وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، فالقرآن قد ابتدا نزوله فى ليلة القدر، ثم استمر نزوله نجوما بعد ذلك- متدرجا مع الوقائع والاحداث.
ورغم ان لكل راى من الثلاثة وجهة نظر تؤيده، أراني أميل الى راى الشعبي.
وانا اعترف بان الرأي الاول هو راى الجمهور، وان أسانيده متعددة وصحيحة، ولكن هذا الرأي يذهب الى ان للقرآن تنزلات ثلاثا، وهذه التنزلات من عالم الغيب الذي لا يؤخذ فيه الا بما تواتر يقينا فى الكتاب والسنة. اما صحة الأسانيد فى هذا القول فهي لا تكفى وحدها لوجود اعتقاده، كيف اذن وقد نطق بخلافه؟.
ان كتاب الله قد صرح بتدرج الوحى ونزوله مفرقة. كما صرح بانزاله فى ليلة القدر. ويمكن ان نحمل الانزال هنا على ابتداء النزول، فنجمع بين المعنيين.
وكثيرا ما احتفلنا بليلة القدر، ورويت للجمهور الآراء المتعددة فى نزول القرآن بيد ان راى الشعبي يظل أيسرها وأبقاها تعلقا فى أذهان الجمهور.
ان هذا الرأي يعتمد على القرآن بالدرجة الاولى، ولا يصنع اكثر من ان يوفق بين ما ظاهره التعارض من آياته.
- 4- راى آخر لمقاتل
ذكر العلماء قولا رابعا فى نزول القرآن، هو انه نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة، وان الحفظة نجمته على جبريل فى عشرين ليلة، وان جبريل نجمه على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة «25» .
وقد ذكر مقاتل بن سليمان هذا القول فى تفسيره مرة واحدة، عند تفسيره لسورة الدخان، بعد ان ذكر القول المشهور عنه، الذي كرره فى تفسيره.
ويمكننا ان نقول ان لمقاتل فى نزول القرآن رأيين، راى يرجحه، وهو نزول القرآن فى ثلاث وعشرين ليلة قدر، من اللوح المحفوظ الى سماء الدنيا، ينزل فى كل ليلة قدر منها ما يقدر الله انزاله فى كل السنة، ثم ينزل بعد ذلك منجما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فى جميع السنة.
وراى يجيزه، وقد عبر عنه بقوله:
(نزل القرآن كله من اللوح المحفوظ إلى السفرة فى ليلة واحدة «هي» ليلة
__________
(25) الإتقان للسيوطي: 1/ 41- وذكر ان هذا القول قد حكاه الماوردي، وذكر السيوطي انه ايضا غريب، وقال ابو شامة كان صاحب هذا القول أراد الجمع بين القولين الاول والثاني. ثم ساق السيوطي رواية تؤيد هذا الرأي، أخرجها ابن ابى حاتم من طريق الضحاك عن ابن عباس.(5/269)
القدر، فقبضه جبريل صلى الله عليه وسلم من السفرة في عشرين شهرا، وأداه إلى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عشرين سنة «26» .
ولا ارى داعيا لمناقشة هذا الرأي، إذ يكفى ان فيه تقولا على الغيب بدون يقين!.
ونحن نؤمن بان الله انزل القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم فى مدة رسالته، وان الله شرف ليلة القدر بنزول القرآن فيها على نحو ما، ثم نفوض العلم بحقيقة المراد الى الله سبحانه وتعالى.
قال الالوسى فى تفسير قوله تعالى:
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ: واللوح المحفوظ هو الذي فيه جميع الأشياء ونحن نؤمن به، ولا يلزمنا البحث عن ماهيته، وكيفية كتابته، ونحو ذلك) .
- 5- مدة نزول القرآن
يذهب مقاتل الى ان مدة نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت عشرين عاما «27» ، وقد سار فى جميع تفسيره على هذا الرأي، على حين ذهب آخرون الى ان مدة نزول الوحى كانت ثلاثة وعشرين عاما. وذهب فريق ثالث الى ان هذه المدة كانت خمسة وعشرين عاما.
وتبدا مدة نزول الوحى من مبدا البعثة النبوية، وتنتهي بقرب انتهاء حياته الشريفة صلى الله عليه وسلم.
وأساس الخلاف فى هذه المدة: هل هي 20 او 23 او 25 عاما، يرجع الخلاف فى مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد البعثة: هل كانت عشر سنين، او ثلاث عشرة، او خمس عشرة سنة؟.
اما مدة إقامته بالمدينة فعشر سنين اتفاقا «28» .
__________
(26) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث 2/ 146 ب (تفسير أول سورة الدخان) وانظر تحقيقي له مجلد 3 ص 817.
ويوجد ذلك بتغيير بسيط فى الإتقان للسيوطي: 1/ 42.
(27) انظر تفسير مقاتل لاول سورة الدخان 3/ 817، وسورة القدر: 4/ 771. [.....]
(28) انظر البرهان: 1/ 232، والإتقان: 1/ 42.(5/270)
قال الزركشي:
(وكان بين أول نزول القرآن وآخره عشرون او ثلاث وعشرون او خمس وعشرون سنة. هو مبنى على الخلاف فى مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة، فقيل عشر، وقيل ثلاث عشرة، وقيل خمس عشرة. ولم يختلف فى مدة إقامته بالمدينة انها عشر) «29» . وكان كلما انزل عليه شيء من القرآن امر بكتابته، ويقول:
فى مفترقات الآيات. «ضعوا هذه فى سورة كذا» ، وكان يعارضه جبريل بالقرآن فى شهر رمضان كل عام مرة، وعام مات مرتين.
وفى صحيح البخاري قال مسروق عن عائشة عن فاطمة رضى الله عنهما: أسر النبي صلى الله عليه وسلم الى «ان جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة (مرة) ، وانه عارضني (هذا) العام مرتين، ولا أراه الا حضور اجلى» «30» .
وبعض محققي تاريخ التشريح الإسلامي يذكر ان مدة إقامته صلى الله عليه وسلم بمكة بعد البعثة هي: اثنتا عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما، من السابع عشر من رمضان سنة 41 من مولده الشريف الى أول ربيع الاول سنة 54 منه.
اما مدة إقامته فى المدينة بعد الهجرة فهي تسع سنوات وتسع أشهر وتسعة ايام، من أول ربيع الاول سنة 54 من مولده الى التاسع ذى الحجة سنة 63 منه.
ويوافق ذلك سنة عشر من الهجرة. وهذا التحقيق قريب من القول بان مدة إقامته صلى الله عليه وسلم فى مكة ثلاث عشرة سنة، وفى المدينة عشر سنين. وان مدة الوحى بالقرآن ثلاثة وعشرون عاما «31» .
وإليك جدولا بتاريخ الميلاد النبوي والرسالة والهجرة ووفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حسب ما حققه محمود باشا الفلكي:
__________
(29) البرهان: 1/ 232، وقارن بالإتقان: 1/ 42.
(30) البرهان: 1/ 232.
(31) الفرقان للزرقاني: 1/ 45. ويعترض على هذا التحقيق بانه أهمل باكورة الوحى اليه صلى الله عليه وسلم عن طريق الرؤيا الصادقة ستة أشهر، على حين انها ثابتة فى الصحيح. ثم جرى على ان ابتداء نزول القرآن كان ليلة السابع عشر من رمضان وهي ليلة القدر على بعض الآراء.
والمشهور الذي يؤيده الصحيح انها فى العشر الأواخر من رمضان.
وانظر تاريخ التشريع للخضري. موضوع القرآن والسنة ص 8 ط 6.(5/271)
الموضوع/ التاريخ العربي/ التاريخ الميلادى ميلاد النبي (ص) / 9 ربيع الاول (عام الفيل) / 20 نيسان (ابريل) 571 م «32» بدء الرسالة/ 9 ربيع الاول سنة 13 قبل الهجرة/ 1 شباط (فبراير) 610 م «33» .
بدء الوحى/ 17 رمضان سنة 13 قبل الهجرة/ تموز (يوليو) سنة 610 م «34» الهجرة النبوية:
(ا) وصول قباء/ 2 ربيع الاول سنة 1 هـ/ 20 أيلول (سبتمبر) سنة 622 م «35» (ب) وصول المدينة/ 6 ربيع الاول سنة 1 هـ/ 24 أيلول (سبتمبر) سنة 622 م «36» وفاة النبي (ص) / 13 ربيع أول سنة 11 هـ/ 8 حزيران (يونيو) 633 م «37»
- 6- راى للشيخ الخضرى وتعقيب عليه
قال المرحوم الشيخ محمد الخضرى: وعهد نزول القرآن ينقسم الى مدتين متمايزتين:
الاولى: مدة مقامه صلى الله عليه وسلم بمكة، وهي اثنتا عشرة سنة وخمسة أشهر وثلاثة عشر يوما من 17 من رمضان سنة 41 الى أول ربيع الاول سنة 54 من ميلاده، وما نزل فيها يقال له المكي.
الثانية: ما بعد الهجرة وهي تسع سنوات وتسعة أشهر وتسعة ايام، من أول
__________
(32) شرح نور اليقين للخضري ص 6 طبعة حلب.
(33) المرجع السابق ص 21، وكان بدء الرسالة بالرؤيا الصادقة ستة أشهر.
(34) نفس المرجع.
(35) المرجع السابق ص 68، ولما أراد المسلمون وضع التاريخ فى خلافة امير المؤمنين عمر بن الخطاب جعلوا مبدأه من هذه الهجرة الشريفة. ولعدم المخالفة بين مبدا الهجرة وبدا السنة الهلالية قدموا ميعاد الهجرة شهرين وأياما، وجعلوا بدء الهجرة من محرم من سنتها.
(36) نفس المرجع.
(37) شرح نور اليقين للخضري طبعة حلب ص 243، وزاد: فيكون عمره عليه السلام 63 سنة قمرية كاملة وثلاثة ايام. واحدى وستين شلسة واربعة وثمانين يوما. صلى الله عليه وسلم.(5/272)
ربيع الاول سنة 54 الى تاسع ذى الحجة سنة 63 من ميلاده، وستة عشر من الهجرة وما نزل من القرآن فيها يقال له المدني.
ومكي القرآن نحو 19/ 30 منه، ومدنية نحو 11/ 30 منه «38» .
تعقيب:
1- أهمل استاذنا الخضرى مدة الرؤيا الصادقة من حساب الوحى المكي. وهي ستة أشهر. وفى صحيح البخاري ومسلم عن عائشة (رضى الله عنها) : أول ما بدا صلى الله عليه وسلم من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لا يرى رؤيا الا جاءت مثل فلق الصبح.
فإذا أضفنا ستة أشهر الى مدة نزول الوحى بمكة عند الخضرى وهي 12 سنة، 5 أشهر، 13 يوما، صارت: 12 سنة، 11 شهرا، 13 يوما.
2- كما اعتبرنا ان آية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، التي نزلت فى التاسع من ذى الحجة سنة 10 هجرية آخر ما نزل من الوحى، وقد عاش النبي بعد نزول هذه الآية 81 يوما.
وقد ثبت ان آخر آية نزلت هي قوله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «39» . وعاش النبي بعدها تسعة ايام فقط.
فالخضرى قد أسقط اذن 72 يوما من حساب الوحى المدني هي الفرق بين 81 يوما وتسعة ايام.
فإذا أضفنا 72 يوما الى: 9 سنوات، 9 أشهر، 9 ايام، مدة الوحى المدني عند الخضرى، صارت مدة نزول الوحى المدني: 9 سنوات، 11 شهرا، 21 يوما.
ومن التحقيق الدقيق الذي قدمناه لك، ترى ان الراجح هو ان مدة نزول الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت ثلاثة وعشرين عاما على وجه التقريب.
وان مدة نزول الوحى فى مكة 13 عاما «40» . وان مدة نزول الوحى فى المدينة 10 أعوام «41» .
والحمد لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا ان هدانا الله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________
(38) تاريخ التشريع ص 8 ط 6 مطبعة السعادة بمصر.
(39) اخرج النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس، وكذلك اخرج ابن ابى حاتم قال: آخر ما انزل من القرآن كله وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ الآية.. وعاش النبي بعد نزولها تسع ليال ثم مات لليلتين خلتا من ربيع الاول.
وانظر مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 96- 98.
(40) هذه المدة بالتحديد: 12 سنة، 11 شهرا، 13 يوما.
(41) وهذه المدة بالتحديد: 9 سنوات، 11 شهرا، 21 يوما. [.....](5/273)
خاتمة
فى نهاية هذه الدراسة يحسن ان اقدم عرضا موجزا لاهم ما اشتملت عليه.
لقد بدأت بتمهيد موضوعه (التفسير قبل مقاتل) ، وقد تناولت فيه التفسير عَلَى عهد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ثم التفسير فى عهد الصحابة، رضوان الله عليهم، وبينت انهم تفاوتوا فى التفسير تبعا لمقدار سماعهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمقدار ما شاهدوا من اسباب النزول، ولمقدار ما ألهمه الله كلا منهم عن طريق الرأي والاجتهاد. ثم ترجمت لاربعة من أشهر مفسريهم هم:
عبد الله بن عباس، وعبد الله بن مسعود، وعلى بن ابى طالب، وابى بن كعب.
ثم انتقلت الى التفسير فى عهد التابعين ووازنت بينه وبين التفسير فى عهد الصحابة، فذكرت ان من خصائص عهد التابعين تدوين التفسير، وكثرة الرجوع الى اهل الكتاب، وكثرة الخلاف المذهبى حول الآيات، وتفسير القرآن جميعه آية آية.
كما ان من خصائص التفسير فى عهد التابعين ظهور مدارس للتفسير متميزة هي:
1- مدرسة مكة، وأصحابها تلاميذ ابن عباس رضى الله عنه.
2- ومدرسة العراق وأصحابها تلاميذ ابن مسعود.
3- ومدرسة المدينة. والمفسرون فيها تلاميذ ابى بن كعب.
ثم تناولت التفسير فى عهد تابعي التابعين، فبينت ان الهمم قد اتجهت فى ذلك العهد الى جميع ما روى من التفسير عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعن صحابته، وعن التابعين، فدونوا علم التفسير فى الكتب، لكن معظم هذه التفاسير ضاع، فلم يبق منها سوى تفسير سفيان الثوري وقد طبع حديثا بالهند، وتفسير عبد الرزاق ابن همام الصنعاني، وهو محفوظ فى مخطوطة بدار الكتب المصرية.
وانتقلت الى الحديث عن التفسير النقلى والتفسير العقلي، وتحرج بعض الصحابة والمتنسكين من القول فى القرآن بالرأي. من ذلك قول الشعبي: «ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن والروح والرأي» . بينما تجرا آخرون على القول بالرأي فى تفسير القرآن.
وقد كان اكثر من قام بالتفسير العقلي علماء العراق، اصحاب مدرسة الرأي فى التشريع، وتلاميذ ابن مسعود أستاذ اصحاب الرأي.(5/275)
وقد انقسمت كتب التفاسير الى هذين النوعين: كتب التفسير بالمأثور، وكتب التفسير بالمعقول.
وعندئذ ينتهى التمهيد الذي قدمته بين يدي البحث، ثم يبدأ القسم الاول من الدراسة، وموضوعه: (مقاتل بن سليمان) ، وهو يشتمل على اربعة أبواب:
الباب الاول: حياة مقاتل.
الباب الثاني: مقاتل وعلم الحديث.
الباب الثالث: مقاتل وعلم التفسير.
الباب الرابع: مقاتل وعلم الكلام.
فى الباب الاول، ذكرت نسب مقاتل وحققت مولده، وان كانت جميع المراجع لم تحدد مولده، الا اننى مضيت اتلمس القرائن والإشارات من كل ما كتب عن مقاتل وبعض معاصريه حتى رجح لدى ان ميلاده كان حوالى سنة 80 هجرية.
ثم تكلمت عن الإقليم الذي نشا فيه وهو خراسان، وعن المدينة التي ولد بها وهي مدينة بلخ، وذكرت انها كانت قبل الإسلام مركزا للزرادشتية والبوذية والمانوية والمسيحية النسطورية وغيرها من الديانات، ثم تحدثت عن بلخ بعد الإسلام، وعن اثر هذه المدينة فى حياة مقاتل. وانتقلت الى الحديث عن تحول مقاتل الى العراق، فرجحت ان يكون ذلك قد تم بين سنة 130 هـ وسنة 136 هـ، حينما أحس بأفول نجم الدولة الاموية، وظهور شان العباسيين.
وفى العراق اقام مقاتل فى البصرة، وهي تزخر بالمعتزلة الذين يقولون بنفي الصفات عن الله، فغلا مقاتل فى اثبات الصفات حتى اتهم بالتشبيه والتجسيم.
ورحل مقاتل بعد هذا الى مكة وبيروت، ولكن المقام لم يطب له فعاد الى العراق بلد الملل والنحل حيث وجد امامه جوا مهيئا لتقبل أفكاره، والاستماع الى تفسيره الكامل للقرآن الكريم، وبذلك ينتهى الباب الاول من الدراسة.
اما الباب الثاني، فقد خصص للكلام عن مقاتل وعلم الحديث، وقد ذكرت فيه ان رجال الحديث جرحوا مقاتلا واتهموه بالكذب والوضع، ثم تكلمت عن مقاتل المدلس، وذكرت امثلة من تدليسه. ثم ذكرت شيوخ مقاتل الذين روى عنهم، وتلاميذه الذين رووا عنه.
ثم رأيت ان بعض الثقات اثنى على مقاتل ورفعه الى منزلة الامامة، فكان لا بد من الموازنة بين الأقوال والآراء المتضاربة التي وردت فى مقاتل.
1- وانتهيت الى ان بعض الذين جرحوا مقاتلا كانوا مبالغين.
2- وان الثناء على مقاتل يتجه بالدرجة الاولى الى التفسير لا الى الحديث.(5/276)
3- كما انتهيت الى تجريح مقاتل المحدث، لان القاعدة فى علوم الحديث انه إذا اجتمع فى الراوي جرح مبين السبب وتعديل- فالجرح مقدم على التعديل، وان كثر عدد المعدلين، لان مع المجرح زيادة علم لم يطلع عليها المعدل.
4- ولا يمنعنا ذلك من احياء تفسيره وتحقيقه فهو اقدم تفسير كامل للقرآن وصل إلينا، ويكفيه قول الامام الشافعي رضى الله عنه: من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان.
اما الباب الثالث، فيتحدث عن مقاتل وعلم التفسير. وإذا كان التمهيد قد حدثنا عن التفسير قبل مقاتل، فان هذا الباب يحدثنا عن تفسير مقاتل. وهو تفسير جمع بين المأثور والمعقول، وتميز بالبساطة والسهولة والاحاطة التامة بمعاني الآيات ونظائرها فى القرآن، وما يتعلق بها من السنة، كما تميز باختيار أقوى الآراء فى الآية وأولاها بالصواب، دون سرد للخلاف. ورغم مرور اكثر من الف ومائة سنة على هذا التفسير، فانك تحس وأنت تقرؤه انه كتب لأوساط الناس فى هذه الأيام.
وتناولت الحديث عن كليات مقاتل، وهي من الفرائد النادرة التي سبق بها، مثل قوله كل شيء فى القرآن (آلاء الله) يعنى نعماء الله.
كما تحدثت عن جمع مقاتل بين الآيات التي يوهم ظاهرها التناقض وتأويله لها تأويلا عقليا.
وذكرت ان الجمع بين المعقول والمنقول يظهر واضحا جليا فى تفسير مقاتل، بل فى كل صفحاته تقريبا.
وكان لا بد هنا من الحديث عن أول من فسر القرآن، فذكرت ان من أوائل المفسرين- ابن عباس، وقتادة، وسفيان الثوري. ولكن تفاسيرهم كانت تقتصر على الآيات التي رويت آثار فى تفسيرها. اما تفسير مقاتل- فى علمنا- أول تفسير للقرآن كله آية آية.
وجاء دور الحديث عن أول من دون التفسير. ففرقت بين أول من دون التفسير بطريق الرواية والجمع، وأول من الف تفسيرا فنيا كاملا للقرآن. وغنى عن القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو أول من فسر القرآن، لأنه كلف تبليغه وبيانه. اما أول من دون التفسير فقد مال الدكتور احمد أمين الى انه الفراء (المتوفى سنة 207 هـ) ، وقد ناقشت هذه الدعوى فاثبت بطلانها بجملة ادلة منها:
1- ان تفسير الفراء ليس تفسيرا كاملا للقرآن، بل هو تفسير لكلمات لغوية ونحوية، وهو يقتصر على بعض الآيات دون بعض.
2- ان عبد الملك بن مروان (المتوفى سنة 86 هـ) سال سعيد بن جبير ان يكتب اليه بتفسير القرآن فكتب اليه سعيد بالتفسير الذي طلبه منه.
3- ان مجاهدا (المتوفى سنة 101 هـ) كان يسال ابن عباس عن التفسير ومعه ألواحه، وكان يكتب ما يقوله له حتى سأله عن التفسير كله.(5/277)
4- ان تفسير مقاتل بن سليمان (المتوفى سنة 150 هـ) اسبق من تفسير الفراء بأكثر من نصف قرن.
وبقي بعد ذلك هذا السؤال: من هو أول من دون التفسير؟، فرجحت ان تدوين التفسير سابق على مقاتل بادلة تقدم بعضها.
ثم فرقت بين رجل دون التفسير بطريق النقل عن السابقين، ورجل فسر القرآن وأبدع التأليف فى التفسير.
وفى رأيي ان تفسير مقاتل هو أول تفسير كامل لكل آيات القرآن، كما انه أول تفسير فنى يشرح كل آية ويوضحها، وذكرت ان مقاتلا كان من أوائل من كتبوا فى علوم القرآن وأوردت اسماء كتبه فى ذلك.
وأخيرا سجلت حقيقتين هما:
1- ان مقاتلا أول من فسر القرآن تفسيرا عقليا كاملا.
2- وانه من أوائل من كتب فى علوم القرآن كتابة جامعة.
اما الباب الرابع، فكان للكلام عن مقاتل وعلم الكلام.
وقد تحدثت فى الفصل الاول منه عن اتهام مقاتل بالتشبيه والتجسيم. ورددت على هذا الاتهام.
اما الفصل الثاني فقد درست فيه دراسة احصائية تفسير مقاتل لآيات الصفات فى ضوء اتهامه بالتشبيه والتعطيل، وكانت النتيجة ان برىء مقاتل من التشبيه فى آيات الوجه واليد والعين.
واما الفصل الثالث، فيبدأ بإحصاء عن الآيات التي فسرها مقاتل تفسيرا يفيد التجسيم والتشبيه، وهي آيات الاستواء والكرسي والعرش وغيرها.
ثم عرض لآراء المفسرين واللغويين وأئمة السلف والخلف فيها، وبينت الرأي الذي نختاره فى ضوء ذلك.
واما الفصل الرابع فكان للتعقيب على ما سبق، فذكرت ان قول مقاتل بان الله لحم ودم قول تفردت به كتب الفرق. وان تفسير مقاتل خلا خلوا تاما من هذا القول. ومن ثم استبعدت نسبته الى مقاتل، فان بعض كتب الفرق كانت تروى كلام الخصوم بشيء من المبالغة، تنفيرا للناس من مذهبهم الفاسد.
ثم تحدثت عن رؤية الله عند مقاتل، وبينت انه ممن يثبتون انه ممن يثبتون رؤية الله.
وتكلمت عن اتهام مقاتل بالارجاء، ورجحت انه من مرجئة السنة لا من مرجئة البدعة. وبذلك ينتهى القسم الاول من الدراسة.(5/278)
اما القسم الثاني فكان عن منهج مقاتل فى تفسير القرآن الكريم، وهو يتميز بخصائص واضحة فى ثمانية امور:
1- اسباب النزول:
وقد رأيت ان تفسير مقاتل اجمع تفسير مبسط لاسباب النزول. وكان الشائع هو ضعف الأحاديث التي رواها مقاتل فى تفسيره، ولكن بمقارنة هذه الأحاديث بما ورد فى الصحيح رأيت ان أكثرها صحيح.
2- النسخ:
وقد درست فيه دراسة احصائية الآيات المنسوخة عند مقاتل، وناقشت دعاوى النسخ عليها، معتمدا فى ذلك على كتاب أستاذي الدكتور مصطفى زيد، حيث انه آخر انتاج فى الموضوع. ووصلت الى ان معظم الآيات التي ادعى مقاتل انها منسوخة. لا اثر للنسخ فيها بادلة ذكرت فى موضعها.
3- المحكم والمتشابه:
ذكرت راى مقاتل فى المحكم والمتشابه. ورأيه فى متشابه الصفات، فى ضوء مذاهب السلف والخلف والمتوسطين.
وذكرت ان معظم تفسيره لا يخرج عن هذه المذاهب. وانه فى بعض تفسيره خرج عنها الى التجسيم.
ثم ذكرت راى شترثمان، واتهامه المسلمين بالحيرة بين التشبيه والتعطيل، وناقشت هذا الاتهام وأبطلته بجملة ادلة.
4- فواتح السور:
ذكرت آراء العلماء فى فواتح السور. وراى مقاتل فى ضوء ما ذهب اليه الآخرون. وأخيرا رجحت انها للتحدي والاعجاز.
5- الاسرائيليات:
تكلمت عن نشاة الاسرائيليات فى التفسير، وعن دخولها فيه عن طريق اليهود والنصارى، وقارنت بين القرآن والتوراة فى طريقة عرض القصص. وذكرت اقسام الاسرائيليات. ثم تحدثت عن الاسرائيليات فى تفسير مقاتل فذكرت ثلاثة عشر نموذجا منها، وقارنتها بما ورد فى كتب العهدين القديم والجديد، وعرضتها على ميزان العقل والنقل.
وقارنت بين ما ذكره مقاتل من إسرائيليات وما شنع به ابن كثير على هذه الاسرائيليات.(5/279)
ثم تحدثت عن الاسرائيليات فى كتب التفسير واسباب نموها خصوصا فى المطولة منها كالطبرى والبغوي والخازن والقرطبي. وناقشت دفاع الطوفى عن المفسرين ورددته وذكرت ان المفسرين مسئولون مسئولية كاملة عن حشو التفاسير بهذه الاسرائيليات والصاقها بكتاب الله. وناقشت دعوى ان الإسلام نسخة من اليهودية.
وفندت هذه الفرية، وذكرت تأثير الإسلام فى اليهودية.
6- ثم تحدثت عن التشيع فى تفسير مقاتل:
وذهبت الى ان مقاتل بن سليمان شيعى زيدي، وان تشيعه اقتصر على تفضيل الامام على، وانه استعان على ذلك بالروايات المرجوحة والضعيفة، وانه خصص بعض الآيات العامة بعلى- رضى الله عنه-
7- وتحدثت عن المكي والمدني عند مقاتل:
فقدمت جدولا بالسور المكية والمدنية فى تفسير مقاتل، ثم قارنت ذلك بما ورد فى المصحف المطبوع.
وقمت بإحصاء للسور التي اختلف مكان نزولها فى المصحف عنه فى تفسير مقاتل، وفى هذا الإحصاء ظهر الآتي:
ان (104) سورة يتفق مكان نزولها فى تفسير مقاتل وفى المصحف المتداول.
وان (10) سور يختلف مكان نزولها فى تفسير مقاتل عنه فى المصحف.
ذكرت راى الجمهور وراى مقاتل وراى الشعبي وراى الشيخ الخضرى فى مدة نزول القرآن، مع تعقيب وتحقيق.
8- كيفية إنزال القرآن:
وأخيرا، فما هو الجديد الذي هداني اليه البحث؟
أولا: تحقيق سنة ميلاد مقاتل، وهو شيء لم تذكره جميع المصادر والمراجع.
ثانيا: بيان أول من دون التفسير، وأول من فسر القرآن الكريم تفسيرا عقليا كاملا، وقد أبطلت رأيا سائدا ان الفراء (ت 207 هـ) هو أول من دون التفسير، وخطوات بالتفسير خطوات واسعة نحو أصله، فبعد ان كان تفسير الطبري (310 هـ) هو اقدم تفسير للقرآن- صار تفسير مقاتل (150 هـ) هو اقدم تفسير.
ثالثا: اتهام مقاتل بالقول بان الله لحم ودم، وهو اتهام كان رائجا- اثبت بالدليل انه قول تفردت به كتب الفرق، وان تفسيره الكامل قد خلا منه خلوا تاما.
ومن ثم رجحت عدم صحته.
رابعا: كان المشهور ضعف جميع الأحاديث التي وردت فى تفسير مقاتل،(5/280)
لاتهامه بالكذب والوضع، لكني بمقارنة أحاديث اسباب النزول فى تفسير مقاتل بما ورد منها فى كتب الصحيح والسنن- وجدت ان أكثرها صحيح.
خامسا: قدمت دراسة احصائية للآيات المنسوخة عند مقاتل، قارنتها بما ورد فى كتاب أستاذي الدكتور مصطفى زيد.
سادسا: كما قدمت مقارنة بين المكي والمدني فى تفسير مقاتل وفى المصحف المطبوع.
وأخيرا- فقد بدت لي خلال العمل الطويل فى تحقيق تفسير مقاتل ودراسة منهجه عدة مقترحات ارى ضرورة تسجيلها هنا.
وأول هذه المقترحات: ان تتكاتف مجموعة من العلماء مع احدى دور النشر على طبع تفسير مقاتل بعد ان قمت بتحقيقه، تعميما للفائدة المرجوة من نشره.
وثانيها: ان يقوم بعض المتخصصين فى علوم الحديث بتخريج ما حفل به هذا التفسير من أحاديث وآثار، تمييزا للصحيح منها عن غير الصحيح.
وثالثها: ان تحقق وتنشر مؤلفات مقاتل فى علوم القرآن، بوصفها اقدم كتب وضعت فى هذه المادة.
ورابعها: ان يقوم باحث او اكثر، من المعنيين بالدراسات الاسلامية، بتحقيق ونشر تفسير عبد الرزاق بن همام الصنعاني- وقد أسلفت ان نسخته المخطوطة محفوظة بدار الكتب- بوصفه أول تفسير كامل بالآثار وصل إلينا.
ولا أحب ان أضع القلم قبل ان أتقدم بالشكر لجميع من عاونوني فى انجاز هذا البحث الذي اضنانى طويلا، وأخص بالشكر أستاذي المشرف الأستاذ الدكتور مصطفى زيد، الذي صحبني فى هذه الرحلة الطويلة مع مقاتل وتفسيره، على الرغم من المرض الذي يكابد منه، فشفاه الله وعافاه.(5/281)