْ سكَّن الياء خفْضٌ، وعلى قراءة من فتحها مشدَّدةً: رَفْعٌ، وفي قراءة عبد اللَّه: «حَقيقٌ أَنْ لا أَقُول» ، وهذه المخاطَبَةُ- إِذا تأَمَّلْتَ- غايةٌ في التلطُّف، ونهايةٌ في القول الليِّن الذي أُمِرَ به عليه السلام، وقوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ «البينة» هنا إشارةٌ إلى جميع آياته، وهي على المُعْجزة منْها أدلُّ، وهذا من موسى عليه السلام عَرْضُ نبوَّته، ومنْ فرعون استدعاءُ خَرْق العادة الدالِّ على الصدْقِ، وظاهرُ هذه الآية وغيرها أنَّ موسى عليه السلام لم تَنْبَنِ شريعته إِلا على بني إسرائيل فقَطْ، ولَمْ يَدْعُ فرعونَ وقومه إِلا إِلى إِرسال بني إِسرائيل، وذكره: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: 44] .
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 14) برقم: (14915) ، وذكره ابن عطية (2/ 434) ، وابن كثير (2/ 235) ، والسيوطي (3/ 195) ، وعزاه لابن أبي حاتم، ولابن جرير. [.....]
(2) ينظر: «الحجة» (4/ 56) ، و «السبعة» (287) ، و «حجة القراآت» (289) و «إعراب القراآت» (1/ 196) ، و «العنوان» (96) ، و «شرح شعلة» (393) ، و «شرح الطيبة» (4/ 303) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 55) ، و «معاني القراآت» (1/ 414) .(3/61)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
وقوله: فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ، روي أن موسى قَلِقَ به، وبمجاورته فرعون، فقال لأعوانِهِ: خذوه، فألقى موسَى العصا، فصارَتْ ثعباناً، وهمَّت بفرعون، فَهَرَبَ منْها.
وقَالَ السّديُّ: إِنه أَحَدَث، وقال: يا موسى كُفَّهُ عني «1» ، فَكفَّه، وقال نحوه سعيدُ بنُ «2» جبير، ويقال: إن الثعبان وضع أسفل لَحْيَيْهِ في الأرض وأعلاهما في أعلى شرفات القصر. والثعبان: الحَيَّة الذَّكَر/ وهو أهولُ وأجَرأُ قاله الضحاك «3» ، وقال قتادة:
صارَتْ حَيَّةً أشْعَرَ ذَكَراً «4» ، وقال ابن عباس: غرزَتْ ذَنَبها في الأرض، ورفَعَتْ صدْرَها إِلى فرعون، وقوله: مُبِينٌ معناه: لا تَخْييلَ فيه، بل هو بَيِّن إنه ثعبانٌ حقيقة، وَنَزَعَ يَدَهُ: معناه: مِنْ جيبه، أو من كُمِّه حسب الخلافِ في ذلك.
وقوله: فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ، قال مجاهد: كاللبن أَو أَشَدَّ بياضاً «5» ، وروي أنها كانت تظهر منيرةً شفَّافةً كالشَّمْس تأْتَلِقُ، وكان موسى عليه السلام آدَمَ أَحْمَرَ إِلى السوادِ، ثم كان يَرُدُّ يده، فترجع إِلى لون بَدَنِهِ.
قال ع «6» : فهاتان الآيتان عرضهما عليه السلام للمعارَضَة، ودعا إلى اللَّه بهما، وخَرَق العادة بهما.
ت: وظاهر الآية كما قال، وليس في الآية ما يَدُلُّ على أنه أراد بإلقاء العصا الانتصار والتخويفَ كما يعطيه ما تقدَّم ذكْرُهُ من القصص.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 109 الى 116]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113)
قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 16) برقم: (14919) ، وذكره ابن عطية (2/ 436) ، والبغوي (2/ 185) ، وابن كثير (2/ 236) ، والسيوطي (3/ 197) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري (6/ 16) برقم: (14921) ، وذكره ابن عطية (2/ 436) .
(3) أخرجه الطبري (6/ 16) برقم: (14925) ، وذكره ابن عطية (2/ 436) ، وابن كثير (2/ 236) .
(4) أخرجه الطبري (6/ 15) برقم: (14917) بلفظ: «تحولت حية عظيمة» ، وذكره ابن عطية (2/ 436) ، والسيوطي (3/ 197) نحوه، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(5) أخرجه الطبري (6/ 17) برقم: (14928) بلفظ: «نزع يده من جيبه بيضاء من غير برص» ، وذكره ابن عطية (2/ 436) ، وابن كثير (2/ 236) بنحوه.
(6) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 436) .(3/62)
وقوله عز وجل: قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ لا محالةَ أنهم خافوا أمْرَ موسى، وجالَتْ ظنونهم كُلَّ مجالٍ، وقوله: فَماذا تَأْمُرُونَ الظاهرُ أنه من كلام المَلإ بعضِهِمْ لبعض، وقيل: إنه من كلام فرعونَ لهم، وَرَوى كَرْدم عَنْ نافعٍ: تَأْمُرُونَ «1» بكسر النون وكذلك في «الشعراء» [الشعراء: 35] .
و «ما» : استفهامُ، و «ذَا» : بمعنى الَّذي، فهما ابتداءٌ وخبرٌ، وفي «تأمرون» : ضميرٌ عائدٌ على الذي، تقديرُهُ: تَأْمُرونَ به، ويجوز أنْ تجعل «مَاذَا» بمنزلةِ اسم واحدٍ في موضع نصب ب «تأمرون» ولا يضمر فيه على هذا، وقوله: قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أشار المَلأُ على فرعونَ بأن يؤخِّر موسى وهارون، وَيَدَعَ النظر في أمرهما، وَيَجْمَعَ السحرةَ، وحكَى النَّقَّاش أنه لم يكن يجالسُ فرعونَ وَلَدُ غِيَّةٍ، وإنما كانوا أشرافاً ولذلك أشاروا بالإِرجاء، ولم يشيروا بالقَتْل، وقالوا: إنْ قتلته، دخلَتْ على الناسِ شُبْهَةٌ، ولكنِ اغلبه بالحجة «2» .
وقوله سبحانه: وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ: «الأَجر» هنا: الأجْرَةُ.
واختلف الناسُ في عدد السَّحَرة على أقوالٍ كثيرةٍ ليس لها سَنَدٌ يوقَفُ عنده «3» ، والحاصلُ من ذلك أنهم جَمْعٌ عظيم، وقوله تعالى: قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، وخيَّر السحرةُ موسى في أن يتقدَّم في الإِلقاء أو يتأخَّر، وهذا فعْلُ المُدِلِّ الواثقِ بِنَفْسِهِ، والظاهرُ أنَّ التقدُّم في التخْييلاتِ وَالمَخَارِيقِ أنْجَحُ لأنَّ بديهتها تمضِي بالنفُوس، فليظهر اللَّه أمر نبوَّة موسَى، قوى نفسه ويقينه، وِوَثقَ بالحَقِّ، فأعطاهم التقدُّم، فَنَشَطُوا وَسُرُّوا حتَّى أظهر الله الحق،
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 437) .
(2) ذكره ابن عطية (2/ 438) .
(3) انظر كيف كان المؤلف عليه رحمة الله يتحرى الدقة في النقل واهتمامه بالسند انطلاقا منه بأن السند من الدين!!.(3/63)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)
وأَبطَلَ سعيهم، وقوله سبحانه: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ: نصٌّ في أن لهم فِعْلاً ما زائداً على ما يُحْدِثُونه من التزْوِيقِ، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ بمعنى: أرهبوهم، أي: فزَّعوهم، ووصف اللَّه سبحانه سِحْرَهُمْ ب «العَظِيم» ، ومعنى ذلك مِنْ كثرته، ورُوِي أنهم جَلَبُوا ثَلاَثِمَائَةٍ وَسِتِّينَ بعيراً موقُورَةً بالْحِبَالِ، والعِصِيِّ، فلما أَلْقَوْهَا، تحرَّكت، ومَلأَت الوادِيَ، يركَبُ بعضُها بعضاً فاستهول النَّاس ذلك، واسترْهَبَهم، قال الزَّجَّاج: قيل: إنهم جعلوا فيهم الزِّئْبَقَ، فكانَتْ لا تستقرّ «1» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 119]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119)
وقوله سبحانه: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ:
وروي أن موسى عليه السلام لَمَّا كان يَوْمُ الجمعِ، خَرَجَ متَّكِئاً عى عصاه، ويُدُه في يَدِ أخيه، وقد صُفَّ له السحرةُ في عَدَدٍ عظيم/، حَسْبما ذُكِر، فلما أَلْقَوْا واسترهَبُوا، أَوحَي اللَّه إِليه أَنْ أَلْقِ، فألقى عصاه فإِذا هي ثعبانٌ مبينٌ، فعَظُم حتَّى كان كالجَبَل.
وروي أن السحرة، لَمَّا أَلْقَوْا، وألقى موسَى، جعلوا يَرْقَوْنَ، وجَعَلَتْ حبالُهم تَعْظُمْ وجعلَتْ عصا موسى تَعْظُمُ حتى سدَّت الأُفُقَ، وابتلعت الكُلَّ، ورُوِي أن الثعبانَ استوفى تلك الحِبَالَ والعِصيَّ أَكْلاً، وأعْدَمها اللَّه عزَّ وجلَّ، ومَدَّ موسى يده إِلى فمه، فعاد عصا كما كان، فعلم السَّحَرَةُ حينئذٍ أنَّ ذلك ليس من عند البَشَر، فَخَرُّوا سُجَّداً مؤمنين باللَّه ورسوله، وتَلْقَفُ معناه: تبتلع وتَزْدَرِد، وقرأ ابن جبير «2» : «تَلْقُم» بالميم.
وقوله سبحانه: فَوَقَعَ الْحَقُّ ... الآية: أيْ: نَزلَ ووُجِد، وقال أبو حيان «3» :
فوقع، أي: فظهر، و «الحَقُّ» : يريدُ به سطوعَ البرهانِ، وظهور الإعجاز، وما كانُوا يَعْمَلُونَ لفظٌ يعمُّ سحْرَ السحرة، وسعْيَ فرعونَ، وشيعتِهِ، والضميرُ في قوله: فَغُلِبُوا:
عائدٌ على جميعهم أيضاً، وفي قوله: وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ، إِنْ قَدَّرَنا انقلاب الجمع قبل إِيمان السحرة، فهم في الضمير، وإِن قدَّرناه بعد إِيمانهم، فليسوا في الضمير، ولا لحقهم صَغَارٌ لأنهم آمنوا واستشهدوا رضي الله عنهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 120 الى 127]
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127)
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 439) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 439) ، وقال أبو عبيد: ويقال: لفق ولقم ولهم بمعنى واحد.
(3) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 364) .(3/64)
وقوله سبحانه: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ، لما رأَى السحرة من عظيم القدرة ما تيقّنوا به نبوَّة موسى، آمنوا بقلوبهم، وانضاف إِلى ذلك الاستهوال والاستعظام والفَزَعُ مِنْ قدرة اللَّه عزَّ وجَلَّ، فخرُّوا للَّه سبحانه مُتَطَارِحِينَ قائلين بألسِنَتِهِمْ: آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ.
قال ع «1» : وهارونُ أخو موسى أسَنُّ منه بثلاثِ سِنِينَ، وقولُ فرعون: آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ: دليلٌ عَلى وَهَنِهِ، وضَعْف أمره لأنه إِنما جعل ذَنْبَهُمْ عَدَمَ إِذنه، والضمير في «به» يحتمل أن يعود على اسم اللَّه سبحانه، ويحتملُ أنْ يعود على موسى عليه السلام، وعنَّفهم فرعونُ على الإِيمان قبل إِذْنِهِ، ثم ألزمهم أنَّ هذا كان عن اتفاق منهم، وروي في ذلك عن ابن عباس، وابن مسعود، أن موسى اجتمع مع رَئِيس السَّحَرة، واسْمُهُ شَمْعُونُ، فقال له موسى: أَرَأَيْتَ إِنْ غَلَبْتُكُمْ أتؤمنُونَ بي، فقالَ: نَعَمْ، فَعَلِمَ بذلك فرعونُ فلهذا قال: إِن هذا لمكْرٌ مكَرْتُمُوه في المدينة، ثم توعَّدهم «2» .
وقوله سبحانه: قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا.. الآية: هذا استسلامٌ مِنْ مؤمني السَّحرة، واتكالٌ على اللَّه سبحانه، وثقةٌ بما عنده، وقرأ الجمهور «3» : «تنْقِمُ» - بكسر القاف-، ومعناه: وما تَعُدّ علينا ذنباً تؤاخذُنا به إِلاَّ أنْ آمنا، قال ابنُ عبَّاس وغيره فيهم: أَصْبَحُوا سَحَرَةً، وَأَمْسَوْا شُهَدَاءَ «4» ، قال ابن عباسٍ:
لما آمنت السحرةُ اتبع موسى سِتُّمِائَةِ أَلْفٍ من بني إِسرائيل «5» ، وقولُ ملإِ فرعونَ:
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 440) . [.....]
(2) أخرجه الطبري (6/ 24) برقم: (14963) ، وذكره ابن عطية (2/ 440) ، وابن كثير (2/ 238) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 441) ، و «البحر المحيط» (4/ 366) .
(4) أخرجه الطبري (6/ 25) برقم: (14965) ، وذكره ابن كثير (2/ 238) .
(5) ذكره ابن عطية (2/ 441) ، والبغوي (2/ 190) .(3/65)
قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ ... الآية: مقالةٌ تتضمَّن إِغراء فرعون وتحريضَهُ، وقولُهم: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ، رُويَ أن فرعون كان في زمنه للناس آلهةٌ مِنْ بقرٍ، وأصنامٍ، وغير ذلك، وكان فرعونُ قَدْ شَرَع ذلك، وَجَعل نَفْسَه الإله الأَعلَى فقوله على هذا أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] إنما يريدُ: بالنَّسْبة إِلى تلك المعبودات.
وقيل: إِن فرعون كان يعبد حَجَراً يعلِّقه في صَدْره. كأنه/ ياقوتَةٌ أو نحوها، وعن الحسنِ نحوه، وقوله: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ، المعنى: سنستمرُّ عَلى ما كنا عليه مِنْ تعذيبهم، وقوله: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ، يريد: في المنزلة، والتمكّن من الدنيا، وقاهِرُونَ: يقتضي تحقير أمرهم، أي: هم أقلُّ من أن يُهتمَّ بهم. قلت: وهذا من عَدُوِّ الله تجلُّدٌ، وإِلاَّ فقد قال فيما أخبر الله سبحانه به عنه: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ [الشعراء: 54، 55، 56] .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 128 الى 132]
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)
وقوله سبحانه: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ... الآية: لما قال فرعونُ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ، وتوعدهم، قال موسى لبني إسرائيل، يثبتهم، ويعدهم عن اللَّه تعالى: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ، والأرض هنا: أرضُ الدنيا، وهو الأظهرُ.
وقيل: المراد هنا أرضُ الجَنَّة، وأما في الثانية، فأرض الدنيا لا غير، والصَّبْرُ في هذه الآية: يعمُّ الانتظارَ الذي هو عبادةٌ، والصَّبْرَ في المناجزاتِ، والبأْسَ، وقولهم: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا، يعنون به الذَّبْحَ الذي كان في المُدَّة التي كانَ فِرْعَون يتخوَّف فيها أنْ يولَدَ المولودُ الذي يُخَرِّبُ ملكه، وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا، يعنون به وعيدَ فِرْعَونَ، وسائِرَ ما كان خلالَ تلك المدَّة، من الإخافة لهم.
وقال ابنُ عباس «1» والسدّيُّ «2» : إنما قالت بنو إسرائيل هذه المقالة، حين اتّبعهم
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 29) برقم: (14984) ، وذكره ابن عطية (2/ 442) .
(2) أخرجه الطبري (6/ 29) برقم: (14983) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 442) .(3/66)
فرعون، واضْطَرَّهم إِلى البحر.
قال ع «1» : وبالجملة فهو كلامٌ يجري مع المعهودِ مِنْ بني إِسرائيل مِن اضطرابهم على أنبيائهم، وقلَّةِ يقينهم، واستعطاف موسى لهم بقوله: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ، ووعده لهم بالاستخلاف في الأرض، يدُلَّ على أنه يستدعي نفوساً نافرةً ويقوِّي هذا الظنَّ في جهة بني إِسرائيل سلوكُهم هذا السبيلَ في غَيْر مَا قصَّةٍ، وقوله:
فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ تنبيهٌ وحضٌّ على الاستقامة، ولقد استخلفوا في مِصْرَ في زمن دَاوُدَ وسليمانَ، وقد فتحوا بَيْتَ المَقْدِسِ مع يُوشَعَ.
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ، أي: بالجُدُوب والقُحُوطِ، وهذه سِيرَةُ اللَّه في الأممِ، وقوله: وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ، أي: حتى رُوِيَ أن النخلة مِنْ نخلهم لا تَحْمَلُ إِلا ثمرةً واحدةً، وقال نحوه رجاءُ بْنُ حَيْوَة «2» وفعل اللَّه تعالى بهم هذا لينيبوا ويَزْدَجِرُوا عَمَّا هم عليه من الكُفْرِ إِذ أحوالُ الشدَّة ترقُّ معها القلوبُ، وترغبُ فيما عند اللَّه سبحانه.
وقوله عزَّ وجلَّ: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ ... الآية: كان القَصْدُ في إِصابتهم بِالقَحْط والنقْصِ في الثمراتِ أن ينيبوا ويرجعوا، فإذا هم قد ضَلُّوا، وجعلوها تشاؤماً بموسى، فكانوا إِذَا اتفق لهم اتفاق حسنٌ في غَلاَّت ونحوها، قالوا: هذه لنا، وبسببنا، وإذا نالهم ضُرٌّ، قالوا: هذا بسبب موسى وشُؤْمِهِ قاله مجاهد «3» وغيره، وقرأ الجمهور «4» «يَطَّيَّرُوا» - بالياء وشدِّ الطاء والياءِ الأخيرة-، وقرأ طلحةُ بنُ مُصَرِّفٍ «5» وغيره: «تَطِيرُوا» - بالتاء وتخفيف الطاء-، وقرأ «6» مجاهدٌ: «تَشَاءَمُوا بمُوسَى» - بالتاء من فوق- وبلفظ الشؤم.
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 442) .
(2) أخرجه الطبري (6/ 29- 30) برقم: (14988) ، وذكره ابن عطية (2/ 443) ، وابن كثير (2/ 239) ، والسيوطي (3/ 202) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(3) أخرجه الطبري (6/ 30) برقم: (14992) ، وذكره ابن عطية (2/ 443) ، والسيوطي (3/ 202) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 443) ، و «البحر المحيط» (4/ 370) ، و «الدر المصون» (3/ 327) .
(5) وهي قراءة عيسى بن عمر.
ينظر: «الشواذ» (50) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 443) ، و «البحر المحيط» (4/ 370) ، و «الدر المصون» (3/ 327) .
(6) قال أبو حيان: فينبغي أن يحمل ذلك على التفسير لا على أنه قرآن لمخالفته سواد المصحف.
ينظر «البحر المحيط» (4/ 370) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 443) .(3/67)
فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
وقوله سبحانه: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ معناه: حظُّهم ونصيبهم قاله ابن عباس «1» ، وهو مأخوذ من زَجْر الطَّيْرِ فسُمِّيَ ما عند اللَّه من القدر للإِنسان طائراً لما كان الإِنسان يعتقدُ أنَّ كل ما يصيبه إِنما هو بحَسَب ما يراه في الطَّائِرِ، فهي لفظةٌ مستعارةٌ، ومهما أصلها عنْدَ الخليل مَامَا/، فأبدلت الألف الأولى هاء، وقال سيبوَيْهِ: هي «مَهْ مَا» خُلِطَتَا، وهي حَرْفٌ واحدٌ لمعنًى واحدٍ.
وقال غيره: معناها: «مَهُ» ، أي: كُفَّ، و «ما» : جزاءٌ، ذكره الزَّجَّاجُ، وهذه الآيةُ تتضمَّن طغيانهم، وعتوهم، وقَطْعَهم على أنفسهم بالكُفْر البحت.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 133 الى 137]
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)
وقوله سبحانه: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ... الآية: الطُّوفانُ: مصْدَر مِنْ قولكّ:
طَافَ يَطُوفُ، فهو عامٌ في كلِّ شيء يطُوفُ إِلاَّ أن استعمال العَرَب له كثيرٌ في الماءِ والمَطَر الشديد، قال ابن عبَّاس وغيره: الطُّوفَان في هذه الآية: هو المطر الشديدُ، أصابهم وتوالى عليهم حتَّى هدَّم بيوتَهُمْ وضيَّق عليهم «2» ، وقيل: طَمَّ فَيْضُ النِّيلِ عليهم، ورُوي في كيفيَّته قصصٌ كثيرةٌ، وقالتْ عائشة رضي اللَّه عنها، عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّ الطُّوفان المراد في هذه الآية هو الموت» «3» .
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 31) برقم: (14995) بلفظ: «مصائبهم عند الله» ، برقم: (14996) بلفظ: «الأمر من قبل الله» ، وذكره ابن عطية (2/ 443) ، والبغوي (2/ 190) بنحوه، وابن كثير (2/ 239) بلفظ:
«أي من قبل الله» ، والسيوطي (3/ 202) ، وعزاه لابن جرير، عن ابن عباس بلفظ: «مصائبهم» ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(2) أخرجه الطبري (6/ 31) برقم: (14998) ، (6/ 36) برقم: (15028) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 444) ، وابن كثير (2/ 240) بنحوه، والسيوطي (3/ 203) بسندين، الأول: لأبي الشيخ، والثاني:
لابن أبي حاتم وأبي الشيخ. [.....]
(3) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 32) برقم: (15005) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 203) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.(3/68)
قُلْتُ: ولو صحَّ هذا النقلُ، لم يبق مجملا وروي أن الله عز وجل لما والى عليهم المطر، غَرِقَتْ أرضهم، وامتنعوا من الزراعة قالوا: يا موسى ادع لنا ربك في كَشْف هذا الغَرَقِ، ونحن نؤمنُ، فدعا، فكَشَفَه اللَّه عنْهم، فأنبتتِ الأرضُ إنباتاً حسناً، فنكَثُوا، وقالوا: ما نودُّ أنَّا لم نمطر، وما هذا إِلا إِحسانٌ مِنَ اللَّه إِلينا، فبعث اللَّه علَيْهم حينئذٍ الجَرَادَ، فأكل جميعَ ما أنبتَتِ الأرض، فروى ابنُ وَهْبٍ، عن مالكٍ أنه أكل حتى أبوابَهم، وأكل الحديدَ والمساميرَ، وضيَّق عليهم غايةَ التضْييق، وترك اللَّهُ مِنْ نباتهم ما يَقُومُ به الرَّمق «1» ، فقالوا لموسى: ادع لنا ربَّك في كشف الجراد، ونحن نؤمن، فدعا اللَّه فكَشَفه «2» ، ورجعوا إِلى كفرهم، فبعث اللَّه عليه القُمَّل، وهي الدبى صغارُ الجَرَادِ، الذي يثب ولا يطير قاله ابن عباس «3» وغيره، وقرأ الحسن: «القَمْل» «4» - بفتح القاف، وسكون الميم- فهي على هذا القَمْلُ المعروفُ، وروي أن موسى مشى بعصاه إِلى كثيب أَهِيلٍ «5» ، فضربَهُ، فانتشر كُلُّه قُمَّلاً في مِصْر، ثم إِنهم قالوا: ادع في كَشْفِ هذا، فدعا فرَجَعُوا إلى طُغْيَانهم، وكُفرهم، فبعَثَ اللَّه عَلَيْهم الضَّفَادَع، فكانَتْ تدخلُ في فَرُشِهِمْ، وبَيْن ثيابهم، وإِذا هَمَّ الرجُلُ أن يتكلَّم، وَثَبَ ضفْدَعٌ في فَمِهِ.
قال ابن جُبَيْر: كان الرجُلُ يجلسُ إلى ذقنه في الضفادع «6» .
وقال ابنُ عبَّاس: لما أُرْسِلَتِ الضفادِعُ عليهم، وكانَتْ بَرِّيَّةً، سمعتْ وأطاعت، فَجعلتْ تقذفُ أنفسها في القُدُور، وهي تغلي، فأثابها اللَّه بحُسْن طاعتها بَرْدَ «7» الماء، فقالوا: يا موسى، ادع في كَشْف هذا فدعا، فكشفَ، فرجَعُوا إِلى كُفْرهم، فبعث اللَّه عليهم الدَّم، فرجع ماؤهم الذي يستقونه، ويَحْصُلُ عندهم دماً، فرويَ أنه كان يستقي
__________
(1) الرّمق: بقية الحياة. وفي «الصحاح» : بقية الروح. وقيل: هو آخر النّفس.
ينظر: «لسان العرب» (1732) .
(2) ذكره ابن عطية (2/ 444) .
(3) أخرجه الطبري (6/ 37) برقم: (15030) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 444) ، والبغوي (2/ 192) بلفظ: «القمل: السوس الذي يخرج من الحنطة» ، والسيوطي (3/ 206) بلفظ: «القمل: الدبا» .
(4) ينظر: «الشواذ» (50) ، و «المحتسب» (1/ 257) ، و «الكشاف» (2/ 148) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 444) ، و «البحر المحيط» (4/ 373) ، و «الدر المصون» (3/ 330) .
(5) أي: منهال لا يثبت.
ينظر: «لسان العرب» (4739) .
(6) أخرجه الطبري (6/ 34- 35) برقم: (15023) ، وذكره ابن عطية (2/ 444) .
(7) أخرجه الطبري (6/ 37) برقم: (15031) ، وذكره ابن عطية (2/ 444) ، والبغوي (2/ 192) ، والسيوطي (3/ 206) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.(3/69)
القبْطِيُّ والإسرائيليُّ بإِناء واحدٍ، فإِذا خرج الماء، كان الذي يلي القِبْطِيَّ دماً، والذي يلي الإِسرائيليَّ ماءً إِلى نحو هذا، وشبهه، من العذاب بالدَّمِ المنقلبِ عن الماء، هذا قول جماعة من المتأوِّلين.
وقال زيدُ بن أسْلَمَ: إِنما سلط عليهم الرُّعَاف «1» ، فهذا معنى قوله: وَالدَّمَ، وقوله: آياتٍ مُفَصَّلاتٍ التفصيل: أصله في الأجرام: إِزالة الاتصال، فهو تفريقُ شيئَيْن، فإِذا استعمل في المعاني، فيراد به أنه فُرِقَ بينها، وأُزِيلَ اشتباكها وإِشكالها، فيجيء من ذلك بيانها.
وقالتْ فرقةٌ: مُفَصَّلاتٍ يراد بها: مفرَّقات في الزمَن.
قال الفخر: قال المفسِّرون: كان العذابُ يبقى عليهم من السَّبْت إِلى السَّبْت، وبَيْنَ العذابِ والعذابِ شَهْرٌ، وهذا معنى قوله: آياتٍ مُفَصَّلاتٍ، على هذا التأويل، أي:
فصلَ بين بعضها وبَعْضٍ بزمانٍ تمتحنُ فيه أحوالهم، ويُنْظَرُ أيقبلون الحُجَّة والدليلَ، أم يستمرُّون على الخلاف والتقليد. انتهى.
وقوله عز وجل: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ/ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ... الآية: «الرّجز» : العذابُ، والظاهر من الآية أنَّ المراد بالرجْزِ هنا العذابُ المتقدِّم الذكْر من الطُّوفان والجراد وغيره.
وقال قوم: [إن] الرجْزَ هنا طاعون أنزله اللَّه بهم، واللَّه أعلم، وهذا يحتاجُ إلى سندٍ، وقولهم: بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لفظ يعمُّ جميع الوسائل بَيْنَ اللَّه وبَيْنَ موسى من طاعةٍ من موسى ونعمةٍ من اللَّه تبارك وتعالى، ويحتمل أنْ يكون ذلك منهم على جهَةِ القَسَمِ على موسَى، وقولُهم: لَئِنْ كَشَفْتَ أي: بدعائك، لَنُؤْمِنَنَّ وَلَنُرْسِلَنَّ قسمٌ وجوابُه، وهذا عهدٌ من فرعونَ وَمَلَئِهِ، وروي أنه لما انكشف العذابُ، قال فرعون لموسى: اذهب ببني إسرائيل حيْثُ شِئْتَ، فخالفه بعْضُ مَلَئِهِ، فرجع ونكث، و «إذا» هنا للمفاجأة، والأَجَلُ: يراد به غايةُ كُلِّ واحد منهم بما يخصُّه من الهلاكِ والموتِ كما تقول: أخَّرْتُ كذا إِلى وقْتٍ، وأنْتَ لا تريد وقْتاً بعينه، فاللفظ متضمِّن توعُّداً مَّا، وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أي: غافلين عما تضمَّنته الآيات من النجاة والهدى.
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 444) ، وابن كثير (2/ 242) ، والسيوطي (3/ 206) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.(3/70)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
وقوله تعالى: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا ...
الآية: الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ كناية عن بني إسرائيل، ومَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا.
قال الحسنُ وغيره: هي الشامُ «1» . وقالتْ فرقة: يريد الأرضَ كلَّها وهذا يتَّجه إِمَّا على المَجازِ لأنه ملَّكهم بلاداً كثيرة، وإِما على الحقيقة في أَنَّه ملك ذرِّيَّتهم، وهمْ سليمانُ بنُ دَاوُدٌ، ويترجَّح التأويل الأَول بوَصْف الأرض بأنها التي بَارَكَ فيها سبحانه.
وقوله سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى، أي: ما سبق لهم في علمه وكلامِهِ في الأزلِ من النَّجَاة من عدوِّهم، والظهور عليه قاله مجاهد «2» ، ويَعْرِشُونَ قال ابن عباس «3» ومجاهد «4» : معناه: يبنون.
قال ع «5» : رأيتُ للحسنِ البصريِّ رحمه اللَّه أنَّه احتجَّ بقوله سبحانه: وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ... إلى آخر الآية على أنه ينبغي أَلاَّ يخرج عن ملوك السُّوء، وإِنما ينبغي أنْ يُصْبَر عليهم فإِن اللَّه سبحانه «6» يدمِّرهم، ورأَيْتُ لغيره أنه إذا قابل الناس البلاء بمثله، وَكَّلَهُمُ اللَّهُ إلَيْه، وإِذا قابلوه بالصبر، وانتظارِ الفَرَجِ، أتى اللَّه بالفَرَج، ورُوِي هذا أيضا عن الحسن «7» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 141]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 43- 44) برقم: (15053) ، وذكره ابن عطية (2/ 446) ، وابن كثير (2/ 242) ، والسيوطي (3/ 208) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن عساكر.
(2) أخرجه الطبري (6/ 44) برقم: (15058) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 446) ، وابن كثير (2/ 242) ، والسيوطي (3/ 212) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(3) أخرجه الطبري (6/ 45) برقم: (15060) ، وذكره ابن عطية (2/ 447) ، وابن كثير (2/ 442) ، والسيوطي (3/ 212) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(4) أخرجه الطبري (6/ 45) برقم: (15061) ، وذكره ابن عطية (2/ 447) ، والبغوي (2/ 194) ، وابن كثير (2/ 242) ، والسيوطي (3/ 212) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 447) . [.....]
(6) ذكره ابن عطية (2/ 447) ، والسيوطي (3/ 212) ، وعزاه لابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(7) ذكره ابن عطية (2/ 447) .(3/71)
وقوله سبحانه: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ: أي: بَحْرَ القُلْزُم، فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ، قيل: هم الكَنْعَانِيُّونَ.
وقيل: هم مِنْ لَخْم وجُذام، والقَوْمُ فى كلام العرب: هم الرجَالُ خاصَّة يَعْكُفُونَ، العُكُوفُ: الملازمة عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ، قيل كانت بقراً.
وقال ابن جُرَيْج: كانت تماثيلَ بقرٍ من حجارةٍ وعيدانٍ ونحوها، وذلك كان أوَّل فتنةِ العِجْل، وقولهُم: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ، يظهر منه استحسانهم لمَا رَأَوْه من تلك الآلهة بجهلهم فأرادوا أنْ يكون ذلك في شَرْع موسى، وفي جملة ما يُتقرَّبُ به إِلى اللَّه، وإِلاَّ فبعيدٌ أن يقولوا لموسَى: اجعل لنا صنماً نُفْرِدُهُ بالعبادة، ونَكْفُر بربِّك وعلى هذا الذي قلت يقع التشابه الذي نصّه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قَوْلِ أَبي واقِدٍ اللِّيْثِّي اجعل لَنَا، يَا رَسُولَ اللَّه، ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذات أنواط «1» ، فأنكره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَر! قُلْتُمْ واللَّهَ كَمَا قَالَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ: لَتَّتبعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ ... »
الحديث «2» ، ولم يقصد أبو واقدٍ بمقالته فساداً، وقال بعضُ الناسَ كان ذلك من بني إسرائيل كفراً، ولفظةً «الإله» تقتضي ذلك، وهذا محتملٌ، وما ذكرتُهُ أولاً أصحُّ، واللَّه أعلم.
قلتُ: وقولهم: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى [طه: 88] ، وجواب موسى هنا يقوِّي الاحتمال الثاني، نعم: الَّذي يجب أن يعتقد أنَّ مِثْلَ هذه المقالاتِ إنما صدرت من
__________
(1) هي اسم شجرة بعينها كانت للمشركين ينوطون بها سلاحهم، أي: يعلقونه بها، ويعكفون حولها، فسألوه أن يجعل لهم مثلها، فنهاهم عن ذلك. وأنواط: جمع نوط، وهو مصدر سمي به المنوط.
ينظر: «النهاية» (5/ 128) .
(2) أخرجه الترمذي (4/ 475) كتاب «الفتن» باب: ما جاء لتركبن سنن من كان قبلكم، حديث (2180) ، وأحمد (5/ 218) ، والنسائي في التفسير (1/ 499- 500) ، والحميدي (848) ، والطيالسي (1346) ، وعبد الرزاق (20763) ، وأبو يعلى (3/ 30) برقم: (1441) ، وابن حبان (1835- موارد) ، وابن أبي عاصم في «السنة» (76) ، والطبراني (3290، 3294) كلهم من طريق سنان بن أبي سنان، عن أبي واقد الليثي به.
وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 213) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.(3/72)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
أشرارهم وقريبي العَهْد بالكُفْر، قال الشيخُ الحافظُ أبو القاسِمِ عَبْدُ الرحمن بْنُ عبْدِ اللَّهِ الخَثْعَمِيُّ ثم السُّهَيْليُّ ذكر النَّقَّاش في قوله تعالى: فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ أنهم كانوا مِنْ لَخْمٍ، وكانو يعبُدُون أصناماً على صور البقر، وأنَّ السامِريَّ كان أصله منهم، ولذلك نزع إِلى عبادة العجْلِ. انتهى، واللَّه أعلم، وهذا هو معنى ما تقدَّم من كلام ع «1» ، وقوله: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ، أي: مُهْلَكٌ، مُدَمَّر، رديء العاقبة، والتّبار: الهلاك، وإناء مُتَبَّرٌ، أي: مكسورٌ، وكسارته تِبْرٌ ومنه: تِبْرُ الذَّهَبِ لأنه كسارة، وقوله: مَّا هُمْ فِيهِ يعمّ جميع أحوالهم وباطِلٌ: معناه: فاسد ذاهب مضحملّ، وأَبْغِيكُمْ معناه: أطلبُ.
ثم عدَّد عليهم سبحانه في هذه الآية النِّعَمَ التي يجبُ من أجلها أَلاَّ يكفروا به، ولا يَرْغَبُوا في عبادة غيره، فقال: وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ... الآية، ويَسُومُونَكُمْ معنا: يحمِّلُونكم، ويكلِّفونكم، ومساوَمَةُ البيع تنظر إِلى هذا فإِنْ كلَّ واحد من المتساوِمَيْن يكلِّف صاحبه إِرادَتُه، ثم فَسَّرَ سوء العذاب بقوله: يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ ... الآية.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 145]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145)
وقوله سبحانه: وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ ... الآية: قال ابن عباس وغيره: الثلاثون ليلة هي شهر ذي القعدة، وأن العشر هي عَشْرُ ذي «2» الحِجَّة، وروي أن الثلاثين إِنما وعد بأن يصومَهَا، وأَنَّ مدة المناجاة هِيَ العَشْر، وحيث ورد أنَّ المواعدة أربعُونَ ليلةً، فذلك إِخبار بجملة الأمْر، وهو في هذه الآية إِخبار بتفصيله، والمعنى في قوله: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ: أنه خلق لَهُ إِدراكاً سَمِعَ به الكلام القائم بالذات القديم
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 448) .
(2) أخرجه الطبري (6/ 48) برقم: (15076) ، وذكره ابن عطية (2/ 449) ، وابن كثير (2/ 243) ، والسيوطي (3/ 214) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.(3/73)
الذي هو صفةُ ذاتٍ، وكلامُ اللَّه سبحانه لا يشبه كلامَ المخلوقين «1» ، وليسَ في جهة مِنَ الجهاتِ، وكما هو موجودٌ لا كالموجودات، ومعلومٌ لا كالمعلومات كذلك كلامه لا يُشْبِهُ الكلامَ الذي فيه علاماتُ الحدوثِ، وجَوابُ «لَمَّا» في قوله: قالَ، والمعنى أنَّه لمَّا كلَّمه اللَّه عزَّ وجلَّ، وخصَّه بهذه المرتبة، طَمَحَتْ همته إِلى رُتْبة الرؤْية، وتشوَّق إِلى ذلك، فسأل ربّه الرؤية، ورؤية الله عز وجلّ عند أهل السنة جائزةٌ عقْلاً لأنه من حيثُ هو موجودٌ تصحُّ رؤيته قالوا: لأن الرؤية للشَّيْءِ لا تتعلَّق بصفةٍ مِنْ صفاته أَكْثَرَ من الوُجُود، فموسى عليه السلام لم يسأَلْ ربَّه محالاً، وإِنما سأله جائزاً، وقوله سبحانه: لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ ... الآية: ليس بجواب مَنْ سأل محَالاً، و «لَنْ» تنفي الفَعْلَ المستقبَلَ، ولو بقينا مع هذا النفي بمجرده، لقضينا أنه لا يراه موسى أبداً، ولا في الآخرةِ، لكنْ ورد من جهة أخرى بالحديثِ المتواتر أنَّ أهل الإِيمانَ يَرَوْنَ اللَّه يوم القيامة، فموسى عليه السلام أحرَى برؤيته، قُلْتُ: وأيضاً قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] ، فهو نصّ في الرؤية بيّنه صلّى الله عليه وسلّم ففي «الترمذيُّ» عن ابن عُمَرَ، قال: قَالَ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم «إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة، وأكرمهم على الله من ينظر إلى وجهه غدوة وعشيّة» ، ثم
__________
(1) لا خلاف لأرباب الملل جميعا في كون الباري تعالى متكلما، وإنما الخلاف في معنى كلامه، وهل هو قديم أو حادث، وقد قام الدليل السمعي على إثبات الكلام لله تعالى، وهو ما نقل تواترا عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أنه تعالى أمر بكذا، ونهى عن كذا، وأخبر بكذا. وكل هذا من أقسام الكلام، وليس في إثبات الكلام للواجب تعالى بما نقل تواترا عن الأنبياء دور لأن ظهور المعجزة كاف في الدلالة على صدقهم في دعواهم النبوّة، وليس تصديقه تعالى لهم كلاما حتى يجيء الدور، بل تصديقه لهم بإظهار المعجزة على صدق دعواهم، سواء كانت المعجزة من جنس الكلام من حيث كونه معجزا، كالقرآن أو كانت شيئا آخر.
والأشاعرة يقولون: كلام الواجب وصف له، ووصف القديم قديم. ويريدون من «الكلام» المعنى النفسي.
فكلامه تعالى صفة أزلية قائمة بذاته تعالى منافية للسكوت والآفة كما في الخرس والطفولية، ليست من جنس الأصوات والحروف، هو بها أمر ناه. وتلك الصفة واحدة في ذاتها وإن اختلفت العبارات الدالة عليها كما إذا ذكر الله تعالى بألسنة مختلفة.
وخالفت الفرق جميعها الأشاعرة فيما ذكر، فقد اتفقوا على نفي كونه صفة نفسية. حيث قالوا: هو اللفظ المنتظم من الحروف المسموعة الدالة على المعاني المقصودة. وافترقت هذه الطوائف إلى ثلاثة فرق، وزعموا أنه لا معنى للكلام إلا المنتظم من الحروف المسموعة الدالة على المعاني المقصودة، وأن الكلام النفسي غير معقول.
ينظر: «تحقيق صفة الكلام» لشيخنا حافظ محمد مهدي.(3/74)
قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] «1» ، قال أبو عيسى: وقد روي هذا الحديث مِنْ غير وجه مرفوعاً، وموقوفاً. انتهى.
قال مجاهد وغيره: إن الله عز وجل قال له: يا موسى، لن تراني، ولكنّ سأتجلَّى للجَبَل، وهو أقوى منك، وأَشَدُّ فإِن استقر وأطاقَ الصبْرَ لهيبتي، فسَتُمْكِنُكَ أَنْتَ رؤيتي «2» .
قال ع «3» : فعلى هذا إِنما جعل اللَّه الجَبَل مثالاً، قلتُ: وقول ع «4» : ولو بَقِينَا مع هذا النفي بمجرده، لقضينا أنه لا يراه موسَى أبداً ولا في الآخرة، قولٌ مرجوحٌ لم يتفطَّن له رحمه اللَّه، والحقُّ الذي لا شَكَّ فيه أَنَّ «لن» لا تقتضي النفي المؤبّد «5» .
__________
(1) أخرجه الترمذي (5/ 431) كتاب «التفسير» باب: «ومن سورة القيامة» ، حديث (3330) ، والطبري في «تفسيره» (12/ 344) برقم: (35666) كلاهما من طريق إسرائيل عن ثوير عن عبد الله بن عمر به.
وقال الترمذي: هذا حديث غريب، وقد رواه غير واحد عن إسرائيل مثل هذا مرفوعا، ورواه عبد الملك بن أبجر، عن ثوير، عن ابن عمر من قوله، ولم يرفعه. اهـ.
قلت: بل رواه عبد الملك بن أبجر، عن ثوير، عن ابن عمر مرفوعا.
أخرجه الحاكم (2/ 509) من طريق عبد الملك به وقال: تابعه إسرائيل بن يونس، عن ثوير، عن ابن عمر.
وقال أيضا: وثوير بن أبي فاختة، وإن لم يخرجاه، فلم ينقم عليه غير التشيع.
وتعقبه الذهبي فقال: بل هو واهي الحديث. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (6/ 470) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والآجري في «الشريعة» ، والدارقطني في «الرؤية» ، وابن مردويه، واللالكائي في «السنة» .
(2) أخرجه الطبري (6/ 54) برقم: (15100) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 450) ، والسيوطي (3/ 221) ، وعزاه لعبد بن حميد.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 450) .
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 450) .
(5) لن: لا يلزم من نفيها التأبيد، وإن كان بعضهم فهم ذلك، حتّى إن ابن عطية قال: فلو بقينا على هذا النفي بمجرده لتضمن أن موسى لا يراه أبدا، ولا في الآخرة، لكن ورد من جهة أخرى الحديث المتواتر أن أهل الجنة يرونه، قلت: وعلى تقدير أنّ «لن» ليست مقتضية للتأبيد، فكلام ابن عطية وغيره ممن يقول: إنّ نفي المستقبل بعدها يعمّ جميع الأزمنة المستقبلة صحيح، لكن لمدرك آخر، وهو أن الفعل نكرة، والنكرة في سياق النفي تعمّ، وللبحث فيه مجال. والاستدراك في قوله: وَلكِنِ انْظُرْ واضح.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف اتصل الاستدراك في قوله: وَلكِنِ انْظُرْ؟ قلت: اتصل به على معنى أن النظر إليّ محال فلا تطلبه، ولكن اطلب نظرا آخر، وهو أن تنظر إلى الجبل. وهذا على رأيه من أن الرؤية محال مطلقا في الدنيا والآخرة.
ينظر: «الدر المصون» (3/ 338- 339) .(3/75)
قال بدْرُ الدين أبو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مالِكٍ/ في شرح التَّسْهِيلِ: «وَلَنْ» كغيرها من حروفِ النفي في جواز كون استقبال المنفيِّ بها منقَطعاً عنْدَ حَدٍّ وغَيْرَ منقطعٍ، وذكر الزمخشريُّ في «أُنْمُوذجِهِ» أَنَّ «لَنْ» لتأبيدِ النفْي، وحاملُهُ على ذلك اعتقادُهُ أنَّ اللَّه تعالى لا يُرَى، وهو اعتقادٌ باطلٌ لصحَّةَ ثبوتِ الرؤية عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واستدل على عدم اختصاصها بالتأبيد بمجيء استقبال المنْفِيِّ بها مُغَيًّا إِلى غايةٍ ينتهي بانتهائها، كما في قوله تعالى: قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى [طه: 91] ، وهو واضح. انتهى، ونحوه لابْنِ هشامٍ، ولفظه: ولا تفيدُ «لَنْ» توكيدَ المنفيِّ خلافاً للزمخشريِّ في «كشافه» ، ولا تأْبِيدَهُ، خلافاً له في «أنموذجه» ، وكلاهما دعوى بلا دليلٍ قيل: ولو كانَتْ للتأبيدِ، لم يقيد منفيُّها ب «اليوْم» في فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم: 26] ولكان ذكْرُهُ «الأَبَدَ» في وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً [البقرة: 95] تَكْراراً، والأصل عدمه. انتهى من «المغني» .
وقوله سبحانه: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ: التجلِّي: هو الظهورُ منْ غير تشبيهٍ ولا تكييفٍ، وقوله: جَعَلَهُ دَكًّا، المعنى: جعله أرضاً دكًّا، يقال: ناقةٌ دَكَّاء، أَيْ: لا سنامَ لها، وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً، أي: مغشيًّا عليه، قاله جماعة من المفسِّرين.
قال ص: وَخَرَّ معناه سقَطَ، وقوله: سُبْحانَكَ، أي: تنزيهاً لك كذا فسَّره النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقوله: تُبْتُ إِلَيْكَ، معناه: منْ أن أسألك الرُّؤْية في الدنيا، وأنْتَ لا تبيحها فيها.
قال ع «1» : ويحتمل عنْدي أنه لفظ قاله عليه السلام لشدَّة هَوْل المَطْلَعَ، ولم يعن التَّوْبَة مِنْ شيء معيَّن، ولكنَّه لفظٌ لائقٌ بذلك المقامِ، والذي يتحرَّز منه أَهْلُ السنة أنْ تكون تَوْبَةً من سؤال المُحَال كما زعَمَتِ المعتزلةُ، وقوله: وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ، أي:
مِنْ قومه قاله ابن عباس «2» وغيره، أَو مِنْ أَهْلِ زمانه إِنْ كان الكُفْر قد طَبَّق الأرض، أو أولُ المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا قاله أبو العالية «3» .
وقوله سبحانه: فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ فيه تأديبٌ، وتقنيعٌ، وحملٌ على جادَّة السلامة، ومثالٌ لكلِّ أحدٍ في حاله، فإِن جميع النّعم من عند الله سبحانه بمقدار،
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 452) .
(2) أخرجه الطبري (6/ 56) برقم: (15110) ، وبرقم: (15111) وذكره ابن عطية (2/ 452) ، وابن كثير (2/ 245) ، والسيوطي (3/ 222) ، وعزاه لابن جرير، وابن مردويه، والحاكم وصححه. [.....]
(3) ذكره ابن عطية (2/ 452) ، وابن كثير (2/ 245) ، والسيوطي (3/ 223) ، وعزاه لعبد بن حميد، وأبي الشيخ.(3/76)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
وكُلُّ الأمور بِمَرْأًى منه ومَسْمَعٍ، وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، أي: مِنْ كل شيءٍ يَنْفَعُ في معنى الشرْع، وقوله: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ مثُلُه، وقوله: بِقُوَّةٍ، أي: بجدٍّ وصبرٍ عليها قاله ابن عباس «1» ، وقوله: بِأَحْسَنِها يحتملُ معنيين.
أحدهما: التفضيلُ كما إِذا عرض مثلاً مباحانِ كالعفو والقِصَاصِ، فيأخذون بالأحْسنِ منهما.
والمعنى الثاني: يأخذون بَحَسن وَصْفِ الشريعة بجملتها كما تقول: اللَّه أَكْبَرُ، دون مقايسة.
وقوله سبحانه: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ، الرؤية هنا: رؤيةُ عَيْن هذا هو الأظهر إِلا أن المعنى يتضمَّن الوعد للمؤمنين، والوعِيدَ للفاسقين، ودارٌ الفاسقين: قيل: هي مِصْرُ، والمراد آل فرعون، وقيل: الشام، والمراد العَمَالِقَةُ وقيل: جَهَنَّم، والمرادُ الكَفَرَةُ بموسى، وقيل غير هذا ممَّا يفتقرُ إِلى صحة إِسناد.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 146 الى 147]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)
وقوله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ ... الآية: المعنى:
سأَمْنَعُ وأصُدُّ، قال سفيان بن عُيَيْنَة: الآياتُ هنا كلُّ كتابٍ منزّل «2» .
قال ع «3» : والمعنى عن فَهْمِها وتصدِيقها، وقال ابن جُرَيْج: الآياتُ: العلامات المنصوبة الدالَّة على الوحدانية، والمعنى: عن النظر فيها، والتفكُّر والاستدلال بها، واللفظُ يعمُّ الوجْهَيْن «4» /، والمتكبِّرون في الأرض بغير الحَقِّ: هم الكُفَّار، قُلْتُ: ويدخل في هذا
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 58) برقم: (15122) ، وذكره ابن عطية (2/ 452) ، والسيوطي (3/ 233) ، وعزاه لابن جرير.
(2) أخرجه الطبري (6/ 60) برقم: (15132) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 454) ، والبغوي (2/ 200) بنحوه، وابن كثير (2/ 247) ، والسيوطي (3/ 234) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 454) .
(4) أخرجه الطبري (6/ 61) برقم: (15133) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 454) ، والبغوي (2/ 200) ، والسيوطي (3/ 234) ، وعزاه لابن المنذر، وأبي الشيخ.(3/77)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
المعنى مَنْ تشبَّهَ بهم من عُصَاة المؤمنين، والمعنى في هذه الآية: سأجْعَلُ الصَّرْف عن الآيات عقوبةً للمتكبِّرين على تكبُّرهم، وقوله: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُوا بِها حَتْمٌ من اللَّه على الطائفةِ التي قَدَّر عليهم أَلاَّ يؤمنوا، وقوله: ذلِكَ: إِشارة إِلى الصَّرْف المتقدِّم.
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ ... الآية: هذه الآية مؤكَّدة للتي قبلها، وفيها تهديد.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 151]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
وقوله سبحانه: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ:
الخُوَارُ: صَوْتُ البقر، وقرأَتْ فرقة: «لَهُ جُؤَارٌ» - بالجيم-، أيْ: صِيَاحٌ، ثم بيَّن سبحانه سُوءَ فِطَرهم، وقرَّر فساد اعتقادهم بقوله: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ ... الآية: وقوله:
وَكانُوا ظالِمِينَ: إِخبارٌ عن جميع أحوالهم ماضياً، وحالاً، ومستقبلاً، وقد مَرَّ في «البقرة» قصَّة العِجْلِ فأغنى عن إِعادته.
قال أبو عُبَيْدة: يقال لمن نَدِمَ على أمْرٍ، وعَجَز عنه: سُقِطَ في يَدِهِ، وقولُ بني إِسرائيل: لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا، إِنما كان بَعْدَ رجوعِ موسى، وتَغَيُّرِهِ عليهم، ورؤيتِهِمْ أنهم قد خَرَجُوا من الدِّين، ووقعوا في الكُفْر.
وقوله سبحانه: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً، يريد: رجَعَ من المُنَاجَاة، والأَسَفُ: قد يكون بمعنى الغَضَبِ الشديدِ، وأكثرُ ما يكونُ بمعنى الحُزْن، والمعنيانِ مترتبان هنا.
وعبارةُ ص: غَضْبانَ: صفةُ مبالغةٍ، والغَضَبُ غليان القلب بسبب ما يؤلم وأَسِفاً: مِنْ أَسِفَ، فهو أَسِفٌ، كَفَرِقَ فهو فَرِقٌ، يدل على ثبوت الوصف، ولو ذُهِبَ به مَذْهَبُ الزمان، لقيل: آسِف على وزن فَاعِل، والأَسَفُ: الحزنُ. انتهى.
وقوله تعالى: أَعَجِلْتُمْ، معناه: أسابقتم قضاء رَبِّكُم، واستعجلتم إِتْيَانِي قبل الوقت الذي قدر به، قال سعيد بن جُبَيْر، عن ابن عباس: كان سببُ إِلقائه الأَلْوَاحَ- غضبه على(3/78)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
قومه في عبادتهم العِجْل، وَغَضَبَهُ على أخيه في إِهمال أَمرهم «1» .
قال ابن عباس: لمَّا ألقاها، تكسَّرت، فَرُفِعَ أكثَرُها الذي فيه تفصيلُ كلِّ شيء، وبقي الذي في نُسْخَتِهِ الهدى والرحمة، وهو الذي أخذ «2» بعد ذلك، قال ابن عبَّاس: كانت الألواح مِنْ زُمُرُّدِ، وقيل: من ياقوتٍ، وقيل: من زَبَرْجَدٍ، وقيل: من خشبٍ، واللَّه أعلم «3» .
وقوله: ابْنَ أُمَّ استعطافٌ برحمِ الأمِّ إذ هو ألْصَقُ القراباتِ، وقوله: كادُوا، معناه: قاربوا، ولم يَفْعَلُوا، وقوله: وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، يريد: عَبَدَةَ العجْلِ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 152 الى 155]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155)
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وقد وقع ذلك النَّيْلُ بهم في عَهْدِ موسى عليه السلام، فالغضبُ والذِّلَّة هو أمرهم بقَتْل أنفسهم، وقال بعض المفسِّرين: الذِّلَّة: الجِزْيَة، ووَجْه هذا القول أن الغضب والذِّلَّة بقيتْ في عَقِبِ هؤلاء، وقال ابن جُرَيْج: الإِشارةُ إلى من مات من عَبَدة العجْل قبل التوبة بقَتْل الأنْفُس، وإِلى مَنْ فَرَّ، فلم يكُنْ حاضراً وقت القَتْلِ «4» ، والغَضَبُ من اللَّه عزَّ وجلَّ، إِن أخذ بمعنى الإِرادة، فهو صفةُ ذات، وإِن أُخِذ بمعنى العقوبةِ وإِحلالِ النِّقْمة، فهو صفةُ فِعْلٍ، وقوله: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ، المرادُ أَولاً أولئك الَّذين افتَرْوا عَلَى الله سبحانه
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 65) برقم: (15138) ، وذكره ابن عطية (2/ 457) .
(2) أخرجه الطبري (6/ 67) برقم: (15147) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 457) ، والسيوطي (3/ 235) ، وعزاه لأبي الشيخ.
(3) أخرجه الطبري (6/ 67) برقم: (15147) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 452) ، والبغوي (2/ 199) ، والسيوطي (3/ 225) ، وعزاه لابن أبي حاتم.
(4) أخرجه الطبري (6/ 70- 71) برقم: (15157) ، وذكره ابن عطية (2/ 458) .(3/79)
في عبَادة العِجْل، وتكونُ قوَّة اللفظ تَعُمُّ كُلَّ مفترٍ إلى يوم القيامة، وقد قال سفيان «1» بن عُيَيْنَة وأبو قِلاَبة «2» وغيرهما/: كلُّ صاحب بدعة أو فِرْيَة، ذليلٌ واستدلوا بالآية.
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ... الآية تضمَّنت وعداً بأن اللَّه سبحانه يغفرُ للتائبين وقرأ معاوية بنُ قُرَّة «3» «وَلَمَّا سَكَنَ عَنْ مُوسَى الغَضَبُ» .
قال أبو حَيَّان «4» : واللام في لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ مُقَوِّية لوصولِ الفعْلِ، وهو يَرْهَبُونَ إلى مفعوله المتقدِّم.
وقال الكوفيُّون: زائدةٌ «5» .
وقال الأخفشُ: لام المفعول له، أي: لأجْلِ ربِّهم. انتهى.
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 72) برقم: (15161) ، وذكره ابن عطية (2/ 458) ، والبغوي (2/ 202) ، وابن كثير (2/ 248) ، والسيوطي (3/ 236) .
(2) أخرجه الطبري (6/ 71) برقم: (15159) ، وذكره ابن عطية (2/ 458) ، والبغوي (2/ 202) ، وابن كثير (2/ 248) بنحوه، والسيوطي (3/ 236) ، وعزاه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(3) معاوية بن قرّة بن إياس المزني أبو إياس البصري. عن علي مرسلا، وابن عباس، وابن عمر. وعنه قتادة وشعبة وأبو عوانة وخلق، وثقه ابن معين وأبو حاتم.
قال خليفة: مات سنة ثلاثة عشرة ومائة، ومولده يوم الجمل. ينظر: «الخلاصة» (3/ 41- 42) ، «التقريب» : (2/ 261) ، «الثقات» (5/ 412) .
(4) ينظر: «البحر المحيط» (4/ 396) .
(5) وفي اللام أقوال:
أحدها أن اللام مقوية للفعل، لأنه لما تقدم معموله ضعف فقوي باللام، كقوله: إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ اللام تكون مقوية حيث كان العامل مؤخرا، أو فرعا، نحو: فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ، ولا تزاد في غير هذين إلا ضرورة عند بعضهم، كقوله:
فلمّا أن توافقنا قليلا ... أنخنا للكلاكل فارتمينا
أو في قليل من الكلام عند آخرين، كقوله تعالى: رَدِفَ لَكُمْ.
والثاني: أن اللام لام العلة، وعلى هذا فمفعول «يرهبون» محذوف، تقديره: يرهبون عقابه لأجله، وهذا مذهب الأخفش.
الثالث: أنها متعلقة بمصدر محذوف، تقديره: الذين هم رهبتهم لربهم، وهو قول المبرد، وهذا غير جار على قواعد البصريين، لأنه يلزم منه حذف المصدر، وإبقاء معموله، وهو ممتنع إلا في شعر.
وأيضا فهو تقديره مخرج للكلام عن وجه فصاحته.
الرابع: أنها متعلقة بفعل مقدر أيضا، تقديره: يخشعون لربهم، ذكره أبو البقاء، وهو أولى مما قبله.
ينظر: «الدر المصون» (3/ 350) . [.....](3/80)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
قلْتُ: قال ابنُ هِشَامٍ في «المُغْني» ولام التقْويَةِ هي المَزِيدَةُ لتقويةٍ عاملٍ ضَعُفَ إِما لتأخير نحو: لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ، وإِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف: 43] أو لكَوْنِهِ فرعاً في العمل نحو: مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ [البقرة: 91] فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [البروج:
16] ، وقد اجتمع التأخيرُ والفرعيةُ في: وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ [الأنبياء: 78] . انتهى.
وقوله: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ ... الآية: قال الفَخْرُ»
: قال جماعة النحوِّيين:
معناه: واختار موسى مِنْ قومه، فحذف «مِنْ» ، يقال: اخترت مِنَ الرجالِ زيْداً، واخترْتُ الرجالَ زَيْداً. انتهى.
قال ع «2» : معنى هذه الآية أَن موسى عليه السلام اختار مِنْ قومه هذه العِدَّة لَيَذْهَبَ بهم إِلى مَوْضِعِ عبادةٍ وابتهالٍ ودعاءٍ، فيكون منه ومنهم اعتذار إِلى اللَّه سبحانه مِنْ خطإِ بني إِسرائيل في عبادةِ العِجْلِ، وقد تقدَّم في «سورة البقرة» [البقرة: 51] قصصهم، قالتْ فرقة من العلماء: إِنَّ موسى عليه السلام لمَّا أعلمه اللَّه سبحانه بعبادة بني إِسرائيل العِجْلَ، وبصفته، قالَ موسى: أيْ ربِّ، ومَنْ اختاره؟ قَالَ: أنا، قال موسى: فأنْتَ، يا ربِّ، أضْلَلْتهُمْ، إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ أيْ: إِنَّ الأمور بيدك تفْعلُ ما تريد.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 156 الى 157]
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
وقوله سبحانه: وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً ... الآية: اكْتُبْ: معناه:
أَثْبتْ واقض، والكَتْب: مستعمل في كلّ ما يخلّد، وحَسَنَةً: لفظ عامٌّ في كل ما يحسن في الدنيا من عاقبة وطاعة للَّه سبحانه، وغَيْرِ ذلك، وحَسَنَةُ الآخرةِ: الجَنَّة، لا حَسَنَةَ دونها، ولا مرمى وراءها، وهُدْنا- بضم الهاء-: معناه: تُبْنَا.
وقوله سبحانه: قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ، يحتمل أن يريد ب «العذاب»
__________
(1) ينظر: «تفسير الرازي» (15/ 15) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 459) .(3/81)
الرجفةَ التي نزلَتْ بالقوم، ثم أخبر سبحانه عن رحمته، ويحتملُ وهو الأظهر: أن الكلام قصد به الخَبَرُ عن عذابه، وعن رحمته، وتصريف ذلك في خليقته كما يشاء سبحانه، ويندرجُ في عمومِ العذابِ أصحابُ الرجفة، وقرأ الحسنُ بنُ أبي الحسن، وطَاوُسٌ، وعَمْرُو «1» بن فائدٍ: «مَنْ أَسَاءَ» «2» من الإِساءة، ولا تعلُّق فيه للمعتزلة، وأطنب القُرَّاء في التحفُّظ من هذه القراءَةِ، وَحَمَلَهُمْ على ذلك شُحُّهم «3» على الدِّين.
وقوله سبحانه: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، قال بعض العلماء: هو عمومٌ في الرحمة، وخصوصٌ في قوله: كُلَّ شَيْءٍ، والمراد: مَنْ قد سبق في عِلْم اللَّه أن يرحمهم، وقوله سبحانه: فَسَأَكْتُبُها، أي: أقدِّرها وأقضيها.
وقال نَوْفٌ البِكَالِيُّ «4» : إِن موسى عليه السلام قال: يا رَبِّ، جعلْتَ وِفَادَتِي لأمَّة محمَّد عليه السلام، وقوله: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ: الظاهر: أنها الزكاةُ المختصَّة بالمالِ، وروي عن ابن عباس أن المعنى: يؤتون الأعمالَ التي يزكُّون بها أنفسهم «5» .
وقوله سبحانه: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ... الآية: هذه ألفاظٌ أخرجَت
__________
(1) عمرو بن فائد، أبو علي الأسواري التميمي: معتزلي قدري، من القراء القصاص، من أهل البصرة، كان منقطعا إلى أميرها محمد بن سليمان، أخذ عن عمرو بن عبيد، وله معه مناظرات، وكان متروك الحديث، ليس بثقة، ولا يكتب حديثه، وقيل: له «تفسير» كبير.
قال ابن حجر: مات بعد المائتين بيسير.
ينظر: ترجمته في «الأعلام» (5/ 83) (540) .
(2) وقد حسنها أبو الفتح على مذهبه من الاعتزال.
ينظر: «المحتسب» (1/ 261) ، و «الشواذ» (51) ، و «الكشاف» (2/ 165) و «المحرر الوجيز» (2/ 461) ، و «البحر المحيط» (4/ 400) ، وزاد أبو حيان نسبتها إلى زيد بن علي، ثم قال: وقال أبو عمرو الداني: لا تصح هذه القراءة عن الحسن وطاوس، وعمرو بن فائد رجل سوء، وقرأ بها سفيان بن عيينة مرة واستحسنها، فقام إليه عبد الرحمن المقرئ وصاح به، وأسمعه، فقال سفيان: لم أدر، ولم أفطن لما يقول أهل البدع.
ينظر: «الدر المصون» (3/ 353) .
(3) الشّحّ في الأصل هو: البخل، وتشاحوا في الأمر وعليه: شح بعضهم على بعض، وتبادروا إليه حذر فوته، وكان المعنى هنا مأخوذ من الحرص على المحافظة على أساس الدين.
ينظر: «لسان العرب» (2205) .
(4) نوف بن فضالة الحميري البكالي: إمام أهل دمشق في عصره، من رجال الحديث، ورد ذكره في «الصحيحين» وكان راويا للقصص، وهو ابن زوجة كعب الأحبار، ذكره البخاري في فصل: من مات ما بين التسعين إلى المائة.
ينظر: ترجمته في «الأعلام» (8/ 54) (511) .
(5) أخرجه الطبري (6/ 82) برقم: (15224) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 461) .(3/82)
اليهودَ والنصارى مِنَ الاشتراك الذي يظهر في قوله: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، وخلُصَتْ هذه العِدَةُ لأمة محمّد/ صلّى الله عليه وسلّم، قاله ابن عباس «1» وغيره. قلْتُ: وهذه الآيةُ الكريمة مُعْلِمَةٌ بشَرَف هذه الأمَّة على العُمُوم في كلِّ مَنْ آمَنَ باللَّه تعالى، وأقرَّ برسالة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثم هم يتفاوتون بعدُ في الشرف بحَسَب تفاوتهم في حقيقة الاتباعية للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، قال الغَزَّالِيُّ رحمه اللَّه في «الإِحياء» : وإِنما أمّته صلّى الله عليه وسلّم مَنِ اتبعه، وما اتبعه إِلاَّ مَنْ أعرض عن الدنيا، وأَقْبَلَ على الآخرةِ، فإِنه عليه السلام ما دَعَا إِلاَّ إِلى اللَّهِ، واليَوْمِ الآخِرِ، وما صَرَفَ إِلاَّ عن الدنيا والحظوظِ العاجلةِ، فبقدْرِ ما تُعْرِضُ عن الدنيا، وتُقْبِلُ على الآخرة، تسلك سبيله الذي سلكه صلّى الله عليه وسلّم، وبقَدْرِ ما سَلَكْتَ سبيله، فقد اتبعته، وبقَدْر ما اتبعتَهُ، صِرْتَ من أمته، وبقَدْرِ ما أَقبلْتَ على الدنيا، عَدَلْتَ عن سبيله، ورغبْتَ عَنْ متابعته، والتحقت بالذين قال اللَّه تعالى فيهم: فَأَمَّا مَنْ طَغى وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى [النازعات: 37، 38، 39] . انتهى، فإن أردتّ اتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الحقيقة، واقتفاء أثره، فابحث عن سيرته وخُلُقه في كتب الحديث والتفسير.
قال ابنُ القَطَّان في تصنيفه الذي صنَّفه في «الآيات والمعجزات» : والقول الوجيز في زُهْدِهِ وعبادتِهِ وَتَوَاضُعِهِ وسائر حلاه ومعاليه صلّى الله عليه وسلّم: أنه مَلَكَ مِنْ أقْصَى اليمن إلى صحراء عمان إِلى أقصى الحجاز، ثم تُوُفِّيَ عليه السلام، وعليه دَيْنٌ، ودِرْعُهِ مَرْهونةٌ في طَعَام لأهله، ولم يتركْ ديناراً ولا درهماً، ولا شَيَّد قَصْراً، ولا غَرَس نَخْلاً، ولا شَقَّقَ نَهْراً، وكان يأكل على الأرْضِ ويجلسُ على الأرض، ويَلْبَسُ العَبَاءة، ويجالسُ المَساكين، ويَمْشِي في الأسواق، ويتوسَّد يَدُه، ويلعقُ أصابعه، ويُرقِّع ثوبه، ويَخْصِفُ نَعْلَه، ويُصْلِح خُصَّه، ويمهنُ لأهله، ولا يأكل متْكِئاً، ويقول: «أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ العَبْد» ، ويقتصُّ من نفْسه، ولا يرى ضاحكاً مِلْء فِيهِ ولو دُعِيَ إِلى ذراعٍ، لأجاب، ولو أُهْدِيَ إِليه كُرَاعٌ لَقِبل، لا يأكلُ وحده، ولا يَضْرِبُ عبده، ولا يمنعُ رفْده ولا ضَرَبَ قطُّ بيدِهِ إِلاَّ في سَبِيل اللَّه، وقام للَّه حتَّى تَوَرَّمَتْ قدماه، فقيل له: أتَفْعَلُ هذا وقد غَفَرَ اللَّه لك مَا تَقدَّم من ذنبك وما تأخَّرَ؟ فقال: «أفَلاَ أَكُونُ عَبْداً شَكُوراً» ، وكان يُسْمَعُ لجوفه أزير كأزيز المِرْجَلِ «2» من البكاءِ إِذا قام بالليل صلّى الله عليه وسلّم وعلى آله وأتباعه صلاةً دائمةً إلى يوم القيامة. انتهى.
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 83) برقم: (15225) ، وبرقم: (15226) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 462) ، والسيوطي (3/ 241) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(2) المرجل: القدر من الحجارة والنّحاس. مذكر.
ينظر: «لسان العرب» (1601) .(3/83)
وقال «1» الفَخْر: قوله تعالى: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ ... الآية: قال بعضهم:
الإِشارة بذلك إِلى مَنْ تقدَّم ذكْرُه من بني إِسرائيل، والمعنى: يتبعونه باعتقاد نبوَّته من حيث وَجَدُوا صفتَهُ في التوراة، وسيجدونه مكتوباً في الإِنجيل.
وقال بعضهم: بل المرادُ مَنْ لحق مِنْ بني إِسرائيل أيام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فبيَّن تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا تكتب لهم رحمةُ الآخرة إِلاّ إذا اتبعوا النبيَّ الأُميُّ.
قال الفخْر «2» : وهذا القول أقربُ. انتهى. وقوله: يَجِدُونَهُ، أي: يجدون صفة نبيِّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم ونعته ففي «البخاريِّ» وغيره، عن عبد اللَّه بن عمرو أنَّ في التوراة مِنْ صفة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «يا أيّها النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً/ وَنَذِيراً وَحِرْزاً لِلأُمِيِّيِّن، أنْتَ عَبْدِي وَرَسُولي، سَمَّيْتُكَ المُتَوَكِّلَ، لَيْسَ بِفَظٍّ، وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سخَّاب «3» في الأَسْوَاق، وَلاَ يَجْزي بالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَلَنْ أَقْبِضَهُ حتى أُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاء بأنْ يَقُولُوا: لاَ إله إِلاَّ اللَّهُ، فَنُقِيمُ بِهِ قُلُوباً غُلْفاً، وأَذَاناً صُمًّا، وَأَعْيُناً عُمْياً» ، وفي «البخاريِّ» :
«فَيَفْتَحُ بِهِ عُيُونَاً عُمْياً، وآذاناً صُمًّا، وقُلُوباً غُلْفاً «4» » ، ونصَّ كعب الأحبار نحو هذه الألفاظ إِلاَّ أنه قال: «قُلُوباً غُلُوفاً، وآذناً صُمُوماً» .
وقوله سبحانه: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ... الآية: يحتملُ أن يكون ابتداء كلامٍ وُصِفَ به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويحتملُ أن يكون متعلِّقاً ب «يجدونه» في موضع الحال على تجوُّزٍ، أي:
يجدونه في التوراةِ آمراً بشرط وجوده، والمعروف: ما عُرِفَ بالشرع، وكلُّ معروف من جهة المروءة، فهو معروف بالشرع، فقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «بعثت لأتمّم محاسن الأخلاق» «5» والْمُنْكَرِ: مقابله، والطَّيِّباتِ عند مالك: هي المحلّلات، والْخَبائِثَ هي المحرَّمات، وكذلك قال ابن عباس، والإِصْرُ الثّقل «6» ، وبه فسّر هنا قتادة «7» وغيره،
__________
(1) ينظر: «تفسير الرازي» (15/ 20) .
(2) ينظر: «تفسير الرازي» (15/ 20) .
(3) السّخب والصّخب: الصياح.
ينظر: «النهاية» (2/ 349) .
(4) تقدم تخريجه.
(5) تقدم تخريجه. [.....]
(6) أخرجه الطبري (6/ 85- 86) برقم: (15241) بلفظ: «عهدهم» ، وبرقم: (15247) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 463) ، والبغوي (2/ 206) ، والسيوطي (3/ 248) .
(7) أخرجه الطبري (6/ 86) برقم: (15248) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 4630) ، والبغوي (2/ 206) ، والسيوطي بنحوه (3/ 248) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وأبي الشيخ.(3/84)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
والإِصْر أيضاً: العَهْد، وبه فسر ابنُ عباس وغيره «1» ، وقد جَمَعَتْ هذه الآيةُ المعنيين فإِن بني إِسرائيل قد كان أخذ عليهم العَهْدُ بأن يقوموا بأعمال ثقال، فَوَضَعَ عنهم نبيُّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقال ابن جُبيْر: الإِصْر: شدَّة العبادة «2» ، وقرأ ابن عامر «3» : «آصارَهُمْ» بالجمع فمَنْ وحَّد «الإصر» فإنما هو اسمُ جنْس عِنده، يراد به الجمعُ، وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ عبارةٌ مستعارَةٌ أيضاً لتلك الأثقال، كَقَطْعِ الجِلْدِ من أثر البَوْلِ، وأن لا ديةَ، ولا بدَّ من قَتْل القاتل، إلى غير ذلك، هذا قول جمهور المفسِّرين، وقالَ ابن زَيْدٍ: إنما المراد هنا ب الْأَغْلالَ قولُ اللَّه عزَّ وجلَّ في اليهود: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة: 64] ، فمنْ آمن بنبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، زالَتْ عنه الدعوةُ، وتغليلها «4» ، ومعنى عَزَّرُوهُ: أي: وقَّروه، فالتعْزيرُ والنصْرُ: مشاهدةٌ خاصَّة للصحابة، واتباع النور: يشترك فيه معهم المؤمنون إلى يوم القيامة، والنُّورُ: كنايةٌ عن جُمْلة الشرع، وشَبَّه الشرعَ والهدى بالنور، إِذ القلوبُ تستضيء به كما يستضيء البصر بالنّور.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 158 الى 160]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)
وقوله سبحانه: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً هذا أمر من الله
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 85) برقم: (15241) ، وذكره ابن عطية (2/ 463) ، والسيوطي (3/ 248) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم وأبي الشيخ.
(2) ذكره ابن عطية (2/ 463) ، والسيوطي (3/ 248) ، وعزاه لابن أبي حاتم.
(3) وحجته أنه لم يختلف في جمع «الأغلال» ، وهي نسق على الإصر، وحجة الباقين قوله تعالى: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً [البقرة: 286] ، وقوله سبحانه: وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران: 81] .
ينظر: «السبعة» (295) ، و «الحجة» (4/ 93) ، و «إعراب القراءات» (1/ 210) ، و «حجة القراءات» (298) ، و «إتحاف» (2/ 65) ، و «معاني القراءات» (1/ 425) ، و «شرح شعلة» (397- 398) ، و «شرح الطيبة» (4/ 31) و «العنوان» (98) .
(4) ذكره ابن عطية (2/ 464) .(3/85)
سبحانه لنبيِّه بإشهار الدعوة العامَّة، وهذه من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم من بين سائر الرسل فإنه صلّى الله عليه وسلّم بُعِثَ إِلى الناس كافَّة، وإِلى الجنِّ، وكلُّ نبيٍّ إِنما بعث إِلى فرقة دون العُمُوم.
وقوله سبحانه: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ... الآية: حَضٌّ على اتباع نبينا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وقوله: الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ، أيْ: يصدق باللَّه وكلماته، والكلماتُ هنا: الآياتُ المنزلة مِنْ عند الله كالتوراة والإنجيل، وقوله: وَاتَّبِعُوهُ لفظ عامٌّ يدخل تحته جميعُ إلزامات الشريعة، جعلنا اللَّه مِنْ متَّبعيه على ما يلزم بمنِّه ورحمته.
قُلْتُ: فإِن أردتَّ الفوْزَ أيُّها الأخ، فعليك باتباع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتعظيمِ شريعته، وتعظيم جَمِيعِ أسبابه.
قال عِيَاضٌ: ومن إعظامه صلّى الله عليه وسلّم وإِكبارهِ إِعظام جميع أَسبابه وإِكْرَامُ مشاهده وأَمْكِنَتِهِ، ومعاهِدِهِ، وما لَمَسَهُ عليه السلام أَوْ عُرِفَ به، حُدِّثْتُ أن أبا الفَضْل الجوهري، لمَّا وَرَدَ المدينةَ زائراً، وقَرُبَ من بيوتها، ترجَّل، ومشى باكياً منشداً: [الطويل]
وَلَمَّا رَأَيْنَا رَسْمَ مَنْ لَمْ يَدَعْ لَنَا ... فُؤَاداً لِعِرْفَانِ/ الرُّسُومَ «1» وَلاَ لُبَّا «2»
نَزَلْنَا عَنِ الأَكْوَارِ «3» نَمْشِي كَرَامَةً ... لِمَنْ بَانَ عَنْهُ أَنْ نَلُمَّ بِهِ رَكْبَا
وحُكِيَ عن بعض المريدين أنه لما أشْرَفَ على مدينة الرسول عليه السلام، أنشأ يقُولُ: [الكامل]
رُفِعَ الحِجَابُ «4» لَنَا فَلاَحَ لِنَاظِرِي ... قَمَرٌ تَقَطَّعُ دُونَهُ الأَوْهَامُ «5»
وَإِذَا المَطِيُّ «6» بِنَا بَلَغْنَ محمّدا ... فظهورهنّ «7» على الرّجال حرام
__________
(1) الرسم: آثار الديار الدارسة، والمراد آثاره صلّى الله عليه وسلّم في معاهده ومساكنه، والفؤاد: القلب، والعرفان:
المعرفة، واللّب: العقل.
(2) الأبيات للمتنبي (1/ 56) ، ينظر: الأبيات في «الشفا» ص: (621) .
(3) الأكوار: جمع كور، وهو للإبل بمنزلة السرج للفرس، بان: بعد، نلمّ: نأتيه لزيارته، والإلمام: الإتيان قليلا.
(4) المراد برفع الحجاب في الشعر: رفع ستائر أبواب الملوك والعظام، وهو هنا، بمعنى انقضاء المسافة، والقرب من المدينة، والقمر: الممدوح، وتقطع: تضمحل.
(5) الأبيات لأبي نواس في مدح محمد الأمين. ينظر: «ديوانه» ص: (408) ، وتنظر الأبيات في: «الشفا» (622) .
(6) المطيّ: جمع مطية: ناقة تمتطى وتركب، ولاح: بدا وظهر، دونه: قريبا منه.
(7) فظهورهن على الرجال حرام، أي: إذا أوصلتهم لمقاصدهم، كانت لها حرمة تقتضي رعايتها وراحتها،(3/86)
قرّبننا من خير من وطئ الحَصَى «1» ... فَلَهَا عَلَيْنَا حُرْمَةٌ وَذِمَامُ
وحُكِيَ عن بعض المشايِخِ أنه حجَّ ماشياً، فقيل له في ذلك، فقال: العَبْدُ الآبِقُ يأتي إلى بيت مولاه راكباً؟ لو قَدْرَتُ أَنْ أَمْشِيَ على رأسِي، ما مَشَيْتُ على قدَمي.
قال عياضَ: وجديرٌ لمواطَنَ عُمِرَتْ بالوحْيِ، والتنزيل وتردَّد فيها جبريلُ وميكائيل، وعَرَجَتْ منها الملائكةُ والرُّوح وضجَّتْ عرصاتها «2» بالتقديس والتسبيح، واشتملَتْ تربتها على جَسَد سَيِّد البَشَر وانتشر عنْهَا مِنْ دِينِ اللَّه وسنة رسُوله ما انتشر، مدارسُ وآيات ومَسَاجِدُ وصَلَوَات ومَشَاهِدُ الفَضَائِلِ والخَيْرَات ومعاهدُ البراهين والمُعْجِزَات- أنْ تعظَّم عَرَصَاتها وتُتَنَسَّمَ نفحاتها وتُقَبَّلَ ربُوعُها وجدراتُها: [الكامل]
يَا دَارَ خَيْر المُرْسَلِينَ ومَنْ بِه ... هَدْيُ الأَنَامُ» وَخُصَّ بِالآيَاتِ «4»
عِنْدِي لأَجْلِكَ لَوْعَةٌ «5» وَصَبَابَةٌ ... وَتَشَوُّقٌ مُتَوَقِّدُ الجَمَرَاتِ
الأبيات. انتهى من «الشفا» .
وقوله سبحانه: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ، أي: يرشدُونَ أنفسهم، وهذا الكلامُ يحتملُ أنْ يريد به وصْفَ المؤمنين منهم، على عهد موسى، وما والاَهُ مِنَ الزمَنِ، فأخبر سبحانه، أنه كان في بني إسرائيل على عتوِّهم وخلافِهِمْ مِنَ اهتدى واتقى وعَدَلَ، ويحتمل أنْ يريد الجماعةَ التي آمَنَتْ بنبيّنا محمد صلّى الله عليه وسلّم من بني إسرائيل، على جهة الاستجلاب لإيمان جميعهم، وقوله: أَسْباطاً: بَدلٌ من اثْنَتَيْ، والتمييزُ الذي بَيْنَ العَدَدَ محذوفٌ تقديره: اثنتي عَشْرَةَ فرقةً أو قِطْعَةً أسباطاً.
وقوله سبحانه: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ
__________
فلا يركبها بعد ذلك رجل، ولا يوضع على ظهرها شيء، بل تترك سارحة منعمة في مرعاها. [.....]
(1) روي البيت في «الشفا» «.... من وطىء الثرى» . وخير من وطىء الثرى: النبي، فهو خير الناس، والحرمة: الحق الذي يلزم احترامه، والذمام: ما يلزم احترامه، أو جمع ذمة، وهي العهد، وما يجب الوفاء به.
(2) العرصة: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء.
ينظر: «لسان العرب» (2883) .
(3) الأنام: الخلق، خصّ بالآيات: القرآن، أو جميع المعجزات.
(4) الشعر للقاضي عياض، ينظر الأبيات في: «الشفا» (623) ، و «نسيم الرياض» (3/ 488) ، وقال القاري:
(2/ 102) : قال الحلبي: الذي يظهر أن هنا الشعر من قول عياض رحمه الله.
(5) اللوعة: شدة الحب وحرقته، والصبابة: رقة الشوق.(3/87)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ ... الآية:
فَانْبَجَسَتْ: بمعنى انفجرت، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المعاني في «البقرة» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 161 الى 162]
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)
وقوله سبحانه: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ: القَرْيَةُ هي بيْتُ المقدس.
وقيل: أريحا، و «بدّل» : معناه غيّر اللّفظ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 166]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)
وقوله سبحانه: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ ... الآية: قال بعضُ المتأوِّلين: إِن اليهود المعاصرين للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالُوا: إِنَّ بني إِسرائيل لم يَكُنْ فيهم عصْيانٌ، ولا معاندةٌ لمَا أُمرُوا به، فنزلَتْ هذه الآيةُ موبِّخة لهم، فسؤالهم إِنَّما هو على جهة التوبيخِ، والقريةُ هنا: أَيْلَةُ، قاله «1» ابن عباس وغيره، وقيل: مَدْيَن، و «حاضِرة البَحْر» ، أي: البحر فيها حاضرٌ، ويحتملُ أنْ يريد معنى «الحاضرة» على جهة التعظيم لها، أي:
هي الحاضرة في مدن البحر، ويَعْدُونَ: معناه: يخالفون الشرع من عدا يعدو، وشُرَّعاً، أي: مقبلة إِليهم مُصْطَفَّة، كما تقولُ: شُرِعَتِ الرماحُ إِذا مُدَّتْ مصطَفَّة، وعبارةُ البخاري/ شُرَّعاً أيْ: شوارِعَ انتهى.
والعامل في قوله: وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ قولُهُ: لاَ تَأْتِيهِمْ، وهو ظرفٌ مقدّم،
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 91) برقم: (15263) ، وذكره ابن عطية (2/ 467) ، والبغوي (2/ 208) ، وابن كثير (2/ 257) ، والسيوطي (3/ 251) ، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.(3/88)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
ومعنى قوله كَذلِكَ الإشارةُ إلى أمر الحُوت، وفِتنَتِهِمْ به، هذا على من وَقَفَ على تَأْتِيهِمْ، ومن وقف على كَذلِكَ، فالإشارة إِلى كثرة الحيتانِ شُرَّعاً، أي: فما أتى منها يوم لا يسبتون، فهو قليل، ونَبْلُوهُمْ، أي: نمتحنهم بِفِسْقهم وعِصْيانهم، وقد تقدَّم في «البقرة» قصصهم.
وقوله سبحانه: وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً.
قال جمهور المفسِّرين: إن بني إِسرائيل افترقت ثلاثَ فرقٍ: فرقةٌ عصَتْ، وفرقةٌ نهَتْ، وجاهَرَتْ وتكلَّمَت واعتزلت، وفرقةٌ اعتزلت، ولم تَعْصِ ولم تَنْهِ، وأن هذه الفرقة لما رأتْ مجاهرة الناهية، وطُغيانَ العاصيةِ وعَتُوَّهَا، قالَتْ للناهية: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً، يريدونّ: العاصيةَ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ، فقالت الناهية: موعظتنا معذرة إِلى اللَّه، أي: إِقامة عُذْر، ومعنى مُهْلِكُهُمْ، أيُّ: في الدنيا، أَوْ مُعَذِّبُهُمْ، [أي] : في الآخرةِ، والضمير في قوله: نَسُوا للمَنْهِيين، وهو تَرْكٌ سُمِّيَ نِسياناً مبالغةً، و «ما» في قوله: مَا ذُكِّرُوا بِهِ بمعنى الَّذي، والسُّوءِ: لفظ عامٌّ في جميع المعاصي إِلاَّ أنَّ الذي يختصُّ هنا بحَسَب قصص الآيةِ هو صيد الحوت، والَّذِينَ ظَلَمُوا: هم العاصُونَ، وقوله: بِعَذابٍ بَئِيسٍ معناه: مؤلمٌ موجِعٌ شديدٌ، واختلف في الفرقة التي لم تعص ولم تنه، فقيل: نجت مع الناجين، وقيل: هلَكَتْ مع العاصين.
وقوله: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ، أي: لأجل ذلك، وعقوبةً عليه، والعُتُوُّ الاستعصاء وقلَّة الطواعية.
وقوله سبحانه: قُلْنا لَهُمْ كُونُوا، يحتمل أن يكون قولاً بلفظ مِنْ مَلَك أسْمَعَهم فكَانَ أذْهَبَ في الإِعراب والهَوْلِ والإِصغارِ، ويحتمل أن يكون عبَارةً عن القدرة المكوّنة لهم قردة، وخاسِئِينَ: معناه مبعَدِين ف «خاسئين» خبر بعد خبرٍ، فهذا اختيار أبي الفَتْح، وضعَّف الصفَة، فرُوِيَ أنَّ الشباب منهم مُسِخُوا قردةً، والرجالَ الكبارَ مسخوا خنازير.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 167 الى 168]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)
وقوله سبحانه: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ معنى هذه الآية: وإِذْ علم اللَّه لَيَبْعَثَنَّ، وتقتضي قوَّة الكلام أنَّ ذلك العلْمَ منه(3/89)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
سبحانه مقترِنٌ بإنفاذٍ وإمِضاء كما تقول في أمر عَزَمْتَ عليه: عَلِمَ اللَّهُ لأَفْعَلَنَّ.
وقال الطبريُّ «1» وغيره: تَأَذَّنَ معناهُّ: أعْلَمَ، وقال مجاهد: تَأَذَّنَ معناه: أَمَرَ «2» وقالت فرقة: معنى تَأَذَّنَ: تَأَلَّى، والضمير في عَلَيْهِمْ، لبني إِسرائيل، وقوله: مَنْ يَسُومُهُمْ قال ابن عباس: هي إشارةٌ إلى محمّد صلّى الله عليه وسلّم وأُمَّتِهِ، يسومُونَ اليهودَ سُوءَ العذاب «3» .
قال ع «4» : والصحيح أنَّ هذا حالهم في كل قُطْر، ومع كلّ ملّة، ويَسُومُهُمْ:
معناه: يكلّفهم ويحمّلهم، وسُوءَ الْعَذابِ: الظاهر منه: أنه الجِزْيَةُ، والإذلالُ، وقد حتم اللَّه علَيْهم هذا، وحَطَّ مُلْكَهم، فليس في الأرض رايَةٌ ليهوديٍّ، ثم حَسُنَ في آخر الآية التنبيهُ على سرعة العِقَاب، والتخويفُ لجميعِ الناسِ، ثم رجى سبحانه بقوله: وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لطفاً منه بعباده جلَّ وعَلا، وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ، معناه: فرَّقناهم في الأرض.
قال الطبريُّ «5» عن جماعة من المفسِّرين: ليس في الأرض بقعةً إِلاَّ وفيها مَعْشَرٌ من اليهودِ، والظاهر في المُشَارَ إِليهم بهذه الآية أنهم الذين بعد سُلَيْمَانَ وَقْتَ زوالِ مُلْكهم، والظاهر أنهم قبل مُدَّة عيسى عليه السلام لأنهم لم يكُنْ فيهم صالحٌ/ بعد كُفْرهم بعيسى صلّى الله عليه وسلّم وبَلَوْناهُمْ، معناه: امتحناهم بِالْحَسَناتِ، أي: بالصِّحَّة والرخاءِ، ونحو هذا ممَّا هو بَحَسَب رأي ابْن آدم ونظره، والسَّيِّئاتِ: مقابلات هذه، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى الطاعة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 169 الى 170]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
__________
(1) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 102) .
(2) أخرجه الطبري (6/ 102) برقم: (15308- 15309) ، وذكره ابن عطية (2/ 471) ، والبغوي (2/ 209) ، وابن كثير (2/ 259) ، والسيوطي (3/ 255) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وأبي الشيخ.
(3) أخرجه الطبري (6/ 102) برقم: (15310) ، وذكره ابن عطية (2/ 471) ، وابن كثير (2/ 259) .
(4) ينظر: «تفسير المحرر الوجيز» (2/ 471) .
(5) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 104) .(3/90)
وقوله سبحانه: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ ... الآية: خَلَفَ معناه:
حَدَثَ خَلْفَهم وبعدهم، وخَلْفٌ- بإِسكان اللام- يستعمل في الأشهر: في الذَّمِّ.
وقوله سبحانه: يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى إشارةٌ إلى الرّشا والمكاسب الخبيثة، والعَرَضُ: ما يَعْرِضُ وَيعنُّ، ولا يثبُتُ، والأَدنَى: إِشارةٌ إِلَى عيشِ الدنيا، وقولهم:
سَيُغْفَرُ لَنا ذمٌّ لهم باغترارهم، وقولهِمْ سَيُغْفَرُ لَنا، مع علمهم بما في كتاب اللَّهِ، مِنَ الوعيد على المعاصي، وإِصرارِهِم، وأنَّهم بحالٍ إِذا أمكنَتْهم ثانيةً ارتكبوها، فهؤلاء عَجَزَةٌ كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «والعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وتمنى عَلَى اللَّهِ» «1» ، فهؤلاءِ قطعوا بالمغفرة وهم مُصِرُّون، وإِنما يقول: سَيُغْفَرُ لَنا مَنْ أقلع ونَدِمَ.
وقوله سبحانه: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ ... الآية: تشديدٌ في لزوم قول الحقِّ على اللَّه في الشَّرْع والأحكام، وقوله: وَدَرَسُوا مَا فِيهِ معطوفٌ على قوله: أَلَمْ يُؤْخَذْ لأنه بمعنى المُضِيِّ، والتقديرُ: أَلَيْسَ قد أُخِذَ عليهم ميثاقُ الكتابِ، ودَرَسُوا ما فيه، وبهذَيْنِ الفعْلَيْنِ تقومُ الحجَّة عليهم في قولهم الباطَل، وقرأ أبو عبد «2» الرحمن السُّلَمِيُّ: «وادارسوا مَا فِيه» .
ثم وعظ وذكَّر تبارَكَ وتعالى بقوله: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ، وقرأ أبو عمرو: «أفلا يعقلون» - بالياء «3» من أسفل-.
__________
(1) أخرجه الترمذي (4/ 638) كتاب «صفة القيامة» باب: (25) ، حديث (2459) ، وابن ماجه (2/ 1423) كتاب «الزهد» باب: ذكر الموت والاستعداد له، حديث (7143) ، وأحمد (4/ 124) ، والحاكم (1/ 57) ، وابن المبارك في «الزهد» ص: (56) برقم: (171) ، والبيهقي (3/ 369) كتاب «الجنائز» باب:
ما ينبغي لكل مسلم أن يستعمله من قصر الأمل، وفي «شعب الإيمان» (7/ 350) برقم: (10546) ، والطبراني في «الكبير» (7/ 341) برقم: (7143) ، وأبو نعيم في «الحلية» (1/ 267) ، والخطيب في «تاريخ بغداد» (12/ 50) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» برقم: (185) ، كلهم من طريق أبي بكر بن أبي مريم، عن ضمرة بن حبيب، عن شداد بن أوس مرفوعا.
وقال الترمذي: حديثٌ حَسَن. وقال الحاكمُ: صحيحٌ على شرط البخاري ولم يخرجاه. وتعقبه الذهبي فقال: لا والله، أبو بكر واه.
(2) وهي قراءة علي بن أبي طالب كما في «الشواذ» ص: (52) .
وينظر: «المحتسب» (1/ 267) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 473) ، و «البحر المحيط» (4/ 415) ، و «الدر المصون» (3/ 367) .
(3) وقرأ بها حمزة والكسائي، وابن كثير.
ينظر: «حجة القراءات» (301) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 473) ، و «البحر المحيط» (4/ 415) ، و «الدر المصون» (3/ 367) . [.....](3/91)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ عطْفٌ على قوله: لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، وقرأ عاصمٌ وحْده في رواية أبي بَكْرٍ «يُمْسِكُونَ» «1» - بسكون الميم، وتخفيف السين-، وقرأ الأعمش «2» : «والّذين استمسكوا» .
[سورة الأعراف (7) : الآيات 171 الى 174]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
وقوله عز وجل: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ، نَتَقْنَا: معناه: اقتلعنا ورفَعْنا، وقد تقدَّم قصص الآية في «البقرة» ، وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ، أي:
تدبَّروه واحفظوا أوامره ونواهيه، فما وَفَّوْا.
وقوله سبحانه: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا ... الآية، قوله: مِنْ ظُهُورِهِمْ قال النُّحاة: هو بدلُ اشتمال من قوله: مِنْ بَنِي آدَمَ، وتواترتِ الأحاديثُ في تفسير هذه الآية عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ طُرُقٍ: «أن اللَّه عزَّ وجلَّ استخرج مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عليه السلام نَسَمَ بنيه، ففي بعض الروايات كالذَّرِّ، وفي بعضها: كالخَرْدَلِ» .
وقال محمد بن كَعْب: إِنها الأرواحُ «3» جُعلَتْ لها مِثَالاَتٌ، وروي عن عبد اللَّه بن عمر، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قَالَ: «أُخِذُوا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ كَمَا يؤخذ بالمشط من الرّأس «4» ،
__________
(1) وقراءة أبي بكر من الإمساك، أي: يأخذون بما فيه من حلال وحرام. وحجته قوله تعالى: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ [المائدة: 4] ، وقوله: أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ [الأحزاب: 37] ولم يقل: مسّك.
ينظر: «السبعة» (297) ، و «الحجة» (4/ 102- 103) ، و «إعراب القراءات» (1/ 214) ، و «حجة القراءات» (301) ، و «شرح الطيبة» (4/ 314) ، و «العنوان» (98) ، و «معاني القراءات» (1/ 428) ، و «شرح شعلة» (398) .
(2) وقرأ بها عبد الله، كما في «الكشاف» (2/ 175) ، وينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 473) ، و «البحر المحيط» (4/ 416) ، و «الدر المصون» (3/ 368) .
(3) أخرجه الطبري (6/ 116) برقم: (15387) ، والسيوطي (3/ 259) .
(4) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (3/ 259) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، واللالكائي في «السنة» .(3/92)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
وَجَعَلَ اللَّهُ لَهُمْ عَقُولاً كَنَمْلَةِ سُلَيْمَانَ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمُ العَهْدَ بِأَنَّهُ رَبُّهُمْ، وَأَنْ لاَ إله غَيْرُهُ، فَأَقَرُّوا بِذَلِكَ، والتزموه وَأَعْلَمَهُمْ أَنَّهْ سَيَبْعَثُ الرُّسْلَ إِلَيْهِمْ مُذَكِّرَةً وداعيةً، فشهد بعضُهم على بعض، وشهد اللَّه عليهم وملائكته» «1» قال الضحَّاك بنُ مُزَاحِمٍ: من مات صَغيراً، فهو على العَهْدِ الأول، ومَنْ بَلَغَ، فقد أخذه العهدُ الثَّاني، يعني الذِي في هذه الحياة المعقولة الآنَ.
وقوله/ شَهِدْنا يحتملُ أن يكون مِنْ قَوْلَ بَعْضِ النَّسمِ لبعضٍ، فلا يَحْسِنُ الوقْفُ على قوله: بَلى، ويحتمل أن يكون قوله: شَهِدْنا من قول الملائكة، فيحسن الوقْفُ على قوله: بَلى.
قال السديُّ: المعنى: قال اللَّه وملائكته «2» : شَهِدْنَا ورواه عبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقوله سبحانه: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ ... الآية: المعنى:
لِئَلاَّ تقولُوا، أَوْ مخافَةَ أنْ تقولوا، والمعنى في هذه الآية: أنَّ الكَفَرَة لو لم يؤخذ عليهم عَهْدٌ، ولا جاءَهُمْ رسولٌ مذكِّر بما تضمَّنه العَهْد من توحيد اللَّه وعبادته، لكانَتْ لهم حُجَّتَان:
إحداهما: أنّ يقُولُوا كُنَّا عن هذا غافلين.
والأخرى: كنا تباعاً لأسلافنا، فكَيْفَ نَهْلِكُ، والذنْبُ إنما هو لِمَنْ طَرَّق لنا وأضلَّنا، فوقَعَ شهادَةُ بعضهم على بعضُ، وشهادةُ الملائكة عليهم، لتنقطع لهم هذه الحجة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 177]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177)
وقوله سبحانه: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا.
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 111- 112) برقم: (15363) ، وذكره ابن عطية (2/ 475) ، وابن كثير (2/ 262) ، والسيوطي (3/ 261- 262) ، وعزاه لابن جرير.
(2) أخرجه الطبري (6/ 116) برقم: (15384) ، وذكره ابن عطية (2/ 476) ، والبغوي (2/ 212) .(3/93)
قال ابن عباس: هو رجُلٌ من الكَنْعَانِيِّينَ الجَبَّارِين، اسمه بَلْعَمُ بْنُ باعُوراء «1» ، وقيل:
بَلْعَامُ بْنُ باعِر.
وقيل: غير هذا، وكان في جملة الجَبَّارِين الذي غَزَاهُمْ موسى عليه السلام، فَلَما قَرُبَ منهم موسى، لجؤوا إِلى بَلْعَام، وكانَ صالِحاً مستجابَ الدَّعْوة، وقيل: كان عنْدَهُ علْم مِنْ صُحُف إِبراهيم ونحوها.
وقيل: كان يعلم اسم اللَّه الأَعظمَ، قاله ابنُ عبَّاس «2» أيضاً، وهذا الخلافُ هو في المراد بقوله: آتَيْناهُ آياتِنا، فقال له قومُه: ادع اللَّه على موسى وعَسْكَره، فقالَ لَهُمْ:
وَكَيْفَ أدعو عَلَى نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، فما زالوا به حتى فَتَنُوهُ، فخَرَجَ حتى أشْرَفَ عَلَى جَبَلٍ يرى منه عَسْكَرَ موسى، وكان قد قال لِقَوْمِهِ: لا أفعَلُ حتى أستأْمِرَ رَبِّي، فَفَعَلَ، فنُهِيَ عن ذلك، فقال لهم: قد نُهِيتُ، فما زالوا به حتَّى قال: سأَسْتَأْمِرُ ثانيةً، ففعل، فسكَتَ عنه، فأخبرهم، فقالوا له: إِن اللَّه لَمْ يَدَعْ نَهْيَكَ إِلا وقدْ أَراد ذلك، فخَرَجَ، فلما أشْرَفَ على العَسْكَر، جَعَلَ يدْعُو على موسَى، فتحوَّل لسانُهُ بالدعاءِ لموسى، والدعاءِ على قومه، فقالوا له: ما تقولُ؟ فقال: إِني لا أمْلِكُ هذا، وعَلِمَ أنه قد أخطأ، فَرُوِيَ أنه قد خرج لِسَانُه على صدره، فقال لقومه: إِني قَدْ هَلَكْتُ، ولكِنْ لَمْ يَبْقَ لكم إِلا الحِيلَة، فأخرجوا النِّسَاء على عَسْكَرِ موسى عَلَى جهة التَّجْرِ وغيره، ومُرُوهُنَّ أَلا تَمْتَنِع امرأة مِنْ رجل، فإِنهم إِذا زَنَوْا هلَكُوا، ففعلُوا، فخرج النِّسَاء، فزنى بهِنَّ رجالٌ [مَنْ] بني إِسرائيل، وجاء فِنْحَاصُ بْنُ العِيزَارِ بْنِ هَارُونَ، فانتظم بُرمْحه امرأة ورجُلاً من بني إِسرائيل، ورفعهما على الرَمْحِ، فوقع في بني إِسرائيل الطاعونُ، فمات منهم في ساعةٍ [واحدةٍ] سبْعُونَ ألْفاً، ثم ذَكَرَ المعتمِرُ عن أبيه: أنَّ موسى عليه السلام قَتَلَ بعد ذلك الرَّجُلَ المُنْسَلِخَ مِنْ آيات اللَّه.
قال المَهْدَوِيُّ: رُوِيَ أنه دعا على مُوَسَى أَلاَّ يَدْخُلَ مدينةَ الجَبَّارين فأجيب، ودعا عليه موسى أَنْ ينسى اسم اللَّهِ الأعْظَمَ فأجيبَ، وفي هذه القصَّة رواياتٌ كثيرةً تحتاجُ إِلى صحّة إسناد، وفَانْسَلَخَ: عبارةٌ عن البراءةِ منها، والإنفصال والْبُعْدِ، كالمُنْسَلِخ من الثياب والجلد، وفَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ، أيْ: صيَّره تابِعاً كذا قال الطبريُّ: إما لضلالة رسمها له، وإما لنفسه، ومِنَ الْغاوِينَ، أي: مِنَ الضالين، وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها، قال ابن
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 119) برقم: (15398، 15401) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 476) ، والبغوي (2/ 213) بنحوه، وابن كثير (2/ 264) ، والسيوطي (3/ 266) ، وعزاه لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري (6/ 121) برقم: (15423) ، وذكره ابن عطية (2/ 477) ، والبغوي (2/ 215) .(3/94)
عباس وجماعة: معنى «لرفعناه» لشرَّفنا/ ذكْرَه، ورفَعْنَا منزلته لدينا بهذه الآيات «1» الَّتي آتيناه، ولكنه أخلد إِلى الأرْضِ، أي: تقاعَسَ إلى الحضيض الأسفَلِ الأخسِّ من شهوات الدنيا ولذَّاتها وذلك أنَّ الأرض وما ارتكن فيها: هي الدنيا وكلُّ ما عليها فانٍ، ومَنْ أخلد إِلى الفاني، فقد حرم حظَّ الآخرة الباقية.
ت: قال الهَرَوِيُّ: قوله: أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ: معناه: سكَنَ إِلى لَذَّاتها، واتبع هواه، يقال: أخلد إِلى كَذَا، أي: رَكَنَ إِليه واطمأَنَّ به. انتهى.
قال عَبْدُ الحَقِّ الإِشْبِيليُّ رحمه اللَّه في «العاقبة» : واعلم رحمك اللَّه أَنَّ لسوء الخاتمة أعاذنا اللَّه منْها أسباباً، ولها طرقٌ وأبوابٌ، أعظمها: الإِكبابُ على الدنيا، والإِعراضُ عن الآخرة، وقد سَمِعْتَ بقصَّة بَلْعَام بْنِ بَاعُورَاءَ، وما كان آتاه اللَّه تعالى من آياته وأطلعه عليه من بيِّناته وما أراه من عجائب مَلَكُوته، أخْلَدَ إِلى الأرض، واتبع هواه فسَلَبَه اللَّه سبحانه جَمِيعَ ما كان أَعطاه وتَرَكَه مع مَنِ استماله وأغواه. انتهى.
وقوله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ، شُبِّه به في أنه كان ضالاًّ قبل أن يُؤتى الآياتِ، ثم أُوتِيَها، فكان أيضاً ضالاًّ لَم تنفَعْه، فهو كالكَلْب في أنَّه لا يفارِقُ اللَّهَثَ في كلِّ حال هذا قول الجمهور.
وقال السدِّيُّ وغيره: إِنَّ هذا الرجل عُوقِبَ في الدنيا، فإِنه كان يَلْهَثُ كما يَلْهَثُ الكَلْبُ، فشُبِّه به صورةً «2» وهيئةً، وذكر الطبريُّ، عن ابن عباس أنَّ معنى: إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ: إنْ تَطْرَدهُ «3» .
وقوله: ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، أي: هذا المَثَلُ، يا محمد، مثَلُ هؤلاء الذين كانوا ضالِّين قَبْلَ أن تأتيهم بالهدى والرِّسالة، ثم جئتهم بها، فَبَقُوا على ضلالتهم، ولم ينتفِعُوا بذلك، فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الكَلْبِ.
وقوله: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ، أي: اسرد عليهم ما يعلمون أنَّه من الغيوب الَّتي لا يعلمها إِلا أهْل الكتب الماضية ولَسْتَ منهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ في ذلك فيؤمنوا.
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 125) برقم: (15436) ، وذكره ابن عطية (2/ 478) ، والبغوي (2/ 215- 216) بنحوه، والسيوطي (3/ 267) بنحوه، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(2) أخرجه الطبري (6/ 128) برقم: (15452) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 478) .
(3) أخرجه الطبري (6/ 127) برقم: (15449) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 478) .(3/95)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 178 الى 180]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180)
وقوله سبحانه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، القول فيه: أن ذلك كلَّه من عند اللَّه: الهدايةُ منه وبخَلْقه واختراعه وكذلك الإِضلال، وفي الآيةِ تعجيبٌ مِنْ حال المذْكُورين.
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، هذا خبرٌ من اللَّه تعالى أنه خَلَق لسكنى جهنم والاحتراق فيها كثيرا، وفي ضِمْنه وعيدٌ للكفَّار، «وذرأ» : معناه:
خَلَق وأوْجَدَ، مع بَثٍّ ونَشْرٍ.
وقوله سبحانه: لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ... الآيةَ: لما كانَتْ هذه الطائفةُ الكافرةُ المُعْرِضَةُ عن النَّظَر في آيات اللَّه، لم ينفعْهم النظَرُ بالقَلْب، ولا بالعَيْن، ولا ما سَمِعُوه من الآيات والمواعظ، استوجبوا الوصْفَ بأنهم لا يفقهون، ولا يُبْصرون، ولا يَسْمعون، والفِقْه: الفَهْم، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ في أنَّ الأنعام لا تَفْقَهُ الأشياء، ولا تعقلُ المقاييسِ، ثم حَكَم سبحانه عَلَيْهم بأنهم أضَلُّ لأن الأنعام تلك هِيَ بِنْيَتُها وخِلْقَتُها، وهؤلاءِ مُعَدُّونَ للفَهْم والنظر، ثم بَيَّنَ سبحانه بقوله: أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الطريق الذي به صاروا أضَلَّ من الأنعام، وهو الغَفْلة والتقصير.
قال الفَخْر «1» : أمَّا قوله تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ، فتقريره: أن الإِنسان وسائر الحيوانات مُتشَاركةٌ في قُوَى الطَّبيعة الغَاذِيَةِ، والنامية، والمُوَلِّدةِ، ومتشاركَةٌ أيضاً في منافع الحواسِّ الخَمْسِ الباطنةِ والظاهرةِ، وفي أحوالِ التخيُّل، والتفكُّر، والتذكُّر، وإِنما حَصَل الامتياز بيْنَ الإِنسان، وسائِرِ الحيواناتِ في القوَّة العقليَّة والفكْريَّة التي تهديه إِلى معرفة الحقِّ، فلما أعرضَ الكُفَّار عن أحْوالِ العَقْلِ والفكْرِ، ومعرفةِ الحقِّ، كانوا كالأنعام، بل هم أضلُّ لأن الحيواناتِ لا قدرةَ لها على تحْصيلِ هذهِ الفضائل، وقد قال حَكِيمُ الشّعراء: [البسيط]
__________
(1) ينظر: «تفسير الرازي» (16/ 53) .(3/96)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
الرُّوحُ مِنْ عِنْدَ رَبِّ العَرْشِ مَبْدَؤُه ... وَتُرْبَةُ الأَرْضِ أَصْلُ الجِسْمِ والبَدَنِ
قَدْ أَلَّفَ المَلِكُ الجَبَّارُ بَيْنَهُمَا ... لِيَصْلُحَا لِقَبُولِ الأَمْرِ والْمِحَنِ
فَالرُّوحُ فِي غُرْبةٍ وَالجِسْمُ في وَطَن ... فَلْتَعْرِفَنَّ ذِمَامَ النَّازِحِ الوَطنِ
انتهى.
وقوله سبحانه: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها ... الآية: السببُ في هذه الآية على ما روي، أن أبَا جهلٍ سمع بعض أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقرأ، فيذكُر اللَّه تعالَى في قراءته، وَمَرَّةَ يَذْكُر الرحمن، ونَحْوَ ذلك، فقال: محمَّدٌ يَزعم أنَّ إلإله واحِدٌ، وهو إِنما يعبدُ آلهةً كثيرةً، فنزلَتْ هذه الآية، ومِنْ أسماء اللَّه تعالى ما ورد في القُرآن، ومنها ما ورد في الحديث وتواتَرَ، وهذا هو الذي ينبغي أَنْ يُعْتَمدَ عليه.
وقوله سبحانه: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ، قال ابن زيد: معناه:
اتركوهم «1» ، فالآية على هذا منسوخةٌ، وقيل: معناه: الوعيدُ كقوله سبحانه: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً [المدثر: 11] وذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا [الحجر: 3] يقال: أَلْحَد وَلَحَدَ بمعنى جَارَ، ومَالَ، وانحرف، و «ألْحَدَ» : أشهرُ ومنه لَحْدُ القَبْرِ، ومعنى الإِلحاد في أسماء اللَّه عزَّ وجلَّ: أنْ يسمُّوا اللاَّتَ نظيرَ اسم اللَّه تعالى قاله ابن عباس «2» ، والعُزَّى نظيرَ العزيزِ قاله مجاهد «3» ، ويسمُّون اللَّه أباً، ويسمُّون أوثانهم أرْباباً.
وقوله سبحانه: سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ: وعيد محض.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 181 الى 183]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
وقوله سبحانه: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ، الآية تتضمَّن الإِخبار عن قَوْمٍ أهْلِ إِيمانٍ واستقامةٍ وهدايةٍ، وظاهُرها، يقتضي كُلَّ مُؤْمِنٍ كان مِنْ لَدُنْ آدم عليه السلام إِلى قيام الساعة، ورُوِيَ عن كثيرٍ من المفسِّرين: أنها في أمَّة نبيِّنا محمَّد صلّى الله عليه وسلّم، وروي في ذلك حديث أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 133) برقم: (15468) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 481) .
(2) أخرجه الطبري (6/ 132) برقم: (15464) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 481) ، والبغوي (2/ 218) ، وابن كثير (2/ 269) بنحوه، والسيوطي (3/ 271) ، وعزاه لابن أبي حاتم. [.....]
(3) أخرجه الطبري (6/ 132) برقم: (15465) ، وذكره ابن عطية (2/ 481) ، والبغوي (2/ 218) ، وابن كثير (2/ 269) .(3/97)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
قَالَ: «هَذِهِ الآيَةُ لَكُمْ» .
وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا الآية وعيد، والإِشارة إِلى الكُفَّار، وسَنَسْتَدْرِجُهُمْ معناه: سنُسوقهم شيئاً بعد شَيْءٍ ودرجةً بعد درجةٍ بالنِّعم عليهم والإِمهال لهم حتى يغترُّوا ويظنُّوا أنهم لا ينالُهم عقابٌ، وقوله: مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ، أيْ: من حيث لا يَعْلَمُون أنه استدراج لهم، وهذه عقوبةٌ لهم مِنَ اللَّه سبحانه عَلَى التَّكْذِيبِ لِمَا حَتمَ عليهم بالعذاب، أملَى لهم ليزدادوا إثماً.
وقوله: وَأُمْلِي: معناه: أُؤخِّرُ ملاَوَةً من الدهر، أي: مدّة ومَتِينٌ: معناه:
قويّ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 184 الى 186]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ/ ... الآية: تقريرٌ يقارنه توبيخ للكفّار، والوقف على قوله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا، ثم ابتدأ القولَ بنَفْي ما ذكروه، فقال: مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ أي: بمحمَّد صلّى الله عليه وسلّم، ويحتملُ أنْ يكون المعنى: أو لم يتفكَّروا أنه ما بصاحبهم مِنْ جِنَّةٍ، ويظهر مِنْ رصف الآية أنها باعثةٌ لهم على الفِكْرة في أمره صلّى الله عليه وسلّم وأنه ليس به جنَّةٌ كما أحالهم بعد هذه الآية على النَّظَرْ.
وقال الفَخْر «1» : قوله تعالى: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا أمر بالفِكْرِ والتأمُّل والتدُّبر، وفي اللفظ محذوفٌ، والتقدير: أو لم يتفكروا فيعلَمُوا مَا بِصَاحِبهمْ منْ جِنَّة، والجِنَّة: حالَةٌ مِنَ الجُنُون، كَالجِلْسَةِ، ودخولُ «مِنْ» في قوله: مِنْ جِنَّةٍ ينفي أنواع الجنون. انتهى.
وقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ... الاية: النَّظَرُ هنا بالقَلْب عِبْرَة وفكراً، ومَلَكُوتِ: بناءُ عظمةٍ ومبالغةٍ.
وقوله: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ: لفظٌ يعمُّ جميع ما ينظر فيه، ويستدلُّ به من الصنعة الدالَّة على الصانع، ومِنْ نَفْس الإِنسان وحواسَّه ومواضِعِ رزْقه، والشَّيْءُ: واقعٌ على الموجودات، وَأَنْ عَسى: عطْفٌ على قوله: فِي مَلَكُوتِ، والمعنى: توقيفُهُمْ علَى أنْ لم يَقَعْ لهم نَظَرٌ في شيء من هذا، ولا في أنهم قَرُبَتْ آجالُهُمْ، فماتوا ففات أو ان
__________
(1) ينظر: «تفسير الرازي» (15/ 62) .(3/98)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
التدَارُكِ، ووجَبَ عليهم المحذورُ، ثم وقفهم «بِأَيِّ حديثٍ» أو أمْرٍ يقعُ إيمانُهم وتَصْدِيقُهم إِذا لم يقع بأمْرٍ فيه نجاتُهم، ودخولُهم الجَنَّةَ ونحو هذا المعنى قولُ الشاعر: [الطويل]
............... ...... ... وَعنْ أَيّ نَفْسٍ دُونَ نَفْسِي أُقَاتِلُ «1»
والضمير في بَعْدَهُ يراد به القُرْآن.
وقيل: المراد به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقصَّتُهُ وأمْرُهُ أجْمَعَ، وقيل: هو عائد على الأجَلِ، أي:
بعد الأجل، إِذ لا عَمَلَ بعد الموت.
وقوله سبحانه: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ ... الآية: هذا شرطٌ وجوابٌ، مضمَّنه اليأْسُ منهم، والمَقْتُ لهم لأن المراد أَنَّ هذا قد نزل بهم، والطغيان: الإفراطُ في الشيء، وكأنه مستعملٌ في غير الصَّلاح، والعمه: الحيرة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 187 الى 188]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
وقوله سبحانك: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ، قال قتادة: السائِلُونَ: هم قريش «2» .
وقال ابن عباس: هم أحبار اليهود «3» .
ت: وفي «السِّيرَة» لابنِ هشامٍ: أَن السائلين من أحبار اليهود: حَمَلُ بْنُ أبي قُشَيْرٍ، وَسَمَوْءلُ بْنُ زَيْدٍ. انتهى.
والساعة: القيامة مُوِّتَ كُلّ من كان حَيًّا حينئذٍ، وبعث الجميع، وأَيَّانَ: معناه مَتَى، وهي مبنيَّةٌ على الفتْحِ، قال الشاعر: [الرجز]
__________
(1) البيت من شواهد «المحرر الوجيز» (2/ 483) .
(2) أخرجه الطبري (6/ 136) برقم: (15473) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 484) ، والبغوي (2/ 219) بنحوه، والسيوطي (3/ 274) ، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير.
(3) أخرجه الطبري (6/ 136) برقم: (15474) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 484) ، والسيوطي (3/ 274) ، وعزاه لابن إسحاق، وابن جرير، وأبي الشيخ.(3/99)
أَيَّانَ تَقْضِيَ حَاجَتِي أَيَّانَا ... أَمَا ترى لِفعْلِهَا أبانا «1»
ومُرْساها معناه: مُثْبَتُها ومُنْتَهَاها مأخوذٌ من: أرسى يُرْسِي، ف «مُرْسَاهَا» : رَفْعٌ بالابتداء، والخبرُ «أَيَّانَ» ، وعبارة البخاريّ: أَيَّانَ مُرْساها: متى خروجها. انتهى، ويُجَلِّيها: معناه يظهرها.
وقوله سبحانه: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، قيل: معناه: ثَقُلَ أنْ تُعْلَم ويُوقَفَ عَلى حقيقةٍ وَقْتها، وقال الحسنُ بن أبي الحَسَن: معناه: ثَقُلَتْ هيئتها والفزعُ عَلَى/ أَهْل السموات «2» والأرض، لاَ تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً، أي: فجأةً.
وقوله سبحانه: يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها، قالَ ابن عبَّاس وغيره: المعنى يسألونك كأنكَ حَفِيٌّ، أي: مُتْحَفٌ ومُهْتَبِلٌ «3» بهم، وهذا ينحُو إلى ما قالَتْ قريشٌ: يا محمَّدُ، إِنا قرابَتُكَ، فأخبرْنا بوَقْت السَّاعة.
وقال ابن زَيْد وغيره: معناه: كأنك حفيٌّ في المسألة عَنْها، والاشتغالِ بها، حتى حصَّلَتْ علمها «4» .
وقرأ ابن عبَّاس «5» فيما ذكر أبو حاتم: «كأَنَّكَ حَفِيٌّ بِهَا» .
وقوله سبحانه: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ قال الطَّبريُّ: معناه: لا يعلمُونَ أنَّ هذا الأَمْرَ لا يعلمه إِلا اللَّهُ، بل يظنُّ أكثرهم أنه ممَّا يعلمه البَشَرُ.
وقوله سبحانه: قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ ... الآية: هذا أمر بأنْ يبالِغَ في الاستسلام، ويتجَّردَ من المشاركةِ في قُدْرة اللَّه، وغَيْبِه، وأنَّ يصفَ نفسه لهؤلاءِ السائلين بأنه لا يملكُ من منافع نفسه ومضارِّها إِلا مَا سَنَّى اللَّه وشاء ويسّر، وهذا
__________
(1) البيت في «تهذيب الأزهري» (15/ 653) [أي] ، و «الدر المصون» (3/ 379) .
(2) أخرجه الطبري (6/ 137- 138) برقم: (15485) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 484) ، والبغوي (2/ 219- 220) .
(3) أخرجه الطبري (6/ 139) برقم: (15491) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 484) ، وابن كثير (2/ 271) ، والسيوطي (3/ 275) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(4) أخرجه الطبري (6/ 140) برقم: (15503) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 484) ، وابن كثير (2/ 271) .
(5) وقرأ بها ابن مسعود كما في «الشواذ» ص: (53) .
وينظر: «المحتسب» (1/ 269) ، و «الكشاف» (2/ 185) و «المحرر الوجيز» (2/ 484- 485) ، و «البحر المحيط» (4/ 433) ، و «الدر المصون» (3/ 381) .(3/100)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193)
الاستثناءُ منقطعٌ، وأخبر أنه لو كان يَعْلَمُ الغَيْبَ، لعمل بحَسَب ما يأتي، واستعد لكلِّ شيءٍ استعداد مَنْ يعلم قَدْرَ ما يَسْتَعِدُّ له، وهذا لفظٌ عامٌّ في كل شيء.
وقوله: وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ يحتمل وجْهين، وبكليهما قيل.
أحدهما: أن «ما» معطوفةٌ على قوله: لَاسْتَكْثَرْتُ أي: وَلَمَا مسني السوءُ.
والثاني: أن يكون الكلامُ مقطوعاً تَمَّ في قوله: لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وابتدأ يخبرُ بنَفْي السوءِ عنه، وهو الجُنُون الذي رَمَوْهُ به.
قال مؤرِّجٌ السَّدُوسيُّ «1» : السُّوءُ الجنون بلغة هُذَيْلٍ.
ت: وأما على التأويل الأول، فلا يريد ب «السوء» الجنونَ، ويترجَّح الثاني بنحو قوله سبحانه: مَا بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ ... [سبأ: 46] الآية، ولِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ: يحتملُ معنيين:
أحدهما: أنْ يريد: لقومٍ يُطْلَبُ منهم الإِيمانُ، وهؤلاء الناسُ أجمع.
والثاني: أن يخبر أنه نذير، ويتمُّ الكلام، ثم يبتدىء يخبر أنه بشيرٌ للمؤمنين به، ففي هذا وعد لمن حصل إيمانه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 193]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)
وقوله: جلّت عظمته: وهُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ... الآية.
قال جمهورُ المفسِّرين: المراد بالنَّفْسِ الواحدة: آدم عليه السلام، وبقوله: وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها حَوَّاء، وقولُه: مِنْها هو ما تقدَّمَ ذكْره مِنْ أنَّ آدمَ نام، فاستخرجت قصرى أضلاعِهِ، وخُلِقَتْ منها حوّاء.
__________
(1) مؤرج بن عمرو بن الحارث، من بني سدوس بن شيبان، أبو فيد: عالم بالعربية والأنساب، من أعيان أصحاب الخليل بن أحمد، من أهل «البصرة» . كان له اتصال بالمأمون العباسي، ورحل معه إلى خراسان، فسكن مدة، ب «مرو» ، وانتقل إلى «نيسابور» . من كتبه «جماهير القبائل» و «حذف من نسب قريش» ، و «غريب القرآن» وكتاب «الأمثال» و «المعاني» وله شعر جيد.
ينظر: ترجمته في «الأعلام» (7/ 318) (2569) .(3/101)
وقوله: لِيَسْكُنَ إِلَيْها، أي: ليأنسَ، ويطمئنَّ، وكان هذا كلُّه في الجنة.
ثم ابتدأ بحالةٍ أخرَى، وهي في الدنيا بعد هبوطهما، فقال: فَلَمَّا تَغَشَّاها، أي:
غَشِيَها، وهي كناية عن الجماع، والحمل الخفيف: هو المنيُّ الذي تحمله المرأة في رَحِمِهَا.
وقوله: فَمَرَّتْ بِهِ أي: استمرت به، وقرأَ ابنُ عبَّاس: «فاستمرت بِهِ» ، وقرأ ابن «1» مسعود: «فاستمرت بِحَمْلِهَا» وقرأ عبد اللَّه بن عمرو بن «2» العاص: «فَمَارَتْ بِهِ» ، أي جاءَتْ به، وذهَبَتْ، وتصرَّفَت كما تقولُ: مَارَتِ الرِّيحُ مَوْراً، وأَثْقَلَتْ: دخلَتْ في الثِّقل، كما تقول: أصْبَحَ وأمْسَى، والضمير في قوله دَعَوَا، على هذا التأويل: عائدٌ على آدم وحوَّاء، وروي في قصص ذلك/ أن الشيطانَ أشار عَلَى حواء، أن تُسَمِّيَ هذا المولودَ «عَبْدَ الحَارث» ، وهو اسْمُ إبليسَ، وقال لها: إِن لم تفعلي قَتَلْتُهُ، فزعموا أنهما أطاعاه حرْصاً علَى حياة المولود، فهذا هو الشِّرك الذي جَعَلاَ لِلَّهِ، في التسمية فَقَطْ.
وقال الطبريُّ والسديُّ «3» في قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ كلامٌ منفصلٌ من خَبَرِ آدم وحَوَّاء، يراد به مشركُو العرب «4» .
ت: وينزه آدم وحواء عن طاعتهما لإبليس، ولم أقِفْ بَعْدُ على صحَّة ما رُوِيَ في هذه القِصَصِ، ولو صَحَّ، لوجب تأويله، نَعَمْ روى الترمذيُّ عن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ «5» ، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: لَمَّا حَمَلَتْ حَوَّاءُ، طَافَ بِهَا إبْلِيسُ، وكانَ لا يَعيشُ لَهَا وَلَدٌ، فَقَالَ لَهَا: سَمِّيهِ عَبْدَ الحَارِثِ، فَسَمَّتْهُ عَبْدَ الحَارِثِ، فَعَاشَ ذلك، وكان ذلك من
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 486) ، و «البحر المحيط» (4/ 437) .
(2) قال أبو الفتح: والمعنى واحد.
ينظر: «المحتسب» (1/ 270) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 486) ، و «البحر المحيط» (4/ 437) ، وزاد نسبتها إلى الجحدري، وينظر: «الدر المصون» (3/ 382) . وقد نسبها ابن خالويه في «مختصره» ص:
(53) إلى ابن أبي عمار.
(3) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 146) . [.....]
(4) أخرجه الطبري (6/ 148) برقم: (15542) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 487) ، والسيوطي (3/ 279) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وأبي الشيخ.
(5) هو: سمرة بن جندب بن هلال بن حريج بن مرة بن حرب بن عمرو بن جابر أبو سليمان الفزاري، سكن «البصرة» ، قدمت به أمه المدينة بعد موت أبيه، فتزوجها رجل من الأنصار اسمه: مري بن سنان بن ثعلبة، وكان في حجره إلى أن صار غلاما، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعرض غلمان الأنصار كل سنة، فمرّ به غلام فأجازه في البعث، وعرض عليه سمرة بعده فرده، فقال سمرة: لقد أجزت هذا ورددتني، ولو صارعته لصرعته قال: فدونكه فصارعه، فصرعه سمرة، فأجازه من البعث. قيل: أجازه يوم أحد، والله أعلم ...(3/102)
وَحْيِ الشَّيْطَان، وأَمْرِهِ، قال الترمذيُّ: هذا حديثٌ حسنٌ «1» غريبٌ، انفرد به عُمَرُ بنُ إبراهيم «2» ، عن قَتَادَةَ، وعمرُ شَيْخٌ بصريٌّ. انتهى.
وهذا الحديثُ ليس فيه أنهما أطاعاه، وعلى كلِّ حالٍ: الواجبُ التوقُّفْ، والتنزيهُ لِمَنْ اجتباه اللَّه، وحُسْنُ التأويل ما أمكن، وقد قال ابنُ العربيِّ في توهينِ هذا القَوْل وتزييفِهِ:
وهذا القولُ ونحوه مذكُورٌ في ضعيف الحديثِ في الترمذيِّ وغيره، وفي الإِسرائيليات التي لَيْسَ لها ثباتٌ، ولا يعوِّل عليها مَنْ له قَلْبٌ، فإِنَّ آدم وحواء- وإِن كانا غرَّهما باللَّهِ الغرور- فلا يلدغ المؤمن من جحر مرّتين، وما كانا بعْدَ ذلك لِيقْبَلاَ له نُصْحاً، ولا يسمعا له قَوْلاً، والقولْ الأشبه بالحَقِّ: أن المراد بهذا جنْسُ الآدميين. انتهى من «الأحكام» .
قال «3» ع: وقوله صالِحاً: قال الحَسَن: معناه: غُلاَماً «4» ، وقال ابن عباس وهو الأظهر: بَشَراً سَوِّياً «5» سليماً.
وقال قومٌ: إنما الغَرَضُ من هذه الآية تعديدُ النعمة في الأزواج، وفي تسهيل النَّسْل والولادةِ، ثم ذكر سُوءَ فعْلِ المشركينَ المُوجبِ للعقابِ، فقال مخاطباً لجميع الناس: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها يريد: آدم وحواء، أي: واستمرّت
__________
- توفي قيل: سنة 58 هـ، وقيل: 59 هـ ب «البصرة» .
ينظر ترجمته في: «أسد الغابة» (2/ 454) ، «الإصابة» (3/ 130) ، «الثقات» (3/ 174) ، «الاستيعاب» (2/ 653) ، «الإكمال» (2/ 67) ، «الأعلام» (3/ 139) ، «العبر» (1/ 65) ، «الكاشف» (1/ 403) ، «بقي بن مخلد» (35) ، «الرياض المستطابة» (107) ، «التاريخ الكبير» (4/ 176) ، «تجريد أسماء الصحابة» (1/ 239) ، «التاريخ الصغير» (1/ 106- 107) ، «الوافي بالوفيات» (15/ 611) ، «تاريخ جرجان» (239) ، «التحفة اللطيفة» (193) ، «الطبقات الكبرى» (9/ 89) ، «سير أعلام النبلاء» (3/ 183) .
(1) أخرجه الترمذي (5/ 267- 268) كتاب «التفسير» باب: «ومن سورة الأعراف» ، حديث (3077) ، من طريق عمر بن إبراهيم، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة به.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه مرفوعا إلّا من حديث عمر بن إبراهيم، عن قتادة، ورواه بعضهم عن عبد الصمد ولم يرفعه عمر بن إبراهيم شيخ بصري.
(2) عمر بن إبراهيم العبدي أبو حفص البصري، صاحب الهروي بفتح الهاء. عن قتادة، وعنه ابنه الخليل وعبّاد بن العوّام، وثقه ابن معين في رواية الدارمي، وقال ابن عدي: حديثه عن قتادة مضطرب.
ينظر ترجمته في: «الخلاصة» (2/ 265) (5122) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 486) .
(4) أخرجه الطبري (6/ 143) برقم: (15517) ، وذكره ابن عطية (2/ 486) ، وابن كثير (2/ 274) ، والسيوطي (3/ 278) ، وعزاه لعبد الرزاق، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(5) ذكره ابن عطية (2/ 486) ، وابن كثير (2/ 274) .(3/103)
حالُكم واحداً واحداً كذلك، فهذه نعمةٌ يختصُّ كلُّ واحد بجزء منْها، ثم جاء قوله: فَلَمَّا تَغَشَّاها ... إلى آخر الآية، وصفاً لحالِ الناس واحداً واحداً، أي: هكذا يفعلون، فإِذا آتاهم اللَّه ولداً صالحاً سليماً كما أرادوه، صرفوه عن الفِطْرة إِلى الشرك، فهذا فِعْلُ المشركين.
قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» وهذا القول هو الأشبه بالحقِّ وأقربُ للصدق، وهو ظاهر الآية، وعمومها الذي يشملُ جميعَ متناولاتها، ويسلم فيها الأنبياءُ عن النّقصِ الذي لا يليقُ بجهَّال البَشَرُ، فكيف بسادَاتِهِمْ، وأنبيائهم؟! انتهى، وهو كلامٌ حسنٌ وباللَّه التوفيق.
وقرأ نافعٌ «1» ، وعاصم في رواية أبي بَكْر: «شركاً» - بكسر الشين، وسكون الراء- على المصدر، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحمزة، والكسائيُّ، وحفصٌ عن عاصم:
«شُرَكَاء» على الجمع، وهي بينة على هذا التأويل الأخير، وقلقةٌ على قول من قال: إن الآية الأولى في آدم وحواء، وفي مُصْحَف أَبيٍّ بن «2» كَعْب: «فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً أَشْرَكَا فِيهِ» .
وقوله: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً ... الآية: ذهب بعضُ من قال بالقول الأول إلى أنَّ هذه الآية في آدم وحواء على ما تقدَّم، وفيه قَلقٌ وتعسُّفٌ من التأويل/ في المعنى وإِنما تنسق هذه الآياتُ، ويَرُوقُ نَظْمها، ويتناصَرُ معناها على التأويل الأخير، فإِنهم قالوا:
إن الآية في مُشْركي الكُفَّار الذي يُشْركُون الأصنام في العبادة، وإِياها يراد في قوله: مَا لاَ يَخْلُقُ، وعبَّر عن الأصنام ب هُمْ كأنها تَعْقِلُ على اعتقاد الكُفَّار فيها وبحسب أسمائها، ويُخْلَقُونَ: معناه: يُنْحَتُونَ ويُصْنَعُونَ، يعني: الأصنام، ويحتملُ أن يكونَ المعنى، وهؤلاء المشركُونَ يُخْلَقُونَ أي: فكان حقُّهم أن يعبدوا خالِقَهُمْ، لا مَنْ لا يخلق شيئاً، وقرأ أبو عبد الرحمن: «عَمَّا تُشْرِكُونَ» «3» بالتاء مِنْ فوقُ «أَتُشْركُونَ» .
وقوله سبحانه: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ، من قال: إن الآياتِ في آدم عليه السلام، قال: هذه مخاطبة مستأنفة
__________
(1) ينظر: «السبعة» (299) ، و «الحجة» (4/ 111) ، و «إعراب القراءات» (2/ 216) ، و «حجّة القراءات» (304) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 71) ، و «العنوان» (98) و «شرح الطيبة» (4/ 318) ، و «شرح شعلة» (40) ، و «معاني القراءات» (1/ 431) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 487) ، و «البحر المحيط» (4/ 438) .
(3) ينظر: «الشواذ» ص: (53) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 488) ، و «البحر المحيط» (4/ 438) ، و «الدر المصون» (3/ 383) .(3/104)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمته في أمر الكفّار المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم ومَنْ قال بالقولِ الآخَر، قال: إِن هذه مخاطبةٌ للمؤمنين والكُفَّار على قراءة مَنْ قرأ: «أَيُشْرِكُونَ» - بالياء من تَحت-، وللكفَّار فقطْ على قراءة مَنْ قرأ بالتاء من فوق على جهة التوقيفِ، أيْ: هذا حالُ الأصنام معكم إن دعوتموهم، لم يجيبوكم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 194 الى 198]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ... الآية مخاطبةٌ للكفَّار في تحقير شأْن أصنامهم، وقوله: فَادْعُوهُمْ أي: فاختبروا، فإن لم يستجيبوا، فهم كما وصفنا.
وقوله سبحانه: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ... الآية. الغرض من هذه الآية أَلَهُمْ حواس الحَيِّ وأوصافه، فإِذا قالوا: «لا» ، حكموا بأنها جماداتٌ من غير شكٍّ، لا خَيْرَ عندها.
قال الزّهْراوِيُّ: المعنى: أنتم أفضلُ منهم بهذه الجوارح النافعة فكيف تعبدونهم، ثُمَّ أمرَ سبحانَه نبيَّه عليه السلام أنْ يعجزهم بقوله: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ، أي:
استنجدوهم واستنفروهم إِلى إِضْرَارِي وكَيْدي، ولا تؤخِّروني، المَعْنَى: فإِن كانوا آلهةً، فسيظهر فعلكم، وَلَمَّا أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضَرَره، وأراهم أنَّ اللَّه سبحانه هو القَادِرُ عَلَى كُلِّ شيء لاَ تلك، عقَّب ذلك بالإِستناد إِلى اللَّه سبحانه، والتوكُّلِ عليه، والإِعلام بأنه وليُّه وناصره، فقال: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ.
وقوله: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ إِنما تكرَّر القولُ في هذا، وترَّددت الآياتُ فيه لأن أمر الأصنام وتعظيمها كان متمكِّناً من نفوس العرب في ذلك الزَمانِ، ومستولياً علَى عقولها، فأوعب القولَ في ذلك لُطْفاً منه سبحانه بهم.
وقوله: وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لاَ يَسْمَعُوا ... الآية: قالت فرقة: هذا خطاب(3/105)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأمته في أمر الكُفَّار، والهاءُ والميمُ في قوله: «تدعوهم» للكفَّار، ووصفهم بأنهم لا يَسْمَعُونَ، ولا يبصرون إِذ لم يتحصَّل لهم عن النَّظَر والاستماع فائدةٌ قاله مجاهدٌ «1» والسدِّي «2» .
وقال الطبريُّ «3» : المرادُ بالضمير المذكور: الأصنامُ، ووصْفُهم بالنظر كنايةً عن المحاذاة والمقابلة ولِمَا فيها من تخييلِ النَّظَر كما تقول: دَارُ فُلاَنٍ تَنْظُر إلى دار فلان.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 200]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
وقوله سبحانه: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ... الآية: وصيَّةٌ من اللَّه سبحانه لنبيِّه عليه السلام تعمُّ جميع أمته، وأَخْذٌ بجميع/ مكَارِم الأخلاقِ.
قال الجمهور: معنى: خُذِ الْعَفْوَ اقبل من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عَفْواً، دون تكلُّف، فالعَفْوُ هنا: الفَضْل والصفو، قال مكِّيٌّ قوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ... الآية.
قال بعض أهْل المعاني، في هذه الآية بيان قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلَمِ» «4» فهذه الآية قد جَمَعَتْ معاني كثيرةً، وفوائدَ عظيمةً، وجمعتْ كلَّ خُلُقٍ حَسَن لأَنَّ في أخذ العَفْوِ صلَةُ القاطعينِ، والصفْحَ عن الظالِمينَ، وإِعطاءَ المانعين، وفي الأَمر بالمعروف تَقْوَى اللَّه وطاعته، وصِلة الرحِمِ، وصَوْن الجوارحِ عن المحرِّمات، وسمَّي هذا ونحوه عُرْفاً لأن كلَّ نَفْس تعرفه، وتركَنُ إِليه، وفي الإِعراض عن الجاهلين: الصبرُ، والحِلْم، وتنزيهُ النفْس عن مخاطبةِ السفيه، ومنازعةِ اللَّجوج، وغيرُ ذلك من الأفعال المرضية. انتهى من «الهداية» .
وقوله: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ: معناه: بكلِّ ما عرفَتْه النفوسُ ممَّا لا تردُّه الشريعة ومِنْ ذلك: «أَنْ تُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وتَعْفُوَ عَمَّنَ ظلمك ... » الحديث «5» ،
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 151) برقم: (15545) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 490) ، وابن كثير (2/ 277) طرفا منه، والسيوطي (3/ 280) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(2) أخرجه الطبري (6/ 151) برقم: (15544) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 490) ، وابن كثير (2/ 277) بنحوه، والسيوطي (3/ 280) ، وعزاه لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
(3) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 151) . [.....]
(4) تقدم تخريجه.
(5) تقدم تخريجه.(3/106)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
فالعرف بمعنى المعروف.
وقوله عز وجل: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ، هذه الآية وصِيَّة من الله سبحانه لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم تعمُّ أمته رجُلاً رجلاً، والنَّزْغ: حركةٌ فيها فسادٌ قلَّما تستعملُ إِلا في فَعْلِ الشيطان لأن حركته مسرِعَةٌ مفسدة ومنه قولُ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ يُشِرْ أَحَدُكُمْ عَلَى أخِيهِ بالسِّلاَح لاَ يَنْزَغِ الشَّيْطَانُ في يَدِهِ» ، فالمعنى في هذه الآية: فإِمَّا تَلُمَّنَّ بك لَمَّةٌ من الشيطان، فاستعذ باللَّه، وعبارة البخاريِّ: يَنْزَغَنَّكَ: يستَخِفَنَّكَ. انتهى.
وَنَزْغُ الشيطان عامٌّ في الغَضَبِ، وتحسينِ المعاصِي، واكتساب الغوائل، وغير ذلك وفي «جامع الترمذيِّ» عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قالَ: «إِن لِلْمَلَكِ لَمَّةً، وللشَّيْطَانِ لَمَّةً ... » «1»
الحديث.
قال ع «2» : عن هاتين اللَّمّتَيْنِ: هي الخواطِرُ من الخير والشر، فالآخِذُ بالواجبِ يلقى لَمَّةَ المَلَك بالامتثال والاستدامة، وَلَمَّةَ الشيطانِ بالرفْضِ والاستعاذة، واستعاذ: معناه:
طَلَب أَنْ يُعَاذَ، وعَاذَ: معناه: لاذ، وانضوى، واستجار.
قال الفَخْر «3» : قال ابنُ زيد: لما نَزَل قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كَيْفَ يَا رَبِّ، والغَضَبُ؟ فَنَزَل قولُه: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ» «4» ، وقوله: إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يدلُّ علَى أن الاستعاذة لا تفيدُ إِلاَّ إِذا حضر في القَلْبِ العِلْمُ بمعنى الاستعاذة، فكأنه تعالَى قال: اذكر لَفْظَ الاستعاذة بلسانك فإن سميعٌ، واستحضر معاني الاستعاذة بِعَقْلِكَ وقَلْبِك فإِني عَليمٌ بما في ضَمِيركَ، وفي الحقيقة: القوْلُ اللسانيُّ دون المعارفِ العقليَّة، عديمُ الفائدة والأثر. انتهى.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 201 الى 202]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202)
وقوله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا ... الآية خرَجَتْ مَخْرَجَ المدح للمتقين، والتقوى هاهنا عامَّة في اتقاء/ الشِّرْك والمعاصِي، وقرأ ابن
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 491) .
(3) ينظر: «تفسير الرازي» (15/ 79) .
(4) أخرجه الطبري في «تفسيره» (6/ 155) برقم: (15564) .(3/107)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
كثير «1» وغيره: «طَيْفٌ» .
قال أبو عليٍّ الطائفُ كالخاطر، والطّيف كالخطرة، وقوله: تَذَكَّرُوا: إشارة إِلى الاستعاذة المأمور بها، وإِلى ما للَّه عزَّ وجلَّ من الأوامر والنواهي في النازلة التي يقع تعرُّض الشيطانِ فيها، وقرأ ابنُ الزُّبَيْر «2» : «مِن الشَّيْطَان تَأَمَّلُوا فإِذَا هُمْ» ، وفي مُصْحَفِ «3» أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ «إِذَا طَافَ مِنَ الشَّيْطَانِ طَائِفٌ تَأَمَّلُوا» ، وقوله: مُبْصِرُونَ: من البصيرة، أي: فإِذا هم قد تبيَّنوا الحقَّ، ومالوا إليه، والضميرُ في إِخْوانُهُمْ، عائدٌ على الشياطين، وفي يَمُدُّونَهُمْ عائدٌ على الكُفَّار، وهم المرادُ ب «الإِخوان» ، هذا قول الجمهور.
قال ع «4» : وقرأ جميعُ السبعة «5» غير نافع: يَمُدُّونَهُمْ من مَدَدتُّ، وقرأ نافعٌ:
«يَمِدُّونَهُمْ» ، من أَمْدَدتْ.
قال الجمهور: هما بمعنًى واحدٍ، إلا أن المستعمَلَ في المحبوب «أَمَدَّ» ، والمستعملَ في المكروه «مَدَّ» ، فقراءة الجماعةِ جارِيَةٌ على المنهَاج المستعمل، وقراءةُ نافع هي مقيَّدة بقوله: فِي الغَيِّ كما يجوز أَنّ تقيِّد البِشَارَةَ، فتقول: بَشَّرْتُهُ بشرٍّ وَمَدُّ الشياطينِ للكَفَرَةَ، أيْ: ومَنْ نَحا نحوهم: هو بالتزيين لهم، والإِغواءِ المتتابعِ، وقوله: ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ من أَقْصَرَ، والضميرُ عائدٌ على الجميع، أي: هؤلاء لا يقصرون عن الإغواء، وهؤلاء لا يُقْصِرُونَ في الطاعة للشياطين.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 203 الى 204]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
وقوله سبحانه: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها، سببها فيما رُوِيَ أن الوَحْيَ
__________
(1) ينظر: «السبعة» (301) ، و «الحجة» (4/ 120) ، و «حجة القراءات» (305) و «إعراب القراءات» (1/ 217) ، و «إتحاف» (2/ 73) ، و «العنوان» (99) ، و «معاني القراءات» (1/ 433) ، و «شرح الطيبة» (4/ 321) ، و «شرح شعلة» (403) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 492) ، و «البحر المحيط» (4/ 446) .
(3) ينظر: مصادر القراءة السابقة.
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 493) .
(5) ينظر: «السبعة» (301) ، و «الحجة» (4/ 122) ، و «إعراب القراءات» (1/ 219) ، و «حجة القراءات» (306) ، و «إتحاف» (2/ 73) ، و «معاني القراءات» (1/ 434) ، و «شرح الطيبة» (4/ 321) ، و «شرح شعلة» (403) ، و «العنوان» (99) .(3/108)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
كان يتأخَّر أحياناً، فكان الكُفَّار يقولون: هَلاَّ اجتبيتها، أي: اخترتها، فأمره اللَّه عزَّ وجلَّ أنْ يجيب بالتسْلِيمِ للَّه، وأَنَّ الأمر في الوحْي إِليه ينزِّله متى شاء، ثم أشار بقوله: هذا بَصائِرُ إلى القرآن، أي: علاماتُ هُدًى، وأنوارٌ تستضيء القلوبُ به.
وقوله سبحانه: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ، ذكر الطبريّ وغيره أن أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كانوا بمكَّةَ يتكلَّمون في المكتوبةِ بحوائجهم، فنزلتِ الآية أمْراً لهم بالاستماع والإنصات في الصَّلاة، وأما قولُ من قال: إِنها في الخُطْبة، فضعيفٌ، لأن الآية مكِّيَّة، والخُطْبَة لم تُكنْ إِلا بعد الهِجْرة، وألفاظ الآية على الجملة تتضمَّن تعظيم القُرْآن وتوقيرَهُ، وذلك واجبٌ في كل حالة، والإِنصاتُ: السكوتُ.
قال الزجَّاج: ويجوز أن يكون: فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا، أي: اعملوا بما فيه، ولا تجاوزوه.
قالَ ابنُ العربيِّ في «أحكامه» : رَوَى الترمذيُّ، وأبو داود، عن عُبَادَة بْنِ الصَّامِتِ، قال: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم صَلاَةَ الصُّبْحِ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ القِرَاءَةُ، فَلَمَّا انصرف، قال: «إنّي لأراكم تقرءون وَرَاءَ إمامكم، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أيْ وَاللَّهِ، فَقَالَ: لاَ تَفْعَلُوا إِلاَّ بِأُمِّ القُرْآنِ فإِنَّه لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا» «1» وقد رَوَى الناسُ في قراءة المأمومين خَلْفَ الإِمام بفاتحةِ الكِتَاب أحاديثَ كثيرةً، وأعظمهم في ذلك اهتبالا الدارقطنيُّ، وقد جمع البخاريُّ في ذلك جزءًا «2» ، وكان رَأْيُهُ قراءةَ الفَاتحَةِ خلْفَ الإِمامِ في الصلاة الجهريَّة، وهي إِحدى روايات مالكٍ، وهو اختيارُ الشافعيِّ. انتهى، وقد تقدَّم أول الكتاب ما اختاره ابن العربيّ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 205 الى 206]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
وقوله سبحانه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ ... الآية: مخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم/، وتعمُّ جميعَ أمته، وهو أمر من اللَّه تعالَى بذكْره وتسبيحِهِ وتقديسِهِ، والثناءِ عليه بمحامدِهِ، والجمهورُ على أن الذِّكْر لا يكون في النفْسِ، ولا يراعَى إِلا بحركه اللسَانِ، ويُدلُّ على ذلك من هذه الآية قوله: وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ، وهذه مرتبةُ السرِّ، والمخافتة.
وقال الفَخْر «3» : المراد بقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ، كونه عارفا بمعاني
__________
(1) تقدم.
(2) أسماه القراءة خلف الإمام.
(3) ينظر: «تفسير الرازي» (15/ 86) . [.....](3/109)
الأذكار التي يقولها بلسانه، مستحضراً لصفاتِ الجلالِ والعظمة، وذلك أن الذكْرَ باللِّسَان، إِذَا كان عارياً عن الذكْر بالقلْب، كان عدِيمَ الفائدة، ألاَ تَرَى أن الفقهاء أجمَعُوا على أنَّ الرجُلَ، إِذا قال: بِعْتُ واشتريت مع أنَّه لاَ يَعْرفُ معانِي هذه الألفاظ، ولا يفهم منها شيئاً، فإِنه لا ينعقد البَيْعُ والشراءُ، فكذلك هنا، قال المتكلِّمون: وهذه الآية تدُلُّ على إثبات كلامِ النفْس.
وقوله تعالى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ، يدُلُّ على أن الذكْرَ القلبيَّ يجبُ أن يكون دائماً، وألاَّ يغفُلَ الإنسان لحظةً عن استحضار جلالِ اللَّهِ وكبريائِهِ بقَدْر الطاقةِ البشريَّة، وتحقيقُ القول في هذا أنَّ بَيْنَ الرُّوحِ والبدنِ عَلاَقةً عجيبةً لأَن كلَّ أثر يحصُلُ في البدَنَ يصْعَدُ منه نتائجُ إِلى الرّوحِ أَلاَ تَرَى أنَّ الإِنسان إِذا تخيَّل الشيء الحامِضَ، ضَرَسَ منه، وإِذا تخيل حالَةً مكروهةً، أو غَضِبَ، سَخِنَ بدنه. انتهى. وتَضَرُّعاً: معناه: تذُّلَلاً وخُضُوعاً، البخاريُّ: وَخِيفَةً، أي: خوفاً انتهى.
وقوله: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ: معناه: دَأَباً، وفي كلِّ يوم، وفي أطرافِ النهارِ، وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ تنبيهٌ منه عزَّ وجلَّ، ولما قال سبحانه: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ: جَعَل بعد ذلك مثالاً من اجتهاد الملائِكَةِ لِيَبْعَثَ على الجِدِّ في طاعة اللَّهِ سبحانه.
ت: قال صاحبُ «الكلم الفارقية» : غفلةُ ساعةٍ عَنْ ربِّك مَكْدَرَة لمرآةِ قَلْبِكَ فكَيْفَ بِغَفْلَة جميعِ عُمْرك. انتهى.
قال ابن عطاء اللَّهِ رحمه اللَّه: لا تتركُ الذِّكْر، لِعَدَمِ حُضُورك مع اللَّه فيه لأن غفلتك عن وُجودِ ذكْرِهِ أشدَّ مِنْ غفلتك في وجودِ ذكْرِهِ فعسى أن يرفعك مِنْ ذكْرٍ مع وجود غفلة، إِلى ذكْرٍ مع وجودِ يَقَظَةٍ، ومن ذِكْرٍ مع وجود يقظةٍ إِلى ذكْرٍ مع وجودِ حُضُورٍ، ومِنْ ذكْرٍ مع وجود حضور، إِلى ذكْرٍ مع وجود غيبة عمَّا سوى المذْكُور، وما ذلك على اللَّه بعزيز. انتهى، قال ابن العربي في «أحكامه» : قوله تعالى: وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ: أي:
فيما أُمِرْتَ به، وكُلِّفْتَه، وهذا خطابٌ له عليه السلام، والمراد به جميعُ أمته. انتهى.
وقوله: الَّذِينَ، يريد به الملائكةَ.
وقوله: عِنْدَ، إِنما يريد به المنزلةَ، والتشريف، والقُرْبَ في المكانة، لا في المكان، فَهُمْ بذلك عنده، ثم وصف سبحانه حَالَهُمْ مِنْ تواضعهم، وإِدمانهم العبادة، والتَسبيحَ والسُّجودَ» ، وفي الحديث: «أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَها أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ(3/110)
إِلاَّ وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ، أَوْ رَاكعٌ، أَوْ سَاجِدٌ» «1» وهذا موضع سجدة.
/ قال عَبْدُ الرحمن بْنُ محمَّدٍ عفا اللَّه عنه: كَمُلَ ما انتخبناه في تفسير السورة، والحمد لله على ما به أنعم، وصلَّى اللَّه على سيّدنا محمّد وآله وسلّم تسليما كثيرا.
__________
(1) أخرجه الترمذي (4/ 556) كتاب «الزهد» باب: في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا» ، حديث (2312) ، وابن ماجه (2/ 1402) كتاب «الزهد» باب: الحسن والبكاء، حديث (4190) ، والحاكم (2/ 510) من طريق مجاهد، عن مورق العجلي عن ابن ذر به.
وقال الترمذي: حديث حسن غريب.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وسكت عنه الذهبي.(3/111)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
تفسير سورة الأنفال
مدنيّة كلّها قال مجاهد: إلّا آية واحدة، وهي قوله: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية:
ولا خلاف أن هذه السورة نزلت في شأن بدر، وأمر غنائمه.
[سورة الأنفال (8) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
قوله عز وجل: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ... الآية، النَّفَلُ والنَّافلة، في كلام العرب:
الزِّيَادَةُ على الواجب، والأكثرُ في هذه الآيةِ أنَّ السؤال إِنما هو عَنْ حُكْمِ الأَنفال، وقالَتْ فرقةٌ: إنما سألوه الأَنْفَالَ نفْسَها محتجِّين بقراءة سعد بن أبي وقَّاص وغيره: «يَسْئَلُونَكَ الأَنْفَالَ» «1» وعن أبي أمامة الباهليِّ، قال: سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الأَنْفَال، فَقَالَ: فِينَا- أَهْلَ بَدْر- نَزَلَتْ، حِينَ اختلفنا، وَسَاءَتْ أَخْلاَقُنَا «2» ، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِيَنَا، وَجَعَلَهُ إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم وقَسَمَهُ عليه السلام- بَيْنَ المُسْلِمينَ عَلَى بَوَاءٍ- يريد: على سَوَاءٍ- فكان في ذَلِكَ تَقْوَى اللَّه وطَاعَةُ رسوله، وصلاحُ ذات البين.
قال ع «3» : ويجيء مِنْ مجموع الآثار المذكُورة هنا أن نفوسَ أهْلَ بدر تنافَرَتْ، ووقع فيها ما يَقَعُ في نفوس البَشَرَ مِنْ إِرادة الأثرة، لا سيَّمَا مَنْ أَبْلَى، فأنزل اللَّه عزَّ وجَلَّ الآيةَ، فَرضِيَ المسلمون، وسَلَّموا، فأصْلَح ذات بينهم، وردّ عليهم غنائمهم.
__________
(1) وقرأ بها ابن مسعود، وعلي بن الحسين، وأبو جعفر محمد بن علي، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد، وطلحة بن مصرف.
ينظر: «الشواذ» ص: (54) ، و «المحتسب» (1/ 272) ، و «الكشاف» (2/ 195) و «المحرر الوجيز» (2/ 496) ، وزاد نسبتها إلى عكرمة، والضحاك، وعطاء. وينظر: «البحر المحيط» (4/ 453) ، و «الدر المصون» (3/ 392) .
(2) ذكره ابن عطية (2/ 497) .
(3) ينظر «المحرر الوجيز» (2/ 497) .(3/112)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
قال بعضُ أهل التأويل عكرمة، ومجاهد: كان هذا الحُكْمُ من اللَّه سبحانه لِرَفْعِ الشَّغَبِ ثم نُسِخَ بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... [الأنفال: 41] الآية. وهذا أولَى الأقوال وأصحُّها.
وقوله سبحانه: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ: تصريحٌ بأنه شَجَرَ بينهم اخْتِلاَفٌ، ومالت النفوس إلى التّشاحّ، وذاتَ في هذا المَوْضِعِ يُرَادُ بها نَفْسُ الشيء وحقيقته، والذي يُفْهَمُ من بَيْنِكُمْ هو معنى يعم جَمِيعَ الوُصَلِ، والالْتِحَامَات، والمَوَدَّات، وذات ذلك هو المَأْمُور بإِصلاحها، أي: نفسه وعينه، وباقي الآية بيّن.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 2 الى 4]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
وقوله سبحانه: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ... الآية، إِنَّمَا لفظ لا تُفَارِقُهُ المُبَالَغَةُ والتأكيد حيث وقع، ويصلح مع ذلك لِلْحَصْرِ، بحسب القرينة، فقوله هنا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ ظاهرها أنَّها للمبالغة والتأكيد فقط، أي الكاملون.
قال الشَّيْخُ أبو عَبْدُ اللَّه محمد بن محمد بن أحمد الأَنْصَارِيّ الساحلي المالقي في كتابه الذي ألَّفَهُ في «السلوك» : واعلم أن الإنْسَانَ مطلوب بطَهَارَة نفسه، وتزكيتها، وطُرُقُ التزكية وإن كَثُرَتْ، فطريق الذِّكْرِ أسرع نفعاً، وأقرب مَرَاماً، وعليه دَرَجَ أكثر مشائخ التربية، ثم قال: والذِّكْرُ ضد النسيان، والمطلوب منه عِمَارَةُ الباطن باللَّهِ تعالى في كل زمان، ومع كل حال لأن الذِّكْرَ يَدُلُّ على المذكور لا محالة، فذكره ديدنا يوجب المَحَبَّةَ له، والمعرفة به، والذكر وإن اختلف ألفاظه ومعانيه، فلكل معنًى [من] معانيه اختصاص بنوعٍ من التَّحْلِيَةِ والتخلية، والتزكية، ثم قال: والذِّكْرُ على/ قسمين: ذكر العامة، وذِكْرُ الخاصة. أما ذِكْرُ العامة، وهو ذِكْرُ الأجور، فهو أن يذكر العَبْدُ مَوْلاَهُ بما شاء من ذِكْرِهِ لا يقصد غير الأجور والثواب، وأما ذكر الخَاصَّة، فهو ذِكْرُ الحضور، وهو أن يذكر العَبْدُ مَوْلاَهُ بأذكار مَعْلُومَةٍ، على صفة مَخْصُوصَةٍ لِينال بذلك المَعْرِفَةَ باللَّهِ سبحانه بطهارة نَفْسِهِ من كل خُلُقٍ ذَمِيمٍ، وتحليتها بكل خُلُق كريم. انتهى.
ووَجِلَتْ: معناه: فَزِعَتْ، وَرَقَّتْ، وخافت، وبهذه المعاني فسرتها العلماء.
وتُلِيَتْ معناه: سُرِدَتْ، وقرئت، والآيات هنا: القرآن المَتْلُوُّ.
ومن كلام صاحب «الكلم الفارقية» : إن تَيَقَّظْتَ يقظة قلبية، وانْتَبَهْتَ انتباهة حقيقية لم تر في وَقْتِكَ سَعَةً لغير ذِكْرِ ربك، واستشعار عظمته، ومهابته، والإِقبال على طاعته، ما في(3/113)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
وَقْتِ العاقل فَضْلَةٌ في غير ما خُلِقَ له من عبادة خالقه، والاهتمام بمَصَالِحِ آخرته، والاستعداد لمَعَادِهِ، أعرف العبيد بجلالِ مَوْلاَهُ أَخْلاَهُمْ عما سواه، وأكثرهم لَهَجاً بذكره، وتعظيماً لأمره، وأحسنهم تَأَمُّلاً لآثار صنعته، وبدائع حِكْمته، وأشدهم شَوْقاً إلى لقائه، ومشاهدته انتهى.
وزيادة الإيمان على وجوه كلها خَارِجٌ، عن نَفْسِ التصديق: منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حكما من أحكام الله عز وجل في القرآن، فنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم فسمعه، فآمن به، زاد إيماناً إلى سائر ما قد آمن به إذ لكل حُكْم تَصْدِيقٌ خاص، وهذا يَتَرتَّبُ فيمن بَلَغَهُ ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القِيَامَةِ، وترتب زيادة الإِيمان بزيادة الدَّلاَئِلِ، ولهذا قال مالك: الإِيمان يَزِيدُ ولا ينقص، ويترتب بِزِيَادَةِ الأعمال البَرَّةِ على قول من يَرَى أنَّ لَفْظَةَ الإيمان واقعة على التَّصْدِيقِ والطاعات، وهؤلاء يقولون: يزيد وينقص.
وقوله سبحانه: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ عبارة جامعة لِمَصَالِحِ الدنيا والآخرة إذا اعتبرت، وعمل بحسبها في أن يَمْتَثِلَ الإنسان ما أمر به، ويبلغ في ذلك أقصى جهده دون عجز، وينتظر بعد ما وعد به من نَصْرٍ، أو رزق، أو غيره، وهذه أَوْصَافٌ جَمِيلَةٌ وَصَفَ اللَّه بها فُضَلاَءَ المؤمنين، فجعلها غاية للأُمَّةِ يَسْتَبِقُ إِليها الأَفَاضِلُ، ثم أَتْبَعَ ذلك وَعْدَهُمْ وَوَسْمَهُمْ بإِقامة الصلاة، ومدحهم بها حضّا على ذلك.
وقوله: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. قال جَمَاعَةٌ من المفسرين: هي الزَّكَاةُ وإِنما حملهم على ذلك اقْترَانُ الكلام بإِقَامَةِ الصَّلاَةِ، وإِلا فهو لفظ عام في الزكاة، ونوافل الخَيْرِ، وَصِلاَتِ المستحقين، ولفظ ابنَ عَبَّاسٍ في هذا المعنى محتمل.
وقوله سبحانه: لَهُمْ دَرَجاتٌ ظَاهِرُهُ، وهو قَوْلُ الجمهور أن المراد مَرَاتِبُ الجنة، ومنازلها، ودرجاتها على قَدْرِ أعمالهم، وَرِزْقٌ كَرِيمٌ يريد مَآكِلَ الجنة، ومشاربها، وكَرِيمٌ صفة تقتضي رَفْعَ المَذَامِّ، كقوله: ثوب كَرِيمٌ.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 6]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6)
وقوله سبحانه: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ... الآية: اختلف في معنى هذه الآية، فقال الفَرَّاءَ: التقدير امْضِ لأمرك/ في الغَنَائِمِ، وإن كرهوا كما أخرجك رَبُّكَ.
قال ع «1» : وتحرير هذا المعنى عندي أن يقال: هذه الكاف شبّهت هذه القصّة
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 502) .(3/114)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
التي هي إِخْرَاجُهُ من بيته بالقِصَّةِ المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأَنْفَال، كأنهم سألوا عن النَّفَلِ، وتشاجروا، فأَخرج اللَّه ذلك عنهم، فكانت فيه الخِيَرَةُ، كما كَرِهُوا في هذه القصة انبعاث النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخرجه اللَّه من بَيْتِهِ، فكانت في ذلك الخِيَرَةُ، وعلى هذا التأويل يُمْكِنُ أن يكون قوله: يُجادِلُونَكَ كلاماً مُسْتَأْنَفاً يراد به الكفار، أي: يجادلونك في شريعة الإسلام من بَعْد ما تَبَيَّنَ الحَقُّ فيها، كأنما يساقون إلى المَوْتِ في الدُّعَاءِ إلى الإيمان، وهذا الذي ذكرت من أن يُجادِلُونَكَ في الكُفَّار منصوص.
وقال مجاهد وغيره: المعنى في الآية: كما أخرجك ربك من بَيْتِكَ على كَرَاهِيَةٍ من فريق منهم، كذلك يُجَادِلُونَكَ في قتال كفار «مكة» ، ويوَدُّونَ غير ذَاتِ الشَّوْكَة من بعد ما تَبَيَّنَ لهم أنك إنما تفعل ما أمرت به لا ما يُريدُون «1» هم، وقائل هذه المَقَالَةِ يقول: إن المجادلين هم المؤمنون، وقائل المقالة الأولى يقول: إن المُجَادِلِينَ هم المشركون، وهذان القولان يتم بهما المَعْنَى، ويحسن رَصْفُ اللفظ.
وقيل غير هذا.
وقوله: مِنْ بَيْتِكَ يريد من «المدينة» «يثرب» قاله الجمهور.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 7 الى 10]
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
وقوله سبحانه: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ ... الآية: في هذه الآية قَصَصٌ حَسَنٌ، محل استيعابه «كتاب سيرة رسول اللَّه صلّى الله عليه وسلّم» لابن هشام، واختصاره: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما بلغه، وقيل: أوحي إليه أن أبا سُفْيَانَ بن حَرْبٍ، قد أَقبل من «الشام» بالعِيرِ التي فيها تجارة قُرَيْشٍ وأموالها قال لأصحابه: إن عِيرَ قريش قد عَنّتْ لكم، فاخرجوا إليها، لعل اللَّه أن يَنْفُلَكُمُوها. قال: فانبعث معه من خَفَّ، وثَقُلَ قوم، وكرهوا الخروج، وأسرع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يَلْوِي على من تَعَذَّرَ، ولا ينظر من غاب ظهره، فسار في ثلاث
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 180- 181) برقم: (15714) بنحوه، وذكره ابن عطية (2/ 502) ، وابن كثير (2/ 287) بنحوه، والسيوطي (3/ 300) ، وعزاه لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.(3/115)
مائة وثلاثة عشر، أو نحو ذلك من أصحابه بين مُهَاجِرِيٍّ وأَنْصَارِيٍّ، وقد ظَنَّ الناس بأجمعهم أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يلقى حَرْباً، فلم يكثر اسْتِعْدَادُهُمْ، وكان أبو سُفْيَانَ في خلال ذلك يَسْتَقْصِي، ويحذر، فلما بلغه خروج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث ضَمْضَمَ بْنَ عَمْروٍ الغفاري إلى «مكة» يَسْتَنْفِرُ أهلها، ففعل ضمضم، فخرج أهل «مكة» في ألف رَجُل، أو نحو ذلك، فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خروجهم أوحى اللَّه إِليه وَحْياً غير مَتْلُو يعده إحدى الطّائفتين، فعرّف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بذلك، فَسرُّوا، وَوَدُّوا أن تكون لهم العِيرُ التي لا قِتَالَ معها، فلما علم أبو سفيان بقرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه أخذ طَرِيقَ الساحل، وأبعد وفات، ولم يبق إلا لقاء أهل «مكة» ، وأشار بعض الكُفَّارِ على بَعْضِ بالانصراف، وقالوا:
هذه عِيرُنَا قد نَجَتْ، فلننصرف/ فحرش «1» أبو جهل وَلَجَّ، حتى كانَ أَمْرُ الواقعة. وقال بعضٍ المؤمنين: نحن لم نخرج لِقِتَالٍ، ولم نَسْتَعِدَّ له، فجمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أَصْحَابَهُ، وهو بِوَادٍ يسمى «دَقران» وقال: أشيروا علي أيها النَّاسُ، فقام أبو بَكْرٍ، فتكلم، وأحسن، وحَرَّضَ الناس على لقاء العدو، فأعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الاسْتِشَارَةَ، فَقَامَ عمر بِمِثْلِ ذلك، فأعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الاسْتِشَارَةَ، فتكلم المِقْدَادُ بْنُ الأسود الكندي «2» ، فقال: لا نقول لك يَا رَسُولَ اللَّه كما قالت بَنُو إِسرائيل: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلاَ إِنا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، ولكن نَقُولُ: إِنا معكما مقاتلون، واللَّه لو أردت بنا برك الغماد يعني مدينة «الحبشة» لَقَاتَلْنَا معك من دُونِهَا، فسر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكلامه، ودعا له بخير، ثم قال: أشيروا علي أيها النَّاسُ، فكلمه سعد بنُ مُعَاذٍ، وقيل: سعد بن عبادة، ويحتمل هما معاً فقال: يا رسول اللَّه، كأنك إيانا تُريدُ معشر الأنصار، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: أجل، فقال: إنا قد آمَنَّا بك، واتبعناك،
__________
(1) التحريش: الإغراء بين القوم.
ينظر: «لسان العرب» (834) .
(2) هو: المقداد بن عمرو (الأسود الكندي) بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة بن عامر بن مطرود بن عمرو بن سعد ... أبو الأسود البهراوي.
الشهرة: المقداد بن الأسود الكندي، قال ابن حجر: أسلم قديما وتزوج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب ابنة عم النبي، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا والمشاهد بعدها، وكان فارسا يوم بدر حتى أنه لم يثبت أنه كان فيها على فرس غيره، وروى المقداد عن النبي أحاديث كثيرة، توفي سنة 33 في خلافة عثمان وله 70 سنة.
ينظر: «الثقات» (3/ 371) ، «أسد الغابة» (5/ 251) ، «التاريخ الصغير» (1/ 83) ، «معجم الثقات» (123) ، «الاستبصار» (145، 208) ، «تقريب التهذيب» (2/ 272) ، «المنمق» (453، 513، 514) ، «تراجم الأحبار» (3/ 351، 370) ، «الإصابة» (6/ 133) ، «الأعلام» (7/ 282) ، «أصحاب بدر» (85) ، «تجريد أسماء الصحابة» (2/ 92) ، «الجرح والتعديل» (8/ 426) ، «الطبقات» (16/ 120) .(3/116)
وبايعناك، فامض لأمر الله، فو الله لو خُضْتَ بنا هذا البَحْرَ لَخُضْنَاهُ معك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم:
«امضوا على بَرَكَةِ اللَّه، فكأني أنظر إلى مَصَارِعِ القوم» فالتقوا وكانت وقعة بدر.
ت: وفي «صحيح البخاري» من حَدِيثِ عائشة، في خروج أبي بكر من «مكة» فلقيه ابن الدّغنة عند برك الغمَادِ «1» الحديث، وليست بمدينة «الحبشة» من غير شَكٍّ. فاللَّه أعلم، ولعلهما موضعان. انتهى.
والشَّوْكَةِ عبارة عن السِّلاَحِ والحِدَّةِ.
وقوله سبحانه: وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ المعنى:
ويريد اللَّه أن يُظْهِرَ الإِسلام، ويعلي دعوة الشَّرْعِ بكلماته التي سَبَقَتْ في الأَزَلِ، والدابر الذي يدبر القَوْمَ، أي يأتي آخرهم، وإِذا قطع فقد أتى على آخرهم بشَرْطِ أَن يبدأ الإهلاك من أولهم، وهي عبارة في كل من أتى الهَلاَكُ عليه.
وقوله سبحانه: لِيُحِقَّ الْحَقَّ أي: ليظهر الحق الذي هو دين الإسلام، ويُبْطِلَ الْباطِلَ، أي: الكفر، وتَسْتَغِيثُونَ معناه: تطلبون الغوث، ومُمِدُّكُمْ أي: مكثركم، ومقويكم من: أمددت، ومُرْدِفِينَ معناه: متبعين.
وقرأ سائر السبعة «2» غير نافع: «مردفين» - بكسر الدال-، ونافع بفتحها، وروي عن ابن عَبَّاسٍ: خَلْفَ كل مَلَكٍ مَلَكٌ «3» ، وهذا معنى التتابع، يقال: رَدِفَ وأَرْدَفَ إِذا اتبع، وجاء بعد الشَّيْءِ، ويحتمل أن يُرَادُ مُرْدِفِينَ للمؤمنين، ويحتمل أن يُرَادَ مردفين بعضهم بَعْضَاً، وأنشد الطبري «4» شَاهِداً على أن أرْدَفَ بمعنى جاء تَابِعاً قَوْلَ الشاعر: [الوافر]
إِذَا الجَوْزَاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا «5»
والثرَيَّا تطلع قبل الجوزاء.
__________
(1) أخرجه البخاري (4/ 555- 556) كتاب «الكفالة» باب: جوار أبي بكر في عهد النبي صلّى الله عليه وسلّم وعقده، حديث (2297) .
(2) ورويت عن أبي عمرو كما في «الكشاف» (2/ 1- 2) ، و «المحرر الوجيز» (2/ 504) ، و «البحر المحيط» (4/ 460) ، و «الدر المصون» (3/ 398) .
(3) أخرجه الطبري (6/ 189) برقم: (15758) ، وذكره ابن عطية (2/ 504) ، وابن كثير (2/ 290) ، والسيوطي (3/ 310) ، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وأبي الشيخ.
(4) ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 190) .
(5) البيت لخزيمة بن مالك. ينظر: «تفسير الطبري» (6/ 190) ، وينظر: «اللسان» (ردف) ، و «الدر المصون» (3/ 400) .(3/117)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)
وروي في «الصحيح» : الأشهر أن المَلاَئِكَةَ قاتلت يَوْمَ بَدْرٍ.
واختلف في غيره قال ابن إسحاق: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّه بن أبي بكر أنه حُدِّثَ عن ابن عباس، أنه قال: حدثني رَجُلٌ من بني غِفَارٍ، قال: أقبلت أنا وابن عَمٍّ لي حتى صَعَدْنَا في جَبَل يُشْرِفُ بنا على بَدْرٍ، ونحن مشركان ننتظر الوَقْعَةَ على من تكون، فَنَنْتَهِبُ مع من يَنْتَهِبُ. قال: فبينما نحن في الجَبَلِ، إذ دنت منا سَحَابَةٌ، فسمعنا فيها حَمْحَمَةَ الخَيْلِ، / فسمعت قائلاً يقول: أقدمَ حَيْزُوْم، فأما ابن عمي، فانكشف قِنَاعُ قَلْبِهِ، فمات مكانه، وأما أنا فَكِدْتُ أَهْلَكُ، ثم تَمَاسَكْتُ «1» .
قال ابن إسحاق: وحدثني عَبْدُ اللَّه بن أبي بَكْرٍ عن بعض بني سَاعِدَةَ عن أبي سعيد مالك بن رَبِيعَةَ، وكان شهد بَدْراً، قال بعد أن ذهب بَصَرُهُ: لو كنت اليوم ببدر، ومعى بَصَرِي لأريتكم الشِّعْبَ الذي خَرَجَتْ منه المَلاَئِكَةُ لا أَشَكُّ ولا أَتَمَارَى. انتهى من «سيرة ابن هِشَامٍ» .
وقوله سبحانه: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ الضمير في «جعله» عائد على الوَعْدِ، وهذا عندي أَمْكَنُ الأقوال من جهة المَعْنَى.
وقيل: عائد على المَدَدِ، والإِمداد.
وقيل: عائد على الإرداف.
وقيل: عائد على الأَلْف، وقوله: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ توقيف على أن الأَمْرَ كُلَّهُ للَّه وأن تَكَسُّبَ المَرْءِ لا يغني، إذا لم يساعده القَدَرُ، وإن كان مَطْلُوباً بالجدّ، كما ظاهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين در عين.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 11 الى 13]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13)
وقوله سبحانه: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ. القصد تعديد نعمه سبحانه على
__________
(1) أخرجه ابن إسحاق في «السيرة» (2/ 296) ومن طريقه الطبري في «تاريخه» (2/ 453) ، وذكره ابن كثير في «البداية والنهاية» (3/ 279- 280) . [.....](3/118)
المؤمنين في يوم بَدْرٍ، والتقدير: اذكروا إذ فعلنا بكم كذا، وإذ فعلنا كذا، والعامل في «إذ» «اذكروا» وقرأ نافع: «يُغْشِيكُم» - بضم «1» الياء، وسكون الغين- وقرأ حمزة وغيره:
يُغَشِّيكُمُ- بفتح الغين وَشَدِّ الشين المكسورة، وقرأ ابن كثير وغيره: «يَغْشَاكم» - بفتح الياء وألف بعد الشين- «النُّعَاسُ» بالرفع، ومعنى يُغَشِّيكُمُ: يغطيكم، والنُّعَاسُ أَخَفُّ النوم، وهو الذي يصيب الإِنْسَانَ، وهو واقف أو مَاشٍ، وينص على ذلك قَصَصُ هذه الآية أنهم إنما كان بهم خَفْقٌ بالرُّؤُوس، وقوله: أَمَنَةً مصدر من أَمِنَ يَأْمَنُ أَمْنَاً وأَمَنَةً وأَمَاناً، والهاء فيه لتأنيث المصدر، كما هي في المَسَاءَةِ والحَمَاقَةِ والمَشَقَّةِ.
وروي عن ابن مَسْعُودٍ أنه قال: النُّعَاسُ عند حضور القِتَالِ عَلاَمَةُ أمن، وهو من اللَّه، وهو في الصَّلاَةِ من الشيطان «2» .
قال ع «3» : وهذا إنما طريقه الوَحْيُ، فهو لا مَحَالَةَ يسنده وقوله سبحانه:
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ. وذلك أن قَوْماً من المؤمنين لحقتهم جَنَابَاتٌ في سفرهم، وعدموا المَاءَ قَرِيبَ بَدْرٍ، فصلوا كذلك، فَوَسْوَسَ الشيطان في نفوس بعضهم مع تخويفه لهم من كثرة العَدُوِّ وقلتهم، وأيضاً فكانت بينهم وبين مَاءِ بَدْرٍ مَسَافَةٌ، من رمل دَهْسٍ «4» تَسُوخُ «5» فيها الأَرْجُلُ، فكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكُفَّارُ إلى ماء بدر، فأنزل اللَّه تلك المَطَرَةَ فَسَالَتِ الأودية، فاغتسلوا، وطهرهم اللَّه تعالى فذهب رِجْزُ الشيطان، وَتَدَمَّثَ «6» الطريق، وتَلَبَّدَتْ «7» تلك الرِّمَالُ، فسهل اللَّه عليهم السير، وأمكنهم الإسراع
__________
(1) ينظر: «السبعة» (304) ، «الحجة» (4/ 125) ، «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 77) ، «حجة القراءات» (308) ، «إعراب القراءات» (1/ 222) ، «النشر» (2/ 276) ، و «شرح الطيبة» (4/ 324) ، و «شرح شعلة» (405) ، و «معاني القراءات» (1/ 437) .
(2) أخرجه الطبري (6/ 192) برقم: (15771- 15772- 15773) ، وذكره ابن عطية (2/ 506) ، والبغوي (2/ 234) ، وابن كثير (2/ 291) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 506) .
(4) رمل أدهس بيّن الدّهس، والدّهاس من الرمل: ما كان كذلك لا ينبت شجرا، وتغيب فيه القوائم ...
وقيل: ما سهل ولان من الأرض، ولم يبلغ أن يكون رملا.
ينظر: «لسان العرب» (1441) ، و «النهاية» (2/ 145) .
(5) أي: غاصت في الأرض. ينظر: «اللسان» (2141) .
(6) الدّمث: السهول من الأرض، الواحدة دمثة، وهو أيضا المكان اللين ذو رمل، ودمّث الشيء: إذا مرسه حتى يلين.
ينظر: «لسان العرب» (1418- 1419) .
(7) أي: صارت قوية لا تسوخ فيها الأرجل.
ينظر: «لسان العرب» (3984) .(3/119)
حتى سبقوا إلى ماءَ بَدْرٍ، وأصاب المشركين من ذلك المَطَرَ ما صَعَّبَ عليهم طريقهم، فسر المؤمنون، وتبينوا من فِعْلِ اللَّه بهم ذلك قَصْدَ المعونة لهم، فطابت نفوسهم، واجتمعت، وتَشَجَّعَتْ، فذلك الرَّبْطُ على قلوبهم، وتثبيت أقدامهم على الرملة اللَّيِّنَةِ.
والضمير في «به» على هذا الاحتمال عَائِدٌ على الماء، ويحتمل عَوْدُهُ على رَبْطِ القلوب، ويكون تثبيت/ الأقدام عِبَارَةً عن النصر والمعونة في مَوْطِنِ الحَرْبِ، ونزول الماء كان في الزمن قبل تَغْشِيَةِ النعاس، ولم يترتب كذلك في الآية، إذ القَصْدُ فيها تَعْدِيدُ النعم فقط.
وقوله سبحانه: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا وتثبيتهم يكون بقتالهم، وبحضورهم، وبأقوالهم المُؤْنِسَةِ، ويحتمل أن يكون التَّثْبِيتُ بما يلقيه المَلَكُ في القلب بِلَمَّتِهِ من تَوَهُّمِ الظَّفَرِ، واحتقار الكفار، وبخواطر تشجعه.
قال ع «1» : ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وعلى هذا التأويل يجيء قوله: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ مخاطبة للملائكة، ويحتمل أن يكون مخاطبة للمؤمنين. وقوله سبحانه: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ قال عكرمة: هي على بابها، وأراد الرؤوس «2» ، وهذا أنبل الأقوال.
قال ع»
: ويحتمل عندي أن يريد وَصْفَ أبْلَغِ ضربات العنق وأحكمها، وهي الضربة التي تكون فَوْقَ عَظْمِ العنق دون عَظْمِ الرأس في المفصل، كما وصف دريد بن الصِّمَّة «4» ، فيجيء على هذا فوق الأَعْنَاقِ متمكناً.
والبَنَان: قالت فرقة: هي المَفَاصِلُ حيث كانت من الأعضاء.
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 508) .
(2) أخرجه الطبري (6/ 197) برقم: (15800) نحوه، وذكره ابن عطية (2/ 508) ، والبغوي (2/ 235) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (3/ 313) .
(3) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 508) .
(4) دريد بن الصمة الجشمي البكري، من هوازن: شجاع، من الأبطال، الشعراء، المعمرين في الجاهلية، كان سيد بني جشم وفارسهم وقائدهم، وغزا نحو مائة غزوة لم يهزم في واحدة منها، وعاش حتى سقط حاجباه عن عينيه، وأدرك الإسلام، ولم يسلم، فقتل على دين الجاهلية «يوم حنين» ، وكانت هوازن خرجت لقتال المسلمين فاستصحبته معها تيمنا به، وهو أعمى، فلما انهزمت جموعها أدركه ربيعة بن رفيع السلميّ فقتله، له أخبار كثيرة، والصمة لقب أبيه معاوية بن الحارث.
ينظر ترجمته في: «الأعلام» (2/ 339) (4164) .(3/120)
ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
وقال فرقة: البنان الأصابع، وهذا هو الصحيح لأنه إذا قطع البنان لم ينتفع صَاحِبُهُ بشيء من أعضائه واستأسر.
واقُّوا
: معناه خالفوا ونَابَذُوا، وقطعوا، وهو مأخوذ من الشَّقِّ، وهو القَطْعُ والفَصْلُ بين شيئين، وعبر المفسرون عن قوله: اقُّوا
أي: صاروا في شق غير شقه.
قال ع «1» : وهذا وإن كان معناه صَحِيحاً، فتحرير الاشتقاق إنما هو ما ذكرناه، وقوله: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
جَوَابٌ للشرط، تضمن وَعِيداً وتهديدا.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 14 الى 16]
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
وقوله سبحانه: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ المُخَاطَبَةُ للكفار، أي ذلكم الضَّرْبُ والقَتْلُ، وما أوقع اللَّه بهم يوم بَدْرٍ، فكأنه قال: الأمر ذلكم فذوقوه، وكذا قرره سيبويه.
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون «ذلكم» في موضع نَصْبٍ، كقوله: زيداً فاضربه، وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً ... الآية: زَحْفاً يراد به متقابلي الصفوف والأشخاص، أي: يزحف بعضهم إِلى بعض، وأصل الزحف الاندفاع على الأَلْيَةِ، ثم سمي كل مَاشٍ إلى آخر في الحرب رُوَيْداً زاحفاً، إذ في مشيته من التَّمَاهُلِ والتَّبَاطُؤِ ما في مشي الزاحف، وفي هذا المعنى شواهد من كلام العرب، ونهى اللَّه سبحانه في هذه الآية عن تَوَلِّي الأَدْبَارِ، وهذا مقيد بالشَّريطَةَ المنصوصة في مثلي المؤمنين، والفرار هنالك كَبِيرَةٌ موبقة بظاهر القرآن، والحديث، وإجماع الأكثر من الأمة.
وقوله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ ... الآية. قال جمهور الأمة: الإشارة ب يَوْمَئِذٍ إلى يوم اللقاء الذي يتضمنه قوله: إِذا لَقِيتُمُ وحكم الآية باقٍ إِلى يوم القيامة، بشرط الضعف الذي بَيَّنَهُ اللَّه سبحانه.
ت: قال ابن رشد: وهذا ما لم يبلغ عَدَدُ/ المسلمين اثني عشر أَلْفاً، فإِن بلغ حرم الفرار، وإن زاد المشركون على الضعف للحديث «لن تغلب اثنا عشر ألفاً من قِلَّةٍ» ، فإن أكثر أهل العِلْمِ خَصَّصُوا بهذا الحديث عموم الآية.
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 509) .(3/121)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
وعن مالك مثله. انتهى.
وفهم ع «1» : الحديث على التَّعَجُّبِ، ذكره عند قوله: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ [التوبة:
25] ، وما قاله ابنُ رشْدٍ هو الصواب. والله أعلم.
ومُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ يراد به الذي يَرَى: أن فعله ذلك أنْكَى للعدو، ونصبه على الحال، وكذلك نصب مُتَحَيِّزاً، وأما الاسْتِثْنَاءُ، فهو من المولين الذين تضمنهم «من» .
والفِئَةُ هنا الجَمَاعَةُ الحاضرة للحرب، هذا قول الجمهور.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 17 الى 19]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
وقوله سبحانه: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى هذه الألفاظ تَرِدُ على من يزعم أن أَفْعَالَ العباد خَلْقٌ لهم، ومذهب أهل السنة أنها خلق للرب سبحانه كسْبٌ للعبد روي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخذ يومئذٍ ثلاث قَبَضَاتٍ من حَصًى وتُرَابٍ، فرمى بها في وجوه القوم، فانهزموا عند آخر رمْيَةِ، ويروى أنه قال يوم بدر: «شَاهَتِ الوُجُوهُ» «2» وهذه الفعلة أيضاً كانت يوم «حنين» بلا خلاف.
ولِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ أي: ليصيبهم ببلاء حَسَنٍ، وظاهر وصفه بالحسن يقتضي أنه أراد الغنيمة، والظفر، والعزة.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاستغاثتكم، عَلِيمٌ بوجوه الحكمة في جميع أفعاله لا إله إلا هو.
وقوله سبحانه: ذلِكُمْ إشارة إلى ما تقدم من قَتْلِ اللَّه لهم، ورميه إياهم، وموضع ذلِكُمْ من الإعراب رفع.
__________
(1) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 510) .
(2) أخرجه أحمد (1/ 303، 368) ، والحاكم (3/ 157) ، وابن حبان (6502) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (6/ 240) من طريق ابن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس به. وصححه الحاكم وابن حبان.
وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (8/ 228) ، وقال: رواه أحمد بإسنادين، ورجال أحدهما: رجال الصحيح. [.....](3/122)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
قال سيبويه: التقدير: الأمر ذلكم، ومُوهِنُ معناه مضعف مبطل.
وقوله سبحانه: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ ... الآية: قال أكثر المتأولين:
هذه الآية مخاطبة لكفار «مكة» روي أن قريشاً لما عَزَمُوا على الخروج إلى حِمَايَةِ العِيرِ، تعلقوا بأستار الكعبة، واستفتحوا، وروي أن أبا جَهْلٍ قال صبيحة يوم بدر: اللهم انصر أَحَبَّ الفئتين إليك، وأظهر خَيْرَ الدِّينَيْنِ عندك، اللهم أَقْطَعُنَا للرحم فَأَحْنِهِ الغَدَاةَ، ونحو هذا فقال اللَّه لهم: إن تطلبوا الفَتْحَ فقد جاءكم، أي: كما ترونه عليكم لاَ لَكُمْ، وفي هذا توبيخ لهم، وإن تنتهوا عن كفركم وغيكم فهو خَيْرٌ لكم، وإن تعودوا للاستفتاح نَعُدْ بمثل وَقْعَةِ بدر، وباقي الآية بيّن.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 23]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... الآية: قيل: إنها نزلت بسبب اختلافهم في النَّفْل، ومجادلتهم في الحق، وكراهيتهم خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم، وتَوَلَّوْا أصله: تتولوا.
وقوله: أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ يريد دُعَاءه لكم بالقرآن والمواعظ.
وقوله: كَالَّذِينَ قالُوا يريد الكفار إما من قريش لقولهم: سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: 31] ، وأما الكفار على الإطلاق.
وقوله سبحانه: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ مَقْصِدُ الآية بيان أن هذه/ الصنيفة العاتية من الكُفَّارِ هي شَرُّ النَّاسِ عند اللَّه سبحانه وأنها في أخَسِّ المَنَازِلِ لديه، وعبر بالدواب ليتأكد ذمهم، وقوله: الصُّمُّ الْبُكْمُ عبارة عما في قلوبهم، وعدم انشراح صدورهم، وإدراك عقولهم.
وقوله: وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ أي سماع هدى، وَتَفَهُّمٍ، وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ أي: ولو فهمهم لَتَوَلَّوْا بحكم القضاء السابق فيهم، ولأعرضوا عما تبين لهم من الهدى.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 24 الى 26]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)(3/123)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ ... الآية: اسْتَجِيبُوا بمعنى: أجيبوا وقوله: لِما يُحْيِيكُمْ قال مجاهد والجمهور: المعنى للطاعة «1» ، وما يتضمنه القرآن، وهذا إحياء مستعار لأنه من مَوْتِ الكفر والجهل، والطَّاعَةُ تؤدي إلى الحَيَاةِ الدائمة في الآخرة.
وقوله سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يحتمل وجوهاً:
منها: أنه لما أمرهم سبحانه بالاستجابة في الطاعة، حضَّهم على المبادرة والاستعجال، وأعلمهم أنَّه يحولُ بين المرء وقَلْبه بالموت والقَبْض، أي: فبادروا الطاعات، ويلتئم مع هذا التأويلِ قوله: وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ، أي: فبادروا الطاعات، وتزوَّدوها ليوم الحَشْر.
ومنها: أن يقصد إِعلامهم أن قُدْرة اللَّه وعلْمه وإِحاطته حائلةٌ بين المرء وقلبه، فكأن هذا المعنَى يحضُّ على المراقبة والخَوْفِ للَّه المُطلَّع على الضمائر حُكِيَ هذا التأويلُ عن قتادة «2» ويحتملُ أن يريد تخويفهم إِنْ لم يمتثلوا الطَّاعات، ويستجيبوا للَّه وللرَّسول أَنْ يَحُلَّ بهم ما حل بالكفَّار الذين أرادهم بقوله: وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: 23] لأن حَتْمهُ عليهم بأنهم لو سَمِعُوا لم ينتفعوا يقتضِي أنه كان قد حال بينهم وبَيْنَ قلوبهم.
ومنها: أنْ يكون المعنَى ترجيةً لهم بأنَّ اللَّه يبدِّل الخوف الذي في قلوبهم مِنْ كثرة الَعدُوِّ، فيجعله جراءةً وقوةً، وبضدِّ ذلك للكفَّار، أي: فإِن اللَّه تعالَى هو مقلِّب القلوب كما كان قسم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقيل غير هذا.
قال مكِّيٌّ، وقال الطبريُّ «3» : هذا خبر من الله عز وجلّ أنه أَمْلَكُ بقلوبِ العباد منهم لها، وأنه يحولُ بينهم وبينها إِذا شاء حتى لا يُدْرِك الإِنسان شيئاً من إِيمان ولا كُفْر، ولا يعي شيئاً، ولا يفهم شيئاً إِلا بإذنه ومشيئته سبحانه، وقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يقول في
__________
(1) ذكره ابن عطية (2/ 514) .
(2) أخرجه الطبري (6/ 215) برقم: (15916) بنحوه.
(3) ينظر: «الطبري» (6/ 215) .(3/124)
دعائه: «يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي علَى دِينِكَ» «1» انتهى من «الهداية» .
وروى مالكُ بن أنس والنسائي، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دَعَا أُبَيَّ بْنُ كَعْب وهو في الصَّلاَة، فَلَمْ يُجِبْهُ، وأَسْرَعَ في بَقِيَّةِ صَلاَتِهِ، فَلَمَّا فرغ جاء، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ألم يقل الله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ؟ قال أُبَيٌّ: لاَ جَرَمَ، يا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَدْعُونِي أَبَدَاً إِلاَّ أَجَبْتُكَ ... » «2» الحديث بطوله، واختلاف ألفاظه، وفي «البخاريِّ ومسلم» أن ذلك/ وقع مع أبي سَعِيدِ بن المعلى «3» ، وروي أنه وقع نحوه مع حُذَيْفَة بن اليَمَانِ «4» في غزوة الخَنْدَق.
وقوله: عزَّ وجلَّ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً في الآية تأويلاتٌ، أسبقها إِلى النفْسِ، أن اللَّه سبحانه حذَّر جميع المؤمنين من فتنة إِن أصابَتْ لم تخصَّ الظلمة فقطْ، بل تصيبُ الكُلَّ من ظالمٍ وبريءٍ، وهذا تأويلُ الزُّبَيْر بن العَوَّام، والحسنِ البَصْرِيِّ «5» ، وكذلك تأويل ابن عباس فإنه قال: أمر اللَّه المؤمنين في هذه الآية ألاَّ يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمّهم العذاب «6» وخَاصَّةً: نعت لمصدرٍ محذوف، تقديره إِصابةً خاصةً، فهي نصب على الحال، وقرأ علي «7» بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وغيره: «لتُصِيبَنَّ» - باللام- على جواب قسم، والمعنَى على هذا: وعيدٌ للظلمة فقط.
وقوله سبحانه: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ ... الآية: هذه الآية تتضمَّنِ تعديد نِعَم اللَّه على المؤمنين، و «إذ» : ظرفٌ لمعمول، «واذكروا» : تقديره: واذكروا حالكم الكائنة، أو
__________
(1) تقدم تخريجه.
(2) تقدم تخريجه في سورة «الفاتحة» .
(3) تقدم تخريجه.
(4) تقدم تخريجه في سورة «الفاتحة» .
(5) أخرجه الطبري (6/ 216- 217) برقم: (15917) وبرقم: (15918- 15919- 15920) ، وذكره ابن عطية (2/ 515) ، وذكر نحوه البغوي (2/ 241) ، وابن كثير (2/ 299) بنحوه أيضا، والسيوطي (3/ 321) .
(6) أخرجه الطبري (6/ 217) برقم: (15923) ، وذكره ابن عطية (2/ 515) ، والبغوي (2/ 241) ، وابن كثير (2/ 299) ، والسيوطي (3/ 322) .
(7) وقرأ بها ابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبو العالية، وأبو جعفر محمد بن علي، والربيع بن أنس، وابن جمّار.
ينظر: «الشواذ» ص: (54) ، و «المحتسب» (1/ 277) ، و «الكشاف» (2/ 212) و «المحرر الوجيز» (2/ 516) ، و «البحر المحيط» (4/ 478) ، و «الدر المصون» (3/ 412) .(3/125)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
الثابتَةَ إذْ أنتم قليل، ولا يجوزُ أنْ تكون «إذْ» ظرفاً للذِّكْر.
وإِنما يعمل الذِّكْرُ في «إذْ» لو قدَّرناها مفعولة، واختلف في الحال المشار إِليها بهذه الآية.
فقَالَتْ فرقَةٌ وهي الأكثر: هي حالُ المؤمنين بمكَّة في وقْتِ بداءةِ الإسلام، والنَّاس الذين يُخَافُ تخطُّفُهم كُفَّار مكَّة، والمأْوَى: المدينةُ، والتأييدُ بالنَّصْر: وَقْعَةُ بَدْرٍ وما انجر معها في وقتها، والطيبات: الغنائم وسائر ما فتح الله عليهم به، وقالتْ فرقة: الحال المشارُ إليها هي حالهم في غزوة بَدْرٍ، والناس الذين يُخَافُ تخطُّفهم، على هذا: عسكر مكَّة وسائر القبائل المجاورة، فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يتخوَّف من بعضهم، والمأوى على هذا، والتأييد بالنصر: هو الإِمداد بالملائكَةِ والتغليبُ على العدو، والطّيّبات: الغنيمة.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 29]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
وقوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ هذا خطابٌ لجميع المؤمنين إِلى يوم القيامة، وهو يجمع أنواع الخياناتِ كلَّها قليلَهَا وكثيرَهَا، والخيانةُ:
التنقُّص للشيءِ باختفاء، وهي مستعْمَلَةٌ في أنْ يفعل الإِنسان خلاف ما يَنْبَغِي مِنْ حفظ أمْرٍ مَّا، مالاً كان أو سرًّا أو غير ذلك، والخيانة للَّه عَزَّ وجل: هي في تنقّص أوامره في سِرٍّ.
وقوله: وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ.
قال الطبريُّ «1» : يحتمل أن يكون داخلاً في النهيْ كأنه قال: لا تخونوا اللَّه والرسولَ، ولا تخونوا أماناتِكُمْ، ويحتمل أن يكون المعنَى: لا تخونوا اللَّه والرسول فذلك خيانةٌ لأماناتكم.
وقوله: فِتْنَةٌ
، يريد: محنةً واختبارا وامتحانا ليرى كَيْفَ العملُ في جميع ذلك.
وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
، يريد: فوز الآخرة، فلا تَدَعُوا حظَّكم منه للحيطة على أموالكم وأبنائكم فإِن المذخور للآخرة أعظم أجرا.
قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ ... الآية: وعْدٌ للمؤمنين بشرط
__________
(1) ينظر: «الطبري» (6/ 221) .(3/126)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
التقوى والطاعة لله سبحانه، ويَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً: معناه: فرْقاً بين حقِّكم، وباطل مَنْ ينازعكم بالنصْر والتأييد، وعبَّر قتادة، وبعضُ المفسّرين عن «الفرقان» هاهنا بالنجاةِ «1» ، وقال مجاهدٌ والسُّدِّيُّ: معناه: مَخْرَجاً «2» ، ونحو هذا مما يعمه ما ذكَرْناه، وقد يوجَدُ للعرب استعمال «الفرقان» ، كما ذكر المفسِّرون وعلى ذلك شواهد منها قول الشاعر:
[الطويل]
وَكَيْفَ أُرَجِّي الخُلْدَ والمَوْتُ طَالِبِي ... وَمَاليَ مِنْ كَأْسِ المَنيِّةِ فُرْقَانُ «3»
ت: قال ابن رُشْد: وأَحْسَنُ ما قيلَ في هذا المعنى قوله تعالى: يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً أي: فصلا بين الحق والباطل حتى يعرفوا ذلك بقلوبهم، ويهتدوا إليه. انتهى من «البيان» .
[سورة الأنفال (8) : الآيات 30 الى 31]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
وقوله سبحانه: وَإِذْ يَمْكُرُ/ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ... الآية: تذكيرٌ بحال مكَّة وضيقها مع الكفرة، وجميل صُنْع اللَّه تعالى في جميع ذلك، والمَكْرُ: المخاتلة والتداهي تقول:
فلانٌ يَمْكُرُ بفلان إِذا كان يستدرجه، وهذا المكر الذي ذكر اللَّه تعالى في هذه الآية هو بإِجماع من المفسِّرين: إِشارةٌ إِلى اجتماع قُرَيْش في «دار النَّدْوَةِ» بمحْضَر إِبْليسَ في صورة شيخٍ نَجْدِيٍّ على ما نصَّ ابن إِسحاق في «سِيَرِهِ» الحديثَ بطوله، وهو الذي كان خُرُوجُ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بسببه، ولا خلاف أن ذلك كان بَعْدَ مَوْت أبي طالب، ففي القصَّة: أن أبا جهْلٍ قال: الرأْيُ أنْ نأخذ من كل بطنٍ في قريشٍ فَتًى قويًّا جَلْدياً، فيجتمعون ثم يأخُذ كُلُّ واحد منهم سيفاً، ويأتون محمداً في مَضْجَعه، فيضربونه ضَرْبةَ رجُلٍ واحدٍ، فلا تَقْدِرُ بَنُو هاشِمٍ على قِتالِ قُرَيْشَ بأسرها، فيأخذون العَقْلَ، ونستريحُ منه، فقال النَّجْدِيُّ: صدق الفَتَى هذا الرأيُ: لاَ رَأْيَ غيره، فافترقوا عَلَى ذلك، فأخبر اللَّه تعالَى بذلك نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، وأذن له في الخُرُوجِ إِلى المدينة، فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ليلته، وقال لعليّ بن أبي
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 224) برقم: (15963) ، وذكره ابن عطية (2/ 518) ، والبغوي عن عكرمة (2/ 243) ، وابن كثير (2/ 301) ، والسيوطي (3/ 324) .
(2) أخرجه الطبري (223) برقم: (1590، 15958) ، وذكره ابن عطية (2/ 518) .
(3) ينظر البيت في: «البحر المحيط» (4/ 481) ، و «الدر المصون» (414) ، و «القرطبي» (7/ 396) . [.....](3/127)
طالب: «التف في بُرْدِيَ الحَضْرَمِيِّ، واضطجع فِي مَضْجَعِي فَإِنَّهُ لاَ يَضُرُّكَ شَيْء، فَفَعَل» ، فجاءَ فتْيَانُ قُرَيْشٍ، فجعلوا يرصُدُون الشخْصَ، وينتظرون قيامه، فيثورون به، فلما قام رَأَوْا عَلِيًّا، فقالوا له: أيْنَ صَاحِبُكَ؟ فقال: لا أدْرِي، وفي «السّير» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خَرَجَ عَلَيْهِم، وهُمْ في طريقه، فطَمَسَ اللَّه أعينهم عَنْه، وجعل عَلَى رأس كلِّ واحد منهم تراباً، ومضَى لوجهه، فجاءهم رجُلٌ، فقال: مَا تَنْتَظِرُونَ؟ قَالُوا: محمَّداً، قال: إِنِّي رأَيْتُهُ الآن جائياً من ناحيتكم، وهو لا مَحَالَة، وضَعَ الترابَ علَى رؤوسكم، فَمَدّ كلُّ واحدٍ يده إِلى رَأْسِهِ، فإِذا عليه الترابُ، وجاؤوا إلى مضجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فَوَجدوا عَلِيًّا، فركبوا وراءه حينئذٍ كُلَّ صَعْبٍ وذَلُولٍ، وهو بالغارِ، ومعنى: لِيُثْبِتُوكَ: لِيَسْجُنُوكَ قاله عطاء وغيره «1» وقال ابنُ عَبَّاس وغيره: ليُوثِقُوكَ «2» .
وقوله سبحانه: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا، يعني: القرآن، قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا، وقولهم: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ، أي: قَصَصُهُمُ المَكْتُوبةُ المسْطُورة، وأساطيرُ: جمع «أسطورة» ، ويحتمل جمع: «أَسْطَار» ، وتواترتِ الرواياتُ عن ابنِ جُرَيْج وغيره: أن قائل هذه المقالة هو النضر بن الحارِثِ وذلك أنه كان كَثِيرَ السَّفَرِ إِلى فَارسَ والحِيرَة، فكان قد سَمِعَ من قصص الرهبان وأخبار رُسْتُم وإسْفِنْديَار، فلما «3» سمع القرآن، ورأى فيه أخبار الأنبياء والأمم، قال: لو شئت لقلْتُ مثْلَ هذا، وكان النضْرُ من مردة قريش النائلين من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ونزلَتْ فيه آيات كثيرة من كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ، وأمْكَنَ اللَّه منْهُ يَوْمَ بدر، وقتله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صَبْراً بالصَّفْرَاء مُنْصَرَفَهُ من بَدْرٍ في موضعٍ يقال له «الأَثيل» ، وكان أَسَرَهُ المِقْدادُ، فلما أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بضرب عُنْقِهِ، قال المقداد:
أَسِيرِي، يا رَسُولَ الله! فقال/ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إِنَّهُ كَانَ يَقُولُ في كِتَابِ اللَّهِ مَا قَدْ عَلِمْتُمْ» ، ثُمَّ أَعَادَ الأَمْرَ بِقَتْلِهِ، فَأَعَادَ المقداد مقالته، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللَّهُمَّ، أَغْنِ المِقْدَادَ مِنْ فَضْلِكَ» ، فَقَالَ المِقْدَادُ: هذا الّذي أردت، فضربت عنق النّضر «4» .
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 225) برقم: (15975) ، وذكره ابن عطية (2/ 519) ، والبغوي (2/ 244) ، وابن كثير (2/ 302) نحوه.
(2) أخرجه الطبري (6/ 225) برقم: (15971) ، وذكره ابن عطية (2/ 519) ، والبغوي (2/ 244) ، وابن كثير (2/ 203) ، والسيوطي (3/ 326) .
(3) أخرجه الطبري (6/ 229) برقم: (15991) ، وذكره ابن عطية (2/ 520) ، والبغوي (2/ 245) ، وابن كثير (2/ 304) ، والسيوطي (3/ 327) .
(4) أخرجه أبو داود في «المراسيل» (ص 248- 249) برقم: (337) عن سعيد بن جبير مرسلا.(3/128)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
[سورة الأنفال (8) : الآيات 32 الى 34]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)
وقوله عز وجل: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ ... الآية: رُوِيَ عن مجاهدٍ وغيره: أن قائل هذه المقالة هو النَّضْرُ بْنُ الحَارثِ المذكورُ، وفيه نزلَتْ هذه الآية «1» .
قال ع «2» : وترتَّب أن يقول النَّضْرُ مقالَةً، وينسبها القُرآن إِلى جميعهم لأن النضر كان فيهم موسُوماً بالنُّبْل والفَهْم، مسكوناً إِلى قوله، فكان إِذا قال قولاً قاله منهم كثيرٌ، واتبعوه عليه حَسَب ما يفعله الناسُ أبداً بعلمائهم وفقهائهم.
ت: وخرَّج البخاريُّ بسنده، عن أنسِ بنِ مالكٍ، قال: قَالَ أَبو جَهْلٍ: اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عندكْ، فأمطر علينا حجارةً من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فنزلَتْ:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، إِلى: عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «3» اه، والمشار إِليه ب هذا هو القرآن وشَرْعُ محمّد صلّى الله عليه وسلّم، والذي حملهم على هذه المقالة هو الحَسَدُ، فعَمِيَتْ بصائرهم عن الهدَى، وصَمَّموا على أنَّ هذا ليس بحقٍّ، نعوذ باللَّه من جَهْدِ البلاءِ، وسُوء القضاء، وحكى ابن فُورَكَ: أن هذه المقالة خرجَتْ منهم مَخْرَجَ العنادِ، وهذا بعيدٌ في التأويل، ولا يقولُ هذا على جهة العناد عاقلٌ، وقراءةُ الناسِ إِنما هي بنَصْب «4» «الحق» على أنه خَبَرَ «كان» ، ويكون «هو» فصلا، فهو حينئذٍ اسم، و «أمْطِرْ» إِنما تستَعْملُ غالباً في المكروه، و «مَطَرَ» في الرحمة قاله أبو عُبَيْدة «5» .
وقوله سبحانه: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ... الآية: قالَتْ فرقة: نزلَتْ هذه الآية كلُّها بمكَّة، وقالت فرقة: نزلَتْ كلُّها بعد وقعة بَدْرٍ حكاية عما مضى.
__________
(1) أخرجه الطبري (6/ 230- 231) برقم: (15995، 15999) ، وذكره ابن عطية (2/ 520) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 520) .
(3) أخرجه البخاري (8/ 160) كتاب «التفسير» باب: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ برقم: (4649) .
(4) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 521) ، و «البحر المحيط» (4/ 482) ، و «الدر المصون» (3/ 414) .
(5) ذكره ابن عطية (2/ 521) .(3/129)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
وقال ابْنُ أَبْزَى «1» : نَزَلَ قوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ، وَأَنْتَ فِيهِمْ بمكَّة إِثر قولهم: أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ، ونزل قوله: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، عند خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من مكَّة في طريقه إِلى المدينة، وقد بقي بمكَّة مؤمنون يستغفرون، ونَزَلَ قوله: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ... إلى آخر الآية، بعد بَدْر عند ظهور العَذَاب عليهم.
ت: وهذا التأويل بَيِّن، وعليه اعتمد عِيَاضٌ في «الشِّفَا» قال: وفي الآية تأويلٌ آخر، ثم ذكَرَ حديث التِّرْمِذيِّ، عن أبي موسَى الأشعريِّ، قال: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أَنْزَلَ اللَّهُ تعالى عَلَيَّ أَمَانَيْنِ لأُمَّتي: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ، فَإِذَا مَضَيْتُ، تَرَكْتُ فِيهِمْ الاستغفار» . انتهى.
قال ع «2» : وأجمعَ المتأوِّلون عَلى أن معنى قوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ أن اللَّه عزَّ وجلَّ لم يعذِّب قطُّ أُمةً ونبيُّها بَيْنَ أظهرها، أي: فما كان اللَّه ليعذِّب هذه الأمة، وأنْتَ فيهم، بل كرامَتُكَ لديه أعظَمُ.
وقوله عز وجل: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ تُوعُّد بعذاب الدنيا، والضمير في قوله:
أَوْلِياءَهُ: عائدٌ على اللَّه سبحانه، أو على المسجدِ الحرامِ، كلُّ ذلك جيِّد، ورُوِيَ الأخير عن الحسن «3» .
وقال الطبريُّ «4» : عن الحسنِ بْنِ أَبي الحسنِ أن قوله سبحانه: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ ناسخ لقوله: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ.
قال ع «5» : وفيه نظر لأنه خبر لا يدخله نسخ.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 35 الى 36]
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
__________
(1) عبد الرحمن بن أبزى الخزاعي مولى نافع بن عبد الحارث، روى اثني عشر حديثا، وعن أبي بكر، وأبي، وعن عمار.
قال البخاري: له صحبة، وقال ابن أبي داود: تابعي.
ينظر: «تهذيب الكمال» (2/ 772) ، «تهذيب التهذيب» (6/ 132) ، «خلاصة تهذيب الكمال» (2/ 123) ، «الكاشف» (2/ 154) ، «الجرح والتعديل» (5/ 2009) .
(2) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 521) .
(3) ذكره ابن عطية (2/ 522) .
(4) ينظر: «الطبري» (6/ 232) .
(5) ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 523) . [.....](3/130)