- تعالى- كليهما، فكانا سواء لم يزد ماء السماء على ماء الأرض، وكان ماء السماء باردا مثل الثلج، وماء الأرض جارا مثل الحميم، فذلك قوله: «عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ» لأن الماء ارتقع فوق كل جبل ثلاثين يوما، ويقال أربعين ذراعا، فكان الماء الذي على الأرض، والذي على رءوس الجبال سواء فابتلعت الأرض ماءها، وبقي ماء السماء أربعين يوما «لم تشربه الأرض «1» » فهذه البحور التي على الأرض منها وَحَمَلْناهُ نوحا عَلى ذاتِ أَلْواحٍ يعني ألواح السفينة وهي من ساج، ثم قال: وَدُسُرٍ- 13- يعني مسامير من حديد تشد به السفينة، كان بابها في عرضها تَجْرِي بِأَعْيُنِنا يقول تجري السفينة في الماء بعين الله- تعالى- فأغرق الله قوم نوح، فذلك الغرق جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ- 14- يعني نوحا المكفور به وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً يعني السفينة كانت عبرة وآية لمن بعدهم من الناس، نظيرها في الحاقة «2» ، وفي الصافات «3» ، وفى العنكبوت «4» .
__________
(1) فى أ: «لم ينسفها الأرض» وفى ف: «لم ينشقها الأرض» .
(2) عله يشير إلى الآية 11، 12 من سورة الحاقة وهما «إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ، لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» .
(3) عله يشير إلى الآية 14 وهي «وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ» . أو إلى قصة نوح فى سورة الصافات فى الآيات 75- 82، وتمامها «وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ، وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ، وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ، سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ، إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ» .
(4) يشير إلى آيتي 14، 15 من سورة العنكبوت وفيهما «وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ، فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ» .(4/179)
فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ- 15- يقول هل من يتذكر؟ فيعلم أن ذلك حق فيعتبر ويخاف عقوبة الله- تعالى- «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» «1» - 16- وَلَقَدْ يَسَّرْنَا يقول هونا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ يعني ليتذكروا فيه فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ- 17- يعنى فيتذكر فيه ولولا أن الله- تعالى- يسر القرآن للذكر ما استطاع أحد أن يتكلم بكلام الله- تعالى- ولكن الله- تعالى- يسره على خلقه فيقرءونه على كل حال كَذَّبَتْ عادٌ هودا بالعذاب فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ- 18- يقول الذي أنذر قومه «ألم يجدوه «2» » حقا؟
ثم أخبر عن عذابهم فقال: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً يعنى باردة شديدة فِي يَوْمِ نَحْسٍ يعني شديد مُسْتَمِرٍّ- 19- يقول استمرت عليهم الريح لا تفتر عنهم سبع ليال، وثمانية أيام حسوما دائمة تَنْزِعُ الريح أرواح النَّاسَ من أجسادهم فتصرعهم، ثم شبههم فقال: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ يعني أصول النخل «مُنْقَعِرٍ» «3» - 20- يقول «انعقرت» «4» النخلة من أصلها فوقعت [176 ب] وهو «المنقطع «5» » .
__________
(1) «فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ» - 21-: ساقطة هي وتفسيرها من الأصول.
(2) «ألم يجدوه» أنسب من «أليس وجدوه» .
(3) فى أ: (يكون «منعقر» ) ، فى ف: (يكون «منقعر» ) .
(4) فى أ: «انعقرت» ، وفى ف: «انقرعت» ، وفى النسفي «انقلعت» .
(5) قال النسفي: «كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ» أصول نخل منقلع عند مغارسه وشبهوا بأعجاز النخل لأن الريح كانت تقطع رءوسهم فتبقى أجسادا بلا رءوس فيتساقطون على الأرض أمواتا وهم جئت طوال كأنهم أعجاز نخل وهي أصولها بلا فروع وذكر صفة «تخل» على اللفظ ولو حملها على المعنى لأنث كما قال: « ... كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ» سورة الحاقة: 7.(4/180)
فشبههم حين وقعوا من شدة العذاب «بالنخيل «1» » الساقطة التي ليست لها رءوس وشبههم «بالنخيل «2» » لطولهم، كان طول كُلّ رَجُل منهم «اثنى «3» » عشر ذراعا فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ- 21- وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ- 22- كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ- 23- يعني بالرسل فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ يعنون صالحا إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ- 24- يعني لفي شقاء وعناء إن تبعنا صالحا أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ يعني أنزل عليه الوحي مِنْ بَيْنِنا يعنون صالحا- صلى الله عليه-، ونحن أفضل منه عند الله منزلة، فقالوا: بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ- 25- يعني بطر مرح، قال صالح: سَيَعْلَمُونَ غَداً عند نزول العذاب مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ- 26- فهذا وعيد أنا أم أنتم إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ لنبتليهم بها فَارْتَقِبْهُمْ يعني انتظرهم فإن العذاب نازل بهم وَاصْطَبِرْ- 27- على الأذى وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ يوم للناقة ويوم لأهل القرية كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ- 28- يعني اليوم والناقة يقول إذا كان يوم «الناقة» «4» حضرت شربها، وإذا كان يومهم حضروا شربهم فَنادَوْا صاحِبَهُمْ بعد ما كانوا منعوا الماء وكان القوم على شراب لهم ففني الماء، فبعثوا رجلا ليأتيهم بالماء ليمزجوا به الخمر، فوجدوا الناقة على الماء، فرجع، وأخبر أصحابه، فقالوا لقدار بن سالف اعقروها. وكانوا ثمانية فأخذ قدار السيف
__________
(1) فى أ: «النخلة» ، وفى ف: «النخيل» .
(2) فى أ «بالنخل» ، وفى ف: «بالنخيل» .
(3) فى أ. ف: «اثنا» ، وصوابه «اثنى» .
(4) فى أ: «القيامة» ، وفى حاشية أ: «الناقة محمد» ، وفى ف: «الناقة» . [.....](4/181)
فعقرها، وهو عاقر الناقة. فذلك قوله: فَتَعاطى فَعَقَرَ- 29- فتناول الناقة بالسيف فعقرها فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ- 30- يعني الذي أنذر قومه «ألم يجدوه «1» ؟» حقا فلما أيقن بالهلاك تكفنوا بالأنطاع وتطيبوا بالمر، ثم دخلوا حفرهم صبيحة يوم الرابع، ثم أخبر عن عذابهم فقال: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً من جبريل- عليه السلام- وذلك أنه قام فى ناحية القرية فصاح صيحة فحمدوا أجمعين فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ- 31- شبههم في الهلاك بالهشيم البالي يعني الحظيرة من القصب ونحوها تحظر على الغنم، أصابها ماء السماء وحر الشمس حتى بليت من طول الزمان، قال أبو محمد: قال أبو العباس أحمد بن يحيى «2» : الهشيم النبت الذي أتى عليه حر الشمس وطول المدة فإذا مسسته لم تجده شيئا وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ- 32- كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ- 33- يعنى بالرسل، ثم أخبر عن عذابهم فقال: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً يعني الحجارة من فوقهم، ثم استثنى فقال: إِلَّا آلَ لُوطٍ «ابنتيه ريثا وزعونا «3» » نَجَّيْناهُمْ من العذاب بِسَحَرٍ- 34- يعني بقطع من آخر الليل، وكان ذلك نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا على آل لوط حين «أنجى» «4» الله- تعالى- آل لوط كَذلِكَ يعني هكذا نَجْزِي بالنجاة مَنْ شَكَرَ- 35-[177 أ] يعني من وحد الله- تعالى- وصدق بما جاءت به الرسل لم يعذب مع المشركين فى الدنيا، كقوله: « ... وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» «5» يعنى الموحدين، ثم قال وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ
__________
(1) «ألم يجدوه؟» وردت بالأصل «أليس وجدوه؟» ولكن الأنسب «ألم يجدوه» .
(2) فى أ: «ثعلب أحمد بن يحيى» وعلى ثعلب شطب.
(3) فى أ: «ريثا وزعرتا» ، وفى ف: «رتثا وزعوثا» .
(4) فى الأصل: «أنجا» .
(5) سورة آل عمران: 144، وتمامها: «وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» .(4/182)
لوط بَطْشَتَنا يعني العذاب فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ- 36- يقول شكوا في العذاب بأنه غير نازل بهم الدنيا وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ جبريل- صلى الله عليه وسلم- ومعه ملكان فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ يقول فحولنا أبصارهم إلى العمى، وذلك أنهم كسروا الباب، ودخلوا على الرسل يريدون منهم ما كانوا يعملون بغيرهم، فلطمهم جبريل بجناحه فذهبت أبصارهم فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ- 37- يقول هذا الذي أنذروا «ألم يجدوه «1» » حقا وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ- 38- يقول استقر بهم العذاب بكرة فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ- 39- يقول هذا الذي أنذروا «ألم يجدوه «2» » حقا؟
«وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» «3» - 40- وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ- 41- يعنى الرسل موسى و «هارون» «4» - عليهما السلام- يعني بآل فرعون القبط، وكان فرعون قبطيا يقول:
كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يعني بالآيات التسع: اليد، والعصا، والطمس، والسنين، والطوفان، والجراد، والقمل والضفادع، والدم فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ فى انتقامه مُقْتَدِرٍ- 42- على هلاكهم، ثم خوف كفار مكة فقال: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ يعني أكفار أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- خير من كفار الأمم الخالية الذين ذكرهم فى هذه السورة يقول أليس أهلكتهم بالعذاب بتكذيبهم الرسل، فلستم خيرا منهم إن كذبتم
__________
(1) فى الأصل: «أليس وجدوه» .
(2) فى الأصل: «أليس وجدوه» .
(3) «وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ» : هذه الآية ساقطة هي وتفسيرها من الأصول.
(4) فى أ: «هرون» .(4/183)
محمدا- صلى الله عليه وسلم- أن يهلككم بالعذاب أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ- 43- يعني في الكتاب يقول ألكم براءة من العذاب في الكتاب أنه لن يصيبكم من العذاب ما أصاب الأمم الخالية؟، فعذبهم الله ببدر بالقتل أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ- 44- من عدونا يعني محمدا- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يقول الله- تعالى- لنبيه- صلى الله عليه وسلم- سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ يعني جمع أهل بدر وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ- 45- يعني الأدبار لا يلوون على شيء، وقتل عبد الله بن مسعود أبا جهل بن هشام بسيف أبي جهل، وأخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- أنه رأى في جسده مثل لهب النار، قال ذلك ضرب الملائكة، وأجهز على أبي جهل عوف ومعوذ ابنا عفراء، ثم أوعدهم فقال: بَلِ السَّاعَةُ يعني يوم القيامة مَوْعِدُهُمْ بعد القتل وَالسَّاعَةُ يعني والقيامة أَدْهى يعنى أقطع وَأَمَرُّ- 46- من القتل يقول القتل يسير ببدر ولكن عذاب جهنم أدهى وأمر عليهم من قتل بدر، ثم أخبر عنهم [177 ب] فقال إِنَّ الْمُجْرِمِينَ في الدنيا فِي ضَلالٍ يعني في شقاء وَسُعُرٍ- 47- يعني وعناء، ثم أخبر بمستقرهم في الآخرة فقال: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ بعد العرض تسحبهم الملائكة وتقول الخزنة: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ- 48- يعني عذاب سقر إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ- 49- يقول قدر الله لهم العذاب ودخول سقر وَما أَمْرُنا في الساعة إِلَّا واحِدَةٌ يعني إلا مرة واحدة لا مثنوية لها كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ- 50- يعنى كجنوح الطرف وَلَقَدْ أَهْلَكْنا بالعذاب أَشْياعَكُمْ يعنى عذبنا إخوانكم أهل ملتكم، يا أهل مكة، يعنى الأمم الحالية حين كذبوا رسلهم فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ- 51- يقول فهل من متذكر فيعلم أن ذلك حق فيعتبر ويخاف فلا يكذب محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-،(4/184)
ثم قال: وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ- 52- يعني الأمم الخالية، قال كل شيء عملوه مكتوب في اللوح المحفوظ «وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ» «1» - 53- إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ يعني البساتين وَنَهَرٍ يعني الأنهار الجارية، ويقال «السعة» «2» مثل قوله في الكهف « ... وَفَجَّرْنا خِلالَهُما «3» نَهَراً» فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ- 55- على ما يشاء وذلك أن أهل الجنة يدخلون على ربهم- تعالى- على مقدار كل يوم جمعة، فيجلسون إليه على قدر أعمالهم في الدنيا وبقدر ثوابهم في الآخرة فيعطون في ذلك المجلس ما يحبون من «شيء» «4» ، ثم يعطيهم الرب- تعالى- ما لم يسألوه من الخير من جنة عدن ما لم تره عين، ولم تسمعه أذن ولم يخطر على قلب بشر.
__________
(1) من حاشية أ، وفى الجلالين: (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ) من الذنب والعمل مُسْتَطَرٌ مكتتب فى اللوح المحفوظ.
(2) كذا فى أ، ف: والسعة بمعنى الواسعة التي تبهج النظر وتسر العين.
(3) سورة الكهف: 33 وتمامها: «كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً» .
(4) فى أ: «نبى» وفى ف: «شيء» .(4/185)
سورة الرّحمن(4/187)
[سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 78]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)
وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14)
وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19)
بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34)
يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49)
فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59)
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69)
فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74)
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78)(4/189)
[سورة الرحمن «1» ] سورة الرحمن مكية عددها ثمان وسبعون آية كوفى «2» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
المنة على الخلق بتعليم القرآن، وتلقين البيان، وأمر الخلائق بالعدل فى الميزان، والمنة عليهم بالعصف والريحان وبيان عجائب القدرة فى طينة الإنسان، وبدائع البحر وعجائبه، من استخراج اللؤلؤ والمرجان، وجريان الفلك على وجه الماء أبدع جريان، وفناء الخلق وبقاء الرحمن، وقضاء حاجات المحتاجين، وأن لا نجاة للعبد من الله إلا بحجة وبرهان، وقهره الخلائق فى القيامة بلهيب النار والدخان، وسؤال أهل الساعة والعصيان، وطوف الكفار فى الجحيم ودلال المؤمنين فى نعيم الجنان، ومكافاة أهل الإحسان بالإحسان. [.....]
(2) فى أ: سبعة وثمانون، وهو خطأ.
وفى المصحف: (55) سورة الرحمن مدنية، وآياتها 78 نزلت بعد سورة الرعد.
تفسير مقاتل ج 4- م 13.(4/193)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: الرَّحْمنُ- 1- وذلك أنه لما نزل ... اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ ... «1»
قَالَ كفار مكة: ... وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا ... «2» فأنكروا الرحمن وقالوا: لا نعرف الرحمن، فأخبر الله- تعالى- عن نفسه، وذكر صنعه ليعرف، فيوحد فقال: «الرَّحْمَنُ» الذي أنكروه هو الذي: عَلَّمَ الْقُرْآنَ- 2- خَلَقَ الْإِنْسانَ- 3- يعنى آدم- عليه السلام- عَلَّمَهُ الْبَيانَ- 4- يعني بيان كل شيء الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ- 5- مطالعهما ومغاربهما ثمانين ومائة مطلع، وثمانين ومائة مغرب «لتعلموا «3» » بها عدد السنين والحساب، ثم قال: وَالنَّجْمُ يعني كل نبت ليس له ساق وَالشَّجَرُ كل نبت له ساق يَسْجُدانِ- 6- يعني سجودهما ظلهما «4» طرفي النهار حين نزول الشمس، وعند طلوعها إذا تحول ظل الشجرة فهو سجودها، ثم قال: وَالسَّماءَ رَفَعَها من الأرض «مسيرة «5» » خمسمائة عام [178 أ] وَوَضَعَ الْمِيزانَ- 7- الذي يزن به الناس وضعه الله عدلا بين الناس أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ- 8-
__________
(1) سورة الفرقان: 60.
(2) سورة الفرقان: 60.
(3) فى أ: زيادة: «يعنى لتعلموا» .
(4) كذا فى أ، ف، والمراد سجود ظلهما.
(5) «مسير» من ف، وليست فى أ.(4/195)
يعني ألا تظلموا في الميزان وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ يعني اللسان بالعدل وَلا تُخْسِرُوا يعني ولا تنقصوا الْمِيزانَ- 9- وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ- 10- يعني للخليقة من أهل الأرض فِيها يعني فى الأرض فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ- 11- يعني ذات الأجواف، مثل قوله: « ... وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها ... «1» » يعنى الكفرى موقر «طلعها «2» » وَالْحَبُّ فيها يعني في الأرض أيضا، الحب: يعني البر والشعير ذُو الْعَصْفِ يعني ورق الزرع الذي يكون فيه الحب وَالرَّيْحانُ- 12- يعني الرزق نظيرها في الواقعة «فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ ... » «3» يعني الرزق بلسان حمير الذي يخرج من الحب من دقيق أو سويق أو غيره فذكر ما خلق من «النعم» «4» ، فقال فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 13- يعني الجن والإنس يعني فبأي نعماء ربكما تكذبان بأنها ليست من الله- تعالى- ثم قال: خَلَقَ الْإِنْسانَ يعني آدم- عليه السلام- مِنْ صَلْصالٍ يعني من تراب الرمل ومعه من الطين الحر، «قال «5» » ابن عباس الصلصال: الطين الجيد إذا ذهب عنه الماء «فتشقق «6» » فإذا تحرك تقعقع، وأما قوله: كَالْفَخَّارِ- 14- يعني هو بمنزلة الفخار من قبل أن يطبخ، يقول كان ابن آدم من قبل أن ينفخ فيه الروح بمنزلة الفخار أجوف وَخَلَقَ الْجَانَ
__________
(1) سورة فصلت الآية 47، وتمامها: «إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ» .
(2) فى ف: «بطلعها» .
(3) سورة الواقعة: 89.
(4) فى أ: «النعيم» .
(5) فى أ: «فقال» ، وفى ف: «قال» .
(6) فى أ: «تشقق» ، وفى ف: «فتشقق» .(4/196)
يعنى إبليس مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ- 15- يعني من لهب النار صاف ليس له دخان، وإنما سمي الجان لأنه من حي من الملائكة يقال لهم الجن، «فالجن الجماعة، والجان الواحد «1» » وكان حسن خلقهما من النعم، فمن ثم قال: فَبِأَيِّ آلاءِ يعني نعماء رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 16- رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ مشرق أطول يوم في السنة وهو خمس عشرة ساعة، ومشرق أقصر يوم في السنة وهو تسع ساعات وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ- 17- يعني مغاربهما يعني مغرب أطول ليلة ويوم في السنة وأقصر ليلة ويوم في السنة فهما يومان في السنة، ثم جمعها فقال: « ... بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ «2» ... » فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 18- أنها ليست من الله- تعالى- قوله مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يعني خلع البحرين ماء المالح وماء العذب خلع أحدهما على الآخر يَلْتَقِيانِ- 19-.
قال أبو محمد: قال أبو العباس أحمد بن يحيى: «مرج» يعني خلق.
وقال الفراء: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ» يعني أرسلهما.
وقال أبو عبيدة مجازه مرجت الدابة أي خلعت عنقها بَيْنَهُما بَرْزَخٌ يعني حاجزا حجز الله أحدهما عن الآخر بقدرته ف لا يَبْغِيانِ- 20- يعني لا يبغي أحدهما على الآخر [178 ب] فلا يختلطان ولا يتغير «طعمهما «3» » وكان هذا من النعم، فلذلك قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما يعني فبأي نعماء ربكما تُكَذِّبانِ- 21- أنها ليست من الله- تعالى- يَخْرُجُ مِنْهُمَا من الماءين جميعا، ماء الملح وماء العذب ومن ماء السماء اللُّؤْلُؤُ الصغار وَالْمَرْجانُ- 22- يعنى الدر
__________
(1) من ف، وفى أ: «والجان جماعة والجان الواحد» .
(2) سورة المعارج: 40. [.....]
(3) فى أ، ف: «طعمه» .(4/197)
العظام فَبِأَيِّ آلاءِ يعني نعماء رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 23- فهذا من النعم، قوله: وَلَهُ الْجَوارِ يعني السفن الْمُنْشَآتُ يعني المخلوقات فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ- 24- يعني كالجبال يشبه السفن في البحر كالجبال في البر، «فكانت» «1» السفن من النعم، ثم قال: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 25- يعني نعماء ربكما تكذبان، قوله: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ- 26- يعني «من «2» » على الأرض من الحيوان فان يعني هالك وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ- 27- فَبِأَيِّ آلاءِ يعني نعماء رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 28- فلما نزلت هذه الآية قلت الملائكة الذين في السماء هلك أهل الأرض العجب لهم كيف تنفعهم المعيشة حتى أنزل الله- تعالى- في القصص « ... كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ... «3» » يعني كل شيء من الحيوان في السموات والأرض يموت إلا وجهه يقول إلا «4» الله، فأيقنوا عند ذلك كلهم بالهلاك، قوله: يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني يسأل أهل الأرض الله الرزق، وتسأل الملائكة أيضا لهم الرزق والمغفرة كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ- 29- وذلك أن اليهود قالت:
إن الله لا يقضى يوم السبت شيئا فأنزل الله- تعالى- «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» يوم السبت وغيره، وشأنه أنه يحدث في خلقه ما يشاء من خلق، أو عذاب، أو شدة، أو رحمة، أو رخاء، أو رزق، أو حياة، أو موت. فمن مات محى اسمه من
__________
(1) فى أ: «فكان» .
(2) «من» : ساقطة من أ.
(3) سورة القصص: 88.
(4) عرف عن مقاتل التجسيم فى مثل هذا المقام، فقد فسر «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى» سورة طه: «بالاستواء فوق العرش، ولكن تفسيره لهذه الآية: « ... كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ ... »
سورة القصص: 88. بقوله إلا الله، تفسير بعيد عن التجسيم.(4/198)
اللوح المحفوظ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 30- يعني نعماء ربكما تكذبان أنها ليست من الله- تعالى- سَنَفْرُغُ لَكُمْ «أَيُّهَ» «1» الثَّقَلانِ- 31- يعني سنفرغ لحساب الإنس والجن ولم يعن به الشياطين لأنهم هم أغووا الإنس والجن، وهذا من كلام العرب يقول سأفرغ لك، وإنه لفارغ قبل ذلك وهذا «تهديد «2» » والله- تعالى- لا يشغله شيء يقول سيفرغ الله في الآخرة «لحسابكم «3» » «أيها «4» » الثقلان يعني الجن والإنس.
حدثنا عبيد الله قال: حدثني أبي قال: قال أبو صالح: قال سعيد بن جبير:
فى قوله: «سَنَفْرُغُ لَكُمْ» يقول سأقصد لحسابكم «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» «5» - 32- قوله: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ قد جاء آجالكم فهذا وعيد من الله- تعالى-، يقول: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
«6» ... »
لأن الشياطين أضلوهما فبعث فيهم رسلا منهم، «قال «7» » : إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا [179 أ] مِنْ أَقْطارِ يعنى من قطري السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يقول أن تنفذوا من أطراف السموات والأرض هربا من الموت فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ يعني لا تنفذوا إِلَّا بِسُلْطانٍ- 33- يعني إلا بملكي حيثما توجهتم فثم ملكي فأنا آخذكم بالموت فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما يعنى نعماء ربكما
__________
(1) فى ف: أ «أيها» ، فى المصحف: «أيه» .
(2) فى أ، ف: «تهدو» .
(3) فى أ: «لحسابهم» ، وفى ف: «لحسابكم» .
(4) فى أ: «أيه» ، وفى ف: «أيها» .
(5) «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» : ساقطة من أ، ف.
(6) سورة الأنعام: 140.
(7) فى أ، ف: «فقال» .(4/199)
تُكَذِّبانِ- 34- أن أحدا يقدر على هذا غير الله- تعالى-، قوله- تعالى-: يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ يعني كفار الجن والإنس في الآخرة شواظ من نار يعني لهب النار ليس له دخان وَنُحاسٌ يعني الصفر الذائب وهي خمسة أنهار تجري من تحت العرش على رءوس أهل النار ثلاثة أنهار على مقدار الليل، ونهران على مقدار أنهار الدنيا فَلا تَنْتَصِرانِ- 35- يعني فلا تمتنعان من ذلك، فذلك قوله فى سورة النحل: « ... زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ ... » «1» يعني الأنهار الخمس بما كانوا يفسدون فَبِأَيِّ آلاءِ يعني نعماء رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 36- فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ يعني انفرجت من المجرة، وهو البياض الذي يرى في وسط السماء وهو شرج السماء لنزول من فيها، يعني الرب- تعالى- والملائكة فَكانَتْ يعني فصارت من الخوف وَرْدَةً كَالدِّهانِ- 37- شبه لونها في «التغير «2» » والتلون «بدهان «3» » الورد «الصافي «4» » .
قال أبو صالح: شبه لونها بلون دهن الورد، ويقال بلون الفرس الورد يكون في الربيع كميتا أشقر، وفي الشتاء أحمر، فإذا اشتد البرد كان أغير فشبه لون السماء في اختلاف أحوالها بلون الفرس في الأزمنة المختلفة.
وقال الفراء: في قوله «وَرْدَةً كَالدِّهانِ» أراد بالوردة الفرس الورد يكون في الربيع «وردة» «5» إلى الصفرة فإذا اشتد البرد كانت حمراء، فإذا كان بعد ذلك
__________
(1) سورة النحل: 88.
(2) فى ف: «التغيير» . [.....]
(3) «كدهان» : وردت هكذا فى أ، ف، والأنسب «بدهان» .
(4) فى أ: «الصاف» .
(5) فى أ: «ورد» والأنسب «وردة» .(4/200)
كانت وردة إلى الغبرة فشبه تلون السماء بتلون الورد من الخيل، وشبه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن لاختلاف ألوانه. ويقال كدهان الأديم يعني لونه «1» «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» «2» - 38- فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ يعنى عن عمله إِنْسٌ وَلا جَانٌّ- 39- لأن الرب- تعالى- قد أحصى عليه عمله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 40-.
قوله: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ بعد الحساب يعني بسواد الوجوه وزرقة الأعين فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ- 41- وذلك أن خزنة جهنم بعد الحساب يغلون أيديهم إلى أعناقهم، ثم يجمعون بين نواصيهم إلى أقدامهم من ظهورهم، ثم يدفعونهم في النار على وجوههم فإذا دنوا منها قالت لهم الخزنة:
«هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ «3» » فى الدنيا. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 42- قوله: هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ- 43- يعني الكافرين في الدنيا يَطُوفُونَ بَيْنَها يعني جهنم شواظا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ- 44- شواظا يعني بالحميم الماء الحار الذي قد انتهى غليانه «يعنى الذي غلى حتى انتهى حره «4» » لا يستريحون ساعة من غم يطاف عليهم في ألوان عذابهم، فذلك قوله: «ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ» من الزقوم والحميم يعني الشراب، «لَإِلَى الْجَحِيمِ «5» » ، فيذهب به
__________
(1) تفسير: «وَرْدَةً كَالدِّهانِ» : من ف.
(2) «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» : ساقط من أ، ف.
(3) سورة الطور: 14، وفى أ: زيادة: «فى سورة الطور» وليست فى ف.
(4) فى ف: «يعنى بأن الذي قد غلى حتى انتهى حره» والآيات 43، 44، 45، ساقطة من أمع تفسيرها، وهي من ف.
(5) سورة الصافات: 68 وهي: «ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ» .(4/201)
مرة إلى الزقوم، ثم إلى الجحيم، ثم إلى منازلهم في جهنم، فذلك قوله: «يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ» «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» «1» - 45-[179 ب] .
قوله- تعالى-: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ يوم القيامة في الآخرة جَنَّتانِ- 46- يعني جنة عدن، وجنة النعيم، «وهما للصديقين «2» » والشهداء والمقربين والسابقين وهو الرجل يهم بالمعصية فيذكر «مقامه بين يدي الله «3» » - عز وجل- فيخاف فيتركها فله جنتان.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: «قَالَ «4» » أَبُو صَالِحٍ عَنْ «مُقَاتِلٍ «5» » عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: هَلْ تَدْرُونَ مَا الْجَنَّتَانِ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قال: هما بستانان فى ريض الجنة كل واحد منهما مسيرة خمسمائة عَامٍ، فِي وَسَطِ كُلِّ بُسْتَانٍ دَارٌ فِي دَارٍ مِنْ نُورٍ عَلَى نُورٍ، لَيْسَ مِنْهُمَا بستان إلا يهتز بِنِعْمَةٍ وَخُضْرَةٍ قَرَارُهَا «ثَابِتٌ «6» » وَفَرْعُهَا «ثَابِتٌ» وَشَجَرُهَا نابت
«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» «7» - 47-، ثم نعت الجنتين فقال:
ذَواتا أَفْنانٍ- 48- يعني ذواتا أغصان يتماس أطراف شجرها «بعضه «8» » بعضا كالمعروشات «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» «9» - 49- فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ
__________
(1) «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» : ساقطة من أ، ف.
(2) فى أ: «وهما الصديقين» ، وفى ف: «وهما الصديقين» .
(3) «مقامه بين يدي الله» من ف، وفى أ: «مقام ربه بين يدي الله» .
(4) «قال» : زيادة ليست فى الأصول.
(5) «مقاتل» : من ف، وفى أ: وبإسناده (عن) مقاتل.
(6) فى أ: «لابث» . [.....]
(7) «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» : ساقطة من أ، ف.
(8) فى أ، ف: «بعضها» .
(9) «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» : ساقطة من أ، ف.(4/202)
- 50- في عين أخدود من ماء غير آسن «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» «1» - 51- فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ من كل لون من ألوان الفاكهة زَوْجانِ- 52- يعني صنفان فَبِأَيِّ آلاءِ يعني نعماء رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 53- مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ يعني ظاهرها من الديباج الأخضر فوق الفرش الديباج وهي بلغة فارس، نظيرها في آخر السورة «مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ «2» ... » يعني «المحابس «3» » الخضر على الفرش، ثم قال: وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ- 54- يعني ثمره، وجنى الشجر في الجنتين دان، يقول ما يجتني في الجنتين دان يقول طول الشجر لهذا المجتنى قريب «يتناوله «4» » الرجل إن شاء جالسا، وإن شاء أو «متكئا «5» » أو قائما، فَبِأَيِّ آلاءِ يعني نعماء رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 55- فِيهِنَّ يعني في هذه الجنان الأربع في التقديم: جنة عدن، وجنة النعيم، وجنة الفردوس، وجنة المأوى، ففي هذه الجنان الأربع جنان كثيرة في الكثرة مثل ورق الشجر ونجوم السماء يقول: «فيهن» قاصِراتُ الطَّرْفِ يعني النساء يقول حافظات النظر عن الرجال، لا ينظرن إلى أحد غير أزواجهن ولا يشتهين، غيرهم لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ- 56- لأنهن خلقن في الجنة مع شجر الجنة يعني لم يطمثهن إنس قبل أهل الجنة، ولا جان يعنى جن.
__________
(1) «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» : ساقطه من أ.
(2) سورة الرحمن: 76.
(3) فى أ: «النحابس» ، وفى ف: «المحابس» .
(4) فى أ، ف: «بتناولها» ، والأنسب «يتناوله» .
(5) «متكيا» ، وردت هكذا فى أ، ف، والأنسب «متكئا» .(4/203)
حدثنا عبد الله قال: قَالَ أَبِي: قَالَ أَبُو صَالِح، قَالَ مُقَاتِل: «لَمْ يَطْمِثْهُنَّ» لم يدميهن. قال أبو محمد، وقال الفراء: الطمث الدم يقال «طمثتها أدميتها «1» » «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» «2» - 57-، ثم نعتهن فقال: كَأَنَّهُنَّ في الشبه في صفاء الْياقُوتُ الأحمر «وَ» «3» فى بياض الْمَرْجانُ- 58- يعني الدر العظام «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» «4» - 59-، ثم قال:
هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ فى لدنيا إِلَّا الْإِحْسانُ- 60- فى الآخرة يعنى هل جزاء أهل التوحيد فى الآخرة إلا الجنة فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 61-[180 أ] ثم ذكر جنات أصحاب اليمين، فقال: وَمِنْ دُونِهِما يعني ومن دون جنتي المقربين والصديقين، والشهداء في الفضل جَنَّتانِ- 62- وهما جنة الفردوس، وجنة المأوى «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» «5» - 63-، ثم نعتهما فقال: مُدْهامَّتانِ- 64- سوداوان من الري «والخضرة «6» » فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 65-يهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ
- 66-: «مملوءتان «7» » من كل خير لا ينتقصان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 67- فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ-
__________
(1) فى أ: «أنكحتها إذا أدمأتها» ، وفى ف: «دماتها» .
(2) «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» : ساقطة من أ، ف.
(3) «و» : ساقطة من أ، ف.
(4) «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» : ساقطة من أ، ف.
(5) «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» : ساقطة من أ، ف.
(6) فى أ: «الخضر» . [.....]
(7) فى أ، ف: «يعنى مملوءتان» .(4/204)
68- فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ «1» - 69-، ثم قال: وفِيهِنَّ يعنى فى الجنان الأربع خَيْراتٌ حِسانٌ- 70- يعني خيرات الأخلاق حسان الوجوه فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 71-، ثم نعتهن، فقال: حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ- 72- يعنى بالحور البيضاء، وبالمقصورات المحبوسات على أزواجهن في الخيام، يعني الدر المجوف الدرة الواحدة مثل القصر العظيم جوفاء على قدر ميل في السماء طولها فرسخ، وعرضها فرسخ، لها أربعة آلاف مصراع من ذهب، فذلك قوله- تعالى-: « ... وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ «2» » فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 73-، ثم قال: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ- 74- لأنهن خلقن في الجنة، يعني لم يطأهن إنس قبل أهل الجنة، ولا جان يعني ولا جني فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 75- مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ يعني المحابس فوق الفرش وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ- 76- يعني الزرابي، وهي الطنافس المخملة وهي الحسان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ- 77- تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ يعني بالجلال العظيم وَالْإِكْرامِ- 78- يعني الكريم فلا أكرم منه، يمدح الرب نفسه- تبارك وتعالى-.
__________
(1) «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» : ساقطة من أ، ف.
(2) سورة الرعد: 23 وتمامها: «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ» .(4/205)
سورة الواقعة(4/207)
[سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 96]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9)
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19)
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26) وَأَصْحابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29)
وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)
إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39)
وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44)
إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49)
لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54)
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59)
نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)
لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69)
لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84)
وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89)
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)(4/209)
[سورة الواقعة «1» ] سورة الواقعة مكية عددها ست «2» وتسعون آية كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
ظهور واقعة القيامة، وأصناف الخلق بالإضافة إلى العذاب والعقوبة، وبيان حال السابقين بالطاعة وبيان حال قوم يكونون متوسطين بين أهل الطاعة وأهل المعصية، وذكر حال أصحاب الشمال، والغرق فى بحار الهلاك، وبرهان البعث من ابتداء الخلقة، ودليل الحشر والنشر من الحرث والزرع، وحديث الماء والنار، وما فى ضمنها: من النعمة والمنة، ومس المصحف وقرامة فى حال الطهارة، وحال المتوفى فى ساعة السكرة، وذكر قوم بالبشارة وقوم بالخسارة.
(2) فى أ: ستة.
(3) فى المصحف: (56) سورة الواقعة مكية إلا آيتي 81، 82 فمدنيتان وآياتها 96 نزلت بعد سورة طه.(4/213)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ- 1- يعني إذا وقعت الصيحة وهي النفخة الأولى لَيْسَ لِوَقْعَتِها يعنى ليس لصيحتها كاذِبَةٌ- 2- أنها كائنة ليس لها مثنوية ولا ارتداد خافِضَةٌ يقول أسمعت القريب، ثم قال: رافِعَةٌ- 3- يقول أسمعت البعيد، فكانت صيحة يعني فصارت صيحة واحدة، أسمعت القريب والبعيد.
قال أبو محمد: قال الفراء عن الكلبي: «خَافِضَةٌ» قوما إلى النار «ورَافِعَةٌ» قوما إلى الجنة. وقال غيره: «خَافِضَةٌ» أسمعت أهل الأرض، «ورَافِعَةٌ» أسمعت أهل السماء، ثم قال: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا- 4- يعنى إذا زلزلت الأرض زلزلها يعني رجا شدة الزلزلة لا تسكن حتى تلقى كل شيء في بطنها على ظهرها، يقول. إنها تضطرب وترتج لأن [180 ب] زلزلة الدنيا لا تلبث حتى تسكن وزلزلة الآخرة لا تسكن وترنج كرج الصبي في المهد حتى ينكسر كل شيء عليها من جبل، أو مدينة، أو بناء، أو شجر، فيدخل فيها كل شيء خرج منها من شجر أو نبات، وتلقى ما فيها من الموتى، والكنوز على ظهرها، قوله:
وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا- 5- يعنى فتتت الجبال فتا فَكانَتْ يقول فصارت بعد القوة والشدة، عروقها في الأرض السابعة السفلى، ورأسها فوق الأرض العليا، من الخوف هَباءً مُنْبَثًّا- 6- يعني الغبار الذي تراه في الشمس(4/215)
إذا دخل من الكوة فى البيت، والمنهث الذي ليس بشيء والهباء المنثور الذي يسطع من حوافر الخيل من الغبار، قال عبد الله بذلك، حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ مُقَاتِلٍ عن الحارث، عن علي- عليه السلام.
ثم قال- عز وجل-: وَكُنْتُمْ في الآخرة أَزْواجاً ثَلاثَةً- 7- يعني أصنافا «ثلاثة «1» » ، صنفان في الجنة، وصنف في النار، ثم أخبر عنهم فقال:
فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ- 8- يقول ما لأصحاب اليمين من الخير والكرامة فى الجنة وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ- 9- يقول ما لأصحاب المشأمة من الشرفى جهنم، ثم قال: وَالسَّابِقُونَ إلى الأنبياء منهم أبو بكر وعلي- «رضي الله عنهما «2» » - «هم «3» » السَّابِقُونَ- 10- إلى الإيمان بالله ورسوله من كل أمة، هم السابقون إلى الجنة، ثم أخبر عنهم فقال: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ- 11- عند الله- تعالى- فى الدرجات والفضائل «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» «4» - 12-، ثم قال يعني السابقين ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ- 13- يعنى جمعا من الأولين، يعنى سابقي الأمم الخالية، وهم الذين عاينوا الأنبياء- عليهم السلام- فلم يشكوا فيهم طرفة عين فهم السابقون.
فلما نزلت وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ- 14- يعني أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- فهم أقل من سابقي الأمم الخالية، ثم ذكر ما أعد الله للسابقين من الخير
__________
(1) فى الأصل: «ثلاث» .
(2) فى أ: «رضى الله عنهما» ، وفى ف: «عليهما السلام» .
(3) فى أ: «هم» ، وفى ف: «هما» .
(4) «فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ» - 12-: ساقطة من أ، ف.(4/216)
في جنات النعيم، فقال: عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ- 15- كوضن الخرز في السلك، يعني بالموضون السرر وتشبكها مشبكة أوساطها بقضبان الدر والياقوت والزبرجد مُتَّكِئِينَ عَلَيْها
يعني على السرر عليها الفرش مُتَقابِلِينَ- 16- إذا زار بعضهم بعضا يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ يعني غلمان لا يكبرون مُخَلَّدُونَ- 17- لا يموتون بأيدى الغلمان أكواب يعني الأكواب العظام من فضة المدورة الرءوس ليس لها عرى ولا خراطيم وَأَبارِيقَ من فضة في صفاء القوارير، فذلك قوله في «هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ «1» ... » : « ... كانَتْ قَوارِيرَا، قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ «2» ... » ثم قال [181 أ] :
وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ- 18- يعني من خمر «جار «3» » ، وكل معين في القرآن فهو «جار «4» » غير الذي في «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ «5» ... » : يعنى به زمزم، « ... إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ «6» » يعنى «7» ظاهرا تناله «الدلاء «8» » ، وكل شيء
__________
(1) سورة الإنسان «وتسمى سورة الدهر» : 1.
(2) سورة الإنسان: 15، 16 وتمامهما: «وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا، قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً» .
(3) فى أ: «جارى» ، ف: «جار» .
(4) فى أ: «جارى» ، وفى ف: «جار» . [.....]
(5) سورة الملك: 1.
(6) سورة الملك: 3.
(7) وهذا من كليات مقاتل التي قدمت عنها بحثا فى دراستي عن هذا التفسير وتجده فى مقدمة هذا التفسير، وفى كتاب التنبيه والرد على ذوى الأهواء والبدع للملطى ت 377 هـ تحقيق الكوثرى:
72 وما بعدها وفى س 80 يقول عن مقاتل، وكل شيء فى القرآن: «ماء معين» يعنى جاريا غير الذي فى تبارك «فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» : 30 يعنى ماء ظاهرا تناله الدلاء.
(8) فى أ: «الدلى» .(4/217)
في القرآن كأس فهو الخمر لا يُصَدَّعُونَ عَنْها فتوجع رءوسهم وَلا يُنْزِفُونَ «1» - 19- بها وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ- 20- يعني يختارون من ألوان الفاكهة وَلَحْمِ طَيْرٍ يعني من لحم الطير مِمَّا يَشْتَهُونَ- 21- إن شاءوا شواء، وإن شاءوا قديدا كل طير ينعت نفسه لولى الله- تعالى- وَحُورٌ عِينٌ- 22- يعني البيضاء العيناء حسان الأعين كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ- 23- فشبههم في الكن كأمثال اللؤلؤ المكنون في الصدف المطبق عليه، لم تمسه الأيدي، ولم تره الأعين، ولم يخطر على قلب بشر، كأحسن ما يكون هذا الذي ذكر لهم في الآخرة جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ- 24- فى الدنيا لا يَسْمَعُونَ فِيها يعني في الجنة لَغْواً وَلا تَأْثِيماً- 25- يقول لا يسمع في الجنة بعضهم من بعض «لغوا» يعني الحلف «وَلا تَأْثِيماً» يعني كذبا عند الشراب كفعل أهل الدنيا إذا شربوا الخمر إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً- 26- يعني كثرة السلام من الملائكة نظيرها في الرعد ... « ... وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ «2» ... » ،
ثم قال: وَأَصْحابُ الْيَمِينِ «مَا أَصْحابُ الْيَمِينِ» «3» - 27- يقول ما لأصحاب اليمين من الخير، ثم ذكر ما أعد الله لهم من الخير فى الآخرة، فقال: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ- 28- يعني الذي لا شوك له كسدر أهل الدنيا وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ- 29- يعني المتراكب بعضه فوق بعض، نظيرها
__________
(1) من نزف الشارب إذا ذهب عقله أو شرابه.
(2) سورة الرعد: 23- 24، وتمامها «جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ، سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ» .
(3) «ما أَصْحابُ الْيَمِينِ» : ساقطة من أ، ف.(4/218)
« ... لَها طَلْعٌ «1» نَضِيدٌ» يعني المنضود وَظِلٍّ مَمْدُودٍ- 30- دائم لا يزول لا شمس فيه كمثل ما يزول الظل في الدنيا وَماءٍ مَسْكُوبٍ- 31- «يعني منصبا كثيرا «2» » وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ- 32- لا مَقْطُوعَةٍ عنهم أبدا هي لهم أبدا في كل حين وساعة وَلا مَمْنُوعَةٍ- 33- يقول ولا يمنعونها ليست لها خشونة ألين من الزبد وأحلى من العسل وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ- 34- فوق السرر بعضها فوق بعض على قدر سبعين غرفة من غرف الدنيا إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً- 35- يعني ما ذكر من الحور العين قبل ذلك فنعتهن في التقديم يعني «نشأ «3» » أهل الدنيا العجز الشمط يقول خلقهن في الآخرة خلقا بعد الخلق الأول في الدنيا فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً- 36- يعني شوابا كلهن على ميلاد واحد بنات ثلاث وثلاثين سنة عُرُباً أَتْراباً- 37- يقول هذا الذي ذكر لِأَصْحابِ الْيَمِينِ- 38-، ثم أخبر عنهم فقال:
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ- 39- «يعني جمع «4» » من الأولين يعني الأمم الخالية وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ- 40- يعني أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- «فإن أمة «5» محمد أكثر» أهل الجنة وهم سابقو الأمم الخالية [181 ب] ومقربوها.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ مُقَاتِلٍ، عَنْ مُحَمَّدِ ابن عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: « «6» إِنَّ أَهْلَ الجنة مائة وعشرون صفا فأمة محمد
__________
(1) سورة ق: 1.
(2) فى أ، ف: «يعنى منصب كثير» .
(3) «نشأ» : فى أ، ف، وقد تكون فى الأصل «أنشأ» .
(4) كذا فى أ، ف، وكان نظام سيرهما على النصب أى: «يعنى جمعا» .
(5) فى أ: «وأمة محمد- صلّى الله عليه وسلم-» ، وفى ف «فإنه محمد أكثر» .
(6) من ف، وفى أ: «وبإسناده مقاتل عن محمد بن على» .(4/219)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَمَانُونَ صَفًّا، وَسَائِرُ الأُمَمِ أَرْبَعُونَ صَفًّا، «وَسَابِقُو الأُمَمِ وَمُقَرَّبُوهَا «1» » أَكْثَرُ من سابقي هذه الأمة ومقربيها، ثم قال: وَأَصْحابُ الشِّمالِ مَا أَصْحابُ الشِّمالِ- 41- يقول ما لأصحاب الشمال من الشر، ثم ذكر ما أعد لهم في الآخرة من الشر، فقال: هم فِي سَمُومٍ يعني ريحا حارة تخرج من الصخرة التي في جهنم فتقطع الوجوه وسائر اللحوم، ثم قال: وَحَمِيمٍ- 42- يعني الحار الشديد الذي قد انتهى حره وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ- 43- نظيرها فى المرسلات يعني ظلا أسود كهيئة الدخان يخرج من جهنم، فيكون فوق رءوسهم وهم في السرادق ثلاث فرق، فذلك قوله: «انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ «2» » وهي في السرادق، وذلك قوله في الكهف أيضا: « ... أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها «3» ... » فيقيلون تحتها من حر السرادق فيأخذهم فيها الغثيان، وتقطع الأمعاء في أجوافهم والسرادق عنق يخرج من لهب النار فيدور حول الكفار، ثم يخرج عنق آخر من الجانب الآخر فيصل إلى الآخر فيحيط بهم السرادق، فذلك قوله: « ... أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها ... » ، «وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ» رءوسهم ثلاث فرق فيقيلون فيها قبل دخولهم جهنم، فذلك قوله في الفرقان: «أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ» في الجنة مع الأزواج «خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا «4» » من مقيل الكفار في السرادق، تحت ظل من يحموم، ثم نعت الظل فقال: لا بارِدٍ المقيل وَلا كَرِيمٍ- 44- يعني ولا حسن المنزل، ثم نعت أعمالهم التي
__________
(1) فى ف: «وسابقو الأمم مقربوها» ، بسقوط الواو. [.....]
(2) سورة المرسلات: 30.
(3) سورة الكهف: 29.
(4) سورة الفرقان: 24.(4/220)
أوجب الله- عز وجل- لهم بها ما ذكر من النار فقال: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ في الدنيا مُتْرَفِينَ- 45- يعني منعمين في ترك أمر الله- تعالى- وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ- 46- يعني يقيمون على الذنب الكبير وهو الشرك، نظيرها في آل عمران « ... وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا «1» ... »
يعنى ولم يقيموا، وقال فى سورة نوح: « ... وَأَصَرُّوا «2» ... » يعني وأقاموا، وفي سورة الجاثية « ... ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً «3» ... » يعنى ثم يقيم متكبرا، يقيمون على الذنب العظيم وهو الشرك «4» ، وَكانُوا مع شركهم يَقُولُونَ فى الدنيا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ- 47- أَوَببعث آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ- 48- تعجبا، يقول الله- تعالى-: قُلْ لهم يا محمد إِنَّ الْأَوَّلِينَ يعني الأمم الخالية وَالْآخِرِينَ- 49- يعني أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يعني إلى وقت يَوْمٍ مَعْلُومٍ- 50- في الآخرة، ثم ذكر طعامهم وشرابهم في الآخرة، فقال: ثُمَّ إِنَّكُمْ يا أهل مكة أَيُّهَا الضَّالُّونَ عن الهدى يعني المشركين، ثم قال: الْمُكَذِّبُونَ- 51- بالبعث [183 أ] لقولهم أو يبعث آبائنا الأولين؟ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ- 52- فَمالِؤُنَ مِنْهَا يعني من طلعها وثمرها الْبُطُونَ- 53- فَشارِبُونَ عَلَيْهِ يعني على الأكل مِنَ الْحَمِيمِ- 54- يعني الشراب الحار الذي قد انتهى حره
__________
(1) سورة آل عمران: 135.
(2) سورة نوح: 7 وتمامها: «وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً» .
(3) سورة الجاثية: 8.
(4) كذا فى أ، ف، وهو تفسير الآية (46) «وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ» .(4/221)
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ- 55- يعنى بالهيم الإبل يأخذها داء يقال له الهيم، فلا تروى من الشراب، وذلك أنه يلقى على أهل النار العطش كل يوم مرتين حتى يشربوا الشراب الهيم هَذَا الذي ذكر من الزقوم والشراب نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ- 56- يعني يوم الحساب نَحْنُ خَلَقْناكُمْ ولم تكونوا شيئا وأنتم تعلمون فَلَوْلا يعنى فهلا تُصَدِّقُونَ- 57- بالبعث، ثم أخبر عن صنعه ليعتبروا فقال: أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ- 58- يعني النطفة الماء الدافق أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ بشرا أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ- 59- له، بل نحن نخلقه نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ
فمنكم من يموت صغيرا، ومنكم من يموت كبيرا، أو يموت شابا، أو شيخا، أو يبلغ أرذل العمر، ثم خوفهم فقال: وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ- 60- يعني بمعجزين إن أردنا ذلك عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
على أن نخلق مثلكم أو أمثل منكم وَنُنْشِئَكُمْ
يعنى ونخلقكم سوى خلقكم فِي ما لا تَعْلَمُونَ
- 61- من الصورة وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى يعنى الخلق الأول حين خلقتم مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مضغة، ولم تكونوا شيئا فَلَوْلا يعني فهلا تَذَكَّرُونَ- 62- في البعث أنه قادر على أن يبعثكم، كما خلقكم أول مرة ولم تكونوا شيئا أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ- 63- أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ- 64- يعنى نحن الحافظون يقول أنتم تنهتونه أم نحن المنبتون له ولَوْ نَشاءُ إذا أدرك وبلغ لَجَعَلْناهُ حُطاماً يعني هالكا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ- 65- يعني تعجبون وقلتم إِنَّا لَمُغْرَمُونَ- 66- «يعني» «1» إنا لمولع بنا الغرم، ولقلتم «بل حرمنا «2» » خيرها
__________
(1) فى أ: «يقول» ، وفى ف: «يعنى» .
(2) فى أ: «أحرمنا» ، وفى ف: «بل حرمنا» .(4/222)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ- 67- أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ- 68- أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ يعنى من السحاب أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ- 69- لَوْ نَشاءُ بعد العذوبة جَعَلْناهُ أُجاجاً يعني مالحا مرا من شدة الملوحة فَلَوْلا يعني فهلا تَشْكُرُونَ- 70- رب هذه النعم فتوحدونه حين سقاكم ماء عذبا أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ- 71- يعني توقدون من الشجر والحجارة والقصب «إلا العناب «1» » أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ يعني خلقتم شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ- 72- يعني الخالقون نَحْنُ جَعَلْناها هذه النار التي في الدنيا تَذْكِرَةً لنار جهنم الكبرى وَهي مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ- 73- يعني متاعا للمسافرين لمن كان بأرض فلاة وللأعراب فَسَبِّحْ يقول اذكر التوحيد بِاسْمِ رَبِّكَ يا محمد الْعَظِيمِ- 74- يعني الكبير فلا أكبر منه فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ- 75- يعني بمساقط «النجوم من القرآن» «2» كله أوله وآخره في ليلة القدر نزل من اللوح المحفوظ من السماء السابعة [182 ب] إلى السماء الدنيا إلى السفرة، وهم الكتبة من الملائكة نظيرها في «عبس وتولى» «3» : «بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرامٍ بَرَرَةٍ «4» » ثم عظم «5» القسم فقال: «وَإِنَّهُ «6» » لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ- 76-
__________
(1) فى أ: «إلا العناب» ، وفى ف: «لا العناب» .
(2) فى أ: «نجوم القرآن» ، ف: «النجوم من القرآن» .
(3) سورة عبس: 1.
(4) سورة عبس: 15- 16.
(5) من ف، وفى أتكرار وخطأ. [.....]
(6) فى ف: «إنه» .(4/223)
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ- 77- أقسم بأنه قرآن كريم، ثم قال في «حم السجدة» :
« ... وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ» «1» كرمه الله وأعزه، فقال هذا القرآن: فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ- 78- يعني مستور من خلقه، عند الله في اللوح المحفوظ عن يمين العرش لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ- 79- لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب، وهم الملائكة السفرة في سماء الدنيا، ينظر إليه الرب- جل وعز- كل يوم، ثم قال: هذا القرآن تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ- 80- أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ يعني القرآن أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ- 81- يعني تكفرون، مثل قوله:
«وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ «2» » وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ- 82- وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- غزا أحياء من العرب في حر شديد، ففنى ما كان عند الناس من الماء، فظمئوا ظمأ شديدا، ونزلوا على غير ماء، فقالوا: يا رسول الله، استسق لنا. قال: فلعل إذا استسقيت فسقيتم «تقولون «3» » هذا نوء كذا وكذا قالوا: يا رسول الله، قد ذهب «خبر «4» » الأنواء، فتوضأ النبي- صلى الله عليه وسلم- وصلى ثم دعا ربه فهاجت الريح وثارت سحابة فلم يلبثوا حتى غشيهم السحاب ركاما فمطروا مطرا جوادا حتى سالت الأودية فشربوا وسقوا وغسلوا ركابهم وملئوا «5» أسقيتهم، فخرج النبي- صلى الله عليه وسلم- فمر على رجل وهو يغرف بقدح من الوادي وهو يقول: هذا نوء كذا
__________
(1) سورة فصلت: 41 تمامها: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ» .
(2) سورة القلم: 9.
(3) فى أ: «تقولوا» وفى ف: «يقول» ، وفى ل: «تقولون» .
(4) فى أ: «خبر» ، وفى ف: «جبن» .
(5) فى أ: «وملوما» .(4/224)
وكذا.
فكان المطر رزقا من الله فجعلوه للأنواء ولم يشكروا نعمة الله- تعالى- «وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ» «يعني المطر بالأنواء «1» » أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ، يقول أنا رزقتكم فلا تكذبون وتجعلونه للأنواء، ثم وعظهم فقال: فَلَوْلا يعني فهلا إِذا بَلَغَتِ هذه النفس الْحُلْقُومَ- 83- يعنى التراقي وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ- 84- إلى أمري وسلطاني وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ يعنى ملك الموت وحده إذا أتاه ليقبض روحه وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ- 85-، ثم قال: فَلَوْلا يعني فهلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ- 86- يعني غير محاسبين، نظيرها في فاتحة الكتاب «مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ «2» » يعني يوم الحساب، وقال في «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ «3» » يعني بالحساب، وقال في الذاريات:
«وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ «4» » يعني الحساب لكائن، وقال أيضا في الصافات:
« ... أَإِنَّا لَمَدِينُونَ «5» » [183 أ] يعني إنا لمحاسبون. تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- 87- فَأَمَّا إِنْ كانَ هذا الميت مِنَ الْمُقَرَّبِينَ- 88- عند الله في الدرجات والتفضيل، يعني ما كان فيه لشدة الموت وكربه فَرَوْحٌ يعني فراحة وَرَيْحانٌ يعني الرزق فى الجنة بلسان حمير وَجَنَّةُ نَعِيمٍ- 89- وَأَمَّا إِنْ كانَ هذا الميت مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ- 90- فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ- 91- يقول سلم الله ذنوبهم وغفرها
__________
(1) «يعنى المطر بالأنواء» : كذا فى أ، ف، والأنسب حذف «الأنواء» .
(2) سورة الفاتحة: 4.
(3) الآية الأولى من سورة الماعون.
(4) سورة الذاريات: 6.
(5) سورة الصافات: 53 وتمامها: «أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ» .
تفسير مقاتل ج 5- م 15(4/225)
فتجاوز عن سيئاتهم وتقبل حسناتهم وَأَمَّا إِنْ كانَ هذا الميت مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بالبعث الضَّالِّينَ- 92- عن الهدى فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ- 93- يعني الحار الشديد الذي قد انتهى حره وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ- 94- يقول ما عظم من النار إِنَّ هَذَا الذي ذكر للمقربين وأصحاب اليمين، وللمكذبين الضالين لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ- 95- لا شك فَسَبِّحْ يقول فاذكر بِاسْمِ رَبِّكَ بالتوحيد، ثم قال: «ربك» يا محمد الْعَظِيمِ- 96- فلا شيء أكبر «1» منه، فعظم الرب- جل جلاله- نفسه.
__________
(1) تفسير الآية الأخيرة من ف، وهو مضطرب فى أ.(4/226)
سورة الحديد(4/227)
[سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 29]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)
لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9)
وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)(4/229)
[سورة الحديد «1» ] عددها «تسع وعشرون آية «2» » كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
الإشارة إلى تسبيح جملة المخلوقين والمخلوقات فى الأرض والسموات، وتنزيه الحق- تعالى- فى الذات والصفات، وأمر المؤمنين بإنفاق النفقات والصدقات وذكر حيرة المنافقين يوم القيامة، وبيان خسة الدنيا وعز الجنات» وتسلية الخلق عند هجوم النكبات والمصيبات، فى قوله- تعالى-:
«ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» سورة الحديد: 22.
(2) فى أ: «سبعة وعشرون آية» وهو خطأ: [.....]
(3) فى المصحف: (57) سورة الحديد مدنية وآياتها 29 نزلت بعد سورة الزلزلة.
وسميت سورة الحديد لقوله- تعالى- فيها: « ... وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ ... » : 25(4/235)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ يعني ذكر الله الملائكة وغيرهم والشمس والقمر والنجوم وَما فى الْأَرْضِ من الجبال، والبحار، والأنهار، والأشجار، والدواب، والطير، والنبات، وما بينهما يعني الرياح، والسحاب، وكل خلق فيهما، ولكن لا تفقهون تسبيحهن وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ- 1- في أمره لَهُ مُلْكُ يعنى له ما فى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي الموتى وَيُمِيتُ الأحياء وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من حياة وموت «قَدِيرٌ» «1» - 2- هُوَ الْأَوَّلُ قبل كل شيء وَهو الْآخِرُ بعد الخلق وَهو الظَّاهِرُ فوق كل شيء يعنى السموات وَهو الْباطِنُ دون كل شيء يعلم ما تحت الأرضين وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ- 3- هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قبل خلقهما يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ من المطر وَما يَخْرُجُ مِنْها النبات وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الملائكة وَما يَعْرُجُ يعني وما يصعد فِيها يعني في السموات من الملائكة وَهُوَ مَعَكُمْ يعنى علمه أَيْنَ ما كُنْتُمْ من الأرض وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ- 4- لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ- 5- يعني أمور الخلائق في الآخرة يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يعنى زيادة كل منهما
__________
(1) من ف، وفى أ: « (قدير) من حياة وموت» . فكروها مرتين.(4/237)
ونقصانه، فذلك قوله: « ... يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ، وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ «1» ... »
يعني يسلط كل واحد منهما على صاحبه في وقته حتى يصير الليل «خمس عشرة «2» » ساعة والنهار تسع ساعات وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ- 6- يعني بما فيها من خير أو شر قوله [183 ب] : آمِنُوا بِاللَّهِ يعني صدقوا بالله، يعني بتوحيد الله- تعالى- وَرَسُولِهِ محمد- صلى الله عليه وسلم- وَأَنْفِقُوا في سبيل الله يعني في طاعة الله- تعالى- مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ من أموالكم التي «غيركم «3» » الله فيها فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ- 7- يعني جزاء حسنا في الجنة، ثم قال: وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ محمد- صلى الله عليه وسلم- حين يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ يعني يوم أخرجكم من صلب آدم- عليه السلام-، وأقروا له بالمعرفة والربوبية إِنْ كُنْتُمْ يعني إذ كنتم مُؤْمِنِينَ- 8- هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ محمد- صلى الله عليه وسلم- آياتٍ بَيِّناتٍ يعني القرآن بين ما فيه من أمره ونهيه لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني من الشرك إلى الإيمان وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ- 9- حين هداكم لدينه وبعث فيكم محمدا- صلى الله عليه وسلم- وأنزل عليكم كتابه، ثم قال: وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني في طاعة الله إن كنتم مؤمنين، فأنفقوا في سبيل الله فإن بخلتم فإن الله يرثكم ويرث أهل السموات والأرض، فذلك قوله: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
بفنون كلهم، ويبقى الرب- تعالى-
__________
(1) سورة الزمر: 5.
(2) فى أ: خمسة عشر.
(3) فى أ: أعمركم، ف: غيركم، والمراد نقل المال من غيركم إليكم.(4/238)
وحده فالعباد يرث بعضهم بعضا والرب يبقى فيرثهم، قوله: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ فى الفضل والسابقة مَنْ أَنْفَقَ مِنْ ماله قَبْلِ الْفَتْحِ فتح مكة «وَقاتَلَ» «1» العدو أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً يعني جزاء مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ من بعد فتح مكة وَقاتَلُوا «2» العدو وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى يعني الجنة، يعني كلا الفريقين وعد الله الجنة وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ- 10- بما أنفقتم من أموالكم وهو مولاكم يعني وليكم، قوله- تعالى-: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يعني طيبة «به «3» » نفسه على أهل الفاقة فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ- 11- يعني جزاء حسنا في الجنة، «نزلت في أبي الدحداح الأنصاري» «4» يَوْمَ تَرَى يا محمد الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ على الصراط يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ دليل إلى الجنة وَبِأَيْمانِهِمْ يعني بتصديقهم في الدنيا، أعطوا النور في الآخرة على الصراط، يعني بتوحيد الله- تعالى- تقول الحفظة لهم: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها لا يموتون ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ- 12- يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا وهم على الصراط انْظُرُونا يعني ارقبونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ فنمضى معكم قِيلَ يعني قالت لهم الملائكة:
ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً من حيث جئتم فالتمسوا نورا من الظلمة،
__________
(1) فى أ، ف: تغيير فى ترتيب الآية، وقد أصلحت هذا الخطأ.
(2) فى أ، ف خطأ فى ترتيب الآية» وقد صوبت الخطأ.
(3) فى أ، ف: «بها» . والأنسب «به» لأن الضمير يعود على القرض.
(4) من أ، وليست فى ف، وفى أأيضا زيادة: تفسيره فى سورة البقرة.(4/239)
فرجعوا فلم يجدوا «شيئا» «1» فَضُرِبَ «فضرب» «2» الله [184 أ] بَيْنَهُمْ يعني بين أصحاب الأعراف وبين المنافقين بِسُورٍ لَهُ بابٌ يعني بالسور حائط بين أهل الجنة وبين أهل النار له باب باطِنُهُ يعني باطن السور فِيهِ الرَّحْمَةُ وهو مما بلى الجنة وَظاهِرُهُ من قبل النار، وهو الحجاب ضرب بين أهل الجنة والنار، وهو السور، والأعراف «3» ما ارتفع من السور، «الرَّحْمَةُ» يعني الجنة، «وظاهره» مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ- 13- يُنادُونَهُمْ يعني يناديهم المنافقون من وراء السور أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ في دنياكم قالُوا بَلى كنتم معنا في ظاهر الأمر وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ يعني أكفرتم أَنْفُسَكُمْ «بنعم وسوف» «4» «عن دينكم» «5» وَتَرَبَّصْتُمْ يعني بمحمد الموت، وقلتم يوشك محمد أن يموت فنستريح منه وَارْتَبْتُمْ يعني شككتم في محمد أنه نبي وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ عن دينكم وقلتم يوشك محمد أن يموت فيذهب الإسلام فنستريح حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بالموت وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ- 14- يعني الشياطين فَالْيَوْمَ في الآخرة لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ معشر المنافقين فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا
__________
(1) «شيئا» من ف، وهي ساقطة من م.
(2) «فضرب» : زيادة ليست بالأصل.
(3) ورد ذكر الأعراف فى الآية 46 من سورة الأعراف وتمامها: «وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ» كما ورد ذكر الأعراف فى الآية 48 من سورة الأعراف أيضا وهي: «وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ» .
(4) كذا فى أ، ف، ل، والمراد ب «نعم» : الموافقة الظاهرة، والمراد ب «سوف» :
التسويف والتأجيل فى الأعمال المطلوبة.
(5) «عن دينكم» : كذا فى أ، ف، ل، والمراد صرفتم أنفسكم عن دينكم وكفرتم به. [.....](4/240)
بتوحيد الله- تعالى- يعني مشركي العرب مَأْواكُمُ النَّارُ يعني مأوى المنافقين والمشركين النار هِيَ مَوْلاكُمْ يعني وليكم وَبِئْسَ الْمَصِيرُ- 15- وذلك أنه يعطى كل مؤمن كافر فيقال: هذا فداؤك من النار، فذلك قوله: «لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ» يعني من المنافقين ولا من الذين كفروا، إنما تؤخذ الفدية من المؤمنين، قوله: أَلَمْ يَأْنِ نزلت في المنافقين بعد الهجرة «بستة» «1» أشهر وذلك أنهم سألوا سلمان الفارسي ذات يوم فقالوا: حدثنا عما في التوراة، فإن فيها العجائب فنزلت: «الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ» «2» .
يخبرهم أن «القرآن أحسن من غيره» «3» ، يعني أنفع لهم فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله، ثم عادوا فسألوا سلمان فقالوا: حدثنا عن التوراة فإن فيها العجائب، فنزلت: «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ» يعني القرآن «ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ» «4» فكفوا عن سؤال سلمان ما شاء الله، ثم عادوا أيضا فسألوه، فقالوا: حدثنا عما في التوراة فإن فيها العجائب فأنزل الله- تعالى- «أَلَمْ يَأْنِ» لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ يعني المنافقين يقول: «ألم ينل ويقال
__________
(1) فى أ: «لسنة» .
(2) سورة يوسف: 1- 3.
وفى أ، ذكر أن أول السورة: «الم» ، وصوابه: «الر» .
(3) فى أ: «أحسن من غيره» ، وفى ف: «أحسن حديث من غيره» .
(4) سورة الزمر: 23.
تفسير مقاتل ج 4- م 16(4/241)
لم يحن» «1» للذين أقروا باللسان وأقروا بالقرآن أن تخشع قلوبهم لذكر الله، يقول أن ترق قلوبهم لذكر الله- عز وجل- وهو القرآن يعني إذا ذكر الله وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ يعني القرآن يعني وعظهم فقال: وَلا يَكُونُوا [184 ب] كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ في القساوة مِنْ قَبْلُ من قبل أن يبعث النبي- صلى الله عليه وسلم- فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ يعني طول الأجل، وخروج النبي- صلى الله عليه وسلم- كان المنافقون «لا ترق» «2» قلوبهم لذكر الله فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ فلم تلن وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ- 16-، قوله: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ يعني بالآيات النبت لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ- 17- يقول لكي تعقلوا وتتفكروا فى أمر البعث، قوله: إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ من أموالهم وَالْمُصَّدِّقاتِ نزلت في أبي الدحداح الْأَنْصَارِيّ وذلك
أن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- أمر الناس بالصدقة ورغبهم في ثوابها، فقال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول الله، فإني قد جعلت حديقتي صدقة لله ولرسوله. ثم جاء إلى الحديقة، وأم الدحداح في الحديقة، فقال: يا أم الدحداح، إني قد جعلت حديقتي صدقة لله ولرسوله فخذي بيد صبيتاه فأخرجيهم من الحائط. فلما أصابهم حر الشمس بكوا، فقالت: أمهم لا تبكوا فإن أباكم قد باع حائطه من ربه، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كم من نخلة مذلا عذوقها قد رأيتها لأبي الدحداح في الجنة، فنزلت فيه «إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ»
وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يعني محتسبا طيبة بها نفسه
__________
(1) وردت «ألم ينال ويقال ألم يحين» فى أ، ف وقد صوبتها.
(2) فى أ: «لا ترق» ، وفى ف: «لا يرق» .(4/242)
يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ- 18- يعني جزاء حسنا في الجنة، فقال الفقراء: ليس لنا أموال نجاهد بها أو نتصدق بها، فأنزل الله- تعالى- وَالَّذِينَ آمَنُوا يعني صدقوا بِاللَّهِ بتوحيد الله- تعالى- وَرُسُلِهِ «كلهم» «1» أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ بالله وبالرسل ولم يشكوا فيهم ساعة، ثم استأنف فقال:
وَالشُّهَداءُ يعني من استشهد منهم عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ يعني جزاؤهم وفضلهم وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا يعني بالقرآن أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ- 19- يعني ما عظم من النار اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا زهدهم في الدنيا لكي لا يرغبوا، فيها فقال: لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ، وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ والمنازل والمراكب فمثلها ومثل من يؤثرها على الآخرة كَمَثَلِ غَيْثٍ يعني المطر ينبت منه المراعي «أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا» «2» : فبينما هو أخضر إذ تراه مصفرا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً هالكا لا نبت فيه فكذلك من يؤثر الدنيا على الآخرة، ثم يكون له: «وَفِي» «3» الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ، ثم قال: وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ للمؤمنين وَمَا الْحَياةُ [185 أ] الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ- 20- الفاني، قوله: سابِقُوا بالأعمال الصالحة وهي الصلوات الخمس إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ لذنوبكم وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ يعني السموات السبع والأرضين السبع لو «ألصقت» «4» السموات السبع بعضها إلى بعض ثم «ألصقت» «5» السموات بالأرضين لكانت الجنان فى
__________
(1) فى أ: «كلها» .
(2) «أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا» ساقط من أ، ف.
(3) فى أ: فى.
(4، 5) «ألصقت» ولكنها وردت فى الأصل «الزفت» .(4/243)
عرضها جميعا ولم يذكر طولها أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ يعني صدقوا بتوحيد الله- عز وجل- وَرُسُلِهِ محمد- صلى الله عليه وسلم- أنه نبي يقول الله- تعالى-: ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده فبخصهم بذلك وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ- 21- ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ من قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ يقول ما أصاب هذه النفس من البلاء وإقامة الحدود عليها إِلَّا فِي كِتابٍ مكتوب يعني اللوح المحفوظ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها يعني من قبل أن يخلق هذه النفس إِنَّ ذلِكَ الذي أصابها في كتاب يعني اللوح المحفوظ أن ذلك عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ- 22- يقول هين على الله- تعالى-.
«وَبِإِسْنَادِهِ» «1» مُقَاتِلٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
خَلَقَ اللَّهُ- تَعَالَى- اللَّوْحَ المحفوظ مسيرة «خمسمائة عام» «2» فى خمسمائة عام وهو من دُرَّةٌ بَيْضَاءُ صَفْحَتَاهُ مِنْ يَاقُوتٍ أَحْمَرَ كَلامُهُ «نُورٌ» «3» وَكِتَابُهُ النُّورُ وَالْقَلَمُ مِنْ نُورٍ طُولُهُ خمسمائة عام، قوله: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ من الخير والغنيمة وَلا تَفْرَحُوا «بِما آتاكُمْ» «4» من الخير «فتختالوا وتفخروا» «5» فذلك قوله:
وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ- 23- يعني متكبر عن عبادة الله- عز وجل- فخور في نعم الله- تعالى- لا يشكر، ثم قال: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ
__________
(1) فى أ: «وبإسناده» ، وفى ف: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: قال أبو صالح:
قال: قال مقاتل: قال: حدثني عطاء.
(2) فى أ، وف: «خمسمائة» .
(3) فى أ «بر» ، وفى ف: «بر» ، ولعل أصلها «نور» .
(4) فى أ: «أعطاكم» ، وفى حاشية أ: الآية «أتاكم» . [.....]
(5) من ف، وفى أ: «فتقدموا وتختالوا» .(4/244)
يعني رؤوس اليهود يبخلون بخلوا بأمر محمد- صلى الله عليه وسلم- وكتموه ليصيبوا الفضل من اليهود من «سفلتهم» «1» وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ يقول ويأمرون الناس بالكتمان والناس في هذه الآية اليهود أمروهم بكتمان أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ يَتَوَلَّ يعني ومن أعرض عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فبخل فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ- 24- «غنى» عما عندكم «حميد» عند خلقه، قوله:
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ يعني بالآيات وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ يعني العدل لِيَقُومَ النَّاسُ يعني لكي يقوم الناس بِالْقِسْطِ يعني بالعدل وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يقول من أمري كان الحديد فيه بأس شديد للحرب وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ في معايشهم وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ يعني ولكي يرى الله مَنْ يَنْصُرُهُ على عدوه وَينصر رُسُلَهُ يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- وحده فيعينه على أمره حتى يظهر ولم يره «بِالْغَيْبِ» «2» إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ في أمره عَزِيزٌ- 25- في ملكه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ فهم خمسة وعشرون نبيا وَالْكِتابَ يعني الكتب الأربعة منهم إسماعيل وإسحاق، ويعقوب، وعيصو، وأيوب، وهو من ولد العيص والأسباط وهم اثنا عشر منهم روبيل، وشمعون، ولاوى، ويهوذا، ونفتولن، وزبولن، وحاد، ودان، وأشر، واستاخر، ويوسف، وبنيامين، وموسى، وهارون،
__________
(1) كان الأولى: من «سفلة اليهود» .
(2) فى أ: تقدمت (بالغيب) على (مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) ، وفى الجلالين: (بالغيب) حال من هاء «ينصره» أى غائبا عنهم فى الدنيا، قال ابن عباس: ينصرونه ولا يبصرونه.(4/245)
وداود، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وعيسى، ومحمد- عليهم السّلام-، والتوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، فهذه الكتب فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ- 26- يعني عاصين ثُمَّ قَفَّيْنا يعني اتبعنا عَلى آثارِهِمْ من بعدهم يعني من بعد نوح وإبراهيم وذريتهما بِرُسُلِنا في الأمم وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ يقول وأتبعنا بعيسى بن مريم وَآتَيْناهُ يعني وأعطيناه الْإِنْجِيلَ في بطن أمه وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ يعني اتبعوا عيسى رَأْفَةً وَرَحْمَةً يعني المودة كقوله « ... رُحَماءُ بَيْنَهُمْ ... «1» »
يقول متوادين بعضهم لبعض جعل الله ذلك في قلوب المؤمنين بعضهم لبعض، ثم استأنف الكلام فقال: وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها وذلك أنه لما كثر المشركون وهزموا المؤمنين وأذلوهم بعد عيسى بن مريم، «واعتزلوا» «2» واتخذوا الصوامع فطال عليهم ذلك، فرجع بعضهم عن دين عيسى- عليه السلام- وابتدعوا النصرانية، فقال الله- عز وجل- وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا تبتلوا فيها للعبادة في التقديم مَا كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ولم نأمرهم بها «إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ» «3» فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها يقول لم يرعوا ما أمروا به يقول فما أطاعوني فيها، ولا أحسنوا حين تهودوا وتنصروا، وأقام أناس منهم على دين عيسى- عليه السلام- حتى أدركوا محمدا- صلى الله عليه وسلم- فآمنوا به وهم أربعون رجلا، «اثنان وثلاثون» «4» رجلا من أرض الحبشة، وثمانية من
__________
(1) سورة الفتح: 29.
(2) فى ف: «واعتزلوا» فى الغيران» .
(3) «إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ» ساقط من أ، وفى ف: (إلا ابتغاء رضوان الله ما كتبناها عليهم) فخالف بين جزءي الآية.
(4) فى أ: «اثنين وثلاثين» ، وفى ف: «اثنان وثلاثون» .(4/246)
أرض الشام، فهم الذين كنى الله عنهم، فقال: فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا يقول أعطينا الذين آمنوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ يعني صدقوا يعني جزاءهم وهو الجنة، قال: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ- 27- يعني الذين تهودوا، وتنصروا فجعل الله- تعالى- لمن آمن بمحمد- صلى الله عليه وسلم- من أهل الإنجيل أجرهم مرتين بإيمانهم بالكتاب الأول وكتاب محمد- صلى الله عليه وسلم-، فافتخروا على أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- بذلك، فقالوا: نحن أفضل منكم في الأجر لنا أجران بإيماننا بالكتاب الأول، والكتاب الآخر الَّذِي جاء به محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- فشق على المسلمين، فقالوا: ما بالنا قد هاجرنا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- وآمنا به قبلكم [186 أ] ، وغزونا معه وأنتم لم تغزوا فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ يعني وحدوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يقول صدقوا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- أنه نبي رسول يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ يعني أجرين مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يعني تمرون به على الصراط إلى الجنة نورا تهتدون به وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم وَاللَّهُ غَفُورٌ لذنوب المؤمنين رَحِيمٌ- 28- بهم لِئَلَّا يَعْلَمَ يعني لكيلا يعلم أَهْلُ الْكِتابِ يعني مؤمني أهل الإنجيل «هؤلاء الأربعون رجلا» «1» أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وهو الإسلام إلا برحمته وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ الإسلام يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ من عباده وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ- 29- فأشرك المؤمنين في الكفلين مع أهل الإنجيل.
__________
(1) فى ف: «هؤلاء الأربعين رجلا» ، وفى أ: «هؤلاء الأربعون» .(4/247)
سورة المجادلة(4/249)
[سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 22]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9)
إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)(4/251)
[سورة المجادلة «1» ] سورة المجادلة مدنية عددها «اثنتان» «2» وعشرون آية كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان حكم لظهار، وذكر النجوى والإسرار، والأمر بالتوسع فى المجالس، وبيان فضل أهل العلم والشكاية من المنافقين، والفرق بين حزب الرحمن وحزب الشيطان، والحكم على بعض بالفلاح، وعلى بعض بالخسران.
وسميت سورة المجادلة لقوله- سبحانه- فى أولها «قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها ... »
الآية الأولى.
(2) فى أ: «اثنان» ، وهو خطأ.
(3) فى المصحف: (58) سورة المجادلة مدنية وآياتها: نزلت بعد سورة المنافقون.(4/255)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ يعني تكلمك فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي يعني وتضرع إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما يعني خولة، امرأة أوس بن الصامت، والنبي- صلى الله عليه وسلم- إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ تحاوركما بَصِيرٌ- 1- وذلك أن خولة بنت ثعلبة بن مالك بن أحرم الأنصاري، من بني عمرو بن عوف بن الخزرج، كانت حسنة الجسم، فرآها زوجها ساجدة في صلاتها، فلما انصرفت أرادها زوجها فأبت عليه، فغضب فقال: أنت علي كظهر أمي، واسمه أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت ابن قيس بن أحرم الأنصاري فأتت خولة النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: إن زوجي، يا رسول الله، تزوجني وأنا شابة، ذات مال، وأهل، حتى إذا أكل مالي، وأفنى شبابي، وكبرت سنى، ووهن عظمي، جعلني عليه كظهر أمه، «ثم ندم» «1» ، فهل من شيء يجمعني وإياه، فسكت النبي- صلى الله عليه وسلم- عنها، وكان الظهار، والإيلاء، وعدد النجوم من طلاق الجاهلية، فوقت الله- تعالى- في الإيلاء أربعة أشهر، وجعل في الظهار الكفارة، ووقت من عدد النجوم ثلاث تطليقات، فأنزل الله- تعالى- الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ
__________
(1) فى أ: «فقد ندم» .
تفسير مقاتل ج 4- م 17.(4/257)
يعني الظهار والمنكر من القول «الذي لا يعرف» «1» وَزُوراً يعني كذبا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ [186 ب] حين لم يعاقبه غَفُورٌ- 2- له لتحريمه الحلال وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا يعني يعودون للجماع الذي حرموه على أنفسهم فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا يعني الجماع ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ فوعظهم الله في ذلك وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من الكفارة خَبِيرٌ- 3- به.
قال أبو محمد: سمعت أبا العباس أحمد بن يحيى يقول: «ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا» يعني لنقض ما عقدوا من الحلف «فَمَنْ» «2» لَمْ يَجِدْ التحرير فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا يعني الجماع فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصيام فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكل مسكين نصف صاع حنطة ذلِكَ يعني هذا الذي ذكر من الكفارة لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ يقول لكي تصدقوا بالله وَرَسُولِهِ إن الله قريب إذا دعوتموه في أمر الظهار، وتصدقوا محمدا- صلى الله عليه وس لم- فيما قال لكم من الكفارة حين جعل لكم مخرجا، «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ» يعني تصدقوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني سنة الله وأمره في كفارة الظهار،
فلما نزلت هذه الآية دعا النبي- صلى الله عليه وسلم- زوجها، فقال: ما حملك على ما قلت؟ قال: الشيطان. فهل لي من رجعة تجمعني وإياها؟ قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: نعم، هل عندك تحرير رقبة؟ قال: لا، إلا أن تحيط بمالي كله. قال: فتستطيع صوما فتصوم شهرين متتابعين؟ قال: يا رسول
__________
(1) فى أ: «الذي لا يعرف» ، وفى ف: «إلى لا يفرق» .
(2) فى الأصل: «لمن» ، لكن الآية: «فمن» . [.....](4/258)
الله، إني إذا لم آكل في اليوم مرتين أو ثلاث مرات اشتد علي وكل بصري، وكان ضرير البصر. قال: فهل عندك إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا، إلا بصلة منك وعون. فأعانه النبي- صلى الله عليه وسلم- «بخمسة عشر صاعا» «1»
وجاء هو بمثل ذلك فتلك ثلاثون صاعا من تمر لكل مسكين نصف صاع، ذلكم يعني أمر الكفارة توعظون به، فوعظهم- الله تعالى- فى أمر الكفارة «وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» ، «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ» يعني سنة الله وَلِلْكافِرِينَ من اليهود والنصارى عَذابٌ أَلِيمٌ- 4- قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ يعني يعادون الله وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ يعني أخزوا كما أخزى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الخالية وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ يعني القرآن فيه البيان أمره ونهيه وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ- 5- نزلت في اليهود والمنافقين «مُهِينٌ» يعني الهوان، قوله:
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً الأولين والآخرين نزلت في المنافقين في أمر المناجاة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ يقول حفظ الله أعمالهم الخبيثة، ونسوا هم أعمالهم وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أعمالهم شَهِيدٌ- 6- يعني شاهده، قوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [187 أ] يقول أحاط علمه بذلك كله مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ يعني نفر ثلاثة إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ يعني علمه معهم إذا تناجوا وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ يعني علمه معهم وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ يعني ولا أقل من ثلاث نفر وهما اثنان وَلا أَكْثَرَ من خمسة نفر إِلَّا هُوَ يعني إلا وعلمه
__________
(1) فى أ: «بخمس عشرة صاعا» ، وهو خطأ، والصواب ما ذكرته.(4/259)
مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا من الأرض ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني بما يتناجون فيه إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ من أعمالهم عَلِيمٌ- 7- قوله- تعالى-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى يعني اليهود كان بينهم وبين محمد- صلى الله عليه وسلم- موادعة فإذا رأوا رجلا من المسلمين وحده يتناجون بينهم، فيظن المسلم أنهم يتناجون بقتله أو بما يكره، فيترك الطريق من المخافة فبلغ ذَلِكَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى، فقال- الله تعالى-: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى» ثُمَّ يَعُودُونَ لِما للذي نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ يعني بالمعصية وَالْعُدْوانِ يعني الظلم وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ يعني حين نهاهم النبي- صلى الله عليه وسلم- عن النجوى فعصوه، ثم أخبر عنهم قال: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ يعني كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، وكعب بن أسيد، وأبو ياسر، وغيرهم «حَيَّوْكَ» بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ يعني اليهود، قالوا انطلقوا بنا إلى محمد فنشتمه علانية كما نشتمه فى السر، فأتوه، فقالوا: السام. يعنون بالسام السآمة والفترة، ويقولون تسأمون يعني تتزكون دينكم،
فقالت عائشة- رضي الله عنها-:
عليكم السام، والذام، والفان، يا إخوان القردة والخنازير، فكره النبي- صلى الله عليه وسلم- قول عائشة، وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «مهلا «1» » يا عائشة عليك بالرفق فإنه ما وضع في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه.
فقال جبريل- عليه السلام-: إنه لا يسلمون عليك ولكنهم يشتمونك.
فلما خرجت اليهود من عِنْد النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «قال «2» » بعضهم
__________
(1) فى أ: «قولي» ، وفى ف: «مهلا» .
(2) فى أ: «فقال» .(4/260)
لبعض: إن كان محمد لا يعلم ما نقول له، فالله يعلمه، ولو كان نبيا لأعلمه الله ما نقول، ولعاقبنا
، فذلك قوله وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ لنبيه وأصحابه يقول الله حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ شدة عذابها يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ- 8- يعني بئس المرجع إلى النار يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ يعني الذين أقروا باللسان، وهم المنافقون منهم عبد الله بن أبى، بو عبد الله بن سعد ابن أبي سرح، وغيرهم كان نجواهم أنهم كانوا يخبرون عن [187 ب] «سرايا «1» » النبي- صلى الله عليه وسلم- ما يشق «على «2» » من أقام من المؤمنين، وبلغنا أن ذلك كان في سرية جعفر بن أبى طالب، وزيد بن حادثة، وعبد الله بن رواحة، قتلوا يوم مؤتة، ولعل حميم أحدهم في السرية فإذا رأوه تناجوا بينهم فيظن المسلم أن حميمه قد قتل فيحزن، لذلك، فنهاهم النبي- صلى الله عليه وسلم- عن النجوى: فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ يعني المعصية والظلم وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ لأن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان نهاهم عن ذلك، ثم قال: وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى يعني الطاعة، وترك المعصية، ثم خوفهم فقال: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ- 9- بعد الموت فيجزيكم بأعمالكم، ثم قال: إِنَّمَا النَّجْوى يعني نجوى المنافقين مِنَ تزيين الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني إلا أن يأذن الله في ضره وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ- 10- يعني بالله فليثق المصدقون يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- جلس فى صفة ضيقة، ومعه أصحابه
__________
(1) فى أ: «السرايا» .
(2) فى أ: «عن» .(4/261)
فجاء نفر من أهل بدر، منهم: ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري، فسلموا على النبي- صلى الله عليه وسلم-، فرد عليهم، ثم سلموا على القوم، فردوا عليهم، وجعلوا ينتظرون ليوسع لهم فلم يفعلوا، فشق قيامهم على النبي- صلى الله عليه وسلم- وكان يكرم أهل بدر وذلك يوم الجمعة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قم يا فلان، وقم يا فلان. لمن لم يكن من أهل بدر، بعدد القيام من أهل بدر، فعرف النبي- صلى الله عليه وسلم- الكراهية في وجه من أقيم منهم، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: رحم الله رجلا تفسح لأخيه، فجعلوا يقومون لهم بعد ذلك، فقال المنافقون للمسلمين: أتزعمون أن صاحبكم يعدل بين الناس، فو الله، ما عدل على هؤلاء، إن قوما سبقوا فأخذوا مجلسهم وأحبوا قربه فأقامهم، وأجلس من أبطأ عن الخير، فو الله، إن أمر صاحبكم كله فيه اختلاف. فأنزل- الله تعالى- «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي (الْمَجالِسِ «1» ) »
يعني أوسعوا في «المجالس» «2» فَافْسَحُوا يقول أوسعوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يقول وإذا قال لكم نبيكم: ارتفعوا عن المجلس فارتفعوا فإن الله يأجركم إذا أطعتم النبي- صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ يعني أهل بدر وَيرفع الله الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ منكم فيها تقديم يعني بالقرآن دَرَجاتٍ يعني الفضائل إلى الجنة على من سواهم ممن لا يقرأ القرآن من المهاجرين والتابعين وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ- 11- فى أمر المجلس وغيره.
__________
(1) فى أ: «المجلس» .
(2) فى أ: «المجلس» .(4/262)
«حدثنا عبد الله: حدثني أبي: حدثنا الهذيل: قال مُقَاتِلُ بن سليمان» «1» : إذا انتهى المؤمنون إلى باب الجنة، يقال للمؤمن الذي ليس بعالم: ادخل الجنة بعملك الصالح، ويقال للعالم قم على باب الجنة، فاشفع للناس يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً يعنى الصدقة خَيْرٌ لَكُمْ من إمساكه وَأَطْهَرُ لذنوبكم نزلت في الأغنياء فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا الصدقة على الفقراء فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ- 12- لمن لا يجد الصدقة، وذلك أن الأغنياء كانوا يكثرون مناجاة النبي- صلى الله عليه وسلم- ويغلبون الفقراء على مجالس النبي- صلى الله عليه وسلم-، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- يكره طول مجالستهم وكثرة نجواهم، فلما أمرهم بالصدقة عند المناجاة انتهوا عند ذلك، وقدرت الفقراء على كلام النبي- صلى الله عليه وسلم- ومجالسته ولم يقدم أحد من أهل الميسرة بصدقة غير علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- قدم دينارا، وكلم النبي- صلى الله عليه وسلم- عشر «2» كلمات فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى أنزل الله- تعالى-:
أَأَشْفَقْتُمْ يقول أشق عليكم أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ يعني أهل الميسرة ولو فعلتم لكان خيرا لكم، فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ يقول وتجاوز الله عنكم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ لمواقيتها وَآتُوا الزَّكاةَ لحينها وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ فنسخت الزكاة الصدقة التي كانت عند المناجاة وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ- 13- قوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يقول ألم تنظر يا محمد إلى الذين ناصحوا اليهود بولايتهم فهو عبد
__________
(1) فى أ: «وبإسناده مقاتل» ، والمثبت من ف.
(2) فى أ: «بعشر» .(4/263)
الله بن نتيل المنافق، يقول الله- تعالى-: مَا هُمْ يعني المنافقين عند الله مِنْكُمْ يا معشر المسلمين وَلا مِنْهُمْ يعني من اليهود في الدين والولاية فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لعبد الله بن نتيل: إنك تواد اليهود فحلف عبد الله بالله أنه لم يفعل وأنه ناصح، فأنزل الله- تعالى- وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ- 14- أنهم كذبة أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فى الآخرة عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ يعني بئس ما كانُوا يَعْمَلُونَ- 15- اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ يعني حلفهم جُنَّةً من القتل فَصَدُّوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني دين الله الإسلام فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ- 16- فقال رجل من المنافقين:
إن محمدًا يزعم أنا لا ننصر يوم القيامة، لقد شقينا إذًا، إنا لأذل من البعوض، والله لننصرن يوم القيامة بأنفسنا وأموالنا وأولادنا إن كانت قيامة، فأما اليوم فلا نبذلها، ولكن نبذلها يومئذ لكي ننصر، فأنزل الله- تعالى- لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً يوم القيامة أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ- 17-[188 ب] يعنى مقيمين فى النار لا يموتون، قوله: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يعني المنافقين فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وذلك أنهم كانوا إذا قالوا شيئا «أو عملوا» «1» شيئا، وأرادوه، سألهم المؤمنون عن ذلك، فيقولون: والله لقد أردنا الخير فيصدقهم المؤمنون بذلك، فإذا كان يوم القيامة «سئلوا» «2» عن أعمالهم الخبيثة فاستعانوا بالكذب كعادتهم في الدنيا، فذلك قوله يحلفون لله في الآخرة كما يحلفون لكم في الدنيا وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ من الدين فان يغني عنهم ذلك من الله شيئا أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ- 18-
__________
(1) فى أ: «وعملوا» ، وفى ف: «أو عملوا» .
(2) فى أ: «يسلوا» ، وفى ف: «سئلوا» .(4/264)
فى قولهم اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ يقول غلب عليهم الشيطان فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ يعنى شيعة الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ يعنى شيعة الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ- 19- قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ يعني يعادون الله وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ- 20- يعني في الهالكين كَتَبَ اللَّهُ يعني قضى الله لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي يعني النبي- صلى الله عليه وسلم-، وذلك أن الْمُؤْمِنِين قَالُوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لئن فتح الله علينا مكة وخيبر وما حولها فنحن «نرجو أن يظهرنا الله» «1» ما عاش النبي- صلى الله عليه وسلم- على أهل الشام وفارس والروم. فقال عبد الله بن أبي للمسلمين: أتظنون بالله أن أهل الروم وفارس كبعض أهل هذه القرى التي غلبتموهم عليها، كلا والله لهم أكثر جمعا، وعددا.
فأنزل الله- تعالى- في قول عبد الله بن أبى « ... وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «2» ... » وأنزل «كتب الله كتابا وأمضاه» «3» «لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- وحده إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ- 21- يقول أقوى، وأعز من أهل الشام والروم وفارس.
قوله: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني يصدقون بِاللَّه أَنَّهُ واحد لا شريك لَهُ، ويصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني يناصحون من عادى الله ورسوله، نزلت فى حاطب بن أبى بلتعة
__________
(1) فى أ: «أن يظهر بالله» ، وفى ف: «أن يظهرنا الله» .
(2) سورة الفتح: 4.
(3) نص الآية: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي، فما ورد من قوله: «كتب الله كتابا وأمضاه» من باب الشرح والتقسى. [.....](4/265)
العنسي حين كتب إلى أهل مكة، وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ الذين لم يفعلوا ذلك كَتَبَ يقول جعل فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ يعني التصديق نظيرها في آل عمران « ... فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ «1» ... » يعني فاجعلنا مع الشاهدين. وقال أيضا في الأعراف: « ... فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ «2» ... » يعنى فسأجعلها وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ يقول قواهم برحمة من الله عجلت لهم في الدنيا وَيُدْخِلُهُمْ في الآخرة جَنَّاتٍ يعني بساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مطردة خالِدِينَ فِيها يعني مقيمين في الجنة لا يموتون رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بأعمالهم الحسنة وَرَضُوا عَنْهُ يعني عن الله بالثواب والفوز أُولئِكَ الذين ذكر حِزْبُ اللَّهِ يعني شيعة الله أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ يعني ألا إن شيعة الله هُمُ الْمُفْلِحُونَ- 22- يعنى «الفائزين» «3» .
__________
(1) سورة آل عمران الآية 53 وتمامها: «رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» ، ووردت أيضا فى سورة المائدة: 83، وتمامها: «وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ» .
(2) سورة الأعراف: 156، وتمامها: «وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ» .
(3) فى أ: «يعنى الفائزون» ، وفى ف: «يعنى الفائزون» .(4/266)
سورة الحشر(4/267)
[سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 24]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19)
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)(4/269)
[سورة الحشر «1» ] سورة الحشر مدنية عددها أربع «2» وعشرون آية كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
الخبر عن جلا بنى النضير، وقسم الغنائم، وتفصيل حال المهاجرين والأنصار، والشكاية من المنافقين فى واقعة قريظة، وذكر برصيصا. العابد وقد حمل عنيه بعضهم الآية 16، والنظر إلى العواقب وتأثير نزول القرآن وذكر أسماء الحق- تعالى- وصفاته وبيان أن جملة الخلائق فى تسبيحه وتقديسه فى قوله: « ... لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» سورة الحشر: 24
(2) فى أ: «أربعة» ، وصوابه ما ذكرت.
(3) فى المصحف: (59) سورة الحشر مدنية، وآياتها 24 نزلت بعد سورة البينة، سميت سورة الحشر لقوله « ... لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ... » : 2
تفسير مقاتل ج 4- م 18(4/273)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يقول ذكر الله مَا فِي السَّمَوَاتِ من الملائكة، وَمَا فِي الأرض من الخلق وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ- 1- في أمره هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني يهود بني النضير مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بعد قتال أحد أخرجهم مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ يعنى القتال والحشر الثاني القيامة، وهو الجلاء من المدينة إلى الشام وأذرعات مَا ظَنَنْتُمْ يقول للمؤمنين ما حسبتم أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا يعني وحسبوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا يعني من قبل قتل كعب بن الأشرف، ثم قال: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ بقتل كعب بن الأشرف أرعبهم الله بقتله لأنه كان رأسهم وسيدهم قتله محمد بن مسلمة الأنصاري وكان أخاه من الرضاعة، وغيره، «1» وكان مع محمد ليلة قتل كعب بن الأشرف أخو محمد بن سلمة، وأبو ليلى، وعتبة كلهم من الأنصار، قوله: يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ وذلك
أن المنافقين دسوا وكتبوا إلى اليهود ألا يخرجوا من الحصن، «وأن يدربوا» «2» على الأزقة وحصونها، فإن قاتلتم محمدا فنحن معكم لا نخذلكم ولننصرنكم، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم، فلما سار النبي- صلى الله عليه وسلم- إليهم وجدهم ينوحون
__________
(1) أى كان مع محمد بن مسلمة غيره من المسلمين.
(2) «ودربوا» : كذا فى أ، ف: والأنسب: «وأن يدر برا» .(4/275)
على كعب بن الأشرف. قالوا: يا محمد، واعية على أثر واعية، وباكية على أثر باكية، ونائحة أعلى أثر نائحة. قال: نعم. قالوا: فذرنا نبكي شجونا، ثم نأتمر لأمرك.
فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: اخرجوا من المدينة. قالوا: الموت أقرب إلينا من ذلك. فتنادوا الحرب، واقتتلوا وكان المؤمنون إذا ظهروا على درب من دروبهم تأخروا إلى الذي يليه فنقبوه من دبره، ثم حصنوها ويخرب المسلمون ما ظهروا عليه من نقض بيوتهم، فيبنون «دوربا» «1» على أفواه الأزقة،
فذلك قوله: «يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ» فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصارِ- 2- يعني المؤمنين أهل البصيرة في أمر الله، وأمر النضير، ثم قال: وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ [189 ب] يعني قضى الله، نظيرها في المجادلة «قوله» «2» :
«كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ ... » «3» يعني قضى الله عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ من المدينة لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل بأيديكم وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ- 3- ذلِكَ الذي نزل بهم من الجلاء بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني عادوا الله ورسوله وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ ورسوله يعني ومن يعادي الله ورسوله فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ- 4- إذا عاقب، نظيرها في هود « ... لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي ... » «4»
يعنى عداوتي « ... وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ «5» » يعنى وليهن اليهود، وذلك أن النبي
__________
(1) فى أ: «نحوتا» ، وفى ف: «درربا» .
(2) فى أ: «قوله» ، وفى ف: «كقوله» .
(3) سورة المجادلة: 21 وتمامها «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ» .
(4) سورة هود: 59 وفيها «وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ» .
(5) سورة الحشر: 5.(4/276)
- صلى الله عليه وسلم- أمر بقطع ضرب من النخيل من أجود التمر يقال له اللين شديد الصفرة ترى النواة من اللحى «1» من أجود التمر بغيب فيه الضرس، النخلة أحب إلى أحدهم من وصيف، «فجزع» «2» أعداء الله لما رأوا ذلك الضرب من النخيل يقطع. فقالوا: يا محمد، أوجدت فيما أنزل الله عليك الفساد في الأرض أو الإصلاح في الأرض، فأكثروا القول ووجد المسلمون ذمامة من قطعهم النخيل خشية أن يكون فسادا، فأنزل الله- تعالى- مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ وكانوا «قطعوا» «3» أربع نخلات كرام عن أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- غير العجوة أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها هو كله «فَبِإِذْنِ «4» » اللَّهِ يعني بأمر الله وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ- 5- لكي يخزي الفاسقين وهم اليهود بقطع النخل، فكان قطع النخل ذلالهم وهوانا.
قال أبو محمد: قال الفراء: كل شيء من النخيل سوى العجوة فهو اللين.
قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: قَالَ الْفَرَّاءُ: حَدَّثَنِي حَسَّانٌ عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَمَرَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَطْعِ النَّخْلِ كُلِّهِ إِلا الْعَجْوَةَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَكُلُّ شَيْءٍ سِوَى الْعَجْوَةِ فَهُوَ اللِّينُ.
وقال أبو محمد: وقال أبو عبيدة: اللين ألوان النخل سوى العجوة والبرني، واحدتها لينة.
__________
(1) ترى النواة من ظاهر النمرة. [.....]
(2) فى أ: «فجزعوا» .
(3) فى أ، ف: «فقطعوا» ، والأنسب ما ذكرته.
(4) فى الأصول: «بإذن» ، ولكن الآية: «فبإذن» .(4/277)
فلما «يأس» «1» اليهود أعداء الله من عون المنافقين رعبوا رعبا شديدا بعد قتال إحدى وعشرين ليلة، فسألوا الصلح فصالحهم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أن يؤمنهم على دمائهم وذراريهم وعلى أن لكل ثلاثة منهم بعيرا يحملون عليه ما شاءوا من عيال أو متاع «وتعيد» «2» أموالهم «فيئا» «3» للمسلمين، فساروا قبل الشام إلى أذرعات وأريحا، وكان ما تركوا من الأموال «فيئا» «4» للمسلمين، فسأل الناس النبي- صلى الله عليه وسلم- الخمس كما خمس يوم بدر، ووقع فى أنفسهم حين لم يخمس فأنزل الله- تعالى- وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ «5» يعني أموال بني النضير فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ يعني على الفيء مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ يعني الإبل يقول لم تركبوا فرسا، ولا بعيرا، ولكن مشيتم مشيا حتى فتحتموها [190 أ] غَيْر أن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ركب حمارا له، فذلك قوله:
«وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ يعنى النبي- صلى الله عليه وسلم-، يعنيهم» «6» وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من النصر وفتحها قَدِيرٌ- 6- قوله: مَا أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى يعني، قريظة والنضير، وخيبر، وفدك، وقريتي عرينة فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى يعنى قرابة
__________
(1) فى أ، ف: «أيس» ، وقد حدث فيها قلب مكاني من «يأس» ، وأخذت الأنسب «يأس» .
(2) فى أ: «وتعتد» وفى، ف: «وتعيد» .
(3) فى أ، ف: «فيء» ، وصوابها: «فيئا» .
(4) فى أ، «فيء» .
(5) فى حاشية أ: «الذي فى الأصل هنا مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى يعنى أموال بنى النضير» .
(6) وفى البيضاوي: « (وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) بقذف الرعب فى قلوبهم» .(4/278)
النبي- صلى الله عليه وسلم- وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً يعني يكون المال دولة بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ يعني لئلا يغلب الأغنياء الفقراء على الفيء فيقسمونه بينهم، فأعطى النبي- صلى الله عليه وسلم- الفيء للمهاجرين: ولم يعط الأنصار غير رجلين، منهم سهل بن حنيف، وسماك بن خرشة، أعطاهما النبي- صلى الله عليه وسلم- أرضا من أرض النضير، وإنما سموا المهاجرين لأنهم هجروا المشركين وفارقوهم، قوله:
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ يقول ما أعطاكم الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم- من الفيء فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ يخوفهم الله من المعاصي، ثم خوفهم فقال: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ- 7- إذا عاقب أهل المعاصي، ثم ذكر الفيء فقال: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ أخرجهم كفار مكة يَبْتَغُونَ يعني يطلبون فَضْلًا مِنَ اللَّهِ يعني رزقا من الله في الجنة وَرِضْواناً يعنى رضى ربهم وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ محمدا- صلى الله عليه وسلم- أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ- 8- في إيمانهم وليسوا بكاذبين في إيمانهم كالمنافقين، ثم ذكر الأنصار فأثنى عليهم حين طابت أنفسهم عن الفيء، إذ جعل «المهاجرين» «1» دونهم، فقال: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ يعني «أوطنوا» «2» دار المدينة من قبل هجرة المؤمنين، إليهم بسنين، ثم قال: وَتبؤوا الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل هجرة المهاجرين، ثم قال للأنصار: يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ من المؤمنين وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ يعنى قلوبهم حاجَةً مِمَّا أُوتُوا يعني مما أعطى إخوانهم المهاجرين من الفيء
__________
(1) فى الأصل: «المهاجرين» .
(2) فى أ: «وطنوا» ، وفى ف: «أوطنوا» .(4/279)
وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ يقول لا تضيق وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ يعني الفاقة فآثروا المهاجرين بالفيء على أنفسهم، ثم قال: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ يعني ومن يقيه الله حرص نفسه يعني الأنصار حين طابت أنفسهم عن الفيء لإخوانهم فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- 9- فقد ذهب صنفان المهاجرون والأنصار وبقي صنف واحد وهم التابعون الذين دخلوا في الإسلام إلى يوم القيامة وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد المهاجرين والأنصار فدخلوا في الإسلام إلى يوم القيامة [190 ب] وهم التابعون يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ الماضين من المهاجرين والأنصار فهذا استغفار، ثم قال التابعون: وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ- 10-.
وأنزل في دس المنافقين إلى اليهود أنا معكم في النصر والخروج فقال:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا نزلت فى عبد الله بن نتيل، وعبد الله بن أبى رافع ابن يزيد، كلهم من الأنصار يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ «الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» «1» من اليهود منهم حيي بن أخطب، وجدي وأبو ياسر، ومالك ابن الضيف، وأهل قريظة، «لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ» «2» لئن أخرجكم محمد من المدينة كما أخرج أهل النضير لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً يقول لا نطيع في خذلانكم أحدا أَبَداً يعني بأحد النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحده وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ يعني لنقاتلن معكم، فكذبهم الله- تعالى- فقال:
__________
(1) «الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» : ساقطة من أ.
(2) «لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ» : ساقط أ.(4/280)
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ- 11- لَئِنْ أُخْرِجُوا كما أخرج أهل النضير من المدينة لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا يعني لئن قاتلهم المسلمون لا يَنْصُرُونَهُمْ يعني لا يعانوهم يقول الله- تعالى- وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ يعني ولئن عاونوهم لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ- 12- فغرهم المنافقون فلزموا الحصن، حتى قتلوا وأسروا فنزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم، فقتل منهم أربعمائة وخمسين رجلا، وسبى سبعمائة وخمسين رجلا، فذلك قوله في الأحزاب: « ... فَرِيقاً تَقْتُلُونَ» يعنى المقاتلة الأربعمائة وخمسين وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً «1» يعنى السبعمائة وخمسين، ثم قال: لَأَنْتُمْ معشر المسلمين أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ يعني قلوب المنافقين ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ- 13- فيعتبرون لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ «بَأْسُهُمْ» «2» بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ يقول الله- تعالى- لنهيه- صلى الله عليه وسلم- تَحْسَبُهُمْ يا محمد جَمِيعاً المنافقين واليهود وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى يعني متفرقة مختلفة ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ- 14- عن الله فيوحدونه كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعنى قبل أهل بدر، كان قبل ذلك «بستين» «3» ، فذلك قوله: قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ يعني جزاء ذنبهم، ذاقوا القتل ببدر وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ- 15- ثم ضرب مثلا للمنافقين حين «غروا» «4» اليهود
__________
(1) سورة الأحزاب: 26، وتمامها: «وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً» . [.....]
(2) «بأسهم» : ساقطة من أ.
(3) فى أ: «بسنين» ، وفى ف: «بسنتين» .
(4) فى أ: «غزوا» ، وفى م: «غزو» وفى ف: «غزوا» .(4/281)
فتبرءوا منهم عند الشدة وأسلموهم، فقال: كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ وذلك أنه كان «راهبا» «1» في بني إسرائيل «اسمه برصيصا» «2» وكان فى صومعته أربعين عاما، يعبد الله، ولا يكلم أحدا، ولا يشرف على أحد، وكان لا يكل من ذكر الله- عز وجل-، وكان الشيطان لا يقدر عليه مع ذكره لله- تعالى-، فقال الشيطان [191 أ] لإبليس: قد غلبني برصيصا، ولست أقدر عليه. فقال إبليس: اذهب، فانصب له ما نصبت لأبيه من قبل. وكانت جارية ثلاثة من بني إسرائيل عظيمة الشرف جميلة من أهل بيت صدق، ولها إخوة فجاء الشيطان إليها، فدخل في جوفها فخنقها حتى ازبدت، فالتمس إخوتها لها الأطباء، وضربوا لها ظهروا وبطنا ويمينا وشمالا، فأتاهم الشيطان في منامهم، فقال: عليكم ببرصيصا الراهب، فليدع لها فإنه مستجاب الدعاء، فلما أصبحوا قال بعضهم لبعض: انطلقوا بأختنا إلى برصيصا الراهب فليدع لها، فإنا نرجو البركة في دعائه، فانطلقوا بها إليه، فقالوا: يا برصيصا أشرف علينا، وكلمنا، فإنا بنو فلان، وإنما جئنا لباب حسنة، وأجر. فأشرف فكلمهم وكلموه، فلما رد عليها وجد الشيطان خللا فدخل في جوفه ووسوس إليه. فقال: يا برصيصا هذا باب حسنة وأجر، تدعو الله لها فيشفيها. فأمرهم أن يدخلوها الخربة وينطلقوا هم فأدخلوها الحربة ومضوا، وكان برصيصا لا يتهم في بني إسرائيل، فقال له الشيطان: يا برصيصا انزل فضع يدك على بطنها، وناصيتها، وادع لها فما زال به حتى أنزله من صومعته، فلما نزل خرج منه فدخل فى جوف الجارية
__________
(1) فى أ، ف: «راهب» ، والأنسب ما ذكرته.
(2) فى أ: «وكان اسمه برصيصا» ، وفى ف: «اسمه برصيصا» .(4/282)
فاضطربت، وانكشفت فلما رأى ذلك، ولم يكن له عهد بالنساء وقع بها، قال الشيطان: يا برصيصا يا أعبد بني إسرائيل ما صنعت؟ الزنا بعد العبادة يا برصيصا؟ إن هذه تخبر إخوتها بما أتيت لها فتفتضح في بني إسرائيل فاعمد إليها، فاقتلها وادفنها في التراب، ثم اصعد إلى صومعتك، وتب إلى الله، وتعبد فإذا جاء إخوتها، فسألوا عنها، فأخبرهم أنك دعوت لها، وأن الجني طار عنها، وأنهم طاروا بها، فمن هذا الذي يتهمك في بني إسرائيل، فقتلها ودفنها فى الخربة، فلما جاء إخوتها، قالوا: أين أختنا؟ فقال: أختكم طارت بها الجن، فرجعوا وهم لا يتهمونه، فأتاهم الشيطان في المنام، فقال: إن برصيصا قد فضح أختكم، فلما أصبحوا جعل كل واحد منهم يكلم صاحبه بما رأى، فتكلم بما رأى. فقال الآخر: لقد رأيت مثل ما رأيت. فقال الثالث:
مثل ذلك، فلم يرفعوا بذلك رأسا حتى رأوا ثلاث ليال، فانطلقوا إلى برصيصا، فقالوا: أين أختنا؟ فقال: لا أدري طارت بها الجن، فدخلوا الخربة، فإذا هم بالتراب ناتئ في الخربة فضربوه بأرجلهم فإذا هم بأختهم فأتوه، فقالوا:
يا عدو الله، قتلت أختنا. فانطلقوا إلى الملك فأخبروه، فبعث إليه فاستنزله، من صومعته، ونحتوا له خشبة، فأوثقوه عليها فأتاه الشيطان [191 ب] فقال: أتعرفني يا برصيصا. قال: لا. قال: أنا الذي أنزلتك هذه المنزلة، فإن فعلت ما آمرك به استنقذتك، مما أنت فيه وأطلعتك إلى صومعتك؟ قال:
وبماذا؟ قال: أنمثل لك في صورتي، فتسجد لي سجدة واحدة وأنجيك مما هنا؟ قال: نعم. فتمثل له الشيطان في صورته فسجد له وكفر بالله، فانطلق الشيطان، وتركه، وقتل برصيصا، فذلك قوله: «كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ» قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ(4/283)
- 16- فَكانَ عاقِبَتَهُما يعني الشيطان والإنسان أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها الشيطان والراهب وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ- 17- يقول هكذا ثواب المنافقين واليهود النار، ثم حذر المؤمنين ولاية اليهود، فقال:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ يعنى ولتعلم نفس ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ يعني ما عملت لغد يعني ليوم القيامة وَاتَّقُوا اللَّهَ يحذرهم ولاية اليهود إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ- 18- من الخير والشر، ومن معاونة اليهود، ثم وعظ المؤمنين ألا يتركوا أمره «ولا يكونوا» «1» بمنزلة أهل الكتاب، فقال: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ يعني تركوا أمر الله فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أن يقدموا لها خيرا أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ- 19- يعنى العاصين، ثم ذكر مستقر الفريقين فقال: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ يوم القيامة في الثواب والمنزلة أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ- 20- يعني هم الناجون من النار، وأصحاب النار هم فى النار خالدون فيها أبدا، ثم وعظهم فقال: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ الذي فيه أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وحرامه وحلاله عَلى جَبَلٍ وحملته إياه لَرَأَيْتَهُ يا محمد خاشِعاً يعني خاضعا مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فكيف لا يرق هذا الإنسان ولا يخشى الله فأمر الله الناس الذين «هم» «2» أضعف من الجبل الأصم الذي عروقه في الأرض السابعة ورأسه في السماء أن يأخذوا القرآن بالخشية والشدة، والتخشع، فضرب الله لذلك مثلا فقال:
__________
(1) فى أ، ل، م: «يكونوا» ، وفى ف: «ولا يكونوا» .
(2) «هم» : زيادة اقتضاها السياق.(4/284)
«وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ» «1» لَعَلَّهُمْ يعني لكي يَتَفَكَّرُونَ- 21- فِي أمثال اللَّه فيعتبروا فى الربوبية، فوحد الرب نفسه فقال: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ يعني غيب ما كان وما يكون وَالشَّهادَةِ يعني شهادته بالحق في كل شيء هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ- 22- اسمان رقيقان، أحدهما أرق من الآخر، فلما ذكر «الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» قال مشركون العرب ما نعرف الرحمن الرحيم إنما اسمه الله، فأراد الله- تعالى- أن يخبرهم أن له أسماء كثيرة فقال:
«هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» اسم الرب- تعالى- هو الله وتفسير الله: «اسم» «2» «الربوبية» «3» القاهر لخلقه [192 أ] وسائر أسمائه على فعاله «4» هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فوحد نفسه، فقال لنفسه: الْمَلِكُ يعني يملك كل شيء دونه الْقُدُّوسُ يعني الطاهر السَّلامُ يسلم عباده من ظلمه الْمُؤْمِنُ يؤمن أولياؤه من عذابه الْمُهَيْمِنُ يعني الشهيد على عباده بأعمالهم من خير أو شر، كقوله « ... وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ «5» ... » كقوله: « ... شاهِداً عَلَيْكُمْ «6» ... » على عباده بأعمالهم من خير أو شر
__________
(1) «وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ» : ساقط من أ.
(2) فى أ: «اسما» ، وفى ف: «اسم» .
(3) فى أ: «لربوبيته» ، وفى ف: «الربوبية» .
(4) فى أ: زيادة: «قال أبو صالح أله العباد كلهم إليه كما بله الطفل إلى ثدي أمه أله العباد إليه أى أحوجهم إليه» ، وليست فى ف.
(5) سورة المائدة: 48، وتمامها: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ» .
(6) سورة المزمل: 15 وتمامها: «إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا» .
وقد سقطت «عليكم» من الأصل فأثبتها طبقا لمنطوق الآية.(4/285)
المصدق بكتابه الذي أنزله عَلَى محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعَزِيزُ يعني المنيع بقدرته فى ملكه الْجَبَّارُ يعنى القاهر على ما أراد بخلقه الْمُتَكَبِّرُ يعني المتعظم على كل شيء سُبْحانَ اللَّهِ نزه الرب نفسه عن قولهم البهتان عَمَّا يُشْرِكُونَ- 23- معه فنزه الرب نفسه أن يكون له شريك فقال:
«سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ» معه غيره أن يكون له شريك، ثم «قال عن نفسه» »
هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ يعني خالق كل شيء خلق النطفة والمضغة، ثم قال:
الْبارِئُ الأنفس حين «برأها» «2» بعد مضغة إنسانا فجعل له العينين، والأذنين، واليدين، والرجلين، ثم قال: الْمُصَوِّرُ في الأرحام، كيف يشاء ذكر وأنثى، أبيض وأسود، سوي وغير سوي، ثم قال: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يعني الرحمن الرحيم العزيز الجبار المتكبر ... ونحوها من الأسماء يعني هذه الأسماء التي ذكرها فى هذه السورة، ثم قال: يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعنى يذكره: «يوحده» «3» ما فى السموات والأرض «وما فيهما» «4» ، من الخلق وغيره وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ- 24- فى أمره، قوله: «الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ» الرحيم أرق من الرحمن يعني المترحم يعني المتعطف بالرحمة على خلقه.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي: وَحَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ بُشَيْرٍ: عَنْ قَتَادَةَ: عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَبِإِسْنَادِهِ عن
__________
(1) فى أ: «ثم قال لنفسه» ، ولعل أصلها: «قال عن نفسه» . [.....]
(2) فى أ: «براها» .
(3) «يوحده» : كذا فى أ، ف، والأنسب «ويوحده» ، بزيادة واو المعطف.
(4) فى أ: «ما فيهما» ، وفى ف: «ومن فيهما» .(4/286)
مُقَاتِلٍ: عَنْ قَتَادَةَ: عَنِ ابْنِ سِيرِينَ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ للَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا فِي الْقُرْآنِ فَمَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حدثنا الْهُذَيْلُ عن المسيب:
قال «سُبْحانَ اللَّهِ» : «انصاف» «1» لله من السوء.
وقال علي بن أبي طالب- رضي الله عنه-: «سُبْحانَ اللَّهِ» كلمة رضيها الله لنفسه.
وقال الْهُذَيْلُ: قال مُقَاتِلُ: «سُبْحانَ اللَّهِ» كل شيء في القرآن «2» تنزيه نزه نفسه. من السوء إلا أول بني إسرائيل «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ» «3» يقول عجب، و «سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ»
«4» يعني عجب الذي خلق الأزواج، وقوله: «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ» «5» يقول صلوا لله.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حدثنا الْهُذَيْلُ عن هشيم عن داود ابن أبي هند: عن مطرف بن الشخير قال: إن الله- تعالى- لم يكلنا في القرآن على القدر.
__________
(1) فى ف: «انكفأ» ، وفى أ: «انكاف» ، ولعل أصلها «انصاف» .
(2) كذا فى أ، ف، «المراد» ، كل لفظ «سُبْحانَ اللَّهِ» فى القرآن.
(3) سورة الإسراء: 1.
(4) سورة يس: 36، فى الأصل «سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ» مع أن الواو حرف عطف وليست فى الآية فالأولى كتابتها، سبحان الذي خلق الأزواج.
(5) سورة الروم الآية 17، رضوا بها (فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) ، بينا هي فى الأصل، وقوله (فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ) .(4/287)
سورة الممتحنة(4/289)
[سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)(4/291)
[سورة الممتحنة] «1» سورة الامتحان «2» مدنية عددها ثلاث «3» عشرة آية كوفية.
__________
(1) معظم مقصود السورة:
النهى عن موالاة الخارجين عن ملة الإسلام، والاقتداء بالسلف الصالح، طريق الطاعة والعبادة وانتظار المودة بعد العداوة، وامتحان المدّعين بمطالبة الحقيقة، وأمر الرسول بكيفية البيعة مع أهل الستر والعفة، والتجنب من أهل الزيغ والضلالة فى قوله: « ... لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ... »
سورة الممتحنة: 13
(2) فى المصحف سورة الممتحنة مدنية، ... وآياتها 13 نزلت بعد سورة الأحزاب.
(3) فى أ: «ثلاثة عشر» ، والصواب «ثلاث عشرة» .(4/295)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- أمر الناس بالجهاد وعسكر، وكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة. إن محمدا قد عسكر، وما أراه ألا يريدكم فخذوا حذركم وأرسل بالكتاب مع سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم وكانت قد جاءت من مكة إلى المدينة فأعطاها حاطب بن أبي بلتعة عشرة دنانير على أن تبلغ كتابه أهل مكة وجاء جبريل، فأخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- بأمر الكتاب، وأمر حاطب فبعث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علي بن أبي طالب- عليه السلام-، والزبير بن العوام، وقال لهما: إن أعطتكما الكتاب عفوا خليا سبيلها، وإن أبت فاضربا عنقها. فسارا حتى أدركا بالحجفة وسألاها عن الكتاب فخلفت، ما معها كتاب، وقالت: لأنا إلى خيركم أفقر منى إلى غير ذلك.
فابتحثاها، فلم يجدا معها شيئا، فقال الزبير لعلي بن أبي طالب- رضي الله عنهما- ارجع بنا، فإنا لا نرى معها شيئا. فقال علي: والله لأضربن عنقها، والله ما كذب رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «ولا كذبنا» «1» فقال الزبير:
صدقت اضرب عنقها. فسل على سيفه، فلما عرفت الجد منهما أخذت
__________
(1) فى أ: «ولا كذب» ، وفى كتب السيرة «ولا كذبنا» .(4/297)
عليهما المواثيق، أإن أعطيتكما الكتاب لا تقتلاني، ولا تسبياني، ولا ترداني إلى محمد- صلى الله عليه وسلم-، ولتخليان سبيلي فأعطياها المواثيق، فاستخرجت الصحيفة من ذؤابتها «ودفعتها» «1» فخليا سبيلها «وأقبلا» «2» بالصحيفة فوضعاها في يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «فقرأها» «3» . فأرسل إلى حاطب بن أبي بلتعة، فقال له: أتعرف هذا الكتاب؟ قال: نعم. قال: فما حملك على أن تنذر بنا عدونا؟ قال حاطب اعف عني عفا الله عنك، فو الذي أنزل عليك الكتاب ما كفرت منذ أسلمت «ولا كذبتك» «4» منذ صدقتك، ولا أبغضتك منذ أحببتك، ولا واليتهم منذ عاديتهم، وقد علمت أن كتابي لا ينفعهم ولا يضرك فاعذرني، جعلني الله فداك فإنه ليس من أصحابك أحد إلا وله بمكة من يمنع ماله وعشيرته غيري وكنت حليفا ولست من أنفس القوم، وكان حلفائي قد هاجروا كلهم، وكنت كثير المال والضيعة بمكة فخفت المشركين [193 أ] على مالي فكتبت إليهم لأتوسل إليهم بها وأتخذها عندهم مودة لأدفع عن مالي، وقد علمت أن الله منزل بهم خزيه ونقمته وليس كتابي يغني عنهم شيئا، فعرف رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قد صدق فيما قال، فأنزل الله- تعالى- عظة للمؤمنين أن يعودوا لمثل صنيع حاطب بن أبى بلتعة، فقال- تعالى-:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ»
تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ
__________
(1) فى أ: «ودفعته» .
(2) فى أ: «فأقبلا» . [.....]
(3) فى أ: «فقرأه» ، ومعنى قرأه أى قرأ الكتاب أو الصحيفة وقد تكون القراءة على سبيل المجاز يعنى أمر بقرامتها أو قرئت له، فكأنه قرأها، لأن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان أميا قال- تعالى-: «وما كنت تتلوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ» سورة.
(4) فى أ: ولا كفرت، ف: ولا كذبتك.(4/298)
يعني الصحيفة وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يعني القرآن يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ من مكة وَإِيَّاكُمْ قد أخرجوا من دياركم يعني من مكة أَنْ تُؤْمِنُوا يعني بأن آمنتم بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي فلا تلقوا إليهم بالمودة تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ يعني بالصحيفة فيها النصيحة وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ يعني بما أسررتم في أنفسكم من المودة والولاية وَما أَعْلَنْتُمْ لهم من الولاية وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ يعني ومن يسر بالمودة إلى الكفار فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ- 1- يقول فقد أخطا قصد طريق الهدى، وفي حاطب نزلت هذه الآية «لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... » إلى آخر الآية «1» .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حدثنا الهذيل عن الْمُسَيِّبِ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَقْبَلَتْ سَارَّةُ مَوْلاةُ أَبِي عَمْرِو بن صيفي بن هاشم ابن عَبْدِ مَنَافٍ مَنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَجَهَّزُ لِفَتْحِ مَكَّةَ فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: مَالَكِ، يَا سَارَّةُ؟ أَمُسْلِمَةً جِئْتِ؟ قَالَتْ: لا. قَالَ: أَفَمُهَاجِرَةً جِئْتِ؟ قَالَتْ: لا.
قَالَ: فَمَا حَاجَتُكِ؟ قَالَتْ: كُنْتُمُ الأصل والموالي وَالْعَشِيرَةَ وَقَدْ ذَهَبَ مَوَالِيَّ، وَقَدِ احْتَجْتُ حَاجَةً شَدِيدَةً فَقَدِمْتُ عَلَيْكُمْ لِتَكْسُونِي وَتُنْفِقُوا عَلَيَّ وَتَحْمِلُونِي. فَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَأَيْنَ أَنْتِ مِنْ شَبَابِ أَهْلِ مَكَّةَ- وَكَانَتِ امْرَأَةً مغنية نائحة- فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ، مَا طَلَبَ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مُنْذُ كَانَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ «قَالَ» «2» فَحَثَّ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنى عبد المطلب وبنى
__________
(1) من ف، وفى أ: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الى آخر الآية.
(2) «قالت» : بالأصل والصواب «قال» .(4/299)
هَاشِمٍ فَكَسَوْهَا وَأَعْطَوْهَا نَفَقَةً وَحَمَلُوهَا، فَلَمَّا أَرَادَتِ الخروج إلى مكة أتاها حاطب ابن أبى بلتعة رجل من أهل اليمن حليف لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فَجَعَلَ لَهَا جَعْلا عَلَى أن تبلغ كتابه إلى آخر الحديث.
ثم أخبر المؤمنين بعداوة كفار مكة إياهم، فقال: إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً يقول إن يظهروا عليكم وأنتم على دينكم الإسلام مفارقين لهم وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ يعني الشتم وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ- 2- إن ظهروا عليكم يعني إن ترجعوا إلى دينهم فإن فعلتم ذلك [193 ب] لَنْ تَنْفَعَكُمْ يعني لا تغني عنكم أَرْحامُكُمْ يعني أقرباءكم وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ بالعدل وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ- 3- به.
قوله: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الآلهة كَفَرْنا بِكُمْ يقول تبرأنا منكم وَبَدا يعني وظهر بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ يعني تصدقوا بالله وحده إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ «1» يقول الله تبرءوا من كفار قومكم «فقد كانت» «2» لكم أسوة حسنة في إبراهيم ومن معه من المؤمنين في البراءة من قومهم وليس لكم أسوة حسنة في الاستغفار للمشركين يقول إبراهيم لأستغفرن
__________
(1) فى ف زيادة ليست من الآية وهي: «فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ» ، كما أن ف حذفت بقية الآية.
وفى أذكر بقية الآية فى الحاشية، وقد أصلحت الأخطاء.
(2) فى أ، ف: «فإن كانت» ، والأنسب: «فقد كانت» .(4/300)
لك، وإنما كانت موعدة وعدها أبو إبراهيم إياه أنه يؤمن فلما تبين له عند موته أنه عدو لله تبرأ منه حين مات على الشرك، وحجب عنه الاستغفار، ثم قال إبراهيم: «وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ» «1» - 4- رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا تقتر علينا بالرزق، وتبسط لهم في الرزق، فنحتاج إليهم فيكون ذلك فتنة لنا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- 5- وفي قراءة ابن مسعود: «إنك أنت الغفور الرحيم» ، نظيرها فى آخر المائدة «2» .
قوله: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ يعني في إبراهيم والذين معه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فى الاقتداء بهم لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ يقول لمن كان يخشى الله، ويخشى البعث الذي فيه جزاء الأعمال وَمَنْ يَتَوَلَّ يقول ومن يعرض عن الحق فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ عن عباده الْحَمِيدُ- 6- فى سلطانه عنه خلقه.
قوله: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ «مِنْهُمْ» «3» من كفار مكة مَوَدَّةً وذلك أن الله- تعالى- حين أخبر المؤمنين بعداوة كفار مكة والبراءة منهم، وذكر لهم فعل إبراهيم والذين معه في البراءة من قومهم، فلما أخبر «ذلك «4» » عادوا أقرباءهم وأرحامهم وأظهروا لهم العداوة، وعلم الله شدة وجد
__________
(1) من حاشية أ، وليست فى أولا فى ف.
(2) يشير إلى الآية 118 من سورة المائدة وهي: «إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» .
(3) فى أ: «من» ، وفى حاشية أ: الآية «منهم» .
(4) «ذلك» : كذلك فى أ، ف، والأنسب «بذلك» .(4/301)
المؤمنين في ذلك، فأنزل الله- تعالى- «عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً» فلما أسلم أهل مكة خالطهم المسلمون وناكحوهم، وتزوج النبي- صلى الله عليه وسلم- أم حبيبة بنت أبي سفيان فهذه المودة التي ذكر الله- تعالى-. يقول الله- تعالى- لنبيه- صلى الله عليه وسلم- وَاللَّهُ قَدِيرٌ على المودة وَاللَّهُ غَفُورٌ لذنوب كفار مكة لمن تاب منهم وأسلم رَحِيمٌ- 7- بهم بعد الإسلام، ثم رخص في صلة الذين لم يناصبوا الحرب للمسلمين، ولم يظاهروا عليهم المشركين، فذلك قوله: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ صلة الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ من مكة مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ يقول أن تصلوهم [194 أ] وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ بالعدل يعني توفوا إليهم بعهدهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ- 8- الذين يعدلون بين الناس، نزلت في خزاعة منهم هلال بن عويمر، وبني خزيمة وبني مدلج منهم سراقة بن مالك، وعبد يزيد بن عبد مناة، والحارث بن عبد مناة، ثم قال:
إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ صلة الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ يعني كفار مكة أخرجوا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه من مكة كراهية الإسلام وَظاهَرُوا يقول وعاونوا المشركين عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بأن توالوهم وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ منكم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ- 9- ثم نسخت براءة هاتين الآيتين- « ... فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1» ... » - قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ
__________
(1) سورة التوبة: وتمامها «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» والمعنى أن هذه الآية من براءة نسخت هاتين الآيتين.(4/302)
وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- صالح أهل مكة يوم الحديبية، وكتب بينه وبينهم كتابا فكان في الكتاب أن من لحق أهل مكة من المسلمين، فهو لهم، ومن لحق منهم بالنبي- صلى الله عليه وسلم- رده عليهم، وجاءت امرأة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- اسمها سبيعة بنت الحارث الأسلمية- في الموادعة- وكانت تحت صيفي بن الراهب من كفار مكة فجاء، زوجها «يطلبها» «1» فقال للنبي- صلى الله عليه وسلم-: ردها علينا فإن بيننا وبينك شرطا. فَقَالَ النَّبِيّ- صلى اللَّه عَلَيْه وسلم-: إِنَّمَا كان الشرط في الرجال، ولم يكن في النساء، فأنزل الله- تعالى- «إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ» فَامْتَحِنُوهُنَّ يعني سبيعة فامتحنها النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: بالله، ما أخرجك من قومك حدثا، ولا كراهية لزوجك، ولا بغضا له، ولا خرجت إلا حرصا على الإسلام ورغبة فيه، ولا تريدين غير ذلك؟ فهذه المحنة
يقول الله- تعالى- «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ «2» » فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ من قبل المحنة يعني سبيعة فَلا تَرْجِعُوهُنَّ يعنى فلا تردوهن إِلَى أزواجهن الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ يقول لا تحل مؤمنة لكافر، ولا كافر لمؤمنة. قال: وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا يقول أعطوا أزواجهم الكفار ما أنفقوا «عليهن «3» » من المهر يعنى يرد المهر الذي يتزوجها من المسلمين، فإن لم يتزوجها أحد من المسلمين فليس لزوجها الكافر شيئا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ
__________
(1) فى أ: يطلقها، ف: يطلبها.
(2) «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ» : ساقط من أ، وفى البيضاوي: «فَامْتَحِنُوهُنَّ» فاختبروهن بما يغلب على ظنكم موافقة فلو بهن ألسنتهن فى الإيمان «اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ» فإنه المطلع على ما فى قلوبهن.
(3) فى أ، ف: «عليها» ، والأنسب «عليهن» . [.....](4/303)
يعني ولا حرج عليكم أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ يقول إذا أعطيتموهن أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ يعني بعقد الكوافر يقول لا تعتد بامرأتك الكافرة فإنها ليست لك بامرأة يقول هذا الذي يتزوج هذه المهاجرة، وذلك أن المرأة الكافرة تكون في موضع من قومها، ولها أهل كثير فيمسكها إرادة أن يتعزز بأهلها وقومها من الناس، «فتزوجها «1» » عمر بن الخطاب [194 ب] ويقال تزوجها «أبو السنابل «2» » بن بعكك بن السباق بن عبد الدار بن قصي، وفيه نزلت هذه الآية وفي أصحابه، وكانت امرأة عمر بن الخطاب- رضي الله عنها- بمكة واسمها قريبة بنت أبي أمية، وهشام بن العاص بن وائل، وامرأته هند بنت أبي جهل، وعياض بن شداد الفهري وامرأته أم الحكم بنت أبي سفيان، وشماس بن عثمان المخزومي وامرأته يربوع بنت عاتكة، وعمرو بن عبد عمرو- وهو ذو اليدين- وامرأته هند بنت عبد العزى، فتزوج امرأة عمر بن الخطاب أبو سفيان بن حرب، فقال الله- تعالى- فى المحاطبة: «فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ... » إلى آخر الآية، هذا محكم لم ينسخ، ونسخت براءة النفقة «3» .
وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ «4» يقول إن ذهبت امرأة أحدكم إلى الكفار فاسألوا الذي يتزوجها أن يرد مهرها على زوجها المسلم والنفقة، ثم قال: (وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) من المهر يقول إن جاءت امرأة من أهل مكة مهاجرة إليهم فليرد الذي يتزوجها
__________
(1) الضمير فى «فتزوجها» يعود على سبيعة بنت الحارث الأسلمية» التي جاءت مسلمة إلى المدينة.
(2) فى أ: «السايل» ، وفى ف: «أبو السنابل» .
(3) أى نسخت آية السيف فى براءة، قوله- تعالى-: «وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا» .
(4) فى أفسر: «وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ» : 11، قبل تفسير هذا قبل تفسير هذا الجزء وما يليه من الآية 10. وقد أعدت ترتيب الآيات، وتفسيرها.(4/304)
مهرها على زوجها الأول، فإن تزوجت إحدى المرأتين «1» «اللتان جاءتا» مسلمة ولحقت «بكم «2» » ولم تتزوج الأخرى فليرد الذي تزوجها مهرها على زوجها وليس لزوج المرأة الأخرى مهر حتى تتزوج امرأته فإن لم يعط كفار مكة المهر طائعين فإذا ظهرتم عليهم فخذوا منهم المهر وإن كرهوا، كان هذا لأهل مكة خاصة موادعة، فذلك قوله: ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يعني بين المسلمين والكافرين في أمر النفقة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بخلقه حَكِيمٌ- 10- في أمره حين حكم النفقة، ثم نسخ هذا كله آية السيف في براءة «3» ، غير هذين الحرفين «لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ» ثم قال في النفقة: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ وهي أم الحكم بنت أبي سفيان تركت زوجها عياض بن غنم بن شداد القرشي ثم الفهري من بني عامر بن لؤي ثم أتت الطائف فتزوجت رجلا من ثقيف «4» .
«وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ» يعنى أحد من أزواجكم «إِلَى الْكُفَّارِ» يعني إن لحقت امرأة مؤمنة إلى الكفار يعني كفار الحرب الذين ليس بينكم وبينهم عهد وزوجها مسلم (فَعاقَبْتُمْ) يقول فإن غنمتم، وأعقبكم الله مالا مالا فَآتُوا وأعطوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا يعني المهر ما أصبتم من الغنيمة قبل أن تخمس الخمس، ثم يرفع الخمس ثم تقسم الغنيمة بعد
__________
(1) اسم الموصول هنا الفرد أى المرأة المتزوجة. والمناسب أن يكون مثنى للمرأتين «جاءتا وتزوجت أحداهما.
(2) فى ف: «بهم» ، وفى أ: به: والعبارة فى كلتيهما ضعيفة ولا تسير على المنهج اللغوي السليم.
(3) سورة التوبة: 5.
(4) «وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ» مع تفسيرها السابق: من أ، وفى غير هذا الموضع فقد فسر هذا الجزء من الآية 11 قبل إتمام تفسير الآية (10) ، وهذا المقدار ليس فى ف.
تفسير مقاتل ج 4- م 20(4/305)
الخمس بين المسلمين، ثم قال: وَاتَّقُوا اللَّهَ ولا تعصوه فيما أمركم به الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ- 11- يعني بالله مصدقين، وكل هؤلاء الآيات نسختها فى براءة آية السيف «1» . يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وذلك يوم فتح مكة،
لما فرغ النبي- صلى الله عليه وسلم- من بيعة الرجال [195 أ] وهو جالس على الصفا، وعمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أسفل منه، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- أبايعكن «على أن لا تشركن بالله شيئا» وكانت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان منتقبة مع النساء فرفعت رأسها، فقالت: والله، إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيتك أخذته على الرجال، فقد أعطيناكه. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: وَلا يَسْرِقْنَ فقالت. والله، إني لأصيب من مال أبي سفيان هنات، فما أدري أتحلهن لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: نعم، ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غير فهو لك حلال. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: وإنك لهند بنت عتبة.
فقالت: نعم، فاعف عما سلف عفا الله عنك.
ثم قال: وَلا يَزْنِينَ قالت:
وهل تزني الحرة؟ ثم قال: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ فقالت: ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا، فأنتم وهم أعلم، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى، ويقال إن النبي- صلى الله عليه وسلم- ضحك من قولها، ثم قال: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ والبهتان أن تقذف المرأة ولدا من غير زوجها على زوجها، فتقول لزوجها هو منك وليس منه. قالت:
والله إن البهتان لقبيح، ولبعض التجاوز أمثل، وما تأمر إلا بالرشد ومكارم
__________
(1) سورة التوبة: 5.(4/306)
الأخلاق. ثم قال: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ يعني في طاعة الله- تعالى- فيما نهى عنه النبي- صلى الله عليه وسلم- عن النوح «وشد «1» الشعر» وتمزيق الثياب، أو تخلو مع غريب في حضر، ولا تسافر فوق ثلاثة أيام إلا مع ذي محرم ونحو ذلك. قالت هند: ما جلسنا في مجلسنا هذا، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء فأقر النسوة بما أخذ عليهن النبي- صلى الله عليه وسلم-، فذلك قوله:
«فَبايِعْهُنَّ «2» » وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما كان في الشرك رَحِيمٌ- 12- فيما بقي.
قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني اليهود نزلت فِي عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ، «ومالك «3» » بن «دخشم «4» » كانت اليهود زينوا لهم ترك الإسلام فكان أناس من فقراء المسلمين يخبرون اليهود عن أخبار المسلمين «ليتواصلوا» «5» بذلك «فيصيبون «6» » من ثمارهم وطعامهم، فنهى الله- عز وجل- عن ذلك، ثم قال: قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ يعني اليهود كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ- 13- وذلك أن الكافر إذا دخل قبره أتاه ملك شديد الانتهار، فأجلسه ثم يسأله: من ربك؟ وما دينك؟ ومن رسولك؟
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وفى أ، ف: والشعر ولا يحمل إلا على معنى وإنشاد الشعر، أى أى المهيج للحزن لكن يبعده ما جاء بعد، من قوله: وتمزيق الثياب.
(2) «فبايعهنّ» : ليست فى أ.
(3) فى أ: «وملك» ، وفى ف: «ومالك» .
(4) فى أ: «جعشم» ، وفى ف: «دخشم» .
(5) كذا فى أ، ف، وهو تفاعل من الصلة. [.....]
(6) فى أ: «فيطبون» ، وفى ف: «فيصيبون» .(4/307)
فيقول: لا أدرى. فيقول الملك: أيعدك الله، انظر يا عدو الله إلى منزلك من النار فينظر إليها، ويدعو بالويل. ويقول له الملك: هذا لك، يا عدو الله، فلو كنت آمنت [195 ب] بربك لدخلت الجنة. ثم فينظر إليها فيقول: لمن هذا؟
فيقول له الملك: هذا لمن آمن بالله. فيكون حسرة عليه، وينقطع رجاءه منها ويعلم عند ذلك أنه لاحظ له فيها، «وييأس «1» » من خير الجنة، فذلك قوله لكفار أهل الدنيا الأحياء منهم: قَدْ يَئِسُوا من نعيم الآخرة، بأنهم كذبوا بالثواب والعقاب وهم أيضا آيسون من الجنة كما أيس هذا الكافر من أصحاب القبور حين عاينوا منازلهم من النار فى الآخرة.
__________
(1) فى أ: «ويئس» .(4/308)
سورة الصّفّ(4/309)
[سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)(4/311)
[سورة الصف «1» ] سورة الصف مكية عددها «أربع عشرة «2» » آية «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
عتاب الذين يقولون أقوالا لا يعملون بمقتضاها، وتشريف صفوف الغزاة والمصلين، والتنبيه على جفاء بنى إسرائيل، وإظهار دين المصطفى على سائر الأديان وبيان التجارة الرابحة مع الرحيم الرحمن» والبشارة ينصر أهل الإيمان، على أهل الكفر والخذلان، وغلبة بنى إسرائيل على أعدائهم ذوى العدوان فى قوله: « ... فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ» سورة الصف: 14.
(2) فى أ: «أربعة وعشرون» ، والصواب: «أربع عشرة» .
(3) فى المصحف: (61) سورة الصف مدنية. وآياتها 4 نزلت بعد سورة التغابن.
وفى كتاب بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز الفيروزآبادى: السورة مكية بالاتفاق، وتسمى سورة الصف لقوله: « ... يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ... » : 4.(4/313)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ يعني ذكر الله مَا فِي السَّماواتِ من الملائكة وَما فِي الْأَرْضِ من شيء من الخلق غير كفار الجن والإنس وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ- 1- في أمره يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ- 2-، ثم قال: كَبُرَ مَقْتاً «1» يعني عظم بغضا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ- 3- يعظهم بذلك، وذلك أن المؤمنين قالوا: لو نعلم أى الأعمال أحب إلى الله لعملناه، فأنزل الله- تعالى- إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ يعني في طاعته صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ- 4- يعني «ملتصق «2» » بعضه في بعض في الصف فأخبرهم الله بأحب الأعمال إليه بعد الإيمان فكرهوا القتال، فوعظهم الله وأدبهم فقال: «لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ» نزلت هذه الآية في الأنصار في الأوس والخزرج منهم عبد الله بن رواحة وغيره. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ وهم مؤمنون، وهم الأسباط اثنا عشر سبطا يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي قالوا: إنه آدر نظيرها في الأحزاب قوله: « ... لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى ... «3» » ،
__________
(1) فى أ، ف، ترتيب الآيات كالآتى 1، 2، 4، 3، وقد أعدت ترتيب الآيات كما وردت فى المصحف.
(2) «ملتصق» : وردت بالأصل بالزاي «ملتزق» .
(3) سورة الأحزاب: 69، وتمامها: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً» .(4/315)
ثم رجع إلى مخاطبة موسى فقال: وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا يقول مالوا عن الحق وعدلوا عنه أَزاغَ اللَّهُ يعني أمال الله قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي إلى دينه من الضلالة الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ- 5- يعني العاصين وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ يعني الذي قبلي مِنَ التَّوْراةِ «وَمُبَشِّراً «1» » بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ بالسريانية فارقليطا فَلَمَّا جاءَهُمْ عيسى بِالْبَيِّناتِ يعني بالعجائب التي كان يصنعها قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ- 6- الذي يصنع عيسى سحر بين، قوله: وَمَنْ أَظْلَمُ يقول فلا أحد أظلم منه يعني اليهود مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ حين زعموا أنه ساحر وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ يعني اليهود وَاللَّهُ لا يَهْدِي من الضلالة إلى دينه الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ- 7- يعني فى علمه، قوله: يُرِيدُونَ [196 أ] لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ يعني دين الله بِأَفْواهِهِمْ يعني بألسنتهم وهم اليهود والنصارى حين كتموا أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودينه في التوراة والإنجيل وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ يعني مظهر دينه وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ- 8- يعني اليهود والنصارى، ثم قال: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ محمدا- صلى الله عليه وسلم- بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ يعني الإسلام لأن كل دين باطل غير دين الإسلام، يعني دين محمد- صلى الله عليه وسلم- لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ يعني الأديان كلها، ففعل- الله تعالى- ذلك وأظهر دين محمد- صلى الله عليه وسلم- على أهل كل دين، حين قتلهم وأذلهم فأدوا إليه الجزية مثل قوله:
__________
(1) فى أ: «ومبشركم» ، وفى حاشية أ، الآية «ومبشرا» .(4/316)
« ... فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ «1» » وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ- 9- من العرب يعني كفار قريش، لما نزلت هذه الآية «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ «2» » قال بعضهم: يا رسول الله، فما لنا من الأجر إذا جاهدنا في سبيل الله، فأنزل الله- تعالى- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ- 10- يعني وجيع فقال المسلمون: والله، لو علمنا ما هذه التجارة لأعطينا فيها الأموال والأولاد والأهلين فبين الله لهم ما هذه التجارة؟ يعني التوحيد-، قال: فأنزل الله تعالى:
تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ يعني تصدقون بتوحيد بالله وَرَسُولِهِ محمد- صلى الله عليه وسلم- أنه نبى ورسول وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني في طاعة الله بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ يعني الإيمان والجهاد خَيْرٌ لَكُمْ من غيره إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ- 11- فإذا فعلتم ذلك يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً يعني حسنة في منازل الجنة فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ، وجنة عدن قصبة الجنان وهي أشرف الجنان ذلِكَ الثواب هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ- 12- «وَأُخْرى تُحِبُّونَها» «3» ولكم «سوى «4» » الجنة أيضا عدة فى الدنيا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ على عدوكم إذا جاهدتم وَفَتْحٌ قَرِيبٌ يعني ونصر عاجل في الدنيا وَبَشِّرِ بالنصر يا محمد الْمُؤْمِنِينَ- 13-
__________
(1) سورة الصف: 14.
(2) سورة الصف: 3.
(3) «وَأُخْرى تُحِبُّونَها» : ساقطة من أ.
(4) فى أ: «سوا» ، وفى حاشية أ: يحتمل أنها «سواء» يعني وسط. وهذه الحاشية خطأ، لأنها «سوى» بمعنى «غير» ، فالله يقول «وَأُخْرى تُحِبُّونَها» ، أى شيء آخر سوى دخول الجنة تحبونه- هو النصر.(4/317)
في الدنيا، وبالجنة في الآخرة فحمد القوم ربهم حين بشرهم النبي- صلى الله عليه وسلم- بهذا، قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ يعني صيروا أنصار الله، يقول: من قاتل فى سهيل الله، يريد بقتاله أن تعلو كلمة الله، وهي لا إله إلا الله وأن يعبد الله لا يشرك به شيئا، فقد نصر الله- تعالى- يقول: انصروا محمدا- صلى الله عليه وسلم- كما نصر الحواريون عيسى بن مريم- عليه السلام- وكانوا أقل منكم، وذلك أن عيسى- عليه السلام- مر بهم وهم ببيت المقدس، وهم يقصرون الثياب، والحواريون بالنبطية مبيضو الثياب، فدعاهم إلى الله [196 ب] فأجابوه، فذلك قوله: «كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ «1» » مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ يقول مع الله، يقول من يمنعني من الله قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ وهم الذين أجابوا عيسى- عليه السلام- فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ بعيسى- عليه السلام- وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ ثم انقطع الكلام فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا يقول قوينا الذين آمنوا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ- 14- بمحمد- صلى الله عليه وسلم- على أهل الأديان قوله: « ... فَلَمَّا جاءَهُمْ» عيسى «بِالْبَيِّناتِ «2» ... » يعني ما كان يخلق من الطين، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، قالت اليهود هذا الذي يصنع عيسى سحر مبين يعني بين.
__________
(1) «كما قال عيسى بن مريم للحواريين» : ساقط من أ. [.....]
(2) سورة الصف: 6.(4/318)
سورة الجمعة(4/319)
[سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)(4/321)
[سورة الجمعة «1» ] سورة الجمعة مدنية عددها إحدى عشرة «2» آية كوفية «3»
__________
(1) «معظم مقصود السورة» :
بيان بعث المصطفى، وتعبير اليهود، والشكاية منهم وإلزام الحجة عليهم، والترغيب فى حضور الجمعة، والشكاية من قوم بإعراضهم عن الجمعة وتقوية القلوب بضمان الرزق لكل حي فى قوله:
« ... وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» سورة الجمعة: 11.
وتسمى سورة الجمعة- لقوله تعالى: -: «إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» : 9.
(2) فى أ: «أحد عشر» وهو خطأ والصواب «إحدى عشرة» .
(3) فى المصحف: (62) سورة الجمعة مدنية وآياتها 11 نزلت بعد سورة الصف.(4/323)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: يُسَبِّحُ لِلَّهِ يعني يذكر الله مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من شيء غير كفار الجن والإنس، ثم نعت الرب نفسه فقال: الْمَلِكِ الذي يملك كل شيء الْقُدُّوسِ الطاهر الْعَزِيزِ في ملكه الْحَكِيمِ- 1- في أمره هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ يعني العرب الذين لا يقرءون الكتاب ولا يكتبون بأيديهم رَسُولًا مِنْهُمْ فهو النبي- صلى الله عليه وسلم- يَتْلُوا عَلَيْهِمْ يعني يقرأ عليهم آياتِهِ يعني آيات القرآن وَيُزَكِّيهِمْ يعني ويصلحهم فيوحدونه وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ يعني ولكي يعلمهم ما يتلو من القرآن وَالْحِكْمَةَ ومواعظ القرآن الحلال والحرام وَإِنْ يعني وقد كانُوا مِنْ قَبْلُ أن يبعث الله محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ- 2- يعني بين وهو الشرك وَآخَرِينَ مِنْهُمْ الباقين من هذه الأمة ممن بقي منهم لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ يعني بأوائلهم من أصحاب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ- 3- في أمره، ثم قال:
ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يعني الإسلام يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يقول فضل الله الإسلام يعطيه من يشاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ بالإسلام الْعَظِيمِ- 4- يعني الفوز بالنجاة والإسلام مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ يعني اليهود تحملوا العمل بما في التوراة فقرءوها ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها يقول لم يعملوا بما فيها كَمَثَلِ(4/325)
الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً
يقول كمثل الحمار يحمل كتابا لا يدري ما فيه، كذلك اليهود حين لم يعملوا بما «1» فى التوراة، فضرب الله- تعالى- لهم مثلا فقال:
بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني القرآن وَاللَّهُ لا يَهْدِي إلى دينه من الضلالة الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ- 5- «في علمه «2» » ، قوله- تعالى- قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا [197 أ] وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كتب إلى يهود المدينة يدعوهم إلى دينه الإسلام، فكتب يهود المدينة إلى يهود خيبر أن محمدا يزعم أنه نبي، وأنه يدعونا وإياكم إلى دينه، فإن كنتم تريدون متابعته فاكتبوا إلينا ببيان ذلك، وإلا فأنتم ونحن على أمر واحد لا نؤمن بمحمد، ولا نتبعه، فغضبت يهود خيبر فكتبوا إلى يهود المدينة كتابا قبيحا، وكتبوا أن إبراهيم كان صديقا نبيا، وكان من بعد إبراهيم إسحاق صديقا نبيا، وكان من بعد إسحاق يعقوب صديقا نبيا، وولد يعقوب اثنا عشر، فولد لكل رجل منهم أمة من الناس، ثم كان من بعدهم موسى، ومن بعد موسى عزير، فكان موسى يقرأ التوراة من الألواح، وكان عزير يقرؤها ظاهرا، ولولا أنه كان ولدا لله ونبيه وصفيه لم يعطه ذلك، فنحن وأنتم من سبطه، وسبط من اتخذه الله خليلا، ومن سبط من كلمه الله تكليما، فنحن أحق بالنبوة والرسالة من محمد- صلى الله عليه وسلم- ومتى كان الأنبياء من «جزائر «3» » العرب؟ ما سمعنا بنبي قط كان من العرب إلا هذا الرجل الذي
__________
(1) فى أزيادة: «فيها كمثل الحمار يحمل أسفارا» .
(2) فى أ: «فى عمله» ، وفى ف: «فى علمه» .
(3) فى أ: «جزاير» .(4/326)
تزعمون، على أنا نجد ذكره في التوراة فإن «تبعتموه «1» » صغركم ووضعكم. فنحن أبناء الله وأحباؤه فقال الله- تعالى- للنبي- صلى الله عليه وسلم- «قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا» لليهود إِنْ زَعَمْتُمْ يعني إذ زعمتم أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ فى الآخرة مِنْ دُونِ النَّاسِ وأحباؤه فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- 6- بأنكم أولياؤه وأحباؤه، وأن الله ليس بمعذبكم، ثم أخبر عنهم فقال: وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من ذنوبهم وتكذيبهم بِاللَّه ورسوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ- 7- يعنى اليهود قُلْ لهم: يا محمد، إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ يعني تكرهونه فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ لا محالة ثُمَّ تُرَدُّونَ في الآخرة إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعني عالم كل غيب وشاهد كل نجوى فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ- 8- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ يقول إذا نودي إلى الصلاة وال «من «2» » ها هنا صلة مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ يعني إذا جلس الإمام على المنبر فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ يقول فامضوا إلى الصلاة المكتوبة وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ يعني الصلاة خَيْرٌ لَكُمْ من البيع والشراء إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ- 9- فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ من يوم الجمعة فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ فهذه رخصة بعد النهى وأحل لهم ابتغاء الرزق بعد الصلاة، فمن شاء خرج إلى تجارة، ومن شاء لم يفعل، فذلك قوله: وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يعنى الرزق وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً باللسان لَعَلَّكُمْ يعنى لكي تُفْلِحُونَ- 10- قوله: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً وذلك
أن العير كانت إذا قدمت المدينة
__________
(1) فى أ: «تبعتموه» ، وفى ف: «نفعتموه» .
(2) «من» فى قوله: «مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ» يعنى أن لفظ «من» زائد.(4/327)
استقبلوها بالطبل [197 ب] والتصفيق، فخرج الناس من المسجد غير «اثنى «1» » عشر رجلا وامرأة، فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- انظروا كم في المسجد؟
فقالوا: «اثنا «2» » عشر رجلا وامرأة: ثم جائت عير أخرى فخرجوا غير «اثنى «3» » عشر رجلا وامرأة، ثم أن دحية بن خليفة الكلبي من بني عامر بن عوف أقبل بتجارة من الشام قبل أن يسلم وكان يحمل معه من أنواع التجارة، وكان يتلقاه أهل المدينة بالطبل والتصفيق، ووافق قدومه يوم الجمعة والنبي- صلى الله عليه وسلم- قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس، فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: انظروا كم بقي في المسجد؟ فقالوا: «اثنا «4» » عشر رجلا وامرأة.
فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لولا هؤلاء لقد سومت لهم الحجارة. فأنزل الله- تعالى- «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً»
انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً على المنبر قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ يعني من الطبل والتصفيق وَمِنَ التِّجارَةِ التي جاء بها دحية وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ- 11- من غيره.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حدثنا هشيم قال: كان في الاثني عشر أبو بكر وعمر- رضي الله عنهما-.
__________
(1) فى أ، ف: «اثنا» .
(2) فى أ، ف: «اثنى» .
(3) فى أ: «اثنا» ، وفى ف: «اثنى» .
(4) فى أ، ف: «اثنى» .(4/328)
سورة المنافقون(4/329)
[سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9)
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)(4/332)
[سورة المنافقون «1» ] «سورة المنافقون «2» » مدنية عددها «إحدى عشرة «3» » آية كوفية.
__________
(1) معظم مقصود السورة:
تقريع المنافقين وتبكيتهم، وبيان ذلهم وكذبهم، وذكر تشريف المؤمنين وتبجيلهم، وبيان عزهم وشرفهم، والنهى عن نسيان ذكر الحق- تعالى-، والغفلة عنه، والإخبار من ندامة الكفار بعد الموت، وبيان أنه لا تأخير ولا إمهال بعد حلول الأجل فى قوله: «وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها ... » سورة المنافقون: 11. [.....]
(2) فى أ: «سورة المنافقون» ، وفى ف:، السورة التي يذكر فيها المنافقون» ، وفى المصحف:
«سورة المنافقون مدنية وآياتها 11، ونزلت بعد الحج» .
(3) فى أ: «أحد عشر» ، وصوابه «إحدى عشرة» .(4/335)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ يعني نحلف إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ يعنى يقسم إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ- 1- في حلفهم اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ يعني حلفهم الذي حلفوا أنك لرسول الله جُنَّةً من القتل فَصَدُّوا الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعنى دين الإسلام إِنَّهُمْ ساءَ ما يعني بئس ما كانُوا يَعْمَلُونَ- 2- يعني النفاق ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا يعني أقروا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ بالكفر فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ- 3- وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ يعني عبد الله بن أبي، وكان رجلا جسيما صبيحا ذلق اللسان، فإذا قال سمع النبي- صلى الله عليه وسلم- لقوله: «وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ «1» » كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ فيها تقديم يقول كأن أجسامهم خشب بعضها على بعض قياما، لا تسمع، ولا تعقل، لأنها خشب ليست فيها أرواح فكذلك المنافقون لا يسمعون الإيمان ولا يعقلون، ليس في أجوافهم إيمان فشبه أجسامهم بالخشب يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ أنها عَلَيْهِمْ يقول إذا نادى مناد في العسكر أو أفلتت دابة أو أنشدت ضالة يعني طلبت، ظنوا أنما «يرادون «2» » بذلك مما فى قلوبهم من الرعب، ثم قال:
[198 أ] هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ يعنى لعنهم الله أَنَّى
__________
(1) «وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ» : ساقطة من أ.
(2) فى أ: «يريدون» ، وفى ف: «يرادون» .
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 22.(4/337)
يعني من أين يُؤْفَكُونَ- 4- يعني يكذبون وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني عبد الله بن أبي تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ «يعنى عبد الله بن أبى «1» » لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ يعني عطفوا رءوسهم رغبة عن الاستغفار وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ عن الاستغفار وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ- 5- يعني عطف رأسه معرضا، فقال عبد الله بن أبي للذي دعاه إلى استغفار النبي- صلى الله عليه وسلم- ما قلت كأنه لم يسمع حين دعاه إلى الاستغفار، يقول الله- تعالى-: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي من الضلالة إلى دينه الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ- 6- يعني العاصين، يعنى عبد الله ابن أبى، ثم قال: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ يعني عبد الله بن أبي لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- لما رجع غانما من غزاة بني لحيان، وهم حي من هذيل، هاجت ريح شديدة ليلا، وضلت ناقة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فلما أصبحوا، قالوا للنبي- صلى الله عليه وسلم-: ما هذه الريح؟ قال: موت رجل من رءوس المنافقين توفي بالمدينة.
قالوا: من «هو «2» » ؟ قال: رفاعة بن التابوه. فقال رجل منافق: كيف يزعم محمد أنه يعلم الغيب، ولا يعلم مكان ناقته أفلا يخبره الذي يأتيه بالغيب بمكان ناقته؟
فقال له رجل: اسكت، فو الله، لو أن محمدا يعلم بهذا الزعم لأنزل عليه فينا، ثم قام المنافق، فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فوجده يحدث أصحابه، أن رجلا من المنافقين شمت بي، بأن ضلت ناقتي، قال: كيف يزعم محمد أنه
__________
(1) فى أ: «يعنى عبد الله» ، وفى ف: «يعنى عبد الله بن أبى» .
(2) فى أ: «وهو» ، وفى ف: «وهي»(4/338)
يعلم الغيب أفلا يخبره الذي يأتيه بالغيب بمكان ناقته؟ لعمري، لقد كذب، ما أزعم أني أعلم الغيب، ولا أعلمه، ولكن الله- تعالى- أخبرني بقوله، وبمكان ناقتي، وهي في الشعب، وقد تعلق زمامها بشجرة، فخرجوا من عنده يسعون قبل الشعب، فإذا هي كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم- فجاءوا بها، والمنافق ينظر، فصدق مكانه. ثم رجع إلى أصحابه، فقال: أذكركم الله، هل قام أحد منكم من مجلسه؟ أو ذكر حديثي هذا إلى أحد؟ قالوا: لا، قال:
أشهد أن محمدا رسول الله، والله لكأني لم أسلم إلا يومى هذا، قالوا: وما ذاك قال وجدت النبي- صلى الله عليه وسلم- يحدث الناس بحديثي الذي ذكرت لكم، وأنا أشهد «أن الله أطلعه عليه وأنه لصادق» «1» فسار حتى دنا من المدينة «فتحاور «2» » رجلان أحدهما عامري والآخر جهني، فأعان عبد الله بن أبي المنافق الجهني، وأعان جعال بن عبد الله بن سعيد العامري. وكان جعال فقيرا، فقال عبد الله لجعال: وإنك لهناك. فقال: وما يمنعني أن أفعل ذلك فاشتد لسان جعال على عبد الله [198 ب] ، فقال عبد الله: مثلي ومثلك كما قال الأول سمن كلبك يأكلك، والذي يحلف به عبد الله لأذرنك، ولهمك غير هذا. قال جعال:
ليس ذلك بيدك، وإنما الرزق بيد الله- تعالى-، فرجع عبد الله غضبان؟
فقال لأصحابه: والله، لو كنتم تمنعون جعالا، وأصحاب جعال الطعام الذي من أجله ركبوا رقابكم لأوشكوا أن يذروا محمدا- صلى الله عليه وسلم- ويلحقوا بعشائرهم ومواليهم، لا تنفقوا عليهم، حَتَّى يَنْفَضُّوا يعنى حتى يتفرقوا من
__________
(1) من ف، وفى أ: «أن الله الذي أطلعت عليه لصادق فينا» .
(2) فى أ: «فتحاور» ، وفى ف: «فتجاور» .(4/339)
حول محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمّ قَالَ: لو أن جعالا أتى محمدا- صلى الله عليه وسلم- فأخبره لصدقه، وزعم أني ظالم، ولعمري، إني ظالم إذ جئنا بمحمد من مكة، وقد طرده قومه فواسيناه بأنفسنا، وجعلناه على رقابنا، أما والله، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ولنجعلن علينا رجلا منا. يعني نفسه، يعني بالأعز نفسه وأصحابه «1» ، ويعني بالأذل- النبي صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فقال زيد بن أرقم الأنصاري- وهو غلام شاب-: أنت والله الذليل القصير «المبغض «2» » في قومك ومحمد- صلى الله عليه وسلم- في عز من الرحمن، ومودة من المسلمين، والله، لا أحبك بعد هذا الكلام أبدا. فقال عبد الله: إنما كنت ألعب معك. فقام زيد فأخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- فشق عليه قول عبد الله بن أبي وفشا في الناس أن النبي- صلى الله عليه وسلم- غضب على عبد الله لخبر زيد لخبر زيد فأرسل النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى عبد الله فأتاه ومعه رجال من الأنصار يرفدونه ويكذبون عنه. فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم-: أنت صاحب هذا الكلام الذي بلغني عنك. قال عبد الله: والذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك قط، وإن زيدا لكاذب وما عملت عملا قط أرجى في نفسي أن يدخلني الله به الجنة من غزاتي هذه معك، وصدقه الأنصار، وقالوا: يا رسول الله شيخنا وسيدنا لا يصدق عليه قول غلام من غلمان الأنصار مشى بكذب ونميمة فعذره النبي- صلى الله عليه وسلم- وفشت الملامة لزيد في الأنصار، وقالوا: كذب زيد، وكذبه النبي- صلى الله عليه وسلم- وكان زيد يساير النبي- صلى الله
__________
(1) كذا فى أ، ف.
(2) فى أ: «المنقصر» ، وفى ف: «المبغض» .(4/340)
عليه وسلم- في المسير قبل ذلك. فاستحى بعد ذلك أن يدنو من النبي- صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله- تعالى- تصديق زيد وتكذيب عبد الله
فقال: «هُمُ» يعني عبد الله «الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا» وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني مفاتيح الرزق والمطر والنبات وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ- 7- «الخير «1» » ، ثم قال، يعني عبد الله: يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [199 أ] يعني الأمنع منها الأذل وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ فهؤلاء أعز من المنافقين وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ- 8- ذلك،
فانطلق النبي- صلى الله عليه وسلم- يسير ويتخلل على ناقته حتى أدرك زيدا فأخذ بأذنه ففركها حتى احمر وجهه، فقال لزيد: أبشر فإن الله- تعالى- قد عذرك، ووقى سمعك، وصدقك، وقرأ عليه الآيتين، وعلى الناس فعرفوا صدق زيد، وكذب عبد الله
، قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني أقروا يعني المنافقين لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يعنى الصلاة المكتوبة وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يعني ترك الصلاة فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ- 9- وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ من الأموال مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يعني المنافق فيسأل الرجعة عند الموت إلى الدنيا، ليزكي ماله ويعمل فيها بأمر الله- عز وجل- فذلك قوله: فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا يعنى هلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ لأن الخروج من الدنيا إلى قريب «2» فَأَصَّدَّقَ
__________
(1) فى أ: «الخبر» ، وفى ف: «الخير» .
(2) كذا فى أ، ف، والمراد تأجيل الخروج من الدنيا إلى وقت قريب أى الدماء بتأخير الموت وقتا قصيرا.(4/341)
يعنى فأزكى مالي وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ- 10- يعني المؤمنين، مثل قوله:
«وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ «1» » يعني المؤمنين وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ- 11- من الخير والشر، يعنى المنافقين «2» .
__________
(1) سورة التوبة: 75.
(2) فى أ: «المنافق» ، وفى ف: «المنافقين» . [.....](4/342)
سورة التّغابن(4/343)
[سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 18]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)(4/345)
قوله: « ... ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ «1» » - يقول ما أمرناهم بها، كقوله:
« ... ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ «2» ... » يعني التي أمركم الله- تعالى-.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حدثني الْهُذَيْلِ عن المسيب، عن أبي روق في قوله: « ... فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها «3» ... » يقول ما وحدونى فيها.
__________
(1) سورة الحديد: 28.
(2) سورة المائدة: 21.
(3) سورة الحديد: 27.(4/348)
[سورة التغابن «1» ] «سورة التغابن مدنية وفيها مكي «2» » ، عددها «ثماني عشرة «3» آية» كوفى «4»
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان تسبيح المخلوقات والحكمة فى خلق الخلق والشكاية من القرون الماضية، وإنكار الكفار البعث والقيامة وبيان الثواب والعقاب، والإخبار عن عداوة الأهل والأولاد، والأمر بالتقوى حسب الاستطاعة، وتضعيف ثواب المتقين، والحبر من اطلاع الحق على علم الغيب، فى قوله:
«عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» سورة التغابن: 18.
(2) من ف، وفى أ: «سورة التغابن مكية» . وفى المصحف: «سورة التغابن مدنية» .
وفى بصائر ذوى التمييز للفيروزآبادي «مكية» .
(3) فى أ: «اثنا عشر» ، وهو خطأ، أولا من جهة اللغة صوابها «اثنتا عشرة آية» ، ثانيا من جهة علوم القرآن الثابت: أن سورة التغابن «ثماني عشرة آية» .
(4) فى المصحف: (64) سورة التغابن مدنية وآياتها (18) نزلت بعد سورة التحريم.
وفى بصائر ذوى التمييز للفيروزآبادي- السورة مكية إلا آخرها: « ... إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ ... » سورة التغابن: 14 إلى آخر السورة.(4/349)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ يعني يذكر الله مَا فِي السَّماواتِ من الملائكة وَما فِي الْأَرْضِ من شيء من الخلق غير كفار الجن والإنس لَهُ الْمُلْكُ لا يملك أحد غيره وَلَهُ الْحَمْدُ في سلطانه عند خلقه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ أراده قَدِيرٌ- 1- هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ من آدم وحواء وكان بدء خلقهما من تراب فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ يعني مصدق بتوحيد الله- تعالى- وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ- 2- خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يقول لَمْ يخلقهما باطلا خلقهما لأمر هُوَ كائن وَصَوَّرَكُمْ يعني خلقكم في الأرحام فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ
ولم يخلقكم على صورة الدواب، والطير فأحسن صوركم يعني فأحسن خلقكم وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ- 3- فى الآخرة يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ في قلوبكم من أعمالكم وَما تُعْلِنُونَ منها بألسنتكم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ- 4- يعني القلوب من الخير والشر أَلَمْ يَأْتِكُمْ يا أهل مكة نَبَأُ يعني حديث الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أهل مكة: حديث الأمم الخالية كيف عذبوا بتكذيبهم رسلهم فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ يقول ذاقوا العذاب جزاء [199 ب] ثواب أعمالهم في الدنيا وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ- 5- ذلِكَ بِأَنَّهُ يعني ذلك بأن العذاب الذي نزل بهم فى الدنيا كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني البيان فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا عن الإيمان وَاسْتَغْنَى اللَّهُ عن عبادتهم(4/351)
وَاللَّهُ غَنِيٌّ عن عبادة خلقه حَمِيدٌ- 6- في سلطانه عند خلقه زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا بعد الموت فأكذبهم الله- تعالى- فقال:
قُلْ يا محمد لأهل مكة: بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ فى الآخرة بِما عَمِلْتُمْ الدنيا وَذلِكَ يعني البعث والحساب عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ- 7- فَآمِنُوا يعني صدقوا بِاللَّهِ أَنَّهُ واحد لا شريك له وَرَسُولِهِ محمد- صلى الله عليه وسلم- وَالنُّورِ يعني القرآن الَّذِي أَنْزَلْنا على محمد- صلى الله عليه وسلم- وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من خير أو شر خَبِيرٌ- 8- يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ يعني جمع أهل السموات وجمع أهل الأرض ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ يعني أهل الهدى تغبن»
أهل الضلالة، فلا غبن أعظم منه فريق في الجنة وفريق فى السعير، وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ أنه واحد لا شريك له وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يموتون وذلِكَ الثواب الذي ذكر الله- تعالى- هو الْفَوْزُ الْعَظِيمُ- 9- وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا يعنى القرآن أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ- 10- مَا أَصابَ ابن آدم مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ يعني ومن يصدق بالله في المصيبة، ويعلم أن المصيبة من الله ويسلم لأمر الله يهده الله- تعالى- للاسترجاع، فذلك قوله:
__________
(1) الغبن هنا مجاز، فإن المؤمن بأخذ مكان الكافر فى الجنة ويأخذ الكافر مكان المؤمن فى النار، فكأن المؤمن غبن الكافر.
وفى الجلالين: «يغبن المؤمنون الكافر بن بأخذ منازلهم وأهليهم فى الجنة لو آمنوا» .(4/352)
«يَهْدِ قَلْبَهُ» للاسترجاع. يقول: «إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ «1» » ، وفى سورة البقرة يقول: «أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ «2» » للاسترجاع وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من هذا عَلِيمٌ- 11- وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ يعني أعرضتم عن طاعتهما فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْبَلاغُ الْمُبِينُ- 12- اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ- 13- يقول به فليثق الواثقون. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نزلت في الأشجع إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ يعني إذا أمروكم بالإثم، وذلك أن الرجل كان إذا أراد الهجرة قال له أهله، وولده ننشدك الله أن تذهب وتدع أهلك وولدك ومالك، نضيع بعدك، ونصير عيالا بالمدينة لا معاش لنا فيثبطونه، فمنهم من يقيم، ومنهم من يهاجر ولا يطيع أهله [200 أ] ، فيقول: تثبطونا عن الهجرة، لئن جمعنا الله وإياكم لنعاقبنكم، ولا نصلكم، ولا تصيبون منا خيرا، يقول الله: فَاحْذَرُوهُمْ أن تطيعوهم في ترك الهجرة، ثم أمرهم بالعفو والصفح والتجاوز فقال: وَإِنْ تَعْفُوا عنهم يعني وإن تتركوهم، وتعرضوا، وتتجاوزوا عنهم وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا خير لكم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوب المؤمنين رَحِيمٌ- 14- بخلقه، ثم وعظهم فقال: نَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
يعنى بلاء وشغل عن الآخرة اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ
يعنى جزاءظِيمٌ
- 15- يعني الجنة فَاتَّقُوا اللَّهَ في أمره ونهيه مَا اسْتَطَعْتُمْ يعني ما أطعتم وَاسْمَعُوا له مواعظه وَأَطِيعُوا أمره وَأَنْفِقُوا من أموالكم في حق الله خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ
__________
(1) سورة البقرة: 156.
(2) سورة البقرة: 157.
تفسير مقاتل بن سلمان ج 4- م 24(4/353)
ثم رغبهم في النفقة، فقال: وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- 16- أى يعطى حق الله من ماله، ثم قال: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ يعني التطوع قَرْضاً حَسَناً «يعني طيبة بها أنفسكم تحتسبها «1» » يُضاعِفْهُ لَكُمْ يعني القرض وَيَغْفِرْ لَكُمْ بالصدقة وَاللَّهُ شَكُورٌ لصدقاتكم حين يضاعفها لكم حَلِيمٌ- 17- عن عقوبة ذنوبكم حين غفرها لكم وعن من بمن بصدقته ولم يحتسبها.
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ يعنى عالم كل غيب يعنى غيب ما في قلبه من المن وقلة الخشية، وشاهد كل نجوى الْعَزِيزُ يعني المنيع فِي ملكه الْحَكِيمُ- 18- فِي أمره.
__________
(1) كذا أ، ف: أعاد الضمير مؤنثا على الصدقة، وكان السباق يقتضى أن يعيده على القرض فيقول: «يعنى طيبة به أنفسكم تحتسبه» .(4/354)
سورة الطّلاق(4/355)
[سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4)
ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12)(4/357)
[سورة الطلاق «1» ] سورة الطلاق مدنية عددها «اثنتا عشرة آية «2» » كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان طلاق السنة، وأحكام العدة، والتوكل على الله- تعالى- فى الأمور، وبيان نفقة النساء حال الحمل والرضاع وبيان عقوبة المتعدّين وعذابهم، وأن التكليف على قدر الطاقة، وأن الصالحين الثواب والكرامة، وبيان عقوبة المتعدين وعذابهم، وأن التكليف على قدر الطاقة، وأن الصالحين الثواب والكرامة، وبيان إحاطة العلم، والقدرة فى قوله: « ... لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً» . سورة الطلاق: 12.
وتسمى سورة الطلاق لقوله: « ... إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ... » سورة الطلاق: 1.
كما تسمى سورة النساء القصرى- قاله عبد الله بن مسعود- وذلك تمييزا لها عن سورة النساء الكبرى وهي السورة الرابعة فى ترتيب المصحف، بعد سورة الفاتحة، وسورة البقرة، وسورة آل عمران، تجيء سورة النساء.
(2) فى أ: «اثنا عشر آية» ، والصواب: «اثنتا عشرة آية» .
(3) فى المصحف: (65) سورة الطلاق مدنية وآياتها 12 نزلت بعد سورة الإنسان. [.....](4/361)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ نزلت في عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعتبة بن عمرو المازني، وطفيل بن الحارث، وعمرو بن سعيد ابن العاص «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ» فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ يعني «طاهرا «1» » من غير جماع وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ فلا تعصوه فيما أمركم به لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ من قبل أنفسهن ما دمن في العدة وعليهن الرجعة إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يعني العصيان البين، وهو النشوز وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني سنة الله وأمره أن تطلق المرأة للعدة «طاهرة «2» » من غير حيض ولا جماع وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ يعني سنة الله وأمره فيطلق لغير العدة فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً- 1- يعني بعد التطليقة والتطليقتين أمرا يعني الرجعة فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يعني به انقضاء العدة قبل أن تغتسل فَأَمْسِكُوهُنَّ [200 ب] إذا راجعتموهن بِمَعْرُوفٍ يعني طاعة الله أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ يعني طاعة الله في غير إضرار فهذا هو الإحسان وَأَشْهِدُوا على الطلاق والمراجعة
__________
(1، 2) كذا فى أ، ف: «طاهرا» ، وكان الأنسب «طاهرات» أو «طاهرة» ، أى حال كونهن طاهرات، أو حال كون المطلقة طاهرة.
فلعله أراد حال كون الطليق طاهرا من غير جماع ويلاحظ أن كلمة «طليق» وصف على صيغة فعيل يستوي فيه المذكر والمؤنث، فيقال رجل طليق وامرأة طليق، وكذلك كريم وبخيل.(4/363)
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ثم قال للشهود: وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ على وجهها ذلِكُمْ الذي ذكر الله- تعالى- من الطلاق والمراجعة يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني يصدق بالله أنه واحد لا شريك له وبالبعث الَّذِي فِيه جزاء الأعمال، فليفعل ما أمره الله، ثم قال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً- 2-
نزلت في عوف بن مالك الأشجعي، جاء إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فشكا إليه الحاجة والفاقة، فأمره النبي- صلى الله عليه وسلم- بالصبر، «وكان ابن له أسير «1» » في أيدي مشركي العرب فهرب منهم فأصاب منهم إبلا ومتاعا، ثم إنه رجع إلى أبيه فانطلق أبوه إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَخْبَرَه بالخبر وسأله: أيحل له أن يأكل من الذي أتاه ابنه؟ فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم-: نعم فأنزل الله- تعالى- «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ»
فيصبر «يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً» من الشدة وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ يعني من حيث لا يأمل، ولا يرجو فرزقه الله- تعالى- من حيث لا يأمل ولا يرجو، ثم قال: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في الرزق فيثق به فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ فيما نزل به من الشدة والبلاء قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ من الشدة والرخاء قَدْراً- 3- يعني متى يكون هذا الغني فقيرا؟ ومتى يكون هذا الفقير غنيا؟ فقدر الله ذلك كله، لا يقدم ولا يؤخر.
فقال رجل للنبي- صلى الله عليه وسلم- حين نزلت «وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ... «2» » فما عدة المرأة التي لا تحيض؟ وقال خلاد الأنصارى:
__________
(1) كذا فى أ، والأنسب: «وكان له ابن أسير» .
(2) سورة البقرة: 228.(4/364)
«ما عدة «1» » من لم تحض من صغر؟ «وما عدة» «2» الحبلى؟ فأنزل الله- عز وجل- في اللاتي قعدن عن المحيض وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ يعني القواعد من النساء اللاتي قعدن عن المحيض إِنِ ارْتَبْتُمْ يعني شككتم، فلم «يدر «3» » كم عدتها فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ إذا طلقن، ثم قال: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فكذلك أيضا يعني عدة الجواري اللاتي لم يبلغن الحيض، وقد نكحن، ثم طلقن، فعدتهن ثلاثة أشهر، ثم قال: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ يعنى «الحبلى «4» » : فعدتهن أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ يقول فإن كانت هذه المطلقة حبلى فأجلها إلى أن تضع حملها. ثم رجع إلى الطلاق، فقال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في أمر الطلاق يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً- 4- يقول ومن يتق الله فيطلق كما أمره الله- تعالى- ويطيع الله فى النفقة، والمسكن، ييسر الله أمره، ويوفقه للعمل الصالح ذلِكَ الذي ذكر من الطلاق، [1201] والنفقة، والمسكن، أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فيما أمره ما ذكر يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ يعني يغفر له ذنوبه وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً- 5- يعنى الجزاء، يعنى يضاعفه له أَسْكِنُوهُنَّ يعني المطلقة الواحدة والثنتين «5» مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ
__________
(1) «ما عدة» : من أ، وفى ف: «وعدة» .
(2) العبارة من ف، وفى أ: وقال خلاد لأنصارى من لم تحض فبين الله عدة من لا محيض، وعدة التي لم تحض من صغر، وعدة الحبلى، فأنزل الله- تعالى- فى اللاتي قعدن من المحيض «إن ارتبتم» وفيها خطأ، فى السياق، وفى الآية، ولذا اعتمدت على ف فى هذه العبارة.
(3) في أ: «تدر» ، وفى ف: «يدر» .
(4) كذا فى أ، ف، وفى حاشية أ: «الحبالى، محمد» .
(5) كذا فى أ، ف، والمراد به المفردة والمثنى والجمع.(4/365)
يعني من سعتكم في النفقة، والمسكن، «وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ «1» » وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ يعنى المطلقة وهي حبل فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ أولادكم إذا وضعن حملهن فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني فأعطوهن أجورهن وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ يعني الرجل والمرأة بِمَعْرُوفٍ يقول حتى «تنفقوا «2» » من النفقة على أمر بمعروف وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ يعني الرجل والمرأة وإذا أراد الرجل أقل مما طلبت المرأة من النفقة فلم يتفقوا على أمر فَسَتُرْضِعُ لَهُ يعني للرجل امرأة أُخْرى - 6- يقول ليلتمس غيرها من المواضع، ثم قال: لِيُنْفِقْ في المراضع ذُو سَعَةٍ في المال مِنْ سَعَتِهِ الذي أوسع الله له على قدره وَمَنْ قُدِرَ يعنى قتر عَلَيْهِ رِزْقُهُ مثل قوله: « ... إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ ... «3» » يعني نضيق عليه في بطن الحوت، فَلْيُنْفِقْ فى المواضع قدر فقره مِمَّا آتاهُ اللَّهُ يعني مما أعطاه الله من الرزق على قدر طاقته، فذلك قوله:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ فى النفقة نَفْساً إِلَّا ما آتاها يعني إلا ما أعطاها من الرزق سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً- 7- يعني من بعد الفقر سعة في الرزق وَكَأَيِّنْ يعني وكم مِنْ قَرْيَةٍ يعني فيما خلا عَتَتْ يقول خالفت عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَخالفت رُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً يعني فحاسبها الله بعملها في الدنيا فجزاها العذاب وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً- 8- يعني فظيعا، فذلك قوله: فَذاقَتْ العذاب في الدنيا وَبالَ أَمْرِها
__________
(1) «وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» : ساقط من أ.
(2) فى أ: «تنفقوا» ، وفى ف: «تنفقوا» ، وهي غير واضحة فى كليهما.
(3) سورة الأنبياء: 87.(4/366)
يعني جزاء ذنبها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً- 9- يقول كان عاقبتهم الخسران في الدنيا وفي الآخرة حين كذبوا فأخبر الله، عنهم بما أعدلهم في الدنيا، وما أعد لهم في الآخرة فقال: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فى الآخرة عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يحذرهم يا أُولِي الْأَلْبابِ يعني من كان لَهُ لب أو عقل فليعتبر فيما يسمع مع الوعيد فينتفع بمواعظ الله- تعالى- يخوف كفار مكة، لئلا يكذبوا محمدا- صلى الله عليه وسلم- فينزل بهم ما نزل بالأمم الخالية حين كذبوا رسلهم بالعذاب في الدنيا والآخرة، ثم قال: للذين آمنوا «فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ» ثم نعتهم فقال: الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً- 10- يعني قرنا رَسُولًا يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ يعني يقرأ عليكم آيات القرآن مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ [201 ب] الَّذِينَ آمَنُوا فى علمه وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني من الشرك إلى الإيمان وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يعني يصدق بالله أنه واحد لا شريك له وَيَعْمَلْ صالِحاً في إيمانه يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ يعنى البساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يقول تجري من تحت البساتين الأنهار خالِدِينَ فِيها يعني مقيمين فيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً- 11- يعني به الجنة اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَخلق مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ يعني الوحي من السماء العليا إلى الأرض السفلى لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً- 12-.(4/367)
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ، وَلَمْ أسمع «مقاتلا «1» » ، يُحَدِّثُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ حَسَّانٍ عَنْ أَبِي الضحى فى قوله: «سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» قَالَ: آدَمُ كَآدَمَ، وَنُوحٌ كَنُوحٍ وَنَبِيٌّ وَمِثْلُ نَبِيٍّ. وَبِهِ الْهُذَيْلِ عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عن إبراهيم ابن مُهَاجِرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله: «سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ» ، قَالَ: لَوْ حَدَّثْتُكُمْ تَفْسِيرَهَا لَكَفَرْتُمْ وَكُفْرُكُمْ بِهَا تكذيبكم بها، قال الهذيل: ولم أسمع «مقاتلا «2» » .
__________
(1) فى أ: «مقاتل» ، وفى ف: «مقاتلا» .
(2) فى أ: «مقاتل» ، وفى ف: «مقاتلا» .(4/368)
سورة التّحريم(4/369)
[سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 12]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)
عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)(4/371)
[سورة التحريم «1» ] سورة التحريم مدنية عددها «اثنتا عشرة «2» » آية «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
عتاب الرسول- صلى الله عليه وسلم- فى التحريم والتحليل قبل ورود وحى سماوي» وتعبير الزوجات الطاهرات على إيذائه وإظهار سره، والأمر بالتحرز والتجنب من جهنم، والأمر بالتوبة النصوح، والوعد بإتمام النور فى القيامة، والأمر بجهاد الكفار بطريق السياسة، ومع المنافقين بالبرهان والحجة وبيان أن القرابة غير نافعة بدون الإيمان والمعرفة، وأن قرب المفسدين لا يضر مع وجود الصدق والإخلاص، والخبر عن شجاعة امرأة فرعون وإيمانها، وتصديق مريم، بقوله « ... وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ ... » سورة التحريم: 12 [.....]
(2) فى أ: «اثنا عشر» ، والصواب «اثنتا عشرة» .
(3) فى المصحف: (66) سورة التحريم مدنية وآياتها 12 نزلت بعد سورة الحجرات.(4/373)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ يعني مارية القبطية وهي أم إبراهيم بن محمد- صلى الله عليه وسلم- وذلك
أن حفصة بنت عمر بن الخطاب زارت أباها، وكانت يومها عنده «1» فلما رجعت أبصرت النبي- صلى الله عليه وسلم- مع مارية القبطية في بيتها، فلم تدخل حتى خرجت مارية فقالت للنبي- صلى الله عليه وسلم-: إني قد رأيت من كان معك في البيت يومي وعلى فراشي. فَلَمَّا رَأَى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في وجه حفصة الغيرة والكآبة قال لها: يا حفصة، اكتمي علي، ولا تخبري عائشة ولك علي ألا أقربها أبدا.
وَبِإِسْنَادِهِ، قَالَ مُقَاتِلُ: قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِحَفْصَةَ: اكْتُمِي عَلَيَّ حَتَّى أُبَشِّرَكِ أَنَّهُ يَلِي الأَمْرَ مِنْ بَعْدِي أَبُو بَكْرٍ، وَبَعْدَ أَبُو بَكْرٍ أَبُوكِ.
فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَلا تُخْبِرَ أَحَدًا فَعَمِدَتْ حَفْصَةُ، فَأَخْبَرَتْ عَائِشَةَ وَكَانَتَا مُتَصَافِيَتَيْنِ، فَغَضِبَتْ عَائِشَةُ فَلَمْ تَزَلْ بِالنَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى حَلَفَ أَلا يَقْرَبَ مَارِيَةَ القبطية، فأنزل الله- تعالى- هذه الآية:
«يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ»
تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ يعنى حفصة
__________
(1) كان- صلى الله عليه وسلم- بقسم بين نسائه فيجعل لكل واحدة يوما- فمعنى وكانت يومها عنده- أى كان يوم حفصة عند رسول الله والعبارة قلقة كما ترى.(4/375)
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ- 1- لِهَذِهِ الْيَمِينِ الَّتِي حَلَفْتَ عَلَيْهَا قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ يعنى قد بين الله لكم نظيرها [302 أ] فى سورة النور «1» تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ مثلها في المائدة ... إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ «2» ... فأعتق النبي- صلى الله عليه وسلم- رقبة في تحريم مارية وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ بخلقه الْحَكِيمُ- 2- في أمره حكم الكفارة.
وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ يعنى حفصة حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ حفصة بِهِ عائشة يقول أخبرت به عائشة يعني الحديث الذي أسر إليها النبي- صلى الله عليه وسلم- من أمر مارية وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ يعني أظهر الله النبي- صلى الله عليه وسلم- على قول حفصة لعائشة فدعاها النبي- صلى الله عليه وسلم- فأخبرها ببعض ما قالت لعائشة، ولم يخبرها بعملها أجمع، فذلك قوله: عَرَّفَ النبي- صلى الله عليه وسلم- «بَعْضَهُ» «3» : بعض الحديث وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ الحديث بأن أبا بكر وعمر يملكان بعده فَلَمَّا نَبَّأَها النبي- صلى الله عليه وسلم- «بِهِ» «4» بما «أفشت «5» » عليه قالَتْ حفصة للنبي- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) سورة النور: (1) وتمامها: سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
(2) سورة المائدة: 89 وتمامها: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
(3) فى أ: ( «بعضه» الحديث) .
(4) «به» : ساقطة من أ.
(5) فى أ: «فشت» .(4/376)
مَنْ أَنْبَأَكَ هذا الحديث قالَ النبي- صلى الله عليه وسلم-: نَبَّأَنِيَ يعني أخبرني الْعَلِيمُ بالسر الْخَبِيرُ- 3- به إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ يعنى حفصة وعائشة فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما يعنى مالت قلوبكما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ يعني تعاونتما «على «1» » معصية النبي- صلى الله عليه وسلم- وأذاه فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ يعني وليه وَجِبْرِيلُ- صلى الله عليه وسلم- وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ- 4- للنبي- صلى الله عليه وسلم- يعني أعوانا للنبي- صلى الله عليه وسلم- عليكما إن تظاهرتما عليه فلما نزلت هذه الآية هم النبي- صلى الله عليه وسلم- بطلاق حفصة حين «أبدأت «2» » عليه. قال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: لو علم الله في آل عمر خيرا ما طلت حفصة. فنزل جبريل على النبي- صلى الله عليهما- فقال لا تطلقها: لأنها صوامة قوامة وهي من نسائك في الجنة، فأمسكها النبي- صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك، ثم قال: عَسى رَبُّهُ يعني رب محمد- صلى الله عليه وسلم- إِنْ طَلَّقَكُنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- فطلقها النبي- صلى الله عليه وسلم- واحدة وراجعها أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ، ثم نعتهن فقال: مُسْلِماتٍ يعني مخلصات مُؤْمِناتٍ يعني مصدقات بتوحيد الله- تعالى- قانِتاتٍ يعني مطيعات تائِباتٍ من الذنوب عابِداتٍ يعني موحدات سائِحاتٍ يعني صائمات ثَيِّباتٍ يعني أيمات لا أزواج لهن وَأَبْكاراً- 5- عذارى لم يمسسن. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ بالأدب الصالح
__________
(1) فى أ: «عليه» ، وفى ف: «على» .
(2) فى أ: «أبدت» ، وفى ف: «أبدأت» ، والمعنى أظهرت سره.(4/377)
النار فى الآخرة ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ يعني أهلها «1» وَالْحِجارَةُ تتعلق في عنق الكافر مثل جبل الكبريت تشتعل عليه النار بحرها على وجهه عَلَيْها يعني على النار مَلائِكَةٌ يعنى خزنتها التسعة عشر «2» [202 ب] غِلاظٌ شِدادٌ يعني أقوياء وذلك أن ما بين «منكبي «3» أحدهم» مسيرة سنة وقوة أحدهم أن يضرب بالمقمعة «فيدفع بتلك «4» » الضربة سبعين ألفا عظم كل إنسان مسيرة أيام فيهوى في قعر جهنم مقدار أربعين سنة، فيقع أحدهم لا حيا ولا ميتا.
لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ- 6- يعنى خزنة جهنم يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى كفار مكة لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ يعني القيامة إِنَّما تُجْزَوْنَ في الآخرة مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ- 7- فى الدنيا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً يعنى صادقا فى توبته «5» «لا يحدث نفسه أن يعود إلي بالذنب الذي تاب منه أبدا «6» » عَسى رَبُّكُمْ إن تبتم والعصى من الله واجب أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يعني يغفر لكم ذنوبكم وَيُدْخِلَكُمْ في الآخرة جَنَّاتٍ يعنى البساتين «تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا من تحت البساتين الْأَنْهارُ «7» يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ يعني لا يعذب الله النبي وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ كما يخزي الظلمة نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ولهم «8» على الصراط دليل إلى
__________
(1) كذا فى أ، ف.
(2) يشير إلى قوله- تعالى- فى سورة المدثر: 30 «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» وفى ف: «تسعة عشر ملكا» .
(3) فى أ: «منكبية» ، وفى ف: «منكبى أحدهم» .
(4) فى أ: «تدفع تلك» ، وفى ف: «فيدفع بتلك» . [.....]
(5) كذا فى أ، والضمير يعود على النائب المتصيد من الكلام السابق.
(6) من ف، وفى أ: «الذي لا يحدث نفسه أن لا يعود إلى الذنوب التي تاب منها أبدا» .
(7) فى أ: «تجر من تحتها» البساتين «الأنهار» .
(8) كذا فى أ، ف.(4/378)
الجنة، ثم قال: وَبِأَيْمانِهِمْ يقول وبتصديقهم بالتوحيد في الدنيا أعطوا الفوز في الآخرة إلى الجنة يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا فهؤلاء أصحاب الأعراف الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم فصارت سواء إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الفوز والمغفرة قَدِيرٌ- 8- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف وَالْمُنافِقِينَ بالقول وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ يعني في الشدة بالقول عليهم وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ- 9- ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني امرأة الكافر التي يتزوجها المسلم وهي امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما في الدين يقول كانتا مخالفتين لدينهما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ يعني نوح ولوط- عليهما السلام- من كفرهما شَيْئاً يعني امرأتيهما وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ- 10- حين عصيا يخوف عائشة وحفصة بتظاهر هما على النبي- صلى الله عليه وسلم- فكذلك عائشة وحفصة إن عصيا ربهما لم يغن محمد- صلى الله عليه وسلم- عنهما من الله شيئا، ثم قال: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني المرأة المسلمة التي يتزوجها الكافر، فإن كفر زوجها لم يضرها مع إسلامها شيئا يقول لعائشة وحفصة: لا تكونا بمنزلة امرأة لوط فى المعصية، وكونا بمنزلة امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ومريم في الطاعة إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ الشرك وَنَجِّنِي مِنْ أهل مصر الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ- 11- يعني المشركين فنظرت إلى منازلها في الجنة قبل موتها وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [203 أ](4/379)
عن الفواحش وإنما ذكرت بأنها أحصنت فرجها لأنها قذفت بالزنا فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وهي مريم بنت عمران بن ماثان بن عازور بن صاروى ابن الردي بن آسال بن عازور بن النعمان بن أيبون بن روبائيل بن سليتا بن أوباخش وهو ابن لوبانية بن بوشنا بن أيمن بن سلتا بن حزقيل بن يونس بن متى بن إيحان ابن بانومر بن عوريا بن معققا بن أمصيا بن نواسر بن حزالي بن يهورم بن يوسقط ابن أسا بن راخيعم بن سليمان بن داود بن أتسي بن عويد بن عمى ناذب بن رام ابن حضرون بن قارص بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق «1» بن إبراهيم- عليهم السلام- «روحنا» يعني جبريل، وذلك أن جبريل- صلى الله عليه وسلم- مد مدرعتها بأصبعيه، ثم نفخ فى جيبها وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها يعنى بعيسى أنه نبى الله وَكُتُبِهِ يعني الإنجيل وكانت مريم مِنَ الْقانِتِينَ- 12- يعني من المطيعين لربها،
قالت عائشة- رضي الله عنها- كيف لم يسمهما الله- تعالى-؟ قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: ليغضهما.
يعني امرأة نوح وامرأة لوط، قالت عائشة: فما اسمهما «2» ؟ فأتاه جبريل- صلى الله عليه وسلم- فقال: أخبر عائشة- رضي الله عنها- أن اسم امرأة نوح والغة، واسم امرأة لوط والهة.
__________
(1) كذا فى أ، ف وهو يحتاج إلى تمحيص وتحقيق.
(2) فى أ: «فقال اسمهما» ، وفى ف: «فما اسمهما» .(4/380)
سورة الملك(4/381)
[سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 30]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)
وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)(4/383)
[سورة الملك «1» ] سورة الملك مكية عددها ثلاثون آيه «2» .
__________
(1) معظم مقصود السورة.
بيان استحقاق الله الملك، وخلق والحياة والموت للتجربة، والنظر إلى السموات للعبرة، اشتعال النجوم والكواكب للزينة، وما أعد للمنكرين: من العذاب والعقوبة، وما وعدته المتقين: من الثواب، والكرامة وتأخير العذاب عن المستحقين بالفضل والرحمة، وحفظ الطيور فى الهواء بكمال القدرة واتصال الرزق إلى الخلوقة، بالنوال والمنعة وبين حال آهل الضلالة، والهداية، وتعجل الكفار بمجيء، القيامة، وتهديد المشركين بزوال النعمة بقوله: « ... فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ» .
سورة الملك: 30.
ولها فى القرآن والسنن سبعة أسماء سورة الملك لمفتتحها، والمنجية، لأنها تنجى قارئها من العذاب المانعة لأنها تمنع قارئها من عذاب القبر- وهذا الأمم فى التوراة- والدافعة لأنها تدفع بلاء الدنيا وعذاب الاخرة من قارئها: والشافعة لأنا تشفع فى القيامة لقارئها، والمجادلة لأنها يجادل منكرا ونكيرا فتناظرهما كيلا يؤذيا قارئها، السابع المخلصة لأنها تخاصم زبانية جهنم، لئلا يكون لهم يد على قارئها.
(2) فى الصحف، (67) سورة الملك مكية وآياتها 30 نزلت بعد سورة الطور.(4/387)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: تَبارَكَ يعني افتعل البركة الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ أراده قَدِيرٌ- 1- الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ فيميت الأحياء ويحيي الموتى من نطفة، ثم علقة، ثم ينفخ فيه الروح، فيصير حيا، قوله- تعالى-: لِيَبْلُوَكُمْ يعني ليختبركم بها أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ «عَنِ الضحاك بن مزاحم «1» » ، عن عبد الله ابن عَبَّاسٍ قَالَ: «أَيُّكُمْ» أَتَمُّ لِلْفَرِيضَةِ وَهُوَ الْعَزِيزُ فِي مُلْكِهِ، فِي نِقْمَتِهِ لِمَنْ عَصَاهُ، الْغَفُورُ- 2- لِذُنُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.
ثم أخبر عن خلقه ليعرف بتوحيده فقال: الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ في يومين طِباقاً بعضها فوق بعض بين كل سماءين مسيرة خمسمائة سنة وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة سنة، قوله: مَا تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ يقول ما ترى ابن آدم في خلق السموات من عيب فَارْجِعِ الْبَصَرَ يعني أعد البصر ثانية إلى السماوات هَلْ تَرى ابن آدم في السموات مِنْ فُطُورٍ- 3- يعني «من فروج «2» » ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يقول [203 ب] أعد البصر الثانية يَنْقَلِبْ يعني يرجع إِلَيْكَ ابن آدم الْبَصَرُ خاسِئاً يعنى
__________
(1) فى أ: «عن الضحاك عن ابن مزاحم» .
(2) فى أ: «من فرج» ، وفى ف: «من فروج» .(4/389)
إذا اشتد البصر يقع فيه الماء: «خاسئا» يعنى صاغرا وَهُوَ حَسِيرٌ- 4- يعنى كالا منقطعا لا يرى فيها عيبا ولا فطورا.
قوله: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا لأنها أدنى السموات وأقربها من الأرض من غيرها بِمَصابِيحَ وحفظا يعني الكواكب وَجَعَلْناها يعني الكواكب رُجُوماً يعني رميا لِلشَّياطِينِ يعني إذا ارتقوا إلى السماء وَأَعْتَدْنا لَهُمْ يعني للشياطين عَذابَ السَّعِيرِ- 5- يعني الوقود وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ واعتدنا للذين كفروا بتوحيد الله، لهم في الآخرة عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ- 6- حيث يصيرون إليها، قوله:
إِذا أُلْقُوا فِيها يعنى فى جهنم اختطفتهم الخزنة بالكلاليب سَمِعُوا لَها شَهِيقاً يعني مثل نهيق الحمار وَهِيَ تَفُورُ- 7- يعني تغلي تَكادُ تَمَيَّزُ تفرق جهنم عليهم مِنَ الْغَيْظِ على الكفار تأخذهم، ثم قال: كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ يعني زمرة «1» اختطفتهم «2» الخزنة بالكلاليب، يعني مشركي العرب واليهود والنصارى والمجوس ... وغيرهم سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها خزان جهنم أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ- 8- يعني رسول وهو محمد- صلى الله عليه وسلم- قالُوا للخزنة:
بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا بالنذير يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- وَقُلْنا «3» للنبي- صلى الله عليه وسلم-: مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يعني ما أرسل الله من أحد يعني من نبي، وقالوا للرسول، محمد- صلى الله عليه وسلم-، ما بعث الله من رسول إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ يعنى إلا فى شقاق كَبِيرٍ
__________
(1) محرفة فى أ.
(2) فى أزيادة: «تلفتهم» .
(3) فى أ: «وقالوا» ، وفى حاشية أ: الآية «وقلنا» .(4/390)
- 9- وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ المواعظ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ- 10- يقول الله- تعالى-: فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ يعني بتكذيبهم الرسل فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ- 11- يعنى الوقود، ثم أخبر الله- تعالى- عن المؤمنين، وما أعد لهم في الآخرة فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ولم يروه، فآمنوا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ كَبِيرٌ- 12- يعني جزاء كبيرا في الجنة وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ في النبي- صلى الله عليه وسلم- فى القلوب أَوِ اجْهَرُوا بِهِ يعني أو تكلموا به علانية يعني به كفار مكة إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ- 13- يعني بما في القلوب، ثم قال:
أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ يقول أنا خلقت السر في القلوب، ألا أكون عالما بما أخلق من السر في القلوب وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ- 14- يعني لطف علمه بما في القلوب، خبير بما «فيها «1» » من السر والوسوسة، قوله: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا يقول أثبتها بالجبال لئلا تزول بأهلها فَامْشُوا يعني فمروا فِي مَناكِبِها يعني في نواحيها وجوانيها آمنين كيف شئتم وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ الحلال وَإِلَيْهِ النُّشُورُ- 15- يقول إلى الله [204 أ] تبعثون من قبوركم أحياء بعد الموت، ثم خوف كفار مكة فقال: أَأَمِنْتُمْ عقوبة مَنْ فِي السَّماءِ يعني الرب- تبارك وتعالى- نفسه لأنه في السماء العليا أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ- 16- يعني فإذا هي تدور بكم إلى الأرض السفلى، مثل قوله: «يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً «2» » ، ثم قال:
__________
(1) فى أ، ف: والضمير يعود على القلب. والأنسب: فيها، ليعود على القلوب المذكور قبله. [.....]
(2) سورة الطور: 9.(4/391)
«أَمْ «1» » أَمِنْتُمْ عقوبة مَنْ فِي السَّماءِ يعني الرب- عز وجل- أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً يعني الحجارة من السماء كما فعل بمن كان قبلكم من كفار العرب الخالية قوم لوط وغيره «2» فَسَتَعْلَمُونَ يا أهل مكة عند نزول العذاب كَيْفَ نَذِيرِ- 17- يقول كيف عذابي وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني قبل كفار مكة من الأمم الخالية رسلهم فعذبناهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ، - 18- يعني تغييري وإنكاري «ألم يجدوا «3» » العذاب حقا، يخوف كفار مكة، ثم وعظهم ليعتبروا في صنع الله فيوحدونه، فقال: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ يعني الأجنحة وَيَقْبِضْنَ الأجنحة «حين «4» » يردن أن يقعن مَا يُمْسِكُهُنَّ عند القبض والبسط إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من خلقه بَصِيرٌ- 19-، ثم خوفهم فقال: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ يعنى حزب لَكُمْ يا أهل مكة، يعني «فهابوه «5» » يَنْصُرُكُمْ يقول يمنعكم مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إذا نزل بكم العذاب إِنِ يعني ما الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ- 20- يقول في باطل، الذي ليس بشيء، ثم قال يخوفهم ليعتبروا: «أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ «6» من المطر من الآلهة غيري إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ عنكم فهاتوا المطر يقول الله- تعالى- أنا الرزاق،
__________
(1) «أم» : ساقطة من أ.
(2) معنى وغيره: أى وغير قوم لوط من أقوام الأنبياء، وكان الأنسب: «وغيرهم» .
(3) فى الأصل: «أليس وجدوا» .
(4) فى أ: «حتى» ، والأنسب: «حين» .
(5) فى ف: «فهانوه» ، وفى أ: «فهابوه» .
(6) «أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ» : ساقطة من أ، مع تفسيرها.(4/392)
قال: بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ يعني تمادوا في الكفر وَنُفُورٍ- 21- يعني تباعد من الإيمان قوله: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ يعني الكافر يمشي ضالا في الكفر أعمى القلب، يعني أبا جهل بن هشام، أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- «مؤمنا مهتديا، نقى القلب «1» » عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ- 22- يعني طريق الإسلام قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ يعني خلقكم وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ يعنى القلوب قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ- 23- يعني بالقليل، «أنهم قوم «2» » لا يعقلون، «فيشكروا «3» » رب هذه النعم البينة في حسن خلقهم «فيوحدونه «4» » قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ يعني خلقكم في الأرض وَإِلَيْهِ يعني إلى الله تُحْشَرُونَ- 24- فى الآخرة فيجزيكم بأعمالكم، قوله: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يقول متى هذا الذي توعدنا به فأنزل الله- عز وجل- «وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ» إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- 25- بأن العذاب نازل بنا في الدنيا، يقول الله- تعالى- لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: قُلْ لكفار مكة: إِنَّمَا الْعِلْمُ يعني علم نزول العذاب بكم ببدر عِنْدَ اللَّهِ وليس بيدي وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ بالعذاب مُبِينٌ- 26-، قوله: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً يعنى النار والعذاب فى الآخرة [204 ب] قريبا سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى سيئ لذلك
__________
(1) فى أ: «مؤمن مهتدى القلب» ، وفى ف: «مؤمنا مهتديا نقى القلب» .
(2) فى أ: «فهؤلاء» ، وفى ف: «بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ» .
(3) فى أ: ف: «فيشكرون» .
(4) كذا فى أ، ف.(4/393)
وجوههم وَقِيلَ لهم يعني قالت لهم الخزنة: هذَا العذاب الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ- 27- يعنى تمترون فى الدنيا قُلْ الكفار مكة يا محمد:
أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ يقول إن عذبني الله وَمَنْ مَعِيَ من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا فلم يعذبنا، وأنعم علينا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ يقول فمن يؤمنكم أنتم مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ «1» - 28- يعنى وجيع قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ الذي يفعل ذلك آمَنَّا بِهِ يقول صدقنا بتوحيده إن شاء أهلكنا أو عذبنا وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا يعني بالله وثقنا حين قالوا للنبي- صلى الله عليه وسلم- «إِنْ أَنْتُمْ إِلا فى ضلال مبين» فرد عليهم النبي- صلى الله عليه وسلم-: فَسَتَعْلَمُونَ عند نزول العذاب مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ- 29- يعني باطل ليس بشيء أنحن أم أنتم نظيرها في طه، «2» ثم قال لأهل مكة: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً يعني ماء زمزم وغيره «غَوْرًا» يعني غار في الأرض فذهب فلم تقدروا عليه فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ- 30- يعنى ظاهرا «3» تناله الدلاء.
__________
(1) فى أ: العذاب.
(2) سورة طه: 135.
(3) فى أ: «طاهرا» بدون إعجام، والأنسب «ظاهرا» . [.....](4/394)
سورة القلم(4/395)
[سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 52]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)
وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ (14)
إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19)
فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24)
وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34)
أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39)
سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49)
فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)(4/397)
[سورة القلم «1» ] سورة ن، مكية عددها «اثنتان «2» » وخمسون آية كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة.
الذب عن النبي- صلى الله عليه وسلم- وعذاب مانعي الزكاة وتخويف الكفار بالقيامة، وتهديد المجرمين بالاستدراج. وأمر الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالصبر، والإشارة إلى حال يونس- عليه السلام- فى قلة الصبر وقصد الكفار رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليصيبوه فى « ... لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ ... » سورة القلم: 51.
(2) فى أ: «اثنان» والصواب «اثنتان» .
(3) فى الصحف: (68) سورة القلم مكية إلا من الآية (17) إلى الآية (33) ومن الآية (48) إلى الآية (50) فمدنية، وآياتها 52 نزلت بعد سورة العلق.
ولها اسمان سورة ن وسورة القلم وهذا أشهر.
تفسير مقتل بن سليمان ج 4 م 26(4/401)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: ن وَالْقَلَمِ يعني بنون الحوت وهو فى «بحر «1» » تحت الأرض السفلى والقلم قلم من نور يكتب به، طوله كما بين السماء والأرض كتب به اللوح المحفوظ وَما يَسْطُرُونَ- 1- يقول وما تكتب الملائكة من أعمال بني آدم، وذلك حين قال كفار مكة، أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وغيرهم: إن محمدا مجنون، فأقسم الله- تعالى- بالحوت والقلم وما يسطرون- الملائكة- من أعمال بنى آدم، فقال: مَا أَنْتَ يا محمد بِنِعْمَةِ رَبِّكَ يعني برحمة ربك بِمَجْنُونٍ- 2- وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ- 3- يقول غير منقوص لا يمن به عليك وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ- 4- يعني دين الإسلام فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ- 5- بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ- 6- يعني سترى يا محمد «ويرى «2» » أهل مكة إذا نزل بهم العذاب ببدر «بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ» يعني المجنون فهذا وعيد، العذاب ببدر، القتل وضرب الملائكة الوجوه والأدبار، ثم قال:
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الهدى وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ- 7- من غيره قوله فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ- 8- حين دعى إلى دين آبائه وملتهم، نظيرها فى سورة الفرقان «3» ، نزلت هذه الآية في بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو
__________
(1) فى أ: «نحر» وفى ب: «بحر» .
(2) فى أ: «ويرون» ، والصواب ما أثبته.
(3) سورة الفرقان: 52 وتمامها «فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً» .(4/403)
ابن مخزوم منهم الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، وعبد الله ابن أبي أمية، وعبد الله بن مخزوم، وعثمان، ونوفل ابني عبد الله بن المغيرة، والعاص، وقيس، وعبد، شمس وبني الوليد سبعة الوليد، وخالد، وعمارة، وهشام، والعاص، وقيس، وعبد شمس، «بنو «1» » الوليد بن المغيرة وَدُّوا حين دعى إلى دين آبائه لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ
- 9- يقول ودوا لو تكفر يا محمد فيكفرون فلا يؤمنون «وَلا تُطِعْ «2» » كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ- 10- يعنى الوليد ابن المغيرة المخزومي، يقول، كان تاجرا «ضعيف القلب «3» » وذلك أنه كان عرض على النبي- صلى الله عليه وسلم- المال على أن يرجع عن دينه وذلك قوله- تعالى-: « ... وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً «4» » يعنى الوليد وعتبة هَمَّازٍ يعنى مغتاب مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ- 11- كان يمشي بالنميمة مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ يعني الإسلام منع ابن أخيه وأهله الإسلام مُعْتَدٍ يعني في الغشم والظلم أَثِيمٍ- 12- يعني أثيم بربه لغشمه وظلمه، نظيرها في «وَيْلٌ للمطففين «5» » عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ يقول مع ذلك النعت زَنِيمٍ- 13- يعني بالعتل «6» رحيب الجوف موثق الحلق «7» أكول شروب غشوم ظلوم ومعنى «زنيم» أنه كان فى أصل أذنه
__________
(1) فى أ: «يقول» ، وفى ف: «بنو» .
(2) فى أ: «فلا تطع» ، وفى ف: «ولا تطع» .
(3) فى أ: «البار» ، وفى ف: «القلب» .
(4) سورة الإنسان: 24 وتمامها: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» .
(5) سورة المطففين: 1، يشير إلى الآية 12 من سورة المطففين وهي «وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ» .
(6) فى أ: «يعنى بالعقل» ، وفى ف: «يعنى بالعتل» .
(7) على معناها لا يتكلم بالخير ولا ينطق بالإيمان.(4/404)
مثل زنمة الشاة مثل الزنمة التي تكون معلقة في «لحى «1» » الشاة زيادة في خلقه أَنْ كانَ يعني إذا كان ذَا مالٍ وَبَنِينَ- 14- إِذا تُتْلى عَلَيْهِ يعني الوليد آياتُنا يعني القرآن قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ- 15- يقول أحاديث الأولين وكذبهم وهو حديث رستم واسفندباز يقول الله- عز وجل-:
سَنَسِمُهُ بالسواد عَلَى الْخُرْطُومِ- 16- يعني على الأنف، وهو الوليد وذلك أنه يسود وجهه وتزوق عيناه «ويصير «2» » منكوس الوجه مغلولا في الحديد قبل دخول النار «3» ، ثم رجع في التقديم فقال: إِنَّا بَلَوْناهُمْ يقول إنا ابتليناهم يعني أهل مكة بالجوع كَما بَلَوْنا يقول كما ابتلينا أَصْحابَ الْجَنَّةِ بالجوع «4» حين هلكت جنتهم، كان فيها نخل وزرع وأعناب، ورثوها عن آبائهم، واسم الجنة الصريم، وهذا مثل ضربه الله- تعالى- لأهل مكة ليعتبروا عن دينهم، وكانت جنتهم دون صنعاء اليمن بفرسخين وكانوا مسلمين، وهذا بعد عيسى بن مريم- عليه السلام- وكان «آباؤهم صالحين «5» » ، يجعلون للمساكين من الثمار والزرع والنخل ما أخطأ الرجل فلم يره حين يصرمه، وما أخطأ المنجل، وما ذرته الريح، وما بقي في الأرض من الطعام حين يرفع، وكان هذا «شيئا كثيرا «6» » ، فقال القوم: كثرت العيال وهذا طعام كثير، أغدوا سرا جنتكم
__________
(1) فى أ: «نحر» ، وفى ف: «لحى» ، والعبارة كلها من ف، وهي محرفة فى أ. [.....]
(2) «بصير» : زيادة اقتضاها السياق.
(3) فى أ: «معلق فى الحديد قد نزل النار» ، والمثبت من ف.
(4) فى أ: «يقول ابتليناهم يقول أهل مكة بالجوع» ، والمثبت من ف.
(5) فى أ: «وهم صالحين» ، والمثبت من ف.
(6) فى أ: «شيء كثير» ، وفى ف، «شيئا كثيرا» .(4/405)
فاصرموها، ولا تؤذنوا المساكين، كان آباؤهم يخبرون المساكين فيجتمعون عند «صرام «1» » جنتهم، وعند الحصاد، «إِذْ «2» أَقْسَمُوا» لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ- 17- ليصرمنها إذا أصبحوا وَلا يَسْتَثْنُونَ- 18- فيقولون إن شاء الله، فسمع الله- تعالى-[205 ب] قولهم فبعث نارا من السماء في الليل على جنتهم فأحرقتها حتى صارت سوداء، فذلك قوله: فَطافَ عَلَيْها يعني على الجنة طائِفٌ يعني عذاب مِنْ رَبِّكَ يا محمد ليلا وَهُمْ نائِمُونَ- 19- فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ- 20- أصبحت يعني الجنة سوداء مثل الليل فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ- 21- يقول لما أصبحوا قال بعضهم لبعض أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ- 22- الجنة، يقول الحرث والثمار والزرع ولا يعلمون أنها احترقت «فَانْطَلَقُوا «3» » وَهُمْ يَتَخافَتُونَ- 23- يعنى «يتشاورون «4» » فيما «بينهم «5» » ، وهو الخفي من الكلام فقالوا سرا:
أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ- 24- وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ «6» قادِرِينَ- 25- على حدة في أنفسهم «7» «قادرين» على جنتهم فَلَمَّا رَأَوْها ليس فيها شيء ظنوا أنهم أخطأوا الطريق قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ- 26- عنها، ثم
__________
(1) فى أ: «أصرام» ، وفى ف: «صرام» .
(2) فى أ، ف: «فأقسموا» ، والآية: «إذا أقسموا» .
(3) فى أ: «فأقبلوا» ، وفى حاشية أ: «فانطلقوا» .
(4) فى أ: «يتشاورون» ، وفى ف: «يتشاورون» ، وفى حاشية أ، «يتسارون» :
محمد أى تعليق من الناسخ محمد.
(5) فى أ: «يتشاورن» بينهم، والأنسب: «يتشاورون فيما بينهم» .
(6) فى الجلالين: (حرد) منع الفقراء.
(7) من ف، وفى أ: « (وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ) يعنى على حد فى أنفسهم» .(4/406)
أنهم عرفوا الأعلام فعلموا أنهم عقوبة، فقالوا: بَلْ نَحْنُ يعني ولكن نحن مَحْرُومُونَ- 27- يقول حرمنا خير هذه الجنة قالَ أَوْسَطُهُمْ يعني أعدلهم قولا، نظيرها في سورة البقرة. « ... أُمَّةً وَسَطاً ... «1» » يعني عدلا أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ- 28- فتقولون إن شاء الله- تعالى-: قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ- 29- فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ- 30- يقول يلوم بعضهم بعضا فى منع حقوق المساكين قالُوا يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ- 31- يقول لقد طغينا في نعمة الله- تعالى- قالوا: عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها يعني خيرا من جنتنا التي هلكت إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ- 32- في الدعاء إليه يقول الله- تعالى-: كَذلِكَ «يعني هكذا الْعَذابُ هلاك جنتهم «2» » وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ يعني أعظم مما أصابهم إن لم يتوبوا فى الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ- 33- ولما أنزل الله- تعالى- هذه الآية: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ- 34- قال كفار مكة للمسلمين إنا نعطى في الآخرة من الخير أفضل مما تعطون يقول الله- عز وجل-: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ في الآخرة كَالْمُجْرِمِينَ- 35- فى الخير يقول الله- عز وجل-: ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ- 36- يعني تقضون إن هذا الحكم لجور أن تعطوا من الخير في الآخرة ما يعطى للمسلمين أَمْ لَكُمْ يعنى يا أهل مكة كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ- 37- يعنى
__________
(1) سورة البقرة: 143 وفيها: «وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» .
(2) «يعنى هكذا (العذاب) هلاك جنتهم» . من ف، وفى أ: «هكذا معك جنتهم» . [.....](4/407)
تقرأون إِنَّ لَكُمْ فِيهِ أن تعطوا هذا الذي قلتم بأن لكم في الآخرة: لَما تَخَيَّرُونَ- 38- قل لهم: يا محمد، أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا يعني ألكم عهود علينا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يقول «حلفنا «1» » لكم على يمين فهي لكم علينا بالغة لا تنقطع إلى يوم القيامة إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ- 39- يعني ما تقضون لأنفسكم في ألآخرة من الخير سَلْهُمْ يا محمد، أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ- 40- يقول أيهم بذلك كفيل بأن لهم [206 أ] في الآخرة «ما للمسلمين «2» » من الخير أَمْ لَهُمْ يقول ألهم شُرَكاءُ يعني شهداء من غيرهم بالذي يقولون:
فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ يعني بشهدائهم فيشهدوا لهم بالذي يقولون إِنْ كانُوا صادِقِينَ- 41- بأن لهم في الآخرة ما للمسلمين من الخير، قوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ يعنى قوله: « ... وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها ... » يعني عن شدة الآخرة «3» وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ- 42- وذلك أنه تجمد أصلاب الكفار فتكون كالصياصي عظما واحدا مثل صياصي البقر لأنهم لم يسجدوا في الدنيا خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ عند معاينة النار تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ يعني تغشاهم مذلة وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ يعنى يؤمرون بالصلاة
__________
(1) فى أ: «جعلنا» ، وفى ف: «حلفنا» .
(2) فى أ: «ما للمسلم» ، وفى ف: «ما للمسلمين» .
(3) كذا فى أ، ف. وفى القرطبي ص 754 يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ يوم يشتد الأمر ويصعب الخطب، وكشف الساق مثل فى ذلك، وأصله تشمير المخدرات عن سوقهن فى الهرب، قال حاتم:
أخو الحرب إن عضت به الحرب عضها ... وإن شمرت عن ساقها الحرب شمرا
أو يكشف عن أصل الأمر وحقيقته بحيث يصير عيانا مستعار من ساق الشجر وساق الإنسان وتنكيره للتهويل أو للتعظيم وقرئ تكشف بالتاء على بناء المفعول والفاعل، والفعل للساعة أو الحال.(4/408)
الخمس وَهُمْ سالِمُونَ- 43- يقول كانوا معافون في الدنيا فتصير أصلابهم مثل سفافيد الحديد.
قال مُقَاتِلُ: قال ابن مسعود في قوله: « ... يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ... »
يعنى فيضيء نور ساقه الأرض، فذلك قوله « ... وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها ... »
يعني نور ساقه اليمين هذا قول عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه «1» .
قال مُقَاتِلُ وقال ابن عباس- رضي الله عنه- فى قوله: « ... يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ... » يعنى عن شدة الآخرة، كقوله: قامت الحرب على ساق، قال يكشف عن غطاء الآخرة وأهوالها «2» قوله: فَذَرْنِي هذا تهديد وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ
__________
(1) وهب أنه قول عبد الله بن مسعود، فهل يعفى من قال به من التجسيم والتشبيه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وانظر ما كتبته فى مقدمة هذا التفسير عن: التجسيم عند مقاتل.
(2) قارن بما نقلته لك عن القرطبي فى تفسير هذه الآية (هامش رقم 1) فى هامش تفسيرها: قبل قليل، وكلاهما متقارب من بعضه.
قال النسفي فى تفسيره: « ... يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ... » نفس الظروف فليأتوا أو اذكر مضمرا والجمهور على أن الكشف عن الساق عبارة عن شدة الأمر وصعوبة الخطب فمعنى يوم يكشف عن ساق يوم يشتد الأمر ويصعب ولا كشف ثمة ولا ساق ولكن كنى به عن الشدة لأنهم إذا ابتلوا بشدة كشفوا عن الساق، وهذا تقول للأقطع الشحيح يده مغلولة ولا يد ثمة ولا غل. وإنما هو كتابة عن البخل. وأما من شبه فليضيق عطفه وقله نظره فى علم البيان، ولو كان الأمر كما زعم المشبه لكان من حق الساق أن يعرف لأنها ساق معهودة عنده.
وفى تفسير الطبري يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل يبدو عن أمر شديد ثم ذكر من قال ذلك.
ثم ساق الطبري روايات أخرى فى مضمون ما ذهب إليه مقاتل منها ما أسند إلى ابن مسعود ومنها ما أسند إلى أبى سعيد الخدري. منها يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ يعنى عن نور عظيم.
ومنها يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ فلا يبقى مؤمن إلا خر لله ساجدا.(4/409)
__________
ومنها ما يفيد أن كل قوم يتبعون آلهتهم، ثم يتجلى الله للمؤمنين فى صورة فيكشف عما شاء الله أن يكشف فيخرون سجدا إلا المنافقين فإنه يصير فقار أصلابهم عظما واحدا مثل صياصي البقر.
وهذه الروايات غريبة عن روح الإسلام وأصوله وقواعده وبعيدة عن نصوص بالقرآن الصريحة فى قوله- سبحانه-: « ... لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ... » ، « ... لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ... »
والله منزه عن مشابهة الحوادث، أما النصوص التي يوهم ظاهرها مشابهته- سبحانه- للحوادث ففيها رأى السلف وهو أننا نؤمن بها كما وردت ونفوض حقيقة المراد منها إلى الله- تعالى- فنؤمن بأن لله وجها ويدا ونقطع بأن ذلك لا يشبهه بالحوادث ونفوض حقيقة المراد إلى الله، وأما رأى الخلف فإنهم يؤولون هذه النصوص على نحو يليق بجلال الله- سبحانه- فيؤولون اليد بالقدرة ويؤولون الوجه بالذات.
وقد بين الإمام النووي أن الخلاف بين السلف والخلف ليس كبيرا فكلاهما منفقان على مخالفته- سبحانه وتعالى- للحوادث ولكن السلف شرحوا اللفظ، والخلف حملوه على المعنى والتأويل، ورأى السلف أسلم، ورأى الخلف أحكم.
وأنت- أيها المؤمن- ما أحوجك إلى يقين صادق وإيمان ثابت بالله خالقا، ورازقا، سميعا، مجهبا، مقصودا فى الحوائج، منزها عن النظر والمثيل، بدون بحث فى كيفية الذات فقد أجاب القرآن عن حقيقة الله بسورة كاملة هي أساس التوحيد فقال سبحانه:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ سورة الإخلاص.
ولم يعرف عن الصحابة أنهم سألوا النبي- صلى الله عليه وسلم- عن معنى أى آية من الآيات المتشابهة، مثل « ... وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ... » سورة: الرحمن: 27، « ... يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ... »
سورة الفتح: 10، «الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى» سورة طه: 5. ولكنهم آمنوا بها واستقر الإيمان بالله فى قلوبهم، واندفعوا إلى العمل بمقتضى هذا الإيمان.
ثم ظهر الخلاف فى فهم هذه النصوص فى العصور المتأخرة ودب الشقاق والفرقة بين الناس بسبب التفرق فى فهمها، والقرآن روح. وحياة، وذكر، ورحمة، والفرقة كفر: وشقوة، وقد آن لنا أن نعود إلى فهم القرآن والاهتداء بهديه، وأن نتجنب الخلافات المذهبية والسياسة، وأن نكتفي بنعمة القرآن وروحه ففيها الشفاء والرحمة وأن نبتعد عن الانحرافات الدخيلة وعن شبه التجسيم والتشبيه وعما أورده المنحرفون من روايات وإسرائيليات غريبة عن روح هذا الدين.(4/410)
يقول خل بيني وبين من يكذب بهذا القرآن، «فأنا أنفرد بهلاكهم «1» » سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ- 44- سنأخذهم بالعذاب من حيث يجهلون وَأُمْلِي لَهُمْ يقول لا أعجل عليهم بالعذاب إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ- 45- يقول إن أخذي بالعذاب شديد نزلت هذه الآية في المستهزئين من قريش قتلهم الله- تعالى- فى ليلة واحدة، قوله: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً يعني خراجا على الإيمان فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ- 46- يقول أثقلهم الغرم
__________
فما قيمة الرواية إذا اصطدمت بأصل من أصول ديننا، وما قيمة الرواية إذا اشتملت على شذوذ أو علة قادحة» وما قيمة الرواية إذا خالفت المعقول أو اصطدمت مع الأصول، وما قيمة الرواية إذا خالفت روح القرآن أو هدى الإسلام.
لقد ذكر علماء الحديث أن من علامة وضع الحديث ما يأتى:
1- ركاكة معناه وضعفه.
2- فساد معناه.
3- مخالفته الكتاب والسنة المتواترة أو الإجماع القطعي.
4- مخالفته الوقائع التاريخية المقطوع بصحتها.
5- صدور الحديث من راو تأييدا لمذهبه وهو متعصب مغال فيه.
وقال ابن الجوزي: إذا رأيت الحديث يباين المعقول، أو يخالف المنقول، أو يناقض الأصول فاعلم أنه موضوع.
انظر علوم الحديث الدكتور عبد الله شحاتة المكتبة الثقافية: 87.
وأخيرا ننقل ما قاله الأستاذ سيد قطب تفسير « ... يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ... »
والكشف عن الساق كناية- فى تعبيرات اللغة العربية المأثورة- عن الشدة والكرب فهو يوم القيامة الذي يشمر فيه عن الساعد، ويكشف فيه عن الساق، ويشتد الكرب والضيق، ويدعى هؤلاء المتكبرون إلى السجود فلا يملكون السجود، أما لأن وقته قد فات واحذزوا ما لأنهم كما وصفهم فى موضوع آخر يكونون « ... مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ» سورة إبرهيم: 43 وكأن أجسامهم وأعصابهم مشدودة عن الهول على غير إرادة منهم، وعلى أية حال فهو تعبير يشير بالكرب والعجز والتحدي المخيف.
(1) من ف، وفى أ: «فأما لا تقدر بهلاكهم» .(4/411)
فلا يستطيعون الإكثار من أجل الغرم أَمْ عِنْدَهُمُ يقول أعندهم علم الْغَيْبُ بأن الله لا يبعثهم وأن الذي يقول محمد غير كائن، أم عندهم بذلك كتاب فَهُمْ يَكْتُبُونَ- 47- ما شاءوا، ثم قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: فَاصْبِرْ على الأذى لِحُكْمِ رَبِّكَ يعني لقضاء ربك و «الذي» «1» هو آت عليك وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ يعني يونس بن متى من أهل نينوي- عليه السلام- يقول لا تضجر كما ضجر يونس فإنه لم يصبر، يقول لا تعجل كما عجل يونس، ولا تغاضب كما غاضب يونس بن متى فتعاقب كما عوقب يونس إِذْ نَادَى ربه في بطن الحوت وكان نداؤه فى سورة الأنبياء « ... لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ» [206 ب] «سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «2» » ثم قال: وَهُوَ مَكْظُومٌ- 48- يعني مكروب في بطن الحوت يعني السمكة لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ- 49- ولكن تدار كه نعمة يعني رحمة من ربه فنبذناه بالعراء وهو سقيم والعراء البراز يعني لألقي بالبراز وهو مذموم فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ- 50- وَإِنْ يَكادُ يقول قد كاد الَّذِينَ كَفَرُوا يعني المستهزئين من قريش لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ يعني يبعدونك لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ يقول حين سمعوا القرآن كراهية له وَيَقُولُونَ إِنَّهُ إن محمدا لَمَجْنُونٌ- 51- وَما هُوَ يعني أن هو إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ- 52- يعنى ما القرآن إلا تذكرة للعالمين.
__________
(1) فى أ: «الذ» ، وفى ف: «الذي» .
(2) سورة الأنبياء: 87.(4/412)
سورة الحاقّة(4/413)
[سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 52]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4)
فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)
فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14)
فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19)
إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ (26) يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) مَا أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29)
خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44)
لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49)
وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)(4/415)
[سورة الحاقة «1» ] سورة الحاقة مكية عددها «اثنتان «2» » وخمسون آية «كوفى «3» » .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
الخبر عن صعوبة القيامة، وو الإشارة إلى هلاك القرون الماضية، وذكر نفخة الصور، وانشقاق السموات، وحال السعداء والأشقياء، وقت قراءة الكتب، وذل الكفار مقهورين فى أيدى الزبانية، ووصف القرآن بأنه كهانة وشعر، وبيان أن القرآن تذكرة المؤمنين وحسرة للكافرين، والأمر بتسبيح الركوع فى قوله: «فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» سورة الحاقة: 52
(2) فى أ: «اثنان» ، والصواب «اثنتان» .
(3) فى المصحف: (69) سورة الحاقة مكية وآياتها 52 نزلت بعد سورة الملك.(4/419)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله تعالى: الْحَاقَّةُ- 1- مَا الْحَاقَّةُ- 2- ثم بين ما الحاقة يعني الساعة التي فيها حقائق الأعمال، يقول يحق للمؤمنين عملهم، ويحق للكافرين عملهم، ثم قال للنبي- صلى الله عليه وسلم-: وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ- 3- تعظيما لها لشدتها، ثم قال: هي القارعة، والساعة التي كَذَّبَتْ بها ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ- 4-، نظيرها فى سورة القارعة «1» وإنما سميت القارعة لأن الله- عز وجل- يقرع أعداءه بالعذاب، ثم أخبر الله- تعالى- عن عاد وثمود فقال: فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ- 5- يقول عذبوا بطغيانهم، والطغيان حملهم على تكذيب صالح النبي- صلى الله عليه «2» - وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا يعني عذبوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ يعني باردة عاتِيَةٍ- 6- شديدة عتت على خزانها بغير رأفة ولا رحمة سَخَّرَها يعني سلطها عَلَيْهِمْ الرب- تبارك وتعالى- سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فهي كاملة دائمة لا تفتر عنهم فيهن، يعذبهم بالريح كل يوم حتى «أفنت «3» » أرواحهم يوم الثامن فَتَرَى يا محمد الْقَوْمَ فِيها يعنى فى تلك
__________
(1) يشير إلى الآيات الأولى من سورة القارعة، فى قوله تعالى: «الْقارِعَةُ، مَا الْقارِعَةُ، وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ» . [.....]
(2) فى الجلالين: «بالطاغية» بالصيحة المجاوزة للحد فى الشدة.
(3) فى أ: «أعزبت» ، وفى ف: «أفنت» .(4/421)
الأيام صَرْعى يعني موتى يعني أمواتا وكان طول كُلّ رَجُل منهم اثنى عشر ذراعا، ثم شبههم بالنخل فقال: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ فذكر النخل لطولهم خاوِيَةٍ- 7- «يعني أصول نخل بالية «1» » التي ليست لها رءوس، «وبقيت «2» » أصولها وذهبت أعناقها فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ- 8- يقول لم تبق منهم أحدا وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ يعني ومن معه وَالْمُؤْتَفِكاتُ يعني والمكذبات بِالْخاطِئَةِ- 9- يعني قريات لوط الأربعة، واسمها سدوم وعامورا وصابورا ودامورا، فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ يعني لوطا فَأَخَذَهُمْ الله أَخْذَةً رابِيَةً- 10- يعني شديدة ربت عليهم [207 أ] في الشدة أشد من معاصيهم التي عملوها إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ وارتفع فوق كل شيء أربعين ذراعا حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ- 11- يعني السفينة يقول حملنا الآباء وأنتم في أصلابهم في السفينة لِنَجْعَلَها لَكُمْ
يعني لكي نجعلها لكم يعني، في هلاك قوم نوح لكم يا معشر الأبناء تَذْكِرَةً
يعني عظة وتذكرة يعني وعبرة لكم ولمن بعدكم من الناس وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ
- 12- يعني حافظة لما سمعت فانتفعت بما سمعت من الموعظة فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ- 13- لا تثنى يعني نفخة الآخرة وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ يقول حمل ما على الأرض من ماء أو شجر أو شيء وَحملت الْجِبالُ من أماكنها فضربت على الأرض فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً- 14- يعني فكسرتا كسرة واحدة فاستوت بما عليها مثل الأديم الممدود فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ- 15- وقعت الصيحة الآخرة يعني النفخة الآخرة وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ
__________
(1) فى أ: «يعنى نخل خاوية» والمثبت من ف.
(2) فى أ: «ونبتت» ، وفى ف: «وبقيت» .(4/422)
- 16- وَالْمَلَكُ يقول انفجرت السماء لنزول الرب «1» - تبارك وتعالى- وما فيها من الملائكة عَلى أَرْجائِها يعني نواحيها وأطرافها وهي السماء الدنيا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ على رءوسهم «يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ» «2» - 17- «أجزاء «3» » من الكروبيين لا يعلم كثرتهم أحد إلا الله- عز وجل- يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ على الله فيحاسبكم بأعمالكم لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ- 18- يقول لا يخفى الصالح منكم، ولا الطالح إذا عرضتم فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ يقول يعطيه ملكه الذي كان يكتب عمله في صحيفة بيضاء منشورة، نزلت هذه الآية في أبي سلمة بن عبد الأسود المخزومي، وكان اسم أم أبي سلمة برة بنت عبد المطلب فَيَقُولُ هاؤُمُ يعنى هاكم اقْرَؤُا كِتابِيَهْ- 19- إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ- 20- فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ- 21- يقول في عيش يرضاه في الجنة فهو فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ- 22- يعني رفيعة في الغرف قُطُوفُها دانِيَةٌ- 23- يعني ثمرتها قريبة بعضها من بعض يأخذ منها إن شاء جالسا، وإن شاء متكئا كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ بما عملتم فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ- 24- في الدنيا وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ يقول يعطيه ملكه الذي كان يكتب عمله في الدنيا نزلت هذه الآية في الأسود بن عبد الأسود المخزومي قتله حمزة بن عبد المطلب على الحوض ببدر فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي فيتمنى فى الآخرة «يَا لَيْتَنِي» لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ- 25- وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ
__________
(1) هذا يشعر بالتجسيم الذي روى عن مقاتل هنا وفى أماكن أخرى من تفسيره، وانظر الموضوع كاملا فى دراسة هذا التفسير، تحت عنوان، مقاتل وعلم الكلام.
(2) فى الجلالين: «ثمانية» من الملائكة أو صفوفهم.
(3) «أجزاء» كذا فى أ، ف، ولعلها محرفة عن «أملاك» .(4/423)
- 26- يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ- 27- فيتمنى الموت ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ- 28- من النار هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ- 29- يقول ضلت عنى يومئذ حجتي حين شهدت عليه الجوارح بالشرك يقول الله لخزنة جهنم خُذُوهُ فَغُلُّوهُ- 30- يعني غلوا يديه إلى عنقه ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ- 31- يعنى الباب السادس من جهنم [207 ب] فصلوه ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً بالذراع الأول فَاسْلُكُوهُ- 32- فأدخلوه «فيه «1» » .
قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كل ذراع منها بذراع الرجل الطويل من الخلق الأول، ولو أن حلقة منها وضعت على ذروة جبل لذاب كما يذوب الرصاص فكيف يا بن آدم وهي عليك وحدك. اهـ.
قوله- تعالى-: إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يعني لا يصدق بالله الْعَظِيمِ- 33- بأنه واحد لا شريك له وَلا يَحُضُّ نفسه عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ- 34- يقول كان لا يطعم المسكين في الدنيا «2» وفي قوله، في قولة ابن مسعود «3» فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ فى الآخرة هاهُنا حَمِيمٌ- 35- يعني قريب يشفع له وَلا وليس له طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ- 36- يعني الذي يسيل من القيح والدم من أهل النار يعني فليس له شراب إلا من حميم من عين من أصل الجحيم لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ- 37- يعنى المجرمين فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ- 38- من الخلق وَما لا تُبْصِرُونَ- 39- «من الخلق «4» »
__________
(1) كذا فى أ، ف، والضمير عائد على الجحيم.
(2) تفسير آيتي 33، 34 من ف، وليس فى أ.
(3) المعنى أن ابن مسعود يقول. إن تفسير الآية: «أنه كان لا يحض الناس ولا يدعوهم إلى إطعام بقوله» .
(4) فى أ: «الحلق» ، بالحاء.(4/424)
وذلك أن الوليد بن المغيرة قال: إن محمدا ساحر. فقال أبو جهل بن هشام: بل هو مجنون. فقال عقبة بن أبي معيط: بل هو شاعر. وقال النضر: كاهن وقال أبى: كذاب. فبرأه الله من قولهم فأقسم الله- تعالى- بالخلق «إِنَّهُ» «1» إن هذا القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ- 40- على الله يعني جبريل- عليه السلام- عن قول الله- تعالى- وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ لقول عتبة، وقول أبي جهل، قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ- 41- يعني قليلا ما تصدقون بالقرآن، يعني بالقليل أنهم لا يؤمنون، ثم قال: وَلا هو يعني القرآن بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ- 42- فتعتبرون فأكذبهم الله فقال: بل القرآن تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ- 43- وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا محمد شيئا منه بَعْضَ الْأَقاوِيلِ- 44- يعني من تلقاء نفسه ما لم نقل لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ- 45- يقول لانتقمنا منه بالحق كقوله: « ... تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ «2» ... »
يعني من قبل الحق، «بأنكم «3» » على الحق، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ- 46- يعني عرق يكون في القلب وهو نياط القلب، وإذا انقطع مات صاحبه فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ- 47- ليس أحد منكم يحجز الرب- عز وجل- عن ذلك «وَإِنَّهُ» «4» وإن هذا القرآن لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ- 48- وَإِنَّا لَنَعْلَمُ يا أهل مكة أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ- 49- وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ
__________
(1) «إنه» : ساقطة من أ.
(2) سورة الصافات: 28 وهي: «قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ» .
(3) فى أ: «بأنكم» ، وفى ف: «فإنكم» . [.....]
(4) «وَإِنَّهُ» : ساقطة من أ.(4/425)
- 50- يوم القيامة وَإِنَّهُ وإن هذا القرآن لَحَقُّ الْيَقِينِ- 51- أنه من الله- تعالى- فَسَبِّحْ يا محمد يعنى التوحيد بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ- 52- يقول اذكر اسم ربك يعني التوحيد. ثم قال «الْعَظِيمِ» يعني الرب العظيم فلا أكبر منه» .
__________
(1) انتهى تفسير السورة فى ف، وفى أذكر قصة من خرافات بنى إسرائيل فى أعقاب السورة، ضربنا عنها صفحا، وتابعنا ف، فى ذلك التحقيق.(4/426)
سورة المعارج(4/427)
[سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 44]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)
وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)
كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19)
إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24)
لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29)
إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34)
أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)(4/429)
[سورة المعارج «1» ] سورة المعارج مكية عددها «أربع «2» » وأربعون آية «3» كوفى.
__________
(1) مقصود السورة:
بيان جرأة الكافر فى استعجال العذاب، وطول القيامة وهو لها وشغل الخلائق فى ذلك اليوم المهيب، واختلاف حال الناس فى الخير والشر، ومحافظة المؤمنين على خصال الخير، وطمع الكفار فى غير مطمع، وذل الكافرين فى يوم القيامة فى قوله: « ... تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ... » سورة المعارج: 44
(2) فى أ: «أربعة» ، والصواب ما أثبت.
(3) فى المصحف: (70) سورة المعارج مكية وآياتها 44 نزلت بعد سورة الحافة.
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 28.(4/433)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ- 1- نزلت في النضر بن الحارث بن علقمة ابن كلدة القرشي من بني عبد الدار بن قصي، وذلك أنه قال: اللهم إن كان ما يقول محمد هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فأمطر علينا حجارة السماء أو ائتنا بعذاب أليم.
فقتل يوم بدر فقال الله- عز وجل-: هذا العذاب الذي سأل النضر ابن الحارث في الدنيا «هو «1» » لِلْكافِرينَ في الآخرة لَيْسَ لَهُ دافِعٌ- 2- مِنَ اللَّهِ يقول لا يدفع عنهم أحد «حين «2» » يقع بهم العذاب «3» .
ثم عظم الرب- تبارك وتعالى- نفسه فقال: «مِنَ اللَّهِ» ذِي الْمَعارِجِ- 3- يعني ذا الدرجات يعني السموات والعرش فوقهم والله- تعالى- على العرش «4» . كقوله: « ... وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ «5» » تَعْرُجُ يعني تصعد الْمَلائِكَةُ من سماء إلى سماء العرش وَالرُّوحُ يعني جبريل- عليه السلام- إِلَيْهِ في الدنيا برزق السموات السبع. «ثم أخير «6» » الله- عز وجل- عن ذلك العذاب متى يقع بها فقال: فِي يَوْمٍ «7» كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ
__________
(1) فى أ: «فهو» .
(2) فى أ: «حتى» .
(3) فى أ: فسر أول الآية (3) ، ثم فسر «فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ» من آية 4، ثم عاد فأكمل تفسير الآية (3) ، وقد صوبت هذا الخطأ.
(4) وهذا من تجسيم مقاتل، وانظر مقدمتي فى باب: مقاتل وعلم الكلام.
(5) سورة الزخرف: 34.
(6) فى أ: «فأخبر» .
(7) قال فى الجلالين: (فى يوم) متعلق بمحذوف أى يقع العذاب بهم فى يوم القيامة.(4/435)
- 4- فيها تقديم، وطول ذلك اليوم كأدنى صلاتهم يقول لو ولى حساب الخلائق وعرضهم غيري لم يفرغ منه إلا في مقدار خمسين ألف سنة فإذا أخذ الله- تعالى- في عرضهم يفرغ الله منه على مقدار نصف يوم من أيام الدنيا فلا ينتصف النهار حتى يستقر أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار، وهذه الآية نزلت فيهم «أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا «1» » يقول ليس مقيلهم «كمقيل» أهل النار فَاصْبِرْ يا محمد صَبْراً جَمِيلًا- 5- يعزي نبيه- صلى الله عليه وسلم- صبرا لا جزع فيه تكذيبهم إياك بأن العذاب غير كائن، ثم قال: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ يعني كفار مكة بَعِيداً- 6- يعني العذاب أنه غير كائن وَنَراهُ قَرِيباً- 7- أنه كائن، ثم أخبر متى يقع بهم العذاب؟ فقال: يقع بهم العذاب يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ- 8- من الخوف، يعني أسود غليظا كدردى الزيت بعد الشدة والقوة وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ- 9- فشبهها في اللين والوهن «بالصوف «2» » المنفوش بعد القوة [209 أ] وذلك أوهن ما يكون من الصوف «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» «3» - 10- «يعني قريب قريبا «4» » ، يقول لا يسأل الرجل قرابته، ولا «يكلمه «5» » من شدة الأهوال يُبَصَّرُونَهُمْ يقول يعرفونهم ولا يكلمونهم، وذلك قوله:
فهم لا يتساءلون «خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ «6» ... » خافضة أبصارهم ذليلة عند معاينة النار
__________
(1) سورة الفرقان: 24.
(2) فى أ: «كالصوف» . [.....]
(3) «وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» : ساقطة من أ.
(4) فى أ: «يعنى قريب قريبا» ، وفى ف: «يعنى قريبا قريبا» .
(5) «بكلمة» : كذا فى أ، ف.
(6) سورة القلم: 43.(4/436)
يَوَدُّ الْمُجْرِمُ يعني الكافر لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ يوم القيامة بِبَنِيهِ- 11- وَصاحِبَتِهِ يعني امرأته وَأَخِيهِ- 12- وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ- 13- يعني رهطه وفخذه الأدنى الذي يساوى إليهم وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من شيء ثُمَّ يُنْجِيهِ- 14- يقول الله- تعالى-: كَلَّا لا ينجيه ذلك لو افتدى بهذا كله، ثم استأنف فقال: إِنَّها لَظى - 15- يعني بلظى استطالتها وقدرتها عليهم يعني النار نَزَّاعَةً لِلشَّوى - 16- يقول تنزع النار الهامة، والأطراف فلا تبقى تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ يعني تدعو النار يوم القيامة تقول:
إلى أهلي فهذا دعاؤها لمن أدبر عن الإيمان وَتَوَلَّى- 17- يقول وأعرض عنه إلى الكفر، قوله: «وَجَمَعَ «1» » فَأَوْعى - 18- يعني فأكثر من المال وأمسك فلم يؤد حق الله فيه إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً- 19- يعني ضجرا فهو أمية بن خلف الجمحي، ثم نعته فقال: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ يقول إذا أصابه جَزُوعاً- 20- وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ يعني المال مَنُوعاً- 21- فمنع وبخل بحق الله- تعالى-، ثم استأنف فقال: إِلَّا الْمُصَلِّينَ- 22- فليسوا كذلك، ثم نعتهم الله- تعالى- فقال: الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يعني الصلوات الخمس دائِمُونَ- 23- بالليل والنهار لا يدعونها وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ- 24- يعني مفروض لِلسَّائِلِ يعني المسكين وَالْمَحْرُومِ- 25- يعني الفقير الذي لا سهم له في الخمس ولا الفيء وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ- 26- يعني به الحساب بأنه كائن وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ- 27- يعني وجلين أن يصيبهم إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ- 28-
__________
(1) «جمع» : ساقطة من أ.(4/437)
يقول لا يأمنون العذاب من الشفقة والخوف وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ- 29- عن الفواحش، ثم استثنى فقال: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ يعنى به الولائد فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ- 30- يعني لا يلامون على الحلال فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ بعد أزواجه وولائده ما لا يحل له وهو الزنا فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ- 31- يعني المعتدين في دينهم وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ- 32- يعني يؤدون الأمانة ويوفون بالعهد، ثم قال: «راعون» يرعونه ويتعاهدونه كما يرعى الراعي الشفيق غنمه عن مواقع [209 ب] الهلكة وَالَّذِينَ هُمْ «بِشَهاداتِهِمْ «1» » قائِمُونَ- 33- يعني يقومون بها بالحق لا يمنعونها ولا يكتمونها إذا دعوا إليها وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ الخمس يُحافِظُونَ- 34- عليها في مواقيتها أُولئِكَ الذين هذه أعمالهم فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ- 35- يعني يكرمون فيها فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ- 36- يعني مقبلين، نزلت هذه الآية في المستهزئين من قريش، والمطعمين في غزوة بدر مقبلين: ينظرون عن يمين النبي- صلى الله عليه وسلم- «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ «2» » عِزِينَ- 37- يعني حلقا حلقا جلوسا لا يدنون من النبي- صلى الله عليه وسلم- فينتفعون بمجلسه، ثم قال: أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يعنى قريشا أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ- 38- كل واحد منهم يقول إن لي في الجنة حقا، يقول ذلك استهزاء يقول أعطى منها ما يعطى المؤمنون يقول الله- تعالى- كَلَّا
__________
(1) فى أ: بشهادتهم، وهي كذلك فى رسم المصحف بزيادة علامة المد بعد الدال.
(2) «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ» : ساقطة من أ، ف.(4/438)
لا يدخلها، ثم استأنف فقال: لما كذبوا بالغيب إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ- 39- خلقوا مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مضغة، ثم قال:
فَلا أُقْسِمُ يقول أقسم بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ وهو مائة وثمانون مشرقا، ومائة وثمانون مغربا فى كل منزلة تطلع يومين فى السنة، تطلع يومين فى السنة، تطلع فيها الشمس وتغرب فيها، فأقسم الله- تعالى- بالمشارق والمغارب فقال: إِنَّا لَقادِرُونَ- 40- عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ يعنى على أن نأتى بحلق أمثل منهم، وأطوع لله منهم، وأرضى منهم، ثم قال وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ- 41- يعنى وما نحن بمعجزين إن أردنا ذلك فَذَرْهُمْ خل عنهم يا محمد يَخُوضُوا في الباطل وَيَلْعَبُوا يعني ويلهوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ في الآخرة الَّذِي يُوعَدُونَ- 42- العذاب، ثم أخبر عن ذلك اليوم الذي «يعذب «1» » فيه كفار مكة فقال- تبارك اسمه-: يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ يعني القبور سِراعاً إلى الصوت كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ- 43- يقول كأنهم إلى علم يسعون إليه قد نصب لهم خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ يعني خافضة أبصارهم ذليلة عند معاينة النار تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ يعني تغشاهم مذلة، يقول ذلِكَ الذي ذكر من أمر القيامة الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ- 44- فيه في الدنيا العذاب، وذلك أن الله أوعدهم في الدنيا على ألسنة الرسل أن العذاب كائن، «لما كذب «2» » كفار مكة النبي-
__________
(1) فى أ: «يعذبون» :
(2) فى ف: «لما كذب به» .(4/439)
صلى الله عليه «وسلم «1» -» ، فقال الله- عز وجل-: «فذرهم» يعنى قريشا يعنى فخل «2» عنهم «يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ» العذاب فيه.
__________
(1) فى أ، ف: «وسلم- بالعذاب» .
(2) اللفظ من ف والعبارة قلقة فى جميع النسخ.(4/440)
سورة نوح(4/441)
[سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 28]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)
فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)
لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24)
مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)(4/443)
[سورة نوح «1» ] سورة نوح مكية عددها «ثمان وعشرون» آية كوفى «2» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
أمر نوح بالدعوة، وشكاية نوح من قومه، وبيان أن الاستغفار يزيد النعمة، وتحويل حال وإظهار العجائب على سقف السماء، وظهور دلائل القدرة على بساط الأرض، وغرق قوم نوح، ودعاؤه عليهم بالهلاك، والمؤمنين بالرحمة، وللظالمين بالنار والخسارة فى قوله: « ... وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً» سورة نوح: 28.
(2) فى المصحف: (71) سورة نوح مكية وآياتها (28) نزلت بعد سورة النحل.(4/447)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ ونوح بالسريانية الساكن الذي سكنت إليه الأرض، وهو نوح بن لمك- صلى الله عليه وسلم- أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ العذاب مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ- 1- يعني وجيعا في الدنيا وهو الغرق ف قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ من العذاب مُبِينٌ- 2- يعني بين أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ يقول أن وحدوا الله وَاتَّقُوهُ أن تشركوا به شيئا وَأَطِيعُونِ- 3- فيما آمركم به من النصيحة بأنه ليس له شريك، فإذا فعلتم يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ «والمن «1» » هاهنا صلة يقول يغفر لكم ذنوبكم وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى يعني إلى منتهى آجالكم فلا يعاقبكم بالسنين ولا بغيره إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ في العذاب في الدنيا وهو الغرق إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ- 4- ولكنكم لا تعلمون قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً- 5- ليسمعوا دعائي فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً- 6- يعني تباعدا من الإيمان وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان يعني إلى الاستغفار لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ، وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ لئلا يسمعوا دعائي وَأَصَرُّوا وأقاموا على الكذب وَاسْتَكْبَرُوا يعني وتكبروا عن الإيمان اسْتِكْباراً- 7- يعني وتكبرا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً- 8-
__________
(1) تعود أن يدخل «ال» على حرف الجر، مع أنها من خصائص الأسماء.
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 29. [.....](4/449)
يعني مجاهرة وعلانية ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ «يعني صحت إليهم علانية «1» » وَأَسْرَرْتُ «لَهُمْ» «2» في بيوتهم إِسْراراً- 9- فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ من الشرك إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً- 10- للذنوب يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً- 11- يعني المطر عليكم يجيء به متتابعا وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وذلك أن قوم نوح كذبوا نوحا زمانا طويلا، ثم حبس الله عليهم المطر وعقم «3» أرحام نسائهم أربعين سنة، فهلكت جناتهم ومواشيهم، فصاحوا إلى نوح فقال لهم:
«اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» من الشرك «إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً» للذنوب، كان ولم يزل غفارا للذنوب «يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ» يعني المطر يجيء به «مِدْرَارًا» يعني متتابعا «وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ» وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ يعنى البساتين وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً- 12- فدعاهم نوح إلى توحيد الله- تعالى- قال: إنكم إذا وحدتم تصيبون الدنيا والآخرة جميعا، ثم قال: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً- 13- يقول ما لكم لا تخشون لله عظمة، وقال ما لكم لا تخافون يعني تفرقون لله عظمة فى التوحيد، فتوحدونه فإن لم توحدوه لم تعظموه [120 ب] ، ثم قال:
وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً- 14- يعني مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مضغة، ثم لحما، ثم عظما، وهي الأطوار، ثم وعظهم ليعتبروا في صنعه، فقال:
أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً- 15- بعضها فوق بعض ما بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام، وعظمها مسيرة خمسمائة عام وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً يعني معهن نورا يعني خلق الشمس والقمر مع خلق
__________
(1) كذا فى أ، ف: «يعنى دعوتهم علنا» .
(2) فى أ: «إليهم» وفي حاشية أ: الآية «لهم» .
(3) من العقم وهو عدم الولادة، قال تعالى: « ... وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ» سورة الذاريات: 29.(4/450)
السموات والأرض فجعلهن نورا لأهل الأرض فجعل القمر نوره بالليل وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً- 16- مضيئة بالنهار لأهل الأرض فينتشرون فيه وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً- 17- أول خلقكم من تراب الأرض، نباتا- يعني خلقا ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها إذا متم وَيُخْرِجُكُمْ منها عند النفخة الآخرة إِخْراجاً- 18- أحياء وإليه ترجعون وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً- 19- مسيرة خمسائة سنة من تحت الكعبة لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً- 20- يعني طرقا فجاجا بين الجبال والرمال قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً- 21- يقول إن قومي وفقراءهم اتبعوا كبراءهم وأشرافهم لكثرة أموالهم وأولادهم فلم يزدهم كثرة المال والولد إلا خسارا وَمَكَرُوا مكر الكبراء والقادة مَكْراً كُبَّاراً- 22- يقول قالوا قولا عظيما «وَقالُوا» «1» وقولهم العظيم أنهم قالوا للضعفاء:
لا تَذَرُنَّ عبادة آلِهَتَكُمْ «وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً»
» وَلا تذرن عبادة يَغُوثَ وَلا تذرن عبادة يَعُوقَ وَلا تذرن عبادة نَسْراً- 23- فهذه أسماء الآلهة وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً من الناس وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا- 24- يعنى إلا خسارا مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا يعني فبخطيئاتهم وكفرهم «أغرقوا» في الماء فَأُدْخِلُوا في الآخرة «نَارًا «3» » فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً- 25- يعني فلم يجدوا لهم مانعا يمنعهم من الغرق
__________
(1) «قالوا» : ساقطة من أ.
(2) فى أ: «وَلا تَذَرُنَّ» عبادة «وَدًّا وَلا سُواعاً» . وقد منع منه أن «ودا» يكون مضافا إليه والمضاف إليه يكون مخفوضا لا منصوبا.
(3) فى أ: «النار» ، وفى حاشية أ: الآية: «نارا» .(4/451)
ودخول النار في الآخرة وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً- 26- يعني أحدا، وذلك أن الله- تبارك وتعالى- «وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ» - صلى الله عليه وسلم- «أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «1» » وذلك أن الله- تعالى- كان أخرج كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم، فلما أخبر بذلك دعا عليهم قال: «رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً» إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ على الحال التي أخبرت عنهم، أنه لن يؤمن منهم إلا من قد آمن، يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً- 27- وكان الرجل منهم ينطلق بولده إلى نوح- عليه السلام- فيقول لولده احذر هذا فإنه كذاب «وإن «2» » [211 أ] والدي قد حذرنيه فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على وصية أبيه، فذلك قوله: «يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً» «فعم «3» » الدعاء بعد دعائه على الكفار فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وكانا مسلمين وكان اسم أبيه لمك بن متوشلخ، واسم أمه هيجل بنت لا موش بن متشلوخ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً- 28- يعني العذاب مثل قوله: « ... وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً «4» » يعنى دمرنا تدميرا فأفرقهم الله- تعالى- وحمل معه في السفينة ثمانين نفسا أربعين رجلا وأربعين امرأة، وفيهم ثلاثة أولاد لنوح منهم سام وحام ويافث، فولد سام العرب، وأهل السواد، وأهل فارس، وأهل الأهواز، وأهل الحيرة، وأهل
__________
(1) ورد ذلك فى الآية 36 من سورة هود وتمامها: «وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ» .
(2) فى أ: «فإن» .
(3) «نعم» : كذا فى أ، ف، والأنسب «ثم هم» .
(4) سورة الفرقان الآية 39 وتمامها وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً.(4/452)
الموصل، وأهل العال، وولد حام السودان كلها، والقبط، والأندلس، وبربر، والسند، والهند، وولد يافث الترك، والروم، ويأجوج، ومأجوج، والصين، وأهل خراسان إلى حلوان.
وأما أسماء الآلهة فأما ود فلكلب بدومة الجندل، وأما سواع فلهذيل بساحل البحر، وأما يغوث فلبني غطيف وهم حي من مراد، وأما يعوق فلهمذان، وأما نسر فلحمير لذي كلاع من حمير. فكانت هذه الآلهة يعبدها قوم نوح حتى حتى عبدتها العرب بعد ذلك، وأما اللات فلثقيف وأما العزى فلسليم وغطفان وغشم ونصر بن معاوية وسعد بن بكر، وأما مناة فكانت لقديد منزل بين مكة والمدينة، وأما يساف ونائلة وهبل «فلأهل «1» » مكة، فكان يساف حيال الحجر الأسود، ونائلة حيال الركن اليماني، وهيل في جوف الكعبة وكان طوله ثمانية عشر ذراعا.
__________
(1) فى أ: «لأهل» ، والأنسب ما أثبت.(4/453)
سوره الجنّ(4/455)
[سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 28]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)
وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)
وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ مَاءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19)
قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)(4/457)
[سورة الجن «1» ] سورة الجن مكية عددها «ثمان «2» » وعشرون آية كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
عجائب علوم القرآن، وعظمة سلطان الملك الديان وتعدى الجن على الإنسان: ومنعهم من الوصول إلى السماء، والرشد والصلاح لأهل الإيمان، وتهديد الكفار بالجحيم والنيران، وعلم الله- تعالى- بالإسرار والإعلان وكيفية تبليغ الوحى من الملائكة إلى الأنبياء، وعلم الله بكل شيء فى قوله- سبحانه-: « ... وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً» سورة الجن: 28.
(2) فى أ: «ثمانية» ، الصواب: «ثمان» .
(3) فى المصحف: (72) سورة الجن مكية وآياتها 28 نزلت بعد سورة الأعراف. [.....](4/459)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وذلك أن السماء لم تكن تحرس في الفترة ما بين عيسى إلى محمد- صلى الله عليهما- فَلَمَّا بعث اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- محمدا- صَلَّى الله عليه وسلم- حرمت السماء، ورميت الشياطين بالشهب فقال:
إبليس لقد حدث في الأرض حدثا فاجتمعت الشياطين، فقال لهم إبليس:
ائتوني بما حدث في الأرض من خبر، قالوا: نبي بعث في أرض تهامة «1» ، وكان في أول ما بعث تسعة نفر جاءوا من اليمن، «ركب «2» » من الجن، «ثم «3» » من أهل نصيبين من أشراف الجن وساداتهم إلى أرض تهامة فساروا حتى بلغوا بطن نخلة ليلا فوجدوا النبي- صلى الله عليه وسلم- قائما يصلي مع نفر من أصحابه وهو يقرأ القرآن في صلاة الفجر «فَقالُوا» «4» : فذلك قول الجن يعني أولئك التسعة النفر يا قومنا، إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً- 1- يعني عزيزا لا يوجد مثله يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ يقول يدعو إلى الهدى فَآمَنَّا بِهِ يعني بالقرآن أنه من الله- تعالى- وَلَنْ نُشْرِكَ بعبادة ربنا أَحَداً- 2- من خلقه وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا ارتفع ذكره وعظمته «مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً «5» »
__________
(1) فى أ: «أرض تهامة» ، وفى ف: «الأرض تهامة» .
(2) فى أ: «ركب» ، وفى ف: «ركبا» .
(3) «ثم» من ف، وليست فى أ.
(4) «فقالوا» : ساقط من أ، ف.
(5) فى أ، «من أن يتخذ» ، وفى حاشية أ: «مَا اتَّخَذَ» .(4/461)
يعني امرأة وَلا وَلَداً- 3- وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا يعني جاهلنا يعني كفارهم عَلَى اللَّهِ شَطَطاً- 4- يعني «جورا «1» » بأن مع الله شريكا، كقوله- عز وجل- في ص « ... وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا ... «2» »
يقول لا تجر في الحكم، وَأَنَّا ظَنَنَّا يعني حسبنا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً- 5- بأن معه شريكا وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ من دون الله- عز وجل- «فأول «3» » من تعوذ بالجن قوم من أهل اليمن من بني حنيفة، ثم فشا ذلك في سائر العرب، وذلك أن الرجل كان يسافر في الجاهلية فإذا أدركه المساء في «الأرض «4» » القفر قال:
أعوذ بسيد هَذَا الوادي من سفهاء قومه فيبيت آمنا في جوارهم حتى يصبح، «يقول «5» » : فَزادُوهُمْ رَهَقاً- 6- يقول إن الإنس زادت الجن رهقا يعنى غيا لنعوذهم بهم، فزادوا الجن فخرا في قومهم وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ يعني «حسب «6» » كفار الإنس الذين «تعوذوا «7» » برجال من الجن في الجاهلية كما حسبتم- يا معشر كفار الجن- أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً- 7- يعنى رسولا بعد عيسى بن مريم، وقالت الجن: وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً من الملائكة وَشُهُباً- 8- من الكواكب فهي
__________
(1) فى أ: «حرا» ، وفى ف: «جورا» .
(2) سورة ص: 22
(3) فى أ: «فأولئك» ، وفى ف: «فأول» .
(4) فى أ: «الأرض» ، وفى ف: «أرض» .
(5) كذا فى أ، ف، والمواد: «يقول الله- تعالى-» .
(6) فى أ: «حسبوا» ، وفى ف: «حسب» .
(7) فى أ: «تعوذون» ، وفى ف: «تعوذوا» .(4/462)
«تجرح «1» » «وتخيل «2» » ولا تقتل وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها يعني من السماء قبل أن يبعث محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-، وتحرس السماء مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ إلى السماء إذ بعث محمد- صلى الله عليه وسلم- يَجِدْ لَهُ شِهاباً يعنى رميا من الكواكب ورَصَداً- 9- من الملائكة، «وقالت الجن مؤمنوهم «3» » وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بإرسال محمد- صلى الله عليه وسلم- فيكذبونه فيهلكهم أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً- 10- يقول أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ يعنى دون المسلمين كافرين، فذلك قوله: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً- 11- يقول أهل ملل شتى، مؤمنين وكافرين ويهود ونصارى وَأَنَّا ظَنَنَّا يقول علمنا [212 أ] أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ يعني أن لن نسبق الله في الأرض «فنفوته «4» » وَلَنْ نُعْجِزَهُ يعني ولن نسبقه هَرَباً- 12- فنفوته ثم قال: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى يعني القرآن آمَنَّا بِهِ يقول صدقنا به أنه من الله- تعالى- فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فمن يصدق بتوحيد الله- عز وجل- فَلا يَخافُ في الآخرة بَخْساً يقول لن ينقص من حسناته شيئا، ثم قال:
وَلا يخاف «رَهَقاً» «5» - 13- يقول لا يخاف أن يظلم حسناته كلها حتى يجازى بعمله السيئ كله، مثل قوله- تعالى- « ... فَلا يَخافُ ظُلْماً» : «6»
__________
(1) فى أ: «تخرج» ، وفى ف: «تجرح» .
(2) فى أ: «وتحيل» ، وفى ف: «وتخيل» . [.....]
(3) كذا فى أ، ف، وكان الأنسب: «وقال مؤمنو الجن» .
(4) فى أ: «فيفوتونه» ، وفى ف: «فنفوته» .
(5) تفسيرها من ف، وهو فلق فى أ.
(6) التسعة من الجن الذين سبق ذكرهم.(4/463)
أن ينقص من حسناته كلها» ولا هضما «1» » أن يظلم من حسناته وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ يعني المخلصين، هذا قول التسعة وَمِنَّا الْقاسِطُونَ يعنى العادلين بالله وهم المودة فَمَنْ أَسْلَمَ يقول فمن أخلص لله- عز وجل- من كفار الجن فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً- 14- يعنى أخلصوا بالرشد، أَمَّا الْقاسِطُونَ
يعنى العادلين بالله كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
- 15- يعني وقودا فهذا كله قول مؤمني الجن التسعة، ثم رجع في التقديم إلى كفار مكة فقال: وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ يعنى طريقة الهدى لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً- 16- يعني كثيرا من السماء، وهو المطر، - بعد ما كان رفع عنهم المطر سبع سنين- فيكثر خيرهم لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ يقول لكي نبتليهم فيه بالخصب والخير، كقوله فى سورة الأعراف: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا» يقول صدقوا «وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ» يعني المطر «وَالْأَرْضِ ... «2» » يعني به النبات، ثم قال:
وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ القرآن يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً- 17- يعني شدة العذاب الذي لا راحة له فيه وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ يعني الكنائس والبيع والمساجد لله فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً- 18- وذلك أن اليهود والنصارى يشركون في صلاتهم في البيع والكنائس، فأمر الله المؤمنين أن يوحدوه، ثم رجع إلى مؤمني الجن التسعة فقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- يَدْعُوهُ يعني يعبده في بطن نخلة بين مكة والطائف
__________
(1) سورة طه: 112.
(2) سورة الأعراف: 96 وتمامها: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .(4/464)
كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً- 19- يقول كادوا أن يرتكبوه «1» حرصا على حفظ ما سمعوا من القرآن، تعجبا به، وهم الجن التسعة، ثم انقطع الكلام، قال- عز وجل-: «قُلْ «2» » إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي- صلى الله عليه وسلم- بمكة: إنك جئت بأمر عظيم لم نسمع مثله قط، وقد عاديت الناس كلهم، فارجع عن هذا الأمر فنحن تجيرك، فأنزل الله- تعالى- «قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي» وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً- 20- معه قُلْ لهم: يا محمد إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ [212 ب] ضَرًّا وَلا رَشَداً- 21- يقول لا أقدر على أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق إليكم رشدا، والله يملك ذلك كله قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ يعني يمنعني من الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً- 22- يعني ملجا ولا حرزا، ثم استثنى فقال:
إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ فذلك الذي يجيرني من عذابه، التبليغ لاستعجالهم «بالعذاب «3» »
فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً»
وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فى التوحيد فلا يؤمن به فَإِنَّ لَهُ «نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» «4» - 23-: يدخله نارا خالدا فيها، يعنى «معمورا «5» » فيها، لا يموتون، ثم انقطع الكلام، فقال: حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ من عذاب الآخرة، وما يوعدون من العذاب فى الدنيا يعنى القتل
__________
(1) كذا فى أ، ف، والمعنى أو شكوا أن يركبوا فوقه من شدة حرصهم على استماعه.
(2) فى أ: «قال» .
(3) فى أ: «العذاب» ، وفى ف: «بالعذاب» .
(4) فى أ، ف «يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها» ، وهو تحريف النص القرآن.
(5) فى أ، «مغمورا» ، وهو تصحيف، ومعنى «معمورا» يقضى فيها طول العمر من التعمير، قال- تعالى-: وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ.(4/465)
يبدو فَسَيَعْلَمُونَ يعني كفار مكة عند نزول العذاب ببدر، نظيرها فى سورة مريم «1» مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً كفار مكة أو المؤمنون وَمن أَقَلُّ عَدَداً- 24- يعني جندا أيقرب الله العذاب أم يؤخره، لما سمعوا الذكر يعني قول النبي- صلى الله عليه وسلم «2» - في العذاب يوم بدر، قام النضر بن الحارث وغيره فقالوا: يا محمد، متى هذا الذي تعدنا؟ تكذيبا به واستهزاء، يقول الله- تبارك وتعالى- لنبيه- صلى الله عليه وسلم- فى سورة الأنبياء «3» ، وفي هذه سورة قُلْ إِنْ أَدْرِي يعنى ما أدرى أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ من العذاب في الدنيا يعني القتل ببدر أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً- 25- يعني أجلا بعيدا يقول ما أدري أيقرب الله العذاب أو يؤخره، يعني بالأمد الأجل، القتل ببدر عالِمُ الْغَيْبِ يعني غيب نزول العذاب فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً- 26- من الناس، ثم استثنى فقال: إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ يعني رسل ربي فإنه يظهرهم على العذاب متى يكون، ومع جبريل- صلى الله عليه وسلم- أعوانا من الملائكة يحفظون الأنبياء حتى يفرغ جبريل من الوحي، قوله: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ يعني يجعل مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً- 27- قال: كان إذا بعث الله- عز وجل- نبيا أتاه إبليس على صورة جبريل، وبعث الله- تعالى- من بين يدي النبي- صلى الله عليه وسلم- ومن خلفه
__________
(1) سورة مريم: 75 وتمامها: «قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً» .
(2) فى أ: «لما سمعوا قول الذي» وهو تحريف قول النبي.
(3) سورة الأنبياء: 109، وتمامها فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ. [.....](4/466)
رصدا من الملائكة فلا يسمع الشيطان حتى يفرغ جبريل- عليه السلام- من الوحي إلى- صلى الله عليه وسلم- فإذا جاء إبليس أخبرته به الملائكة وقالوا: هذا إبليس، وإذا أتاه جبريل لِيَعْلَمَ الرسول أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ يقول ليعلم محمد- صلى الله عليه وسلم- أن الأنبياء قبله قد حفظت، وبلغت قومهم الرسالة، كما حفظ محمد- صلى الله عليه وسلم- وبلغ الرسالة، ثم قال: وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ يعنى بما عندهم [213 أ] وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً- 28- يعنى نزول العذاب بهم والله وأعلم.(4/467)
سورة المزّمل(4/469)
[سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)(4/471)
[سورة المزمل «1» ] سورة المزمل مكية عددها عشرون آية كوفى «2»
__________
(1) «معظم مقصود السورة» :
خطاب الانبساط مع سيد المرسلين، والأمر بقيام الليل، وبيان حجة التوحيد، والأمر بالصبر على جفاء الكفار، وتهديد الكافر بعذاب النار، وتشبيه رسالة المصطفى برسالة موسى» والتخويف بتهويل القيامة، والتسهيل والمسامحة فى قيام الليل، والحث على الصدقة والإحسان، والأمر بالاستغفار من الذنوب والعصيان فى قوله: « ... وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» سورة المزمل: 20.
(2) فى المصحف: (73) سورة المزمل مكية إلا الآيات 10، 11، 20 فمدنية وآياتها 20 نزلت بعد سورة القلم.(4/473)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ- 1- يعني الذي ضم عليه ثيابه، يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- خرج من البيت وقد ليس ثيابه، فناداه جبريل- عليه السلام-: «يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ» الذي قد تزمل بالثياب وقد ضمها عليه، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا- 2- نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا- 3- يقول انقص من النصف إلى ثلث الليل أَوْ زِدْ عَلَيْهِ يعني على النصف إلى الثلثين فخيره هذه الساعات، وكان هذا بمكة قبل صلوات الخمس، ثم قال: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا- 4- يقول ترسل به ترسلا على هينتك رويدا: يعنى- عز وجل- بينه تبيينا إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا- 5- يعني القرآن شديدا، لما في القرآن من الأمر والنهي والحدود والفرائض إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ يعني الليل كله والقراءة فيه هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً يعني مواطأة بعضا لبعض وَأَقْوَمُ قِيلًا- 6- بالليل وأثبت، لأنه فارغ القلب بالليل، وهو أفرغ منه بالنهار «1» إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا- 7- يعني فراغا طويلا لنومك ولحاجتك، وكانوا لا يصلون إلا بالليل حتى أنه كان الرجل يعلق نفسه بالليل، فشق القيام عليه بالليل وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ يعنى بالتوحيد والإخلاص وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا- 8- يعني وأخلص إليه إخلاصا في الدعاء والعبادة،
__________
(1) كذا فى أ، ف والمراد أن القلب أفرغ للعبادة بالليل.(4/475)
ثم عظم الرب نفسه فقال: رَبُّ الْمَشْرِقِ يعنى حيث تطلع الشمس وَرب الْمَغْرِبِ حيث تغرب الشمس قال ابن عباس: تطلع الشمس عند مدينة يقال لها «جابلقا» «1» لها ألف باب على كل باب منها «ألف حارس «2» » وهم الذين ذكرهم الله- تعالى- في كتابه فقال « ... تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً «3» » وتغرب عند مدينة يقال لها جابرسا لها ألف ألف باب على كل باب «ألف حارس» «4» فيتصايحون فرقا منها، فلولا صياحهم لسمعتم وجبتها إذا هي سقطت، ثم عظم الرب نفسه فقال: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا- 9- هو رب المشرق المغرب، يعني يوم يستوي فيه الليل والنهار، فذلك اليوم «اثنتا عشرة ساعة «5» » ، وتلك الليلة «اثنتا عشرة ساعة «6» » فمشرق ذلك اليوم «في برج «7» » الميزان ومغربه، «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ» فوحد الرب نفسه «فَاتَّخِذْهُ» [213 ب] «وكيلا» يقول اتخذ الرب وليا وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ من تكذيبهم إياه بالعذاب ومن الأذى وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا- 10- يعني اعتزلهم اعتزالا جميلا حسنا، نسختها آية السيف في براءة «8» وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ يقول خل بيني وبين بني المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم فإن لي فيهم نقمة
__________
(1) فى أ: «حاملفا» ، وفى ف: «جابلقا» .
(2) فى أ: «ألفى حرس» ، وفى ف: «ألف حارس» .
(3) سورة الكهف: 90، وتمامها: «حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً» .
(4) فى أ: «ألف حرس، وفى ف: «ألف حارس» .
(5) فى أ، ف: «اثنا عشر ساعة» والصواب ما أثبته.
(6) فى أ، ف: «اثنا عشر ساعة» والصواب ما أثبته.
(7) فى أ: «فى برج» ، وفى ف: «برج يسمى» .
(8) سورة التوبة: 5.(4/476)
ببدر «1» أُولِي النَّعْمَةِ في الغنى والخير وَمَهِّلْهُمْ هذا وعيد قَلِيلًا- 11- «حتى أهلكهم ببدر «2» » .
ثم قال: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا وَجَحِيماً- 12- فالأنكال عقوبة من ألوان العذاب، ثم ذكر العقوبة فقال: «وجحيما» يعني ما عظم من النار وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ يعنى بالغصة الزقوم وَعَذاباً أَلِيماً- 13- يعنى وجيعا موجعا يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ يعني تحرك الأرض وَالْجِبالُ من الخوف وَكانَتِ الْجِبالُ يعني وصارت الجبال بعد القوة والشدة كَثِيباً مَهِيلًا- 14- والمهيل الرمل الذي إذا حرك تبع بضعه بعضا إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ يا أهل مكة رَسُولًا يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- لأنه ولد فيهم فازدروه شاهِداً عَلَيْكُمْ أنه بلغكم الرسالة، وقد استخفوا به، وازدروه لأنه ولد فيها، كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا- 15- يعني موسى- عليه السلام- أي أنه كان ولد فيها فازدروه، فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا- 16- يعني شديدا وهو الغرق يخوف كفار مكة بالعذاب، أن لا يكذبوا محمدا- صلى الله عليه وسلم- فينزل بهم العذاب كما نزل بفرعون وقومه حين كذبوا موسى- عليه السلام- نظيرها في الدخان «3» فَكَيْفَ تَتَّقُونَ يعني وكيف لا يتقون عذاب يوم يجعل فيه الولدان شيبا، ويسكر الكبير من غير شراب، ويشيب الصغير من غير كبر من أهوال يوم القيامة إِنْ كَفَرْتُمْ
__________
(1، 2) من بدر الأولى إلى بدر الثانية، ساقط من أو هو من ف.
(3) سورة الدخان: 17- 24.(4/477)
فى الدنيا «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» «1» - 17- وذلك يوم يقول الله لآدم قم فابعث بعث النار: من كل ألف تسعمائة «وتسع «2» » وتسعين، وواحد إلى الجنة فيساقون إلى النار سود الوجوه زرق العيون مقرنين في الحديد فعند ذلك يسكر الكبير من الخوف، ويشيب الصغير من الفزع، وتضع الحوامل ما في بطونها من الفزع تماما «3» وغير تمام، ثم قال- عز وجل-: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ السقف به يعنى بالرحمن لنزول الرحمن- تبارك وتعالى «4» - «كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» «5» - 18- أن وعده مفعولا في البعث يقول إنه كائن لا بد إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ يعني آيات القرآن تذكرة يعني تفكرة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا- 19- يعني بالطاعة إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إلى الصلاة أَدْنى يعني أقل مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- «والمؤمنين «6» » كانوا يقومون في أول الإسلام من الليل نصفه وثلثه، وهذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس، [214 أ] فقاموا سنة فشق ذلك عليهم فنزلت الرخصة بعد ذلك عند السنة، فذلك قوله: «إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ» وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ من المؤمنين يقومون نصفه وثلث، ويقومون وينامون وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ يعني قيام ثلثي الليل الأول، ولا نصف الليل، ولا ثلث الليل، فَتابَ عَلَيْكُمْ يعني فتجاوز عنكم فى
__________
(1) «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» : ساقطة من أ، ومتقدمة على مكانها فى ف. [.....]
(2) فى أ: «تسعة» .
(3) كذا فى أ، ف، والمراد تام الحمل وغير تامه.
(4) هذا من تجسيم مقاتل المذموم، انظر مقاتل وعلم الكلام فى مقدمتي لهذا التفسير.
(5) «كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا» : ساقط من أ، ف
(6) فى أ، ف: «المؤمنون» .(4/478)
التخفيف بعد قوله: «قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا» . «وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ» فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عليكم في الصلاة عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى فلا يطيقون قيام الله وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ
تجارا يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ يعني يطلبون من فضل الله الرزق وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولا يطيقون قيام الليل فهذه رخصة من الله- عز وجل- لهم بعد التشديد، ثم قال: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ عليكم مِنْهُ يعني من القرآن فلم يوقت شيئا، في صلواتكم الخمس منه وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني وأتموا الصلوات الخمس وأعطوا الزكاة المفروضة من أموالكم، فنسخ قيام الليل على المؤمنين وثبت قيام الليل على النبي- صلى الله عليه وسلم- وكان بين أول هذه السورة وآخرها سنة حتى فرضت الصلوات الخمس، والزكاة، فهما واجبتان فذلك قوله: «وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ» وَآتُوا الزَّكاةَ يقول وأعطوا الزكاة من أموالكم وَأَقْرِضُوا اللَّهَ يعني التطوع قَرْضاً حَسَناً يعني بالحسن طيبة بها نفسه يحتسبها تطوعا بعد الفريضة، وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ يعني من صدقة فريضة كانت أو تطوعا يقول تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً ثوابا عند الله في التقديم، «هُوَ خَيْراً» ، وَأَعْظَمَ أَجْراً يقول أفضل مما أعطيتم من أموالكم وأعظم أجرا يعني وأكثر خيرا وأفضل خيرا في الآخرة وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ من الذنوب إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لكم عند الاستغفار إذا استغفرتموه رَحِيمٌ- 20- حين رخص لكم بالتوبة.(4/479)
سورة المدّثر(4/481)
[سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 56]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)
وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14)
ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19)
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24)
إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ مَا سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34)
إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39)
فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)
وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54)
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)(4/483)
[سورة المدثر «1» ] سورة المدثر مكية عددها «ست «2» » وخمسون آية كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
أمر النبي- صلى الله عليه وسلم- بدعوة الخلق إلى الإيمان وتقرير صعوبة القيامة على الكفار وأهل العصيان وبيان عدد زبانية جهنم، وأن كل واحد من الخلق وهن بالإساءة والإحسان، وملامة الكفار على إعراضهم عن الإيمان، وبيان أن الله- سبحانه- « ... هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ» سورة المدثر: 56.
(2) فى أ: «سنة» ، والصواب: «ست» .
(3) فى المصحف: (74) سورة المدثر مكية وآياتها 56 نزلت بعد سورة المزمل.(4/487)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ- 1- يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- وذلك
أن كفار مكة آذوه فانطلق إلى جبل حراء ليتوارى عنهم «1» فبينما هو يمشي، إذ سمع مناديا يقول: يا محمد. فنظر يمينا وشمالا وإلى السماء، فلم ير شيئا فمضى على وجهه، فنودي الثانية: يا محمد. فنظر يمينا وشمالا ومن خلفه فلم ير شيئا إلا السماء ففزع، وقال: لعل هذا شيطان يدعوني فمضى على وجهه [214 ب] فنودي في قفاه:
يا محمد، يا محمد، فنظر خلفه وعن يمينه وعن شماله ثم نظر إلى السماء، فرأى مثل السرير بين السماء والأرض «وعليه «2» » «دربوكة «3» » قد غظت الأفق، وعليه جبريل- عليه السلام- مثل النور المتوقد يتلألأ حتى كاد «أن»
» يغشى البصر، ففزع فزعا شديدًا، ثم وقع مغشيا عليه ولبث ساعة، ثم أفاق فقام يمشى وبه رعدة شديدة ورجلاه تصطكان راجعا حتى دخل على خديجة فدعا بماء فصبه عليه، فقال: دثروني فدثروه بقطيفة حتى استدفأ، فلما أفاق، قال: لقد
__________
(1) الثابت فى البخاري: (أول ما يدي. به- صلى الله عليه وسلم- من الوحى الرؤيا الصادقة فى النوم، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو بغار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد حتى فاجأه الوحى وهو بغار حراء) .
ومن الحديث نفهم أن الخلوة بغار حراء كانت التعبد لا التواري عن كفار مكة، ثم كيف يتوارى عن كفار مكة ولم يكن نزل عليه جبريل بالوحي بعد، وقد كان محببا إلى قومه قبل الرسالة؟
(2) فى أ، «وعليها» ، وفى ل: «وعليه» .
(3) كذا فى أ، ف، ولعل فيها تصحيفا.
(4) «أن» : ساقطة من أ، وهي من ل.(4/489)
أشققت على نفسي.
قالت له خديجة: أبشر فو الله لا يسوؤك الله أبدا لأنك تصدق الحديث، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الخير. فأتاه جبريل- عليه السلام- وهو متقنع بالقطيفة فقال: يأيها المتدثر بقطيفته، المتقنع فيها قُمْ فَأَنْذِرْ- 2- كفار مكة العذاب أن لم يوحدوا الله- تعالى- وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ- 3- يعني فعظم ولا تعظمن كفار مكة في نفسك فقام من مضجعه ذلك، فقال: الله أكبر كبيرا، فكبرت خديجة وخرجت وعلمت أنه قد أوحي إليه وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ- 4- يقول طهر بالتوبة من المعاصي وكانت العرب تقول للرجل إذا أذنب أنه دنس الثياب، وإذا توقى «1» قالوا: إنه لطاهر الثياب وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ- 5- يعني الأوثان، يساف ونائلة وهما صنمان عند البيت يمسح وجوههما من مر بهما من كفار مكة فأمر الله- تبارك وتعالى- النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يجتنبهما، - يعني بالرجز أوثان لا تتحرك بمنزلة الإبل- يعني داء يأخذها ذلك الداء فلا تتحرك من «وجع «2» » الرجز فشبه الآلهة «3» بها- ثم قال: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ- 6- يقول «ولا تعط «4» » عطية لتعطي أكثر من عطيتك وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ- 7- يعزي نبيه- صلى الله عليه وسلم- ليصبر على الأذى والتكذيب من كفار مكة فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ- 8- يعنى نفخ فى الصور، والناقور
__________
(1) أى جعل وقاية بينه وبين الذنوب.
(2) فى أ: «الوجع» . [.....]
(3) الجملة فلقة فى تركيبها، أما المعنى، فهو استعارة الرجز- وهودا. بصيب الإبل فيمنعها من الحركة للآلهة التي لا تتحرك.
(4) فى أ، «ولا تعطى» ، والصوب ما أثبت.(4/490)
القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل «1» وهو الصور، فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ- 9- يعني مشقته وشدته، ثم أخبر على من عسره فقال: عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ- 10- يعنى غير هين، ويهون ذلك على المؤمن كأدنى صلاته ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً- 11- يعني الوليد بن المغيرة المخزومي كان يسمى الوحيد في قومه، وذلك أن الله- عز وجل- أنزل على النبي- صلى الله عليه وسلم- «حم، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ «2» » .
فلما نزلت هذه الآية قام النبي- صلى الله عليه وسلم- في المسجد الحرام فقرأها والوليد [215 أ] ابن المغيرة قريبا منه يستمع إلى قراءته، فلما فطن- صلى الله عليه وسلم- أن الوليد بن المغيرة يستمع إلى قراءته أعاد النبي- صلى الله عليه وسلم- يقرأ هذه الآية «حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ» في ملكه، «الْعَلِيمِ» بخلقه، «غافِرِ الذَّنْبِ» لمن تاب من الشرك، «وَقابِلِ التَّوْبِ» لمن تاب من الشرك، «شَدِيدِ الْعِقابِ» لمن لم يتب من الشرك، «ذِي الطَّوْلِ» يعني ذي الغنى «عمن لم يوحد «3» » ، ثم وحد الرب نفسه حين لَمْ يوحده كفار مكة، فَقَالَ: «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ» يعني مصير الخلائق في الآخرة إليه فلما سمعها الوليد انطلق حتى أتى مجلس بني مخزوم فقال: والله، لقد سمعت من محمد كلاما آنفا ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن،
__________
(1) الجملة من ف، وفيها أخطاء فى أ.
(2) سورة غافر: 1، 3، 3.
(3) فى أ: «لمن لم يوحده» .(4/491)
وأن أسفله لمعرق، وأن أعلاه لمونق، وأن له لحلاوة، وأن عليه لطلاوة، وأنه ليعلو وما يعلى، ثم انصرف إلى منزله، فقالت قريش: لقد صبأ الوليد، والله، لئن صبأ لتصبون قريش كلها: وكان يقال للوليد ريحانة قريش، فقال أبو جهل:
أنا أكفيكموه، فانطلق أبو جهل حتى دخل على الوليد، فقعد إليه كشبه الحزين، فقال له الوليد: ما لي أراك يا بن أخي حزينا؟ فقال أبو جهل: ما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش «يجمعون «1» » لك نفقة ليعينوك على كبرك، ويزعمون أنك إنما زينت قول محمد لتصيب من فضل طعامه. فغضب الوليد عند ذلك، «وقال «2» » : أو ليس قد علمت قريش أني من أكثرهم مالا وولدا، وهل يشبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل؟ فقال أبو جهل: فإنهم يزعمون أنك إنما زينت قول محمد من أجل ذلك، فقام الوليد فانطلق مع أبي جهل، حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم، فقال: تزعمون أن محمدا «كاهن «3» » ، فهل «سمعتموه «4» » يخبر بما يكون في غد؟ قالوا: اللهم لا. قال: وتزعمون أن محمدا «شاعر «5» » فهل رأيتموه ينطق فيكم بشعر قط؟ قالوا: اللهم لا. قال: وتزعمون أن محمدا «كذاب «6» ، فهل رأيتموه يكذب فيكم قط؟ قالوا: اللهم لا.
وكان يسمى محمد- صلى الله عليه وسلم- قبل النبوة الأمين، فبرأه من هذه
__________
(1) «يجمعون» : كذا فى أ، ف: والأنسب «تجمع» .
(2) فى أ: «فقال» .
(3) فى أ: «كاهنا» ، وفى ف: «كاهن» .
(4) فى أ، ف: «سمعتم» والمروي فى كتب السيرة: «سمعتموه» .
(5) فى أ: «شاعرا» ، والصواب: «شاعر» .
(6) فى أ: «كذابا» ، وفى ف: «كذاب» .(4/492)
المقالة كلها، فقالت قريش وما هو، يا أبا المغيرة؟ فتفكر في نفسه ما يقول «عن محمد «1» » - صلى الله عليه وسلم- ثم نظر فيما يقول «عنه «2» » ، ثم عبس وجهه، ويسر يعني وكلح، فذلك قوله- عز وجل-: «إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ» ، ما يقول لمحمد، فقدر له السحر، يقول الله- تبارك وتعالى-: «فَقُتِلَ» يعنى لعن «كَيْفَ قَدَّرَ» لمحمد- صلى الله عليه وسلم- السحر، «ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ» ، يقول ثم كلح «وَبَسَرَ» يعنى [215 ب] وتغير لونه يعنى أعرض عن الإيمان «وَاسْتَكْبَرَ عنه فَقالَ الوليد لقومه: إِنْ هذا الذي يقول محمد) «3» «إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» «فقال «4» » له قومه وما السحر يا أبا المغيرة؟ وفرحوا فقال: شيء يكون ببابل إذا تعلمه الإنسان يفرق بين الاثنين ومحمد «يأثره «5» » ولما يحذقه بعد وأيم الله، لقد أصاب فيه حاجته أما رأيتموه فرق بين فلان وبين أهله وبين فلان وبين «أبيه «6» » ، وبين فلان وبين أخيه، وبين فلان وبين مولاه، فهذا الذي يقول محمد سحر يؤثر عن مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب يقول يرويه عنه فذلك قوله: «إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ» يقول إن هذا الذي يقول محمد إلا قول البشر. قال الوليد بن المغيرة «عن يسار أبي فكيهة هو الذي يأتيه به من مسيلمة «7» » الكذاب فجعل الله له سقر وهو الباب الخامس من جهنم، فلما قال ذلك
__________
(1) فى أ: «لمحمد» .
(2) فى أ: «له» .
(3) ما بين الأقواس (.....) من ف، وليس فى أ. [.....]
(4) فى أ: «يقول» .
(5) المعنى يرويه وينبع أثاره.
(6) فى أ: «أهله» ، وفى ف: «أبيه» .
(7) فى أ: «ليسار أبى فكيهة هو الذي يأتيه به مسيلمة» ، والجملة مثبتة من ف.(4/493)
الوليد شق ذلك على النبي- صلى الله عليه وسلم- ما لم يشق عليه فيما قذف بغيره من الكذب فأنزل الله- تعالى- على نبيه- صلى الله عليه وسلم- يعزيه ليصبر على تكذيبهم، فقال: يا محمد «كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ «1» » وأنزل في الوليد بن المغيرة «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً» يقول خل بيني يا محمد وبين من خلقت وحيدا يقول حين لم يكن له مال ولا بنون، يعني خل بيني وبينه، فأنا أتفرد بهلاكه، وأما الوليد، يعني خلقته وحده ليس له شيء، يقول- عز وجل- فأعطيته المال والولد، فذلك قوله: وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُوداً- 12- يعني بالمال بستانه الذي له بالطائف، والممدود الذي لا يتقطع خيره شتاء ولا صيفا، كقوله: «وَظِلٍّ مَمْدُودٍ «2» » يعني لا ينقطع وَبَنِينَ شُهُوداً- 13- يعني حضورا لا يغيبون أبدا عنه في تجارة ولا غيرها لكثرة أموالهم بمكة وكلهم رجال منهم الوليد بن الوليد، وخالد بن الوليد، - وهو سيف الله أسلم بعد ذلك- وعمارة بن الوليد، وهشام بن الوليد» والعاص بن الوليد، وقيس بن الوليد، وعبد شمس بن الوليد، ثم قال: وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً- 14- يقول بسطت له في المال والولد والخير بسطا ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ- 15- يقول ثم يرجو أن أزيده فى ماله وولده كَلَّا لا أزيده بل أقطع ذلك عنه وأهلكه، ثم منعه الله المال فلم يعطه شيئا حتى افتقر وسأل الناس فأهلكه الله- تعالى- ومات فقيرا، «في المستهزئين «3» » ، ثم نعت عمله الخبيث فقال:
__________
(1) سورة الذاريات: 52، وقد وردت بالأصل: «وما أرسلنا قبلك مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» .
(2) سورة الواقعة: 30.
(3) «فى المستهزئين» : كذا فى أ، ف.(4/494)
إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً- 16- يعني كان «عن «1» » آيات القرآن معرضا مجانبا له لا يؤمن بالقرآن، ثم أخبر الله- تعالى- ما يصنع به في الآخرة، فقال: سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً 17-[216 أ] يعني سأكلفه أن يصعد على صخرة من النار ملساء في الباب الخامس، واسم ذلك الباب سقر، في تلك الصخرة كوى تخرج منها ريح وهي ريح حارة وهي التي ذكر الله- تعالى- « ... (عَذابَ) «2» السَّمُومِ «3» » فإذا أصابته تلك الريح تناثر لحمه يقول الله- جل وعز-: «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» يقول سأغشي وجهه تلك الصخرة وهي جبل من نار طوله مسيرة سبعين سنة، ويصعد به فيها على وجهه فإذا بلغ الكافر «أعلاها «4» » انحط إلى أسفلها، ثم يكلف أيضا صعودها، ويخرج إليه من كوى تلك الصخرة ريح باردة من فوقها ومن تحتها تقطع تلك «الريح «5» » لحمه وجلدة وجهه، فكلما أصعد أصابته تلك الريح وإذا انحط، «حتى ينتثر اللحم من العظم «6» » ، ثم يشرب من عين آنية، «التي «7» » قد انتهى حرها فهذا دأبه أبدا، ثم قال يعني الوليد بن المغيرة إِنَّهُ فَكَّرَ فِي أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فزعم أنه ساحر، وقال مثل ما قال في التقديم وَقَدَّرَ- 18- في قوله: إن محمدا يفرق بين الاثنين فَقُتِلَ يقول فلعن كَيْفَ قَدَّرَ- 19- السحر ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ- 20-
__________
(1) «عن» : زيادة اقتضاها السباق.
(2) فى أ: «ريح» ، وفى ف: «عذاب» .
(3) سورة الطور: 27، وتمامها: «فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ» .
(4) فى أ، ف: «إعلاء» .
(5) «الريح» : ساقطة من أ.
(6) فى أ، «حتى ينتثر العظم من اللحم» ، وفى ف: «حتى ينتثر اللحم من العظم» .
(7) فى أ: «الذي» ، وفى ف: «التي» . [.....](4/495)
يعنى ثم لعن لم كيف قدر السحر ثُمَّ نَظَرَ- 21- فيما يقول لمحمد- صلى الله عليه وسلم- من السحر ثُمَّ عَبَسَ وجهه يعنى كلح كقوله: «عَبَسَ وَتَوَلَّى «1» » يعنى كلح فى وجه ابن أم مكتوم وَبَسَرَ- 22- يعني وتغير لون وجهه «ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ- 23- فَقالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ- 24- إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ» »
- 25- سَأُصْلِيهِ سَقَرَ- 26- يعني الباب الخامس من جهنم، ثم قال: وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ- 27-، ثم أخبر الله عنها تعظيما لها، لشدتها ليعذبه «3» بها فقال: لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ- 28- يعني لا تبقى النار إذا «رأتهم «4» » حتى تأكلهم ولا تذرهم «إذا حلفوا «5» » لها حتى تواقعهم لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ- 29- محرقة للخلق عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ- 30- يقول في النار من الملائكة تسعة عشر خزنتها يعنى مالكا ومن معه ثمانية عشر ملكا أعينهم كالبرق الخاطف. وأنيابهم كالصياصي، يعني مثل قرون البقر وأشعارهم تمس أقدامهم يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سبعين سنة يسع كف أحدهم مثل ربيعة ومضر، قد نزعت منهم الرأفة والرحمة غضابا يدفع أحدهم سبعين ألفا فيلقيهم حيث أراد من جهنم، فيهوى أحدهم في جهنم مسيرة أربعين سنة، لا تضرهم النار لأن نورهم أشد
__________
(1) سورة عبس: 1، وتسمى أيضا سورة الأعمى.
(2) الآيات 23، 24، 25، ساقطة من أ، ف، وقد سبق أن ورد تفسيرها فى أثناء الكلام عن تفسير الآية ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً: 11، وفى أ، ف تفسير «ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ» : 22 وأتبعاها بقولهما ... حتى انتهى إلى قوله «سَأُصْلِيهِ سَقَرَ» : 26.
(3) كذا فى أ، ف.
(4) فى أ، ف: «رأتهم» ، وفى ل: «واقعتهم» .
(5) فى أ، ف: «إذا خلقوا» ، وفى ل: «إذا حلفوا» .(4/496)
من حر النار، «ولولا «1» ذلك» لم يطيقوا دخول النار طرفة عين فلما قال الله:
عليها تسعة عشر قال أبو جهل ابن هشام: يا معشر قريش، ما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر، ويزعم أنهم خزنة جهنم يخوفكم [216 ب] بتسعة عشر وأنتم «ألدهم «2» » أيعجز كل مائة منكم أن تبطش بواحد منهم، «فيخرجوا «3» » منها.
وقال أبو الأشدين اسمه أسيد بن «كلدة «4» » ابن خلف الجمحي: أنا أكفيكم سبعة عشر، أحمل منهم عشرة على ظهري، وسبعة على صدري، واكفوني منهم اثنين، وكان شديدا فسمي أبا الأشدين لشدته «بدلك «5» » سمى وكنيته أبو الأعور، قال الله- تعالى-: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً يعنى خزان النار وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ يعنى قلتهم إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا حين قال أبو الأشدين وأبو جهل ما قالا فأنزل الله- تعالى- في قول أبي جهل: ما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر، «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ»
يقول ما يعلم كثرتهم أحد إلا الله وأنزل الله في قول أبي الأشدين: أنا أكفيكم منهم سبعة عشر،: « ... عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ «6» ... » «وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً» يعنى خزان النار «وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ» يعنى قلتهم «إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» يعني أبا جهل وأبا الأشدين والمستهزئين من قريش، لِيَسْتَيْقِنَ لكي يستيقن الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يقول ليعلم «مؤمنو «7» » أهل التوراة أن
__________
(1) فى أ: «لولا» .
(2) «ألدهم» : كذا فى أ، ف
(3) فى أ: «فيخرجوا» ، وفى ف: «فيخرجون» .
(4) فى أ: «كلام» ، وفى ف: «كلده» .
(5) فى أ: «لذلك» ، وفى ف: بذلك» .
(6) سورة التحريم: 6.
(7) فى أ: «مؤمنى» ، وفى ف «مؤمنو» .
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 32.(4/497)
الذي قال محمد- صلى الله عليه وسلم- حق، لأن عدة خزان جهنم في التوراة تسعة عشر وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً يعني تصديقا ولا يشكوا في محمد- صلى الله عليه وسلم- بما جاء به وَلا يَرْتابَ يقول ولكي لا يرتاب يعني لكي لا يشك يقول لئلا يشك الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى أهل التوراة وَلا يشك الْمُؤْمِنُونَ أن خزنة جهنم تسعة عشر وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني الشك وهم اليهود من أهل المدينة وَالْكافِرُونَ من أهل مكة يعني مشركي العرب ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا يعنى ذكره عدة خزنة جنهم، يستقلونهم، يقول الله- عز وجل-: كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ بهذا المثل مَنْ يَشاءُ عن دينه وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى دينه وأنزل في قول أبي جهل، وأبي الأشدين ما لمحمد من الجنود إلا تسعة عشر، فقال الله- تعالى-: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ من الكثرة حين استقلوهم فقال أبو جهل لقريش أيعجز ... مثل ما قال في التقديم «1» .
وقالوا ما قالوا، ثم رجع إلى سقر «2» ، فقال: وَما هِيَ يعني سقر إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ- 31- يعنى سقر تذكر وتفكر للعالم، ثم أقسم الرب من أجل سقر فقال: كَلَّا وَالْقَمَرِ- 32- وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ «3» - 33- يعني إذا ذهبت «4» ظلمته وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ- 34- يعني ضوءه عن ظلمة الليل إِنَّها إن سقر لَإِحْدَى الْكُبَرِ- 35- من أبواب جهنم السبعة: جهنم
__________
(1) أى فيما تقدم حيث قال، أيعجز كل مائة منكم أن تبطش بواحد منهم.
(2) أى إلى الحديث عن سقر، وفى أ، زيادة «فيها تقديم، أى تقدم الحديث عنها» . [.....]
(3) فى أ، «إذا» ، وفى المصحف: «إذ» .
(4) فى أ: «ذهب» ، والأنسب: «ذهبت» .(4/498)
ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر [217 أ] والجحيم، والهاوية نَذِيراً يعني تذكرة لِلْبَشَرِ- 36- يعني للعالمين لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ في الخير أَوْ يَتَأَخَّرَ- 37- منه إلى المعصية هذا تهديد، كقوله « ... فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «1» ... » ، وكقوله « ... اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «2» ... » كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ- 38- يقول كل كافر مرتهن بذنوبه في النار، ثم استثنى فقال: إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ- 39- الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم ولا يرتهنون بذنوبهم في النار، ثم هم: فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ- 40- عَنِ الْمُجْرِمِينَ- 41- فلما أخرج الله أهل التوحيد من النار، قال المؤمنون لمن بقي في النار: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ- 42- يعني ما جعلكم في سقر يعني ما حبسكم في النار فأجابهم أهل النار عن أنفسهم ف قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ- 43- في الدنيا لله وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ- 44- فى الدنيا وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ- 45- في الدنيا في الباطل والتكذيب «كما يخوض «3» » كفار مكة وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ- 46- يعنى بيوم الحساب أنه غير كائن حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ- 47- يعنى الموت بقول الله- تعالى-:
فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ- 48- يعني لا ينالهم يومئذ شفاعة الملائكة والنبيين، فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ- 49- عن التذكرة يعني عن القرآن معرضين، نزلت هذه الآية في كفار قريش حين أعرضوا ولم
__________
(1) سورة الكهف: 29.
(2) سورة فصلت: 40 وتمامها، «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» .
(3) فى أ: «كما عرص» ، وفى ف: «كما يخوص» .(4/499)
يؤمنوا، ثم شبههم بالحمر الوحشية المذعورة، فقال: كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ- 50- بتركهم القرآن إذا سمعوه فروا منه مثل الحمر فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ- 51- يعني الرماة «وقالوا «1» » الأسد بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى يقول يعطى صُحُفاً مُنَشَّرَةً- 52- فيها كتاب من الله- تعالى-، وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي- صلى الله عليه وسلم-، كان الرجل من بني إسرائيل ذنبه وكفارة ذنبه «يصبح مكتوبا عند «2» رأسه» ، فهلا ترينا مثل هؤلاء الآيات إن كنت رسولا كما تزعم، فقال جبريل: إن شئت فعلنا بهم كفعلنا بنى إسرائيل، وأخذناهم بما أخذنا «به «3» » بني إسرائيل، فكره النبي- صلى الله عليه وسلم-، وقالوا: ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله بأن آلهتنا باطل، وأن الإله الذي في السماء حق، وأنك رسول، وأن الذي جئت به حق، وتجيء معك بملائكة يشهدون بذلك كقول بن أبى أمية فى سورة بني إسرائيل «4» يقول الله- تبارك وتعالى-: كَلَّا لا يؤمنون بالصحف التي أرادوها، ثم استأنف فقال: بَلْ لكن لا يَخافُونَ عذاب
__________
(1) فى أ: «وقل» ، وفى ف: «وقالوا» .
(2) «يصبح» : ساقطة من أ، وفى ف: «يصبح وكفارة ذنبه مكتوبا عند رأسه» .
(3) «به» : ليست فى أ، ولا فى ف.
(4) يشير إلى الآيات 90، 91، 92، 93 من سورة الإسراء وهي:
«وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً، أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً، أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا» .(4/500)
الْآخِرَةَ- 53- كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ- 54- يعنى القرآن فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ- 55- يعنى فهمه يعنى القرآن، ثم قال [217 ب] : وَما يَذْكُرُونَ يعنى وما يهتدون إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ- 56- يعني الرب- تبارك وتعالى- نفسه، يقول هو أهل أن يتقى ولا يعصى، وهو أهل المغفرة لمن ينوب من المعاصي.(4/501)
سورة القيامة(4/503)
[سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 40]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)
بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19)
كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24)
تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)
إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34)
ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39)
أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)(4/505)
[سورة القيامة «1» ] «سورة القيامة» مكية عددها أربعون آية كوفى «2» .
__________
(1) مقصود السورة:
بيان هول القيامة، وهيبتها، وبيان إثبات البعث وتأثير القيامة فى أعيان العالم، وبيان جزاء الأعمال، وآداب سماع الوحى والوعد باللقاء والرؤية والخير عن حال السكرة، والرجوع إلى بيان برهان القيامة، وتقرير القدرة على بعث الأموات فى قوله: «أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى» سورة القيامة 40.
(2) فى المصحف: (75) سورة القيامة مكية وآياتها 40 نزلت بعد سورة القارعة.(4/507)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ما أقسم الله بالكافرين في القرآن في غير هذه السورة قوله- تعالى- لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ- 1- نظيرها «وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ «1» » .
قال وكان أهل الجاهلية، إذا أراد الرجل أن يقسم قال: «لا أقسم» وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ «2» اللَّوَّامَةِ- 2- يقول «أقسم «3» » بالنفس الكافرة التي تلوم نفسها في الآخرة، فتقول « ... يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي «4» » ، « ... يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «5» » يعني في أمر الله في الدنيا أَيَحْسَبُ هذا الْإِنْسانُ يعني عدي بن ربيعة بن أبي سلمة ختن الأخنس بن شريق وكان حليفا لبني زهرة فكفر بالبعث، وذلك
أنه أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا محمد حدثني عن يوم القيامة متى يكون؟ وكيف أمرها وحالها؟
فأخبره النبي- صلى الله عليه وسلم- بذلك. فقال: لو عاينت ذلك اليوم سأومن بك، ثم «قال «6» » : يا محمد، أو يجمع الله العظام يوم القيامة؟ قال: نعم.
__________
(1) سورة البروج: 2.
(2) هناك اضطراب شديد فى أ، ف، ل فى الجزء السابق من سورة القيامة وقد لجأت إلى طريقة النص المختار فى تحقيق هذه السورة.
(3) فى أ، ف: «لا أقسم» ، وفى ل: «أقسم» . [.....]
(4) سورة الفجر: 24.
(5) سورة الزمر: 56.
(6) فى أ: «فقال» .(4/509)
فاستهزأ منه، فأنزل الله- جل وعز- «لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ..
أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ» أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ- 3- يقول أن لن نبعثه من بعد الموت، فأقسم الله- تعالى- أن يبعثه كما كان، ثم قال: بَلى قادِرِينَ يعني كنا قادرين عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ- 4- يعني أصابعه، يعني على أن نلحق الأصابع بالراحة ونسويه حتى نجعله مثل خف البعير فلا ينتفع بها كما لا ينتفع البعير بها ما كان حيا، نزلت هذه الآية في عدي بن ربيعة والأخنس بن شريق، ثم قال: بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ يعني عدي بن ربيعة لِيَفْجُرَ أَمامَهُ- 5- يعني تقديم المعصية وتأخير التوبة يوما بيوم يقول سأتوب، حتى يموت على شر عمله، وقد أهلك أمامه يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ- 6- يعني يسأل عدي متى يوم القيامة؟ تكذيبا بها فأخبر الله- تعالى- عن ذلك اليوم فقال: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ- 7- يقول إذا شخص البصر فلا يطرف مما يرى من العجائب «التي يراها «1» » مما كان يكفر بها في الدنيا «أنه «2» » غير كائن مثلها فى سورة «ق والقرآن المجيد «3» » [218 أ] وَخَسَفَ الْقَمَرُ- 8- فذهب ضوءه وَجُمِعَ بين الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ- 9- «كالبقرتين المقرونتين» «4» يوم القيامة قياما بين يدي «الخلائق «5» » ، ثم ذكر «فقال «6» » يَقُولُ هذا الْإِنْسانُ المكذب
__________
(1) فى أ، ف: «الذي يرى» .
(2) كذا فى أ، ف، والمراد: أن البعث.
(3) سورة ق 22 وتمامها: «لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» .
(4) فى أ: «كالبقرتين المقرونتين» ، وفى ف: «كالبعيرين المقرونين» .
(5) فى أ: «الخالق» ، وفى ف: «الخلائق» .
(6) كذا فى أ، ف: «ولعل فيها مفعولا محذوفا تقديره ثم ذكر المكذب فقال، أو يكون أصلها ثم ذكر فقال» .(4/510)
بيوم القيامة يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ- 10- يعني أين المهرب حتى أحرز نفسي يقول الله- تبارك وتعالى-: كَلَّا لا وَزَرَ- 11- يعني لا جبل «يحرزك «1» » ويسمى حمير الجبل وزر. ثم استأنف فقال: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ
- 12- يعني المنتهى يومئذ إلى الله- عز وجل- لا تجد عنه مرحلا يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ
لآخرته، ثم قال:
وَما أَخَّرَ
- 13- من خير أو شر بعد موته في دنياه، فاستن بها قوم بعده يقول الله- تعالى-:
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
- 14- وذلك حين كتمت الألسن فى سورة الأنعام «2» وختم الله عليها في سورة «يس والقرآن الحكيم» ، فقال:
«الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ ... «3» » فنطقت الجوارح وشهدت على الألسن بالشرك فى هذه السورة، فلا شاهد أفضل من نفسك، فذلك قوله- تبارك وتعالى-: «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ»
يعني جسده وجوارحه شاهدة عليه بعمله فذلك قوله- تبارك وتعالى-: « ... كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً «4» » يعنى شاهدا، ثم
__________
(1) فى أ: «يحوزك» .
(2) عله يشير إلى الآية 125 وتمامها: «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» أو الآية 158 من سورة الأنعام وتمامها «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ»
(3) سورة يس: 65 وتمامها: «الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ» .
(4) سورة الإسراء: 14 وتمامها: «اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً» .(4/511)
قال وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ
- 15- ولو أدلى بحجته لم تنفعه وكان جسده عليه شاهدا، لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
- 16- إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ
فى قلبك يا محمد وَقُرْآنَهُ
- 17- حتى نقريكه حتى تعلمه وتحفظه في قلبك فَإِذا قَرَأْناهُ
يقول فإذا تلوناه عليك يقول إذا تلا عليك جبريل- صلى الله عليه وسلم- فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ
- 18- يقول فاتبع ما فيه، وذلك أن جبريل كان يأتي النبي- صلى الله عليه وسلم- بالوحي فإذا قرأه عليه، تلاه النبي- صلى الله عليه وسلم- قبل أن يفرغ جبريل من الوحي مخافة أن لا يحفظه فقال الله- تعالى- «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ»
بتلاوته قبل أن يفرغ جبريل- صلى الله عليه- «لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ»
فى قلبك «وَقُرْآنَهُ»
عليك يعني نقريكه حتى تحفظه «1» ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ- 19- يعني أن نبين لك حلاله وحرامه، كما قال الله- تعالى «2» -: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى «3» » - يقول الله- تعالى- فى هذه السورة كَلَّا بَلْ «لا تزكون «4» » ولا تصلون وتُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ- 20- يعني كفار مكة، تحبون الدنيا وَتَذَرُونَ عمل الْآخِرَةَ- 21- يقول تختارون الحياة الدنيا على الآخرة فلا تطلبونها نظيرها في «هَلْ أَتَى على الإنسان» «تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ «5» » ثم قال:
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ- 22- يعنى «الحسن والبياض «6» » ويعلوه النور
__________
(1) الجملة قلقة فى أ، ف، وهي متصيدة منهما. [.....]
(2) فى أ: كما قال الله- تعالى-: قَدْ أَفْلَحَ.
(3) سورة الأعلى: 14، 15.
(4) فى أ: «تزكون» ، وفى ف: «لا تزكون» .
(5) النص فى سورة القيامة، 20، 21، وليس فى سورة «هل أتى على الإنسان» .
(6) كذا فى أ، ف، والأنسب «بالحسن والبياض» .(4/512)
إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ- 23- يعني ينظرون إلى الله- تعالى- معاينة، ثم قال- جل وعز-[218 ب] : وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ- 24- يعني متغيرة اللون تَظُنُّ يقول تعلم أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ- 25- يقول يفعل بها شر كَلَّا لا يؤمن بما ذكر في أمر القيامة، ثم قال: إِذا بَلَغَتِ الأنفس التَّراقِيَ- 26- يعني الحلقوم وَقِيلَ مَنْ راقٍ
- 27- وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ- 28- يعني وعلم أنه قد يفارق الدنيا وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ- 29- يعني التف أمر الدنيا بالآخرة فصار واحدا كلاهما، ثم قال: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ- 30- يعني النهاية إلى الله في الآخرة ليس عنها مرحل، ثم قال: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى- 31- يقول فلا صدق أبو جهل بالقرآن ولا صلى لله- تعالى- وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى- 32- يقول ولكن كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان يقول أعرض عن الإيمان ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى- 33- يقول يتبختر، وكذلك بنو المغيرة بن عبد الله بن عمر المخزومي إذا مشى أحدهم يختال في المشي أَوْلى لَكَ فَأَوْلى - 34- ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى - 35- يعني وعيدا على أثر وعيد وذلك
أن أبا جهل تهدد النبي- صلى الله عليه وسلم- بالقتل وأن النبي- صلى الله عليه وسلم- أخذ تلابيب أبي جهل بالبطحاء فدفع في صدره، فقال: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى، ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى»
يعني أبا جهل حين تهدد النبي- صلى الله عليه وسلم- بالقتل، فقال أبو جهل: إليك عني فإنك لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا، لقد علمت قريش أني أعز أهل البطحاء وأكرمها، فبأي ذلك تخوفني يا بن أبي كبشة، ثم انسل ذاهبا إلى منزله، فذلك قوله: «ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى» تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 33(4/513)
في التقديم «1» ، ثم قال: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً- 36- يعني مهملا لا يحاسب بعمله يعني أبا جهل إلى آخر السورة «2» ، ثم قال: أَلَمْ يَكُ هذا الإنسان نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ «يُمْنى»
«3» - 37- ثُمَّ كانَ بعد النطفة عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى- 38- الله خلقه فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى «4» - 39- أَلَيْسَ ذلِكَ يعني أما ذلك بِقادِرٍ الذي بدأ خلق هذا الإنسان عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى - 40- يعنى بقادر على البعث بعد الموت.
__________
(1) أى المتقدم ذكره.
(2) الآيات التالية إلى آخر السورة تعنى أبا جهل.
(3) فى أ: «تمنى» .
(4) من حاشية أ، وليست فى أ.(4/514)
سورة الإنسان(4/515)
[سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 31]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4)
إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9)
إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14)
وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19)
وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هَذَا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)
وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29)
وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)(4/517)
[سورة الإنسان «1» ] سورة الإنسان مكية «عددها إحدى وثلاثون آية» «2» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان مدة خلقة آدم، وهداية الخلق لمصالحهم وذكر ثواب الأبرار، فى دار القرار، وذكر الله على الرسول- صلى الله عليه وسلم- وأمره بالصبر، وقيام الليل، والمنة على الخلق بأحكام خلقهم، وإضافة كلية المشية إلى الله، فى قوله: «يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ ... » .
سورة الإنسان: 31.
(2) فى أ: «عددها أحد عشر آية» وهو خطأ، ولم يذكر عدد الآيات فى ف.
وفى المصحف: (76) سورة الإنسان مدنية وآياتها 31 نزلت بعد سورة الرحمن.
وللسورة ثلاثة أسماء: «هل أتى ... » ، لمفتتحها بها.
وسورة الإنسان، لقوله: «عَلَى الْإِنْسانِ» .
وسورة الدهر، لقوله: «حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ» .(4/519)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ يعني قد أتى على الإنسان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً- 1- يعني به آدم لا يذكر، وذلك أن الله خلق السموات وأهلها، والأرض وما فيها من الجن قبل أن يخلق آدم- عليه السلام-، بواحد وعشرين ألف سنة وهي ثلاثة أسباع «1»
، فكانوا لا يعرفون آدم، ولا يذكرونه «وكان «2»
» سكان الأرض من الجن زمانا ودهرا [219 أ] ثم إنهم عصوا الله- تعالى- «وضر «3»
» بعضهم بعضا فأرسل الله عليهم قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن وإبليس فيهم، وكان اسم إبليس الحارث أرسلهم الله على الجن فطردوهم حتى أخرجوهم من الأرض إلى الظلمة خلف الحجاب وهو جبل تغيب الشمس خلفه، وفي أصله، وفيما بين ذلك الجبل وبين جبل قاف مسيرة سنة كلها ظلمة وماء قائم، ثم إن إبليس وجنده طهروا الأرض «وعبدوه «4»
» زمانا فلما أراد الله- تعالى- أن يخلق آدم- صلى الله عليه-، أوحى إليهم أني جاعل في الأرض خليفة يعبدونني، ويطهرون لي الأرض، فردوا إلى الله قوله، وإبليس منهم: فقالوا ربنا أتجعل فيها من يفسد فيها يعني من يعصي فيها، ويسفك الدماء كفعل الجن، لا أنهم علموا الغيب: ولكن قالوا ما عرفوا عن
__________
(1) المعنى أن 7 7 7 21
(2) فى أ: «فكان» ، والأنسب: «وكان» .
(3) فى أ: «وصف» ، وفى ف: «ويضرب» ، وفى ل: «وضرب» . [.....]
(4) «وعبدوه» : كذا فى أ، ف، والضمير عائد على الله- سبحانه وتعالى-.(4/521)
الجن الذين عصوا ربهم، وقالوا نحن نسبح بحمدك ونقدس لك، يعنى ونطهر لك الأرض، فأوحى الله إليهم أني أعلم ما لا تعلمون. ثم إن الله- تبارك وتعالى- قال- يا جبريل- ائتني بطين فهبط جبريل- عليه السلام- إلى الأرض فأخذ ترابا من تحت الكعبة «وهو أديم «1»
» الأرض وصب عليه الماء فتركه زمانا حتى أنتن الطين فصار فوقها طين حر، وأسفلها حمأة.
حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ عَنْ مُقَاتِلٍ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: مَا كَانَ مِنَ الْحُرِّ مِنْهَا فَهُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ: وَمَا كَانَ مِنَ الْحَمْأَةِ فَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الشِّمَالِ،
وذلك أن امرأ القيس بن عابس الكتمي، ومالك بن الضيف اليهودي اختصما بين يدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في أمر آدم- عليه السلام- وخلقه، فقال مالك بن الضيف: إنما نجد في التوراة أن الله خلق آدم حين خلق السموات والأرض، فأنزل الله- عز وجل- يكذب مالك بن الضيف اليهودي فقال: «هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ» يعني واحدا وعشرين ألف سنة، وهي ثلاثة أسباع، بعد خلق السموات والأرض «لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً» يذكر: ثم «خلق «2»
» ذريته فقال: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ يعني ماء مختلطا وهو ماء الرجل وماء المرأة فإذا اختلطا فذلك المشج، فماء الرجل غليظ أبيض فمنه العصب والعظم والقوة، ونطفة المرأة صفراء رقيقة «فمنها «3»
» اللحم والدم والشعر والظفر فيختلطان فذلك الأمشاج، فيها تقديم،
__________
(1) فى أ: «وهي أدام» ، وفى ف: «وهو أديم»
(2) فى أ: «خلق» ، وفى ف: «ذكر»
(3) فى أ: «فمنه» ، وفى ف: «فمنها»(4/522)
يقول جعلناه سميعا بصيرا لنبتليه «1»
، ثم قال: فَجَعَلْناهُ بعد النطفة سَمِيعاً بَصِيراً- 2- لنبتليه بالعمل أي «2»
جعلناه نطفة، علقة، مضغة، ثم صار إنسانا بعد ماء ودم «فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً» من بعد ما كان نطفة ميتة، «ثم قال «3»
» :
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ يعنى سهيل الضلالة والهدى إِمَّا أن يكون شاكِراً يعني موحدا في حسن خلقه لله- تعالى- وَإِمَّا كَفُوراً- 3- فلا يوحده «وأيضا إما شاكرا لله في حسن خلقه «وَإِمَّا كَفُوراً» بجعل «هده «4»
» النعم لغير الله «5»
» ثم ذكر مستقر من أحسن خلقه، ثم كفر به وعبد غيره، فقال:
إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ في الآخرة يعني يسرنا للكافرين يعني لمن كفر بنعم الله- تعالى- سَلاسِلَ يعنى كل سلسلة طولها سبعون ذراعا بذراع الرجل الطويل من الخلق الأول.
«حَدَّثَنِي «6» أَبِي» رَحِمَهُ اللَّهُ- قَالَ: حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ عَنْ مُقَاتِلٍ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- عَلَيْهِ السَّلامُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: لَوْ أَنَّ حَلْقَةً مِنْ سَلاسِلِ جَهَنَّمَ وُضِعَتْ عَلَى ذِرْوَةِ جَبَلٍ لذاب كما يذوب الرصاص فكيف يا بن آدم «وهي «7»
» عليك وحدك،
__________
(1) السطور التالية مضطربة فى أ، ف وفى جميع النسخ.
(2) فى أ، ف: «ثم قال» ، والأنسب ما أثبته لأن القول الآتي ليس قرآنا بل هو معنى آيات وردت فى سورة «المؤمنين» وغيرها، انظر قوله- تعالى-: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ... » : 12- 14 المؤمنون.
(3) فى أ: «فقال» .
(4) فى أ، ف: «ذلك» ، والأنسب ما أثبت.
(5) من ف، وفى أاضطراب.
(6) من أ، وفى ف: «حدثنا عبد الله قال: حدثني أبى» .
(7) فى أ: «وهو» ، وفى ف: «وهي» .(4/523)
ثم قال: وَأَغْلالًا فأما السلاسل ففي أعناقهم، وأما الأغلال ففي أيديهم، ثم قال: وَسَعِيراً- 4- يعني وقودا لا يطفأ، ثم ذكر ما أعد للشاكرين من نعمة فقال: إِنَّ الْأَبْرارَ يعني الشاكرين المطيعين لله- تعالى- يعني أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسلمان الفارسي، وأبا ذر الغفاري، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبا عبيدة بن الجراح، وأبا الدرداء، وابن عباس «1»
، يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ يعني الخمر، وأيضا. «إِنَّ الْأَبْرارَ» يعني علي بن أبي طالب وأصحابه الأبرار الشاكرين لله- تعالى- يشربون من كأس يعني من خمر كانَ مِزاجُها كافُوراً- 5- ثم ذكر الكافور فقال: عَيْناً يَشْرَبُ بِها يعنى الخمر عِبادُ اللَّهِ «يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» «2»
- 6- يعنى أولياء الله يمزجون ذلك الحمر، ثم يجاء بذلك الماء فهو على برد الكافور، وطعم الزنجبيل، وريح المسك لا يمسك أهل الدنيا ولا زنجبيلهم ولا كافورهم، ولكن الله- تعالى- وصف ما عنده بما عندهم لتهتدي إليه القلوب «3»
، ثم ذكر محاسنهم فقال:
يُوفُونَ بِالنَّذْرِ يعني من نذر لله نذرا، فقضى الله حاجته فيوفي لله بما قد نذره، قال: وَيَخافُونَ يَوْماً يعني يوم القيامة كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً- 7- يعني كان شرا فاشيا في أهل السموات والأرض، فانشقت السماء، وتناثرت الكواكب، وفزعت الملائكة، وكورت الشمس والقمر فذهب ضوءهما وبدلت الأرض ونسفت الجبال، وغارت المياه، وتكسر كل شيء على الأرض من جبل أو بناء أو شجر، ففشى شر يوم القيامة فيها، وأما قوله:
__________
(1) هذا على سبيل المثال لا على سبيل الحصر.
(2) «يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» : ساقط من أ.
(3) من ف، وفى أنقص. [.....](4/524)
«وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ» «1»
أي على حبهم الطعام مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً- 8- نزلت في أبي الدحداح الأنصاري، ويقال في علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- وذلك
أنه [220 أ] صام يوما فلما أراد أن يفطر دعا سائل، فقال:
عشوني بما عندكم فإني لم أطعم اليوم شيئا. قال أبو الدحداح أو علي: قومي فاثردي رغيفا وصبي عليه مرقة، وأطعميه. ففعلت ذلك فما لبثوا أن جاءت جارية يتيمة فقالت: أطعموني فإني ضعيفة لم أطعم اليوم شيئا، قال: يا أم الدحداح قومي فاثردي رغيفا وأطعميها، فإن هذه والله أحق من ذلك المسكين، فبينما هم كذلك إذ جاء على الباب سائل أسير ينادي: عشوا الغريب في بلادكم، فإني أسير في أيديكم وقد أجهدني الجوع فبالذي أعزكم وأذلني لما أطعمتموني.
فقال أبو الدحداح: يا أم الدحداح، قومي ويحك فاثردي رغيفا وأطعمي الغريب الأسير، فإن هذا أحق من أولئك فأطعموا «ثلاث «2»
» أرغفة، وبقي لهم «رغيف واحد «3»
» فأنزل الله- تبارك وتعالى- فيهم يمدحهم بما فعلوا. فقال:
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً يعني باليتيم من لا أب له ولا أم، (وَأَسِيرًا- من أسارى المشركين «4»
) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ يعني لمرضات الله- تعالى- لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً- 9- يعني أن تثنوا به علينا إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً يعنى يوم الشدة،
__________
(1) فى أ: «على حبهم الطعام» : والآية: «الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ» .
(2) فى أف: «ثلاثة» .
(3) فى أ: «رغيفا واحدا» ، وفى ف: «رغيف واحد» .
(4) من ف، وفى أ: ( «وأسيرا» من أسر بالمشركين من غيرهم) .(4/525)
قال الفراء وأبو عبيدة: هو المنتهى في الشدة «1»
قَمْطَرِيراً- 10- يعني إذا عرق الجبين فسال العرق بين عينيه من شدة الهول، فذلك قوله: «قمطريرا» فشكر الله أمرهم، فقال: فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ يعني يوم القيامة شر جهنم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً- 11- نضرة في الوجوه «وسرورا» في القلوب، وذلك أن المسلم إذا خرج من قبره يوم القيامة نظر أمامه، فإذا هو بإنسان وجهه مثل الشمس يضحك طيب النفس وعليه ثياب «بيض «2»
» وعلى رأسه تاج فينظر إليه حتى يدنو منه، فيقول: سلام عليك- يا ولي الله.
فيقول: وعليك السلام من أنت يا عبد الله أنت ملك من الملائكة؟ فيقول:
لا، والله. فيقول: أنت نبي من الأنبياء؟ فيقول: لا والله، فيقول: أنت من المقربين؟ فيقول: لا والله. فيقول: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح أبشرك بالجنة، والنجاة من النار. فيقول له: يا عبد الله، الله أبعلم تبشرني؟
فيقول: نعم. فيقول: ما تريد مني؟ فيقول له: اركبني. فيقول: يا سبحان الله، ما ينبغي لمثلك أن يركب عليه. فيقول: بلى فإني طال ما ركبتك في دار الدنيا فإنى أسألك بوجه الله [220 ب] إلا ما ركبتني فيركبه فيقول: لا تخف أنا دليلك إلى الجنة «فيعم «3»
» ذلك الفرح في وجهه حتى يتلألأ، ويرى النور والسرور في قلبه، فذلك قوله: «وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً» وأما الكافر فإنه إذا
__________
(1) انفردت (ف) بذكر قصة نسبتها إلى سيدنا على وهي صيامه ثلاثة أيام مع أهل بيته، وحضور سائل قبل المغرب إليه وتصدقه بطعام الإفطار ثلاثة أيام مع أهل بيته، وحضور سائل قبل المغرب إليه وتصدقه بطعام الإفطار ثلاثة أيام متتالية، ولم ترد هذه القصة فى أ، كما ذكر الإمام محمد عبده أن الآية عامة ولا يصح قصرها على على بن أبى طالب، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
(2) فى أ، ف: «بياض»
(3) فى أ: «فيعم» ، وفى م: «فنعم»(4/526)
خرج من قبره نظر أمامه فإذا هو برجل قبيح، الوجه أزرق العينين أسود الوجه أشد سوادا من القبر في ليلة مظلمة، وثيابه سود يجر أنيابه في الأرض تدهده دهدهة الرعد، ريحه أنتن من الجيفة، فيقول: من أنت يا عدو الله؟ ويريد أن يعرض بوجهه عنه، فيقول: يا عدو الله إلي إلي، وأنا لك اليوم، فيقول:
ويحك أشيطان أنت؟ فيقول: لا والله، ولكني عملك. فيقول: ويحك، ما تريد مني؟ فيقول: أريد أن أركبك. فيقول: أنشدك الله، مهلا فإنك تفضحني على رءوس الخلائق، فيقول: والله ما منك بد فطال ما ركبتني فأنا اليوم أركبك. قال فيركبه فذلك قوله: « ... وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ «1»
» ثم ذكر أولياءه فقال: وَجَزاهُمْ بعد البشارة بِما صَبَرُوا على البلاء جَنَّةً وَحَرِيراً- 12- فأما الجنة فيتنعمون فيها، وأما الحرير «فيلبسونه «2»
» مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ يعني على السرر عليها الحجال لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً لا يصيبهم حر الشمس وَلا زَمْهَرِيراً- 13- يعني ولا يصيبهم برد الزمهرير لأنه ليس «فيها «3»
» شتاء ولا صيف، فأما قوله: وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها يعني ظلال الشجر وذلك أن أهل الجنة يأكلون من الفواكه إن شاءوا نياما، وإن شاءوا قعودا وإن شاءوا قياما، إذا أرادوا دنت منهم حتى «يأخذوا «4»
» منها، ثم تقوم قياما، فذلك قوله: وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا- 14- يعني أغصانها تذليلا قوله وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ فهي الأكواز مدورة الرءوس التي ليس لها عرى، قال: كانَتْ قَوارِيرَا- 15-
__________
(1) سورة الأنعام: 31
(2) فى أ: «فيلبسونها»
(3) الضمير يعود إلى الجنة، وفى أ: «فيه»
(4) فى أ: «يأخذون» .(4/527)
ولكنها من فضة وذلك أن قوارير الدنيا من ترابها وقوارير الجنة من فضة فذلك قوله: «كانَتْ قَوارِيرَا» ثم قطعها، ثم استأنف فقال: قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً- 16- يعني فدرت الأكواب على الإناء وقدر الإناء على كف الخادم ورى القوم، فذلك قوله: «قَدَّرُوها تَقْدِيراً» قال: وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً يعني خمرا وكل شراب في الإناء ليس بخمر، وليس هو بكأس قال:
كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا- 17- يعني كأنما قد مزج فيه الزنجبيل، قوله:
عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا- 18- «تسيل «1»
» عليهم من جنة عدن فتمر على كل جنة، «ثم ترجع لهم الجنة كلها «2»
» . وأما قوله: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ فأما الولدان فهم الغلمان الذين لا يشيبون أبدا «مخلدون» يعني لا يحتلمون، «ولا يشيبون «3»
أبدا» هم على تلك الحال لا يختلفون «ولا يكبرون «4» » ، قال: إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً- 19- في الحسن والبياض يعني في الكثرة، مثل اللؤلؤ المنثور الذي لا يتناهى عدده، قوله: وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ يعني «هنالك «5» » في الجنة رأيت، نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً- 20- وذلك أن الرجل من أهل الجنة له قصر، في ذلك القصر سبعون قصرا، في كل قصر سبعون بيتا، كل بيت من لؤلؤة مجوفة طولها في السماء فرسخ، وعرضها فرسخ، عليها أربعة ألف مصراع من ذهب، في ذلك البيت سرير منسوج
__________
(1) فى أ: «لأنه تسبل» . ولعل أصلها: «لأنها تسيل» . والمثبت من ف.
(2) كذا فى أ، وفى ف: «نعم الجنة كلها» .
(3) من ف، وفى أ: «ولا يموت أحدهم» . [.....]
(4) فى أ: «ولا يكبرون، غلمان» . والمثبت من ف.
(5) فى أ: «مثالك» ، والأنسب: «هنالك» .(4/528)
بقضبان الدر والياقوت، عن يمين السرير وعن يساره أربعون [221 أ] ألف كرسي من ذهب قوائمها ياقوت أحمر، على ذلك السرير سبعون فراشا، كل فراش على لون، وهو جالس فوقها، وهو متكئ على يساره عليه سبعون حلة من ديباج، «الذي «1» يلي» جسده حريرة بيضاء، وعلى جبهته إكليل مكلل بالزبرجد والياقوت وألوان «الجواهر «2» » كل جوهرة على لون، وعلى رأسه تاج من ذهب فيه سبعون ذؤابة، في كل ذؤابة درة، «تساوي «3» » مال المشرق والمغرب، وفي يديه «ثلاث «4» » أسورة، سوار من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ، وفي أصابع يديه ورجليه خواتيم من ذهب وفضة فيه ألوان الفصوص، وبين يديه عشرة آلاف غلام لا يكبرون ولا يشيبون أبدا، ويوضع بين يديه مائدة من ياقوتة حمراء، طولها ميل في ميل، ويوضع على المائدة سبعون ألف إناء من ذهب وفضة في كل إناء سبعون لونا من الطعام، يأخذ اللقمة بيديه فما يخطر على باله حتى تتحول اللقمة عن حالها إلى الحال التي يشتهيها، وبين يديه غلمان بأيديهم أكواب من ذهب، وإناء من فضة معهم الخمر والماء، فيأكل على قدر أربعين رجلا من الألوان كلها، كلما شبع من لون من الطعام سقوه شربة مما يشتهي من الأشربة فيتجشأ، فيفتح الله- تعالى- عليه ألف باب من الشهوة من الشراب فيدخل عليه الطير من الأبواب، كأمثال النجائب فيقومون بين يديه صفا فينعت كل نفسه بصوت مطرب لذيذ ألذ من كل غناء في الدنيا، يقول: يا ولى
__________
(1) فى أ: «الذي على» والأنسب: «التي على» ، وفى ف «الذي يلي» .
(2) فى أ، ف: «الجوهر» .
(3) فى أ: «تسوى» ، وفى ف: «تساوى» .
(4) فى أ: «ثلاثة» ، وفى ف: «ثلاث» .
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 34.(4/529)
الله، كلني إنى كنت أرعى في روضة كذا وكذا من رياض الجنة، فيحلون عليه أصواتها «1» » فيرفع بصره فينظر إليهم، فينظر إلى أزهاها صوتا، وأجودها نعتا، فيشتهيها فيعلم الله ما وراء شهوته في قلبه من حبه، فيجيء الطير فيقع على المائدة بعضه قديد، وبعضه شواء، أشد بياضا من الثلج، وأحلى من العسل، فيأكل حتى إذا شبع منها، واكتفى طارت طيرا كما كانت، فتخرج من الباب الذي كانت دخلت منه، «فهو «2» » على الأرائك وزوجته مستقبلة «3» ، يبصر وجهه في وجهها من الصفاء والبياض، كلما أراد أن يجامعها ينظر إليها فيستحي أن يدعوها، فتعلم ما يريد منها زوجها فتدنو إليه، فتقول: بأبي وأمي، ارفع رأسك فانظر إلي فإنك اليوم لي، وأنا لك فيجامعها على قوة مائة رجل من الأولين، وعلى شهوة أربعين رجلا كلما أتاها وجدها عذراء، «لا يغفل «4» » عنها مقدار أربعين يوما، فإذا فرغ وجد ريح المسك منها فيزداد حبالها، فيها أربعة آلاف وثمانمائة زوجة «مثلها «5» لكل زوجة» سبعون خادما وجارية.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ عَنْ مُقَاتِلٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- عَلَيْهِ السَّلامُ- قَالَ: لَوْ أَنَّ جَارِيَةً أَوْ خَادِمًا خَرَجَتْ إِلَى الدُّنْيَا لاقْتَتَلَ عَلَيْهَا أهل الأرض كلهم «حتى يتفانوا «6» » .
__________
(1) فى أ: «فيحلون عليه أصوات» ، وفى ف: «فيحلون عليه أصواتها» .
(2) فى أ، ف: «فهو» ، والأنسب: «وهو» .
(3) كذا فى أ، ف، والمعنى أن وجهها يقابل وجهه.
(4) فى أ: «لا يدخل» ، وفى ف: «لا يقفل» .
(5) من ف، وفى أ: زيادة: «لكل زوجة مثلها» وهو خطأ من الناسخ.
(6) فى أ: «حتى يتفانون» ، وفى ف: «حتى يتفانوا» .(4/530)
وَلَوْ أَنَّ الْحُورَ الْعِينَ أَرْخَتْ ذُؤَابَتَهَا فِي الأَرْضِ لأَطْفَأَتِ الشَّمْسَ مِنْ نُورِهَا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَمْ بَيْنَ الْخَادِمِ وَالْمَخْدُومِ؟ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ بَيْنَ الْخَادِمِ وَالْمَخْدُومِ كَالْكَوْكِبِ «الْمُضِيءِ «1» » إِلَى جَنْبِ الْقَمَرِ فِي النِّصْفِ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى سَرِيرِهِ إِذْ يبعث الله- عز وجل- إليه ملكا مَعَهُ سَبْعُونَ حُلَّةً كُلُّ حُلَّةٍ عَلَى لَوْنٍ وَاحِدٍ «2» ، وَمَعَهُ التَّسْلِيمُ وَالرِّضَا فَيَجِيءُ الْمَلَكُ حَتَّى يَقُومَ عَلَى بَابِهِ، فَيَقُولُ لِحَاجِبِهِ: ائْذَنْ لِي عَلَيَّ وَلِيَّ اللَّهِ، فَإِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ إِلَيْهِ. فَيَقُولُ الْحَاجِبُ: وَاللَّهِ، مَا أَمْلِكُ مِنْهُ الْمُنَاجَاةَ، وَلَكِنْ سَأَذْكُرُكَ إِلَى مَنْ يَلِينِي مِنَ الْحَجَبَةِ. فَلا يَزَالُونَ يَذْكُرُونَ بَعْضَهُمْ إِلَى بَعْضٍ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْخَبَرُ بَعْدَ سَبْعِينَ بَابًا، يَقُولُ: يَا وَلِيَّ اللَّهِ، إِنَّ رَسُولَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَلَى الْبَابِ «3» ، فَيَأْذَنُ لَهُ بِالدُّخُول عَلَيْهِ.
فَيَقُولُ: السَّلامُ عَلَيْكَ، يَا وَلِيَّ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ، فَلَوْلا أَنَّ اللَّهَ- تَعَالَى- لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ الْمَوْتَ لَمَاتَ مِنَ الْفَرَحِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ:
«وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ» يَا مُحَمَّدُ، ثُمَّ: يَعْنِي هُنَاكَ رَأَيْتُ «نَعِيمًا» يَعْنِي بِالنَّعِيمِ الَّذِي هُوَ فِيهِ «وَمُلْكاً كَبِيراً» حِينَ لا يَدْخُلُ عَلَيْهِ رَسُولُ رَبِّ الْعِزَّةِ إِلا بِإِذْنٍ.
«ثم قال «4» » : عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ يعني الديباج، وإنما قال عاليهم لأن الذي يلي جسده حريرة بيضاء، قال: وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وقال في آية أخرى يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا، فهي «ثلاث «5» »
__________
(1) فى أ: «المظلم» ، وفى ف: «المضيء» .
(2) فى أ، ف زيادة: «قد غاب بين إصبعى الملك» . [.....]
(3) وهذا من التجسيم الذي عيب على مقاتل بن سليمان، وانظر مقدمتي لهذا التفسير فى باب:
مقاتل وعلم الكلام.
(4) فى أ: «فقال» .
(5) فى أ، ف: «ثلاثة» .(4/531)
أسورة، قوله: وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً- 21- وذلك «أن «1» » على باب الجنة شجرة ينبع من ساقها عينان، فإذا جاز الرجل الصراط إلى العين، يدخل في عين منها فيغتسل فيها، فيخرج وريحه أطيب من المسك طوله سبعون ذراعا في السماء على طول آدم- عليه السلام- وميلاد- عيسى بن مريم-، أبناء ثلاث وثلاثين سنة، فأهل الجنة كلهم رجالهم ونساؤهم على قدر واحد يكبر الصغير حتى يكون ابن ثلاث وثلاثين سنة، وينحط الشيخ عن حاله إلى ثلاث وثلاثين سنة، كلهم رجالهم ونساؤهم على قدر واحد فى حسن يوسف بن يعقوب [222 أ]- عليهما السلام- ويشرب من العين الأخرى فينقي ما في صدره من غل، أو هم، أو حسد، أو حزن، فيطهر الله قلبه بذلك الماء فيخرج وقلبه على «قلب «2» » أيوب- عليه السلام- ولسان محمد- صلى الله عليه وسلم-، عربي، «3» ثم ينطلقون حتى يأتوا الباب، فتقول لهم الخزنة: طبتم.
يقولون: نعم. فتقول: ادخلوها خالدين يبشرونهم بالخلود قبل الدخول، بأنهم لا يخرجون منها أبدا، فأول ما يدخل من باب الجنة ومعه الملكان اللذان كانا معه في دار الدنيا «الكرام الكاتبين «4» » فإذا هو «5» بملك معه بختية من ياقوتة حمراء زمامها ياقوتة خضراء فإذا كانت البختية من ياقوتة خضراء كان زمامها ياقوتة حمراء، عليها راحلة مقدمها ومؤخرها در وياقوت، صفحتها الذهب والفضة، ومعه
__________
(1) «أن» : من ف، وهي ساقطة من أ.
(2) فى أ: «ذات» ، وفى ف: «قلب» .
(3) كذا فى أ، ف.
(4) فى أ، ف: «الكرام الكاتبين» بالنصب، وصوابها الرفع: الكرام الكاتبون ولعله نصبها على الحكاية ما ورد فى الآية «كِراماً كاتِبِينَ، يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ» سورة الانفطار: 11- 12.
(5) الضمير يعود على أول من يدخل من باب الجنة.(4/532)
سبعون حلة فيلبسه «1» ويضع على رأسه التاج، ومعه «عشرة آلاف «2» » غلام كاللؤلؤ المكنون، فيقول: يا ولي الله، اركب فإن هذا لك، ولك مثلها فيركبها ولها جناحان، خطوة منها منتهى البصر فيسير على بختيته وبين يديه «عشرة آلاف «3» » غلام، ومعه الملكان اللذان كانا معه في دار الدنيا حتى يأتي إلى قصوره فينزلها، إِنَّ هَذَا الذي قضيت لكم كانَ لَكُمْ جَزاءً لأعمالكم وَكانَ سَعْيُكُمْ يعني عملكم مَشْكُوراً «4» - 22- يعني شكر الله أعمالهم فأثابهم بها الجنة إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا- 23- فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ يعني حتى يحكم الله بينك وبين أهل مكة، ولا تشتم إذا شتمت، ولا تغتظ إذا ضربت وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً- 24- وهو الوليد ابن المغيرة بن هشام [222 ب] المخزومي قال: «أَوْ كَفُوراً» أو: ها هنا صلة، والكفور: هو عتبة بن ربيعة، وذلك أنهم خلوا به في دار الندوة، وفيهم عمرو ابن عمير بن مسعود الثقفي، فقالوا: يا محمد، أخبرنا لم تركت دين آبائك وأجدادك؟
فقال الوليد بن المغيرة: إن طلبت مالا أعطيتك نصف مالي على أن تدع مقالتك هذه.
وقال أبو البختري بن هشام: واللات والعزى إن ارتد عن دينه لأزوجنه ابنتي فإنها أحسن النساء، وأجملهن جمالا، وأفصحهن قولا وأبلغهن علما، وقد
__________
(1) الضمير يعود للملك.
(2) فى أ: «عشر ألف»
(3) فى أ: «عشرة ألف»
(4) ترتيب الآيات مضطرب فى أ، ف فى سورة الدهر هذه فالآيات مرتبة كالآتى:
آية: 14، ثم 19، 20، 21، ثم 15، 16، 17، 18، ثم 22، ثم 24، ثم 23، ثم 25، ثم 26 إلى آخر السورة.
وقد أعدت ترتيب الآيات حسب ورودها فى المصحف الشريف.(4/533)
علمت العزى بذلك، فسكت النبي- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك فلم يجبهم شيئا. فقال ابن مسعود الثقفي: مالك لا تجيبنا إن كنت تخاف عذاب ربك وذمه أجرتك فضحك النبي- صلى الله عليه وسلم- عند ذلك، وقبض ثوبه وقام عنهم، وقال: أصعب أقوال وأضعف أعمال، فأنزل الله- عز وجل- «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا»
فيها تقديم، وتأخير «وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» يعنى الوليد بن المغيرة وأبا البختري بن هشام.
وقال في قول عمرو بن عمير بن مسعود الثقفي:
«قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً «1» » يعنى لا يؤمن من عذابه أحد، ولن أجد من دونه مهربا، «إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ ... » إلى آخر الآية «2» . وأما قوله: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا- 25- يعني إذا صليت صلاة الغداة وهو «بكرة» ، فكبر واشهد أن لا إله إلا هو، «وأصيلا» إذا أمسيت وصليت صلاة المغرب فكبره واشهد أن لا إله إلا هو، فهو براءة من الشرك، فذلك قوله: «وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ» بشهادة أن لا إله إلا هو، قال كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يصلي الغداة، ثم يكبر «ثلاثا «3» » ، وإذا صلى المغرب كبر «ثلاثا «4» » وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ يعني صلاة العشاء والآخرة يقول: صل له قبل أن تنام وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا- 26- يعنى وصل له
__________
(1) سورة الجن: 22.
(2) سورة الجن: 23، وتمامها: «إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً» . [.....]
(3) فى أ: «ثلاثة» ، وفى ف: «ثلاثا» .
(4) فى أ: «ثلاثة» ، وفى ف: «ثلاثا» .(4/534)
بالليل، وكان قيام الليل فريضة على النبي- صلى الله عليه وسلم- فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لك، ثم رجع إلى قوله- عز وجل- الأول: «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ» فقال: إِنَّ هؤُلاءِ الذين يأمرونك بالكفر يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ يعني الدنيا، لا يهمهم شيء إلا أمر الدنيا الذهب والفضة «والبناء «1» » والثياب والدواب وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يعني أمامهم وكل شيء في القرآن وراءهم يعني أمامهم، يَوْماً ثَقِيلًا- 27- لأنها تثقل على الكافرين إذا حشروا وإذا وقفوا وإذا حاسبوهم، وإذا جازوا الصراط فهي مقدار ثلاثمائة سنة وأربعين سنة فأما المؤمن فإنه ييسر الله خروجه [223 أ] من قبره وإذا حشره وإذا حاسبه، وإذا جاز الصراط، فذلك قوله: «يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ، عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ «2» » وأما قوله: نَحْنُ خَلَقْناهُمْ في بطون أمهاتهم وهم نطفة وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ حين صاروا شبانا يعني أسرة الشباب وما خلق الله شيئا أحسن من الشباب، منور الوجه أسود الشعر واللحية قوى البدن، قال: وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ ذلك السواد والنور بالبياض والضعف تَبْدِيلًا- 28- من السواد حتى لا يبقى شيء منه إلا البياض فعلم الله- عز وجل- فقال: «إِنَّ هذِهِ» «3» إن هذا السواد والحسن والقبح تَذْكِرَةٌ يعني عبرة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا- 29- يعني فمن شاء اتخذ في هذه التذكرة فيعتبر فيشكر الله ويوحده، ويتخذ طريقا إلى الجنة،
__________
(1) فى أ: «والبنا» .
(2) سورة المدثر: 9، 10.
(3) فى أ: «إن هذا» .(4/535)
ثم رد المشيئة إليه فقال: وَما تَشاؤُنَ أنتم أن تتخذوا إلى ربكم سبيلا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فهون عليكم عمل الجنة إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً يعني بأهل الجنة حَكِيماً- 30- إذ حكم على أهل الشقاء النار، ثم ذكر العلم والقضاء بأنه إليه فقال: يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ يعني في جنته وَالظَّالِمِينَ يعني المشركين أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً- 31- يعنى وجيعا.(4/536)
سورة المرسلات(4/537)
[سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 50]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)
وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19)
أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24)
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ مَاءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34)
هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)(4/539)
[سورة المرسلات «1» ] سورة المرسلات مكية عددها خمسون آية «2»
__________
(1) مقصود السورة:
القسم يوقع القيامة، والخبر عن إهلاك القرون الماضية، والمنة على الخلائق بإيجادهم فى الابتداء وإدخال المكذبين النار وصعوبة عقوبة الحق إياهم وأنواع كرامة المؤمنين فى الجنة، والشكاية من الكفار بإعراضهم عن القرآن فى قوله: «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ» سورة المرسلات: 50.
(2) فى المصحف: (77) سورة المرسلات مكية إلا آية 48 فمدنية وآياتها 50 نزلت بعد سورة الهمزة.(4/541)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً- 1- يقول الملائكة وأرسلوا بالمعروف، ثم قال: فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً «1» - 2- وهي الرياح، وأما قوله:
وَالنَّاشِراتِ نَشْراً- 3- وهي أعمال بني آدم تنشر يوم القيامة، أما قوله:
فَالْفارِقاتِ فَرْقاً- 4- فهو القرآن فرق بين الحق والباطل، وأما قوله:
فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً- 5- فهو جبريل- صلى الله عليه وسلم- وحده يلقي الذكر على ألسنة الأنبياء والرسل، وهو «فَالتَّالِياتِ ذِكْراً «2» » قوله: عُذْراً أَوْ نُذْراً- 6- يقول عذرا من الله، ونذرا إلى خلقه قال: إِنَّما تُوعَدُونَ من أمر الساعة لَواقِعٌ- 7- يعني لكائن، ثم ما يكون في ذلك اليوم أنه لكائن «وَإِنَّ الدِّينَ «3» لَواقِعٌ «4» » يقول وأن الحساب لكائن، قوله: فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ- 8- بعد الضوء والبياض إلى السواد، وأما قوله: وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ- 9- يقول انفرجت عن نزول من فيها من الملائكة، ورب العزة لحساب الخلائق، وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ- 10- يقول من أصلها حتى استوت بالأرض، كما كانت أول مرة، وأما قوله: وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ- 11- يقول جمعت، ثم رجع [223 ب] إلى الساعة فى التقديم، فقال:
__________
(1، 2) سورة الصافات: 3.
(3) فى أ، ف، وردت هذه الآية على أنها آية من هذه السورة وهي آية من سورة أخرى.
(4) سورة الذاريات: 6.(4/543)
لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ- 12- يقول لأي يوم أجلها يعني الساعة يوم القيامة، وجمع الملائكة، قال- تعالى-: لِيَوْمِ الْفَصْلِ- 13- يعني يوم القضاء وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ- 14- ما هو «1» ؟ تعظيما لشدتها فكذبوا بذلك اليوم يقول الله- تعالى- فأوعدهم «وَيْلٌ «2» » يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ- 15- بالبعث فقال: يا محمد أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ- 16- الذين كذبوا بيوم القيامة أهلكتهم بالصيحة والخسف والمسخ والفرق والعدو ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ- 17- بالأولين بالهلاك يعني العذاب يعني كفار مكة لما كذبوا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ- 18- يقول هكذا نفعل بالمجرمين يعني الكفار الظلمة، يخوف كفار مكة لئلا يكذبوا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- أى فاحذروا، يا أهل مكة، أن نفعل بكم كما فعلنا بالقرون الأولى، ثم قال: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ- 19- بالبعث، ثم بين لهم بده خلق أنفسهم لئلا يكذبوا بالبعث، «وليعتبروا «3» » فقال: يا معشر المكذبين، أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ- 20- يقول ماء ضعيف «وهو «4» » النطفة فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ- 21- يعنى الماء يتمكن فى الرحم إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ- 22- يعني تسعة أشهر فَقَدَرْنا الصبي في رحم أمه تسعة أشهر، ودون ذلك أو فوق ذلك فقال الله- عز وجل- فَنِعْمَ الْقادِرُونَ- 23-، ثم قال: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ- 24- قال: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً- 25- أَحْياءً وَأَمْواتاً- 26- يقول أليس قد جعل
__________
(1) هذا من التجسيم المذموم عند مقاتل.
(2) فى أ: «فويل» .
(3) فى أ: «فيعتبروا» .
(4) فى أ: «وهي» . [.....](4/544)
لكم الأرض كفاتا لكم، تدفنون فيها، أمواتكم وتبثون عليها أحياءكم، وتسكنون عليها فقد كفت الموتى والأحياء، فقال: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ «وهي «1» » جبال راسخة فى الأرض أوتادا، ثم قال: وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً- 27- يقول ماء حلوا وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ- 28- بالبعث وقد علموا أن الله- تعالى- قد خلق هذه الأشياء كلها، قوله: انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ- 29- في الدنيا أنه غير كائن وهي النار وذلك أنه إذا انطلق أهل النار وهي تهمهم، زفرت جهنم زفرة واحدة فيخرج عنق فيحيط بأهلها، ثم تزفر زفرة أخرى فيخرج عنق لها من نار وتحيط بهم، ثم تزفر الثالثة فيخرج عنق فيحيط بالآخرين فتصير حولهم سرادق من نار فيخرج دخان من جهنم فيقوم فوقهم، فيظن أهلها أنه ظل وأنه سينفعهم من «هذه «2» » النار، فينطلقون كلهم بأجمعهم فيستظلون تحتها، فيجدونها أشد حرا من السرادق، فذلك قوله: «انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» وهو شعب بجهنم، أنهم كذبوا الرسل في الدنيا بأن العذاب في الآخرة ليس بكائن، فتقول لهم الملائكة الخزان «انْطَلِقُوا إِلى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ «3» » ، انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي [224 أ] ثَلاثِ شُعَبٍ- 30- لأنها تنقطع ثلاث قطع، قوله:
لا ظَلِيلٍ يقول لا بارد وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ- 31- يقول من ذلك السرادق الذي قد أحاط حولهم، ثم ذكر ذلك الظل فقال: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ- 32- وهو أصول الشجر يكون في البرية، فإذا جاء الشتاء قطعت
__________
(1) فى أ: «وهو» .
(2) فى أ: «ذلك» .
(3) سورة المرسلات: 29.
تفسير مقال بن سليمان ج 4- م 35.(4/545)
أغصانها فتبقى أصولها، «فيحرقها البرد فتسود «1» » فتراها في البرية كأمثال الجمال إذا أنيخت في البرية فذلك قوله: «إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ» كَأَنَّهُ «جِمالَتٌ» صُفْرٌ «2» - 33- يقول كأنها جمال سوداء إذا رأيتها من مكان بعيد وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ- 34- بالبعث، ثم ذكر الويل متى يكون؟
فقال: هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ- 35- وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ في الكلام فَيَعْتَذِرُونَ- 36- فقال أن تعتذروا، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ- 37- بالبعث، ثم قال إن: هذا الويل يَوْمُ الْفَصْلِ وهو يوم القيامة وهو يوم الدين جَمَعْناكُمْ يا معشر أهل مكة، وسائر الناس ممن بعدكم وَالْأَوَّلِينَ- 38- الذين كذبوا بالبعث من قبلكم من الأمم الخالية فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ- 39- يقول إن كان لكم مكر فامكروا وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ- 40- بالبعث، قوله: إِنَّ الْمُتَّقِينَ يعني به الموحدين فِي ظِلالٍ «وَعُيُونٍ» «3» - 41- يعني في جنات يقول في البساتين، ونعيم فهو اللباس الذي يلبسون من سندس واستبرق والحرير والنساء وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ- 42- كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ- 43- من الحسنات في دار الدنيا، ثم يا محمد إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ- 44- يقول هكذا نجزى المحسنين من أمتك بأعمالهم في الجنة، ثم قال الله- تعالى- لكفار مكة: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ- 45- بالبعث كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ- 46- فيحل بكم ما أحل بالذين من
__________
(1) فى أ: «فيحرقه البرد فتسواد» ، وفى ف: «فتحرقها البرد فيسود» .
(2) فى أ، ف: «جمالة» .
(3) فى أ، ف: «ونعيم» .(4/546)
قبلكم من العذاب وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ- 47-، قال: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ- 48- يعني الصلوات الخمس، قالوا:
لا نصلي إلا أن «يكون «1» » بين أيدينا أوثانا وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ- 49- بالبعث، قال: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ- 50- يعنى بالقرآن.
__________
(1) فى أ: «كان» ، وفى ف: «يكون» .(4/547)
سورة النّبإ(4/549)
[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً (14)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19)
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24)
إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39)
إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)(4/551)
[سورة النبأ «1» ] سورة النبأ مكية عددها أربعون آية كوفى «2» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
ذكر القيامة: وخلق الأرض والسماء: وبيان نفع الغيث، وكيفية النشر والبعث، وعذاب العاصين وثواب المطيعين من المؤمنين، وقيام الملائكة فى القيامة مع المؤمنين، وتمنى الكفار المحال فى قوله:
.. يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً» سورة النبأ: 40
(2) فى المصحف: (78) سورة النبأ مكية وآياتها (40) نزلت بعد سورة المعارج.(4/555)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ- 1- عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ- 2- استفهام للنبي- صلى الله عليه وسلم- عن أي شيء يتساءلون نزلت في أبي لبابة وأصحابه، وذلك أن كفار مكة كانوا يجتمعون عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ويسمعون حديثه فإذا حدثهم خالفوا قوله، واستهزءوا منه وسخروا، [224 ب] فأنزل الله- تعالى- « ... أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ «1» » يا محمد «آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ... «2» » .
فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يحدث المؤمنين، فإذا رأى رجلا من المشركين كف عن الحديث حتى يذهب، ثم أقبلوا بجماعتهم فقالوا: يا محمد أبخلت بما كنت تحدثنا؟ لو أنك حدثتنا عن القرون الأولى «فإن حديثك عجب «3» » . قال: لا، والله لا أحدثكم بعد يومي هذا وربي قد نهاني «عنه «4» » .
فأنزل الله- تعالى- «عَمَّ يَتَساءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ»
يعني القرآن كقوله:
«قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ «5» » لأنه كلام الله- تعالى- قال: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ- 3-
__________
(1) فى أ: «وإذا رأيت» ، وفى ف: «أن إذا سمعت» .
(2) سورة النساء: 140.
(3) فى أ: «وإن حديثك عجب» ، وفى ف: «فإن حديثك عجب» .
(4) فى أ: «عنها» .
(5) سورة ص: 67. [.....](4/557)
يقول لم يسألون عن القرآن وهم يخالفونه، ولا يؤمنون به؟
فصدق بعضهم به، وكفر بعضهم به، فاختلفوا فيه، ثم خوفهم الوعيد فقال:
كَلَّا سَيَعْلَمُونَ- 4- إذا قتلوا ببدر وتوفتهم الملائكة ظالمي أنفسهم، يضربون وجوههم وأدبارهم، ثم قال: ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ- 5- وعيد على أثر وعيد نزلت فى حين من أحياء العرب يعني عبد مناف بن قصى، وبنى سهم ابن عمرو بن هصيص بن كعب، نظيرها في «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ «1» » ثم ذكر صنعه ليعتبروا إذا بعثوا يوم القيامة «وقد كذبوا بالقيامة والبعث «2» » فعظم الرب نفسه- تبارك وتعالى- فقال: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً- 6- يعنى فراشا، وأيضا بساطا مسيرة خمسمائة عام وَالْجِبالَ أَوْتاداً- 7- على الأرض لئلا تزول بأهلها، «فاستقرت «3» » «وخلق «4» » الجبال بعد خلق الأرض، ثم قال:
وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً- 8- يعني أصنافا ذكورا وإناثا، سودا وبيضا وحمرا وأدما، ولغات شتى، فذلك قوله: وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً «فهذا «5» » كله عظمته، ثم ذكر نعمته فقال: وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً «6» - 9- يقول إذا دخل الليل أدرككم النوم فتستريحون، ولولا النوم ما استرحتم أبدا من الحرص وطلب المعيشة، فذلك قوله: «سُبَاتًا» لأنه يسبت والنائم مسبوت كأنه ميت
__________
(1) سورة التكاثر: 1، ويشير إلى قوله- تعالى- فى سورة التكاثر: 2- 4 «كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» : 3، 4.
(2) فى أ: «فكذبوه بالقيامة والبعث» .
(3) فى أ: «واستقرت» ، وفى ف: «فاستقرت» .
(4) فى أ: «وخلقنا» ، وفى ف: «وخلق» .
(5) فى أ: «فهذه» ، وفى ف: «فهذا» .
(6) تفسير هذه، الآية، وهو ساقط من أ.(4/558)
لا يعقل، «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً» «1» - 10- يعنى سكنا، كقوله: « ... هن لباس لكم ... «2» » يعني سكنا لكم «فألبسكم «3» » ظلمته على خير وشر كثير، ثم قال:
وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً- 11- لكي تنتشروا لمعيشتكم فهذان نعمتان من نعم الله عليكم، ثم ذكر ملكه وجبروته وارتفاعه فقال: وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً- 12- يعني بالسبع السموات وغلظ كل سماء مسيرة عام، وبين كل سماءين مثل ذلك نظيرها فى المؤمنين « ... خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ «4» ... » فذلك [325 أ] قوله: «شِدَادًا» قال: وهي فوقكم يا بني آدم فاحذروا، «لا تخر عليكم إن عصيتم «5» » ثم قال: وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً- 13- يعني الشمس «وحرها «6» » مضيئا، يقول جعل فيها «نورا «7» » وحرا، ثم ذكر نعمه فقال:
وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً- 14- يعني مطرا كثيرا منصبا يتبع بعضه بعضا، وذلك أن الله- عز وجل- يرسل الرياح «فتأخذ «8» » الماء من سماء الدنيا من بحر الأرزاق، ولا تقوم الساعة ما دام «به «9» » قطرة ماء، فذلك قوله: «وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ «10» » قال تجيء الريح فتثير سحابا «فتلحقه «11» »
__________
(1) «وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً» : ساقط من أ.
(2) سورة البقرة: 187.
(3) فى أ: «فألبستم» ، وفى ف: «فألبسكم» .
(4) سورة المؤمنون: 17 وقد وردت بالأصل: «جعلنا فوقكم سبع طرائق.
(5) كذا فى أ، ف، والأنسب: حتى «لا تخر عليكم أن عصيتم» .
(6) فى أ: «وحرها» ، وفى ف: «وحدها» .
(7) فى أ: «بردا» ، وفى ف: «نورا» .
(8) فى أ: «تأخذ» ، وفى ف: «فتأخذ» . [.....]
(9) فى أ: «بها» ، وفى ف: «به» .
(10) سورة الذاريات: 22.
(11) فى أ: «سلحة» ، وفى ف: «فنلحقه» .(4/559)
ثم تمطر وتخرج الريح والمطر جميعا من خلل السحاب، قال: لِنُخْرِجَ بِهِ يعني بالمطر حَبًّا يعني بالحبوب كل شيء يزرع ويحصد من البر والشعير والسمسم ونحوها من الحبوب، قال: وَنَباتاً- 15- يعني كل شيء ينبت في الجبال والصحارى من الشجر والكلا فذلك النبات، وهي تنبت عاما بعام من قبل نفسها، وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً- 16- يعني وبساتين ملتفة بعضها إلى بعض من كثرة الشجر، فقال: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ يعنى يوم القضاء- وهو يوم القيامة- بين الخلائق كانَ مِيقاتاً- 17- يعني كان ميقات الكافر، وذلك أنهم كانوا يقولون: « ... مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «1» » فأنزل الله- عز وجل- يخبرهم بأن ميقات ذلك اليوم كائن يوم الفصل- يا معشر الكفار- فتجازون ما وعدكم على ألسنة الرسل، ثم أخبرهم أيضا فقال:
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وذلك أن إسرافيل- عليه السلام- ينفخ فيها فيقول: أيتها العظام البالية، وأيتها العروق المتقطعة، وأيتها اللحوم المتمزقة، وأيتها الأشعار الساقطة، اجتمعن «لننفخ «2» » فيكم أرواحكم، ونجازيكم بأعمالكم، ويديم «الملك «3» » الصوت، فتجتمع الأرواح كلها في القرن، والقرن طوله طول السموات والأرض، فتخرج أرواحهم مثل النحل سود وبيض شقي وسعيد، أرواح المؤمنين، بيض كأمثال النحل من السماء إلى واد بدمشق يقال له الجابية، وتخرج أرواح الكفار من الأرض السفلى سود إلى واد بحضرموت يقال له
__________
(1) سورة يس: 48.
(2) فى أ: «لأنفخ» ، وفى ف: «لتنفخ» .
(3) فى أ: «تلك» ، وفى ف: «الملك» .(4/560)
«برهوت «1» » وكل روح أعرف بجسد صاحبه من أحدكم إلى منزله «2» فَتَأْتُونَ أَفْواجاً- 18- ثم ينزل إسرافيل من فوق السماء السابعة، فيجلس على صخرة بيت المقدس، فيأخذ أرواح الكفار «والمؤمنين «3» » ويجعلهم فى القرن، ودائرة القرن مسيرة خمسمائة عام، ثم ينفخ في القرن فتطير الأرواح حتى تطبق ما بين السماء والأرض، فتذهب كل روح فتقع في جسد صاحبها، فيخرج الناس من قبورهم فوجا فوجا، فذلك [225 ب] قوله: «فَتَأْتُونَ أَفْواجاً» يعني زمرا زمرا، وفرقا فرقا، وأمما أمما، وَفُتِحَتِ السَّماءُ يعني وفرجت السماء، يعني وفتقت السماء فتقطعت فَكانَتْ أَبْواباً- 19- يعني خللا خللا فشبهها الله بالغيم إذا «انكشف «4» » بعد المطر، ثم تهيج «به «5» » الريح الشمال الباردة فينقطع فيصير كالأبواب وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ يعني وانقلعت الجبال من أماكنها، فطارت بين السماء والأرض من خشية الله، فضرب الله لها مثلا. فقال:
«فَكانَتْ سَراباً» «6» - 20- يعني مثل السراب الذي يكون بالقاع يحسبه الظمآن ماء، فإذا أتاه لم يجده شيئا، فذلك قوله « ... تَحْسَبُها جامِدَةً «7» ... » يعنى
__________
(1) «برهوت» : من أ، وفى ف زيادة: «وهو شر واد فى الأرض» .
(2) كذا فى أ، ف.
(3) «والمؤمنين» : من ف، وليست فى أ.
(4) فى أ: «انقشع» ، وفى ف: «انكشف» .
(5) فى أ: «به» ، وفى ف: «له» .
(6) تفسير هذه الجملة مضطرب فى أ، ف، وبه نقص وأخطأ وقد تصيدت تفسيرها تصيدا وصوبت الأخطأ.
(7) سورة النمل: 88 وهي «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ» .
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 36.(4/561)
من بعيد يحسبها جبلا قائما، فإذا انتهى إليه ومسه لم يجده شيئا، فتصير الجبال أول مرة كالمهل، ثم تصير الثانية كالعهن المنفوش، ثم تذهب فتصير لا شيء فتراها تحسبها جبالا، فإذا مسستها لم تجدها شيئا، فذلك قوله: «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ» يعني انقطعت الجبال من خشية الله- عز وجل- يوم القيامة «فَكانَتْ سَراباً» فما حالك يا بن آدم؟
إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً- 21- لِلطَّاغِينَ يعنى للكافرين مَآباً- 22- يعنى للمشركين مرجعا «إليها «1» » نزلت في الوليد بن المغيرة لابِثِينَ فِيها، ثم ذكركم يلبثون في النار فلم يوقت لهم فقال: «لابثين فيها» يعنى فى جهنم أَحْقاباً- 23- يعني في جهنم أحقابا وهي سبعة عشر حقبا، يعني الأزمنة والأحقاب لا يدري عددها، ولا يعلم «منتهاها «2» » إلا الله- عز وجل- الحقب الواحد ثمانون سنة «3» ، السنة فيها ثلاثمائة وستون يوما، كل يوم فيها مقدار ألف سنة، وكان هذا بمكة، وأنزل الله- عز وجل- لا يَذُوقُونَ «فِيها» «4» في تلك الأحقاب بَرْداً يعني برد الكافور وَلا شَراباً- 24- يعني الخمر كفعل أهل الجنة، ثم استثنى فقال: إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً «5» - 25- إِلَّا حَمِيماً يعنى حارا، وأيضا
__________
(1) فى أ: «إليها» ، وفى ف: «إليه» . [.....]
(2) «منتهاها» : من أ، وليست فى ف.
(3) فى أزيادة: «السنة منها مقدار ثمانية عشر ألف سنة» ، وصوابها «ثماني عشرة ألف سنة»
(4) فى أ: «فى» .
(5) تفسير هذه الآية من ف، وهو مضطرب فى أ.(4/562)
لا يذوقون في جهنم «بَرْداً وَلا شَراباً» يعني لا يذوقون فيها روحا طيبا، ولا شرابا باردا ينفعهم «من هذه «1» » النار.
قال أبو محمد: قال أبو العباس أحمد بن يحيى: ويقال البرد: النوم، «إِلَّا حَمِيماً» يعنى بالحميم الصفر المذاب الذي قد انتهى حره «وَغَسَّاقًا» الذي قد انتهى برده، وهو الزمهرير الذي انتهى برده جَزاءً وِفاقاً- 26- كما أنه ليس في الأعمال أخبث من الشرك بالله- عز وجل- وكذلك ليس من العذاب «شيء «2» » أخبث من النار، «فوافقت «3» » النار الشرك، ثم قال: إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً- 27- يعني أنهم كانوا لا يخافون من العذاب أن يحاسبوا بأعمالهم الخبيثة إذا عملوها، قال: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا يعني القرآن كِذَّاباً- 28- يعني تكذيبا بما فيه من الأمر والنهي، ثم رجع إلى أعمالهم الخبيثة فقال: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ من الأعمال كِتاباً- 29- يعني ثبتناه مكتوبا عندنا فى كتاب حفيظ يعنى اللوح [226 أ] المحفوظ «كتابا» يعني ما عملوا من السيئات، أثبتناه في اللوح المحفوظ مثلها، في يس « ... وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ «4» » ثم «5» رجع إلى أهل النار الذين قال فيهم:
«لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً «6» » فذكر «أن الخزنة تقول لهم «7» » : فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً- 30-.
__________
(1) فى ف: «من ذلك» .
(2) «شيء» : من ف وليست فى أ.
(3) فى أ: «وفاق» ، وفى ف: «فوافق» .
(4) سورة يس: 12.
(5) فى أ: زيادة: «فلم يوقف شيئا» ، وليست فى ف.
(6) سورة النبأ: 23.
(7) فى أ، ف: «فقالت لهم الخزنة» .(4/563)
قَالَ مُقَاتِلٍ «1» عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-: أنه قَالَ: الزِّيَادَةُ خَمْسَةُ أَنْهَارٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ على رءوس أهل النار ثلاثة أنهار على مِقْدَارِ اللَّيْلِ، وَنَهْرَانِ عَلَى مِقْدَارِ النَّهَارِ، كَقَوْلِهِ فِي النَّحْلِ: « ... زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ «2» » .
قال: «فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً» بعد هذه السنين، فأما الزيادة فالأنهار، «أما الآن «3» » الذي ذكره الله- عز وجل- في الرحمن- فليس له منتهى.
ثم ذكر المؤمنين فقال: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً- 31- يعني النجاة من ذلك العذاب الذي سماه للطاغين قال: حَدائِقَ يعني البساتين قد حدقت حواليها الحيطان وَأَعْناباً- 32- يعني الفواكه وَكَواعِبَ يعني النساء الكاعبة يعني عذارى يسكن في الجنة للرجال وقسموا لهن أَتْراباً- 33- يعني مستويات على ميلاد واحد بنات ثلاث وثلاثين سنة، وذلك أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة قام. لك على قصر من ياقوت «شرفه «4» » كاللؤلؤ المكنون فينادي بصوت رفيع يسمع أهل الجنة أولهم وآخرهم وأسفلهم وأعلاهم، فيقول أبن الذين كانوا نزهوا أسماعهم عن قينات الدنيا ومعازفها قال ويأمر الله
__________
(1) من أ، وفى ف: «حدثني عبد الله- حدثني إلى حدثنا الهذيل عن مقاتل» .
(2) سورة النحل: 88.
(3) فى أ: «والأمر» ، وفى ف: «وأما الآن» .
وهو بشير إلى قوله- تعالى- فى سورة الرحمن: 43، 44 «هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ» . [.....]
(4) فى أ، ف: «شرقها» .(4/564)
- عز وجل- جواري فيرفعن أصواتهن جميعا، ثم قال: وَكَأْساً دِهاقاً- 34- يعني وشرابا كثيرا لا يَسْمَعُونَ فِيها إذا شربوا لَغْواً يعني حلف الباطل وَلا كِذَّاباً- 35- يقول ولا يكذبون على شرابهم كما يكذب أهل الدنيا إذا شربوا، ثم جمع أهل النار، وأهل الجنة، فقال:
جَزاءً يعني ثوابا مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً- 36- يعني يحاسب «المسيئين «1» » فيجازيهم بالنار، ويحاسب المؤمنين فيجازيهم بالجنة، فأعطى هؤلاء وهؤلاء جزاءهم ولم يظلم هؤلاء «المعذبين «2» » ، شيئا فذلك قوله: «عَطاءً حِساباً» ، نظيرها في الشعراء «إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي ... «3» » يقول إن جزاؤهم إلا على ربي، ثم عظم الرب- تعالى- نفسه ودل على صنعه «4» ، فقال رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا يعني الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب، والرياح، قال: هو الرَّحْمنِ الرحيم، وهم لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً- 37- يعني المناجاة، إذا استوى «للحساب «5» » ثم أخبرهم متى يكون ذلك؟ فقال: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وهو الملك الذي قال الله- عز وجل- عنه: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ
«6» ... » وجهه وجه آدم- عليه السلام- ونصفه من [226 ب] نار، ونصفه من ثلج، فيسبح بحمد
__________
(1) من ف، وفى أ: «المسيء» .
(2) فى أ: «المعذبين» ، وفى ف: «المعذبون» .
(3) سورة الشعراء: 113.
(4) فى أ: «ودل عليه» ، وفى ف: «ودل على صنعه» .
(5) «للحساب» : من ف، وفى أ: «المحاسبين للحساب» .
(6) سورة الإسراء: 85.(4/565)
ربه ويقول رب كما ألفت بين هذه النار وهذا الثلج، تذيب «هذه «1» » النار هذا الثلج، ولا يطفئ هذا الثلج هذه النار. فكذلك ألف بين عبادك المؤمنين، فاختصه الله- تعالى- من بين الخلق من عظمه، فقال: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ» ثم انقطع الكلام، فقال: وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ من الخوف أربعين عاما، إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ بالكلام وَقالَ صَواباً- 38- يعني شهادة ألا إله إلا الله، فذلك الصواب ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ لأن العرب قالوا إن القيامة باطل، فذلك قوله: «الْيَوْمُ الْحَقُّ» فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً- 39- يعني منزلة يعني الأعمال الصالحة، ثم خوفهم أيضا العذاب فى الدنيا فقال: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
يعني في الدنيا القتل ببدر، وهلاك الأمم الخالية، وإنما قال قريبا لأنها أقرب من الآخرة، ثم رجع إلى القول الأول حين قال: «يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا» فقال: وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
يعني الإنسان الخاطئ يرى عمله أسود مثل الجبل يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
- 40- وذلك أن الله- عز وجل- «يجمع الوحوش والسباع «2» » يوم القيامة فيقتص لبعضهم من بعض حقوقهم، حتى ليأخذ للجماعة من القرناء بحقها ثم يقول لهم كونوا ترابا، فيتمنى للكافر «لو كان خنزيرا في الدنيا «3» » ثم صار «ترابا «4» » ، كما كانت الوحوش والسباع ثم صارت ترابا.
__________
(1) فى أ: «هذا» .
(2) من ف، وفى أ: «الوحش من السباع» .
(3) فى أ: «لو كان يومئذ ترابا فى الدنيا» ، وفى ف: «لو كان خنزيرا فى الدنيا» .
(4) فى أ: «منزلها» ، وفى ف: «ترابا» .(4/566)
سورة النّازعات(4/567)
[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 46]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34)
يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39)
وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44)
إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)(4/569)
[سورة النازعات «1» ] سورة النازعات مكية، عددها «ست «2» » وأربعون آية كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
القسم على مجيء البعث والنفخ فى الصور وكيفية البعث والنشور، وإرسال موسى إلى فرعون، والمنة بخلق السماء والأرض، وتحقيق هول القيامة، وبيان حال من آثر الدنيا، والخبر عن حال أهل الخوف، واستعجال الكافرين بالقيامة وتعجبهم منها فى حال البعث فى قوله: «كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها» سورة النازعات: 46.
(2) فى أ، «سنة» ، والصواب: «ست» .
(3) فى المصحف: (79) سورة النازعات مكية وآياتها 46 نزلت بعد سورة النبأ. [.....](4/571)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً- 1- فهو ملك الموت وحده، ينزع روح الكافر حتى إذا بلغ ترقوته غرقه في حلقه، فيعذبه في حياته قبل أن يميته، ثم ينشطها من حلقه كما ينشط السفود الكثير الشعث من الصوف فينشط روح الكافر من قدمه إلى حلقه مثل الصوف المبلول، فذلك قوله: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً- 2- فهو ملك الموت فيخرج نفسه من حلقه ومعها العروق «كالغريق «1» » من الماء، وأما قوله: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً- 3- وهو- ملك الموت- وحده، وهي روح المؤمن ولكن قال فى التقديم: «فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً» ثم «السَّابِحاتِ سَبْحاً «2» » تقبض روح المؤمن كالسابح في الماء لا يهوله الماء يقول «تستبق «3» » الملائكة أرواحهم في حريرة بيضاء من حرير الجنة. يسبقون بها ملائكة الرحمة، ووجوههم مثل الشمس عليهم تاج من نور ضاحكين مستبشرين طيبين، فذلك قوله: « ... (تَتَوَفَّاهُمُ «4» ) الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ «5» ... » [227 أ] ، قال:
«وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً» يقول تسبح الملائكة في السموات لا تحجب روحه
__________
(1) فى أ: «كالعروق» ، وفى ف: «كالغريق» .
(2) كذا فى أ، ف: ولعل المعنى فيما تقدم من السور ذكر «فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً» ، ثم «السَّابِحاتِ سَبْحاً» .
(3) فى أ: «تسبق» ، وفى ف: «تستبق» .
(4) (تَتَوَفَّاهُمُ) : زيادة فى أ: وليست فى ف.
(5) سورة النحل: 32.(4/573)
في السماء حتى يبلغ به الملك عند سدرة المنتهى عندها مأوى أرواح المؤمنين، فأما الكافر فإنه أول ما ينزل الملك الروح من جسده، «فتستبق «1» » ملائكة الغضب وجوههم مثل «الجمر «2» » ، وأعينهم مثل البرق غضاب، حرهم أشد من حر النار فتوضع روحه على جمر مثل الكبريت، فيضعون روحه عليه، وتقلب روحه عليه، مثل السمك «على الطابق «3» » ، ولا تفتح له أبواب السماء فيهبط به الملك حتى يضعه في سجين وهي الأرض السفلى تحت «خد «4» » إبليس.
هذا معنى فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً- 4-، وأما قوله- تعالى-:
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً- 5- فهم الملائكة منهم الخزان الذين يكونون مع الرياح، ومع المطر، ومع الكواكب، ومع الشمس والقمر، ومع الإنس والجن، فكذلك هم، ويقال جبريل، وميكائيل، وملك الموت- عليهم السلام- الذين يدبرون أمر الله- تعالى- فى عباده وبلاده، وبأمره.
وأما قوله- تعالى-: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ- 6- وهي النفخة الأولى وإنما سميت الراجفة لأنها تميت الخلق كلهم، كقوله: «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ «5» ... »
يعني الموت، من فوق سبع سموات من عند العرش فيموت الخلق كلهم.
__________
(1) فى أ: «فيستبقون» ، وفى ف: «فتستبق» .
(2) فى أ: «الجمر» ، وفى ف: «الحمير» .
(3) كذا فى أ، ف، «على الطابق» ، والمراد كما يشوى السمك على النار.
(4) فى أ: «جد» ، وفى ف: «خد» .
(5) سورة الأعراف: 78 وفيها «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» ، كما وردت فى سورة الأعراف: 91، وتمامها «فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» ، وفى سورة العنكبوت: 37، وتمامها: «فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ» .(4/574)
تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ- 7- وهي النفخة الثانية أردفت النفخة الأولى بينهما أربعون سنة، أسمعت الخلائق وهي عند صخرة بيت المقدس، وذلك أنه ينزل إسرافيل، وترتفع أروح الكفار من تحت الأرض السفلى إلى واد يقال له برهوت وهو بحضرموت وهو كأشر واد في الأرض، وتنزل أرواح المؤمنين من فوق سبع سموات إلى واد يقال له الجابية وهو بالشام، وهو خير واد في الأرض فيأخذ هؤلاء وهؤلاء جميعها إسرافيل فيجعلهم في القرن وهو الصور فينفخ فيه، فيقول أيتها العظام البالية، وأيتها العروق المنقطعة، وأيتها اللحوم المتمزقة، اخرجوا من قبوركم لتجازوا بأعمالكم. ثم قال: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ- 8- يعني خائفة أَبْصارُها خاشِعَةٌ- 9- يعني ذليلة مما رأت عند معاينة النار، فخضعت، كقوله: « ... خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ ... «1» » مما ترى من العجائب ومما ترى من أمر الآخرة.
ثم أخبر الله- عز وجل- عن كفار مكة فقال: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ- 10- تعجبا منها، فيها تقديم. يقولون أإنا لراجعون على أقدامنا «إلى الحياة «2» » بعد الموت، وهذا قول كفار مكة أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً- 11- يعني بالية، أي: أنا لا نبعث خلقا كما كنا، قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ- 12- قالوا إن بعثنا بعد الموت إنا إذا لخاسرون يعني هالكون، ثم قال الله- تبارك وتعالى- لمحمد- صلى الله عليه وسلم-:
فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ- 13- يقول [227 ب] فإنما هي صيحة
__________
(1) سورة الشورى: 45.
(2) فى أ: «إلى هذه الدنيا» ، وفى ف: «إلى الحياة» .(4/575)
واحدة من إسرافيل- عليه السلام- فيسمعونها وهم فى بطن الأرض أمواتا «لا يثنيها «1» » فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ- 14- يعني الأرض الجديدة التي تبسط على هذه الأرض، فيسلها الله- عز وجل- من تحتها كما يسل الثوب الخلق البالي، فذلك قوله: «فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ» يقول بالأرض الأخرى واسمها الساهرة.
قوله: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى - 15- قبل هذا إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ يقول بالوادي المطهر اسمه طُوىً- 16- لأن الله- عز وجل- طوى عليه القدس، وكان نداؤه إياه أنه قال: يا موسى فناداه من الشجرة، وهي «الشمران «2» » ، فقال: يا موسى إني أنا ربك، يا موسى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى - 17- يقول إنه قد بلغ من طغيانه أنه عبد، «وفي قراءة ابن مسعود «3» » «طغى» لأنه لم يعبد صنما قط ولكنه دعا الناس إلى عبادته، فذلك قوله: «إِنَّهُ طَغى» «4» فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى- 18- يقول هل لك أن تصلح ما قد أفسدت، يقول وأدعوك لتوحيد الله وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ إلى عظمته فَتَخْشى - 19- يخبر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- بخبره، قال له فرعون: وما هي؟ قال: فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى - 20- وهي اليد والعصا أخرج يده بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يغشي البصر، فكانت اليد أعظم وأعجب من العصا من غير سوء يعنى
__________
(1) «لا يثنيها» : من ف، وليست فى أ.
(2) فى أ: «السمران» . وفى ف: «الشمران» . [.....]
(3) «وفى قراءة ابن مسعود» : من ف، وفى أ: «وفى قوله» .
(4) فى حاشية أ: «اختلفوا هل عبد فرعون صنما، أو شيئا كان فى عنقه، أو غير ذلك، أو لم يعبد شيئا» .(4/576)
من غير برص، قال: فَكَذَّبَ وَعَصى - 21- وزعم أنه ليس من الله- عز وجل- «وَعَصَى» فقال: إنه سحر، «وعصى» أيضا يعني استعصى عن الإيمان، قال: ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحق يَسْعى - 22- يعني في جمع السحرة فهو قوله: « ... فَجَمَعَ كَيْدَهُ «1» ... » ثم أتى بهم فَحَشَرَ فَنادى - 23- يقول حشر القبط فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى - 24- وذلك أن موسى- صلى الله عليه وسلم- قال لفرعون: لك ملكك فلا يزول، ولك شبابك فلا تهرم، ولك الجنة إذا مت، على أن يقول ربى الله وأنا أعبده. فقال فرعون:
إنك لعاجز، «بينا «2» » يكون الرجل ربا يعبد حتى يكون له رب، فقال- فرعون-: «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» يقول ليس لي رب فوقى، فذلك الأعلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ بعقوبة قوله: نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى - 25- وكان بينهما أربعين سنة، الأولى قوله: « ... مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «3» ... » ،
والآخرة قوله «أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى» ثم قال: إِنَّ فِي ذلِكَ يقول إن في هلاك فرعون وقومه لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى - 26- يعني لمن يذكر الله- تعالى- يقول لمن يخشى عقوبة الله- تعالى-، مثل ما فعل بآل فرعون فلا يشرك، يخوف كفار مكة لئلا يكذبوا محمدا- صلى الله عليه وسلم- فيجازيهم مثل ما حل بقوم فرعون من العذاب، ثم قال: يا معشر العرب، أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها- 27- يقول أنتم أشد قوة من السماء [28 أ] لأنه قال:
__________
(1) سورة طه: 60.
(2) فى أ: «بين» .
(3) سورة القصص: 38.
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 37.(4/577)
«إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ «1» » ، «إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ «2» » يقول فما حالكم أنتم، يا بني آدم، «وأنتم أضعف «3» » من السماء؟ ثم قال: «بَنَاهَا» رَفَعَ سَمْكَها يعنى طولها مسيرة خمسمائة عام فَسَوَّاها- 28- ليس فيها خلل، قوله:
وَأَغْطَشَ يقول وأظلم لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها- 29- يعني وأبرز يقول، وأخرج شمسها، وإنما «صارت مؤنثة «4» » لأن ظلمة الليل في السموات، وظلمة الليل من السماء تجيء، قال: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها- 30- يقول بعد بناء السماء، بسطها من تحت الكعبة مسيرة خمسمائة عام، ثم قال:
أَخْرَجَ مِنْها ماءَها «وَمَرْعاها» «5» - 31- يقول بحورها ونباتها لأن النبات والماء يكونان من الأرض وَالْجِبالَ أَرْساها- 32- يقول أوتدها في الأرض لئلا تزول، فاستقرت بأهلها، ثم رجع إلى «مرعاها «6» » فقال، فيها، مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ- 33- يقول معيشة لكم ولمواشيكم فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى - 34- يعني العظمى، وهي النفخة الآخرة من بيت المقدس، فذلك الطامة الكبرى وهي يوم القيامة.
قال الْهُذَيْلُ: «أَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها» إنما صارت مؤنثة لأن ظلمة الليل والشمس في السماء «مؤنثة «7» » قال وقال شاعر همذان يوم اليرموك:
__________
(1) سورة الانفطار: 1.
(2) سورة الانشقاق: 1.
(3) «وأنتم أضعف» : ليست فى أ، وهي من ف.
(4) فى أ، «صارت مؤنثة» ، وفى ف: «فى السموات» .
(5) «وَمَرْعاها» : ساقطة من الأصل.
(6) سقط تفسير الآية (31) من (أ) ، وكذلك الآية (32) مع تفسيرها ساقط من (أ) أى من كلمة (مرعاها) فى الآية (31) إلى كلمة «مرعاها» التالية ساقط من (أ) وهو من ف.
(7) «مؤنثة» : زيادة للتوضيح.(4/578)
أقدم «أبادهم «1» » على الأساوره ... ولا تغرنك أكف بادره
وإنما «قصرك «2» » «ترب «3» » الساهره ... ثم ترد بعدها في الحافره
من بعد ما كنت عظاما ناخره
قال: وفي قوله: «وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ» يعني في الخلق الأول من غير أب، «وَيَوْمَ أَمُوتُ» من ضغطة القبر، «وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا «4» » بالحجة على من قال أني رب.
ثم نعت الطامة فقال: «يَوْمَ «5» » يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ مَا سَعى - 35- يعني يتذكر ما عمل في الدنيا من الشر، يجزى به في ذلك اليوم وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى - 36- لأن الخلق يومئذ يبصرونها فمن كان منها أعمى في الدنيا؟ فهو يومئذ يبصر قال: فَأَمَّا مَنْ طَغى - 37- وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا- 38- نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث بن علقمة ابن كلدة، وفي حبيب بن عبد ياليل، وأمية بن خلف الجمحي، «عتبة «6» » «وعتيبة «7» » ابني أبي لهب، فهؤلاء كفار ومنهم مصعب «وأبو الدوم «8» » ابنا عمير، وذلك أنهم وجدوا جزورا فى البرية، ضلت من الأعراب فنحروها
__________
(1) فى أ: «أحاميهم» ، وفى ف: «أبادهم» .
(2) فى أ: «قصرت» ، وفى ف: «قصرك» . [.....]
(3) فى أ: «ترب» ، وفى ف: «ترك» .
(4) سورة مريم: 33.
(5) فى أ: «يومئذ» .
(6) فى أ: «وعقبة» ، وفى ف: «وعقبة» .
(7) فى أ، ف: «وعيينة» .
(8) فى أ: «وأبى الدوم» ، وفى ف: «وأبا الدوم» .(4/579)
وجعلوا يقتسمونها بينهم «فأصاب مصعب وأبو الدوم سهمين «1» » ، ثم إن مصعب ذكر مقامه بين يدي رب العالمين، فخاف أن يحاسبه الله- تعالى- يوم القيامة، فقال: إن سهمي وسهم أخي هو لكم، فقال له عند ذلك أمية بن خلف:
ولم؟ قال: إني أخاف أن يحاسبني الله به. فقال له أمية بن خلف: هاته وأنا أحمل عنك هذا الوزر عند إلهك في الآخرة «وفشت تلك «2» » المقالة في قريش فى أمر مصعب [228 ب] فأنزل- الله تعالى-: «فَأَمَّا مَنْ طَغى» الثابت على الشرك، وآثر الحياة الدنيا على الآخرة، ولم يخف الله ولا حسابه فأكل الحرام، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى - 39- ثم ذكر مصعب- قتل يوم أحد «3» - وأبا الدوم ابني عمير بن هشام بن عبد مناف بن عبد الدار بن قصي، فقال: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ يقول مقام ذلك اليوم بين يدي ربه وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى - 40- يقول قدر على معصيته فانتهى عنها مخافة حساب ذلك اليوم فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى - 41- نظيرها فى النجم «4» فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عند ذلك فقرأها عليهم، فقالوا:
متى هذا اليوم يا محمد؟ فأنزل الله- عز وجل- يَسْئَلُونَكَ يعني كفار مكة عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها- 42- فأجاب الله- عز وجل- النبي- صلى الله عليه وسلم- في النمل فقال: «قُلْ لا يعلم من فى السموات
__________
(1) فى ف: «فأصاب مصعب وأبا الدوم سهمان» .
وفى أ: «صار لمصعب وأبى الدوم سهمان» ، وفيه خطأ نحوي.
(2) فى أ: «وفشا ذلك» ، وفى ف: «وفشا تلك» .
(3) جملة اعتراضية تفيد أن مصعب بن عمير قتل يوم أحد.
(4) سورة النجم: 15، وقد وردت فى الأصول الرحمن.(4/580)
والأرض الغيب إلا الله «1» » يقول يسألونك عن القيامة متى قيامها، فقال:
فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها- 43- أي من أين تعلم ذلك إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها- 44- يقول منتهى علم ذلك إلى الله- عز وجل- نظيرها في الأعراف، ثم قال: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها- 45- يقول إنما أنت رسول تنذر بالساعة من يخشى ذلك اليوم، ثم نعت ذلك اليوم فقال: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها الساعة يظنون أنهم لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا ونعيمها إِلَّا عَشِيَّةً وهي ما بين صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس أَوْ ضُحاها- 46- يقول أو ما بين طلوع الشمس إلى أن ترتفع الشمس على قدر عشية الدنيا أو ضحا الدنيا.
__________
(1) سورة النمل: 65.(4/581)
سورة عبس(4/583)
[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 42]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24)
أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29)
وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34)
وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)(4/585)
[سورة عبس «1» ] سورة الأعمى مكية عددها «اثنتان «2» » وأربعون آية كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة.
بيان حال الأعمى، وذكر شرف القرآن، والشكاية من أبى جهل، وإنكاره البعث والقيامة، وإقامة البرهان من حال الثبات على البعث، وإحياء الموتى، وشغل الخلق فى العرصات، وتفاوت حال أهل الدرجات والدركات فى قوله: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ، ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ، تَرْهَقُها قَتَرَةٌ، أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ» سورة عبس: 38- 42.
(2) فى أ: «اثنان» ، والصواب: «اثنتان» ، أو «ثنتان» .
(3) فى المصحف: (80) سورة عبس مكية وآياتها 43 نزلت بعد سورة النجم. [.....](4/587)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: عَبَسَ وَتَوَلَّى- 1- يقول عبس بوجهه وأعرض إلى غيره نزلت في عبد الله بن أبى سرح الأعمى، وأمه أم مكتوم، اسمه عمرو بن قبس بن زائدة بن رواحة بن الأصم بن حجر بن عبدود بن بغيض بن عامر بن لؤي بن غالب.
وأما أم مكتوم: اسمها عاتكة بنت عامر بن عتكة بن عامر بن مخزوم بن «يقظة «1» » بن مرة بن كعب بن لؤي، وذلك أنه ذات يوم كان جالسا في المسجد الحرام وحده ليس معه «ثان «2» » ، وكان «رجلا «3» » مكفوف البصر، إذ نزل ملكان من السماء ليصليا في المسجد الحرام، فقالا: من هذا الأعمى الذي لا يبصر في الدنيا ولا في الآخرة؟ قال أحدهما: ولكن أعجب من أبي طالب يدعو الناس إلى الإسلام! وهو لا يبصرهما، ويسمع ذلك، فقام عبد الله حتى أتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وإذا معه أمية بن خلف [229 أ] ، والعباس بن عبد المطلب وهما قيام بين يديه يعرض عليهما الإسلام، فقال عبد الله:
يا محمد، قد جئتك تائبا فهل لي من توبة؟ فأعرض النبي- صلى الله عليه وسلم- وجهه عنه، وأقبل بوجهه إلى العباس وأمية بن خلف، «فكرر
__________
(1) فى أ: «لعطه» بدون إعجام، وفى ف: «يقظة» مع الإعجام.
(2) فى أ: «ثانى» .
(3) فى أ: «رجل» .(4/589)
عبد الله كلامه «1» » فأعرض النبي- صلى الله عليه وسلم- «بوجهه «2» » وكلح، فاستحيى عبد الله وظن أنه ليس له توبة فرجع إلى منزله، فأنزل الله- عز وجل- فيه «عَبَسَ وَتَوَلَّى» يعني كلح النبي- صلى الله عليه وسلم- وتولى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى - 2- ثم قال: وَما يُدْرِيكَ يا محمد لَعَلَّهُ يَزَّكَّى- 3- يقول لعله أن يؤمن فيصلي فيتذكر في القرآن بما قد أفسد «أَوْ يَذَّكَّرُ» «3» في القرآن فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى - 4- يعني الموعظة يقول أن تعرض عليه الإسلام فيؤمن فتنفعه تلك الذكرى ف أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى - 5- عن الله فى نفسه يعنى أمية ابن خلف فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى- 6- يعني تدعو وتقبل بوجهك وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى- 7- يقول وما عليك ألا يؤمن ولا يصلح ما قد أفسد، هؤلاء النفر وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى - 8- في الحر وَهُوَ يَخْشى - 9- الله يعني ابن أم مكتوم فَأَنْتَ عَنْهُ يا محمد تَلَهَّى- 10- يعني تعرض بوجهك عنه، ثم وعظ الله- عز وجل- النبي- صلى الله عليه وسلم- أن «لا يقبل «4» » على من استغنى عنه فقال: لا تقبل عليه ولا تعرض عن من جاءك يسعى، ولا تقبل على من استغنى وتعرض عن من يخشى ربه، فلما نزلت هذه الآية في ابن أم مكتوم، أكرمه النبي- صلى الله عليه وسلم- واستخلفه بعد ذلك على المدينة مرتين في غزواته «5» ، ثم انقطع الكلام، ثم استأنف فقال:
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وهي من القرطبي، وليست فى أ، ولا ف، ولا فى جميع النسخ.
(2) فى أ: «وجهه» .
(3) «أو يذكر» : ساقطة من أ، ف.
(4) فى الأصل: «يقبل» .
(5) كذا فى القرطبي وغيره، وفى أ، ف واستخلفه بعد ذلك فى غزاته على المدينة، فى غزاة بنى كنانة مرتين.(4/590)
كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ- 11- يعنى آيات القرآن فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ- 12- يعني الرب- تعالى- نفسه، يقول من شاء الله- تعالى- فهمه يعني القرآن، يقول من شاء ذكر: أن يفوض الأمر إلى عباده، ثم قال: إن هذا القرآن فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ- 13- يعني في كتب مكرمة مَرْفُوعَةٍ يعني به اللوح المحفوظ، مرفوعة فوق السماء الرابعة، نظيرها في الواقعة «1» عند الله مُطَهَّرَةٍ- 14- من الشرك والكفر بِأَيْدِي سَفَرَةٍ- 15- يعني تلك الصحف بأيدي كتبة كرام مسلمين، ثم أثنى على الملائكة الكتبة فقال: كِرامٍ يعني مسلمين، وهم الملائكة بَرَرَةٍ- 16- يعني مطيعين لله- تعالى- أنقياء أبرار من الذنوب، وكان ينزل إليهم من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، إلى الكتبة من الملائكة، ثم ينزل به جبريل إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- ثم انقطع الكلام، فذلك قوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ يعنى لعن الإنسان ما أَكْفَرَهُ- 17- يقول ما الذي أكفره، نزلت هذه الآية في عتبة بن أبى لهب بن عبد المطلب [299 ب] وذلك أنه كان غضب على أبيه فأتى محمدا- صلى الله عليه وسلم- فآمن به، «فلما رضي أبوه عنه وصالحه «2» » وجهزه وسرحه إلى الشام بالتجارات «فقال «3» » : بلغوا محمدا عن عتبة أنه قد كفر بالنجم،
فلما سمع بذلك النبي- صلى الله عليه وسلم- قال:
اللهم سلط عليه كلبك يأكله فنزل ليلا في بعض الطريق فجاء الأسد فأكله، ثم قال وهو يعلم: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ
- 18- فأعلمه كيف خلقه ليعتبر في خلقه فقال: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ- 19- فى
__________
(1) بشير إلى قوله- تعالى-: «وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ» سورة الواقعة: 34.
(2) فى أ: «فلما رضى عنه فصالحه» ، وفى ف: «فلما رضى أبوه عنه وصالحه» .
(3) «فقال» : كذا فى أ، ف، والأنسب، «قال» .(4/591)
بطن أمه مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مضغة، ثم عظما، ثم روحا، فقدر هذا الخلق في بطن أمه ثم أخرج من بطن أمه ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ- 20- يعني هون طريقه في الخروج من بطن أمه يقول يسره للخروج أقلا يعتبر فيوحد الله في حسن خلقه فيشكر الله في نعمه ثُمَّ أَماتَهُ عند أجله فَأَقْبَرَهُ- 21- ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ- 22- في الآخرة يعني إذا شاء بعثه من بعد موته كَلَّا لا يؤمن الإنسان بالنشور، ثم استأنف فقال: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ- 23- يعني ما عهد الله إليه أمر الميثاق الأول، يعنى التوحيد، يعنى به آدم- عليه السلام- ثم استأنف ذكر ما خلق عليه، «فذكر «1» » رزقه ليعتبر، فقال: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ يعني عتبة بن أبي لهب إِلى طَعامِهِ- 24- يعني رزقه أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا- 25- على الأرض يعني المطر ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا- 26- يعني عن النبت والشجر فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا- 27- يعني الحبوب كلها وَعِنَباً وَقَضْباً- 28- يعني به الرطاب وَزَيْتُوناً يعني الرطبة التي يعصر منها الزيت وَنَخْلًا- 29- وَحَدائِقَ غُلْباً- 30- يعني الشجر الملتف الشجرة التي يدخل بعضها في جوف بعض وَفاكِهَةً وَأَبًّا- 31- يعني المرعى مَتاعاً لَكُمْ يقول في هذا كله متاعا لكم وَلِأَنْعامِكُمْ- 32- ففي هذا معتبر، وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- خلقتم من سبع، ورزقتم من سبع، وخرجتم على سبع، فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ- 33- يعني الصيحة «صاخت «2» » أسماع الخلق بالصيحة من «الصائح «3» » ، يسمعها الخلق، ثم عظم الرب
__________
(1) فى أ: «ذكر» .
(2) فى أ: «ساخت» ، وفى ف: «صاخت» .
(3) فى أ: «للصائح» ، وفى ف: من «الصائح» . [.....](4/592)
- عز وجل- ذلك فقال: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ- 34- يعني لا يلتفت إليه وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ- 35- وَصاحِبَتِهِ يعني وامرأته وَبَنِيهِ- 36- لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ- 37- «يعني إذا وكل بكل إنسان ما يشغله «1» » عن هؤلاء الأقرباء وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ- 38- يعني فرحة بهجة، ثم نعتها فقال: ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ- 39- لما أعطيت من الخير والكرامة، قال: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ- 40- يعنى السواد كقوله: «سَنَسِمُهُ» بالسواد «عَلَى الْخُرْطُومِ «2» » تَرْهَقُها قَتَرَةٌ- 41- يعني يغشاها الكسوف وهي الظلمة، ثم أخبر الله- عز وجل- عنهم، فقال: أُولئِكَ الذين كتب الله هذا لهم الشر في الآخرة هُمُ الْكَفَرَةُ يعني الجحدة والظلمة وهم الْفَجَرَةُ- 42- يعني الكذبة.
قال النبي- صلى الله عليه وسلم- نزل القرآن في ليلة القدر جميعا كله من اللوح المحفوظ إلى السفرة من الملائكة في السماء الدنيا، ثم أخبر به جبريل- صلى الله عليه وسلم- في عشرين شهرا، ثم أخبر به جبريل النبي- صلى الله عليهما- فى عشرين سنة.
__________
(1) فى أ، ف: «يعنى إذا وكل بكل إنسان شغله أمره عن هؤلاء الأقرباء» .
(2) سورة القلم: 16.
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 38(4/593)
سورة التكوير(4/595)
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 29]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)(4/597)
[سورة التكوير «1» ] سورة التكوير مكية عددها تسع وعشرون آية كوفى «2» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان أحوال القيامة، وأهوالها، وذكر القسم على أن جبريل أمين على الوحى، مكين عند ربه أن محمدا- صلى الله عليه وسلم- لا منهم، ولا بخيل، يقول الحق، وبيان حقيقة المشيئة والإرادة فى قوله: « ... إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» سورة التكوير: 29.
(2) فى المصحف: (81) سورة التكوير مكية وآياتها 29 نزلت بعد سورة المسد.(4/599)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ- 1- فذهب ضؤها وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ- 2- يعنى اكدارت الكواكب وتناثرت وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ- 3- من أما كنها واستوت بالأرض كما كانت أول مرة وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ- 4- يعني وإذا النوق الحوامل أهملت، يعني الناقة الحاملة نسيها أربابها، وذلك أنه ليس شيء أحب إلى الأعراب من الناقة الحاملة، يقول أهملها أربابها للأمر الذي عاينوه وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ- 5- يعنى جمعت وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ- 6- يعني فجرت بعضها في جوف بعض العذب والمالح ملئت في البحر المسجور يعني الممتلئ فصارت البحور كلها بحرا واحدا مثل طشت فيه ماء، وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ- 7- أزوجت «أنفس «1» » المؤمنين مع الحور العين، وأزوجت أنفس الكافرين مع الشياطين يعني ابن آدم وشيطانه مقرونا في السلسلة الواحدة زوجان، نظيرها فى سورة الصافات قوله- عز وجل-:
احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ ... «2» يعنى قرناءهم وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ- 8- يعني دفن البنات، وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا ولدت «له «3» » الابنة دفنها في التراب وهي حية فذلك قوله: «وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ» ،
__________
(1) «أنفس» : ساقطة من أ.
(2) سورة الصافات: 22.
(3) فى أ: «لهم» .(4/601)
بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ- 9- سئل قاتلها بأي ذنب قتلها وهي حية لم تذنب قط وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ- 10- وذلك أن المرء إذا مات طويت صحيفته، فإذا كان يوم القيامة نشرت للجن والإنس فيعطون كتبهم، فتعطيهم الحفظة منشورا بأيمانهم وشمائلهم وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ- 11- عن من فيها لنزول الرب- تبارك وتعالى- والملائكة، ثم طويت وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ- 12- يعنى أوقدت لأعدائه وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ- 13- يعني قربت لأوليائه عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ- 14- يعني علمت ما عملت فاستيقنت من خير أو شر تجزى به كل هذا يوم القيامة، ثم أقسم الرب- تعالى- فقال: فَلا أُقْسِمُ يعني أقسم بِالْخُنَّسِ- 15- وهي خمس من الكواكب، بهرام، والزهرة، وزحل، والبرجهس يعني المشترى، وعطارد، والخنس التي خنست بالنهار فلا ترى، وظهرت بالليل فترى، قال: «الْجَوارِ «1» » الْكُنَّسِ- 16- لأنهن يجرين في السماء الكنس يعني تتوارى كما تتوارى الظباء في كناسهن، وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ- 17- يعنى إذا أظلم وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ- 18- يعني إذا أضاء لونه فأقسم الله- تعالى- بهؤلاء الآيات أن هذا القرآن، «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» «2» - 19- على الله يعني جبريل- عليه السلام-، هو علم محمدا- صلى الله عليه وسلم- ذِي قُوَّةٍ يعنى ذا بطش، وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- حين بعث، قال إبليس:
من لهذا النبي الذي خرج من أرض تهامة؟ فقال شيطان- واسمه الأبيض- هو صاحب الأنبياء: أنا له، فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فوجده فى
__________
(1) فى أ: «الجواري» .
(2) «إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ» : ساقطة من أ.(4/602)
بيت الصفا فلما انصرف قام الأبيض في صورة جبريل- صلى الله عليه وسلم- ليوحي إليه، فنزل جبريل- عليه السلام- فقام بينه وبين النبي- صلى الله عليه وسلم- فدفعه جبريل- صلى الله عليه وسلم- بيده دفعة هينة فوقع من مكة بأقصى الهند من فرقه، ثم قال: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ
- 20- جبريل- عليه السلام- يقول وهو وجيه عند الله- عز وجل- ثم قال:
مُطاعٍ ثَمَّ يعنى هنالك فى السموات، كقوله: « ... وَأَزْلَفْنا» يعني قربنا «ثم ... «1» » يعني هنالك، وكقوله: «وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ «2» ... » «3» يعني هنالك، وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- ليلة عرج به إلى السموات رأى إبراهيم- صلى الله عليه وسلم- وموسى- «عليهما «4» » السلام- فصافحوه «وأداره جبريل على الملائكة في السموات فاستبشروا به» «5» وصافحوه «ورأى مالكا «6» » خازن النار، فلم يكلمه ولم يسلم عليه فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- لجبريل- عليه السلام-: من هذا؟ قال: هذا مالك خازن جهنم لم يتكلم قط، وهؤلاء النفر معه، فخزنة جهنم نزعت منهم الرأفة والرحمة، وألقي عليهم العبوس والغضب على أهل جهنم أما إنهم لو كلموا أحدا منذ خلقوا لكلموك لكرامتك على الله- عز وجل- فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قُلْ له
__________
(1) «ثم» : ساقطة من الأصل، والآية من سورة الشعراء: 64.
(2) فى أ، ف: «فى» .
(3) سورة الإنسان: 25.
(4) فى أ، ف: «عليهم» .
(5) فى ف: «وإذا رأوا الملائكة فى السماوات فاستبشروا به» ، وفى أ: «وأداره فى الملائكة فى السموات فاستبشروا به» . [.....]
(6) فى ف: «فرأى مالك» ، وفى أ: «ورأى مالك» .(4/603)
فليكشف عن باب منها، فكشف عن مثل منخر الثور منها، فتخلخلت فجاءت بأمر عظيم، حسبت أنها الساعة حتى أهيل منها النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لجبريل: «مره فليردها «1» » فأمره جبريل- صلى الله عليه- فأطاعه مالك- عليه السلام- فردها،
فذلك قوله: «مُطاعٍ ثَمَّ» أَمِينٍ- 21- يسمى أمينا لما استودعه- عز وجل- من أمره فى خلقه وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ- 22- يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- وذلك أن كفار مكة قالوا: إن محمدا مجنون، وإنما «تقوله «2» » من تلقاء نفسه، وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ- 23- يعني من قبل المطلع، وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- رأى جبريل- عليه السلام- في صورته من قبل المشرق بجبال مكة قد ملأ الأفق رجلاه في الأرض، ورأسه في السماء، وجناح له من قبل المشرق، وجناح له من قبل المغرب، فغشى على النبي- صلى الله عليه وسلم- فتحول جبريل- عليه السلام- في صورة البشر، فقال:
أنا جبريل، وجعل يمسح عن وجهه «3» ، ويقول: أنا أخوك أنا جبريل، حتى أفاق فقال المؤمنون: ما رأيناك منذ بعثت أحسن منك اليوم وفقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: أتاني جبريل- عليه السلام- في صورته.
فعلقني هذا من حسنه، وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ «بِضَنِينٍ» «4» - 24- «بظنين «5» »
__________
(1) «مره فليردها» : من ف، وليست فى أ.
(2) فى أ: «يقوله» .
(3) أى عن وجه النبي- صلى الله عليه وسلم-.
(4) فى أ: «بظنين» ، وقراءة حفص «بضنين» .
(5) «بظنين» : زيادة اقتضاها السياق.(4/604)
يعني وما محمد- صلى الله عليه وسلم- على القرآن بمتهم، ومن قرأ «بضنين» ، يعني ببخيل، [231 أ] وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ- 25- يعني ملعون، وذلك أن كفار مكة قالوا إنما يجيء به الري، وهو الشيطان واسمه الري فيلقيه على لسان محمد- صلى الله عليه وسلم-، فيها تقديم، يقول لكفار مكة فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ- 26- يعني أين تعجلون عن كتابي وأمري لقولهم إن محمدا مجنون إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ- 27- يعني ما في القرآن إلا تذكرة وتفكر للعالمين لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ يا أهل مكة أَنْ يَسْتَقِيمَ- 28- على الحق، ثم رد المشيئة إلى نفسه فقال: وَما تَشاؤُنَ «الاستقامة «1» » إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ- 29-.
قوله: «وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ» أظلم عن كل دابة، الخنافس، والحيات، والعقارب، والسباع، «والوحوش «2» » .
__________
(1) فى أ: «الإقامة»
(2) فى أ: «والوحش» ، وفى ف: «والوحوش» ، والجملة مضطر فى أ، وهي من ف.(4/605)
سورة الانفطار(4/607)
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 39(4/609)
[سورة الانفطار «1» ] سورة الانفطار مكية عددها «تسع «2» عشرة آية كوفى» .
__________
(1) معظم مقصود السورة الخبر عن حال السماء ونجومها فى آخر الزمان وبيان غفلة الإنسان، وذكر الملائكة الموكلين بما يصدر من اللسان والأركان، وبيان إيجاد الحق- تعالى- الحكم يعم يحشر الإنس والجان.
(2) فى أ: «سبعة عشر آية كوفى» .
وفى المصحف: (82) سورة الانفطار مكية وآياتها (19) نزلت بعد سورة النازعات.
وفى بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي وآياتها تسع عشرة.(4/611)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ- 1- يعني انشقت يعني انفرجت من الخوف لنزول الرب- عز وجل- والملائكة، ثم طويت وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ- 2- يعني تساقطت وَإِذَا الْبِحارُ يعني العذب والمالح فُجِّرَتْ- 3- بعضها في جوف بعض، فصارت البحار بحرا واحدا، فامتلأت وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ- 4- يعني بحثت عن من فيها من الموتى عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ من خير وَأَخَّرَتْ- 5- من سيئة يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ- 6- نزلت في أبي الأشدين، اسمه أسيد بن كلدة، وكان أعور شديد البطش، فقال: لئن أخذت بحلقة من باب الجنة ليدخلنها بشر كثير، ثم قتل يوم فتح مكة، يعني غره الشيطان. ثم قال: الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ- 7- يعني فقومك فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شاءَ رَكَّبَكَ- 8- يعني لو شاء ركبك في غير صورة الإنسان كَلَّا لا يؤمن هذا الإنسان بمن خلقه وصوره، ثم قال: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ- 9- يعنى بالحساب وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ- 10- من الملائكة يحفظون أعمالكم، ثم نعتهم فقال: [231 ب] : كِراماً يعني مسلمين كاتِبِينَ- 11- يكتبون أعمال بني آدم بالسريانية، فبأي لسان تكلم ابن آدم؟ فإنه إنما يكتبونه بالسريانية والحساب بالسريانية، وإذا دخلوا الجنة تكلموا بالعربية على لسان محمد- صلى الله عليه وسلم- يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ- 12- من الخير والشر(4/613)
فيكتبون إِنَّ الْأَبْرارَ يعني المطيعين لله في الدنيا لَفِي نَعِيمٍ- 13- يعني نعيم الآخرة وَإِنَّ الْفُجَّارَ يعني الظلمة في الدنيا لَفِي جَحِيمٍ- 14- يعنى النار: يعنى ما عظم منها يَصْلَوْنَها يصلون الجحيم يَوْمَ الدِّينِ- 15- يعني يوم الحساب يوم يدان بين العباد بأعمالهم وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ- 16- يعني الفجار محضرون الجحيم لا يغيبون عنها، ثم قال: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ- 17- تعظيما له، كرره فقال: ثُمَّ مَا أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ- 18- يعنى يوم يوم الحساب، ثُمّ أخبر نبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن يوم الدين فقال يَوْمَ لا تَمْلِكُ يعنى لا تقدر نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً يعني من المنفعة، ثم قال: وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ- 19- يعني يوم الدين كله لله وحده، يعني لا يملك الأمر يومئذ أحد غيره، وحده.(4/614)
سورة المطفّفين(4/615)
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 36]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9)
وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)
كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24)
يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (36)(4/617)
[سورة المطففين «1» ] سورة المطففين مدنية عددها «ست «2» » وثلاثون آية كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
تمام الكيل والميزان، والاحتراز عن البخس والنقصان، وذكر السجين لأهل العصيان وذكر العليين لأهل الإيمان، ودلال المؤمنين والمطيعين فى نعيم الجنان، وذل العصاة فى عذاب النيران، ومكافأتهم على وفق الجرم والكفران، فى قوله تعالى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ سورة المطففين: 36.
(2) فى أ: «ستة» .
(3) فى المصحف: (83) سورة المطففين مكية وآياتها (36) نزلت بعد سورة العنكبوت وهي آخر سورة نزلت بمكة.(4/619)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ- 1- الويل واد في جهنم بعده مسيرة سبعين سنة، فيه تسعون ألف شعب، في كل شعب سبعون ألف شق، في كل شق سبعون ألف مغار، في كل مغار سبعون ألف قصر، في كل قصر سبعون ألف تابوت من حديد، وفي التابوت سبعون ألف شجرة، فى كل شجرة سبعون ألف غصن من نار، في كل غصن سبعون ألف ثمرة، في كل ثمرة دودة طولها سبعون ذراعا، تحت كل شجرة سبعون ألف ثعبان «وسبعون ألف عقرب، فأما الثعابين «1» » فطولهن مسيرة شهر في الغلظ مثل الجبال، وأنيابها مثل النخل، وعقاربها مثل البغال الدهم لها ثلاثمائة وستون فقار، في كل فقار قلة سم، وذلك
أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حين خرج إلى المدينة، وكان بسوق الجاهلية لهم كيلين وميزانين «معلومة «2» » لا يعاب عليهم فيها فكان الرجل إذا اشترى اشترى بالكيل الزائد، وإذا باعه باعه بالناقص، وكانوا يريحون بين الكيلين وبين الميزانين، «فلما قدم النبي- صلى الله عليه وسلم «3» » المدينة قال لهم: ويل لكم مما تصنعون. فأنزل الله- تعالى- التصديق على لسانه
__________
(1) ما بين القوسين « ... » من ف، وهي ساقطة من أ. [.....]
(2) «معلومة» : كذا فى أ، ف، والأنسب: «معلومين» .
(3) فى أ: «فلما خرج قدم المدينة النبي- صلّى الله عليه وسلم-» ، والمثبت من ف.(4/621)
فقال: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ»
ثم ذكر مساوئهم فقال: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ- 2- وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ- 3- يعني ينقصون، ثم خوفهم فقال: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ الذين يفعلون هذا [232] أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ- 4- لِيَوْمٍ عَظِيمٍ- 5- يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ- 6- فهو مقدار ثلاثمائة عام إذا أخرجوا من قبورهم فهم يجولون بعضهم إلى بعض قياما ينظرون، ثم خوفهم أيضا فقال: كَلَّا وهي وعيد مثل ما يقول الإنسان: والله، يحلف بربه والله- عز وجل- لا يقول والله، ولكنه يقول: «كلا» إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ- 7- يعني أعمال المشركين مكتوبة مختومة بالشر، موضوعة تحت الأرض السفلى، تحت خد إبليس، لأنه أطاعه، وعصى ربه، فذلك قوله: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ- 8- تعظيما لها، قال: كِتابٌ مَرْقُومٌ- 9-، ووعدهم أيضا فقال وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ- 10- بالبعث الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ- 11- يعني بيوم الحساب الذي فيه جزاء الأعمال، قال: وَما يُكَذِّبُ بِهِ بالحساب إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ- 12- يقول معتد بربه «حيث»
» شك في نعمته، وتعبد غيره «فهو «2» » المعتدى «أثيم» قلبه إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا يعنى القرآن قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ- 13- يعني به كتاب الأولين، مثل كتاب رستم واسفندباز، نزلت هذه الآية فى النضر ابن الحارث «بن علقمة قدم الحيرة «3» » فكتب حديث رستم واسفندباز فلما
__________
(1) فى أ: «خبيث» ، وفى ف: «حبث» .
(2) فى أ: «فهذا» ، وفى ف: «فهو» .
(3) «ابن علقمة قدم الحيرة» : ساقط من أ، وهو من ف.(4/622)
قدم «1» قال: ما يحدثكم محمد؟ قالوا: حدثنا عن القرون الأولى. قال:
وأنا أحدثكم بمثل ما يحدثكم به محمد أيضا. فأنزل الله- عز وجل- وفيه «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً «2» ... » ، فذلك قوله: «إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ، ثم وعدهم فقال: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ- 14- يقول طبعنا على قلوبهم، «فهم لا يبصرون إلى مساوتهم «3» » «فيقلعون «4» » عنها، ثم أوعدهم فقال: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ- 15- لأن أهل الجنة يرونه عيانا لا يحجبهم عنه، ويكلمهم، وأما الكافر فإنه يقام خلف الحجاب «فلا يكلمهم «5» » الله- تعالى- ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم حتى يأمر بهم إلى النار ثُمَّ إِنَّهُمْ يعني إذا حجبوا عن ربهم لَصالُوا الْجَحِيمِ- 16- ثُمَّ يُقالُ لهم هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ- 17- وذلك أن أهل النار «يقول «6» » لهم مالك خازن النار هَذِهِ: « ... النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ «7» » ، «أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ، اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «8» » ، فذلك قوله: «ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ» ، ثم أوعدهم فقال: كَلَّا ثم انقطع الكلام، ثم رجع إلى قوله فى:
__________
(1) كذا فى أ، ف: والمعنى «فلما قدم من الحيرة إلى مكة» .
(2) سورة لقمان: 6.
(3) كذا فى أ، ف، وكان الأنسب: «فهم لا يبصرون مساوئهم» .
(4) فى أ: «فيقطعون» ، وفى ف: «فيقلعون» .
(5) كذا فى أ، ف: والأنسب: «فلا يكلمه» . لأن الحديث عن المفرد، ولكنه ضمن الكافر معنى الجنس فأرجع ضمير الجمع عليه.
(6) فى أ: «قال» .
(7) سورة سبأ: 42.
(8) سورة الطور: 15- 16.(4/623)
«وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» فقال إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ- 18- لفي ساق العرش يعني أعمال المؤمنين وحسناتهم وَما أَدْراكَ [232 ب] ما عِلِّيُّونَ- 19- تعظيما لها فقال: كِتابٌ مَرْقُومٌ- 20- يعني كتاب من كتب الخير مختوم ختم بالرحمة مكتوب عند الله- عز وجل- يَشْهَدُهُ يشهد ذلك الْمُقَرَّبُونَ- 21- وهم الملائكة من كل سماء سبعة أملاك من مقربي أهل كل سماء يشيعون ذلك العمل الذي يرضاه الله حتى ثبوته عند الله- جل وعز- ثم يرجع كل ملك إلى مكانه، «ثم ذكر «1» » الأبرار فقال: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ- 22- يعني نعيم الجنة، ثم بين ذلك النعيم فقال: عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ- 23- إلى ذلك النعيم وهي السرر والحجال فإذا كان «سريرا «2» » ولم يكن عليه حجلة فهو السرير حينئذ، وإذا كانت الحجلة ولم يكن فيها سرير فهي الحجلة، فإذا اجتمع السرير والحجلة فهي الأرائك يعني هؤلاء جلوس ينظرون إلى ذلك النعيم، يقول: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ- 24- لأنه يعلق في وجهه النور من الفرح والنعيم فلا يخفى عليك إذا نظرت إليهم فرحون، ثم قال: يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ- 25- وهو الخمر الأبيض إذا انتهى طيبه خِتامُهُ مِسْكٌ إذا شرب وفرغ ونزع الإناء من فيه وجد طعم المسك وَفِي ذلِكَ يعني وفى ذلك الطيب وفى الجنة فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ- 26- يعني فليتنازع المتنازعون، وفيه فليرغب الراغبون، ثم قال: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ- 27- عَيْناً من جنة عدن فتنصب عليهم انصبابا فذلك قوله
__________
(1) فى أ: «ثم أيضا» . [.....]
(2) فى أ: «سرير» ، وفى، ف: «سريرا» .(4/624)
يَشْرَبُ «1» «بِهَا» الْمُقَرَّبُونَ- 28- يقول يشربون به الخمر من ذلك الماء وهم أهل جنة عدن، وهي أربعة جنان وهي قصبة الجنة، ماء تسنيم يخرج من جنة عدن، والكوثر، والسلسبيل، ثم انقطع الكلام، قوله إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ- 29- نزلت هذه الآية في- علي بن أبي طالب- وأصحابه وذلك أنهم كانوا يمرون كل يوم على المنافقين واليهود وهم ذاهبون إلى رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإذا رأوهم سخروا منهم وتغامزوا في أمرهم، «وضحكوا «2» » منهم وإذا رجعوا إلى أصحابهم، ضحكوا منهم، وذلك أن عبد الله بن نتيل لقي بدعة بن الأقرع فقال: أشعرت أنا رأينا اليوم الأصلع فضحكنا منه؟ قال: كيف؟ قال لأنه يمشي بين أيديهم، وهم خلفه لا يجاوزونه، كأنه هو الذي يدلهم على الطريق، فسمع بذلك أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- فشق عليه وعلى أصحابه فتركوا ذلك الطريق وأخذوا طريقا آخر، فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فيهم «إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ» وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ
- 30- وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا «فَكِهِينَ» «3» - 31- يعنى عبد الله بن نتيل، يعنى [233 أ] إذا رجعوا إلى قومهم رجعوا معجبين بما هم عليه من الضلالة بما فعلوا بعلي وأصحابه- رحمهم الله.
«وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ- 32- وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ «4» » - 33-.
__________
(1) «بها» : ساقطة من أ.
(2) فى أ: «ويضحكون» .
(3) فى أ: «فاكهين» .
(4) الآية 32، 33 ساقطتان من أ، ف مع تفسيرهما.
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 40.(4/625)
ثم أخبر بجزائهم على الله فقال: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ- 34- عَلَى الْأَرائِكِ والأرائك السرير في الحجلة، يقول جلوس في الحجلة يضحكون من أعدائهم، وذلك أن لكل رجل من أهل الجنة ثلمة، ينظرون إلى أعداء الله كيف يعذبون؟ فإذا نظروا إلى أهل النار وما يلقون هم من رحمة الله- عز وجل- وعرفوا أن الله قد أكرمهم، فهم ضاحكون من أهل النار، ويكلمونهم حتى يطبق على أهل النار أبوابها في «عمد «1» » من حديد من نار كأمثال الجبال فإذا أطبقت عليهم «انسدت «2» » تلك الكوى فيمحو الله أسماءهم «ويخرجهم «3» » من قلوب المؤمنين، فذلك قوله: يَنْظُرُونَ- 35- هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ- 36- «يعنى ينظرون من الكوى «4» » فإذا رأوهم يعذبون قالوا والله قد ثوب الكفار ما كانوا يفعلون «5» .
__________
(1) فى أ: «عمد» ، وفى ف: «عماد» .
(2) فى أ: «أسندت» ، وفى ف: «انسدت» .
(3) فى أ، ف: «وأخرجهم» .
(4) فى ف: «هل» .
(5) فى ف: زيادة: «يعنى ينظرون، فى الكوى» .(4/626)
سورة الانشقاق(4/627)
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 25]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24)
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)(4/629)
[سورة الانشقاق «1» ] سورة الانشقاق مكية عددها «خمس وعشرون «2» » آية كوفى «3» .
__________
(1) مقصود السورة:
بيان حال الأرض والسماء فى طاعة الخالق- تعالى- وإخراج الأموات للبعث، والاشتغال بالبر والإحسان وبيان سهولة الحساب للمطيعين والإخبار عن قرحهم بنعيم الجنان، وبكاء العاصين والكافرين، وويلهم بالثبوت فى دركات النيران، والقسم بتشقق القمر، واطلاع الحق على الإصرار والإعلان وجزاء المطيعين من غير امتنان، فى قوله: « ... فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ» سورة الانشقاق: 25.
(2) فى أ: «خمس وأربعون» .
(3) فى المصحف: (84) سورة الانشقاق مكية وآياتها (25) ، نزلت بعد سورة الانفطار.(4/631)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ- 1- يقول انشقت لنزول رب العزة والملائكة فإنها تنشق حتى يرى «طرفاها «1» » ، ثم ترى خلقا باليا، وذلك أن أخوين من بني أمية «أحدهما اسمه عبد الله بن عبد الأسد، والآخر اسمه الأسود «2» ابن عبد الأسد» .
أحدهما مؤمن بالله واسمه عبد الله، وأما الآخر فاسمه الأسود وهو الكافر، فقال لأخيه عبد الله: آمنت بمحمد؟ قال: نعم. قال: ويحك إن محمدًا يزعم، إذا متنا وكنا ترابا، فإنا لمبعوثون في الآخرة، ويزعم أن الدنيا تنقطع، فأخبرني ما حال الأرض يومئذ فأنزل الله- عز وجل- «إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ» ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ- 2- يقول انشقت وسمعت لربها وأطاعت، وكان بحق لها ذلك وَ «3» إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ- 3- مثل الأديم الممدود وَأَلْقَتْ ما فِيها من الحيوان وَتَخَلَّتْ- 4- وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ- 5-
__________
(1) فى أ: «طرفيها» ، وفى ف: «طرفاها» . [.....]
(2) من ف، وفى أ: «أحدهما اسمه عبد الله بن عبد الأسود، والآخر اسمه الأسود ابن عبد الأسود» .
(3) الآيات 3، 4، 5 ساقطة من أ.
والسورة بها أخطاء فى أ، وكذلك تصويرها مهتز فى (أ) أيضا، وقد اعتمدت على ف (فيض الله) ، ح، (حميدية) ، م (أمانة) ، ل (كوبريلى) فى تحقيقها.(4/633)
يقول سمعت لربها وأطاعت وكان بحق لها ذلك، ثم قال: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ يعني بالإنسان الأسود بن عبد الأسد إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً إنك ساع إلى ربك سعيا فَمُلاقِيهِ- 6- بعملك، ثم قال: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ- 7- وهو عبد الله بن عبد الأسد ويكنى أبا سلمة فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً- 8- يقول باليسير، بأن الله «لا يغير «1» » حسناته ولا يفضحه، وذلك أن الله- عز وجل- إذا جمع الخلائق يوم القيامة، فإنهم يموج بعضهم فى بعض، مقدار ثلاثمائة سنة، حتى إذا استوى الرب- جل وعز- على كرسيه ليحاسب خلقه، فإذا جاء الرب- تبارك وتعالى- والملائكة صفا صفا، فينظرون إلى الجنة «وإلى النار «2» » «ويجاء بالنار «3» » من مسيرة خمسمائة عام، عليها تسعون ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، متعلق يحبسونها عن الخلائق، طول عنق أحدهم مسيرة سنة، وغلظها مسيرة سنة، ما بين منكبي أحدهم مسيرة خمسين سنة، وجوههم مثل الجمر، وأعينهم مثل البرق، إذا تكلم أحدهم، تناثرت من فيه النار، بيد كل واحد منهم مرزبة، عليها ثلاثمائة وستون رأسا، كأمثال الجبال، هي أخف بيده من الريشة، فيجيئون بها فيسوقونها حتى تقام عن يسار العرش، ويجاء بالجنة يزفونها كما تزف العروس إلى زوجها حتى تقام عن يمين العرش فإذا ما عاين الخلائق النار وما أعد الله لأهلها، ونظروا إلى ربهم وسكتوا، فانقطعت عند ذلك أصواتهم فلا يتكلم
__________
(1) كذا فى ف، والمعنى لا يضيع.
(2) كذا فى ف، ح، والأولى: «فينطلقون إلى النار» .
(3) فى ف: «حتى يجيئون بها» .(4/634)
أحد منهم من «فرق «1» » الله وعظمته ولما يرون من العجائب من الملائكة ومن حملة العرش، ومن أهل السموات ومن جهنم ومن خزنتها، فانقطعت أصواتهم عند ذلك، «وترتعد «2» » مفاصلهم فإذا علم الله ما أصاب أولياءه من الخوف، وبلغت القلوب الحناجر، فيقوم مناد عن يمين العرش، فينادي: «يَا عِبادِ، لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ «3» » فيرفع عند ذلك الإنس والجن كلهم رءوسهم والمؤمنون والكفار لأنهم عباده كلهم، ثم ينادي في الثانية: «الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ «4» » فيرفع المؤمنون رءوسهم، وينكس أهل الأديان كلهم رءوسهم، والناس سكوت مقدار أربعين عاما فذلك قوله: «هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ، وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «5» » .
وقوله: « ... لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً «6» » وقال لا إله إلا الله: فذلك الصواب، وقوله: « ... وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً «7» » فلا يجيبهم الله ولا يكلمهم ولا يتكلمون هم مقدار أربعين سنة، يقول بعد ذلك لملك من الملائكة وهو جبريل- عليه السلام- ناد الرسل وابدأ «بالأمي «8» » قال فيقوم الملك فينادي عند ذلك، أين «النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ» ؟ «9» فنقول
__________
(1) فرق: خوف، والمعنى من خوف الله.
(2) فى ف: «وترعد» .
(3) سورة الزخرف: 68.
(4) سورة الزخرف: 69.
(5) سورة المرسلات: 35- 46.
(6) سورة النبأ: 38.
(7) سورة طه: 108.
(8) فى ف: «بالعربي» ، وفى ح: «بالأمى» .
(9) فى ف: «النبيون» ، وفى ح: «النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ» . [.....](4/635)
الأنبياء عند ذلك كلنا نبيون وأميون فبين بين، فيقول النبي العربي الأمي الحرمي، فيقوم عند ذلك رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيرفع صوته بالدعاء، فيقول: كم من ذنب قد عملتموه ونسيتموه وقد أحصاه الله، رب لا تفضح أمتي. قال: فلا يزال يدنو من الله- تعالى- حتى يقوم بين يديه، أقرب خلقه إليه، فيحمد الله ويثني عليه، ويذكر من الثناء على الله- تعالى- والحمد، حتى تعجب الملائكة منه والخلائق، فيقول الله- عز وجل-:
قد «رضيت «1» » عنك يا محمد، اذهب فناد أمتك، فينادي، وأول ما يدعو يدعو من أمته عبد الله بن عبد الأسود «أبا سلمة «2» » ، فلا يزال يدنو فيقربه الله- عز وجل- منه فيحاسبه حسابا يسيرا، واليسير الذي لا يأخذه بالذنب الذي عمله ولا يغضب الله- عز وجل- عليه، فيجعل سيئاته داخل صحيفته وحسناته ظاهر صحيفته، فيوضع على رأسه التاج من ذهب عليه تسعون ألف ذؤابة، كل ذؤابة درة تساوي مال المشرق والمغرب ويلبس سبعين حلة من الاستبرق والسندس فالذي يلي جسده حريرة بيضاء، فذلك قوله: « ... وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ «3» » ويسور «بثلاث «4» » أسورة، سوار من فضة، وسوار من ذهب، وسوار من لؤلؤ، ويوضع إكليل مكلل بالدر والياقوت وقد تلألأ في وجهه، من نور ذلك، فيرجع إلى إخوانه من المؤمنين، فينظرون إليه وهو «جاء «5» »
__________
(1) فى ف: «ماضيت» ، وفى ح: «رضيت» .
(2) فى أ، ف: «أبو سلمة» .
(3) سورة الحج: 23.
(4) فى أ، ف: «بثلاثة» .
(5) فى أ: «جائي» ، وفى ف: «جاء» .(4/636)
من عند الله فتقول الملائكة «والناس «1» » والجن والله لقد أكرم الله هذا، لقد أعطى الله لهذا، فينظرون إلى كتابه فإذا سيئاته باطن صحيفته، وإذا حسناته ظاهر كتابه، فتقول عند ذلك الملائكة ما كان أذنب هذا الآدمي ذنبا قط! والله، لقد اتقى الله هذا العبد، فحق أن يكرم مثل هذا العبد، وهم لا يشعرون أن سيئاته باطن كتابه، وذلك لمن أراد الله- تعالى- أن يكرمه ولا يفضحه، قال فيأتي إخوانه من المسلمين فلا يعرفونه، فيقول: أتعرفوني؟ فيقولون كلهم:
لا، والله. فيقول: إنما برحت الساعة، وقد نسيتموني فيقول: أنا أبو سلمة، أبشروا بمثله يا معشر الإخوان، لقد حاسبني ربي حسابا يسيرا، وأكرمني، فذلك قوله: «فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً» وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ يقول إلى قومه مَسْرُوراً- 9-، فيعطى كتابه بيمينه « ... فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ، إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ «2» » إلى آخر القصة، ثم ينادي مناد «بالأسود ابن عبد الأسد «3» » «أخي «4» » عبد الله المؤمن فيريد الشقي أن يدنو، فينتهرونه، ويشق صدره حتى يخرج قلبه من وراء ظهره من بين كتفيه، «ويعطى «5» » كتابه، ويجعل كل حسنة عملها في دهره في باطن صحيفته، لأنه لم يؤمن بالإيمان، وتجعل سيئاته ظاهر صحيفته، ويحجب عن الله- عز وجل- فلا يراه، ولكن ينادي مناد من عند العرش يذكره مساوئه، فكلما ذكر مساوئه
__________
(1) فى أ، ف: «الناس» ، أقول قال- تعالى-: «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» سورة الناس: 6.
(2) سورة الحاقة: 19- 20.
(3) فى أ: «بالأسود بن عبد الأسود» ، وفى ف: «بالأسود بن عبد الله بن الأسد» .
(4) فى أ: «أخو» ، وفى ف: «أخى» .
(5) فى أ: «فيعطيه» .(4/637)
قال: أنا أعرف هذا، لعنه الله، فتجيء اللعنة من عند الله- عز وجل-، حتى تقع عليه، فيلطخ باللعنة، فيصير جسده مسيرة شهر في طول مسيرة ثلاثة أيام ولياليهن، ورأسه مثل الأقرع، وهو جبل عظيم بالشام وأنيابه مثل أحد، وحدقتاه مثل جبل [234 ب] حراء، الذي بمكة، ومنخره مثل «الووقين «1» » وهما جبلان، وشعره في الكثرة مثل الأجمة، وفي الطول مثل القصب، وفي الغلظ مثل الرماح، «ويوضع «2» » على رأسه تاج من نار، ويلبس جبة من نحاس ذائب، ويقلد «حجرا «3» » من كبريت، مثل الجبل «تشتعل «4» » فيه النار، وتغل يداه إلى عنقه، ويسود وجهه، وهو أشد سوادا من القبر، فى ليلة مظلمة، وتزرق عيناه: فيرجع إلى إخوانه، فأول ما يرونه يفزع منه الخلائق حتى «يمسكوا «5» » على آنافهم من شدة نتنه، فيقولون: لقد أهان الله هذا العبد، لقد أخزى الله هذا العبد، فينظرون إلى كتابه، فإذا سيئاته ظاهرة وليس له من الحسنات شيء. يقولون: أما كان لهذا العبد في الله- عز وجل- حاجة، «ولا خافه «6» » يوما قط، ولا ساعة، فحق «لهذا «7» » العبد، إذ «أخزاه «8» » الله وعذبه، «فتلعنه الملائكة أجمعون «9» » ، «فإذا رجع إلى الموقف لم يعرفه أصحابه «10» ،
__________
(1) الورقين: مثنية ورق وهو اسم لجبل.
وفى أ: «مثل الورقان وهما جبلان» ، وفيه خطأ نحوي فإن الورقين مثنى مضاف إليه مجرور بالباء
(2) فى أ: «فيوضع» .
(3) فى أ: «حجر» .
(4) فى أ: «تشعل» . [.....]
(5) فى أ: «يمسكون» .
(6) فى أ: «لا حاجة» ، وفى ف: «ولا خافه» .
(7) فى أ: «هذا» ، وفى ف: «لهذا» .
(8) فى أ: «أخزاه» ، وفى ف: «جزاء» .
(9) «فتلعنه الملائكة أجمعون» : من ف، وليست فى أ.
(10) «فإذا رجع إلى الموقف لم يعرفه أصحابه» : من ف، وليست فى أ.(4/638)
فيقول: أما تعرفوني؟ قالوا: لا والله، فيقول: أنا الأسود بن عبد «الأسد «1» » ، فينادي بأعلى صوته فيقول: « ... يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ، وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ، يَا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ، ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ «2» » .
يقول يا ليت كان الموت أن أموت فأستريح من هذا البلاء، هلك عنى حجتي اليوم، ثم يقول الويل، فيبشر أخوه المؤمنين، ويبشر هذا الكفار، فذلك قوله- تعالى-: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ- 10- فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً- 11- وَيَصْلى سَعِيراً- 12- يقول يدعو بالويل ويدخل النار، يقول: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً- 13- يقول في قومه كريما، قال فيذله الله- عز وجل- يوم القيامة، قال: إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ- 14- يقول أن لن يبعث، الله- تعالى-: بَلى «إِنَّ «3» » رَبَّهُ كانَ يقول الذي خلقه بِهِ بَصِيراً- 15- إنه شهيد لعمله، ثم أقسم الرب- عز وجل- فقال: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ- 16- فأما الشفق فهو الضوء الذي يكون بعد غروب الشمس إلى أن تغيب، قال: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ- 17- يقول «ما ساق»
» من الظلمة وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ- 18- في ليلة «ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة «5» » ، فهن البيض، فهو يستوي في الشهر ثلاث ليال يشتد ضوءه، ويجتمع من «ثلاث عشرة «6» » ، فأقسم الله
__________
(1) فى أ: «الأسود» ، وفى ف: «الأسد» .
(2) سورة الحاقة: 25- 28.
(3) فى أ: «أنه» .
(4) فى أ، ف: «ساق» .
(5) فى أ: «ليلة ثلاثة عشر، وأربعة عشر، وخمسة عشر» .
(6) فى أ، ف: «ثلاثة عشر» .(4/639)
- عز وجل- بالشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق لَتَرْكَبُنَّ:
هذا العبد طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ- 19- يقول حالا بعد حال يقول خلقا من نطفة، ثم صارت النطفة علقة، ثم صارت العلقة مضغة، ثم صارت إنسانا ميتا، في بطن أمه، حتى نفخ فيه الروح، ثم صار إنسانا حيا، ثم أخرجه الله- تعالى- من بطن أمه، فكان طفلا، ثم يبلغ أشده، ثم شاخ وكبر، ثم مات ولبث فى قبره [235 أ] حتى صار ترابا، ثم أنشأه الله- عز وجل- بعد ذلك يوم القيامة، قال: فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ- 20- بالبعث. «وقد كانوا من قبل هذا الذي وصفته «1» » وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ- 21- وذلك أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قرأ ذات يوم « ... وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ «2» » فسجد وسجد المؤمنون معه، وكانت قريش يصفقون فوق رؤوسهم ويصفرون وكان الذي يصفر قريب القرابة من رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فذلك قوله «وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً «3» » فلما سجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لم يسجدوا وسخروا منه، وكان إذا قرأ آذوه بالصفير والتصفيق، فأنزل الله- عز وجل- «فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ، وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ» ثم قال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يقول لكن الذين كفروا يُكَذِّبُونَ- 22- وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ- 23- يقول بما يجمعون عليه من الإثم والفسوق فَبَشِّرْهُمْ يا محمد بِعَذابٍ أَلِيمٍ- 24- يقول عذاب وجيع لأهل مكة كلهم، ثم استثنى لعلم قد سبق فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ- 25-.
__________
(1) فى أ: وكانوا من قبل هذا الذي وصفته، والمثبت من ف.
(2) سورة العلق: 35. [.....]
(3) سورة الأنفال: 35.(4/640)
سورة البروج(4/641)
[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 22]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)(4/643)
[سورة البروج «1» ] سورة البروج مكية عددها «اثنتان «2» » وعشرون آية كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
القسم على أصحاب الأخدود، وكمال ملك الله، وبيان ثواب المؤمنين وعذاب الكافرين، وما أعده الله للمطيع والعاصي، والإشارة إلى هلاك فرعون وثمود.
(2) فى أ: «اثنان» .
(3) فى المصحف: (85) سورة البروج مكية وآياتها (22) نزلت بعد سورة الشمس.(4/645)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ- 1- يقول والسماء ذات النجوم، نظيرها في «تَبارَكَ «1» الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً» يقول جعل في السماء نجوما، «وَجَعَلَ فِيها سِراجاً» وهي الشمس «وَقَمَراً مُنِيراً «2» » .
وقوله- تعالى-: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ- 2- يقول هو يوم القيامة الذي وعد الله- عز وجل- أولياءه الجنة، وأعداءه النار، فذلك قوله: «وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ «3» » .
وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ- 3- يقول يوم النحر، «والفطر «4» » ، ويوم الجمعة، فهذا قسم «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ «5» » ، قوله: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ- 4- وذلك أن يوسف بن «ذي «6» » نواس من أهل نجران كان حفر «خدا «7» » وأوقد فيه النار فمن تكلم منهم بالتوحيد أحرقه بالنار، وذلك «أنه «8» » كان قد آمن من قومه ثمانون رجلا وتسع نسوة فأمرهم أن يرتدوا عن الإسلام فأبوا فأخبرهم أنه سيعذبهم بالنار فرضوا
__________
(1) كذا فى أ، ف وكان الأنسب نظيرها فى «تبارك» (الفرقان) ، «تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً» .
(2) سورة الفرقان: 61.
(3) فى أ: (قوله: «واليوم والموعود» ) ، وفى ف: (فذلك قوله: «وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ» ) .
(4) «الفطر» : ساقطة من أ: وهي من ف.
(5) سورة البروج: 12.
(6) فى أ، ف: «ذا» .
(7) فى أ: «جرفا» ، وفى ف: «خدا» .
(8) فى أ: «أنه» ، وفى ف: «أنهم» .(4/647)
لأمر الله- عز وجل- فأحرقهم كلهم، فلم يزل ياقى واحدا بعد واحد فى النار حتى مرت امرأة ومعها صبي لها صغير يرضع فلما نظرت المرأة إلى ولدها أشفقت عليه، فرجعت «فعرضوا «1» » عليها أن تكفر فأبت فضربوها حتى رجعت فلم تزل ترجع مرة، وتشفق مرة، حتى تكلم الصبي فقال لها: يا أماه [235 ب] إن بين يديك نارا لا تطفأ أبدا، فلما سمعت قول الطفل «أحضرت «2» » حتى ألقت نفسها في النار، فجعل الله- عز وجل- أرواحهم في الجنة، وأوحى الله- تبارك وتعالى- إلى نبيه «محمد «3» » - صلى الله عليه وسلم- «قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ» يوسف بن «ذي «4» » نواس وأصحابه، ثم ذكر مساوئهم فقال: النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ- 5- إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ- 6- يعني أصحابه قعود على «شفة «5» » الخد وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ- 7- قال كانوا يعرفون أن يوسف بن ذي نواس ليس يعذب «إلا بالإيمان «6» » . ثم قال يتعجب من سوء صنيعهم، فقال: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ يقول وأي ريبة رأوا منهم؟ «ما عذبهم «7» » إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ فى نقمته «الْحَمِيدِ» «8» - 8- «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ «9» » وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من السر والعلانية شَهِيدٌ- 9-، ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ
__________
(1) فى أ: «فأعرضوا» .
(2) كذا فى أ، ف، والمعنى جاءت أو أحضرت نفسها. [.....]
(3) فى أ، وف: «محمدا» .
(4) فى أ، ف: «ذا» .
(5) فى أ: «شبه» ، وفى ف: «شفة» .
(6) كذا فى أ، ف، والأنسب «إلا على الإيمان» : أى لا يعذب إلا المؤمنين حتى يتركوا إيمانهم.
(7) كذا فى أ، ف، والأنسب: «ما عذبوهم» .
(8) فى أ، ف: ( «الحميد» فى السموات) .
(9) «الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» : ساقط من أ، ف.(4/648)
نظيرها فى سورة «وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا «1» » يقول: «يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ «2» » يعني يحرقون، ثم قال: ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا من ذلك فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ- 10-، ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وشهدوا أن لا إله إلا الله فهو الصالحات، نظيرها حين قال الله- عز وجل- « ... إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ... «3» » فهو الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، يقول يصعد ذلك إليه كله بشهادة أن لا إله إلا الله، ولولا هذا ما ارتفع لابن آدم عمل أبدا، ثم قال: لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يقول البساتين تجري من تحتها الأنهار وهي العيون خالدين فيها ما دامت الجنة فهم دائمون أبدا، ثم قال: ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ- 11- يقول هذا النجاء الكبير، يقول من زحزح عن النار، وأدخل الجنة فقد نجا نجاء عظيما، ثم رجع إلى قسمه الذي كان أقسم فى أول السورة فقال: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ- 12- يقول إن عذاب ربك لشديد يقول إذا غضب بطش، وإذا بطش أهلك، ثم عظم الرب- عز وجل- نفسه فقال:
إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ- 13- يقول بدأ خلق النفس من نطفة ميتة ويحيه، ثم يعيده يوم القيامة من ذلك التراب، ثم قال: وَهُوَ الْغَفُورُ للذنوب الكبائر لمن تاب منها الْوَدُودُ- 14- يقول الشكور للعمل الصالح القليل إذا رضوه، يقول اشكر العمل اليسير حتى «أضاعفه «4» » للواحد «عشرة «5» » فصاعدا، ثم عظم الرب- تبارك وتعالى- نفسه فقال: ذُو الْعَرْشِ فإنه ما خلق الله- عز وجل- خلقا أعظم من العرش لأن السموات «والأرض «6» » قد «غابتا «7» » تحت العرش [236 أ]
__________
(1) سورة الذاريات: 1.
(2) الذاريات: 13.
(3) سورة فاطر: 10.
(4) فى أ، ف: «أضعفه» .
(5) كذا فى أ، فى والأنسب: «عشرا» ولعله لاحظ معنى: «الحسنة عشرة» .
(6) من ف، وليست فى أ.
(7) فى أ: «قد غابا» ، وفى ف: «قد غابتا» . [.....](4/649)
كالحلقة في الأرض الفلاة، ثم قال: الْمَجِيدُ- 15- الجواد الكريم فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ- 16- يقول ليس يريد شيئا إلا فعله، يقول إن العبد يفرق من سيده أن يفعل ما يشاء، والسيد يفرق من أميره الذي هو عليه، والأمير يفرق من الملك، والملك يفرق من الله- عز وجل-، والله- عز وجل- لا يفرق من أحد أن يفعل «1» . فذلك قوله- تعالى-: «فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ» هَلْ يعنى قد أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ- 17- في القرآن فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ- 18- قد عرفت ما فعل الله- عز وجل- بقوم فرعون، حيث ساروا في طلب موسى- عليه السلام- وبني إسرائيل وكانوا ألف ألف وخمسمائة ألف، فساقهم الله- تعالى- بآجالهم إلى البحر، فغرقهم الله أجمعين فمن الذي جاء يخاصمني فيهم، قال: «وَثَمُودَ» وهم قوم صالح حيث عقروا الناقة وكذبوا صالحا، «ثم «2» » تمتعوا في دارهم ثلاثة أيام، فجاءهم العذاب يوم السبت غدوة حين نهضت الشمس، « ... فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ «3» (بِذَنْبِهِمْ «4» ) » وجبريل- عليه السلام- الذي كان دمدم، لأنه صرخ صرخة فوقع بيوتهم عليهم فسواها، يقول فسوى البيوت على قبورهم، لأنهم لما استيقنوا بالهلكة عمدوا فحفروا قبورا في منازلهم، وتحنطوا بالمر والصبر، قال: «فَسَوَّاها «5» » يقول استوت على قبورهم، قال فهل جاء أحد يخاصمني فيهم، فذلك قوله: «وَلا يَخافُ عُقْباها «6» » قال فاحذروا يا أهل مكة فأنا المجيد الحق الذي ليس فوقي أحد، ثم
__________
(1) كذا فى أ، ف، والمعنى، أن يفعل ما يشاء.
(2) «ثم» : زيادة اقتضاها السياق.
(3) أى رسول ربهم.
(4) (بِذَنْبِهِمْ) : ساقطة من أ، ف.
(5) سورة الشمس: 14.
(6) سورة الشمس: 15.(4/650)
استأنف فقال: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ- 19- يقول لكن يا محمد الذين كفروا لا يؤمنون، فلما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ذلك، وقرأ عليهم سأله رجل من جلسائه عن علم الله- عز وجل- في عباده: «شيء «1» » بدا له من بعد ما خلقهم، أو كان قبل أن يخلقوا؟ فأنزل الله- عز وجل- «وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ» «2» - 20- بَلْ هُوَ يعنى لكن هو قُرْآنٌ مَجِيدٌ- 21- يقول هو قرآن مجيد، «يقول هو كتاب مجيد «3» » فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ- 22- قبل أن يخلقوا، وأن الله- عز وجل- قد فرغ من علم عباده، وعلم ما يعملون قبل أن يخلقهم ولم يجبرهم على المعصية.
__________
(1) فى أ: «سائرا» ، وفى ف: «شيء» ، والأنسب: «هل هو شيء» .
(2) الآية (20) ساقطة من أ، ف مع تفسيرها، وفى الجلالين: ( «محيط» لا عاصم لهم منه) ، وفى القرطبي: ( «محيط» لا يفوته كما لا يفوت المحاط المحيط) .
(3) «يقول هو كتاب مجيد» : من ف، وفى أ: «يقول كان محكم» ، أقول وهي مصحفة.(4/651)
سورة الطّارق(4/653)
[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)(4/655)
[سورة الطارق «1» ] سورة الطارق مكية عددها «سبع عشرة «2» » آية كوفى «3» .
__________
(1) مقصود السورة:
القسم على حفظ أحوال الإنسان، والحبر عن حاله فى الابتداء والانتهاء، وكشف الأسرار فى يوم الجزاء» والقسم على أن كلمات القرآن جزل، غير هزل. من غير امتراء، والأمر بإمهال الكافرين، فى قوله: « ... أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» سورة الطارق: 17.
(2) فى أ: «تسعة عشر» .
(3) فى المصحف: (86) سورة الطارق مكية وآياتها (17) نزلت بعد سورة البلد.
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 42(4/657)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ- 1- وَما أَدْراكَ يا محمد مَا الطَّارِقُ- 2- فسرها له؟ فقال: النَّجْمُ الثَّاقِبُ- 3- يعنى المضيء إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ- 4- وذلك أن الله- عز وجل- خلق [236 ب] النجوم ثلاثة «نجوم «1» » يهتدى بها، ونجوم رجوم للشياطين، ونجوم مصابيح الأرض، فأقسم الله- عز وجل- بها، فقال: «إِنْ كُلُّ نَفْسٍ» ما من نفس «لَمَّا «2» عَلَيْها حافِظٌ» من الملائكة يكتبون حسناته وسيئاته، قال: فإن «لا «3» » يصدق هذا الإنسان بالبعث فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ- 5- قال: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ- 6- ثم فسر الماء الدافق، فقال: إنه خلق من ماء الرجل، والمرأة «والتصق «4» » بعضه على بعض فخلق منه يَخْرُجُ ذلك الماء مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ- 7- يقول من بين صلب الرجل وترائب المرأة، والترائب موضع القلادة فأما ماء الرجل فإنه أبيض غليظ منه العصب والعظم، «وأما «5» » ماء المرأة فإنه أصفر رقيق منه اللحم والدم والشعر إِنَّهُ الرب- تبارك وتعالى- الذي خلقه من ماء دافق «عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ» «6» - 8- قادر على أن يبعثه يوم القيامة يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ
__________
(1) فى أ: «نجوما» ، وفى ف: «نجم» ، وتكرر ذلك فى الاثنين الآخرين.
(2) فى أ، ف: «إلا» ، وفى الآية: «لما» . [.....]
(3) «لا» : ساقطة من أ، وهي من ف.
(4) فى أ، ف: «التزق» .
(5) «وأما» : ساقط من أ، ف.
(6) «عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ» : ساقطة من أ، ف.(4/659)
- 9- يوم تختبر السرائر كل سريرة من الذنوب عملها ابن آدم، فلم يطلع عليها أحد إلا الله من الصوم، والصلاة، والاغتسال من الجنابة، والري سرا فيخبره فيفتضح يومئذ صاحبه فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ: يمتنع من الله بقوته وَلا له ناصِرٍ- 10- ينصره من الله- تعالى-، ثم أقسم الله- تعالى- فقال: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ- 11- ذات المطر وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ- 12- بالنبات إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ- 13- يقول إن الذي وصفته فى هذه السورة لقول فصل، يقول لهو قول الحق، ثم قال: وَما هُوَ بِالْهَزْلِ- 14- يقول وما هو باللعب، ثم انقطع الكلام، وأما قوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً- 15- وَأَكِيدُ كَيْداً- 16- فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً- 17-
فإنهم لما رأوا النبي- صلى الله عليه وسلم- قد أظهر الإيمان، وآمن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-، فلما آمن عمر، قال بعضهم لبعض: ما نرى أمر محمد إلا يزداد يوما بيوم، ونحن في نقصان لا شك، لأنه والله يفوق جمعنا وجماعتنا، ويكثر ونقل ولا شك، إلا أنه سيغلبنا فيخرجنا من أرضنا، ولكن قوموا بنا حتى نستشير فى أمره فدخلوا دار الندوة منهم عتبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، وأبو البختري بن هشام، وعمرو بن عمير بن مسعود الثقفي، فلما دخلوا دخل معهم إبليس في صورة رجل شيخ فنظروا إليه فقالوا: يا شيخ من أدخلك علينا؟
ومن أنت؟ قد علمت أنا قد دخلنا هاهنا في أمر ما نريد أن يعلم به أحد. قال إبليس: إني والله، لست من أرض تهامة، وإني رجل من الأزد، ويقال من نجد قدمت من اليمن، وأنا أريد العراق، في طلب حاجة، ولكني رأيتكم حسنة وجوهكم، طيبة رائحتكم فأحببت أن أستريح وأسمع من أحاديثكم [237 أ] .
فقال بعضهم لبعض: لا بأس علينا منه إنه والله، ليس من أرض تهامة. قالوا:(4/660)
يا شيخ، أغلق الباب واجلس.
فقال أبو جهل بن هشام، ما تقولون في هذا الرجل الذي قد خالف ديننا وسب آلهتنا، ويدعو إلى غير ديننا وليس يزداد أمره إلا كثرة ونحن في قلة وينبغي لنا أن نحتال؟
ثم قال: يا عمرو بن عمير ما تقول فيه؟
قال عمرو: رأيي فيه أن نردفه على بعير فنشد وثاقه فنخرجه من الحرم فيكون شره على غيرنا.
قال إبليس: عند ذلك بئس الرأي رأيت يا شيخ، تعمد إلى رجل قد ارتكب منكم ما قد ارتكب وهو أمر عظيم فتطردونه فلا شك أنه يذهب فيجمع جموعا فيخرجكم من أرضكم.
قالوا: ما تقول يا أبا البختري؟ قال: أما والله، إن رأيي فيه ثابت.
قالوا: ما هو؟. قال: ندخله في بيت فنسد بابه عليه، ونترك له ثلمة قدر ما يتناول «منه «1» » طعامه وشرابه ونتربص به إلى أن يموت.
«قال «2» » إبليس عند ذلك: بئس والله، الرأي رأيت يا شيخ تعمدون إلى رجل هو عدو لكم فتربونه «3» فلا شك أن يغضب له قومه فيقاتلونكم حتى يخرجوه من أيديكم فما لكم وللشر؟ قالوا: صدق والله فما تقول يا أبا جهل؟ قال:
تعمدون إلى كل بطن من قريش فنختار منهم رجالا فنمكنها من السيوف ويمشون
__________
(1) فى أ، ف: «منه» ، أى من المتروك، والأنسب: «منها» .
(2) من «قال إبليس» السابقة، إلى هذه ساقط من ف، وهو من أ.
(3) أى فتشتغلون بإطعامه وتربيته.(4/661)
كلهم بجماعتهم فيضربونه حتى يقتلوه «فلا يستطيع «1» » بنو هاشم أن «تعادي «2» » قريشا كلهم، وتؤدون ديته. قال إبليس: صدق والله، الشاب فخرجوا على ذلك القول راضين بقتله. وسمع عمه أبو طالب واسمه عبد العزى بن عبد المطلب فلم يخبر محمدا لعله أن يجزع من القتل فيهرب فيكون مسبة عليهم، فأنزل الله- عز وجل- «أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ «3» » يقول أم أجمعوا أمرا على قتل محمد- صلى الله عليه وسلم- فإنا مجمعون أمرا على قتلهم ببدر، وقال: «أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ «4» » وقال: «إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً، وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً» .
قال فسمع أبو طالب ما سمع، قال: يا بن أخى ما هذه الهينمة؟ قال:
أما نعلم يا عم ما أرادت قريش؟ قال: قد سمعت ما سمعته يا بن أخي. قال:
نعم. قال: ومن أخبرك بذلك؟ قال: ربى. قال: أما والله، يا بن أخي إن ربك بك لحفيظ فامض لما أمرت يا بن أخى، فليس عليك غضاضة «5» .
__________
(1) فى أ: «فلا يستطيعون» .
(2) فى أ: «يعادوا» .
(3) سورة الزخرف: 79.
(4) سورة الطور: 42.
(5) انتهى تفسير السورة فى أ، وفى ف زيادة: «فلا والله لا تصل إليك قريش بجماعتهم حتى أوسد فى التراب دفينا» .(4/662)
سورة الأعلى(4/663)
[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)(4/665)
[سورة الأعلى «1» ] سورة الأعلى مكية عددها «تسع عشرة «2» » آية كوفى «3» .
__________
(1) مقصود السورة:
بيان علو الذات، والصفات، وذكر الخلقة، والإشادة بالثمار والنبات، والأمن من نسخ الآيات، بيان سهولة الطاعات، وذل الكفر فى قعر الدركات، والتحضيض على الصلاة والزكاة، وبيان رفعة الآخرة وبقائها فى قوله: «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى» سورة الأعلى: 17.
(2) فى أ: «تسعة عشر» ، والصواب ما أثبت. [.....]
(3) فى المصحف (87) سورة الأعلى مكية وآياتها (19) نزلت بعد سورة التكوير.(4/667)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى- 1- يقول- سبحانه- نزه اسم ربك الأعلى، يقول نزهه من الشرك بشهادة أن لا إله إلا الله، فذلك قوله: «الأَعْلَى» ، قال: الَّذِي خَلَقَ الإنسان في بطن أمه مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مضغة، قال: فَسَوَّى- 2- يقول فسوى خلقه وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى - 3- يقول الذي قدر الولد في بطن أمه تسعة أشهر، فلما بلغ الوقت هداه للخروج من بطن أمه، وأيضا قوله: «قَدَّرَ فَهَدى» يعني قدر الذكر والأنثى فعلمه، كيف يأتيها؟ وكيف تأتيه؟ وأما قوله: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى - 4- فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى - 5- بصنعه يقول الذي أخرج الحشيش والكلأ في الشتاء، فتراه رطبا فيجعله بعد الرطوبة والخضرة إلى اليبوسة «1» ، قوله: سَنُقْرِئُكَ القرآن يا محمد نجمعه في قلبك فَلا تَنْسى - 6- فلا تنساه أبدا، ثُمّ استثنى فَقَالَ: إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ يعني إلا ما شاء الله فينسخها، ويأت بخير منها، ثم قال: «إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى» »
- 7- «يَعْلَمُ الْجَهْرَ» من القول والفعل «وَما يَخْفى» منهما.
وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى - 8- يقول ونبدلك مكان آية بأيسر منها، ثم قال:
فَذَكِّرْ يا محمد يقول اذكر بشهادة أن لا إله إلا الله إِنْ يعني قد نَفَعَتِ الذِّكْرى - 9- شهادة أن لا أن لا إله إلا الله، الذين من قبلك قال: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى
__________
(1) فى الجلالين: (غثاء) جافا هشيما، (أحوى) أسود يابسا.
(2) «إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى» : ساقط من أ، وتفسيره من الجلالين.(4/669)
- 10- يقول سيوحد الله من يخشاه، يقول من يخشاه غفر له ولم يؤاخذه يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى
- 11- يقول ويتهاون بها يعني بالتوحيد الأشقى الَّذِي قد سبق علم الله «فيه «1» » بالشقاء الذي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى - 12- وهي نار جهنم، قال: ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى - 13- يقول لا يموت في النار فيستريح، ولا يحيا حياة طيبة، ولكنه في بلاء «ما دام في النار «2» » يأتيه الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ «ويحترق «3» » كل يوم سبع مرات، ثم يعاد إلى العذاب «ليس له طعام «4» » إلا من لحمه، فذلك قوله: «وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ
«5» » يأكل النار وتأكله وهو في النار، لباسه النار، وعلى رأسه نار، وفي عنقه نار، وفي كل مفصل منه سبعة ألوان من ألوان العذاب، لا يرحم أبدا، ولا يشبع أبدا، ولا يموت أبدا، ولا يعيش معيشة طيبة أبدا، الله عليه غضبان، والملائكة غضاب، وجهنم غضبانة، قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى- 14- وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى- 15- يقول قد أفلح من أدى الزكاة، وشهد أن لا إله إلا الله، وصلى الصلوات الخمس، قوله:
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا- 16- يقول بل تختارون الحياة الدنيا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى - 17- إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى - 18- يقول الكتب الأولى «صُحُفِ «6» » إِبْراهِيمَ: كتب إبراهيم وَكتاب مُوسى - 19- وهي التوراة. فأما صحف إبراهيم فقد رفعت.
__________
(1) فى أ: «فيهم» .
(2) من ف، وفى أ: «أدامه فى النار» .
(3) فى أ: «ويحيه» ، ف: «ويحترق» .
(4) فى أ: «لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ» ، وفى ف: «وَلا طَعامٌ» ، وهو الصواب.
(5) سورة الحاقة: 36.
(6) فى أ: «كتب» وفى حاشية الآية: «صحف» .(4/670)
سورة الغاشية(4/671)
[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 26]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى نَارًا حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24)
إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)(4/673)
[سورة الغاشية «1» ] سورة الغاشية مكية عددها «ست «2» » وعشرون آية «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
التخويف بظهور القيامة، وبيان حال المستوجبين للعقوبة، وذكر حال المستحقين للمثوبة، وإقامة الحجة على وجود الحق. ووعظ الرسول- صلّى الله عليه وسلم- للأمة على سبيل الشفقة، وأن المرجع إلى الله- تعالى- فى العاقبة فى قوله- تعالى-: «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ» سورة الغاشية: 26.
(2) فى أ: سنة.
(3) فى المصحف: (88) سورة الغاشية مكية وآياتها (26) نزلت بعد سورة الذاريات.(4/675)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ «1» - 1- يعني قد أتاك حديث أهل «النار «2» » من قوله: «تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ «3» » وكل شيء في القرآن «هَلْ أَتاكَ» يقول: قد أتاك، ثم أخبر عن حالهم فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ- 2- يعني ذليلة عامِلَةٌ ناصِبَةٌ- 3- يعني عاملة في النار، النار تأكله ويأكل من النار، يعني ناصبة للعذاب صاغرة تَصْلى نَارًا حامِيَةً- 4- تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ- 5- يعني من عين قد انتهى حرها، وذلك أن جهنم تسعر عليهم منذ يوم خلقت إلى يوم يدخلونها، وهي عين تخرج من أصل جبل طولها مسيرة «سبعين عاما «4» » ، «ماؤها «5» » أسود كدردي الزيت، كدر غليظ كثير الدعاميص، تسقيه «الملائكة «6» » بإناء من حديد من نار «فيشربه «7» » فإذا قرب الإناء من فيه أحرق شدقيه، وتناثرت أنيابه وأضراسه، فإذا بلغ صدره «نضج «8» » قلبه فإذا بلغ بطنه «غلى «9» »
__________
(1) «الغاشية» : الداهية التي تغشى الناس بشدائدها، يعنى يوم القيامة، أو النار (القرطبي) .
(2) «النار» : ساقطة من أ، ف، وهي من ل. [.....]
(3) سورة المؤمنون: 104، وفى أ: «تغشى» بدل «تلفح» ، قد وصوبت الخطأ.
(4) فى أ: «تسعون عاما» ، وفى ف، ل: «سبعون عاما» .
(5) «ماؤها» : زيادة اقتضاها السباق، ساقطة من أ، ف، ل.
(6) فى أ، ل: «الملائكة» ، وفى ف: «الملك» .
(7) «فيشربه» : كذا فى أ، ف، ل والأنسب: «فيشربه الشقي» .
(8) فى أ: «شج» ، وفى ف، ل: «نضج» .
(9) فى أ، ف، ل: «يغلى» ، والأنسب ما أثبت.(4/677)
كما يغلي الحميم من شدة الحر حتى يذوب كما يذوب الرصاص إذا أصابه النار، «فيدعو «1» » الشقي بالويل، فذلك قوله: «تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ» ، ثم أخبر عن طعام الشقي، فقال:
لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ- 6- وهي شجرة تكون بمكة كثيرة الشوك لا تقربها دابة في الأرض من شوكها، ولا يستطيع أحد أن يمسها من كثرة شوكها، وتسميها قريش وهي رطبة في الربيع «الشبرق «2» » وتصيب الإبل من ورقها في الربيع ما دامت رطبة، فإذا يبست لم تقربها الإبل، وما من دابة في الأرض من الهوام والسباع وما يؤذي بني آدم إلا مثلها في النار سلطها الله- عز وجل- على أهلها، لكنها من نار وما خلق الله شيئا في النار إلا من النار، ثم قال: لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ- 7- «فإنهم لا يطعمون من أجل الجوع، وإنما من أجل العذاب «3» » . ثم ذكر أولياء من أهل طاعته، فقال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ- 8- يعني فرحة شبه الله- عز وجل- وجوههم بوجوه قوم فرحين، إذا أصابوا الشراب طابت أنفسهم، فاجتمع الدم في وجوههم، فاجتمع فرح القلوب وفرح الشراب، فهو ضاحك الوجه «مبتسم «4» » طيب النفس، ثم قال: لِسَعْيِها راضِيَةٌ- 9- يعني قد رضي الله- عمله فأثابه الله- عز وجل- ذلك بعمله، قال: فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ- 10- وإنما سماها عالية لأن جهنم أسفل منها وهي دركات، والجنة درجات، ثم قال: «لا تَسْمَعُ «5» » فِيها لاغِيَةً- 11- يقول لا يسمع
__________
(1) فى أ: «فيشربه» ، وفى ف، ل: «فيدعو» .
(2) فى أ: «اليسبر» ، وفى ف: «الشبرق» .
(3) فى أ، ف، ل: «فإنهم ليس يطعمون من الجوع، إلا من أجل العذاب أن يعذبون» وبها أخطاء كما ترى.
(4) فى أ: «مبتسما» .
(5) فى أ: «لا يسمع» ، وقراءة حفص (لا تسمع) .(4/678)
بعضهم من بعض غيبة، ولا كذب، لا شتم، قوله: فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ- 12- يعني في الجنة لأنها فيها تجري الأنهار فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ- 13- منسوجة بقضبان الدر والذهب عليها سبعون فراشا، كل فراش قدر غرفة من غرف الدنيا، فذلك قوله: «سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ» وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ- 14- يعني مصفوفة وهي أكواب من فضة، وهي فى الصفاء مثل القوارير مدورة «الرءوس «1» » ليس لها عرى «ولا خراطيم «2» » ، وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ- 15- يعني الوسائد الكبار العظام مصفوفة على الطنافس، وهي بلغة قريش خاصة «3» » ثم قال: وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ- 16- يعني طنافس مبسوطة بعضها على بعض، يذكرهم الله- عز وجل- صنعه ليعتبر عباده فيحرصوا عليها، ويرغبوا فيها، ويحذروا النار فإن عقوبته على قدر سلطانه وكرامته قدر سلطانه، ثم ذكر عجائبه، فقال: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ لأن العرب لم يكونوا رأوا الفيل، وإنما ذكر لهم ما أبصروا، ولو أنه قال أفلا ينظرون إلى الفيلة كَيْفَ خُلِقَتْ- 17- لم يتعجبوا لها لأنهم لم يروها وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ- 18- من فوقهم خمسمائة عام «وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ» «4» - 19- على الأرض أوتادا لئلا تزول بأهلها. ثم قال: وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ- 20- يعني كيف بسطت من تحت الكعبة مسيرة خمسمائة عام، ثم قال: فَذَكِّرْ أهل مكة يا محمد إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ- 21- كالذين من قبلك لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ- 22- يقول لست عليهم بملك، ثم نسختها آية السيف
__________
(1) فى أ: «الرأس» ، وفى ف: «الرءوس» .
(2) «ولا خراطيم» : من ف، وليس فى أ. [.....]
(3) من ف، ل، وفى أ: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ يعنى الطنافس وهي بلغة قريش خاصة» .
(4) الآية 19 مع تفسيرها كلاهما ساقط من أ، ومثبت من ف.(4/679)
في براءة «1» ، ثم قال: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى يعني أعرض وَكَفَرَ- 23- بالإيمان «فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ في الآخرة «2» الْعَذابَ الْأَكْبَرَ- 24- وإنما سماه الله الأكبر لأن الله كان أوعدهم القتل والجوع في الدنيا، فقال الأكبر لأنه أكبر من الجوع والقتل، وهو عذاب جهنم، ثم قال: إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ- 25- يعنى مصيرهم ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ- 26- يعنى جزاءهم على الله هين.
__________
(1) سورة التوبة: «وهي قوله- تعالى-: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» .
(2) « (فَيُعَذِّبُهُ) فى الآخرة» : ساقط من أو هو من ف.(4/680)
سورة الفجر(4/681)
[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 30]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)(4/683)
[سورة الفجر «1» ] سورة الفجر مكية عددها ثلاثون آية كوفى «2»
__________
(1) معظم مقصود السورة:
تشريف العيد وعرفة، وعشر المحرم، والإشارة إلى هلاك عاد، وثمود، وأضرابهم، وتفاوت حال الإنسان فى النعمة، وحرصه على جمع الدنيا، والمال الكثير، وبيان حال الأرض فى القيامة، ومجيء الملائكة وتأسف الإنسان يومئذ على التقصير، والعصيان، وأن مرجع المؤمن عند الموت إلى الرحمة، والرضوان، ونعيم الجنان فى قوله: «وَادْخُلِي جَنَّتِي» سورة الفجر: 30.
(2) فى المصحف: (89) سورة الفجر مكية وآياتها (30) نزلت بعد سورة الليل.(4/685)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ- 1- يعني غداة جمع يوم النحر «1» وَلَيالٍ عَشْرٍ- 2- فهي عشر ليال قبل الأضحى، وأما سماها الله- عز وجل- ليال عشر لأنها تسعة أيام وعشر ليال وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ- 3- أما الشفع: فهو آدم وحواء- عليهما السلام-، وأما الوتر فهو الله- عز وجل- وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ- 4- يعني إذا أقبل، وهي ليلة الأضحى، فأقسم الله بيوم النحر، والعشر، وبآدم وحواء، وأقسم بنفسه، فلما فرغ منها قال: هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ- 5- يعني إن في ذلك القسم كفاية لذي اللب، يعنى ذا عقل، فيعرف عظم هذا القسم، فأقسم الله «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ «2» » .
وأما قوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ- 6- يعني بقوم هود، وإنما سماهم قوم هود، لأن أباهم كان اسمه ابن «سمل «3» » بن لملك بن سام بن نوح مثل ما تقول العرب ربيعة ومضر وخزاعة وسليم [239 أ] وكذلك عاد وثمود، ثم ذكر قبيلة من قوم عاد، فقال: إِرَمَ وهي قبيلة من قبائلهم اسمها إرم، ثم قال: ذاتِ الْعِمادِ- 7- يعني ذات الأساطين وهي أساطين «الرهبانيين «4» » التي تكون في الفيافي والرمال، فشبه الله- عز وجل- طولهم
__________
(1) فسر الفجر بفجر عرفة، أو النحر (البيضاوي) ، ومعنى غداة جمع أى صبيحة اليوم التالي ليوم عرفات، وهو يوم النحر، وسمى يوم عرفات: جمع لاجتماع الناس فيه على جبل عرفات.
(2) سورة الفجر: 14.
(3) فى أ: «سمك» ، وفى ف: «سمك» ، أقول: وقد سماهم الله قوم هود لأن هودا أرسل إليهم.
(4) فى أ: «الرهبانيين» ، وفى ف: «الرهابين» .(4/687)
إذ كانوا قياما في البرية «بأنه «1» » مثل العماد، وكان طول أحدهم ثمانية عشر ذراعا ويقال اثني «عشر «2» » ذراعا في السماء مثل أعظم أسطوانة تكون، قال: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ- 8- يقول ما خلق الله- عز وجل- مثل قوم عاد في الآدميين، ولا مثل «إرم «3» » في قوم عاد، ثم ذكر ثمود فقال: وَثَمُودَ وهو أبوهم، وبذلك سماهم، وهم قوم صالح، فقال: الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ- 9- يقول الذين نقبوا الصخر «بالوادي «4» » وذلك أنهم كانوا يعمدون إلى أعظم جبل «فيثقبونه «5» » فيجعلونه بيتا، ويجعلون بابه منها، وغلقه منها «6» ، فذلك قوله: «وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ «7» » ثم ذكر فرعون واسمه مصعب بن جبر، ويقال الوليد بن مصعب فقال: وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ- 10- وذلك أنه أوثق الماشطة على أربع قوائم مستلقية، ثم سرح عليها الحيات والعقارب، فلم يزلن يلسعنها ويلدغنها «8» ، ويدخلون من «قبلها «9» » ويخرجون من فيها حتى ذابت كما يذوب الرصاص لأنها تكلمت بالتوحيد، وذلك أنها كانت تمشط هيجل بنت فرعون، فوقع المشط من يدها فقالت: باسم الله «وخيبة «10» » لمن كفر بالله فقالت «ابنة «11» » فرعون. وأي إله هذا الذي
__________
(1) «بأنه» : ليست فى أ.
(2) فى أ: «عشرة» .
(3) فى أ: «الإرم» ، وفى ف: «أرم» .
(4) فى أ، ف: «بالواد» . [.....]
(5) فى أ: «فيثقبونها» .
(6) كذا فى أ، ف: أعاد، الضمير مؤنثا على الجبل.
(7) سورة الشعراء: 149.
(8) فى أ، ف: زيادة: «العقارب» .
(9) فى أ: «فيها» ، وفى ف: «قبلها» .
(10) فى أ: «رحصة» ، وفى ف: وخينة.
(11) فى أ، ف: «ابنت» .(4/688)
تذكرين؟ قالت: إله موسى. فذهبت، فأخبرت أباها، فكان من أمرها ما كان، فذلك قوله: «وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ» يقول إنه أوثق امرأة على أربع قوائم من أجل أنها عرفتني، ثم جمع «عادا «1» » وثمود وفرعون، فقال الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ- 11- يعني الذين عملوا فيها بالمعاصي فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ- 12- يقول فأكثروا فيها المعاصي، فلما كثرت معصيتهم «فَصَبَّ «2» » عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ- 13- يعني نقمته «وكانت «3» » نقمته عذابا، ثم رجع إلى قسمه الأول، فقال: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ- 14- يعني بالصراط، وذلك أن جهنم عليها سبع قناطر، كل قنطرة مسيرة سبعين عاما، على كل قنطرة ملائكة قيام، وجوههم مثل الجمر، وأعينهم مثل البرق، «بأيديهم «4» » «المحاسر «5» » «والمحاجن «6» » والكلاليب يسألون في أول قنطرة عن الإيمان، وفي الثانية، يسألون عن الصلوات الحمس، وفي الثالثة، يسألون عن الزكاة، وفي الرابعة، يسألون عن صوم رمضان، وفي الخامسة، يسألون عن حج البيت، وفي السادسة، يسألون عن العمرة، وفي السابعة، يسألون عن مظالم الناس، فذلك قوله: «إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ» ، وأما قوله: فَأَمَّا الْإِنْسانُ [239 ب] إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ- 15- نزلت الآية في أمية بن خلف الجمحي، وعبد الله بن نفيل، أتاه يأمره بالمعروف، وينهاه عن المنكر، ويذكره
__________
(1) فى أ: «عاد» ، وفى ف: «عادا» .
(2) فى أ: «فصب» ، وفى ف: «صب» .
(3) فى أ: «وكان» .
(4) فى أ: «بأوائلهم» ، وفى حاشية أ: «لعله بأيديهم» ، وفى ف: «بأيديهم» .
(5) فى أ: «المحاسر» ، وفى ف: «المحاسك» .
(6) فى أ: «المحاجر» ، وفى ف: «المحاجن» .
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 44.(4/689)
ذلك، فقال له أمية بن خلف: ويحك أليس الله يقول: « (ذَلِكَ «1» ) بِأَنَّ اللَّهَ (مَوْلَى «2» ) الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ «3» » قال عبد الله بن نفيل: نعم. قال: فماله أغناني وأفقرك؟ قال: كذلك أراد الله. قال أمية: بل أغناني الله لكرامتي عليه، وأفقرك لهوانك عليه. قال عبد الله بن خطل عند ذلك: لخليق أن يكون الله «فعل «4» » ذلك، فأنزل الله- تعالى- «فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ، فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ» وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ- 16- قال «5» : يقول كلا ما أغنيت هذا الغني لكرامته، ولا أفقرت هذا الفقير لهوانه علي، ولكن كذلك أردت أن أحسن إلى هذا الغني في الدنيا، وأهون على هذا الفقير حسابه يوم القيامة، ثم قال فى سورة أخرى: «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً «6» » يقول ليس من شدة إلا بعدها رخاء، ولا رخاء إلا بعده شدة، ثم انقطع الكلام، ثم ذكر أمية بن خلف الجمحي، وذكر مساوئه فقال: كَلَّا ما الأمر كما قال أمية بن خلف بَلْ يعني لكن لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ- 17- وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ- 18- لأنهم لا يرجون بها الآخرة وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا- 19- يعني تأكلون الميراث أكلا شديدا وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا- 20- ويجمعون المال جمعا كثيرا، وهي بلغة مالك بن كنانة، ثم قال:
كَلَّا ما يؤمنون بالآخرة وهو وعيد، وأما قوله: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا- 21- يعني إذا تركت فاستوت الجبال مع الأرض الممدودة، ثم قال:
__________
(1) (ذلك) : ساقطة من ف، أ. [.....]
(2) فى أ: (ولى) ، ف: (مولى) .
(3) سورة محمد: 11.
(4) فى أ: «يقل» ، وفى ف: «فعل» .
(5) (قال) المفسر أو قال مقاتل، (يقول) أى يقول الله.
(6) سورة الشرح: 5- 6.(4/690)
وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا- 22- وذلك أنه تنشق السموات والأرض، فتنزل ملائكة كل سماء، وتقوم ملائكة كل سماء على حدة، فيجيء الله- تبارك وتعالى- كما قال: «هَلْ (يَنْظُرُونَ «1» ) إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ... «2» » ، وكما قال:
«هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ «3» ... » «قياما صفوفا «4» » ، قال:
وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يجاء بها «من «5» » مسيرة خمسمائة عام، عليها «سبعون ألف زمام «6» » على كل زمام سبعون ألف ملك، متعلقون بها يحبسونها عن الخلائق، وجوههم مثل الجمر، وأعينهم مثل البرق، فإذا تكلم أحدهم «تناثرت «7» » من فيه النار بيد كل ملك منهم مرزبة، عليها ألفان وسبعون رأسا كأمثال الجبال، «وهي «8» » أخف في «يده «9» » من الريش، ولها «سبعة «10» » رءوس كرءوس الأفاعي، وأعينهم زرق، «تنظر «11» » إلى الخلائق من شدة الغضب تريد أن تنفلت على الخلائق من غضب الله- عز وجل-، ويجاء بها حتى تقام على ساق العرش، ثم قال: يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ يعني أمية بن خلف الجمحي إذا عاين الغار والملائكة، ثم قال: وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى
__________
(1) «ينظرون» : ساقطة من أ، وهي من ف.
(2) سورة الأنعام: 158.
(3) سورة البقرة: 210.
(4) فى أ: «قيام صفوف» ، وفى ف: «قياما صفوفا» .
(5) «من» : ليست فى إ، ف.
(6) «عليها سبعون ألف زمام» : من ف، وليست فى أ.
(7) فى أ: «تناثر» ، وفى ف: «تناثرت» .
(8) فى أ: «هي» ، وفى ف: «وهي» .
(9) فى أ: «يده» ، وفى ف «أيديهم» . [.....]
(10) فى أ، ف: «سبع» .
(11) فى أ: وفى ف: «نظرت تنظر» ، وأقول والضمير راجع إلى جهنم.(4/691)
- 23- يعني ومن أين [240] له التذكرة في الآخرة؟ وقد كفر بها في الدنيا، ثم قال يخبر عن حالهم، وما يقولون في الآخرة إذا عاينوا النار، فقال: يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي- 24- في الدنيا لآخرتي يقول الله- تعالى-: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أي لا يعذب كعذاب الله أَحَدٌ- 25- يعني ليس أعظم من الله- تعالى- سلطانه على قدر عظمته، وعذابه مثل سلطانه، ثم قال: وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ- 26- يعني ولا يوثق كوثاق الله- عز وجل- أحد، قوله: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ- 27- يعني المطمئنة بالإيمان ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً لعملك مَرْضِيَّةً- 28- بما أعطاك الله- عز وجل- من الخير والجزاء فَادْخُلِي فِي عِبادِي- 29- يعني في رحمتي وَادْخُلِي من رحمتي في جَنَّتِي- 30- نظيرها في «طس «1» » النمل قول سليمان بن داود- عليهما السلام- « ... وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ «2» » نزلت هذه الآية في حبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكة، وجعلوا وجهه نحو المدينة، فقال: اللهم إن كان لي عندك «خير «3» » فحول وجهي نحو «قبلتها «4» » فحول الله- عز وجل- وجهه نحو هذه القبلة من غير أن يحوله أحد، «فلم يستطع أن يحوله عنها أحد «5» » .
__________
(1) سورة النمل: 3.
(2) سورة النمل: 19.
(3) فى أ، ف: «خيرا» .
(4) فى أ: «قبلتك» ، وفى ف: «قبلتها» ، والمعنى نحو قبلة المدينة.
(5) من ف، وفى أ: «فلم يستطع أحد أن يحوله عنها أحد» .(4/692)
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُقَاتِلٍ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ السماء الدنيا من «ماء حرج مَكْفُوفٍ «1» » ، وَالثَّانِيَةَ مِنْ حَدِيدٍ، وَالثَّالِثَةَ مِنْ فِضَّةٍ، والرابعة من شبه، وَالْخَامِسَةَ مِنْ ذَهَبٍ، وَالسَّادِسَةَ مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، وَالسَّابِعَةَ مِنْ نُورٍ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ مِنْ نُورٍ قِيَامٌ صَفًّا صَفًّا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: «وَالصَّافَّاتِ صَفًّا «2» » فهم أهل السماء السابعة.
__________
(1) فى أ: «من موج مكفوف» ، وفى ف: «من ماء حرج مكفوف» .
(2) سورة الصافات: 1.(4/693)
سورة البلد(4/695)
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالا لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)(4/697)
[سورة البلد «1» ] سورة البلد مكية عددها عشرون آية كوفى «2» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
تشريف مكة بحكم القسم بها، وشدة حال المكذب، والخبر عن سره وعلانيته، والمنة عليه بالنعم المختلفة، وتهويل عقبة الصراط، وبيان النجاة منها، ومدح المؤمنين، وصبرهم على البلاء، ورحمة بعضهم بعضا، وخلود الكفار فى النار، فى قوله: «عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ» سورة البلد: 20.
(2) فى المصحف: (90) سورة البلد مكية وآياتها (20) نزلت بعد سورة ق.(4/699)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ- 1- يعني مكة وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ- 2- يعني لم أحلها لأحد من قبلك «ولا من بعدك «1» » وإنما أحللتها لك ساعة من النهار، وذلك أن الله- عز وجل- لم يفتح مكة على أحد غيره، ولم يحل بها القتل لأحد، غير ما قتل النبي- صلى الله عليه وسلم- مقيس بن ضبابة الكناني وغيره، حين فتح مكة، قال الله- تبارك وتعالى-: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ- 3- يعني آدم وذريته- عليه السلام- إلى أن تقوم الساعة، فأقسم الله- عز وجل- بمكة وبآدم وذريته [240 ب] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ- 4- منتصبا قائما، وذلك أن الله- تبارك وتعالى- خلق كل شيء على أربع قوائم- غير ابن آدم يمشي على رجلين-
نزلت هذه الآية في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف القرشي، وذلك أنه أصاب ذنبا وهو بالمدينة، فأتى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: ما كفارته؟ فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: اذهب فاعتق رقبة، أو أطعم ستين مسكينا. قال: ليس غير هذا؟ قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- هو الذي أخبرتك. فرجع من عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهو مهموم مغموم حتى «أتى «2» » أصحابه فقال: والله، ما أعلم إلا أني لئن دخلت فى دين
__________
(1) فى أ: «ولا بعدك» .
(2) «أتى» : من ف، وليست فى أ.(4/701)
محمد إن مالي «لفي «1» » نقصان من الكفارات والنفقة في سبيل «الله «2» » ، ما يظن محمد إلا أنا وجدنا هذا المال في الطريق لقد أنفقت مالا لبدا يعني مالا كثيرا فأنزل الله- عز وجل- «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ»
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ- 5- يعني بالأحد: الله- عز وجل، يعني نفسه، أيحسب هذا الإنسان أن لن يقدر الله- عز وجل- على أن يذهب بماله، «وإن أحرزه «3» » «يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً» «4» - 6- ثم قال الله- تعالى- وهو يعده الخير: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ- 7- أو يحسب هذا الإنسان أن الله- تعالى- ليس يرى ما ينفق وليس «يحصيه «5» » ؟ وهو يخلفه «عليه «6» » ثم ذكر النعم فقال: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ- 8- وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ- 9- وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ- 10- يقول بينا له سبيل الخير والشر، ثم حرفه على الكفارة فقال: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ- 11- وهو مثل ضربه الله- عز وجل- له يقول إن الذنوب بين يديك مثل الجبل، فإذا أعتقت رقبة اقتحم ذلك الذنوب حتى تذوب وتذهب، كمثل رجل بين يديه عقبة فيقحتم فيستوي بين يديه «7» ، وكذلك من أصاب ذنبا واستغفر ربه وكفره بصدقة تتقحم ذنوبه حتى تحطمها «تحطيما «8» » مثل الجبل إذا خر فيستوى مع الأرض،
__________
(1) فى أ: فى. [.....]
(2) فى أ: «الله- عز وجل-» .
(3) فى أ: «أحرزه» .
(4) «يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً» ساقطة مع تفسيرها من أ، ف، وقد ذكرت فى بداية السورة ضمن تفسير الآية الرابعة.
(5) فى أ، ف: «يحصيها» .
(6) فى أ: «عليها» .
(7) كذا فى أ، ف، والمعنى فيستوى الطريق بين يديه.
(8) فى أ، ف: «حطما» ، والأنسب: «تحطيما» .(4/702)
فذلك قوله: «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ» ، قال: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ- 12- تعظيما لها، قال: فَكُّ رَقَبَةٍ- 13- أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ- 14- يعنى مجاعة يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ- 15- يعني ذا قرابة أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ- 16- يعني فقيرا قد «التصق «1» » ظهره بالتراب من العري، وشدة الحاجة، فيستحي أن يخرج فيسأل الناس، وذلك كله
لقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أعتق رقبة، أو أطعم ستين مسكينا «2»
، يقول الله- عز وجل- أعجز أن يفعل من هذين الأمرين واحدا، وكان يظن أن الله- تعالى- لم يكن يراه إذا أنفق فيخلف عليه تلك النفقة، فذلك قوله: «أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ «3» » يعني الله- عز وجل- ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بالله- تعالى- وملائكته [241 أ] وكتبه ورسله وجنته وناره وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ يعني على فرائض الله- تعالى- ما افترض عليهم في القرآن، فإنهم «إن «4» » لم يؤمنوا بالله، ولم يعملوا الصالحات، ولم يصبروا على الفرائض، لم أقبل منهم كفاراتهم وصدقاتهم «5» ، ثم ذكر لرحم فقال: وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ- 17- يعنى «بالمرحمة «6» » يعني بالرحم فلا يقطعونها، ثم قال: أُولئِكَ
__________
(1) فى أ، ف: «التزق» .
(2) كذا فى أ، ف. وقد نزل ذلك كله فى قول الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف القرشي، إن دخلت في دين محمد إن مالي لفي نقصان مستكثرا أن يعتق رقبة أو يطعم سنين مسكينا.
(3) سورة البلد: 7
(4) «إن» : زيادة اقتضاها السياق.
(5) التفسير من ف، وهو ناقص فى أ.
(6) فى أ، ف: «بالرحمة» .(4/703)
يعني الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالمرحمة هم أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ- 18- الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم يوم القيامة، قال:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا يعنى بالقرآن هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ- 19- يعني الذين يعطون كتبهم بشمائلهم «والمشأمة» بلغة «بني غطيف»
» حي من مراد- وكل ذلك يخوف الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ- 20- يعنى مطبقة وهي جهنم.
__________
(1) فى أ: «غطيف» ، ف: «بنى غطيف» . [.....](4/704)
سورة الشّمس
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 45(4/705)
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14)
وَلا يَخافُ عُقْباها (15)(4/707)
[سورة الشمس «1» ] سورة الشمس مكية عددها «خمس «2» » عشرة آية كوفى «3»
__________
(1) مقصود السورة:
أنواع القسم المترادفة، على إلهام الخلق فى الطاعة والمعصية، والفلاح والخيبة، والخبر عن إهلاك ثمود، وتخويف لأهل مكة فى قوله: «وَلا يَخافُ عُقْباها» سورة الشمس: 15
(2) فى أ: «خمسة» ، والصواب ما أثبت.
(3) فى المصحف: (91) سورة الشمس مكية وآياتها (15) نزلت بعد سورة القدر.(4/709)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: وَالشَّمْسِ وَضُحاها- 1- يعني وحرها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها- 2- يعني إذا تبعها يسير من خلفها، وله خفيف فى السماء وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها- 3- يعني جلاها الرب- تبارك وتعالى- من ظلمة الليل وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها- 4- يعني تغشى ظلمته ضوء النهار «1» وَالسَّماءِ وَما بَناها- 5- يعني وبالذي بناها، ثم قال: وَالْأَرْضِ وَما طَحاها- 6- يعني أقسم بالأرض، وبالذي بسطها يعني الرب- تعالى- نفسه، ثم قال: وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها- 7- يعني آدم، «وَما سَوَّاها» يعني وبالذي خلقها، يعني نفسه فسوى اليدين والرجلين والعينين والأذنين فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها- 8- يعني وعلمها الضلالة والهدى، ثم عظم الرب نفسه فقال:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها- 9- يعني قد أسعدها الله يعني أصلحها الله- تعالى-، فإنه من أصلحه الله فقد أفلح وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها- 10- يعني وقد هلك من أشقاه الله- عز وجل-، ثم ذكر ثمود فقال:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها- 11- يعني الطغيان والشقاء حملها على التكذيب لأنه طغى عليهم الشقاء مرتين، مرة بما كذبوا الله- عز وجل- وعموا عن الإيمان به، والأخرى حين عقروا الناقة فذلك قوله: «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها»
__________
(1) من أ، وفى ف زيادة: «وهذا قسم» .(4/711)
إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها- 12-، وأما قوله: فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها- 13- يعني بالرسول صالح- صلى الله عليه وسلم-، وهو بين لهم أمر الناقة وشربها وما يفعل الله- عز وجل- بهم إن كذبوا وعقروا الناقة، فذلك قوله: «فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها» فَكَذَّبُوهُ بما جاء به فَعَقَرُوها يعني قتلوا الناقة فحل [241 ب] بهم العذاب، قال: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ، ثم قال: بِذَنْبِهِمْ يقول إنما كان بذنبهم، بذلك أنهم لما عقروا الناقة «ابتعد «1» » الفصيل حتى صعد على جبل فصاح ثلاث مرات: يا صالح، قتلت أيم «وفزع «2» » أهل المدينة كلهم إلى صالح، فقالوا: ما حيلتنا؟ قال: حيلتكم أن تأخذوا الفصيل فعسى الله أن يكف عنكم العذاب في شأن الفصيل، فلما صعدوا الجبل ليأخذوه فر من بين أيديهم وتوارى فلم ير، وغاب، قالوا: يا صالح، ما يفعل الله بنا؟ قال:
«كم من «3» صيحة» صاح الفصيل؟ قالوا: ثلاث مرات، قال: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك «الوعد «4» » الذي صاح الفصيل « ... غَيْرُ مَكْذُوبٍ «5» » يقول إنه لا يكذب فيه، قالوا: وما علامة ذلك يا صالح؟ قال: إنكم «تصفر «6» » وجوهكم
__________
(1) فى أ: «اشتد» ، وفى ف: كلمة مطموسة قريبة من: «ابتعد» .
(2) فى أ: «وفزعوا» .
(3) كذا فى أ، ف، والأنسب: «كم صيحة» .
(4) فى أ: «وعد» ، وفى ف: «الوعد» .
(5) ورد ذلك فى سورة هود آية 65، والقصة كلها وردت فى الآيات 61- 68 من سورة هود.
(6) فى أ، ف: «تصفار» .(4/712)
يوم الثاني وتسود وجوهكم يوم الثالث، «قال «1» : ثم» يأتيكم العذاب يوم الرابع، فلما أن كان «اليوم الأول «2» » «اصفرت «3» » وجوه القوم «فلم «4» » يصدقوا وقالوا: إنما هذه الصفرة من الخوف والفرق، فلما كان اليوم الثاني «احمرت «5» » وجوههم واستيقنوا بالعذاب، ثم إنهم عمدوا فحفروا لأنفسهم قبورا «وتحنطوا «6» » بالمر والصبر وتكفتوا بالأنطاع، فلما أن كان اليوم الثالث اسودت وجوههم حتى لم يعرف بعضهم بعضا من شدة السواد، والتغير، فلما أن كان اليوم الرابع أصبحوا «فدخلوا «7» » حفرهم، فلما أشرقت الشمس، وارتفع النهار لم يأتهم العذاب، «فظنوا «8» » أن الله يرحمهم، وخرجوا من قبورهم، ودعوا بعضهم بعضا، إذ نزل جبريل- عليه السلام- فسد ضوء الشمس حتى دخلوا في قبورهم، فصاح بهم جبريل عليه السلام- فلما عاينوا جبريل- عليه السلام- ونظروا إلى «ضوء الشمس «9» » شدوا حتى دخلوا في قبورهم فناموا فصاح بهم جبريل صيحة «أن «10» » قوموا عليكم لعنة الله، فسالت أرواحهم من أجسادهم وزلزلت بيوتهم
__________
(1) فى أ: «ثم قال» .
(2) فى أ، ف: «واصفارت» .
(3) فى أ: «يوم الأول» ، وفى ف: «اليوم الأول» .
(4) فى أ: «ولم» . [.....]
(5) فى أ، ف: «احمارت» .
(6) فى أ: «وتكفنوا» ، وفى حاشية أ: «لعله وتحنطوا» .
(7) فى أ: «دخلوا» .
(8) فى أ: «فظنوا» ، وفى ف: «ظنوا» .
(9) فى أ: «ضوءها» ، وفى ف: «ضوء الشمس» .
(10) «أن» : زيادة اقتضاها السياق.(4/713)
حتى وقعت على قبورهم إلى يوم القيامة، فأصبحوا كأن لم يكن بمدينتهم شيء، فذلك قوله: «كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها ... «1» » ، وذلك قوله: «فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ» فَسَوَّاها- 14- يعني فسوى بيوتهم على قبورهم، قوله:
وَلا يَخافُ عُقْباها- 15-.
قال فى التقديم: «إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها» ، «وَلا يَخافُ عُقْباها» عاقر الناقة من الله- عز وجل-.
وإنما كان أصحاب الشراب تسعة نفر منهم قدار بن قديرة «2» وهو عاقر الناقة وسالف، وجدع، وقيل، وحريل، وهذيل وجمال بن مالك، «وحبابة «3» » ابن «أذاذ «4» » ، «وجميل بن جواد «5» » .
فذلك قوله- تعالى-: «وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ «6» » .
قال أبو صالح [242 أ] بعض هؤلاء «المسمين «7» » يوافق تسمية عاقري الناقة فى سورة النمل «8» وهذا قول قوم وأولئك قول قوم آخرين والله أعلم.
__________
(1) سورة هود: 68 وتمامها «كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ» .
(2) فى أ: «قذار بن قذيرة» بإعجام الذال، وفى ف. «قدار بن قديرة» ، بإهمال الدال، وهو أصح.
(3) فى أ: «وضبابة» ، وفى ف: «وصبابة» .
(4) فى أ: «رذاذ» ، وفى ف: «أذاذ» .
(5) فى أ: «وجهبل بن قرارة» ، وفى ف: «وجميل بن جواد» .
(6) سورة النمل: 48.
(7) فى أ: «المسمين» ، وفى ف: «المسلمين» .
(8) يشير إلى ما ورد فى الآية 48 من سورة النمل أن عددهم تسعة، فقوم يذهبون إلى أن هذه أسماءهم، وقوم يذهبون إلى أن بعض هذه الأسماء يوافق أسماءهم، والله أعلم. [.....](4/714)
سورة اللّيل(4/715)
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14)
لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19)
إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)(4/717)
[سورة الليل «1» ] سورة الليل مكية عددها «إحدى «2» » وعشرون آية «3» .
__________
(1) مقصود السورة:
القسم على تفاوت حال الخلق فى الإساءة والإحسان، وهدايتهم إلى شأن القرآن، وترهيب بعض بالنار، وترغيب بعض بالجنان، والأمر بالمبادرة إلى الصدقة تكفيرا للذنوب، وطلبا لمرضاة الرحمن، فى قوله: «وَلَسَوْفَ يَرْضى» سورة الليل: 21.
(2) فى أ: «أحد» .
(3) فى المصحف: (92) سورة الليل مكية وآياتها (21) نزلت بعد سورة الأعلى.(4/719)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى - 1- وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى- 2- أقسم الله- عز وجل بالليل إذا غشى ظلمته ضوء النهار، والنهار إذا تجلى عن ظلمة الليل، فقال: «إِنَّ سَعْيَكُمْ» إن أعمالكم «لَشَتَّى «1» » يا أهل مكة، قوله: وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى - 3- يعنى آدم وحواء وما هاهنا صلة، فأقسم الله- عز وجل- بنفسه وبهؤلاء الآيات فقال: «والذي خلق الذكر والأنثى» نظيرها فى «والشمس وضحاها «2» » إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى- 4- يا أهل مكة، يقول إن أعمالكم مختلفة في الخير والشر «3» ، ثم قال: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى المال في حق الله- عز وجل- وَاتَّقى - 5- نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق- رحمة الله عليه- وذلك أنه مر على أبي سفيان، وهو صخر ابن حرب، وإذا هو يعذب بلالا على إسلامه، وقد وضع حجرا على صدره فهو يعذبه عذابا شديدا، فقال له أبو بكر الصديق- رحمة الله عليه-: أتعذب عبدا على معرفة ربه؟ قال أبو سفيان: أما والله، إنه لم يفسد هذا العبد الأسود غيركم، أنت وصاحبك، يعني رسول الله- صلى الله عليه وسلم-. قال له أبو بكر- رضي الله عنه-: هل لك أن أشتريه منك؟ قال: نعم. قال أبو بكر:
والله ما أجد لهذا العبد ثمنا. قال له صخر بن حرب: والله إن جبلا من شعر أحب
__________
(1) سورة الليل: 4.
(2) سورة الشمس 1، ويشير إلى قوله: «وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها» : 7.
(3) فى أزيادة: «لشتى» .
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 46(4/721)
إلي منه، فقال له الصديق أبو بكر: والله إنه خير من ملء الأرض ذهبا. قال له أبو سفيان: اشتره مني! قال له أبو بكر: قد اشتريت هذا العبد الذي على ديني، بعبد مثله على دينك، فرضي أبو سفيان، فاشترى أبو بكر بلالا- رضي الله عنه- فأعتقه. قال أبو سفيان لأبي بكر- رضي الله عنه-: أفسدت مالك ومال أبي قحافة. قال: أرجو بذلك المغفرة من ربي. قال: متى هذا؟ قال أبو بكر- رضي الله عنه-: يوم تدخل سقر تعذب. قال: أليس تعدني هذا بعد الموت؟ قال: نعم. قال: فضحك الكافر واستلقى. وقال: يا عتيق أتعدنى البعث بعد الموت؟ وتأمرني أن «أرفض «1» » مالي إلى ذلك اليوم؟ لقد خسرت واللات والعزى إن مالك قد ضاع، وإنك لا تصيب مثله أبدا. قال له أبو بكر- رضى الله عنه-[242 ب] : والله، لأذكرنك هذا اليوم يا أبا سفيان.
فأنزل الله- عز وجل- «فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى» وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى - 6- يقول بعدة الله- عز وجل- أن يخلفه في الآخرة خيرا، إذا أعطى في حق الله- عز وجل- فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى - 7- يعني نيسره للعودة إلى أن يعطي فسنيسره للخير وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى - 8- عن الله- تعالى- في نفسه وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى - 9- يعني بعدة الله بأن يخلفه خيرا منه فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى - 10- يقول نعسر عليه أن يعطى خيرا وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ الذي بخل به في الدنيا إِذا تَرَدَّى- 11- يعنى إذا مات، وتريد في النار، يعني أبا سفيان، يقول الله- تعالى-: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى - 12- يعني بيان الهدى وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى - 13- يعنى الدنيا والآخرة
__________
(1) «أرفض» : كذا فى أ، ولعل أصلها: «أفرض» .(4/722)
فَأَنْذَرْتُكُمْ يا أهل مكة نَارًا تَلَظَّى- 14- يعني تتوقد وتشتعل لا يَصْلاها يعني النار إِلَّا الْأَشْقَى- 15- «يعني هؤلاء النفر من أهل مكة «1» » «الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى» «2» - 16- الذين كذبوا بالقرآن «وتولى» يعني وأعرض عن الإيمان. وَسَيُجَنَّبُهَا يعني النار، يقول يجنب الله النار الْأَتْقَى- 17- يعني أبا بكر الصديق الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى- 18- يعني «يتصلح «3» » وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى - 19- وأيضا، «وذلك «4» » أن أبا بكر- رضي الله عنه- وأرضاه مر على بلال المؤذن، وسيده أمية بن خلف الجمحي يعذبه على الإسلام، ويقول لا أدعك حتى تترك دين محمد، فيقول بلال: أحد أحد. فقال أبو بكر- رحمة الله عليه-: أتعذب عبد الله، على الإيمان بالله- عز وجل-؟ فقال سيده أمية: أما إنه لم يفسده علي إلا أنت وصاحبك. يعني النبي- صلى الله عليه وسلم-، فاشتره مني.
قال: نعم. قال سيده أمية: بماذا؟ قال أبو بكر: بعبد مثله على دينك. فرضي فعمد أبو بكر- رضي الله عنه- إلى عبد فاشتراه، وقبض أبو بكر بلالا- رحمة الله عليهما- وأعتقه، فقال أمية لأبي بكر- رضي الله عنه-:
لو أبيت إلا أن تشتريه بأوقية من ذهب «لأعطيتكها «5» » قال أبو بكر- رضي الله عنه-: وأنت لو أبيت إلا أربعين أوقية من ذهب لأعطيتكها،
__________
(1) «يعنى هؤلاء النفر من أهل مكة» : من ف، والجملة مطموسة فى أ.
(2) «الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى» : ساقطة فى أ، ومحرفة فى ف.
(3) فى أ: «يصلح» ، وفى ف: «يتصلح» .
(4) «وذلك» : كذا فى أ، ف.
(5) فى أ: «لبعتك» ، وفى ف: «لأعطيتكها» .(4/723)
فكره أبو قحافة عتقه، فقال لأبي بكر: أما علمت أن مولى القوم من أنفسهم، فإذا أعتقت فأعشق من له منظر «وقوة «1» » وكان «بلال «2» » أسود الوجه، فأنزل الله- عز وجل- في أبي بكر- رضي الله عنه- «وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى» يقول يجزيه لذلك، ولكن إنما يعطي ماله «إِلَّا «3» » ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى - 20- الرفيع فوق خلقه وَلَسَوْفَ يَرْضى - 21- هذا العبد يعني أبا بكر الصديق- رضي الله عنه-، وأن أبا بكر- رضي الله عنه- اشترى تسعة نفر يعذبون على الإسلام، منهم بلال المؤذن، وعامر بن فهيرة وأخته، «وزنيرة «4» » وابنتها، «وحارثة «5» » بن عمر، وأم كياس والنهدية «6» وابنتها، كانت لامرأة من بني عبد الدار تضربها على الإسلام، فأعتقهم أبو بكر الصديق- عليه السّلام-.
__________
(1) فى أ: «وفقه» ، وفى ف: «وقوه» .
(2) فى أ: «بلالا» ، وفى ف: «بلال» . [.....]
(3) «إلا» ، ساقطة من أ.
(4) فى أ: «ووئيدة» ، وفى ف: «وزنيره» .
(5) فى أ: «وجارية» ، وفى ف: «وحارثة» .
(6) فى أ: «والنهرية» ، وفى ف: «والنهدية» .(4/724)
سورة الضّحى(4/725)
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)(4/727)
[سورة الضحى «1» ] سورة الضحى مكية عددها إحدى عشرة آية كوفى «2» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان ما الرسول- صلّى الله عليه وسلم- من الشرف والمنقبة، ووعده فى القيامة بالشفاعة، وذكر أنواع الكرامة له، والمنة وصيانة الفقر واليتم من بين الحرمان والمذلة، والأمر بشكر النعمة فى قوله: «وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ» سورة الضحى: 11.
(2) فى المصحف: (93) سورة الضحى مكية وآياتها (11) نزلت بعد سورة الفجر.(4/729)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: وَالضُّحى - 1- وَاللَّيْلِ إِذا سَجى - 2- أقسم الله- عز وجل- فقال: «والضحى» يعني حر الشمس وهي أول ساعة من النهار حين تطلع الشمس، وبالليل إذا سجى، يعني إذا غطى بهيمه ضوء النهار، فأقسم الله- عز وجل- ببدو الليل والنهار فقال: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ يا محمد وَما قَلى - 3- يعني وما مقتك، وذلك
أن جبريل- عليه السلام- لم ينزل على محمد- صلى الله عليه وسلم- أربعين يوما، ويقال ثلاثة أيام، فقال مشركو العرب من أهل مكة: لو كان من الله «لتتابع عليه الوحي، كما كان يفعل بمن كان قبله من الأنبياء «1» » ، فقد ودعه الله وتركه صاحبه، فما يأتيه.
فقال المسلمون: يا رسول الله، فما نزل عليك الوحي؟ قال: كيف ينزل على الوحي، وأنتم لا تنقون براجمكم «2» ، ولا تقلمون أظفاركم، قال: أقسم الله بهما، يعني بالليل والنهار، فقال: «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ» يا محمد فتركك «وَما قَلى» يقول وما مقتك، لقولهم قد ودعه ربه وقلاه، فلما نزل عليه جبريل- عليه السلام- قال له النبي- صلى الله عليه وسلم-: يا جبريل، ما جئت حتى اشتقت إليك. فقال جبريل- عليه السلام-: أنا كنت إليك أشد شوقا لكرامتك على الله- عز وجل- ولكني عبد مأمور،
«وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا»
__________
(1) من ف، وفى أ: «لتتابع الوحى كما كان يفعل من كان قبله من الأنبياء» .
(2) تنقية البراجم: هي تنظيف الأوساخ التي بين الأظافر وأطراف الأصابع.(4/731)
من الدنيا «وَما خَلْفَنا» من الآخرة «وَما بَيْنَ ذلِكَ» يعنى بين الدنيا والآخرة بين النفختين، وهي «أربعون «1» » سنة، ثم قال: «وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا «2» » يقول لم ينسك ربك يا محمد. وَلَلْآخِرَةُ يعنى الجنة خَيْرٌ لَكَ مِنَ «الْأُولى» «3» - 4- يعني من الدنيا، يعني أنه قد دنت القيامة والآخرة خير لك من الدنيا «4» وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ في الآخرة «وهو الخير «5» » «فَتَرْضى» «6» - 5- يعني حتى ترضى، ثم ترضى، بما يعطيك، ثم أخبره الله- عز وجل- عن حاله التي كان عليها، «وذكره «7» » ، النعم فقال له جبريل- عليه السّلام-:
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى - 6- يقول
فضمك إلى عمك أبي طالب، «فكفاك المؤنة «8» » فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- من علي ربي وهو أهل المن،
فقال جبريل- عليه السّلام-: وَوَجَدَكَ ضَالًّا عن الدلالة فَهَدى - 7- فهداك لدينه،
فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- من علي ربي وهو أهل المن،
فقال جبريل- عليه السلام-: وَوَجَدَكَ عائِلًا يعني فقيرا فَأَغْنى - 8-
فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- من علي ربي وهو أهل [243 ب] المن،
ثم وصاه الله- عز وجل- فقال:
__________
(1) فى أ: «أربعين» ، وفى ف: «أربعين» .
(2) سورة مريم: 64.
(3) فى أ: «الدنيا» .
(4) تفسير الآية: من ف، وهو ساقط من أ.
(5) فى أ، ف: «وهو الخير» ، والأنسب «من الخير» .
(6) فى ف: «حتى ترضى» ، وفى أ: «فَتَرْضى» . [.....]
(7) فى أف: «ويذكره» .
(8) فى أ: «يكسال التوبة» ، وفى ف: «فكفاك المؤنة» .(4/732)
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ- 9- يقول لا تنهره، ولا تعبس في وجهه، فقد كنت يتيما وَأَمَّا السَّائِلَ يعني الفقير المسكين فَلا تَنْهَرْ- 10- لا تنهره إذا سألك فقد كنت فقيرا وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ- 11- يعني اشكر الله «على «1» » ما ذكر في هذه السورة، وما صنع الله- عز وجل- بك من الخير، إذ قال:
ألم تكن كذا ففعلت بك كذا أنزلت هاتين السورتين جميعا بمكة: «والضحى «2» » ، «والليل «3» » ، و «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «4» » فجعل النبي- صلى الله عليه وسلم- يحدث بهما سرا إلى من يطمئن إليه، ثم أتاه جبريل- عليه السلام»
- بأعلى مكة فدفع الأرض بيديه فانفجرت «عين ماء «6» » فتوضأ جبريل- عليه السلام- ليرى النبي- صلى الله عليه وسلم- وضوء الصلاة، ثم توضأ النبي- صلى الله عليه وسلم- فصلى به جبريل- عليه السلام-، فلما انصرف أخبر خديجة ثم صلت مع النبي- صلى الله عليه وسلم «7» .
__________
(1) «على» : زيادة اقتضاها السباق، ليست فى أ، ف.
(2) سورة الضحى: 1.
(3) سورة الليل: 1.
(4) سورة الشرح: 1.
(5) فى أ: «عليهما» ، وفى ف: «عليه» .
(6) فى أ: «عينا من ماء» ، وفى ف: «عين ماء» .
(7) من ف، وفى أنقص.(4/733)
سورة الشّرح(4/735)
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 47(4/737)
[سورة الشرح «1» ] سورة ألم نشرح عددها «ثماني «2» » آيات كوفى «3» :
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان شرح صدر المصطفى- صلّى الله عليه وسلم- ورفع قدره وذكره، وتبديل العسر من أمره باليسر أمره؟؟؟؟ فى انتظار أمره والرغبة إلى الله- تعالى- والإقبال على ذكره فى قوله:
«وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ سورة الشرح: 8.
(2) فى أ، ف: «ثمان» .
(3) فى المصحف: (94) سورة الشرح مكية وآياتها (8) نزلت بعد سورة الضحى.(4/739)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ- 1- يقول ألم نوسع لك صدرك بعد ما كان ضيقا لا يلج فيه الإيمان حتى هداه الله- عز وجل- وذلك «قوله «1» » :
«وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى «2» » ، وقوله: «مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ «3» » ، وذلك أن أربعمائة رَجُل «من أصحاب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- من أصحاب الصفة «4» » كانوا قوما مسلمين «فإذا تصدقوا «5» عليهم شيئا أكلوه» وتصدقوا ببعضه على المساكين وكانوا يأوون في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ولم يكن لهم بالمدينة قبيلة، ولا عشيرة، ثم إنهم خرجوا «محتسبين «6» » يجاهدون المشركين وهم بنو سليم كان بينهم وبين المسلمين حرب فخرجوا يجاهدونهم، فقتل منهم سبعون رجلا، فشق ذلك على النبي- صلى الله عليه وسلم- وعلى المسلمين، ثُمّ إن رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- كان يدعو «عليهم «7» » في دبر كل صلاة الغداة «8» «يقنت فيها «9» » ويدعو عليهم «أن يهلكهم «10» » الله.
__________
(1) «قوله» : من ف، وليست فى أ.
(2) سورة الضحى: 7. [.....]
(3) سورة الشورى: 52.
(4) من ف، وفى أ: «من أصحاب الصفة من أصحاب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-» .
(5) فى أ: «صدقوا» ، وفى ف: «تصدقوا» ، والأنسب «فإذا تصدق المسلمون عليهم بشيء» .
(6) فى أ: «مجيشين» ، وفى ف: «محتسبين» .
(7) فى أزيادة: «أى على بنى سليم، الذين قتلوا أصحابه» .
(8) كذا فى أ، ف: والمراد صلاة الصبح، كان يدعو عليهم فى نهاية صلاة الصبح كل يوم.
(9) فى ف: «قنت فيها» .
(10) فى أ: «يديهم» ، وهو مخالف لما ثبت فى الصحيح، والصواب ما ورد فى ف: «أن يهلكهم» .(4/741)
فقال اللَّه- تَعَالَى-: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ «1» » ثم عظم الرب- تعالى- نفسه فقال: «وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «2» » في تأخير العذاب عنهم، لعلم قد سبق فيهم أن يسلموا، «وأنزل «3» » الله- عز وجل- «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» يعنى ألم نوسع لك صدرك، يعني بالإيمان يقول بالتوحيد حتى تقولها، قول: «لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ» ، وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ- 2- يقول وحططنا عنك ذنبك [244 أ] الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ- 3- يقول للنبي- صلى الله عليه وسلم- كان أثقل ظهرك فوضعناه عنك، لقوله:
«إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً «4» » يا محمد وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ- 4- في الناس علما، كلما ذكر الله- تعالى- ذكر معه رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى في خطبة النساء فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً- 5- إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً- 6- يقول إن مع الشدة الرخاء،
فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْد ذلك لن يغلب- إن شاء الله- عسر واحد يسرين أبدا،
ثم قال: فَإِذا فَرَغْتَ يا محمد من الصلاة المكتوبة بعد التشهد والقراءة والركوع والسجود، وأبت جالس قبل أن تسلم فَانْصَبْ- 7- وَإِلى رَبِّكَ بالدعاء فَارْغَبْ- 8- إليه في المسألة فنهاه عن القنوت فى صلاة الغداة «5» .
__________
(1) سورة آل عمران: 128.
(2) سورة آل عمران: 129.
(3) فى أ، ف: «فأنزل» .
(4) سورة الفتح: 1- 2.
(5) إلى هذا يذهب مقاتل، ومن الفقهاء من ذهب إلى أن الله لم ينهه عن ذلك، وذكر أن القنوت فى الصبح مشروع خصوصا فى الشدائد والنوازل.(4/742)
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُقَاتِلٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: فَارَقَنِي خَلِيلِي عَلَى أَرْبَعِ خِصَالٍ، كَانَ يُؤَذِّنُ مَرَّتَيْنِ، وَيُقِيمُ مَرَّتَيْنِ، وَيُسَلِّمُ مَرَّتَيْنِ، حَتَّى يَسْتَبِينَ بَيَاضُ خَدِّهِ الأَيْمَنِ وَالأَيْسَرِ، وَكَانَ لا يَقْنُتُ فِي صَلاةِ الْغَدَاةِ «1» ، وَكَانَ يُسْفِرُ جِدًّا «2» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
__________
(1) ذهب الحنفية إلى أن القنوت فى صلاة الغداة لا يكون إلا فى النازلة. [.....]
(2) يسفر جدا، أى يؤخر صلاة الصبح حتى يسفر النهار ويتضح قال: «وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ» سورة المدثر: 34.(4/743)
سورة التّين(4/745)
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)(4/747)
[سورة التين «1» ] سورة التين مكية عددها «ثماني «2» » آيات كوفى «3»
__________
(1) مقصود السورة:
القسم على حسن خلقة الإنسان، ورجوع الكافر إلى النيران، وإكرام المؤمنين بأعظم المثوبات الحسان، وبيان أن الله حكيم وأحكم، فى قوله: «أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ» سورة التين: 8.
(2) فى أ، ف: «ثمان» .
(3) فى المصحف: (95) سورة التين مكية وآياتها (8) نزلت بعد سورة البروج.(4/749)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ- 1- أقسم الله- عز وجل- بالتين الذي يؤكل، والزيتون الذي يخرج منه الزيت وَطُورِ سِينِينَ- 2- يعني الجبل الحسن وهو بالنبطية، وهو الجبل الذي كلم الله- تعالى- عليه موسى- عليه السلام- يوم أخذ التوراة، وكل جبل لا يحمل الثمر لا يقال له سيناء وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ- 3- يعني مكة يأمن فيه كل خائف، وكل أحد فى الجاهلية والإسلام ولا تقام فيه الحدود فأقسم الله- عز وجل- بهؤلاء الآيات الأربع، فقال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ- 4- يعني يمشي على رجلين وغيره يمشي على أربع، وأحسن التقويم الشباب وحسن الصورة، ثُمَّ رَدَدْناهُ بعد الشباب والصورة الحسنة أَسْفَلَ سافِلِينَ- 5- يعني من الصورة لأنه يسقط حاجباه، ويذهب شبابه، وعقله، وقوته، وصوته، وصورته، فلا يكون «شيئا «1» » أقبح منه، وما خلق الله شيئا أحسن من الشباب، ثم استثنى فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ- 6-[244 ب] يعني غير منقوص، لا يمن به عليهم، يقول ليس الأجر في «الهرم «2» » إلا للمؤمنين، وذلك أن المؤمن إذا كبر ومرض كتب له حسناته في كبره وما كان يعمل فى شبابه وصحته لا ينقصه، ولا يمن به عليه، وأما الكافر
__________
(1) فى أ: «شيء» ، وفى ف: «شيئا» .
(2) فى أ: «القوم» ، وفى ف: «الهرم» .(4/751)
فإنه إذا شاخ وكبر ختم له بالشرك، ووجبت له النار فيموت والله- تبارك وتعالى- عليه غضبان والملائكة والسموات والأرض «1» .
قوله: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ يقول ما يكذبك، أيها الإنسان، يعني عدي ابن ربيعة بالدين، يعني بالبعث بعد الصورة الحسنة والشباب، وبعد الهرم، وفيه نزلت هذه الآية، يقول: يكذبك بالقيامة، فيقول «الله «2» » : الذي فعل ذلك به قادر على أن يبعثه فيحاسبه، ثم قال: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ- 8- على أن يحكم بينك وبين أهل مكة، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:
بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين يا أحكم الحاكمين. يعني يا أفصل الفاصلين، يقول يفصل بينك يا محمد وبين أهل التكذيب، وكل شيء في القرآن «أَلَيْسَ اللَّهُ» يقول «أَنَا اللَّهُ» .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ، حَدَّثَنَا مُقَاتِلٍ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَنْ شَابَ رَأْسُهُ فِي الإِسْلامِ، وَلِحْيَتُهُ كَانَتْ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ، «وَصَارَتْ «3» » كُلُّ شَعْرَةٍ «فِيهِ «4» » نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ، عَنْ خَالِدٍ الزَّيَّاتِ، عَنْ مَنْ حَدَّثَهُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: الْمَوْلُودُ حَتَّى يَبْلُغَ الْحِنْثَ، مَا عَمِلَ مِنْ حَسَنَةٍ كُتِبَتْ لِوَالِدَيْهِ، وَمَا عَمِلَ مِنْ سَيِّئَةٍ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْهِ، وَلا عَلَى وَالِدَيْهِ، فَإِذَا بَلَغَ الْحِنْثَ وَجَرَى عَلَيْهِ الْقَلَمُ أَمَرَ الْمَلَكَانِ
__________
(1) من أ، وليست فى ف.
(2) «الله» : زياد اقتضاها السياق.
(3) فى أ: «وكانت» ، وفى ف: «وصارت» .
(4) فى أ: «فيه» ، وفى ف: «منه» .(4/752)
اللَّذَانِ مَعَهُ أَنْ يَتَحَفَّظَا وَأَنْ «يُسَدِّدَا «1» » فَإِذَا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فِي الإِسْلامِ أَمَّنَهُ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ الْبَلايَا الثَّلاثَ مِنَ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصَ، فَإِذَا بَلَغَ الْخَمْسِينَ خَفَّفَ عَنْهُ حِسَابَهُ، فَإِذَا بَلَغَ السِّتِّينَ رَزَقَهُ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- الإِنَابَةَ إِلَيْهِ فَإِذَا بَلَغَ السَّبْعِينَ «أَحَبَّهُ «2» » أَهْلُ السَّمَاءِ فَإِذَا بَلَغَ الثَّمَانِينَ كَتَبَ لَهُ حَسَنَاتِهِ، وَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِه، فَإِذَا بَلَغَ التِّسْعِينَ غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَا تأخر، وشفع فى أهل بيته، وسمى عند اللَّهِ: أَسِيرَ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، فَإِذَا بَلَغَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ « ... لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً «3» ... » كُتِبَ لَهُ «مِثْلُ «4» » مَا كَانَ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ مِنَ الْخَيْرِ، وَإِنْ عَمِلَ سَيِّئَةً لَمْ تكتب عليه.
__________
(1) فى أ: «يسددا» ، وفى ف: «يتشددا» .
(2) فى أ: «حبه» ، وفى ف: «أحبه» .
(3) سورة الحج: 5.
(4) «مثل» : من أوليست فى ف.
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 48 [.....](4/753)
سورة العلق(4/755)
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9)
عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14)
كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)(4/757)
[سورة العلق «1» ] سورة العلق مكية عددها «تسع عشرة «2» » آية كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
ابتداء فى جميع الأمور باسم الخالق الرب- تعالى- جلت عظمته، والمنة على الخلق بتعليم الكتابة، والحكمة، والشكاية من أهل الضلالة، وتهديد أهل الكفر والمعصية، وتخويف الكفار بالعقوبة، وبشارة الساجدين بالقربة فى قوله: « ... وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ» سورة العلق: 19.
(2) فى أ: «تسعة عشر» والصواب ما أثبت.
(3) فى المصحف: (96) سورة العلق مكية وآياتها (19) وهي أول ما نزل من القرآن.(4/759)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ يعنى الواحد الَّذِي خَلَقَ- 1- يعني الإنسان، وكان أول شيء نزل من القرآن خمس آيات «أول «1» » هذه السورة خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ- 2- وهي النطفة التي تكون عشرين ليلة، ثم تصير ماء ودما، فذلك العلق، قوله: اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ- 3- الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ- 4- وذلك
أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد الحرام، فإذا أبو جهل يقلد إلهه الذي يعبده طوقا من ذهب، وقد طيبه بالمسك، وهو يقول: يا هبل لكل شيء سكن، ولكل خير جزاء، أما وعزتك لأسرنك القابل. وذلك أنه كان ولد له في تلك السنة ألف من الإبل، وجاءه عير من الشام فربح «عشرة آلاف مثقال «2» » «من الذهب «3» » فجعل ذلك «الشكر «4» » لهبل وهو صنم كان في جوف الكعبة طوله ثمانية عشر ذراعا، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ويحك، أعطاك إلهك وشكرت غيره، أما والله إن لله فيك نقمة، فانظر متى تكون؟ ويحك، «يا عم «5» » أدعوك إلى الله وحده، فإنه ربك ورب آبائك الأولين، وهو خلقك ورزقك فإن اتبعتنى
__________
(1) فى أ: «دون» ، وفى ف: «أول» .
(2) فى أ: «عشر ألف مثقال» ، وفى ف: «عشرة آلاف مثقالا» .
(3) فى أ: «من الذهب» ، وفى ف: «من ذهب» .
(4) فى أ: «السكن» ، وفى ف: «الشكر» .
(5) فى أ: «يا عمرو» ، وفى ف: «يا عم» .(4/761)
أصبت الدنيا والآخرة. قال له: واللات والعزى «ورب هذه البنية «1» » لئن لم تنته عن مقالتك هذه، فإن وجدتك ها هنا، وأنت تعبد غير آلهتنا لأسفعنك على ناصيتك يقول لأخرجنك «2» على وجهك، أليس هؤلاء بناته؟ قال: وأنى يكون له ولد؟ فأنزل الله- عز وجل- عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ
- 5- والنبي- صلى الله عليه وسلم- يومئذ بالأراك ضحى «ثم «3» » بين فقال: «خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ» يعني من دم حتى تحولت النطفة دما، «اقرأ» يا محمد، ثم استأنف فقال: «وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ» الكتابة «بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ» من القرآن «ما لَمْ يَعْلَمْ» ، ثم قال: كَلَّا لا يعلم إن علمته، ثم استأنف فقال: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى - 6- في نعم الله- عز وجل- يعني أبا جهل بن هشام، وكان إذا أصاب مالا أشر يعني بطر في ثيابه، وفي مراكبه، وفي طعامه وشرابه، فذلك طغيانه، إذا رأى نفسه استغنى، وكان موسرا طغى، فخوفه الله الرجعة إليه فقال: أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى - 7- إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى
- 8- خوفه في القيامة في التقديم «بعد أن قال «4» » : «وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» ، ثم هدده فيما بعد بقوله، «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ «5» » ثم ذكر الناصية فقال. «ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ «6» «7» .
__________
(1) من أ، وفى حاشية أ: «البنية بفتح الموحدة، وكسر النون بعدها، وبالياء المشددة، هي الكعبة شرفها الله» . وفى ف: «ورب البنية» .
(2) فى ف زيادة: «فانظر ماذا ترى؟ قال نبى الله- صلى الله عليه وسلم-: أما إن الله سيريك آية» ، وليست فى أ.
(3) فى أزيادة: «ثم» ، وليست فى ف.
(4) فى أ، ف: «ثم قال» .
(5) سورة العلق: 15.
(6) سورة العلق: 16. [.....]
(7) فى أ، ف: ( «أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى، إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى» خوفه فى القيامة فى التقديم فقال:
«وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ» فى النار، ثم ذكر الناصية فقال: «ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ» أقول وفيه أخطاء ظاهرة وقد حاولت تصحيحه فى أضيق الحدود.(4/762)
ثم قال: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى - 9- عَبْداً إِذا صَلَّى- 10- وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- فرضت عليه الصلاة بمكة، فقال أبو جهل:
لئن رأيت محمدا يصلي لأضربن عنقه فقال الله- عز وجل-: «أرأيت» [245 ب] «الَّذِي يَنْهى، عَبْداً إِذا صَلَّى» - يعني النبي- صلى الله عليه وسلم-، يقول الله- تعالى-: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ يعني محمدا عَلَى الْهُدى - 11- أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى - 12- يعنى بالإخلاص أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ أبو جهل بالقرآن وَتَوَلَّى- 13- يعني وأعرض أَلَمْ يَعْلَمْ أبو جهل بِأَنَّ اللَّهَ يَرى - 14- النبي- صلى الله عليه وسلم- وحده، ويرى جمع أبي جهل، ثم قال: كَلَّا لا يعلم أن الله- عز وجل- يرى ذلك كله، ثم خوفه فقال لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ يعني أبا جهل عن محمد، بالتكذيب والتولي لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ- 15- يقول لنأخذن بالناصية أخذا شديدا، ثم أخبر عنه أنه فاجر فقال: ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ- 16- يقول إنما يجره الملك على وجهه في النار من خطيئته، ثم قال: فَلْيَدْعُ نادِيَهُ- 17- يعني بني مخزوم، يعني ناصره «سَنَدْعُ «1» » الزَّبانِيَةَ- 18- فهم أشد غضبا عليه من بني مخزوم على محمد- صلى الله عليه وسلم-، لأنه
قال لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- لئن لم تنته ورأيتك هاهنا لأجرنك على وجهك، فأراد بذلك «أن «2» » يذل رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فأنزل فيه «يذله «3» » فقال: لئن لم ينته عنك، وعن مقالته الشرك «لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ» ، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: رأيت أبا جهل فى
__________
(1) فى أ: «سندعوا» .
(2) «أن» : «من ف» ، وليست فى أ.
(3) فى أ: «أن يذله» ، وفى ف: «يذله» .(4/763)
«طمطام «1» » من نار يجر على وجهه في نار جهنم على جبال من جمر فيطرح في أوديتها، فيقول: بأبي محمد وأمي لقد كان ناصحا لي، وأراد بي خيرا، ولكني كنت مسيئا إلى نفسي، وأردت به شرا، رب ردني إلى قومي، فأؤمن به، وآمر بني مخزوم أن يؤمنوا به «2» .
قال: كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ- 19- لأنهم كانوا يبدؤون بالسجود، ثم بعد السجود بالركوع، ثم بعد الركوع بالقيام، فكانوا يقومون، ويطلبون المسألة من آلهتهم فأمر الله- تعالى- أن يسجدوا ويقتربوا، فكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يسجد، ثم يركع، ثم يقوم، فيدعو الله- تعالى- ويحمده فخالف الله- تعالى- على المشركين بعد ذلك، فأمر النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يبدأ بالقيام، ثم بالركوع، ثم بالسجود.
قال: «فَلْيَدْعُ نادِيَهُ» يعني ناصره «سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ» يعني خزنة جهنم أرجلهم في الأرضين السفلى ورءوسهم فى السماء «كَلَّا لا تُطِعْهُ» يقول للنبي- صلى الله عليه وسلم- لا تطع أبا جهل في أن تترك الصلاة، «وَاسْجُدْ» يقول:
وصل لله- عز وجل- «وَاقْتَرِبْ» إليه بالطاعة، فلما سمع أبو جهل ذكر الزبانية قال قد جاء وعد الله وانصرف عن النبي- صلى الله عليه وسلم-، وقد كان هم به، فلما رجع قالوا له: يا أبا الحكم خفته؟ قال: لا، ولكني خفت الزبانية.
__________
(1) فى أ: «طيطام» ، وفى ف: «طمطام» .
(2) الحديث النبوي الشريف، من ف، وبه نفس وتصحيف فى أ.(4/764)
سورة القدر(4/765)
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)(4/767)
[سورة القدر «1» ] سورة القدر مدنية عددها خمس آيات كوفى «2»
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان شرف ليلة القدر فى نص القرآن، ونزول الملائكة المقربين من عند الرحمن، واتصال سلامهم طوال الليل على أهل الإيمان، فى قوله: « ... حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» سورة القدر: 5.
(2) فى المصحف: (97) سورة القدر مكية وآياتها (5) نزلت بعد سورة عبس.
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 49(4/769)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ يعني القرآن أنزله الله- عز وجل- من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى السفرة وهم الكتبة من الملائكة، وكان ينزل تلك الليلة من الوحي على قدر ما ينزل به جبريل- عليه السلام- على النبي- صلى الله عليه وسلم- في السنة كلها إلى مثلها من قابل حتى نزل القرآن كله فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ- 1- من شهر رمضان من السماء، ثم قال: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ- 2- تعظيما لها، ثم أخبر عنها، فقال: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ- 3- يقول العمل فيها خير من العمل في ألف شهر فيما سواها ليس فيها ليلة القدر «1» تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها في تلك الليلة عند غروب الشمس بِإِذْنِ رَبِّهِمْ يعني بأمر ربهم مِنْ كُلِّ أَمْرٍ- 4- ينزلون فيها بالرحمة، وبكل أمر قدره الله وقضاه في تلك السنة، ينزلون فيها ما يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل، ثم أخبر عن تلك الليلة فقال: «سَلامٌ هِيَ» «2» هي سلام وبركة كلها وخير حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ- 5-.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، عَنْ أنس بن مالك، عن مقاتل
__________
(1) فى تفسير الآية (3) نقص فى أ، ف، والمثبت مختار منهما معا.
(2) فى أ، ف: «هي سلام» ، وفى حاشية أ: «الاية «سَلامٌ هِيَ» .(4/771)
ابن سُلَيْمَانَ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الرُّوحُ عَلَى صُورَةِ إِنْسَانٍ عَظِيمِ الْخِلْقَةِ، وَهُوَ الذي قال الله- عز وجل-: «وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ... «1» »
وَهُوَ الْمَلِكُ، وَهُوَ يَقُومُ مَعَ الْمَلائِكَةِ صَفًّا «2» .
__________
(1) سورة الإسراء: 85.
(2) يشير إلى الآية 22 من سورة الفجر، وهي: «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» .(4/772)
سورة البيّنة(4/773)
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)(4/775)
[سورة البينة»
] سورة «لم يكن «2» ... » مدنية عددها «ثماني «3» » آيات كوفى «4» .
__________
(1) معظم مقصود السورة بيان تمرد أهل الكتاب، والخبر عن صحة أحكام القرآن، وذكر وظيفة الخلق فى خدمة الرحمن والإشادة بخير البرية من الإنسان، وجزاء كل واحد منهم بحسب الطاعة والعصيان، وبيان أن موعود الخائفين من الله الرضا والرضوان فى قوله: « ... ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ» سورة البينة: 8.
(2) سورة البينة: 1. [.....]
(3) فى أ، ف: «ثمان» .
(4) فى المصحف: (98) سورة البينة مدنية وآياتها (8) نزلت بعد سورة الطلاق.(4/777)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِينَ يعني مشركي العرب مُنْفَكِّينَ يعني منتهين عن الكفر والشرك، وذلك أن أهل الكتاب «قالوا «1» » : «متي يبعث الذي نجده في كتابنا «2» » ، «وقالت «3» » العرب: «لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ «4» » فنزلت: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ» يعني اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِينَ يعني مشركي العرب مُنْفَكِّينَ يعني منتهين عن الكفر والشرك، حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ- 1- محمد- صلى الله عليه وسلم- فبين لهم ضلالتهم وشركهم، ثم أخبر الله- عز وجل- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً [246 ب] مُطَهَّرَةً- 2- يعني يقرأ صحفا مطهرة، يعني كتابا لأنها جماعة فيها «خصال «5» » كثيرة، من كل نحو، مطهرة
__________
(1) فى أ، ف: «أنه قال أهل الكتاب» .
(2) من ف، وفى أ: «متى يبعث الله نجده فى كتابنا» .
أقول: «والمراد متى يبعث الله النبي الذي نجده فى كتابنا؟» .
(3) فى أ، ف: «ونقول» .
(4) سورة الصافات: 168- 169.
(5) فى ف: «خيال» ، وفى ل: «خصال» ، وهي ساقطة من أ.(4/779)
من الكفر والشرك يقول يقرأ كتابا ليس فيه كفر ولا شرك، وكل شيء فيه كتاب «فإنه يسمى «1» » صحفا «2» .
ثم قال: فِيها «3» يعني في صحف محمد- صلى الله عليه وسلم- كُتُبٌ قَيِّمَةٌ- 3- يعني كتابا مستقيما على الحق ليس فيه عوج ولا اختلاف، وإنما سميت «كتب «4» » لأن فيها أمورا شتى كثيرة مما ذكر الله- عز وجل- في القرآن، ثم قال: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى فِي أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ- 4- يعني البيان يقول الله- تعالى- لم يزل الذين كفروا مجتمعين على تصديق محمد- صلى الله عليه وسلم- حتى بعث لأن نعته معهم فى كتبهم فلما بعث الله- عز وجل- من غير ولد إسحاق اختلفوا فيه فآمن بعضهم: عبد الله بن سلام وأصحابه من أهل التوراة، ومن أهل الإنجيل أربعون رجلا منهم بحيري، وكذب به سائر أهل الكتاب، يقول الله- عز وجل-: وَما أُمِرُوا يقول ما أمرهم محمد- صلى الله عليه وسلم- إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يعني به التوحيد حُنَفاءَ يعني مسلمين غير مشركين وَأمرهم أن يُقِيمُوا الصَّلاةَ الخمس المكتوبة وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ المفروضة وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ- 5- يعني الملة المستقيمة، ثم ذكر الله- عز وجل- المشركين يوم القيامة، فقال:
__________
(1) فى ل: «فإنها تسمى» ، وفى ف: «أنه يسمى» .
(2) تفسير الآية (2) من ف، ل، وقد سقط أكثره من أ.
(3) الآية (3) ساقطة من أ.
(4) فى أ: «كتب» ، وفى ف: «كتابا» ، وفى ل: «كتب» .(4/780)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها يقول: يقيمون فيها لا يموتون، ثم قال: أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ- 6- يعني شر الخليقة من أهل الأرض، ثم ذكر مستقر من صدق بالنبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ- 7- يعني خير الخليقة من أهل الأرض جَزاؤُهُمْ يعني ثوابهم عِنْدَ رَبِّهِمْ في الآخرة جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يموتون رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بالطاعة وَرَضُوا عَنْهُ بالثواب ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ- 8- في الدنيا وكل شيء خلق من التراب فإنه يسمى البرية.(4/781)
سورة الزّلزلة(4/783)
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 50.(4/785)
[سورة الزلزلة «1» ] سورة الزلزلة مكية عددها «ثماني «2» » آيات كوفى «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان أحوال القيامة وأهوالها، وذكر جزاء الطاعة، وعقوبة المعصية، وذكر وزن الأعمال فى ميزان العدل فى قوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ سورة الزلزلة: 7- 8.
(2) فى أ، ف: «ثمان» .
(3) فى المصحف: (99) سورة الزلزلة مدنية وآياتها (8) نزلت بعد سورة النساء. [.....](4/787)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها- 1- يقول تزلزلت يوم القيامة من شدة صوت إسرافيل- عليه السلام- يعني تحركت، فتفطرت حتى تكسر كل شيء عليها بزلزالها من شدة الزلزلة، ولا تسكن حتى تلقي ما على ظهرها من جبل، أو بناء، أو شجر، فيدخل فيها كل شيء خرج منها، «وزلزلت «1» » الدنيا فلا تلبث حتى تسكن «2» ، وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها- 2- يقول «تحركت «3» » فاضطربت، وأخرجت ما في جوفها من الناس، والدواب، والجن، وما عليها من الشياطين، فصارت خالية ليس فيها شيء، وتبسط الأرض جديدة بيضاء «4» [247 أ] كأنها الفضة، أو كأنها خامة ولها شعاع كشعاع الشمس، لم يعمل عليها ذنب، ولم «يهرق «5» » فيها الدماء وذلك «أنه «6» » إذا جاءت النفخة الأولى، «يموت «7» » الخلق كلهم، «ثم تجيء النفخة الثانية «8» » .
__________
(1) فى ف: «وزلزلة» ، وفى أ: «وزلزلت» .
(2) كذا فى ف: والجملة ناقصة من (أ) .
(3) فى أ، ف: «تحركة» .
(4) السورة بها أخطاء كثيرة فى (أ) ومعظم اعتمادي على (ف) ، فى هذه السورة.
(5) فى أ: «يهرق» ، وفى ف: «يهراق» .
(6) فى أ، ف: «أنها» .
(7) فى أ، ف: «قيمون» .
(8) فى أ: «ثم النفخة الثانية تجيء» ، وفى ف: «ثم تجيء النفخة الثانية» .(4/789)
فأما الأولى فينادي من تحت العرش من فوق السماء السابعة، وأما الأخرى فمن بيت المقدس، «يقعد إسرافيل على صخرة بيت المقدس «1» » فيقول: أيتها العظام البالية، والعروق المتقطعة، واللحوم المتمزقة اخرجوا إلى فصل القضاء، لتجازوا بأعمالكم، قال: فيخرجون من قبورهم إلى الأرض الجديدة، وتسمى الساهرة، فذلك قوله- تعالى-: «فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ «2» » ، وأيضا «وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» أخرجت ما فيها من الموتى والأموال.
وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها «3» - 3- قال الكافر جزعا ما لها تنطق بما عمل عليها، يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها- 4- يقول تخبر الأرض بما عمل عليها من خير أو شر، تقول الأرض وحد الله على ظهري، وصلى علي، وصام، وحج، واعتمر، وجاهد، وأطاع ربه، فيفرح المؤمن. بذلك وتقول للكافر أشرك على ظهري، وزنى، وسرق، وشرب الخمر، وفعل، وفعل، فتوبخه في وجهه، وتشهد عليه أيضا الجوارح، والحفظة من الملائكة، مع علم الله- عز وجل- فيه، وذلك اخزى العظيم، فلما سمع الإنسان المكذب عمله قال جزعا: «مَا لَها» يعني للأرض تحدث بما عمل عليها، فذلك قوله: «وَقالَ الْإِنْسانُ مَا لَها» في التقديم، يقول له: «يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها» يقول تشهد على أهلها بما عملوا عليها من خير أو شر، فلما سمع الكافر «يومئذ» . قال: ما لها تنطق؟ قال الملك الذي كان موكلا به في الدنيا يكتب حسناته وسيئاته، قال: هذا
__________
(1) «يقعد إسرائيل على صخرة بيت المقدس» : من ف، وليست فى أ.
(2) سورة النازعات: 14.
(3) فى أ، ف، ل، ذكرت الآية (3) فى غير موضعها ولم يذكر تفسيرها، وقد تصديته من كلام فى سياق تفسير الآية (4) .(4/790)
الكلام الذي تسمع «إنما «1» » شهدت على أهلها بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها- 5- «وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها» يعني الكافر، يقول: يوحي الله إليها بأن تحدث أخبارها، وأيضا أن ربك أوحى لها بالكلام، فذلك قوله: «أَوْحى لَها» ، يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ «2» » أَشْتاتاً يعني يرجع الناس من بعد العرض والحساب إلى منازلهم من الجنة والنار متفرقين، كقوله: « ... يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ «3» » يعني يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير.
(وذكر فيما تقدم «وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» ثم ذكر هنا أن الناس أخرجوا «4» ) لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ- 6- الخير والشر، يعني لكي يعاينوا أعمالهم، وأيضا «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً» يقول «انتصف «5» » الناس فريقين والأشتات الذين لا يلتقون أبدا، قال ليروا أعمالهم، ثم قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ- 7- يقول من يعمل في الدنيا مثقال ذرة، يعني وزن نملة أصغر النمل الأحمر التي لا تكاد نراها من صغرها، خيرا في التقديم [247 ب] يره يومئذ:
يوم القيامة في كتابه أيضا «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ» وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ- 8- في صحيفته، وذلك أن العرب كانوا لا يتصدقون
__________
(1) فى أ: «أنها» ، ل: «أنما» ، وعموما فهناك اضطراب فى جميع الفسخ وأنا أتخير الصواب تخيرا.
(2) «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ» ساقطة من أ، ل، وهي من ف.
(3) سورة الروم: 43. [.....]
(4) فى أ، ف، ل: «ثم قال فى التقديم وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها يقول أخرجوا» ، والعبارة بها خطأ معنوى، صوابه ما أثبت.
(5) فى ف: «تتصرف» ، وفى ل: «تتصدر» ، وفى أ: «انتصف» .(4/791)
بالشيء القليل، وكانوا لا يرون بالذنب الصغير بأسا، فزهدهم الله- عز وجل- في الذنب الحقير، ورغبهم في الصدقة «القليلة «1» » ، فقال: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» في كتابه والذرة أصغر النمل وهي النملة الصغيرة، وأيضا فمن يعمل في الدنيا مثقال ذرة- قدر نملة شرا يره يوم القيامة في كتابه، نزلت في رجلين بالمدينة، كان أحدهما إذا أتاه السائل «يستقل «2» » أن يعطيه الكسرة أو التمرة، ويقول ما هذا بشيء إنما نؤجر على «ما نعطي ونحن نحبه «3» » .
وقد قال الله- عز وجل-: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ ... «4» » فيقول ليس هذا مما يحب، فيستقل ذلك ويرى أنه لا يؤجر عليه، فيرد المسكين صفرا، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير: الكذبة، والنظرة، والغيبة، وأشباه ذلك، ويقول ليس على من فعل هذا شيء إنما وعد الله النار أهل الكبائر. فأنزل الله- عز وجل- يرغبهم فى القليل من الخير أن يعطوه لله فإنه يوشك أن «يكثر ويحذرهم اليسير من الشر فإنه يوشك أن يكثر «5» » فالذنب الصغير في عين صاحبه يوم القيامة أعظم من الجبال الرواسي، ولجميع محاسنه التي عملها في دار الدنيا أصغر في عينه من حسنة واحدة.
__________
(1) فى أ: «القليل» ، وفى ف: «القليلة» .
(2) فى أ: «فيستقل» .
(3) فى أ: «على ما نظر ونخرجه» ، وفى ف: «على ما نعطى ونحن نحبه» .
(4) سورة الإنسان: 8.
(5) من «يكثر» إلى «يكثر» : ساقط من أ، وهو من ف.(4/792)
حدثنا عبد اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حدثنا الْهُذَيْلُ عن أبي روق فى قوله: «وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا ... «1» » قال لمن جاء بشرائع الإسلام فله الجنة «وعدلا» على أهل التكذيب فلهم النار.
أسماء من دفن بالبصرة «2» من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ورحمة الله عليهم، عمران بن حصين، وطلحة، والزبير، وزيد بن صوحان، وأنس بن مالك.
أسماء من حفظ القرآن من أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، أبو الدرداء، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.
قال مُقَاتِلُ- رحمه الله-: شعيب بن نويب بن مدين بن إبراهيم، أيوب بن تارح بن عيصو داود بن أشي بن عويذ بن قارص بن يهوذا بن يعقوب، إسحاق بن إبراهيم، هود وهو عابر صالح بن أرفحشد بن سام بن نوح إبراهيم اسمه إبرخيم، وفي الإنجيل أبو الأمم، لوط بن حران بن آزر وهو ابن أخي إبراهيم، وسميت حران به
__________
(1) سورة الأنعام: 115.
(2) فى أ، وليست فى ف، ولا فى ل هنا، وإن كانت فى ل فى مكان آخر.(4/793)
سارة أخت لوط بنت حران أخي إبراهيم وهي امرأته، قال مُقَاتِلُ: الحسن عشرة أجزاء خمسة لحواء، وثلاثة لسارة، وواحد ليوسف، وواحد لسائر الناس.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قال: حدثنا الهذيل، قال:
حَدَّثَنِي الْمُسَيَّبُ بْنُ شَرِيكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَبْدِ الله ابن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: «قَالَتِ «1» » الْمَلائِكَةُ، نَحْنُ الْمُقَرَّبُونَ مِنَّا حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَمِنَّا الْحَفَظَةُ الْكِرَامُ «الْكَاتِبُونَ «2» » .
جَعَلْتَ الدُّنْيَا لِبَنِي آدَمَ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَيَفْرَحُونَ فَاجْعَلْ لَنَا الْجَنَّةَ، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِمْ لا أَجْعَلُ صَالِحَ ذُرِّيَّةِ مَنْ خَلَقْتُهُ بِيَدِي، كَمَنْ قُلْتُ لَهُ كُنْ فَكَانَ، قَالَ الْمُسَيَّبُ: ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- «أُولَئِكَ «3» هم خير البرية «4» » يَعْنِي الْخَلِيقَةَ.
«حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ «5» » ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: قال الهذيل: حدثني خالد الحذاء عن شيبان، عن بشر بن سعاف، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلَّ- لَمْ يَخْلُقْ خَلْقًا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنْ آدَمَ- عَلَيْهِ السَّلامُ-. قَالَ:
فَقُلْتُ: وَلا مِنْ جِبْرِيلَ، وَمِيكَائِيلَ، - عَلَيْهِمَا السَّلامُ-. فَقَالَ: نَعَمْ، إِنَّمَا هُمْ قَوْمٌ مَحْمُولُونَ عَلَى شَيْءٍ كَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَحَدِيثٌ آخَرُ أَنَّ الْمَسْجُودَ لَهُ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- مِنَ السَّاجِدِ.
__________
(1) «قالت» : من أ، ف.
(2) فى أ: «الكاتبين» ، وفى ف: «الكاتبون» .
(3) القصة فى أ، ف.
(4) سورة البينة: 7.
(5) «حدثنا عبد الله» : من أ، وليست فى ف. [.....](4/794)
سورة العاديات(4/795)
[سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)
فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9)
وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)(4/797)
[سورة العاديات «1» ] سورة العاديات مكية عددها «إحدى عشرة «2» » آية كوفى «3» :
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان شرف الغزاة فى سبيل الرحمن، وذكر كفران الإنسان، والخبر عن اطلاع الملك الديان، على الإسرار والإعلان، وذم محبة ما هو فان، والخبر عن إحياء الأموات بالأجساد والأبدان، وأنه- تعالى- خبير بما للخلق من الطاعة والعصيان.
(2) فى أ: «أحد عشرة» .
(3) فى المصحف: (100) سورة العاديات مكية وآياتها (11) نزلت بعد سورة العصر.(4/799)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله وَالْعادِياتِ ضَبْحاً- 1- وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- بعث سرية إلى «حنين «1» » من كنانة، واستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري أحد النقباء، فغابت فلم يأت النبي- صلى الله عليه وسلم- خبرها، فأخبره الله- عز وجل- عنها فقال: «وَالْعادِياتِ ضَبْحاً» يعني الخيل، «وقيل «2» » إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بعث سرية إلى أرض تهامة، وأبطأ عليه الحبر فجعلت اليهود والمنافقون إذا رأوا رجلا من الأنصار أو من المهاجرين تناجوا يأمره، فكان الرجل يظن أنه قد مات، أو قتل أخوه، أو أبوه، أو عمه، وكان يجد من ذلك أمرا عظيما، فجاءه جبريل- عليه السلام- يوم الجمعة عند وقت الضحى، فقال: «وَالْعادِياتِ ضَبْحاً» يقول غدت الخيل إلى الغزوة حتى أصبحت فعلت أنفاسها بأفواهها، فكان لها ضباح كضباح الثعلب، ثم قال: فَالْمُورِياتِ قَدْحاً- 2- يقول يقدحن بحوافرهن في الحجارة نارا كنار «أبي حباحب «3» » ، وكان «شيخا «4» »
__________
(1) فى أ: «جبر» ، وفى ف: «حنين» ، وفى ل: «حين» .
(2) فى أ، ف، ل: «وذلك» ، وهو تكرير لما سبق فعدلته إلى: «وقيل» ، ليفهم أنه رواية أخرى فى سبب النزول، ولعل النبي كان قد بعث سريتين وأبطأ عليه خيرهما.
أخرج البزار وابن أبى حاتم، والحاكم عن ابن عباس، قال: بعث رسول الله (ص) خيلا ولبث شهرا لا يأتيه خيرها، فنزلت «وَالْعادِياتِ ضَبْحاً» (لباب النقول للسيوطي: 241) .
(3) فى ف: «أبى حباحب» ، وفى أ: «أبى صاحب» .
(4) فى أ، ف: «شيخ» .
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 51(4/801)
من مصر فى الجاهلية له نويرة نقدح مرة وتخمد مرة لكيلا يمر به ضيف فشبه الله- عز وجل- ضوء وقع حوافرهن في أرض حصباء بنويرة أبي حباحب، وأيضا «فَالْمُورِياتِ قَدْحاً» قال كانت تصيب حوافرهن الحجارة فتقدح منهن النار، ثم قال: فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً- 3- وذلك أن الحيل صبحت العدو بغارة يقول غارت عليهم صبحا فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً- 4- يقول فأثرن بجريهن يعني بحوافرهن «نقعا «1» » في التراب.
«حدثنا عبد الله بن ثابت، قال الفراء «2» » : النقع: الغبار، فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً- 5- يعني بعدوهن، يقول حين تعدو الخيل جمع القوم يعني العدو، فأقسم الله- عز وجل- «بالعاديات ضبحا «3» » وحدها: إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ- 6- وأيضا «فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً» يقول فوسطن بذلك «الغبار «4» » جمعا، يقول حمل المسلمون عليهم، فهزموهم، فضرب بعضهم بعضا، حتى ارتفع الوهج «الذي كان ارتفع «5» » من حوافر الحيل إلى السماء، فهزم الله المشركين وقتلهم، فأخبره الله- عز وجل- بعلامات الخيل، والغبار، وكيف فعل بهم؟
فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: يا جبريل، ومتى كان هذا؟ قال:
اليوم. فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فأخبر المسلمين بذلك، وقرأ عليهم كتاب الله- عز وجل- ففرحوا واستبشروا، وأخرى الله- عز وجل-
__________
(1) فى أ، ف: «نقع» .
(2) حدثنا عبد الله بن ثابت، «قال الفراء» : من أ، وفى ف: «قال أبو محمد، قال الفراء» ، أقول: «وأبو محمد هو عبد الله بن ثابت» .
(3) فى أ، ف: «بو العاديات» .
(4) فى أ: «المغار» ، وفى ف: «الغبار» .
(5) «الذي كان ارتفع» : كذا فى أ، ف، والأنسب: «الذي يرتفع» .(4/802)
اليهود والمنافقين
«إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ» يعني لكفور نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي، وهو الرجل الذي أكل وحده، وأشبع بطنه وأجاع عبده، ومنع رفده، ولم يعط قومه شيئا، يسمى بلسان بني مالك بن كنانة «الكنود» ثم قال: وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ- 7- يقول إن الله- عز وجل- على كفر قرط لشهيد، ثم أخبر عنه فقال: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ- 8- يعني المال، ثم خوفه فقال: أَفَلا يَعْلَمُ يعني فهلا يعلم إِذا بُعْثِرَ يعني «بعث «1» » ما فِي الْقُبُورِ- 9- من الموتى وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ- 10- من الخير والشر، يعني تميز ما في القلوب إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ يعني يوم القيامة لَخَبِيرٌ- 11- بالصالح منهم والطالح.
__________
(1) فى أ، ف: «بحث» ، والأنسب: «بعث» ، وفى الجلالين: (بعثر) أثير وأخرج» .(4/803)
سورة القارعة(4/805)
[سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)
وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)
وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)(4/807)
[سورة القارعة «1» ] سورة القارعة مكية عددها «إحدى عشرة «2» » آية كوفى «3»
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان هيبة العرصات، ومواقف القيامة وتأثيرها فى الجمادات والحيوانات، وذكر وزن الحسنات والسيئات، وشرح عيش أهل الدرجات، وبيان حال أصحاب الدركات، فى قوله: «نارٌ حامِيَةٌ» سورة القارعة: 11. [.....]
(2) فى أ: «أحد عشر» ، والصواب ما أثبت.
(3) فى المصحف: (101) سورة القارعة مكية وآياتها (11) نزلت بعد سورة قريش.(4/809)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: الْقارِعَةُ- 1- ثم بين لهم: مَا الْقارِعَةُ- 2- فقال يقرع الله- عز وجل- أعداءه بالعذاب، ثم قال للنبي- صلى الله عليه وسلم- وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ- 3- تعظيما لها لشدتها، وكل شيء [249 أ] في القرآن «وَما أَدْراكَ» فقد أخبر به النبي- صلى الله عليه وسلم-، وكل شيء فى القرآن، «وَما يُدْرِيكَ» فما لم يخبر به، وفي الأحزاب « ... وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً «1» » وقال فى هذه السورة «وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ» ، ثم أخبر عنها فقال: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ- 4- يقول إذا خرجوا من قبورهم «تجول «2» » بعضهم في بعض، فشبههم بالفراش المبثوث، وشبههم في الكثرة بالجراد المنتشر، فقال: « ... كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ «3» » ، ثم قال: وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ- 5- يقول تكون الجبال يومئذ بعد القوة والشدة كالصوف المندوف عرقها في الأرض السفلى، ورأسها في السماء، يقول هو جبل فإذا مسسته فهو لا شيء من شدة الهول: فما حالك يومئذ يا بن آدم، قال: كالصوف المنفوش في الوهن، أوهن ما يكون الصوف إذا نفش فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ- 6- يقول من رجحت موازينه بحسناته فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ- 7- ولا يثقل الميزان إلا قول: لا إله إلا الله بقلوب المخلصين في الأعمال وهم «الموحدون «4» » يعنى فى عيش فى
__________
(1) سورة الأحزاب: 63.
(2) فى ف: «تجول» ، وفى ل: «تحول» ، وفى أ:
«يخرجون» .
(3) سورة القمر: 7.
(4) فى ف، أ: «الموحدين» .(4/811)
الجنة برضاه وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ- 8- «بسيئاته «1» » وهو الشرك لأنه لا يرى شيئا مما كسب إلا صار كالرماد، فاشتدت به الريح في يوم شديد الريح «2» ، وكما أنه ليس في الأرض شيء «أخبث «3» » من الشرك فهكذا ليس شيء أخف من الشرك في الميزان، ولا إله إلا الله «ثقيلة «4» » «وصاحبها «5» » ثقيل كريم رزين عند الله- عز وجل- فيأتي صاحب التوحيد بأعماله الصالحة فيثقل ميزانه، ويأتي صاحب الشرك بأعماله الطالحة فلا تكون له حسنة توزن معه فهو خفيف «6» «فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» وهي الجنة، يعني براضية أنه لا يسخط بعد دخولها أبدا، «وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ» وهو الشرك فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ- 9- يقول لا تحمله الأرض، ولا تظله السماء، ولا شيء إلا النار، فذلك قوله: «فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ» يعنى أصله هاوية، كقوله: « ... أُمَّ الْقُرى «7» ... » يعني أصل القرى يعني مكة، ثم قال: وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ- 10- نارٌ حامِيَةٌ- 11- يقول نار حامية تحمي ستة أبواب من جهنم، «وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ» يقول خفت موازينه «بسيئاته «8» » وحق لميزان لا يقع فيه الحق أن يخف لأن الحق ثقيل مرئ، والباطل خفيف «وبيء «9» » «وَما أَدْراكَ مَا هِيَهْ» تعظيما لشدتها، ثم أخبر عنها، فقال هي: «نارٌ حامِيَةٌ» يقول انتهى حرها.
__________
(1) فى أ: «سيئاته» ، وفى ف: «بسيئاته» .
(2) ورد هذا المعنى فى تفسير الآية (18) من سورة إبراهيم.
(3) فى أ: «أخف» ، وفى ف: «أخبث» .
(4) فى أ: «ثقيلة» ، وفى ل: «ثقيل» ، وفى ف: «ثقيل» .
(5) فى أ، ف، ل: «وصاحبه» .
(6) تفسير الآية (8) ناقص فى أ، وهو من ف، ل.
(7) سورة الأنعام: 92.
(8) فى أ: «سيئاته» ، وفى ف: «بسيئاته» . [.....]
(9) فى أ: «ورى» ، وفى ف: «وبيء» .(4/812)
سورة التّكاثر(4/813)
[سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)
كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)(4/815)
[سورة التكاثر «1» ] سورة التكاثر مكية عددها «ثمان «2» » آيات.
__________
(1) معظم مقصود السورة:
ذم المقبلين على الدنيا، والمفتخرين بالمال، وبيان أن عاقبة الكل الموت والزوال، وأن نصيب الغافلين العقوبة والنكال، وأعد للمشمولين المذلة والسؤال والحساب والوبال، فى قوله:
«ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» سورة التكاثر: 8.
(2) فى المصحف: (102) سورة التكاثر مكية وآياتها (8) نزلت بعد سورة الكوثر.
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 52(4/817)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ يعني شغلكم التكاثر، وذلك أن حيين من قريش من بني عبد مناف بن قصي، وبني سهم بن عمرو بن مرة بن كعب كان بينهم لحاء فافتخروا، «فتعادى «1» » السادة والأشراف فقال بنو عبد مناف: نحن أكثر سيدا، وأعز عزيزا، وأعظم شرفا، وأمنع جانبا، وأكثر عددا، فقال بنو سهم لبني عبد مناف:
مثل ذلك، «فكاثرهم «2» » بنو عبد مناف بالأحياء، ثم قالوا: تعالوا نعد أمواتنا حتى أتوا المقابر «يعدونهم «3» » فقالوا: هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان «فعد «4» » هؤلاء وهؤلاء موتاهم، «فكاثرهم «5» » بنو سهم بثلاثة أبيات، لأنهم كانوا أكثر عددا «6» في الجاهلية من بني عبد مناف، فأنزل الله في الحيين «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» يقول شغلكم التكاثر عن ذكر الآخرة، فلم تزالوا كذلك، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ- 2- كلكم يقول إلى أن أتيتم المقابر، ثم أوعدهم الله- عز وجل- فقال: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ- 3- هذا وعيد: «ما نحن «7» » فاعلون بذلك إذا نزل بكم الموت، ثم قال: ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ- 4-
__________
(1) «فتعادوا» : فى أ، ف، ل.
(2) «فكاثروهم» : فى أ، ف، ل،.
(3) فى أ، ف، ل: «يعدوهم» .
(4) فى أ، ف: «فعدوا» .
(5) فى أ، ف، ل: «فكاثروهم» .
(6) فى أ، ف، ل: زيادة: «سهم» ، والأنسب حذفها.
(7) فى أ: «ما يجوز» وفى ف: «ما نحن» .(4/819)
وهو وعيد: إذا دخلتم قبوركم، ثم قال: كَلَّا لا يؤمنون بالوعيد، ثم استأنف فقال: لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ- 5- لا شك فيه «لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ» «1» - 6- لعلمتم أنكم سترون الجحيم في الآخرة ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ- 7- لا شك فيه، يقول لترون الجحيم في الآخرة معاينة، «والجحيم «2» » ما عظم من النار، يقينها رؤية العين،: سنعذبهم مرتين «مرة عند الموت، ومرة عند القبر «3» » ثم يردون إلى عذاب عظيم ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ فى الآخرة يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ- 8- يعني كفار مكة كانوا في الدنيا في الخير والنعمة، فيسألون يوم القيامة عن شكر ما كانوا فيه، وأيضا فذلك قوله: « ... أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها.. «4» » وقال: «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» وذلك أن الله- عز وجل- إذا جمع الكفار فى النار صرخوا: يا مالك، أنضجت لحومنا وأحرقت جلودنا، «وجاعت «5» » وأعطشت أفواهنا، وأهلكت أبداننا، فهل إلى خروج يوم واحد من سبيل من النار، فيرد عليهم مالك فيقول: لا، قالوا: ساعة من النهار. «قال «6» » :
لا. قالوا: فردنا إلى الدنيا، فنعمل غير الذي كنا نعمل، قال فينادي مالك- خازن النار-[250 أ] بصوت غليظ جهير، قال: فإذا نادى حسرت النار من فرقه، وسكن أهلها، فيقول: أبشروا فيرجون أن تكون عافية قد أتتهم، ثم
__________
(1) «لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ» ، ساقطة من أ، ف.
(2) فى أ: «الجحيم» ، وفى ف: «فالجحيم» ، والأنسب ما أثبت.
(3) «مرة عند الموت ومرة عند القبر» : من ف، وليست فى أ.
(4) سورة الأحقاف: 20. [.....]
(5) فى أ، ف: «وأجاعت» .
(6) فى أ: «قالوا» ، وفى ف: «قال» .(4/820)
يناديهم: يا أهل النار، فيقولون: لبيك، فيقول: يا أهل البلاء، فيقولون:
لبيك. فيقول: « ... أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها، (فَالْيَوْمَ «1» ) تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ ... «2» » يا أهل الفرش والوسائد والنعمة في دار الدنيا، كيف تجدون مس سقر؟ قالوا: يأتينا العذاب من كل مكان، فهل إلى أن نموت ونستريح، قال فيقول: وعزة ربي لا أزيدكم إلا عذابا، قال فذلك قوله: «ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ» يعني الشكر للنعيم الذي أعطاه الله- عز وجل-، فلم يهتد ولم يشكر، يعني الكافر.
__________
(1) فى أ، ف: (اليوم) ، وفى المصحف: (فاليوم) .
(2) سورة الأحقاف: 20.(4/821)
سورة العصر(4/823)
[سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)(4/825)
[سورة العصر «1» ] سورة العصر مكية عددها ثلاث آيات كوفى «2» .
__________
(1) مقصود السورة:
بيان خسران الكفار والفجار، وذكر سعادة المؤمنين الأبرار، وشرح حال المسلم الشكور الصبار فى قوله: «وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ» سورة العصر: 3.
(2) فى المصحف: (103) سورة العصر مكية وآياتها (3) نزلت بعد سورة الشرح.(4/827)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ- 1- قسم، أقسم الله- عز وجل- بعصر النهار، وهو آخر ساعة من النهار، وأيضا «العصر» سميت العصر حين «تصوبت «1» » الشمس للغروب وهو عصر النهار، فأقسم الله- عز وجل- بصلاة العصر.
إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ- 2- نزلت في أبي لهب اسمه عبد العزى بن عبد المطلب يعني أنه لفي ضلال أبدا حتى يدخل النار، ثم استثنى فقال:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فليسوا في خسران، ثم نعتهم فقال:
وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ يعني بتوحيد الله- عز وجل- وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ- 3- يعني «على «2» » أمر الله- عز وجل- فمن فعل هذين كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فليسوا من الخسران في شيء، ولكنهم فى الجنان مخلدون.
__________
(1) فى أ: «تصوب» ، وفى ف: «تصوبت» .
(2) فى أ: «عن» ، وفى ف: «على» .(4/829)
سورة الهمزة(4/831)
[سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)
وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)(4/833)
[سورة الهمزة «1» ] سورة الهمزة مكية عددها «تسع «2» » آيات كوفى «3»
__________
(1) معظم مقصود السورة:
عقوبة العياب المغتاب، وذم جمع الدنيا ومنعها، وبيان صعوبة العقوبة فى قوله: «فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» سورة الهمزة: 9.
(2) فى أ: «سبع» .
(3) فى المصحف: (104) سورة الهمزة مكية وآياتها: 9، نزلت بعد سورة القيامة.(4/835)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ يعني الطعان المغتاب الذي إذا غاب عنه الرجل اعتابه من خلفه لُمَزَةٍ- 1- يعني الطاغي إذا رآه طغى عليه في وجهه، نزلت في الوليد ابن المغيرة المخزومي، كان يغتاب النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا غاب، وإذا رآه «طغى فى «1» » وجهه، ثم نعته فقال: الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ- 2- يقول الذي «استعد «2» » مالا [250 ب] ليشتري به الخدم والحيوان، يقول: يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ- 3- من الموت، فلا يموت حتى يفنى ماله، يقول الله- عز وجل- كَلَّا لا يخلده ماله وولده، ثم استأنف فقال: لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ- 4- يقول ليتركن في الحطمة وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ- 5- تعظيما لشدتها، تحطم العظام، وتأكل اللحم حتى «تهجم «3» » على القلب، ثم أخبر عنها فقال: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ- 6- على أهلها لا تخمد، ثم نعتها فقال: الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ- 7- يقول تأكل اللحم والجلود حتى يخلص حرها إلى القلوب، ثم تكسى لحما جديدا، ثم تقبل عليه وتأكله حتى يصير إلى منزلته الأولى، إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ- 8- يعنى مطبقة فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ- 9- يقول طبقت الأبواب ثم «شدت «4» » بأوتاد
__________
(1) «طغى فى» : كذا فى أ، ف، والمألوف: «طغى عليه» .
(2) «استعد» : كذا فى أ، ف، والمألوف «أعد» ، ومعنى استعد: طلب الأعداد.
(3) فى أ: «تلحم» ، وفى ف: «تهجم» . [.....]
(4) فى أ: «شددت» ، وفى ف: «شدت» .(4/837)
من حديد من نار حتى يرجع عليهم غمها وحرها، فلا يفتح عليهم باب، ولا يدخل عليهم روح، ولا يخرج منها غم آخر الأبد، وأيضا «لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ» فأما «الهمزة» فالذي ينم الكلام إلى الناس وهو النمام، وأما «اللمزة» فهو الذي يلقب الرجل بما يكره، وهو الوليد بن المغيرة، كان رجلا «نماما «1» » وكان يلقب الناس «2» من التجبر «3» والعظمة وكان يستهزئ بالناس، وذلك أنه أنزل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم. «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً «4» » وكان له حديقتان، حديقة بمكة وحديقة بالطائف، وكان لا ينقطع خيره شتاء ولا صيفا، فذلك قوله « ... مالًا مَمْدُوداً، وَبَنِينَ شُهُوداً «5» » يعني أرباب البيوت، وكان له سبعة بنين قال: «وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً
«6» » يقول بسطت له في المال كل البسط «ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً «7» » قال: والله، لو قسمت مالي يمينا وشمالا على قريش ما دمت حيا ما فنى، فكيف «تعدني «8» » الفقر؟ قال أما والله، إن الذي أعطاك، قادر على أن يأخذه منك، فوقع في قلبه من ذلك شيء ثم عمد إلى ماله فعده، ما كان من ذهب أو فضة أو أرض أو حديقة أو رقيق فعده وأحصاه،
__________
(1) «تماما» : كذا فى أ، ف. وفى حاشية أ، فى الأصل «تاما» .
(2) أى بالألقاب السيئة: وهو التنابز بالألقاب.
(3) فى أ: «التحير» ، وفى ف: «التجبر» .
(4) سورة المدثر: 11- 12.
(5) سورة المدثر: 12- 13.
(6) سورة المدثر: 14.
(7) سورة المدثر: 15- 16.
(8) فى أ، ف: «توعدني» .(4/838)
فقال: يا محمد «تعدني «1» » الفقر والله «لو كان «2» » هذا «خبزا «3» » ما فني فأنزل الله- عز وجل- «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ، الَّذِي جَمَعَ مَالا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ، كَلَّا» لا يخلده، ثم استأنف فقال: «لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ، وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ» تعظيما لها، فقال: «إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» وذلك أن الشقي إذا دخل النار «طاف «4» » به الملك في أبوابها في ألوان العذاب «وفتح «5» » له باب الحطمة وهي باب من أبواب جهنم، وهي نار تأكل النار من شدة حرها، وما خمدت من يوم خلقها الله- عز وجل- إلى يوم يدخلها، فإذا فتح ذلك الباب «وقعت «6» » [251 أ] النار عليه فأحرقته، فتحرق الجلد واللحم والعصب والعظم ولا تحرق القلب «ولا العين «7» » وهو ما يعقل به ويبصر، فذلك قوله- تعالى-: «الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ «8» » «ثم تلا «9» » وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، وَمَا هُوَ بميت، يقول ليس في جسده موضع شعرة إلا والموت يأتيه من ذلك المكان، ثم قال: «إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ، فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ» وذلك أنه إذا خرج الموحدون من الباب الأعلى وهي
__________
(1) فى أ، ف: «توعدني» .
(2) فى أ: «أن لو كان» ، وفى ف: «لو كان» .
(3) فى أ: «خبز» ، وفى ف: «خبزا» .
(4) فى أ: «أطاف» ، وفى ف: «طاف» .
(5) فى أ، ف: «فتح» ، والأنسب: «وفتح» . [.....]
(6) فى أ: «وقعدت» ، وفى ف: «وقعت» .
(7) فى أ: «ولا العقل» ، وفى ف: «ولا العين» .
(8) فى أ: «تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ» ، وفى ف: «الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ» .
(9) فى أ: «ثم قال» ، وفى ف: «ثم تلا» ، والمعنى: ثم قرأ الملك.(4/839)
جهنم، قال أهل «تلك «1» » السبعة الأبواب وهي أسفل درك من النار لأهل الباب السادس، «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» يقول ما أدخلكم في سقر، «قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ، وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ... «2» » إلى آخر الآيات، ثم يقولون تعالوا حتى نجزع، فيجزعون حقبا من الدهر فلا ينفعهم شيئا، ثم يقولون تعالوا حتى نصرخ فيصرخون حقبا من الدهر فلا يغني عنهم شيئا، ثم يقولون تعالوا حتى نصبر فلعل الله الله- عز وجل- إذا صبرنا «وسكتنا «3» » أن يرحمنا فيصبرون حقبا من الدهر فلا يغني عنهم شيئا فيقولون: « ... سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مَا لَنا مِنْ مَحِيصٍ «4» » ثم ينادون «أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ «5» » فينادى رب العزة من فوق العرش « ... اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ «6» » فتصم آذانهم ويختم على قلوبهم وتغلق عليهم أبوابها «فيطبق كل واحدة على صاحبه «7» » . بمسامير من حديد من نار كأمثال الجبال، فلا يلج فيها روح، «ولا يخرج منها حر النار»
» ، ويأكلون من النار ولا يسمع فيها إلا الزفير والشهيق. «نسأل الله المعافاة منها بفضله وجوده ورحمته «9» » .
__________
(1) فى أ: «تلك» ، وفى ف: «ذلك» .
(2) سورة المدثر: 42- 44.
(3) فى أ: «شيئا» ، وفى ف: «وسكتنا» .
(4) سورة إبراهيم: 21.
(5) سورة المؤمنون: 107.
(6) سورة المؤمنون: 108.
(7) من ف، وفى أ: «فيطبق كل باب صاحبه» .
(8) من أ، وفى ف: «ولا يخرج منها» .
(9) «نسأل الله المعافاة منها بفضله وجوده ورحمته» : من أ، وليس فى ف.(4/840)
سورة الفيل(4/841)
[سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)
فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)(4/843)
[سورة الفيل «1» ] سورة الفيل مكية عددها خمس آيات كوفى «2» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان جزاء الأجانب ومكرهم، ورد كيدهم فى نحرهم، وتسليط أنواع العقوبة على العصاة والمجرمين، وسوء عاقبتهم بعد حين فى قوله: «فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ» سورة الفيل: 5. [.....]
(2) فى المصحف: (105) سورة الفيل مكية وآياتها (5) نزلت بعد سورة الكافرين.(4/845)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ ألم تعلم يا محمد كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ- 1- يعني أبرهة بن الأشرم اليماني، وأصحابه، وذلك أنه كان بعث أبا يكسوم بن أبرهة اليماني الحبشي وهو ابنه، في جيش كثيف إلى مكة ومعهم الفيل ليخرب البيت الحرام، ويجعل الفيل مكان البيت بمكة، ليعظم ويعبد كتعظيم الكعبة، وأمره أن يقتل من حال بينه وبين ذلك، فسار أبو يكسوم بمن معه حتى نزل «بالمعمس «1» » وهو واد دون الحرم بشيء يسير، فلما أرادوا أن يسوقوا الفيل إلى مكة لم يدخل الفيل الحرم، وبرك، فأمر أبو يكسوم أن يسقوه الخمر، فسقوه الخمر «ويردونه «2» » [251 ب] في سياقه، فلما أرادوا أن يسوقوه برك الثانية، ولم يقم، وكلما خلوا سبيله ولى راجعا إلى الوجه الذي جاء منه يهرول، ففزعوا من ذلك وانصرفوا عامهم ذلك، فلما أن كان بعده بسنة أو «بسنتين «3» » خرج قوم من قريش في تجارة إلى أرض النجاشي، حتى دنوا من ساحل البحر في «سند «4» » حقف من أحقافها ببيعة النصارى وتسميها قريش الهيكل، ويسميها النجاشي وأهله أرضة «ما سر حسان «5» »
__________
(1) فى أ: «بالمعميس» ، وفى ف: «بالمعمص» .
(2) فى أ: «ويودوا أنه» ، وفى ف: «ويردونه» .
(3) فى أ: «سنتين» ، وفى ف: «بسنتين» .
(4) فى أ: «سند» ، وفى ف: «سد» .
(5) فى أ: «مايس» ، وفى ف: «ناصر حسان» ، وفى ل: «ماسرحسان» .(4/847)
«فنزل «1» » القوم فى سندها فجمعوا حطبا فأوقدوا نارا، وشووا لحما، فلما أرادوا أن يرتحلوا تركوا النار، كما هي في يوم عاصف، فعجبت الريح «واضطرم الهيكل نارا «2» » فانطلق الصريخ إلى النجاشي وجاءه الخبر «فأسف «3» » عند ذلك غضبا للبيعة وسمعت بذلك ملوك العرب الذين هم بحضرته، فأتوا النجاشي منهم حجر بن شرحبيل، وأبو يكسوم الكنديان، وأبرهة بن الصباح الكندي، فقالوا: أيها الملك، لا تكاد ولا تغلب نحن مؤازرون لك على كعبة قريش التي بمكة، فإنها فخرهم ومعتزهم على من بحضرتهم من العرب فننسف بناءها. ونبيح دماءها، وننتهب أموالها، «وتمنح «4» » حفائرها من شئت من سوامك، ونحن لك على ذلك مؤازرون فاعزم إذا شئت أو أحببت، أيها الملك. فأرسل الملك الأسود بن مقصود، فأمر عند ذلك بجنوده «من «5» » «مزارعي «6» » الأرض، فأخرج كتائبه جماهير معهم الفيل، واسمه محمود، فسار بهم وبمن معه من ملوك العرب تلقاء مكة في جحافل تضيق عليهم الطرق، فلما ساروا مروا بخيل لعبد المطلب، جد النبي- صلى الله عليه وسلم-، مسومة وإبل، فاستاقها، فركب الراعي فرسا له أعوجيا «7» كان يعده لعبد المطلب فأمعن في السير حتى دخل مكة، فصعد إلى الصفا فوقى عليه، ثم نادى بصوت رفيع: يا صباحاه، يا صباحاه أتتكم السودان معها فيلها، يريدون أن يهدموا كعبتكم، ويدعوا عزكم، ويبيحوا
__________
(1) فى أ: «فساروا فتزل» ، وفى ل، ف: «فتزل» .
(2) «واضطرم الهيكل نارا» : من أ، وفى ف: «واضطرمت الهيكل نار» .
(3) فى أ: «فأشعف» ، وفى ف: «فأسف» .
(4) فى أ: «ويمنح» ، وفى ف: «ويمح» .
(5) فى أ: «من» ، وفى ف «ومن» .
(6) فى أ، ف: «مزارع» ، والأنسب: «مزارعى» .
(7) فى أ: «أعواجا» ، وفى ف: «أعوجيا» .(4/848)
دماءكم، وينتهبوا أموالكم، ويستأصلوا بيضتكم، فالنجاء النجاء. ثم قصد إلى عبد المطلب، فأخبره بالأمر كله، فركب عبد المطلب فرسه، ثم أمعن جادا في السير حتى هجم على عسكر القوم، فاستفتح له أبرهة بن الصباح، وحجر بن شراحيل، وكانا خلين فقالا:
لعبد المطلب ارجع إلى قومك، فأخبرهم وأنذرهم أن هذا قد جاءكم «حميا آتيا «1» » فقال عبد المطلب: واللات، والعزى، لا أرجع حتى أرجع معي بخيلي، ولقاحي، فلما عرفا أنه غير راجع [252 أ] ونازع عن قوله قصدا به إلى النجاشي، فقالا: كهيئة المستهزئين يستهزئان به: أيها الملك، اردد عليه إبله وخيله فإنما هو وقومه لك بالغداة، فأمر بردها. فقال عبد المطلب للنجاشي: «هل لك «2» » إلى أن أعطيك أهلي ومالي، وأهل قومي، وأموالهم، «ولقاحهم «3» » على أن تنصرف عن كعبة الله؟ قال: لا.
فسار عبد المطلب بإبله وخيله حتى أحرزها، ونزل النجاشي ذا المجاز، «موضع «4» » سوق الجاهلية، ومعه من العدد والعدة كثير، وانذعرت قريش وأعروا مكة «فلحقوا «5» » بجبل حراء وثبير وما بينها من الجبال، وقال عبد المطلب لقريش: واللات، والعزى، لا أبرح البيت حتى يقضي الله قضاءه، فقد نبأني أجدادي أن للكعبة ربا يمنعها، ولن تغلب النصرانية، وهذه الجنود جنود الله، وبمكة يومئذ أبو مسعود الثقفي جد المختار، وكان مكفوف البصر، «يقيظ «6» » بالطائف، ويشتو بمكة، وكان
__________
(1) «حميا أتيا» : كذا فى أ، ف، ل. والمراد: «شجاعا قويا» . [.....]
(2) فى أ: «هلك» .
(3) فى أ: «وأباحهم» ، وفى ف: «ولقاحهم» .
(4) «موضع» : من ف، وليست فى أ.
(5) فى أ: «ونحفوا» ، وفى ف: «فلحقوا» .
(6) فى أ: «يقبض» ، وفى ف: «يقيظ» ، والمعنى: يقضى فصل الصيف والقيظ.
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 54(4/849)
رجلا نبيلا، «تستقيم «1» » الأمور برأيه، وهو أول فاتق، وأول راتق، وكان خلا لعبد المطلب، فقال له عبد المطلب: يا أبا مسعود، ماذا عندك هذا يوم لا يستغنى عن رأيك، قال له أبو مسعود: اصعد بنا الجبل حتى نتمكن فيه، فصعدا الجبل فتمكنا فيه، فقال أبو مسعود لعبد المطلب: اعمد إلى ما ترى من إبلك فاجعلها حرما لله، وقلدها نعالا، ثم أرسلها في حرم الله، فلعل بعض هؤلاء السودان أن «يعقروها «2» » ، فيغضب رب هذا البيت، فيأخذهم عند غضبه. ففعل ذلك عبد المطلب فعمد القوم إلى تلك الإبل فحملوا عليها وعقروا بعضها، فقال عبد المطلب عند ذلك- وهو يبكي-:
يا رب إن العبد يمنع رح ... له فامنع حلالك
«لا يغلبن «3» » صليبهم ومحا ... لهم عدوا محالك
«فإن كنت «4» تاركهم» وكع ... بتنا فأمر ما بدا لك
«فلم أسمع بأرجس من رجال ... أرادوا «5» ، العز فانتهكوا حرامك
ثم دعا عليهم فقال:
اللهم أخز الأسود بن مقصود.
الآخذ الهجمة بعد التقليد.
قبلها إلى طماطم سود.
__________
(1) فى أ: «تستقسم» ، وفى ف: «تستقيم» .
(2) فى أ، ف: «يعقرها» .
(3) فى أ: «لا تجعلن» ، وفى ف، ل: «لا يغلبن» .
(4) «فإن كنت تاركهم» : من ل، وفى أ، ف: «فإن تتركهم» .
(5) من ف، ل، وفى أ: «فلم أسمع بأرجس من رجال أرادوا» .(4/850)
بين ثبير فالبيد.
والمروتين والمشاعر السود.
ويهدم البيت الحرام «المصمود «1» » .
قد أجمعوا ألا يكون لك عمود «2» «اخفرهم «3» » ربى فأنت محمود [253 أ] فقال أبو مسعود: إن لهذا البيت ربا يمنعه منعة عظيمة ونحن له «فلا ندري «4» » ما منعه، فقد «نزل «5» » تبع ملك انيمن بصحن هذا البيت، وأراد هدمه، فمنعه الله عن ذلك، وابتلاه «وأظلم «6» » عليهم ثلاثة أيام، فلما رأى ذلك تبع كساء الثياب البيض من «الشطرين «7» » وعظمه، «ونحر له جزرا «8» » ثم قال أبو مسعود لعبد المطلب: انظر نحو البحر ما ترى؟ فقال: أرى طيرا بيضا قد انساب مع شاطى البحر. فقال: ارمقها ببصرك أين قرارها؟ قال: أراها قد «أزرت «9» » على رءوسنا. فقال: هل تعرفها؟ قال: لا، والله، ما أعرفها
__________
(1) المصمود: بمعنى المقصود من كل فج. قال الله- تعالى-: «اللَّهُ الصَّمَدُ» :
سورة الإخلاص: 2، أى المقصود فى الحوائج.
(2) أى ألا يكون لك بيت تعبد فيه، يرتفع على أعمدة. قال- تعالى-: «اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها» ... سورة الرعد: 2.
(3) فى أ: «أحقرهم: أى اجعلهم حقراء» ، وفى ل: «أخفرهم أى خذهم يظلمهم، يقال فلان لا يخفر ذمامه أى لا يعتدى على من أجاره، فمعنى اخفرهم أى أزل أماتهم وأهلكهم» .
(4) فى أ: «فلا أدرى» ، وفى ف: «فلا ندري» . [.....]
(5) فى أ: «نزل به» ، وفى ف: «نزل» .
(6) فى أ: «فأظلم» ، وفى ف: «وأظلم» .
(7) فى أ: «من الشطرين» ، وفى ف: «من القنطوت» ، وفى ل: «القباطي» .
(8) فى ف: «ونحر جزرا» ، وفى أ: «ونحر له جرزا» ، أقول وهي مصحفة عن «جزرا» .
(9) فى أ: «أيدرت» ، وفى ف، ل: «أزرت» ، والمعنى ارتفعت.(4/851)
ما هي بنجدية، ولا تهامية، ولا غربية، ولا شرقية، ولا يمانية، ولا شامية، وإنها تطير بأرضنا غير مؤنسة. قال: ما قدرها؟ قال: أشباه اليعاسيب في مناقيرها الحصى «كأنها «1» » حصى الخذف قد أقلبت، وهي طيرا أبابيل «2» يتبع بعضها بعضا أمام كل «رفقة «3» » منها طائر يقودها أحمر المنقار، أسود الرأس، طويل العنق، حتى إذا جازت بعسكر القوم ركدن فوق رءوسهم فلما توافتها «الرعال كلها «4» » هالت الطير ما في مناقيرها من الحجارة على من تحتها، يقال إنه كان مكتوبا على كل حجر اسم صاحبه، ثم إنها عادت راجعة من حيث جاءت. فقال أبو مسعود: لأمر ما هو كائن، فلما أصبحا انحطا من ذروة الجبل إلى الأرض فمشيا ربوة أو ربوتين فلم يؤنسا أحدا، ثم دنوا فمشيا ربوة أو ربوتين أيضا، فلم يسمعا همسا. فقالا: عند ذلك بات القوم سامدين فأصبحوا نياما لا يسمع لهم ركزا، وكانا قبل ذلك يسمعان صياحهم، وجلبة في أسواقهم، فلما دنيا من عسكرهم، فإذا هم خامدون، يقع الحجر في بيضة الرجل فيخرقها حتى يقع في دماغه، ويخرق الفيل والدابة حتى يغيب في الأرض من شدة وقعه فعمد عبد المطلب فأخذ فأسا من فئوسهم فخفر حتى عمق في الأرض وملأه من الذهب الأحمر والجوهر الجيد، وحفر أيضا لصاحبه فملأه من الذهب والجوهر، ثم قال لأبي مسعود: هات خاتمك، واختر أيهما شئت، خذ إن شئت حفرتي، وإن شئت حفرتك، وإن شئت فهما لك، فقال أبو مسعود: اختر لي. فقال عبد المطلب: إنى لم أعل أجود المتاع فى حفرتي
__________
(1) «كأنها» كذا فى أ، ف، ل: والأنسب «كأنه» .
(2) أى جماعات متتابعة.
(3) «رفقة» : فى ف: «رقة» ، وفى أ: «رفقة» ، والمعنى جماعة مترافقة.
(4) «الرعال» : كذا فى أ، ف، ل: والمعنى فلما تجمعت الطير فوق رءوس الرجال ولعل الرعال محرفة عن الرجال.(4/852)
وهي لك، وجلس كل واحد منهما على حفرة صاحبه، ونادى عبد المطلب في الناس، فتراجعوا فأصابوا من فضلهما حتى ضاقوا به ذرعا، وساد عبد المطلب بذلك قريشا وأعطوه «المقادة «1» » فلم يزل عبد المطلب وأبو مسعود [253 ب] وأهلوهما في غنى من ذلك المال. ودفع الله- عز وجل- عن كعبته وقبلته وسلط عليهم جنودا لا قبل لهم بها، وكان لهم بالمرصاد والأخذة الرابية، وأنزل فيهم «أَلَمْ تَرَ» يعني يخبر نبيه- صلى الله عليه وسلم- «كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ» يعني الأسود بن مقصود، ومن معه من الجيش وملوك العرب، ثم أخبر عنهم فقال: أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ- 2- «الذي «2» » أرادوا، من خراب الكعبة «واستباحة «3» » أهلها، «فِي تَضْلِيلٍ» يعني خسار وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ- 3- يعني متتابعة كلها تترى بعضها على إثر بعض تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ- 4- يعني بحجارة خلطها الطين فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ- 5- فشبههم بورق الزرع المأكول يعني البالي، وكان أصحاب الفيل قبل مولد النبي- صلى الله عليه وسلم- بأربعين سنة، وهلكوا عند أدنى الحرم، ولم يدخلوه قط.
قال عكرمة بن خالد:
«حبست «4» » رب الجيش والأفيال ... «وقد رعوا بمكة الأجبال «5» »
«قد خشينا منهم القتال «6» » ... كل كريم ما جد بطال
__________
(1) أى أصبح قائدا وزعيما لهم.
(2) فى أ: «الذين» ، وفى ف: «الذي» .
(3) فى أ: «واستباح» ، وفى ف: «واستباحة» .
(4) «حبست» : من ف، وفى أ: «خشعت» .
(5) «وقد وعوا بمكة الأجبال» من ف، وفى أ: «وقد وعن لمكة الأجبال» . [.....]
(6) «قد خشينا منهم القتال» : من ف، وفى أ: «قد خشبت لهمتهم القتال» .(4/853)
يمشي يجر المجد والأذيال ... ولا يبالي «حيلة «1» » المحتال
تركتهم ربي بشر حال ... وقد لقوا أمرا له فعال
وقال صفوان بن أمية المخزومي:
يا واهب الحي الحلال الأحمس ... وما لهم من «طارف «2» » ومنفس
أنت العزيز ربنا لا تدنس ... أنت حبست الفيل بالمعمس
حبست فإنه «هكروس «3» » «وقال ابن أبي الصلت «4» :
إن آيات ربنا بينات ... لا يماري بهن إلا الكفور
حابس الفيل بالمعمس حتى ... ظل يحبو كأنه معقور
وأسقى حلقه الحراب كما ... قطر من ضحر كبكب محدور
حوله من ملوك كندة فتيا ... ن «ملاويث «5» » في الهياج صقور
حالفوه ثم «انذعروا «6» » عنه ... عظمه خلف ساقه مكسور
كل دين يوم القيامة عند الل ... هـ إلا دين الحنيفة بور
__________
(1) فى أ: «حيلة» ، وفى ف: «جفة» .
(2) فى أ، ف: «طارق» ، والأنسب ما أثبت. وهذا البيت من ف، وأما فى أ: فقد ذكرته فى آخر كلام صفوان، بينما أوردته ف فى أول شعره.
(3) فى أ: «هكروس» ، وفى ف: «مكروس» .
(4) «وقال ابن أبى الصلت» : من أ، وفى ف: «وقال أبو الصلت» .
(5) «ملاويث» : كذا فى ف، ل، والأبيات قد سقط معظمها فى أ.
(6) فى أ: «انذعروا» ، وفى ف، ل: «اندعروا» .(4/854)
سورة قريش(4/855)
[سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)(4/857)
[سورة قريش «1» ] سورة قريش مكية عددها أربع آيات «2» :
__________
(1) معظم مقصود السورة:
ذكر المنة على قريش، وتحضيضهم على العبادة، وشكر الإحسان، ومعرفة قدر النعمة والعافية والأمان فى قوله «وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» سورة قريش: 4.
(2) فى المصحف: (106) سورة قريش مكية وآياتها (4) نزلت بعد سورة التين.(4/859)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ- 1- وذلك أن قريشا كانوا تجارا يختلفون إلى الأرض ثم سميت «قريش «1» » ، وكانوا يمتارون «2» في الشتاء من الأردن وفلسطين لأن ساحل البحر «أدفأ «3» » ، فإذا كان الصيف تركوا طريق الشتاء والبحر من أجل الحر، وأخذوا إلى اليمن للميرة فشق عليهم الاختلاف، فأنزل الله- تعالى- «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» يقول لا اختلاف لهم «ولا تجارة «4» » قد قطعناها عنهم فذلك: «إِيلافِهِمْ «5» » رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ- 2- فقذف الله- عز وجل- في قلوب الحبشة أن «يحملوا «6» » الطعام في السفن إلى مكة للبيع، فحملوا إليهم فجعل أهل مكة يخرجون إليهم بالإبل والحمير، فيشترون الطعام على مسيرة يومين من مكة، «وتتابع «7» » ذلك عليهم سنين، فكفاهم الله مؤنة الشتاء والصيف، ثم قال: لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ
- 3- لأن رب هذا البيت كفاهم مؤنة الخوف والجوع، فليألفوا العبادة له، كما ألفوا الحبشة ولم يكونوا يرجونهم،
__________
(1) فى أف: «قريشا» ، وفى ل: «قريش» .
(2) يمتارون: يحضرون الميرة والطعام.
(3) «أدفا» : من ل، وفى ف: «أدنى» ، وفى أ: «من الأردن وفلسطين إلى ساحل البحر» ، أقول والمعروف أن سفرهم كان فى الشتاء إلى اليمن.
(4) «ولا تجارة» : من ف، وفى ل: «ولا عاد» .
(5) «إيلافهم» : من ل، وفى أ، ف: «الفهم» . [.....]
(6) فى ف: «يحملوا» ، وفى أ: «يجعلوا» .
(7) فى أ، ف: «فتتابع» .(4/860)
«الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ» «1» حين قذف في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم الطعام في السفن وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ- 4- يعني القتل والسبي، وذلك أن العرب في الجاهلية كان يقتل بعضهم بعضا، ويغير بعضهم على بعض: فكان الله- عز وجل- يدفع عن أهل الحرم، ولا يسلط عليهم عدوا، فذلك قوله:
«وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» .
وأيضا «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ» يقول لا ميرة لقريش، ولا اختلاف، وذلك أن قريشا «كانت «2» » لا تأتيهم التجار، ولا يهتدون إليهم، فكانت قريش تمتار «لأهلها»
» الطعام من الشام في الشتاء، «ومن اليمن في الصيف «4» » وذلك أنهم كانوا في الشتاء ينطلقون إلى الشام ليتماروا الطعام لأهلهم، فإذا جاء «الصيف «5» » انطلقوا إلى اليمن فكانت لهم «رحلتان «6» » في الشتاء والصيف فرحمهم الله- عز وجل- فقذف في قلوب الحبش أن يحملوا إليهم الطعام في السفن فكانوا يخرجون على مسيرة ليلة إلى جدة، فيشترون الطعام وكفاهم الله مؤنة الشتاء والصيف، فأنزل الله
__________
(1) «الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ» : ساقطة من أ، ومتأخرة عن مكانها فى ف، فأعدتها إلى مكانها حسب ترتيب المصحف.
(2) «كانت» : زيادة اقتضاها السباق، ليست فى النسخ.
(3) فى أ، ف: «لأهلهم» .
(4) «ومن اليمن فى الصيف» : زيادة اقتضاها السياق.
(5) فى أ، ف، ل: «الشتاء» ، ونلاحظ أن القرطبي والجلالين وغيرهما من كتب التفسير ذكروا أن رحلة الشتاء كانت اليمن، ورحلة الصيف كانت الشام، ولكن مقاتل سار على العكس ولعله سهو من الناسخ، ثم ذكرها أن رحلة الشتاء كانت للشام ورحلة الشتاء كانت اليمن فلا بد أن كلمة «الشتاء» الثانية محرفة عن الصيف حسب ما ورد فى أول السورة.
(6) فى ف. «رحلتين» ، وفى أ: «مرحلتين» .(4/862)
- عز وجل- يذكرهم النعم فقال: «لِإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ، رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ» والإيلاف من المؤنة والاختلاف، ثم قال: َلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ»
يقول أخلصوا العبادة له «الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ» حين قذف في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم الطعام في السفن، ثم قال: «وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ» يعني القتل والسبي «لأن العرب «1» » «كانت «2» » يقتل بعضهم بعضا ويسبي بعضهم بعضا، وهم «آمنون «3» » فى الحرم.
__________
(1) فى أ: «والعذاب» ، وفى ف: «لأن العرب» .
(2) فى أ: «كان» ، وفى ف: «كانت» .
(3) فى أ: «آمن» ، وفى ف: «آمنون» .(4/863)
سورة الماعون(4/865)
[سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)
الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)(4/867)
[سورة الماعون «1» ] سورة الماعون مكية عددها سبع آيات «2» .
__________
(1) معظم مقصود الصورة:
الشكاية من الجافين على الأيتام والمساكين، وذم المقصرين، والمرائين، ومانعي نفع المعونة عن الخيرات والمساكين فى قوله: «وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ» سورة الماعون: 8.
(2) فى المصحف: (107) سورة الماعون مكية ثلاث الآيات الأولى، مدنية الباقي، وآياتها (7) نزلت بعد سورة التكاثر.(4/869)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ- 1- يعنى بالحساب، نزلت فى العاص ابن وائل السهمي، وهبيرة بن أبي وهب المخزومي، زوج أم هاني «بنت عبد المطلب «1» عمة النبي» - صلى الله عليه وسلم- ثم أخبر عن المكذب بالدين فقال: فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ- 2- يعني يدفعه عن حقه، فلا يعطيه، نظيرها: «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ «2» » ، ثم قال: وَلا يَحُضُّ نفسه عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ- 3- يقول لا يطعم المسكين فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ- 4- يعني المنافقين في هذه الآية، ثم نعتهم فقال: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ- 5- يعني لاهون عنها حتى يذهب وقتها، وإن كانوا في خلال ذلك يصلونها الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ- 6- الناس في الصلاة، يقول إذا أبصرهم الناس صلوا، يراءون الناس بذلك ولا يريدون الله- عز وجل- بها وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ- 7- يعني الزكاة المفروضة والماعون بلغة قريش الماء.
قَالَ أَبُو صالح، وذكره عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الْمَاعُونُ» الإِبْرَةُ وَالْمَاءُ وَالنَّارُ وَمَا يَكُونُ فِي الْبَيْتِ مِنْ نحو هذا فيمنع.
__________
(1) فى أ: «بنت أبى طالب بن عبد المطلب عمة النبي» والمثبت من ف وهو الصواب، لأنها إذا كانت بنت أبى طالب تكون ابنة عمه لا عمته، وأما إذا كانت بنت عبد المطلب فتكون عمته. [.....]
(2) سورة الطور: 13.(4/871)
سورة الكوثر(4/873)
[سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)(4/875)
[سورة الكوثر «1» ] سورة الكوثر مكية عددها ثلاث آيات كوفى «2» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان المنة على سيد المرسلين، وأمره بالصلاة والقربان، وإخباره بهلاك أعدائه أهل الخيبة والخذلان.
(2) فى المصحف: (108) سورة الكوثر مكية وآياتها (3) نزلت بعد سورة العاديات.(4/877)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ- 1- لأنه أكثر أنهار الجنة خيرا، وذلك النهر عجاج يطرد مثل السهم طينه المسك «الأذفر «1» » ورضراضه الياقوت، والزبرجد، واللؤلؤ، أشد بياضا من الثلج وألين من الزبد، وأحلى من العسل، حافتاه قباب الدر المجوف، كل قبة طولها فرسخ في فرسخ، «وعرضها فرسخ في فرسخ «2» » عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب، في كل قبة زوجة من الحور العين، لها سبعون خادما،
«فقال «3» » رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: يا جبريل، ما هذه الخيام؟ «قال «4» » جبريل- عليه السلام- هذه «مساكن «5» » أزواجك في الجنة، يتفجر من الكوثر أربعة أنهار لأهل الجنان
التي «ذكر «6» الله» - عز وجل- فى سورة محمد «7» - صلى الله عليه وسلم-: الماء، والحمر،
__________
(1) فى أ: «الأدفر» ، وفى ف: «الأذفر» بإعجام الذال.
(2) فى أ: «وفى عرضها فرسخ فى فرسخ» ، والأنسب ما أثبت والجملة كلها ساقطة من ف.
(3) فى أ، ف: «فقال» ، والأنسب: «قال» .
(4) فى أ، ف: «فقال» .
(5) فى أ: «مسكن» ، وفى ف: «مساكن» .
(6) فى أ، ف: «ذكر» والمألوف: «ذكرها» .
(7) يشير إلى الآية 15 من سورة محمد، وتمامها: «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ ... » .(4/879)
واللبن، والعسل، ثم قال: فَصَلِّ لِرَبِّكَ يعني الصلوات الخمس وَانْحَرْ- 2- البدن يوم النحر فإن المشركين لا يصلون ولا يذبحون لله- عز وجل-[254] إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ- 3- وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- دخل المسجد الحرام من باب بني سهم بن عمرو بن هصيص، وأناس من قريش جلوس في المسجد فمضى النبي- صلى الله عليه وسلم-، ولم يجلس حتى خرج من باب الصفا، فنظروا إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- حين خرج ولم يروه حين دخل، ولم يعرفوه، فتلقاه العاص بن وائل السهمي بن هشام ابن سعد بن سهم على باب الصفا، وهو «1» يدخل، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- «قد «2» » توفي ابنه عبد الله، وكان الرجل إذا مات ولم يكن له من بعده ابن يرثه سمي الأبتر فلما انتهى العاص إلى المقام، قالوا: من الذي تلقاك؟ قال:
الأبتر فنزلت «إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» يعني إن مبغضك هو الأبتر يعني العاص ابن وائل السهمي «هو الذي «3» » أبتر من الخير، وأنت يا محمد ستذكر معي إذا ذكرت فرفع الله- عز وجل- له ذكره في الناس عامة، فيذكر النبي- صلى الله عليه وسلم- في كل عيد للمسلمين «في صلواتهم «4» » ، وفي الأذان، والإقامة، وفي كل موطن حتى خطبة النساء، وخطبة الكلام، وفى الحاجات.
__________
(1) الضمير يعود على العاص، والمعنى بينما كان النبي- صلى الله عليه وسلم- خارجا من باب الصفا، كان العاص داخلا.
(2) «قد» : زيادة اقتضاها السياق.
(3) فى ف: «الذي هو» .
(4) فى أ: «وفى صلاتهم» ، وفى ف: «فى صلواتهم» . [.....](4/880)
سورة الكافرون(4/881)
[سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ (4)
وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)(4/883)
[سورة الكافرون «1» ] سورة الكافرون «2» مكية عددها ست آيات «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
يأس الكافرين من موافقة النبي- صلى الله عليه وسلم- بالإسلام والأعمال، فى الماضي والمستقبل والحال، وبيان أن كل أحد مأخوذ بماله عليه أقبال واشتغال.
(2) فى أ: «الكافرون» ، وأما ف ففيها سورة: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» .
(3) فى المصحف: (109) سورة الكافرون مكية وآياتها (6) نزلت بعد سورة الماعون.(4/885)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ- 1- نزلت في المستهزئين من قريش، وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قرأ بمكة «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى «1» » فلما قرأ «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «2» » ألقى الشيطان على لسانه، في وسنه، فقال: تلك الغرانيق العلا، عندها الشفاعة ترتجى «3» ، فقال أبو جهل ابن هشام، وشيبة وعتبة ابنا ربيعة، وأمية بن خلف، والعاص بن وائل، «والمستهزءون «4» » من قريش «عشيا «5» » في دبر الكعبة لا تفارقنا يا محمد إلا على أحد الأمرين تدخل معك في بعض دينك ونعبد إلهك، «وتدخل «6» » معنا في بعض ديننا وتعبد آلهتنا، أو تتبرأ من آلهتنا ونتبرأ من إلهك، فأنزل الله- عز وجل- فيهم تلك الساعة «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» إلى آخر السورة
فأتاهم النبي- صلى الله عليه وسلم- بعد فقال: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» قالوا: مالك يا محمد؟ «قال «7» » : لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ- 2- يقول لا أعبد آلهتكم التي
__________
(1) سورة النجم: 1.
(2) سورة النجم: 19- 20.
(3) رفض المحققون- هذه الشبه كما سبق أن وضحنا ذلك فى تفسير سورة النجم: 4/ 162، وقد حققت الموضوع عند تفسير الآية 52 من سورة الحج: 3/ 132- 133.
(4) فى أ: «والمستهزئين» ، وفى ف: «والمستهزءون» .
(5) فى ل: «عشيا» ، وفى ف: «غنتا» ، وهي ساقطة من أ.
(6) فى أ: «أو تدخل» ، وفى ف: «وتدخل» .
(7) «قال» : من ف، وليست فى أ.(4/887)
تعبدون اليوم وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ إلهي الذي أعبده اليوم: «مَا أَعْبُدُ» «1» - 3- ثم قال: وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ- 4- فيما بعد اليوم وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ مَا أَعْبُدُ- 5- فيما بعد اليوم لَكُمْ دِينُكُمْ الذي أنتم عليه وَلِيَ دِينِ- 6- الذي أنا عليه، ثم انصرف عنهم، فقال بعضهم تبرأ هذا منكم فشتموه وآذوه، ثم نسختها آية السيف فى براءة، « ... فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «2» ... » .
__________
(1) «ما أعبد» : ساقطة من أ، ف.
(2) سورة التوبة: 5.(4/888)
سورة النّصر(4/889)
[سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)(4/901)
[سورة النصر «1» ] سورة النصر مدنية عددها ثلاث آيات «2» :
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان نعيه، وذكر تمام نصرة أهل الإسلام ورغبة الخلق فى الإقبال على دين الهدى، وبيان وظيفة التسبيح والاستغفار، والأمر بالتوبة فى آخر الحال بقوله: « ... وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً» سورة النصر: 3.
(2) فى المصحف: (110) سورة النصر نزلت بمنى فى حجة الوداع فتعد مدنية وهي آخر ما نزل من السور وآياتها (3) نزلت بعد سورة التوبة. [.....](4/903)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ- 1- نزلت هذه السورة بعد فتح مكة والطائف وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ يعني أهل اليمن أَفْواجاً- 2- من كل وجه زمرا، القبيلة بأسرها والقوم بأجمعهم، ليس بواحد ولا اثنين ولا ثلاثة، فقد حضر أجلك، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ يقول فأكثر ذكر ربك وَاسْتَغْفِرْهُ من الذنوب إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً- 3- للمستغفرين
كانت هذه السورة «آية «1» » موت النبي- صلى الله عليه وسلم- فقرأها على أبي بكر وعمر ففرحا، وسمعها عبد الله بن عباس فبكى، فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم-: صدقت. فعاش النبي- صلى الله عليه وسلم- «بعدها «2» » ثمانين يوما. «ومسح «3» » رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «بيده «4» » على رأس ابن عباس وقال: اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل.
__________
(1) «آية» : ساقطة من أ، وهي من ل، ف.
(2) فى ل: «بعده» .
(3) فى أ، ف ل: «فمسح» : والأنسب ما أثبت.
(4) فى أ: «يده على رأسه» ، وفى ل: «فمسح رسول الله (ص) على رأسه» ، والأنسب ما أثبت.(4/905)
سورة المسد(4/907)
[سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى نَارًا ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)
فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)(4/909)
[سورة المسد «1» ] سورة «تبت «2» ... » مكية عددها خمس آيات «3» :
__________
(1) مقصود السورة:
تهديد أبى لهب على الجفاء والإعراض، وضياح كسبه وأمره، وبيان ابتلائه يوم القيامة، وذم زوجه فى إيذاء النبي- صلى الله عليه وسلم- وبيان ما هو مدخر لها من سوء العاقبة.
(2) سورة المسد: 1
(3) فى المصحف: (111) سورة المسد مكية وآياتها (5) نزلت بعد سورة الفاتحة.(4/911)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ واسمه عبد العزى بن عبد المطلب، وهو عم النبي- صلى الله عليه وسلم- وإنما سمي أبو لهب لأن وجنتيه «كانتا حمراوين، كأنما يلتهب منهما النار «1» » ، وذلك أنه لما نزلت «وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «2» » يعني بني هاشم، وبني المطلب، وهما ابنا عبد مناف بن قصي،
قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: يا علي، قد أمرت أن أنذر عشيرتي الأقربين، فاصنع لي طعاما حتى أدعوهم عليه وأنذرهم. فاشترى علي- رحمة الله عليه- «رجل شاة «3» » فطبخها وجاء بعس من لبن، فدعا النبي- صلى الله عليه وسلم- بني هاشم، وبني المطلب إلى طعامه، وهم أربعون رجلا غير رجل، على رجل شاة، وعس من لبن، فأكلوا حتى شبعوا، وشربوا حتى رووا. فقال أبو لهب: لهذا ما سحركم به، الرجال «العشرة «4» » منا يأكلون الجذعة، ويشربون العس، وإن محمدا قد أشبعكم أربعين رجلا من رجل شاة، ورواكم من عس من لبن فلما سمع ذلك منه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- شق عليه، ولم ينذرهم تلك الليلة، وأمر النبي «عليا «5» » أن يتخذ لهم ليلة
__________
(1) الجملة مضطربة فى أ، ف، ففي: أ «كانا حمراوين كأنها تلتهب منها النار» ، وفى ف: «كانتا حمراوان كأنها تلهب منهما النار» وفى ل: «كانا حمراوين كأنما يلتهب منهما النار» .
(2) سورة الشعراء: 214.
(3) فى أ: «رحل سخلة» .
(4) فى أ، ف: «العشيرة» ، وفى ل: «العشرة» .
(5) «عليا» : من ف، وهي ساقطة من أ.(4/913)
أخرى مثل ذلك، ففعل فأكلوا حتى شبعوا، وشربوا حتى رووا، فقال [255 ب] النبي- صلى الله عليه وسلم-: يا بني هاشم، ويا بني المطلب، أنا لكم النذير من الله، وأنا لكم البشير «من الله «1» » إنى قد جئتكم بما لم يجيء به أحد من العرب، جئتكم في الدنيا بالشرف، فأسلموا تسلموا، وأطيعوني تهتدوا. فقال أبو لهب:
تبالك، يا محمد، سائر اليوم، لهذا دعوتنا؟ فأنزل الله- عز وجل- فيه «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ»
وَتَبَّ- 1- يعني وخسر أبو لهب، ثم استأنف فقال:
ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ في الآخرة وَما كَسَبَ- 2- يعني أولاده عتبة وعتيبة ومعتب لأن ولده من كسبه سَيَصْلى يعني سيغشى أبو لهب نَارًا ذاتَ لَهَبٍ- 3- ليس لها دخان وَامْرَأَتُهُ وهي أم جميل «بنت «2» » حرب، وهي أخت أبي سفيان بن حرب حَمَّالَةَ الْحَطَبِ- 4- يعني كل شوك يعقر كانت تلقيه على طريق النبي- صلى الله عليه وسلم-، ليعقره، ثم أخبره بما يصنع بها في الآخرة، فقال، فِي جِيدِها في عنقها يوم القيامة حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ- 5- يعني سلسلة من حديد،
فلما نزلت هذه الآية في أبي لهب قيل لها: إن محمدا قد هجا زوجك، وهجاك، وهجا ولدك، فغضبت وقامت فأمرت وليدتها أن تحمل ما يكون في بطن الشاة من الفرث والدم والقذر، فانطلقت لتستدل على النبي- صلى الله عليه وسلم- لنلقى ذلك عليه فتصغره، وتذله به، لما بلغها عنه، فأخبرت أنه في بيت عند الصفا، فلما انتهت إلى الباب سمع أبو بكر- رحمة الله عليه- كلامها، وكان النبي- صلى الله عليه وسلم- داخل البيت فقال أبو بكر- رحمة الله عليه-: يا رسول الله إن أم جميل قد جاءت، وما أظنها جاءت بخير. فقال
__________
(1) «من الله» : من ف، وليست فى أ.
(2) فى أ: «ابنت» وفى، ف: «بنت» وهو الصواب لوقوعها بين علمين أحدهما ابنا للآخر، وليس الثاني منهما فى أول السطر. [.....](4/914)
النبي- صلى الله عليه وسلم-: اللهم خذ ببصرها. أو كما قال. ثم قال لأبي بكر- رحمة الله عليه-: دعها تدخل، فإنها لن تراني، فجلس النبي-- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر- رحمة الله عليه- جميعا، فدخلت أم جميل البيت، فرأت أبا بكر- رحمة الله عليه- ولم تر النبي- صلى الله عليه وسلم-، وكانا جميعا في مكان واحد فقالت يا أبا بكر أين صاحبك؟ «فقال «1» » :
وما أردت منه يا أم جميل؟ قالت: إنه بلغني أنه هجاني، وهجا زوجي، وهجا أولادي، وإني جئت بهذا الفرث لألقيه على وجهه، ورأسه أذله بذلك. فقال لها: والله، ما هجاك، ولا هجا زوجك، ولا هجا ولدك. قالت: أحق ما تقول يا أبا بكر. قال: نعم. فقالت: أما إنك لصادق، وأنت الصديق، وما أرى البأس إلا وقد كذبوا عليه. فانصرفت إلى منزلها، ثم إنه بدا لعتبة بن أبي لهب أن يخرج إلى الشام في تجارة، وتبعه ناس من قريش حتى بلغوا «الصفاح «2» » [256 أ] فلما هموا أن يرجعوا عنه إلى مكة، قال لهم عتبة: إذا رجعتم إلى مكة، فأخبروا محمدا بأنى كفرت ب «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى «3» » وكانت أول سورة أعلنها رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ النبي- صلى الله عليه وسلم- ذلك قال: اللهم سلط عليه كلبك يأكله، فألقى الله- عز وجل- في قلب عتبة الرعب لدعوة النبي- صلى الله عليه وسلم وكان إذا سار ليلا ما يكاد ينزل بليل، «فهجر «4» » بالليل، فسار يومه وليلته، وهم أن لا ينزل حتى يصبح، فلما كان قبيل الصبح، قال له أصحابه: هلكت الركاب، فما زالوا به حتى نزل، وعرس، «وإبله «5» »
__________
(1) «فقال» : كذا فى أ، ف، والأنسب: «قال» .
(2) كذا فى أ، ف، ل. ولعله مكان خارج مكة.
(3) سورة النجم: 1، وردت فى أ، ف: «بالنجم إذا هوى» .
(4) فى أ: «فهجد» ، وفى ف، ل: «فهجر» .
(5) فى أ: «إله» ، وفى ف: «وإبله» .(4/915)
وهو «مذعور «1» » ، فأناخ الإبل حوله مثل «السرادق وجعل الجواليق دون الإبل مثل «السرادق «2» » «ثم أنام «3» » الرجال حوله دون الجواليق، فجاء الأسد ومعه ملك يقوده، فألقى الله- عز وجل- على الإبل السكينة، فسكنت، فجعل الأسد يتخلل الإبل، فدخل على عتبة وهو في وسطهم فأكله مكانه. وبقي عظامه وهم لا يشعرون، فأنزل الله- عز وجل- في قوله حين قال لهم: قولوا لمحمد إنى كفرت بالنجم إذا هوى، يعني القرآن إذ نزل، «أنزل فيه «4» » : «قُتِلَ الْإِنْسانُ» يعني لعن الإنسان «مَا أَكْفَرَهُ «5» » يعني عتبة يقول أي شيء أكفره بالقرآن، إلى آخر الآيات «6» .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: كَانَتْ قُرَيْشٌ وَأُمُّ جَمِيلٍ تَقُولُ مُذَمَّمًا عَصَيْنَا، وَأَمْرُهُ أَبَيْنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَمِنْ لُطْفِ اللَّهِ أن قريشا نذم مُذَمَّمًا وَأَنَا مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
__________
(1) فى أ: «مذعور» ، وفى ف: «من عور» .
(2) من «السرادق» الى «السرادق» : ساقط من أ، وهو من ف.
(3) فى أ: «ثم أناخ» ، وفى ف: «ثم أنام» .
(4) فى أ: «ونزل فيه» ، وفى ف: «ونزلت فيه» .
(5) سورة عبس: 17.
(6) يشير إلى الآيات 17- 43- من سورة عبس، وفى أ، ف ل: «إلى آخر الآية» ، وهو خطأ، لأن. «قتل الإنسان ما أكفر» آية كاملة.(4/916)
سورة الإخلاص(4/917)
[سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)(4/919)
[سورة الإخلاص «1» ] سورة الإخلاص مكية عددها أربع آيات «2» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
بيان الوحدانية، وذكر الصمد، وتنزيه الحق من الولد والوالد والولادة، والبراءة من الشركة والشريك فى المملكة.
(2) فى المصحف: (112) سورة الإخلاص مكية، وآياتها (4) نزلت بعد سورة الناس.(4/921)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ- 1- اللَّهُ الصَّمَدُ- 2- تعنى أحد لا شريك له، وذلك
أن عامر بن الطفيل بن صعصعة العامري، دخل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أما والله لئن دخلت في دينك ليدخلن من خلفي، ولئن امتنعت ليمتنعن من خلفي، قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: فما تريد؟ قال: أتبعك على أن تجعل لي الوبر ولك المدر، قال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لا شرط في الإسلام. قال:
فاجعل لي الخلافة بعدك. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لا نبي بعدي. قال: فأريد أن تفضلني على أصحابك. [256 ب] قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: لا ولكنك أخوهم إن أحسنت إسلامك. «فقال «1» » :
فتجعلني أخا بلال، وخباب بن الأرت، وسلمان الفارسي، وجعال. قال: نعم.
فغضب وقال: أما والله لأثيرن عليك ألف أشقر عليها ألف «أمرد «2» » فقال له رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ويحك تخوفني؟، قال له جبريل- عليه السلام- عن ربه: لأثيرن على كل واحد منهم ألفًا من الملائكة، طول عنق أحدهم مسيرة سنة، وغلظها مسيرة سنة، وكان يكفيهم واحد، ولكن الله- عز وجل- أراد أن يعلمه كثرة جنوده، فخرج من عند رسول الله-
__________
(1) فى أ، ف: «قال فقال» ، ومن هذه اللفظة إلى آخر التفسير ساقط من ل. [.....]
(2) فى أ: «مرد» ، وفى ف: «أمرد» ، وفى أزيادة: «فات ونهض» ، والمثبت من ف.
تفسير مقاتل بن سليمان ج 4- م 58(4/923)
صلى الله عليه وسلم- «وهو متعجب «1» » مما سمع منه فلقيه الأربد بن قيس السهمي، فقال له: ما شأنك؟ وكان خليله فقص عليه قصته، وقال: إنى دخلت على ابن أبي كبشة آنفًا، فسألته الوبر، وله المدر فأبى، ثم سألته من بعده فأبى، ثم سألته أن يفضلني على أصحابه فأبى، وقال: أنت أخوهم إن أحسنت إسلامك. فقال له: أفلا قتلته؟ قال: لم أطق ذلك. قال: فارجع بنا إليه، فإن شئت حدثته حتى أضرب «عنقه «2» » فانطلقا على وجوههما حتى دخلا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقعد عامر عن يمينه والأربد عن يساره، «وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علم ما يريدان «3» » قال: وجاء ملك من الملائكة فعصر بطن الأربد بن قيس، وأقبل عامر على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وقد وضع يده على «فمه «4» » وهو يقول: يا محمد لقد خوفتني بأمر عظيم، وبأقوام «كثيرة «5» » فمن هؤلاء؟ «قال «6» » : جنودي وهم أكثر مما ذكرت لك. قال: فأخبرني ما اسم ربك؟ وما هو؟ ومن خليله؟ وما حيلته؟
وكم هو؟ وأبو من هو؟ ومن أي حي هو؟ ومن أخوه؟.
وكانت العرب يتخذون الأخلاء في الجاهلية، فأنزل الله- تعالى- «قل» يا محمد «هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» لقوله ما اسمه؟ وكم هو؟ ( «اللَّهُ الصَّمَدُ» ) لقوله ما طعامه؟
«الصمد» الذي لا يأكل ولا يشرب «7» لَمْ يَلِدْ يقول ولم يتخذ ولدا وَلَمْ يُولَدْ
__________
(1) فى أ: «وهو يتمايل يتعجب» ، وفى ف: «وهو متعجب» .
(2) أ: «أنا عنقه» ، وفى ف: «عنقه» .
(3) «وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علم ما يريدان» : الجملة من ف، وهي ناقصة فى أ.
(4) فى أ: «فيه» ، وفى ف: «فمه» .
(5) فى أ: «كثير» ، وفى ف: «كثيرة» .
(6) «قال» من ف، وهي ساقطة من أ
(7) من أ، وفى ف. ( «اللَّهُ الصَّمَدُ» لقوله أبو من بكنى؟ وابن من هو؟) .(4/924)
- يقول «ليس له والد يكنى «1» به» ، لقوله: وابن من هو؟ ثم قال: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ- 4- لقوله من خليله؟ يقول ليس له نظير، ولا شبيه، فمن أين يتخذ الخليل؟ فأشار بيده وبعينه إلى الأربد بن قيس وهو في جهد قد عصر الملك بطنه حتى أراد أن يخرج خلاه من فيه، وقد أهمته نفسه، فقال الأربد: قم بنا فقاما، فقال له عامر: ويحك، ما شأنك؟ قال: وجدت عصرًا «شديدًا «2» » في بطني، «ووجعًا «3» » فما استطعت أن أرفع يدي.
قال: فأما الأربد بن قيس فخرج يومئذ من المدينة، وكان يومًا متغيمًا، فأدركته صاعقة [257 أ] في الطريق فقتلته، وأما عامر بن الطفيل فوجاه جبرئيل- عليه السلام- في عنقه، فخرج في عنقه «دبيلة «4» » ، ويقال طاعون فمرض بالمدينة فلم يأوه أحد إلا امرأة مجذومة من بني سلول، فقال جزعًا من الموت:
غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية، أبرز إلى ياموت، فأنا قاتلك، فأنزل الله- عز وجل-: « ... وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ «5» » .
وأيضًا «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» وذلك أن مشركي مكة، قَالُوا لرسول اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-: انعت لنا ربك وصفه لنا. وقال عامر بن الطفيل العامري:
أخبرنا عن ربك أمن ذهب هو، أو من فضة، أو من حديد، أو من صفر؟
وقالت اليهود: عزيز ابن الله، وقد أنزل الله- عز وجل- نعته فى التوراة
__________
(1) فى أ: «ليس له ولد يكنى» ، والمناسب للسياق ما أثبت.
(2) «شديدا» : من ف، وليست فى.
(3) «ووجعا» : من أ 5 وليست فى ف.
(4) فى أ: «دبيلة» ، وفى ف: «ذبيله» ، بإعجام الذال.
(5) سورة الرعد: 13.(4/925)
فأخبرنا عنه يا محمد، فأنزل الله- عز وجل- في قولهم: «قُلْ» يا محمد «هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» لا شريك له، «اللَّهُ الصَّمَدُ» يعني الذي «لا جوف له «1» » كجوف المخلوقين، ويقال الصمد السيد الذي تصمد إليه الخلائق بحوائجهم وبالإقرار «والخضوع «2» » ، «لَمْ يَلِدْ» فيورث، «وَلَمْ يُولَدْ» فيشارك، وذلك أن مشركي العرب قالوا:
الملائكة بنات الرحمن. وَقَالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وَقَالَتِ النَّصَارَى: المسيح ابن الله. فأكذبهم الله- عز وجل- فبرأ نفسه من قولهم، فقال: «لَمْ يلد» يعني لم يكن له ولد «وَلَمْ يُولَدْ» كما ولد عيسى وعزير ومريم، «وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» يقول لم يكن له عدل، ولا مثل من الآلهة تبارك وتعالى علوا كبيرا.
__________
(1) «لا جوف له» : ساقطه من أ. [.....]
(2) «والخضوع» : عليها شطب خفيف فى أ.(4/926)
سورة الفلق(4/927)
[سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)(4/929)
[سورة الفلق «1» ] سورة الفلق مكية عددها خمس آيات «2» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
الاستعاذة من الشرور، ومن مخافة الليل الديجور، ومن آفات الماكرين والحاسدين، فى قوله:
« ... إِذا حَسَدَ» سورة الفلق: 5.
(2) فى المصحف: (113) سورة مكية وآياتها (5) نزلت بعد سورة الفيل.(4/931)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ- 1- وذلك أن لبيد بن عاصم بن مالك، ويقال ابن أعصم اليهودي، سحر النبي- صلى الله عليه وسلم- في إحدى عشرة عقدة في وتر، فجعله فى «بئر لها سبع موانى «1» » في جف طلعة كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يستند إليها فدب فيه السحر، واشتد عليه ثلاث ليال، حتى مرض مرضًا شديدًا، وجزعت النساء، فنزلت المعوذات، فبينما رسول الله- صلى الله عليه وسلم- نائم إذ رأى كأن ملكين قد أتياه، فقعد أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما شكواه؟ قال: أصابه طب- يقول سحر-، قال: فمن طبه؟ قال: لبيد بن أعصم اليهودي. قال [257 ب] :
فى أى شيء؟ قال: فى قشر طلعة. قال: فأين هو؟ قال: فى بئر فلان. قال:
فما «دواؤه «2» » قال: تنزف «3» البئر، ثم يخرج قشر الطلعة فيحرقه، ثم يحل العقد، كل عقدة بآية من المعوذتين، فذلك شفاؤه، فلما استيقظ النبي- صلى الله عليه وسلم- وجه علي بن أبى طالب- عليه السلام- إلى البئر فاستخرج السحر وجاء «به فأحرق ذلك القشر «4» » . ويقال: إن جبريل أخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- بمكان السحر، «وقال «5» » جبريل للنبي- صلى الله عليه وسلم-: حل عقدة،
__________
(1) فى أ «بئر لها سبع» ، وفى ف: «بئر لها سبع موانى» ، وفى البيضاوي: «فى بئر» .
(2) فى أ: «دواه» ، وفى ف: «دواؤه» .
(3) تنزف: ينزح ماؤها.
(4) فى ف: «فأحرق» ، وفى أ: «فأحرق ذلك القشر» .
(5) فى أ، ف: «فقال» .(4/933)
واقرأ آية. ففعل النبي- صلى الله عليه وسلم- ذلك فجعل يذهب عنه ما كان يجد حتى برأ «وانتشر للنساء «1» » .
«قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» يعني برب الخلق مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ- 2- من الجن والإنس وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ يعني ظلمة الليل إِذا وَقَبَ- 3- يعني إذا «دخلت «2» » ظلمة الليل في ضوء النهار: إذا غابت الشمس فاختلط الظلام، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ- 4- يعنى السحر «وآلاته «3» » يعنى الرقبة التي هي لله معصية يعني به ما تنفثن من الرقى في العقدة، والآخذة يعني به السحر فهن
__________
(1) «وانتشر للنساء» : من ف، وهي ساقطة من أ.
وقد ذهب الإمام محمد عبده إلى إنكار حقيقة السحر موافقا بذلك مذهب المعتزلة (انظر تفسير الكشاف:
4/ 244) .
كما ذهب الإمام محمد عبده إلى عدم الأخذ بالحديث الذي يثبت أن النبي سحر، وذكر أنه حديث آحاد، والآحاد لا يؤخذ بها فى باب العقائد.
وقد ناقشت رأى الإمام وبينت أن السحر ثابت بالحس والمشاهدة، ونص القرآن وتواترت به الآثار عن الصحابة والسلف، وأهل التفسير والحديث والفقها، كما أن السحر يؤثر مرضا وثقلا، وحبا وبغضا، وتزيفا وغير ذلك من الآثار الموجودة التي تعرفها عامة الناس.
كما بينت أنه ثبت سحره- عليه الصلاة والسلام- بالروايات الصحيحة المتعددة وأن ثبوت السحر لرسول لا يناقض القرآن لأن القرآن نفى عنه السحر الذي يصيب عقله بالخبل والجنون.
والحديث أثبت السحر الذي يصيب الجسم أو الخبال، (كما تقول الأشاعرة) .
وسند حديث السحر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة- رضى الله عنها- كما أنه من رواية البخاري ومسلم، وقد اتفقا على تصحيحه. وهو ثابت عند أهل العلم بالحديث لا يختلفون فى صحنه، والقصة مشهورة عند أهل التفسير والسنن والحديث والتاريخ، والفقهاء- وانظر هذا البحث موسعا فى كتابي (منهج الإمام محمد عبده فى تفسير القرآن الكريم) موضوع: السحر: 109- 130،
(2) فى أ، ف: «دخل» ، والأنسب: «دخلت» ،
(3) فى أ: «وآلاته» ، فى ف: «والآخذة» .(4/934)
الساحرات المهيجات «الأخاذات «1» » وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ- 5- يعني اليهود حين حسدوا النبي- صلى الله عليه وسلم-،
قال: فقال له جبريل- «عليه»
» السلام- ألا أخبرك بأفضل ما تعوذ به المتعوذون؟ قال: يا جبريل، ما هو؟ قال: المعوذتان: «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ «3» » ، و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ «4» » .
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: قيل لي، فقلت لكم. فقولوا كما أقول.
قال: وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما فى المكتوبة.
__________
(1) فى ف: «الأخذات» ، وفى أ: «الأخذات أيضا» ، وفى حاشية أ: «الأخاذات» أقول ومعنى الأخاذات، النساء الكيادات التي تستميل الرجل وتستهويه وتتعرض له حتى تأخذه من على زوجته» .
(2) فى أ: «عليهما» ، وفى ف: «عليه» .
(3) سورة الفلق: 1. [.....]
(4) سورة الناس: 1.(4/935)
سورة النّاس(4/937)
[سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)
الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)(4/939)
[سورة الناس «1» ] سورة الناس مكية عددها «ست «2» » آيات «3» .
__________
(1) معظم مقصود السورة:
الاعتصام بحفظ الحق- تعالى-، وحياطته، والحذر، والاحتراز من وسوسة الشيطان ومن، تعدى الجن والإنسان، فى قوله: «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ» سورة الناس: 6.
(2) فى أ: «أربع» والصواب: «ست» .
(3) فى المصحف: (114) سورة الناس مكية وآياتها (6) نزلت بعد سورة الفلق.(4/941)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ- 1- أمر الله- عز وجل- النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يتعوذ برب الناس الذي هو مَلِكِ النَّاسِ- 2- بملكهم في «برهم وبحرهم «1» » «وفاجرهم «2» » وصالحهم وطالحهم وهو إِلهِ النَّاسِ- 3- كلهم، مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ- 4- وهو الشيطان في صورة خنزير معلق بالقلب في جسد ابن آدم، وهو يجري مجرى الدم، «سلطه «3» » الله على ذلك من الإنسان، فذلك قوله: الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ- 5- فإذا «انتهى «4» » ابن آدم وسوس في قلبه حتى «يتبلع «5» » قلبه، والخناس الذي إذا ذكر الله ابن آدم خنس عن قلبه، فذهب عنه، ويخرج من جسده، ثم أمره الله أن يتعوذ مِنَ شر الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ- 6- يعنى الجن «والإنس «6» » .
__________
(1) فى أ: «برهم وبحرهم» ، وفى ف: «فى برهم وبحرهم» .
(2) فى أ: «جرهم» ، وفى ف: «وفاجرهم» .
(3) فى أ: «يسلطه» ، وفى ف: «سلطه» .
(4) «انتهى» : كذا فى أ، ف، ولعل المراد: «انتهى عن المعاصي» .
(5) فى ف: «حتى يتبلع» ، وفى ل: «يبتلع» .
(6) فى ف: «ثم الكتاب بحمد الله ومنه، والصلاة على نبيه محمد المصطفى وآله أجمعين وسلم تسليما، وفرغ من كتابته أبو القاسم إسماعيل الروياني، غداة يوم الجمعة فى غرة ربيع الآخر من شهور سنة أربع وعشرين وخمسمائة» .(4/943)
وتحتها خاتم كتب عليه:
«وقف شيخ الإسلام فيض الله أفندى- غفر الله له- ولوالديه» ، بشرط ألا يخرج من المدرسة التي أنشأها بالقسطنطينية سنة 1113» .
وفى أعلى الورقة الأخيرة هذه كبة: (وقف) مكتوبة بخط الثلث، أقول وهذه نسخة فيض الله المشار إليها: ف.
وأما فى أ (أحمد الثالث) فقد جاء فى آخرها: هذا آخر تفسير الإمام مقاتل «والحمد لله رب العالمين» ، اعلم- أيها الناظر فى هذا الكتاب- أننى لما نقلته كان النقل من نسخة ليس فيها تمييز القرآن بالأحمر فرأيت أن أميز القرآن العظيم بالأحمر، ليسهل على الناظر فيه استخراج التفسير من القرآن، ويحصل المقصود بسهولة، مع أن النسخة كثيرة التحريف، وفى بعض المواضع القرآن ساقط هو وتفسيره، ففي بعض المواضع كتبته هي الهامش لئلا يظن أنه إنما سقط منى وبعضها لم أكتبه وبعض الأماكن الذي لم يتحرر لي أنظر عليه (أى أضع عليه علامة التضعيف) :
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
وكتبه بيده الفانية فقير عفو ربه وكرمه محمد بن أحمد بن عمر السنبلاويني الشافعي، لطف الله به وبوالديه ومشايخه، والمسلمين، ورحمهم أجمعين والحمد لله رب العالمين، أ. هـ.(4/944)
يقول محققه عبد الله محمود شحاتة:
كان الفراغ من تحقيق تفسير مقاتل بن سليمان ظهر يوم الاثنين الموافق 30 من جمادى الأولى سنة 1387 هـ، 4 من سبتمبر (أيلول) سنة 1967 م.
وقد ترقرق الدمع فى عيني مرارا عند ختامه.
شكر الله- تعالى- أن وفقني لتحقيق هذا التفسير كاملا، ولله الفضل والمنة، وله الثناء الحسن الجميل.
والحمد لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا، وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أن هدانا الله، وصل اللهم على سيدنا محمد النبي الأمى وعلى آله وصحبه وسلم.(4/945)
[الجزء الخامس]
مقدمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الكائنات، أما بعد.
فهذه دراسة وافية عن مقاتل بن سليمان ومنهجه فى تفسير القرآن الكريم، وقد اشتملت هذه الدراسة على قسمين:
القسم الأول: عن حياة مقاتل والعلوم التي نبغ فيها.
والقسم الثاني: عن منهج مقاتل فى تفسير القرآن.
أما القسم الأول يشتمل على أربعة أبواب هي:
1- حياة مقاتل.
2- مقاتل وعلم الحديث.
3- مقاتل وعلم التفسير.
4- مقاتل وعلم الكلام.
وأما القسم الثاني فقد درس منهج مقاتل فى تفسير القرآن وميره بخصائص واضحة فى ثمانية أمور هي:
1- أسباب النزول.
2- النسخ.
3- المحكم والمتشابه.
4- فواتح السور.
5- الاسرائيليات.
6- التشيع.
7- المكي والمدني.
8- كيفية إنزال القرآن.
وقد درست كل موضوع منها دراسة محررة وبينت منهج مقاتل ومسلكه فيه.
ومدى ما أحرزه من توفيق أو زلل، من صواب أو خطأ.(5/3)
وهذه الدراسة بقسميها: عن مقاتل، وعن منهجه فى التفسير، قمت بها بعد تحقيق التفسير الكبير لمقاتل، وهو أقدم تفسير كامل للقرآن الكريم وصل إلينا، ولذلك فقد جمعت نسخة من أنحاء العالم، وبذلت فى تحقيقه كل ما أستطيع، رجاء أن أسهم فى تحقيق تراثنا الحضارى والفكرى، فضلا عن أنه تفسير لكتاب ربنا، وهو الهدى والنور لأمتنا فى الماضي والحاضر.
والله أسأل أن ينفع به انه سميع مجيب..(5/4)
تمهيد
التفسير قبل مقاتل
نزل القرآن الكريم بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم، فكانوا يفهمونه، ويدركون أغراضه ومراميه، وان تفاوتوا فى هذا الفهم والإدراك، تبعا لاختلاف درجاتهم العلمية، ومواهبهم العقلية، ولعل ابن خلدون كان مبالغا حين ذهب إلى أن الصحابة جميعا كانوا فى فهمه سواء «1» ، وقد قال ابن قتيبة وهو ممن تقدم على ابن خلدون ببضعة قرون: (ان العرب لا تستوي فى المعرفة بجميع ما فى القرآن من الغريب والمتشابه بل ان بعضها يفضل فى ذلك على بعض) «2» .
وقال مسروق: «جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فوجدتهم كالاخاذ، فالإخاذ يروى الرجل، والاخاذ يروى الرجلين، والاخاذ يروى العشرة، والاخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، فوجدت عبد الله بن مسعود من ذلك الاخاذ» «3» .
وكان الصحابة رضوان الله عليهم، إذا أشكل عليهم معنى من معاني القرآن، لجأوا إلى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيوضحه لهم، ويبينه كما قال تعالى:
(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إليهم ولعلهم يتفكرون) «4» .
فمن ذلك ما
رواه أحمد والشيخان وغيرهم عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) شق ذلك على الناس فقالوا يا رسول الله وأينا لا يظلم نفسه؟ قال انه ليس الذي تعنون، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، سورة لقمان: 13 انما هو الشرك.
وما
رواه الترمذي وابن حبان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الصلاة الوسطى صلاة العصر) .
__________
(1) المقدمة: 489، (ان القرآن أنزل بلغة العرب وعلى أساليب بلاغتهم فكانوا كلهم يفهمونه ويعلمون معانيه فى مفرداته وتراكيبه) .
(2) ابن قتيبة: المسائل والأجوبة: 8.
(3) طبقات ابن سعد: 2/ 150، بإسناد صحيح إلى مسروق.
(4) سورة النحل: 44. [.....](5/5)
وما
أخرجه أحمد والترمذي وغيرهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ان المغضوب عليهم هم اليهود، وان الضالين هم النصارى) .
وما
أخرجه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال- وهو على المنبر-:
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) ألا وأن القوة الرمي.
وما
أخرجه الترمذي ... أن يوم الحج الأكبر، هو يوم النحر.
وأن كلمة التقوى «5» هي لا اله الا الله.
وما
أخرجه أحمد ومسلم عن انس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكوثر نهر أعطانيه ربى فى الجنة «6» » .
وغير هذا كثير مما صح عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
«وفى صحيح البخاري كتابان هما: كتاب تفسير القرآن وكتاب فضائل القرآن يشغلان حيزا واضحا من الكتاب ربما كان نحو الثمن منه «7» » .
وقد اختلف العلماء فى المقدار الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه من القرآن.
فمنهم من ذهب إلى أنه بين لأصحابه كل معاني القرآن كما بين لهم ألفاظه «8» ، ومنهم من ذهب إلى أنه لم يبين لأصحابه من معاني القرآن الا القليل «9» وقد استدل كل فريق لرأيه بعدد من الأدلة «10» .
والحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الكثير من معاني القرآن لأصحابه كما تشهد بذلك كتب الصحاح، ولم يبين كل معاني القرآن، لأن من القرآن ما استأثر الله تعالى بعلمه، ومنه ما يعلمه العلماء، ومنه ما تعلمه العرب من لغاتها، ومنه ما لا يعذر أحد فى جهالته.
قال ابن عباس: (التفسير على اربعة أوجه: وجه تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يعذر أحد بجهالته، وتفسير يعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه الا الله) «11» .
__________
(5) فى قوله تعالى (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى: سورة الفتح: 26.
(6) الإتقان: 2/ 191- 205.
(7) دائرة المعارف الاسلامية مادة تفسير: 5/ 349 (تعليق أمين الخولي) .
(8) ابن تيمية: مقدمة فى اصول التفسير: 5.
(9) الإتقان: 2/ 179.
(10) انظر ابن تيمية: مقدمة فى أصول التفسير: 5، والإتقان: 2/ 205.
وفى أدلة الفريق الآخر: انظر القرطبي: 1/ 31. والإتقان: 2/ 174.
(11) تفسير ابن جرير الطبري: 1/ 25.(5/6)
ولعل الروعة الدينية لهذا العهد، والمستوى العقلي لأهله، ووضوح حاجات حياتهم العملية، وتطبيق الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن تطبيقا عمليا فى حياته، حتى قالت عائشة: كان خلقه القرآن، كل هذا جعل حاجتهم إلى التفسير غير كبيرة، خصوصا أنهم كانوا يعيشون فى معاني القرآن، ويتسابقون إلى العمل بآياته قبل ان يحفظوا الجديد منها، إلى جوار بيان الرسول صلى الله عليه وسلم لمجمل القرآن، وتوضيحه لمشكله، وتخصيصه لعامه، وتقييده لمطلقه، فمن ذلك بيانه لمواقيت الصلوات الخمس وعدد ركعاتها وكيفيتها، وبيانه لمقادير الزكاة وأوقاتها وأنواعها، وبيانه لمناسك الحج. فكان القدوة الحسنة فى السلوك القرآنى، والتطبيق العملي لأوامر القرآن. ولذا
ورد فى الحديث: (صلوا كما رأيتمونى أصلى) .
ومن توضيح المشكل: تفسيره صلى الله عليه وسلم للخيط الأبيض والخيط الأسود فى قوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) «12» ، بأنه بياض النهار وسواد الليل.
ومن تقييد المطلق، تقييده اليد باليمين فى قوله تعالى: (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) «13» .
وكان صلى الله عليه وسلم يبين لهم معاني القرآن وأهدافه، وروحه العامة، فى سفره وإقامته، وحربه وسلمه، وغزوه وجهاده، حتى قال يحيى بن أبى كثير: السنة قاضية على الكتاب، وليس الكتاب بقاص على السنة. وعن الفضل بن زياد: سمعت أحمد بن حنبل، وقد سئل عن قول يحيى هذا، فقال: ما أجسر على هذا أن أقوله، ان السنة تفسر الكتاب وتبينه.
التفسير فى عصر الصحابة
كان القرآن هو المرجع الأول للمسلمين فى ذلك العصر أيضا، يقرءونه فى صلاتهم، ويهدرون به فى غزوهم، ويرتلونه فى قيام ليلهم.
وكان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين إذا لم يجدوا التفسير فى كتاب الله تعالى، ولم يتيسر لهم أخذه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجعوا فى ذلك إلى اجتهادهم واعمال رأيهم، وساعدهم على التفسير، أنهم عرب خلص، يعرفون معاني اللغة وأسرارها، وأنهم عاشوا فترة نزول الوحى مع النبي، فعرفوا أسباب النزول، وأدركوا ما أحاط بالقرآن من ظروف وملابسات، تعين على فهم كثير من الآيات، لهذا
__________
(12) سورة البقرة: 187.
(13) سورة المائدة: 38.(5/7)
قال الواحدي: (لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان سبب نزولها) .
غير أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا متفاوتين فى قدرتهم على تفسير القرآن، تبعا لمقدار سماعهم التفسير من رسول الله، ولمقدار ما شاهدوا من أسباب النزول ولمدى ما فتح الله به عليهم من طريق الرأى والاجتهاد، قال تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ. وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) «14» .
قال السيوطي فى الإتقان: «وقد اشتهر بالتفسير من الصحابة الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت وأبو موسى الأشعرى، وعبد الله بن الزبير «15» » .
وهناك من تلك من الصحابة فى التفسير كأبى هريرة «ت 57 هـ» وجابر بن عبد الله (ت 74 هـ) وعبد الله بن عمر (ت 73 هـ) وعبد الله بن عمرو بن العاص (ت 63 هـ) وأنس بن مالك (ت 91 هـ) ، غير أن ما نقل عنهم فى التفسير قليل جدا بالنسبة للعشرة الذين ذكرهم السيوطي:
وأكثر من روى عنهم من هؤلاء العشرة، أربعة هم: عبد الله بن عباس، ثم عبد الله بن مسعود، ثم على بن أبى طالب، ثم أبى بن كعب، رضى الله عنهم جميعا.
وها نحن نترجم لهؤلاء الأربعة، فيما يلي من الصفحات:
1- عبد الله بن عباس:
هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولد والنبي وأصحابه بالشعب بمكة. وعند ما توفى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان له- رضى الله عنه- من العمر ثلاث عشرة سنة، وقد عاش حتى توفى بالطائف سنة 68 هـ.
وهو ترجمان القرآن، وحبر الأمة، ورأس المفسرين.
دعا له النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل.
وقد روى عنه فى التفسير ما لا يحصى كثرة، بطرق معظمها ليس بصحيح، ومن ذلك التفسير المنسوب اليه، وهو الذي طبع باسم: تنوير المقياس من تفسير ابن عباس، للفيروزآبادي، صاحب القاموس المحيط.
__________
(14) سورة البقرة: 269.
(15) وقال صاحب كشف الظنون ما نصه: «أما المفسرون من الصحابة فمنهم الخلفاء الأربعة، وابن مسعود، وابن عباس، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعرى، وعبد الله بن الزبير، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وجابر وعبد الله بن عمرو بن العاص رضوان الله تعالى عليهم أجمعين» .(5/8)
وحسبنا فى التعقيب على هذا ما روى منسوبا إلى الامام الشافعي- رضى الله عنه- من قوله: (لم يثبت عن ابن عباس فى التفسير الا شبيه بمائة حديث) «16» .
مع أن هذا التنوير المنسوب اليه مطبوع فى نحو أربعمائة صفحة من القطع العادي.
وقد ساعد ابن عباس على تضلعه فى التفسير وقوته فيه، نشأته فى بيت النبوة، وملازمته لرسول الله صلّى الله عليه وسلم ثم لأكابر الصحابة بعد وفاة الرسول.
ثم حفظه للعربية، ومعرفته لغريبها وآدابها وخصائصها وأساليبها، شعرا ونثرا، وبلوغه مرتبة الاجتهاد، وعدم تحرجه من التفسير، وقد وهبه الله عقلا راجحا، ورأيا صائبا، وقريحة وقادة، ويقينا وايمانا. حتى قال مجاهد: انه إذا فسر الشيء رأيت عليه النور، وكان ابن عباس شيخ المفسرين بمكة، وصاحب مدرسة التفسير بها.
قال ابن تيمية: (وأعلم الناس بالتفسير أهل مكة، لأنهم أصحاب ابن عباس، كمجاهد وعطاء بن أبى رباح وعكرمة مولى ابن عباس، وغيرهم من أصحاب ابن عباس كطاووس «17» ، وأبى الشعناء، وسعيد بن جبير، وأمثالهم، وكذلك أهل الكوفة من أصحاب ابن مسعود.
ومن ذلك ما تميزوا به على غيرهم، وعلماء أهل المدينة فى التفسير مثل زيد بن أسلم الذي أخذ عنه مالك التفسير، وأخذ عنه أيضا ابنه عبد الرحمن، وعبد الله بن وهب «18» .
أشهر الطرق عن ابن عباس:
1- طريق معاوية بن صالح عن على بن أبى طلحة (ت 143) عن ابن عباس.
وهذه أجود الطرق عنه.
قال الامام أحمد: «ان بمصر صحيفة فى التفسير رواها على بن أبى طلحة،
__________
(16) شذرات الذهب لابن العماد ج 1، وخلاصة تذهيب الكمال فى أسماء الرجال: 150، طبعة الخيرية سنة 1323 هـ، والإتقان: 2/ 224.
(17) انظر ترجمة مجاهد: 48.
وعطاء بن أبى رباح يمنى من الجند تحول إلى مكة، وبلغ مرتبة الامامة والفقه، وانتهت اليه الفتوى بمكة، قال فيه ابن عباس لأهل مكة: تجتمعون على وعندكم عطاء؟ توفى سنة 114 هـ.
وعكرمة، مولى ابن عباس: هو أبو عبد الله عكرمة البربري، أحد الأئمة الأعلام، قال الشعبي:
ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة، توفى سنة 105 هـ. (تهذيب التهذيب: 7/ 263- 273) .
وطاووس، هو: طاووس بن كيسان يمنى من الجند أيضا، أدرك خمسين من الصحابة، وبلغ منزلة الأئمة الأعلام، وأخذ عنه الصفوة من التابعين. قال ابن عباس انى لأظن طاووسا من أهل الجنة.
توفى يوم التروية من سنة 106 هـ، وصلّى عليه هشام بن عبد الملك.
(18) ابن تيمية، مقدمة فى أصول التفسير: 23- 24.
وانظر. فجر الإسلام ق 147- 148. ط 9. [.....](5/9)
لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدا ما كان كثيرا» . وقد اعتمد عليها البخاري فى صحيحه.
2- طريق قيس بن مسلم الكوفي (ت 120 هـ) عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهذه الطريق صحيحة على شرط الشيخين.
3- طريق ابن إسحاق صاحب السير، عن محمد بن أبى محمد مولى آل زيد ابن ثابت، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهي طريق جيدة واسنادها حسن.
4- طريق إسماعيل بن عبد الرحمن السدى الكبير، تارة عن أبى مالك، وتارة عن أبى صالح عن ابن عباس، والسدى الكبير مختلف فيه.
5- طريق عبد الملك بن جريج عن ابن عباس. وابن جريج لم يقصد الصحة فيما جمع، وانما روى ما ذكر فى كل آية من الصحيح والسقيم.
6- طريق الضحاك بن مزاحم الهلالي عن ابن عباس وهي غير مرضية.
7- طريق عطية العوفى عن ابن عباس، وهي غير مرضية أيضا.
8- طريق مقاتل بن سليمان الأزدى الخراساني، صاحب التفسير الذي نقدم له. وقد مدح الامام الشافعي تفسير مقاتل، وقال: «من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان» .
ولكن أهل الحديث جرحوه واتهموه بالكذب.
وبالجملة فقد أثنى العلماء على تفسير مقاتل، فى حين اتهمه رجال الحديث بالكذب.
9- طريق محمد بن السائب الكلبي (ت 146 هـ) عن أبى صالح عن ابن عباس وهذه أوهى الطرق.
فالكلبي- وان وجد من قال رضوه فى التفسير- متروك الحديث ليس بثقة عند جميع أهل الحديث.
وإذا انضم إلى طريق الكلبي رواية محمد بن مروان السدى الصغير فهي سلسلة الكذب 1» .
__________
(19) الإتقان: 2/ 189.
وانظر، محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون: 1/ 78- 81. وفجر الإسلام: 203،؟؟
وكشف الظنون، ومقدمة تفسير أحمد مصطفى المراغي؟ 2.(5/10)
2- عبد الله بن مسعود: (ت سنة 32 هـ)
ذكرنا أن أشهر المفسرين أربعة: عبد الله بن عباس، ثم عبد الله بن مسعود، ثم على بن أبى طالب، ثم أبى بن كعب.
وقد عرفنا بعبد الله بن عباس، وعرفنا بأشهر الطرق اليه ومنها طريق مقاتل ابن سليمان.
أما عبد الله بن مسعود، فهو صحابى جليل، من السابقين إلى الإسلام، وأول من جهر بالقرآن بمكة، وكان خادم رسول الله صلّى الله عليه وسلم يلبسه نعله ويمشى معه وأمامه إذا سار، ويلج داره بلا حجاب، هاجر إلى الحبشة ثم إلى المدينة، وشهد المشاهد مع رسول الله.
وكان ابن مسعود من أحفظ الصحابة لكتاب الله. وأخرج ابن جرير وغيره عنه أنه قال: (والله الذي لا اله غيره ما نزلت آية من كتاب الله الا وأنا أعلم فيمن نزلت؟
وأين نزلت؟ ولو أعلم مكان أحد أعلم بكتاب الله منى تناله المطايا لأتيته) «20» .
وقد روى عن ابن مسعود كثيرون لكن تتبعهم العلماء بالنقد والتجريح ومن أشهر الطرق إلى ابن مسعود:
1- طريق الأعمش عن أبى الضحى عن مسروق عن ابن مسعود وهي أصح الطرق اليه.
2- طريق مجاهد عن أبى معمر عن ابن مسعود وهذه أيضا طريق صحيحة.
3- طريق الأعمش عن أبى وائل عن ابن مسعود وهي مثل سابقتها.
4- طريق أبى روق عن الضحاك عن ابن مسعود، وهي غير مرضية لأن الضحاك لم يلق ابن مسعود طريق منقطعة «21» .
3- علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
هو ابن عم رسول الله وصهره على ابنته فاطمة الزهراء. ولد وشب فى الإسلام، وتوفى سنة 40 هـ، وكان أكثر الخلفاء الأربعة تفسيرا للقرآن لتأخر وفاته ولاحتياج الناس إلى التفسير فى حياته.
وقد أسرف بعض الشيعة فى حبه وجاوزوا الحد فى تقديره فنسبوا اليه ما هو منه برىء، وقولوه ما لم يقل، ومن ثم
ورد فى المروي عنه دس كثير،
وتصدى صيارفة النقد من رجال الرواية للمروي عنه حتى مازوا ما صح منه مما لم يصح.
__________
(20) انظر ترجمة ابن مسعود فى اسد الغابة: 3/ 256- 260.
(21) محمد حسين الذهبي: التفسير والمفسرون: 1/ 87، 88.(5/11)
4- أبى بن كعب الأنصارى: (ت سنة 20 هـ)
كان من أعلام القراء ومن كتاب الوحى ومن أعلم الصحابة بكتاب الله، وكان أبى حبرا من أحبار اليهود قبل إسلامه، وكان من المكثرين فى التفسير، ولم يسلم كغيره من الوضع عليه «22» .
التفسير فى عصر التابعين
لم يدون التفسير فى عهد الصحابة، لقرب العهد برسول الله صلّى الله عليه وسلم، ولقلة الاختلاف والتمكن من الرجوع إلى الثقات.
فلما انقضى عصر الصحابة أو كاد، وصار الأمر إلى تابعيهم، «انتشر الإسلام واتسعت الأمصار وتفرقت الصحابة فى الأقطار، وحدثت الفتن واختلفت الآراء وكثرت الفتاوى والرجوع إلى الكبراء فأخذوا فى تدوين الحديث والفقه وعلوم القرآن «23» » .
فأول ما دونوه من العلوم التفسير، ومن أقدم التفاسير تفسير أبى العالية رفيع ابن مهران الرياحي (ت 90 هـ) ، ومجاهد بن جبر (101 هـ) ثم تفسير عطاء بن أبى رباح (ت 114 هـ) ، ثم تفسير محمد بن كعب القرظي (ت 117 هـ) «24» .
وقد انقسمت جماعة المفسرين إلى ثلاث مدارس:
أولاها: مفسرو مكة المكرمة وهم تلاميذ عبد الله بن عباس «25» .
والثانية: مفسرو الكوفة وهم تلاميذ عبد الله بن مسعود «26» .
والثالثة: مفسرو المدينة. وهي أصحاب زيد بن أسلم العدوى «27» .
وإذا قارنا بين التفسير فى عهد الصحابة والتفسير فى عهد التابعين خرجنا بالنتائج الآتية:
__________
(22) انظر خلاصة تذهيب الكمال: 180، وميزان الاعتدال: 2/ 68، ومناهل العرفان، 1/ 487، والتفسير والمفسرون: 1/ 92.
(23) حاجي خليفة: 1/ 33.
(24) حاجي خليفة: 1/ 427.
(25) ومن تلاميذه: مجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وطاووس.
(26) ومن تلاميذه: مسروق بن الأجدع، وقتادة بن دعامة، والحسن البصري وعلقمة بن قيس.
(27) ومنهم: أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي مولاهم، ومحمد بن كعب القرظي.(5/12)
(ا) التفسير فى عهد الصحابة:
1- لم يفسر القرآن جميعه انما فسر ما غمض منه 2- قلة الاختلاف فى فهم معاني القرآن 3- الاكتفاء بالمعاني الاجمالية للآيات 4- قلة الخلاف المذهبى حول الآيات 5- لم يدون التفسير 6- اتخذ التفسير شكل الحديث 7- قلة الرجوع إلى أهل الكتاب
(ب) التفسير فى عهد التابعين:
ظهرت تفاسير شاملة لأكثر آيات القرآن زاد الخلاف نسبيا فى فهم معاني القرآن عما كان فى عصر الصحابة.
ظهر تفسير لكل آية ولكل لفظة زاد الخلاف المذهبى حول الآيات مثل تفسير قتادة والحسن البصري حول القدر دون التفسير استقل التفسير فى كتب مستقلة وان ظل فى شكل رواية الحديث كثر الرجوع إلى أهل الكتاب، ودخل فى التفسير كثير من الاسرائيليات وذلك لكثرة من دخل من أهل الكتاب فى الإسلام وتساهل التابعين فى الاستماع إليهم.
ابتداء التدوين فى عصر التابعين:
ابتدأ فى هذا العصر تدوين التفسير والتصنيف فيه، وأول كتاب ظهر فى التفسير كان لسعيد بن جبير بن هشام الكوفي الأسدى مولى بنى والبة بن الحارث بطن من بنى اسد بن خزيمة المتوفى سنة 95 هـ، قتله الحجاج وكان اعلم التابعين فى نص على ذلك قتادة وحكاه السيوطي فى الإتقان، كما نسب تدوين التفسير إلى مجاهد: قال ابن أبى مليكة: «رأيت مجاهدا يسأل ابن عباس عن تفسير القرآن ومعه ألواحه فيقول ابن عباس اكتب. قال: حتى سأله عن التفسير كله» «28» .
وتميزت فى عصر التابعين ثلاث مدارس فى التفسير:
1- مدرسة مكة، وأصحابها تلاميذ ابن عباس رضى الله عنه ومنهم أبو الحجاج «29» مجاهد بن جبر المكي المتوفى سنة 101 هـ، حكى عن نفسه أنه عرض القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة. وقد اعتمد على تفسيره الشافعي والبخاري، وعكرمة مولى ابن
__________
(28) ابن جرير الطبري: تفسير: 1/ 30.
(29) له طرق منها طريق ابن أبى نجيح، وطريق ابن جريج، وطريق ليث.(5/13)
عباس المتوفى سنة 104 هـ، وطاووس بن كيسان اليماني المتوفى بمكة سنة 106 هـ.
وعطاء بن أبى رباح المكي المتوفى سنة 114 هـ.
2- ومدرسة العراق، وأصحابها تلاميذ ابن مسعود ومنهم: مسروق بن الأجدع الكوفي المتوفى سنة 63 هـ «30» ، والأسود بن يزيد المتوفى سنة 75 هـ، وعلقمة ابن قيس المتوفى سنة 102 هـ، وعامر الشعبي المتوفى سنة 105 هـ، وقتادة ابن دعامة السدوسي البصري المتوفى سنة 117 هـ، والحسن البصري المتوفى سنة 121 هـ.
3- ومدرسة المدينة، ورجالها تلاميذ أبى بن كعب، وأصحاب زيد بن أسلم المتوفى سنة 136 هـ. ومنهم: أبو العالية رفيع بن مهران الرياحي المتوفى سنة 90 هـ، ومحمد بن كعب القرظي المتوفى سنة 118 هـ.
التفسير فى عهد تابعي التابعين
فى هذا العهد اتجهت الهمم إلى جمع ما أثر من التفسير عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن صحابته وعن التابعين بدون تفرقة بين المدارس الثلاث التي امتازت فى عصر التابعين بروايات مخصوصة.
فدونوا علم التفسير فى الكتب الصغار والكبار، وصارت كتبهم أجمع للعلم من الكتب السابقة.
واشتهر من بينهم: شعبة بن الحجاج المتوفى سنة 160 هـ، وسفيان بن سعيد الثوري المتوفى سنة 161 هـ، ووكيع بن الجراح والمتوفى سنة 197 هـ، وسفيان ابن عيينة المتوفى سنة 198 هـ، ويزيد بن هارون المتوفى سنة 206 هـ، وروح ابن عبادة القيسي المتوفى سنة 207 هـ، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني شيخ الامام البخاري فى الحديث، المتوفى سنة 211 هـ، وتفسيره مخطوط محفوظ بدار الكتب المصرية، وهي نسخة وحيدة فى العالم، واسحق بن راهويه المتوفى سنة 238 هـ، وآدم بن أبى إياس العسقلاني المتوفى سنة 220 هـ.
وقد ضاع أكثر هذه التفاسير فلم يبق منها، فى علمي، الا تفسير سفيان الثوري، وقد طبع حديثا بالهند. وتفسير عبد الرزاق بن همام الصنعاني.
وإذا كانت معظم التفاسير فى عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم لم تصل إلينا، فان مضمون ما فيها قد نقله إلينا محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير الكبير المتداول بين الناس الآن.
__________
(30) انظر تهذيب التهذيب: 10/ 109- 111.(5/14)
قال السيوطي: (وكتابه أجل التفاسير وأعظمها، فان يتعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض. والإعراب والاستنباط، فهو يفوق بذلك على تفاسير الأقدمين) .
وقال النووي: أجمعت الأمة على أنه لم يصنف فى التفسير مثل تفسير الطبري.
ويقع تفسير ابن جرير فى ثلاثين جزءا من الحجم الكبير، وقد كان هذا الكتاب من عهد قريب يكاد يعتبر مفقودا لا وجود له ثم قدر الله له الظهور والتداول، فكانت مفاجأة سارة للأوساط الاسلامية والعلمية «أن وجدت فى حيازة أمير حائل: الأمير حمود ابن الأمير عبد الرشيد من أمراء نجد نسخة مخطوطة كاملة من هذا الكتاب.
طبع عليها التفسير فى مطبعة بولاق بالقاهرة، فأصبحت فى يدنا دائرة معارف غنية فى التفسير المأثور» «31» .
قال ابن تيمية: «وأما التفاسير التي بأيدى الناس، فأصحها تفسير محمد ابن جرير الطبري، فانه يذكر مقالات السلف بالأسانيد الثابتة، وليس فيه بدعة، ولا ينقل عن المتهمين، كمقاتل بن بكير «32» والكلبي «33» » .
وقد ظهر بعد ابن جرير عدة تفاسير بالمأثور منها تفسير أبى بكر بن المنذر النيشابوري المتوفى سنة 318 هـ. وابن أبى حاتم المتوفى سنة 327 هـ، وأبو الشيخ ابن حيان المتوفى سنة 369 هـ، والحاكم المتوفى سنة 405 هـ، وابن مردويه المتوفى سنة 410 وغيرهم.
التفسير النقلى والتفسير العقلي
كان جمهور الصحابة والتابعين وتابعيهم يتحرون التفسير بالمأثور، بل كان منهم من يفضل المشي فى النار على القول فى القرآن بالرأى.
وكان ابن جرير يورد المأثور من الأقوال فى الآية ويرجح بعضها على بعض وغالبا ما يعتمد فى الترجيح على قوة السند. وقد أنكر بشدة على من فسر القرآن برأيه بدون اعتماد على شيء الا على مجرد اللغة «34» .
__________
(31) المذاهب الاسلامية فى تفسير القرآن: 86.
وقد طبع تفسير الطبري عدة طبعات بعد ذلك وآخرها طبعة بتحقيق وتخريج الأسانيد بعناية أحمد شاكر ومحمود شاكر، وقد توقفت هذه الطبعة بعد الجزء السادس عشر.
(32) هكذا بالأصل وصوابها بشير. [.....]
(33) فتاوى ابن تيمية: 2/ 192.
(34) انظر تفسيره للآية (49) من سورة يوسف: 12/ 138.(5/15)
ولكنا مع ذلك نعتبر ابن جرير ممن جمع بين النقل والعقل وان كان تفسيره من أهم مراجع التفسير النقلى، الا أنه مع ذلك يعتبر مرجعا عظيم الأهمية من مراجع التفسير العقلي، نظرا لما فيه من الاستنباط وتوجيه الأقوال، واختيار أولاها بالصواب اختيارا يعتمد على صحة السند، كما يعتمد على النظر العقلي والبحث الحر الدقيق، فهو قد احتكم إلى المعروف من كلام العرب «35» ، ورجع إلى الشعر القديم بشكل واسع، متبعا فى هذا ما أثاره ابن عباس سابقا «36» ، كما اهتم بالمذاهب النحوية «37» والأحكام الفقهية «38» وبعض مسائل علم الكلام «39» .
فيمكن أن نعتبر تفسير ابن جرير من التفاسير التي جمعت بين النقل والعقل.
ونلاحظ ان المأثور عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فى تفسير القرآن كان محدودا، ثم كثر التفسير النقلى عن الصحابة والتابعين، ثم نشأت طبقة جمعت المأثور من التفسير عن النبي وأصحابه وتابعيهم، ومنهم من أضاف إلى التفسير رأيه واجتهاده، ومنهم من جمع التفسير النقلى ثم فسر الآيات التي لم يرد فيها تفسير بالمأثور تفسيرا اجتهاديا عقليا، معتمدا على ما عرف من لغة العرب وأساليبها، وما ورد من التاريخ فى الأحداث التي حدثت فى عصر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد وقف الناس فى ذلك موقفين وانقسموا فريقين. فقوم تشددوا فى التفسير فلم يروا أن يجرؤوا على تفسير شيء من القرآن ما لم يرد فيه قول للنبي أو للصحابة، كالذي روى عن عبد الله بن عمر أنه قال: «لقد أدركت فقهاء المدينة وأنهم ليعظمون القول فى التفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع» «40» .
وقال الشعبي: «ثلاث لا أقول فيهن حتى أموت: القرآن، والروح، والرأى» «41» .
ومن أمثلة ذلك الأصمعى، فهو مع علمه الواسع باللغة كان شديد الاحتراز فى تفسير الكتاب والسنة، فإذا سئل عن شيء منها قال: العرب تقول معنى هذا كذا، ولا أعلم المراد منه فى الكتاب والسنة أى شيء هو «42» .
وأمثال هؤلاء حملوا على المفسرين بالرأى، ورووا حديث (من تكلم فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ) .
__________
(35) انظر تفسيره للآية (40) من سورة هود: 12/ 25.
(36) انظر تفسيره للآية (22) من سورة البقرة: 1/ 125.
(37) انظر تفسيره للآية (118) من سورة ابراهيم: 13/ 131.
(38) انظر تفسيره للآية (8) من سورة النحل: 14/ 57- 58.
(39) انظر تفسيره للآية (7) آخر سورة الفاتحة 1/ 64.
(40) أحمد أمين: ضحى الإسلام: 2/ 144 ط 6.
(41) تفسير ابن جرير: 1/ 29.
(42) ابن خلكان: 1/ 409.(5/16)
وفريق آخر لم يجدوا بأسا ولا حرجا من تفسير القرآن باجتهادهم، معتمدين على درايتهم باللغة وأساليبها، وما يتصل بذلك من العلم بأسباب النزول والناسخ والمنسوخ.
قال الماوردي: «قد حمل بعض المتورعين هذا الحديث على ظاهره، وامتنع من أن يستنبط معاني القرآن باجتهاده، ولو صحبها الشواهد ولم يعارض قواعدها نص صريح، وهذا عدول عما تعبدنا بمعرفته من النظر فى القرآن واستنباط الأحكام، كما قال تعالى: (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) «43» . ولو صح ما ذهب اليه لم يعلم شيء من استنباط، ولما فهم الأكثر من كتاب الله، وان صح الحديث فتأويله:
«ان من تكلم فى القرآن بمجرد رأيه فقد أخطأ» «44» .
وقد كان أكثر من قام بالتفسير العقلي علماء العراق أصحاب مدرسة الرأى فى التشريع، وتلاميذ ابن مسعود أستاذ أصحاب الرأى.
وقد فرق قوم بين التفسير والتأويل، بناء على الاعتماد على النقل والعقل.
فعنوا بالتفسير ما اعتمد فيه على النقل، مما ورد عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والصدر الأول، وخاصة فى الأمور التوقيفية التي ليس للعقل فيها كبير مجال، كتفسير الحروف المقطعة: الم، حم، يس، وكأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وعنوا بالتأويل ما يعتمد فيه على الاجتهاد، ويتوصل اليه بمعرفة مفردات الألفاظ ومدلولاتها فى لغة العرب واستعمالها بحسب السياق ومعرفة الأساليب العربية واستنباط المعاني من كل ذلك.
وقد انقسمت كتب التفاسير إلى هذين النوعين: كتب التفسير بالمأثور، وكتب التفسير بالمعقول.
وسنرى عند الكلام عن تفسير مقاتل- ومنهجه هو موضوع هذا البحث- كيف فسر مقاتل القرآن الكريم وتحت أى نوع من هذين النوعين ينبغي أن نضع تفسيره.
__________
(43) سورة النساء: 83.
(44) انظر مقدمة تفسير الماوردي، وهو مخطوط مخطوط بدار الكتب المصرية.(5/17)
القسم الأول مقاتل بن سليمان
الباب الأول: حياة مقاتل.
الباب الثاني: مقاتل وعلم الحديث.
الباب الثالث: مقاتل وعلم التفسير.
الباب الرابع: مقاتل وعلم الكلام.(5/19)
الباب الأول حياة مقاتل
1- نسب مقاتل.
2- مولد مقاتل.
3- البلاد التي نشا فيها مقاتل (خراسان) .
4- مقاتل فى العراق.(5/21)
نسب مقاتل
هو مقاتل بن سليمان بن بشير «1» البلخي «2» مولى الأزد «3» كنيته أبو الحسن.
وترجمه الذهبي بقوله: كبير المفسرين أبو الحسن مقاتل بن سليمان البلخي.
__________
(1) ذكرت أكثر المراجع أن اسمه مقاتل بن سليمان ولم تذكر جده، ومن هذه المراجع: الكامل فى التاريخ لابن الأثير: 5/ 354، والجرح والتعديل للرازي: 4/ 355 طبع الهند، وتهذيب الأسماء للنووي: 2/ 111، وسير أعلام النبلاء للذهبى: 6/ 65، وميزان الاعتدال للذهبى: 3/ 196.
وبعض المراجع ذكرت أن جده يسمى بشرا، مثل تاريخ بغداد: 13/ 160، وتهذيب الكمال فى أسماء الرجال للمقدسي (المجلد العاشر مخطوط) .
وبعض المراجع ذكرت أن جده يسمى بشيرا ومنها: وفيات الأعيان: 5/ 341. وتهذيب التهذيب:
10/ 276، والأعلام للزركلى: 8/ 206، ومعجم المؤلفين: 12/ 317.
وأرجح أن يكون اسم جده بشيرا لا بشرا، وقد كانت المراجع القديمة تهمل إعجام الحروف كثيرا.
فتكتب بشيرا بدون إعجام فتشتبه ببشر، وفى فتاوى ابن تيمية: 2/ 192، مقاتل بن بكثير، وهو تحريف عن بشير، كما أن أغلب المراجع على أن اسم جده بشير لا بشر. وانظر البرهان للزركشى: 1/ 6 هامش.
(2) نسبة إلى بلخ وهي مدينة عظيمة من مدن خراسان، وكانت مركزا من مراكز الثقافة الاغريقية.
(انظر دائرة المعارف الاسلامية، الترجمة العربية مادة بلخ: 4/ 78- 81) . [.....]
(3) الاشتقاق لابن دريد تحقيق عبد السلام هارون: 501، لكن ذكر ابن دريد أن بنى اسد ابن شريك لهم خطة بالبصرة يقال لها خطة بنى أسد. وليس بالبصرة خطة لبنى اسد بن خزيمة.
ثم قال: ومن مواليهم مقاتل صاحب التفسير.
وإذا علمنا أن مقاتلا ولد فى بلخ، ثم رحل إلى مرو، ثم انتقل إلى البصرة وذهب إلى بغداد، ثم رجع الى البصرة فمكث بها إلى أن مات سنة 150 هـ- ترجح لدينا أن ولاء مقاتل لبنى أسد كان بالبصرة.
وليس يعيب مقاتلا أن يكون مولى لبنى أسد، فقد كان معظم فقهاء الأمصار من الموالي، ففقيه مكة عطاء، وفقيه اليمن طاووس، وفقيه الشام مكحول، وفقيه خراسان الضحاك، وفقيه البصرة الحسن.
كلهم من الموالي.
وأسباب اشتهار الموالي بالعلم فى ذلك العصر هي:
1- أن العرب كانت لهم الغلبة المادية، فحاول الموالي أن تكون لهم غلبة فكرية وثقافية.
2- وأن الصحابة استكثروا من الموالي، فأخذ مواليهم عنهم العلم، حتى إذا انتهى عصر الصحابة كان هؤلاء الموالي حملة العلم للعصر الذي يليه، ولذلك كان أكثر التابعين منهم.
3- وأن أولئك الموالي ينتسبون إلى أمم عريقة ذات ثقافة وعلم، فكان النزوع إلى العلم فيهم يقارب الجبلة والطبيعة.
(انظر مقدمة ابن خلدون) .(5/23)
مولد مقاتل
ولد مقاتل بمدينة بلخ من إقليم خراسان، ولم تذكر المراجع سنة ميلاده، وان ذكرت أنه مات بالبصرة سنة 150 هـ «4» ، وذكر بعضهم أنه قديم معمر «5» ، أى أن مقاتلا ولد ما بين سنة 60- 70 هـ، فيكون عمره عند وفاته 90 أو 80 عاما.
حتى يكون قديما معمرا «6» .
وتذكر بعض الروايات أن مولد مقاتل بن سليمان كان قريبا من وفاة الضحاك ابن مزاحم الهلالي المتوفى عام 102 هـ أو 105 هـ «7» .
قال سليمان بن إسحاق الجلاب: سئل ابراهيم الحربي عن مقاتل بن سليمان هل سمع من الضحاك بن مزاحم شيئا؟ قال: لا، مات الضحاك قبل أن يولد مقاتل بأربع سنين «8» .
ويترتب على هذا الرأى أن مقاتلا، قد جادل جهم بن صفوان (المتوفى سنة 28 هـ) فى مسجد بلخ، كان جهم يذهب إلى نفى الصفات عن الله ومقاتل يذهب إلى إثباتها، ثم وقعت العصبية بينهما فألف كل واحد منهما كتابا ينقض على صاحبه
__________
(4) الكامل: 5/ 354، وتاريخ بغداد: 13/ 169.
وذكر الذهبي فى سير أعلام النبلاء، أنه مات سنة نيف وخمسين ومائة، وهو قول ضعيف.
فالمذكور فى كثير من المراجع أنه مات سنة 150 هـ.
وقد ذكر الذهبي نفسه فى ميزان الاعتدال: (قال وكيع: مات مقاتل بن سليمان سنة خمسين ومائة، وقيل بعد ذلك) . فالراجح أنه مات سنة 150.
والمراجع الحديثة: كالأعلام للزركلى ومعجم المؤلفين لعمر رضا كحالة ذكرت أنه مات سنة 150 هـ (767 م) .
(5) تهذيب التهذيب: 10/ 284، قال الخليلي محل مقاتل عند أصل التفسير محل كبير واسع لكن الحفاظ ضعفوه فى الرواية، وهو قديم معمر.
(6) يؤيد هذا رواية أخرى عن عبيد بن سليمان أن تفسير مقاتل عرض على الضحاك بن مزاحم- (توفى سنة 102 هـ أو سنة 105 هـ) - فلم يعجبه، قال فسر كل حرف (المقدسي فى تهذيب الكمال المجلد العاشر) ، فإذا فرضنا أن مقاتلا ولد سنة 60 هـ، كان عمره عند وفاة الضحاك 42 سنة.
لكن هناك روايات أخرى تفيد أنه ولد بعد وفاة الضحاك بأربع سنين. وروايات تفيد أن الضحاك مات ومقاتل صبي صغير، وهي روايات تحتاج إلى بحث ومناقشة.
(7) أنظر تاريخ وفاة الضحاك ومنزلته فى دائرة المعارف الاسلامية مادة تفسير، المجلد الخامس تعليق أمين الخولي: 350، والإتقان: 2/ 224، وشذرات الذهب: ج 1، وتذهيب الكمال: 136.
(8) تهذيب الكمال فى أسماء الرجال للمقدسي، المجلد العاشر مخطوط بدار الكتب المصرية رقم 25 مصطلح الحديث.(5/24)
فيه «9» ، وكان مقاتل ذا منزلة كبيرة ونفوذ واسع فى بلخ «10» ، وكان مقربا إلى سالم بن أحوز المازني- قائد نصر بن سيار فى خراسان، وبذلك استطاع مقاتل أن ينفى جهما إلى ترمذ «11» .
إذا علمنا هذا حق لنا أن نقول أن مقاتلا قد ولد قبل موت الضحاك بزمن غير قليل.
ثم أن رواية الجلاب عن ابراهيم الحربي بأن مقاتلا ولد بعد موت الضحاك بأربع سنين- يترتب عليها أن مقاتلا قد ولد سنة 106 أو سنة 109، أى أن عمر مقاتل عند وفاة جهم بن صفوان (المتوفى سنة 128 هـ) كانت تسعة عشر عاما، وهي سن لا تسمح لصاحبها بأن يكون صاحب نحلة ومذهب فى العقيدة، فضلا عن أن يكون مقربا الى القادة والحكام.
وقد ذكر المؤرخون «12» أن الحارث بن سريج- صاحب الراية السوداء- ثار على الحكم الأموى سنة 116 هـ/ 734 م، وسيطر على شرق خراسان وتحالف مع الأتراك.
ولما حاول سالم بن أحوز المازني قائد نصر بن سيار فى خراسان مفاوضة الحارث بن سريج- أوفد مقاتل بن سليمان لعرض الصلح عليه، وكان جهم بن صفوان يمثل الحارث بن سريج فى هذه المفاوضات «13» .
ومعنى هذا أن مقاتلا وجهما التقيا مرة أخرى فى حوار سياسي، وكان مقاتل يمثل أتباع الدولة الأموية، أما جهم فكان يمثل من خرج عليها.
وقد أخفقت ثورة الحارث بن سريج، وقتل جهم على يد سالم بن أحوز سنة 128 هـ/ 745 م «14» .
__________
(9) تهذيب الكمال فى أسماء الرجال، المجلد العاشر مخطوط.
(10) جهم بن صفوان: خالد العسلي مطبعة الإرشاد ببغداد سنة 1965: 64.
(11) ابن كثير، البداية والنهاية: 9/ 350. الذهبي، تاريخ الإسلام: 5/ 57، خالد العسلي جهم بن صفوان: 64 مطبعة الإرشاد- بغداد 1965.
(12) الطبري، تاريخ: 1/ 1570، 1577، 1583 وما بعدها، ابن كثير، البداية والنهاية 10/ 26.
(13) الطبري، تاريخ: 2/ 1919 ليدن، خالد العسلي. جهم بن صفوان: 59 مطبعة الإرشاد- بغداد 1965.
(14) الطبري. تاريخ: 2/ 1919، ابن الأثير، الكامل فى التاريخ: 5/ 127. وكان سالم على شرطة نصر بن سيار، الأخبار الطوال القاهرة 1960.
ويذكر ابن مأكولا أن الذي قتل جهما هو هلال بن أحوز، الإكمال: 1/ 32، خالد العسلي: جهم ابن صفوان: 67- بغداد 1965.(5/25)
وهذه الحقائق التاريخية تؤيد أن مقاتلا قد ولد قبل موت الضحاك (سنة 102 هـ) ، لأنه كان يفاوض أعداء بنى أمية حوالى سنة 120 هـ «15» ، فيجب أن يكون فى سن مناسبة للقيام بهذه المهمة الشاقة.
ويوى جويبر بن سعيد أن الضحاك بن مزاحم قد مات (102 هـ) ومقاتل صبي صغير «16» . أى أن مقاتلا قد ولد حوالى سنة 90 هـ، وهذا رأى وسط، الا أن جويبرا هذا شديد الضعف عند المحدثين.
كما أن وقائع التاريخ السابقة ترجح أن يكون مقاتلا قد ولد قبل سنة 90 هـ.
وقد رويت عن مقاتل عدة روايات يثبت فيها أنه لقى الضحاك بن مزاحم وأنه كان يقفل عليهما باب واحد «17» .
لكن الرواة حملوا ذلك على التعريض من مقاتل أو التدليس، فان الباب الذي كان يقفل عليه مع الضحاك هو باب المدينة، أو باب المقابر، ومقاتل بين الأحياء والضحاك بين الأموات.
وقد روى مقاتل عن عدد من شيوخ التابعين الذين ماتوا فى صدر القرن الثاني الهجري: مثل مجاهد بن جبر المكي المتوفى سنة 104 هـ، وعطاء بن أبى رباح المتوفى سنة 114 هـ «18» .
وإذا صحت روايته عنهما ترجح أن يكون ميلاده بين سنة (70- 80 هـ) لكن روايته عنهما منقطعة.
قال ابراهيم الحربي: (لم يسمع مقاتل من مجاهد شيئا ولم يلقه وانما جمع مقاتل تفسير الناس وفسر عليه من غير سماع) «19» .
__________
(15) لا نعرف وقت المفاوضة بالتحديد. وقد كانت ثورة الحارث بن سريج سنة 116 هـ، فرجحنا أن تكون المفاوضة حوالى سنة 120 هـ، على سبيل التقريب.
(16) تهذيب الكمال فى أسماء الرجال للمقدسي المجلد العاشر، وفى تهذيب التهذيب 10/ 280- 281: وقال أبو خالد الأحمر عن جويبر لقد مات الضحاك وأن مقاتلا له قرطان وهو فى الكتاب، وفى حاشية تهذيب التهذيب: قرطان: أى حلقتان فى آذان الأولاد الصغار. والكتاب كرمان ها هنا:
المكتب. [.....]
(17) تهذيب الكمال للمقدسي المجلد العاشر، وفى تاريخ بغداد: 13/ 165، أخبرنا عبد الرزاق قال سمعت ابن عيينة يقول: قلت لمقاتل: تحدث عن الضحاك وزعموا أنك لم تسمع منه؟ قال: كان يغلق على وعليه الباب، قال ابن عيينة: قلت فى نفسي: أجل باب المدينة.
(18) تاريخ بغداد: 13/ 160. المقدسي: تهذيب الكمال فى أسماء الرجال، المجلد العاشر، مخطوطة.
(19) المقدسي: تهذيب الكمال فى أسماء الرجال.(5/26)
وبعد هذه الروايات نتساءل متى ولد مقاتل؟
1- ان عبيد بن سليمان يذكر أن تفسير مقاتل عرض على الضحاك بن مزاحم (ت 102 هـ) فلم يعجبه: قال فسر كل حرف «20» .
أى أن مقاتلا قد ولد حوالى سنة 70 هـ حتى يمكنه أن يفسر القرآن فى حياة الضحاك.
2- والخليلي يذكر أن مقاتلا قديم معمر «21» . وقد مات مقاتل سنة 150 هـ.
أى أنه ولد حوالى سنة 70 هـ وبذلك يكون عمر مقاتل عند موته 80 عاما.
3- وابراهيم الحربي يذكر أن مقاتلا ولد بعد موت الضحاك (102 هـ) بأربع سنين «22» ، أى حوالى سنة 106 هـ.
4- وجويبر يقسم أن الضحاك قد مات ومقاتل صبي صغير «23» ، أى أن مقاتلا ولد حوالى سنة 90 هـ.
5- ومقاتل يذكر عن نفسه: أنه كان يذهب مع أبيه إلى الضحاك بن مزاحم «24» أى أن مقاتلا ولد حوالى سنة 85 هـ.
6- ويذكر المقدسي فى تهذيب الكمال: أن مقاتلا روى عن مجاهد بن جبر المكي (104 هـ) ، وعطية بن سعيد العوفى (111 هـ) ، وعطاء بن أبى رباح (114 هـ) .
أى أن مقاتلا ولد حوالى سنة 80 هـ.
7- ويذكر الذهبي «25» وابن كثير «26» والمقدسي فى تهذيب الكمال أن مقاتلا جادل جهم بن صفوان المتوفى سنة 128 هـ، ووضع كل منهما على صاحبه كتابا ينقض عليه فيه.
وينفرد الذهبي وابن كثير بذكر (أن مقاتلا كان مقربا لدى سالم بن أحوز حاكم بلخ واستطاع بذلك أن ينفى جهما من بلخ إلى ترمذ) .
أى أن مقاتلا ولد حوالى سنة 80 هـ، وبذلك يكون عمره عند مجادلة جهم فى صفات الله حوالى 40 عاما.
__________
(20) المرجع السابق.
(21) المرجع السابق، وتهذيب التهذيب المجلد العاشر.
(22) تهذيب الكمال للمقدسي، المجلد العاشر، وتاريخ بغداد: 13/ 163.
(23) تهذيب الكمال فى أسماء الرجال للمقدسي، المجلد العاشر. قال أبو خالد الأحمر عن جويبر ابن سعيد: لقد والله مات الضحاك وأن مقاتلا له قرطان وهو فى الكتاب.
(24) تهذيب الكمال للمقدسي المجلد العاشر، مخطوط: وتاريخ بغداد: 13/ 165.
(25) تاريخ الإسلام: 5/ 57.
(26) البداية والنهاية: 9/ 350.(5/27)
8- جاء فى أول تفسير مقاتل أنه روى عن سفيان. الثوري، مع أن مقاتلا أكبر من سفيان الثوري. والسبب فى ذلك أنّ مقاتلا عمر فكتب عن الصغار والكبار «27» .
كما روى عبد الرزاق بن همام الصنعاني أنه كان مع مقاتل بن سليمان فمر سفيان الثوري فقام الناس عن مقاتل إلى سفيان، قال عبد الرزاق: فاستحييت فجلست مع مقاتل «28» .
وقال عبد الله بن ثابت قلت لأبى لم كتب مقاتل عن سُفْيَان وَهُوَ أكبر منه؟
فَقَالَ إن مقاتلا عمر فكتب عن الصغار والكبار «29» .
قَالَ عَبْد اللَّه بن ثَابِت قَالَ أَبِي قال الهذيل بن حبيب: بذلك أخبرنى مقاتل «30» .
وقد توفى سفيان الثوري سنة 161 هـ (777 م) ، واختلف فى السنة التي ولد فيها على أربعة أقوال:
الأول: أنه ولد سنة 95 هـ. والثاني: 96 هـ. والثالث: 97 هـ. والرابع:
99 هـ. والصحيح المعتمد أنه ولد سنة 97 هـ «31» .
فإذا كان سفيان الثوري أصغر من مقاتل، وقد ولد سفيان سنة 97 هـ، فيكون ميلاد مقاتل بين 80، 85 هجرية.
وإذا علمنا أن مقاتلا قد مات سنة 150 هـ وهو معمر، ترجح لدينا أنه ولد سنة 80 هـ، بل ربما قبل هذه السنة.
ويذكر الطبري «32» : أن مقاتلا كان مندوبا عن سالم بن أحوز لمفاوضة الحارث ابن سريج (حوالى سنة 120 هـ) .
أى أنه ولد حوالى سنة 80 هـ، وبذلك يكون عمره عند مفاوضة الحارث بن سريج حوالى 40 عاما.
وأنا أرجح أنّ مقاتلا ولد حوالى سنة 80 هـ «33» .
__________
(27) تفسير مقاتل مخطوطة أحمد الثالث ج 1 ورقة 1 أ، وانظر تحقيقي له: 1/ 5.
(28) تاريخ بغداد: 13/ 165. تهذيب الكمال، المجلد العاشر، ترجمة مقاتل.
(29، 30) تفسير مقاتل أ: ورقة 1، انظر تحقيقي له: 1/ 25.
(31) نص على ذلك الجزري، فى غاية النهاية: 1/ 308، وانظر تفسير القرآن للإمام سفيان الثوري (مقدمة المصحح: 11) طبع الهند ستة 1965 م. [.....]
(32) تاريخ: 1919، ليدن.
(33) ان دراستي لمقاتل وعصر مقاتل والأحداث التي دارت خول مقاتل تؤيد هذا الرأى وهو مجرد اجتهاد.(5/28)
وأرى أنه لم يولد سنة 80 هـ، لأنه يبعد أن تكون سنه عند المفاوضة أقل من 40 سنة، الى جوار أنه ألف الكتب «34» وفسر القرآن، أو فسر جزءا كبيرا منه على الأقل قبل هذه المفاوضة «35» .
البلاد التي نشأ فيها مقاتل
(خراسان)
نشأ مقاتل فى مدينة بلخ ثم تحول إلى مرو، وكلتاهما من أشهر مدن خراسان.
وإليك تعريفا بهذه البلاد التي نشأ فيها مقاتل وتأثر بثقافتها ونحلها.
1- خراسان:
«هي من أخصب بلاد المشرق وأوسعها، يحدها من الشرق الشمالي ما وراء النهر، ومن الشرق الجنوبي بلاد السند وسجستان، ومن الشمال خوارزم وبلاد الغز فى تركستان، ومن الجنوب فارس «36» » .
وكانت خراسان فى القرن الثاني والثالث والرابع الهجري من أهم مراكز الحياة الفكرية فى بلاد الإسلام، وظهر منها كبار المحدثين، وعدد من المفسرين والفقهاء، حتى قال البكري: «ومنهم العلماء والنبلاء والمحدثون والنساك والمتعبدون. وأنت إذا أحصيت المحدثين فى كل بلد وجدت نصفهم من خراسان «37» » .
«وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قلت لأبى: يا أبى ما الحفاظ؟ قال: يا بنى شباب كانوا عندنا من أهل خراسان وقد تفرقوا. قلت: من هم يا أبت؟ قال: محمد ابن إسماعيل، ذلك البخاري، وعبد الله بن عبد الكريم، ذلك الرازي، وعبد الله بن عبد الرحمن، ذلك السمرقندي، والحسن بن شجاع، ذاك البلخي «38» » .
__________
(34) الذهبي، تاريخ: 5/ 57، وابن كثير، البداية والنهاية: 9/ 350، والمقدسي، تهذيب الكمال مخطوط، حيث يذكرون أنّ مقاتلا قد جادل جهم بن صفوان ووضع كلا منهما على صاحبه كتابا ينقض على صاحبه فيه.
(35) تهذيب الكمال، المجلد العاشر، ترجمة مقاتل، مخطوط بدار الكتب المصرية، حيث يذكر أن مقاتلا تحول من بلخ إلى مرو فأقام بها وتزويج منها وأملى تفسيره بها، ومعنى هذا أنّ مقاتلا فسر القرآن قبل رحيله من خراسان إلى العراق.
(36) جورجى زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي: 2/ 50.
(37) البكري، معجم ما استعجم: 490 القاهرة عام 1945.
(38) ياقوت، معجم البلدان: 1/ 713.(5/29)
وقد عظم شأن خراسان فى دولة بنى العباس، وزاد الخراج بها زيادة كبيرة حتى وصل إلى 000/ 000/ 40 درهم إذا أضيف إلى خراج العراق بلغ نصف جباية المملكة. «وكثيرا ما كان الخلفاء يعدون خراسان المملكة كلها «39» » .
2- بلخ:
ولد مقاتل فى مدينة بلخ ونشأ بها، وشاهد معابدها وأديانها المتعددة، وكان لذلك أثره فى ثقافته، خصوصا فى مذهبه الشاذ الذي يقول بالتجسيم والتشبيه، وإليك تاريخ هذه المدينة.
بلخ قبل الإسلام:
تقع بلخ على نهر جيحون، ولذلك يقال لجيحون نهر بلخ وهي من أجل مدن خراسان «40» .
«وكانت بلخ مركزا للحضارة الاغريقية، بصفتها مقر ملوك بكتريا من الاغريق» .
«وفى عهد الاكمينين كانت بلخ مدينة مقدسة للديانة الزرادشتية، ثم انتشرت بها الديانة البوذية أيام ملوك الكوشانيين «41» » .
«وظلت الزرادشتية جنبا إلى جنب مع البوذية إلى الفتح العربي كما كان مع هذين الدينين المانوية والمسيحية والنسطورية، ومع هذا فقد كانت البوذية هي الغالبة، وكان الحجاج من جميع البلدان ومن بينهم كثير من الصينيين يقصدون الى «نوبهار» المعبد البوذى، وهو معبد هائل كبير وكان لبرمك سادن نوبهار المكانة العليا فى بلخ أيام الفتح العربي، وقد انحدر من هذه الأسرة الكهنوتية أسرة البرامكة الوزراء فى الدولة العباسية «42» » .
الفتح الإسلامي لبلخ:
قبل الإسلام كانت بلخ مركزا لديانات متعددة ولذلك فقد قامت بسلسلة من أعمال التمرد بعد الفتح الإسلامي لها.
__________
(39) ابن حوقل: 345. جورجى زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي: 2/ 81 وزاد قوله: (وعاصمة خراسان نيسابور، ومدن خراسان كثيرة وبلادها آهلة وتربتها خصبة، وكان للمسلمين فيها ارتفاع عظيم. وكان يقال: اما العراق فللمال، وأما خراسان فللمال والرجال، وأما الحجاز فهو مصدر الثقة فى الخلافة والبيعة) .
(40) ياقوت، معجم البلدان: 1/ 713.
(41) دائرة المعارف الاسلامية: 4/ 78، وتضيف أنها كانت القصبة السياسية لولاية خراسان القديمة ثم أصبحت المركز الثقافى والديني لمملكة طخارستان.
(42) دائرة المعارف الاسلامية: 4/ 79: مادة بلخ، وثمة خطأ فى استعمال كلمة هائل، لأن اللغة العربية لا تعرفها الا بمعنى مفزع.(5/30)
1- وأول من فتح بلخ من العرب هو الأحنف بن قيس سنة 32 هـ (253 م) فى خلافة عثمان بن عفان.
2- وبعد مقتل عثمان تمردت بلخ وما جاورها من المدن حتى استعادها قيس ابن الهيثم- وإلى معاوية على خراسان- سنة 42 هـ.
ودمر قيس معبد بلخ، وعقد صلحا مع أهلها، وصلحا مماثلا مع المدن المجاورة لها.
3- وأخيرا استطاع قتيبة بن مسلم أن يضع حدا نهائيا لتجرد هذه البلاد، فأعاد فتحها سنة 90 هـ، واستطاع قتيبة أن يمد فتوحاته إلى كل بلاد ما وراء النهر «43» .
ولم يكتف قتيبة بالفتح بل دعا السكان إلى الدخول فى الإسلام وترك عبادة الأصنام فأجابوه أنّ لهم أصناما من اعتدى عليها أو استخف بها هلك.
فدخل قتيبة على الأصنام فأباح حليها لجنده، وكبها على وجوهها بيده وحرقها ولم يصبه سوء بطبيعة الحال، وكان ذلك مما سبب دخول كثير من سكان بلخ وما حولها فى الإسلام «44» .
وفى عام 107 هـ أمر أسد القسري عامل خراسان باعادة بناء مدينة بلخ التي دمرتها الحروب، ونقل مقر الحكم من مرو الروذ إليها.
وفى حوالى سنة 130 هـ قام أبو مسلم الخراساني بالدعوة للعباسيين وكانت بلخ أول مركز لدعوته.
تلك هي مدينة بلخ التي نشأ فيها مقاتل وتأثر بتاريخها وأديانها ومذاهبها، وينسب إلى بلخ خلق كثير من العلماء والفقهاء «45» .
أما بلخ الآن فتقع ضمن مملكة أفغانستان. ولا تزيد بيوتها على خمسمائة
__________
(43) الطبري، تاريخ: 5/ 214، 215، 218، 223، 225، 226، 241، البلاذري: 396 و 409- 411. د. أحمد شلبى، التاريخ الإسلامي، الدولة الأموية. دائرة المعارف الاسلامية 4/ 79. ياقوت: 1/ 713، وأورد قول عبيد الله بن عبد الله الحافظ حين ذهب إلى بلخ:
أقول وقد فارقت بغداد مكرها ... سلام على أهل القطيعة والكرخ
هواى ورائي والمسير خلافه ... فقلبي إلى كرخ ووجهى إلى بلخ
(44) البلاذري، فتوح البلدان: 411. د. أحمد شلبى: التاريخ الإسلامي- الدولة الأموية:
128.
(45) منهم محمد بن الفضل، وقتيبة بن سعيد، وأبو صالح كاتب الليث بن سعد وأبو زرعة الرازي.. (ياقوت: 1/ 713) . [.....](5/31)
بيت، ولا تمت بصلة كبيرة إلى المدينة القديمة التي كان العرب يطلقون عليها (أم البلاد) «46» ، وبها مزار شريف «للإمام على» رضى الله عنه «47» .
3- مرو الشاهجان:
هذه مرو العظمى «48» أشهر مدن خراسان والنسبة إليها مروزي على غير قياس. وبين مرو ونيسابور سبعون فرسخا.
ومن مرو إلى بلخ مائة واثنان وعشرون فرسخا.
وقد أخرجت مرو من الأعيان وعلماء الدين أحمد بن حنبل وسفيان الثوري وغيرهم.
وقد زارها ياقوت «فرآها مدينة عظيمة بها كتب كثيرة وعشر خزائن لكتب الوقف» .
وبها قبور أربعة من الصحابة «49» وقد تحول مقاتل من بلخ إلى مرو فأقام بها وتزوج منها «50» .
وقد نسب مقاتل إلى بلخ ومرو وخراسان، فذكرته كتب التراجم بقولها: مقاتل ابن سليمان البلخي «51» المروزي «52» الخراساني «53» .
ومقاتل رجل طلعة نابغة صاحب ذكاء وفراسة ومعرفة، وقد تأثر بما دار حوله.
فقد ولد مقاتل فى بلخ ونشأ بها، ورأينا أن بلخ كانت مدينة الديانات. فقد كان فيها الزرادشتية والبوذية والمانوية والمسيحية، وظلت هذه الديانات متجاورة إلى الفتح العربي، وأن كانت الغلبة للبوذيين (الهندوكش) .
__________
(46) دائرة المعارف الاسلامية: مادة بلخ: 4/ 81.
(47) ياقوت: 1/ 713، 4/ 817، ومن العجيب أنّ هذا المزار لم ينشأ الا فى القرن السادس الهجري ظلت بلخ مدينة المعابد والمزارات المقدسة.
(48) تمييزا لها عن مرو الروز، وبينهما خمسة أيام. ولفظ مرو معناه الحجارة البيض التي يقتدح بها.
(49) ياقوت: 4/ 507، وقد ذكر أسماء ثلاثة من الصحابة رأى قبورهم بمرو وهم: بريدة بن الحصيب، والحكم بن عمر الغفاري، وسليمان بريدة.
(50) تهذيب الكمال المجلد العاشر، ترجمة مقاتل، مخطوط بدار الكتب المصرية.
(51) تهذيب التهذيب: 10/ 279- الجرح والتعديل للرازي: 4/ 355- تهذيب الكمال: المجلد العاشر- الأعلام: 8/ 206.
(52) معجم المؤلفين: 12/ 317.
(53) تهذيب التهذيب: 10/ 279- تهذيب الكمال: المجلد العاشر، معجم المؤلفين: 12/ 217.(5/32)
وقد نسب إلى مقاتل القول بالتجسيم والتشبيه بل ادعى بعضهم أنه قال:
(ان الله جسم وأنه جثة «54» على صورة الإنسان لحم ودم وشعر وعظم له جوارح وأعضاء من يد ورجل ورأس وعينين مصمت وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه «غيره» «55» .
ثم قال: (لأنا لم نشاهد شيئا موسوما بالسمع والبصر والعقل والعلم والحياة والقدرة الا ما كان لحما ودما) «56» .
ويظهر فى هذا القول أثر الوثنية المشبعة بالفلسفة الاغريقية، وأثر النصرانية المحرفة التي تدعى حلول اللاهوت فى الناسوت «57» . تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
مقاتل فى العراق
ولد مقاتل فى بلخ ثم تحول إلى مرو، وكانت له منزلة فى خراسان حتى كان يتوسط فى الصلح بين أمراء خراسان والخارجين عليهم.
وقد تحول مقاتل إلى العراق فنزل بالبصرة، ودخل بغداد فحدث بها، ثم عاد الى البصرة وتوفى فيها سنة 150 هـ «58» .
وإذا كنا لم نعثر على السنة التي ولد فيها مقاتل وترجح لدينا أنها سنة 80 هـ- فانا كذلك لم نعثر على السنة التي تحول فيها مقاتل إلى العراق، ولعل مقاتل تحول إلى العراق عند ما أحس بأفول نجم الدولة الأموية، وظهور دعوة أبى مسلم الخراساني فى خراسان. أى فيما بين سنة 130 هـ، 136 هـ.
نزل مقاتل فى البصرة، وهي ثانى مدن العراق فى ذلك الوقت، وفى العراق الملل والنحل والأهواء، وقد كان موطنا لديانات قديمة. كان السريان قد انتشروا
__________
(54) مقالات الاسلاميين للأشعرى: 1/ 152- طبعة فيسبادن سنة 1963، وقد ذكر قول مقاتل (بأن الله جسم وأن له جمه) وفى الغنية صفحة 65 وأنه جثة على.. إلخ وهو أشبه.
(55) مقالات الاسلاميين: 1/ 102، الإيجي فى المواقف: 273، البدء والتاريخ: 1/ 80، الحور العين: 144. الفرق والتاريخ: 118. البزدوى، أصول الدين: 21.
(56) الحور العين، تحقيق كمال مصطفى: 144 مطبعة السعادة سنة 1948- القاهرة.
(57) الحور العين: حيث نقل أقوال فرق النصارى عن الامام فخر الدين الرازي.
(58) تاريخ بغداد: 13/ 169- تهذيب الكمال: المجلد العاشر مخطوط معجم المؤلفين 12/ 317.(5/33)
فيه وأنشئوا لهم مدارس به قبل الإسلام، وكانوا يدرسون فيها فلسفة اليونان وحكمة الفرس، وكان فى العراق قبل الإسلام مذاهب نصرانية تتجادل فى العقائد، وكان العراق بعد الإسلام مزيجا من أجناس مختلفة، وكان فيه اضطراب وفتن.
وفيه آراء تتضارب فى السياسة وأصول العقائد، ففيه الشيعة، وفى باديته الخوارج، وفيه المعتزلة، وفيه تابعون مجتهدون حملوا علم من لقوا من الصحابة، فكان فيه علم الدين سائغا مورودا، وفيه النحل المتنازعة والآراء المتضاربة «59» .
وقد أقام فى البصرة، وكان أصحاب الخصومات والجدل أكثرهم بالبصرة وكان مقاتل معاصرا لأبى حنيفة النعمان رضى الله عنه. قال أبو حنيفة «دخلت البصرة نيفا وعشرين مرة منها، أقيم سنة، وأقل وأكثر، وكنت نازعت طبقات الخوارج من الاباضية والصفرية وغيرهم، وكنت أعد الكلام أفضل العلوم..»
وقد ذم أبو حنيفة مقاتلا لغلوه فى التشبيه والتجسيم، فقال: «أتانا من المشرق رأيان خبيثان: جهم معطل، ومقاتل مشبه «60» » .
وكانت البصرة من أهم مراكز العراق فى العهد الأموى والعباسي، وكان التنافس شديدا بينهما وبين الكوفة.
يفخر أبناء كل مصر منهما بمفاخره، ويعدد مثالب المصر الآخر.
فخر الكوفيون على البصريين بأنهم ناصروا على بن أبى طالب يوم الجمل، وكان معه من الكوفيين تسعة آلاف رجل، كما افتخروا بمسجدهم العظيم، ومجاورتهم للفرات.
وفخر البصريون بعظمائهم كالأحنف بن قيس، وقتيبة بن مسلم، وفخروا بأنس ابن مالك خادم رسول الله، وبالحسن البصري سيد التابعين، وبابن سيرين.
كما فخر البصريون بأنهم «أكثر أموالا وأولادا، وأطوع للسلطان، وأعرف برسول الإسلام «61» » .
وقد تميز كل مصر بميزة من الميزات فى عصر مقاتل، فتميزت البصرة بالجدل وعلم الكلام، وبالمناظرات والقصص. وقد ظهر فى البصرة كثير من الفرق، وأهم فرق المعتزلة كانت بالبصرة.
قال الأستاذ أحمد أمين: «ومدرسة المعتزلة تنقسم إلى فرعين كبيرين: فرع البصرة وفرع بغداد. وفرع البصرة أسبق فى الوجود، وله الفضل الأكبر فى تأسيس المذهب، وأكثر استقلالا فى رأيه» «62» .
وإليك بيانا مجملا لأشهر رجال المعتزلة فى البصرة:
__________
(59) محمد أبو زهرة، أبو حنيفة: 18. [.....]
(60) تهذيب التهذيب: 10/ 281.
(61) أحمد أمين، ضحى الإسلام: 2/ 80.
(62) ضحى الإسلام: 3/ 96.(5/34)
شيخ أبى الحسن الأشعري
رحل مقاتل إلى البصرة وهي تزخر بكثير من الفرق، وكان مقاتل يقول بإثبات الصفات، وغلا فى ذلك حتى أوهم التشبيه والتجسيم.
ولعل غلوه هذا كان فى مقابلة غلو الجهمية والمعتزلة فى القول بنفي الصفات عن الله تعالى «63» .
قضى مقاتل الجزء الأخير من حياته في العراق، وقد وصل أسبابه بالخلفاء العباسيين فى العراق، كما كانت أسبابه موصولة بأمراء بنى أمية فى خراسان من قبل.
كان مقاتل على صلة بأبى جعفر المنصور، «وروى أنّ أبا جعفر كان جالسا فألح عليه ذباب يقع على وجهه، وألح فى الوقوع مرارا حتى أضجره، فقال انظروا من
__________
(63) انظر، أحمد أمين، فجر الإسلام: 297.(5/35)
بالباب، قيل: مقاتل بن سليمان فقال: على به. فلما دخل عليه قال له: هل تعلم لماذا خلق الله الذباب؟ قال له: نعم، ليذل به الجبارين» «64» .
وقد حاول مقاتل أن ينزلف إلى خلفاء بنى العباس فعرض عليهم أن يضع لهم أحاديث منتحلة.
«عن منصور الكاتب، عن أبى عبيد الله قال، قال لي أمير المؤمنين المهدى: لما أتانا نعى مقاتل اشتد ذلك على فذكرته لأمير المؤمنين أبى جعفر فقال لا يكبر عليك فانه كان يقول لي أنظر ما تحب أن أحدثه فيك حتى أحدثه» 6» .
وذكروا أنّ مقاتلا قال للمهدى: «ان شئت وضعت لك أحاديث فى العباس، فقال المهدى: «لا حاجة لي فيها» «66» .
انتقل مقاتل من البصرة إلى بغداد، وكانت بغداد إذ ذاك عاصمة الخلافة، وقد كثر علماؤها والراحلون إليها، حتى ألف الخطيب البغدادي كتابه «تاريخ بغداد» ضمنه من تراجم علمائها وزهادها وأدبائها نحوا من 7831 ترجمة. قال الجاحظ:
«ان الدنيا كلها معلقة ببغداد وصائرة إلى معناها.. وجميع الدنيا تبع لها وكذلك لأهلها» .
وكان مقاتل فى بغداد علما مشهورا يجالس الخلفاء ويسأله الأمراء، كما اشتهر بسعة معارفه وكثرة معلوماته.
جاء فى تهذيب التهذيب: «ومما يدل على سعة علم مقاتل ما قرأت بخط يعقوب النميري قال: حدثني أبو عمران بن رباح عن سركس قال: خرجت مع المهدى إلى الصيد وهو ولى عهد، إذ رمى البازي ببصره، فنظر البازي إلى، فكرر ذلك، فقال لي المهدى:
أطلقه، فأطلقته، فغاب فلم ير له أثر فأقام المهدى بمكانه بقية يومه وليلته، فلما أصبح أرسل من يفحص له عن خبره فنظر فإذا خيال فى الجو، ثم جعل يقرب حتى بان أنه البازي، فنزل وفى مخالبه حية بيضاء لها جناحان، فأخذها المهدى وصار بها الى المنصور، فتعجب منها ثم قال على بمقاتل بن سليمان فأحضر فقال له: ما يسكن هذا الجو من الحيوان؟ قال: أقرب من يسكنه حيات ذوات أجنحة تفرخ فى أذنابها، ربما صاد الشيء منها البزاة. فعجب المنصور من سعة علمه» «67» .
وقد طار صيت مقاتل فى قوله بإثبات الصفات ومبالغته فى ذلك حتى سأل الخليفة مقاتلا فقال له: بلغني أنك تشبه فقال: انما أقول: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ
__________
(64) تهذيب الكمال فى اسماء الرجال للمقدسي، المجلد العاشر مخطوط.
(65) تهذيب الكمال فى اسماء الرجال للمقدسي، المجلد العاشر مخطوط.
(66) تاريخ بغداد: 13/ 167.
(67) ابن حجر، تهذيب التهذيب: 10/ 284- 285.(5/36)
فمن قال غير ذلك فقد كذب «68» .
ثم عاد مقاتل من بغداد إلى البصرة، وبقي بها حتى مات سنة 150 هـ «69» .
وقد جاء فى تفسير مقاتل أسماء من مات من الصحابة بالبصرة، وكانت البصرة فى حياة مقاتل تقابل بالدنيا «70» .
وكان بالبصرة خطة بنى أسد، وهم بنو أسد بن شريك بن مالك، وكان مقاتل من مواليهم بالبصرة «71» .
مقاتل فى مكة وبيروت
قضى مقاتل نصف حياته الأول فى خراسان، والنصف الأخير فى العراق.
وقد رحل مقاتل إلى بلاد أخرى، غير أنّ إقامته لم تطل بها. فقد رحل مقاتل الى مكة، وطلب من الناس أن يسألوه عما دون العرش، فقام اليه قيس القياس فقال: من حلق رأس آدم فى حجته؟ قال مقاتل: لا أدرى. فقال السائل: وهذا ما دون العرش «72» .
كما جلس مقاتل فى مسجد بيروت فقال: لا تسألونى عن شيء ما دون العرش ألا أنبأكم عنه. فقال الأوزاعى لرجل: قم اليه فسله: ما ميراثه من جدتيه؟ فحار ولم يكن عنده جواب فما بات فيها الا ليلة ثم خرج بالغداة «73» .
وقد تكررت الحادثتان السابقتان فى العراق وخراسان، وهذا يدل على جرأة مقاتل وجسارته، وأنّ هذا النوع من الرجال لا يعجب أهل الحجاز، لاتباعهم للأثر، وتوقفهم عند النصوص. ولا يرضى أهل الشام وفيهم الأوزاعى «الذي جمع العبادة والعلم والقول الحق» .
وله مذهب فى الفقه وبعد أميل إلى مدرسة الحديث منه إلى مدرسة الرأى. وقد نقلت عنه أقوال فى ذم أهل العراق ورأيهم «74» . كما كان الأوزاعى يكره الكلام فى القدر وصفات الله ويعده ابتداعا «75» .
__________
(68) تهذيب الكمال: المجلد العاشر مخطوط، تهذيب التهذيب: 10/ 283.
(69) تاريخ بغداد: 13/ 169.
(70) أحسن التقاسيم: 113.
(71) ابن دريد: الاشتقاق: تحقيق عبد السلام هارون ص 501- مطبعة السنة المحمدية سنة 1958.
(72، 73) تهذيب الكمال المجلد العاشر مخطوط، تاريخ بغداد: 13/ 166.
(74) انظر ما فى الخطيب البغدادي- تاريخ بغداد- ترجمة أبى حنيفة. [.....]
(75) أحمد أمين: ضحى الإسلام: 2/ 100.(5/37)
فلا عجب ان كره الأوزاعي «76» وجود مقاتل فى الشام، وان أخرجه باسئلته حتى خرج منه.
وإذا كان مقاتل لم يوفق فى مكة ولا فى بيروت- فان حياته فى خراسان وفى العراق كانت احسن حالا، ففي هذه البلاد ملل ونحل، وآراء وأفكار، فمن اليسير عليها قبول آراء مقاتل.
ولذلك قالوا: (من أراد المناسك فعليه باهل مكة، ومن أراد مواقيت الصلاة فعليه باهل المدينة، ومن أراد السير فعليه باهل الشام، ومن أراد شيئا لا يعرف حقه من باطله فعليه باهل العراق) «77» .
لقد اتسع العراق لكثير من الفرق والنحل فى القديم والحديث، ففي ربوعه كان الشيعة معتدلوهم وغلاتهم، وفيه كان المعتزلة والجهمية والقدرية والمرجئة وغيرهم.
بل كان العراق من قديم الزمن محلا للنزعات العقلية والمتضاربة.
ولقد قال ابن ابى الحديد فى شرح نهج البلاغة فى صدد بيان السبب فى منشإ الفرق الغالية من الشيعة فى العراق ما نصه: «ومما ينقدح لي فى الفرق بين هؤلاء القوم (الروافض) وبين الذين عاصروا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن هؤلاء من العراق، وساكني الكوفة، وطينة العراق ما زالت تنبت ارباب الأهواء، واصحاب النحل العجيبة، والمذاهب البديعة، واهل هذا الإقليم اهل بصر وتدقيق ونظر وبحث عن الآراء والعقائد وشبه معترضة المذاهب، وقد كان منهم فى ايام الاكاسرة مثل مانى وديصان ومزدك، وغيرهم، وليست طينة الحجاز هذه الطينة، ولا أذهان اهل الحجاز هذه الأذهان» «78» .
«وترى ان العراق كان مزدحم الآراء فى المعتقدات، فى الإسلام وفى القديم، وذلك لأنه كان يسكنه منذ القدم عدة طوائف من نحل مختلفة، والمذاهب التي نشأت به فى القديم يبدو فيها اختلاط العقائد المتضاربة، فالديصانية والمانوية ليست الا مزجا لتنويه المجوس بالمبادئ النصرانية، وهكذا ترى فيه مما ظهر من النحل المختلفة، وفى استنباط، عقيدة من عقيدتين او عدة عقائد» «79» .
__________
(76) الأوزاعي- هو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عربي يمنى ولد سنة 88 ببعلبك وذهب الى اليمامة وسمع من شيوخها ورحل الى مكة وأخذ العلم عن عطاء بن ابى رباح وابن شهاب الزهري، ورحل الى البصرة وسمع من شيوخها ثم نزل دمشق ثم بيروت ومات بها سنة 157 هـ. وقد التقى بمقاتل فى مسجد بيروت (ضحى الإسلام: 2/ 98، تاريخ بغداد: 13/ 166) .
(77) احمد أمين: ضحى الإسلام 2/ 84، الطبعة السادسة.
(78) انظر محمد ابو زهرة: (ابو حنيفة) : 82.
(79) محمد ابو زهرة: (ابو حنيفة) : 82- 83.(5/38)
هذا هو العراق الذي اقام فيه مقاتل الشطر الأخير من حياته، واستطاع ان يقول (ان الله لحم ودم..) ان صدقت نسبتها اليه، كما استطاع ان يبالغ فى اثبات الصفات لله، وان يميل الى الشيعة ويقول بالارجاء.
واستطاع مقاتل ان يملى تفسيره للقرآن الكريم، وان يجد سبيله الى حلقات العلم فى بغداد وغيرها من مدن العراق.
ومن المصادفات انى كتبت هذه السطور فى العراق الشقيق، ولا يزال للآن ينبت ارباب الأهواء والمذاهب المختلفة، والنحل العجيبة، والأفكار الغريبة.(5/39)
الباب الثاني مقاتل وعلم الحديث
1- اتهام مقاتل.
2- كذب مقاتل.
3- الادلة على كذب مقاتل.
4- مقاتل المدلس.
5- رجال روى عنهم.
6- رجال أخذوا عنه.
7- الرواية عن مقاتل.
8- الثناء على مقاتل، تقويم هذا الثناء.(5/41)
1- اتهام مقاتل جرح رجال الحديث مقاتلا واتهموه بالكذب والوضع:
قال يحيى بن معين: ليس حديثه بشيء، ليس بثقة.
وقال محمد بن سعد: اصحاب الحديث ينقون حديثه وينكرونه.
وقال البخاري: منكر الحديث سكتوا عنه.
وقال عنه ايضا: «لا شيء البتة» .
وقال النسائي: كذاب.
وقال النسائي ايضا: الكذابون المعروفون بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم اربعة: ابراهيم بن ابى يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بن سليمان بخراسان، ومحمد بن سعيد (ويعرف بالمصلوب) بالشام.
وقال ابو حاتم بن حيان: كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الذي يوافق كتبهم، وكان مشبها يشبه الرب عز وجل بالمخلوقين وكان يكذب مع ذلك فى الحديث.
وقال زكريا بن يحيى الساجي: قالوا: كان كذابا متروك الحديث.
وقال ابو احمد بن عدى: عامة حديثه مما لا يتابع عليه، على ان كثيرا من الثقات والمعروفين قد حدث عنه ومع ضعفه يكتب حديثه «1» .
2- كذب مقاتل
مما سبق ترى ان رجال الحديث اسقطوا مقاتلا المحدث وحكموا عليه باقسى انواع الحكم. وهو الكذب.
قال الخطيب البغدادي: أعلى العبارات فى التعديل والتجريح ان يقال «حجة» او «ثقة» وأدناها ان يقال «كذاب» «2» .
__________
(1) هذه الأقوال كلها فى تهذيب الكمال المجلد العاشر مخطوط، وقارن بتهذيب التهذيب:
10/ 284، وتاريخ بغداد: 13/ 160، ومعنى يكتب حديثه اى ليعرف الناس انه حديث ضعيف او ليتقوه.
(2) الحافظ ابن كثير: الباعث الحثيث: 105، تحقيق احمد شاكر ط 3.(5/43)
اما قول البخاري عن مقاتل «منكر الحديث سكتوا عنه» فان مدلولها- اتهام مقاتل بالكذب وانه لا تخل الرواية عنه.
«فان البخاري إذا قال فى الرجل سكتوا عنه او فيه نظر فانه يكون فى ادنى المنازل واردئها عنده، ولكنه لطيف العبارة فى التجريح» «3» .
وكذلك قوله منكر الحديث، فانه يريد به الكذابين، ففي الميزان للذهبى «نقل ابن اليقظان ان البخاري قال: كل من قلت فيه منكر الحديث فلا تحل الرواية عنه» «4» .
3- الادلة على كذب مقاتل
ان تاريخ مقاتل حافل بادلة هذا الاتهام.
فقد مر علينا انه حاول ان يتقرب الى الخلفاء العباسيين بوضع الأحاديث.
حكى ابو عبيد الله وزير المهدى قال: «قال لي المهدى: الا ترى الام يقول لي هذا- يعنى مقاتلا-؟ قال: إذا شئت وضعت لك أحاديث فى العباس قلت لا حاجة لي فيها» «5» .
وقال البخاري قال ابن عيينة سمعت مقاتلا يقول ان لم يخرج الدجال الأكبر سنة خمسين ومائة فاعلموا انى كذاب «6» .
ولما لم يخرج الدجال تحقق الجواب وهو كذب مقاتل.
وحكى ابو عبيد وزير المهدى قال: قال لي امير المؤمنين المهدى لما أتانا نعى مقاتل اشتد ذلك على فذكرته لأمير المؤمنين ابى جعفر فقال: لا يكبر عليك فانه كان يقول انظر ما تحب ان أحدثه فيك حتى أحدثه «7» .
وقال العباس بن الوليد بن مزيد عن أبيه: سالت مقاتل بن سليمان عن أشياء فكان يحدثني بأحاديث كل واحد ينقض الآخر فقلت بأيها آخذ؟ قال: بأيها شئت «8» .
__________
(3) المرجع السابق: 106.
(4) ج 1 ص 5، وانظر الباعث: 106 هامش.
(5) ابن كثير- اختصار علوم الحديث تحقيق احمد شاكر ط 3: 86 هامش، تهذيب التهذيب:
10/ 283، تاريخ بغداد: 13/ 167.
(6) تهذيب التهذيب: 10/ 283.
(7) تهذيب الكمال المجلد العاشر: (مقاتل بن سليمان) .
(8) تهذيب الكمال: المجلد العاشر: ترجمة مقاتل بن سليمان، مخطوط بدار الكتب المصرية.(5/44)
وقال عبد الله بن ابى القاضي الخوارزمي: سمعت اسحق بن ابراهيم الحنظلي يقول:
«أخرجت خراسان ثلاثة لم يكن لهم فى الدنيا نظير- يعنى فى البدعة والكذب- جهم بن صفوان، وعمرو بن صبيح، ومقاتل بن سليمان» «9» .
وقال ابو إسماعيل الترمذي عن عبد العزيز الأويسي: حدثنا مالك انه بلغه ان مقاتلا جاءه انسان فقال له: ان إنسانا سألني ما لون كلب اصحاب الكهف فلم أدر ما أقول له قال له مقاتل: الا قلت هو ابقع فلو قلته لم تجد أحدا يرد عليك قولك. قال ابو إسماعيل وسمعت نعيم بن حماد يقول: أول ما ظهر من مقاتل من الكذب هذا. قال للرجل يا مائق لو قلت اصفر او كذا او كذا من كان يرد عليك؟.
يتضح لنا ان مقاتلا ليس كذابا فقط، بل هو صاحب مدرسة فى تعليم الكذب فهو يلقن من سأله عن لون كلب اصحاب الكهف ان يقول اصفر او كذا او كذا، اى يلقنه طريقة الكذب والاختلاق وعدم التثبت.
بينما كان الائمة يعلمون تلاميذهم التثبت.
قال مالك ينبغي ان يورث العالم جلساءه قول لا أدرى حتى يكون ذلك أصلا فى أيديهم يفزعون اليه، فإذا سئل أحدهم عما لا يدرى قال لا أدرى.
وقد عاتب الله موسى حين ظن انه اعلم الناس، فأمره ان يسير الى العبد الصالح، ليعلم انه (فوق كل ذى علم عليم) .
فإذا كان أول ما ظهر عن مقاتل من الكذب هو تلقينه للسائل ان يخترع لونا لكلب اهل الكهف. فان هذا لم يكن آخر ما علم عن مقاتل من الكذب فقد عرف عنه الكذب فى اكثر من موضع. قال فى التدريب: «فان الله تعالى اجرى العادة انه لا يفضح أحدا من أول مرة، فالظاهر تكرر ذلك منه «10» » .
قال على بن خشرم عن وكيع بن الجراح: أردنا ان نرحل الى مقاتل بن سليمان فقدم علينا فاتيناه فوجدناه كذابا فلم نكتب عنه «11» .
4- مقاتل المدلس
إذا ثبت على مقاتل الكذب كان هينا ثبوت التدليس، فالتدليس أخف من الكذب.
__________
(9) المرجع السابق. [.....]
(10) الباعث الحثيث: 102 هامش.
(11) تهذيب الكمال، المجلد العاشر: ترجمة مقاتل بن سليمان مخطوط.(5/45)
والتدليس قسمان:
أحدهما ان يروى عمن لقيه ما لم يسمعه، او يروى عمن عاصره ولم يلقه موهما انه سمع منه «12» .
فمن الاول رواية مقاتل عن الكلبي ما لم يسمعه منه.
ومن الثاني رواية مقاتل عن مجاهد مع انه لم يلق مجاهدا.
واما القسم الثاني من التدليس: فهو الإتيان باسم الشيخ او كنيته على خلاف المشهور به تعمية لأمره وتوعيرا للوقوف على حاله «13» .
وقد اكثر مقاتل من التدليس، فادعى انه سمع من الضحاك ولم يسمع منه.
وادعى ان الباب كان يغلق عليه مع الضحاك، وهو يقصد باب المدينة او باب المقابر.
قال عبد الرزاق: سمعت ابن عيينة يقول قلت لمقاتل تحدث عن الضحاك وزعموا انك لم تسمع منه؟
قال: كان يغلق على وعليه الباب.
قال ابن عيينة: قلت فى نفسي اجل باب المدينة «14» .
وقال عبد الرزاق: كنا عند مقاتل بن سليمان، فمر سفيان الثوري فقام الناس عنه فاستحييت فجلست عنده فقلت: قال ابن عيينة: انك تحدث عن الضحاك وهم يقولون انك لم تسمع منه! قال: لقد كان يغلق على وعليه باب.
قال عبد الرزاق، فقلت فى نفسي: اجل باب المدينة «15» .
وقال سفيان بن عيينة كنا عند مقاتل بن سليمان فقيل له سمعت من الضحاك؟
قال: ربما اغلق على وعليه باب. قال سفيان ينبغي ان يكون اغلق عليهما باب المدينة.
وفى رواية قال سفيان قلت فى نفسي كان يغلق عليه وعلى الضحاك باب المقابر وهو على ظهر الأرض فى تلك المدينة.
فمقاتل يدعى انه سمع من الضحاك وان الباب اغلق عليهما.
ولكن الرواة ينفون هذا ويذكرون ان مقاتلا لم يلق الضحاك، بل ذهب جويبر ابن سعيد الى ان الضحاك مات ومقاتل صبي صغير «16» .
وذهب ابراهيم الحربي الى ان الضحاك مات قبل ان يولد مقاتل بأربع سنين «17» .
__________
(12) كان يقول «عن فلان او قال فلان» او نحو ذلك فاما إذا صرح بالسماع او التحديث ولم يكن قد سمعه من شيخه لم يكن مدلسا، بل كان كذابا فاسقا. (ابن كثير اختصار علوم الحديث: 53) .
(13) ابن كثير: اختصار علوم الحديث: 53، تحقيق احمد شاكر.
(14، 15) تهذيب الكمال المجلد العاشر، ترجمة مقاتل، وتاريخ بغداد: 13/ 165.
(16، 17) : انظر ذلك فى تهذيب الكمال المجلد العاشر.(5/46)
وقد ناقشنا عددا من هذه الآراء عند تحديد السنة التي ولد فيها مقاتل.
ورغم ان الرواة ضعفوا جويبر، وان رواية ابراهيم الحربي مرفوضة لمخالفتها للواقع، الا ان عبد الرزاق بن همام المحدث المفسر الثقة أخبرنا ان الضحاك لم يلق مقاتلا «18» .
وروى عن ابن عيينة ذلك، وأول إغلاق الباب على مقاتل والضحاك بانه باب المدينة او باب المقابر.
فإذا اغلق باب المدينة على مقاتل والضحاك ومقاتل بين الاحياء والضحاك بين الأموات- كان هذا هو التعريض الذي عرض به مقاتل، وهو تدليس عند أئمة الحديث.
وهناك تدليس اقرب الى الكذب اثر عن مقاتل من ذلك انه كان يحدث الناس عن الكلبي فقال: أخبرني ابو النضر يعنى الكلبي.
فمر به الكلبي فدنا منه وقال: يا أبا الحسن انا الكلبي وما حدثت بهذا الحديث قط. فقال: اسكت يا أبا النضر، فان تزيين الحديث لنا انما هو بالرجال «19» .
وكان مقاتل يسال عن الحديث فيقول أخبرني به ابو جعفر- او فلان- وبعد ايام يسال عنه فيقول أخبرني به الضحاك، فإذا سئل عنه بعد ذلك قال أخبرني به عطاء «20» .
وقال عبد الصمد بن عبد الوارث قدم علينا مقاتل بن سليمان فجعل يحدثنا عن عطاء، ثم حدثنا بتلك الأحاديث عن الضحاك، ثم حدثنا بها عن عمرو بن شعيب، فقلنا ممن سمعتها؟ قال: منهم كلهم. ثم قال: لا والله لا أدرى ممن سمعتها. قال:
ولم يكن بشيء «21» .
وإزاء ما نقلنا عن مقاتل، وما هو شبيه به مما نجده فى كتب التراجم «22» .
نرى ان مقاتلا المحدث ساقط القيمة، متروك الحديث، رغم علمه الواسع، وثناء الائمة عليه فى التفسير.
قال ابو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله (احمد بن حنبل) يسال عن مقاتل ابن سليمان فقال: (كانت له كتب، ينظر فيه، الا انى ارى انه كان له علم بالقرآن «23» .
وقال صالح بن احمد بن حنبل: (قال ابى: ما يعجبني ان اروى عنه شيئا) «24» .
__________
(18) تاريخ بغداد: 13/ 165.
(19) تهذيب الكمال المجلد العاشر ترجمة مقاتل، تاريخ بغداد: 13/ 163.
(20) تاريخ بغداد: 13/ 165.
(21) تهذيب التهذيب: 10/ 283.
(22) تهذيب التهذيب: 10/ 279، تاريخ بغداد: 13/ 163، وتهذيب الكمال المجلد العاشر ترجمة مقاتل.
(23، 24) مع بعضها فى تهذيب الكمال المجلد العاشر، ترجمة مقاتل.(5/47)
5- رجال روى عنهم
روى مقاتل عن ثابت البناني «25» ، وسعيد المقبري «26» ، وعطاء بن ابى رباح «27» ، وعطية بن سعد العوفى «28» ، وعمرو بن شعيب «29» ، وابن شهاب الزهري «30» ، ونافع مولى ابن عمر «31» ، وزيد بن اسلم «32» ، وشرحبيل بن سعد مولى الأنصار، وعبد الله بن بريدة، وعبد الله بن ابى بكر بن انس بن مالك، ومحمد ابن سيرين «33» ، وابى إسحاق السبيعي، وابى الزبير المكي.
وقد ادعى مقاتل انه روى عن مجاهد بن جبر المكي «34» ، ولكن ابراهيم الحربي أنكر ذلك وقال: (لم يسمع مقاتل من مجاهد شيئا ولم يلقه) .
__________
(25) هو ثابت بن اسلم البناني، وبنانة من قريش، وهم رهط بنى سعيد بن لؤي، وكانت بنانة أمهم فنسبوا إليها. وكان ثابت من أنفسهم ويكنى أبا محمد، وكان من سادات التابعين علما وفضلا، وعبادة ونبلا، وكان من خواص انس، وروى عن غيره من الصحابة. توفى سنة 123 هـ.
(26) هو ابو سعيد سعيد بن ابى سعيد المقبري المحدث المكثر عن ابى هريرة، وروى عن سعد ابن ابى وقاص. قال ابن سعد ثقة لكن اختلط قبل موته بأربع سنين. قال الذهبي فى العبر: قلت ما سمع منه ثقة قبل اختلاطه. توفى سنة 125 هـ. [.....]
(27) هو عطاء بن اسلم، تابعي من اجلاء الفقهاء، ولد فى «جند» باليمن ونشا فى مكة، فكان مفتى أهلها ومحدثهم. قال ابن سعد: انتهت اليه الفتوى بمكة. وقال ابو حنيفة: ما لقيت أفضل من عطاء. وقال ابن عباس وقد سئل عن شيء: يا اهل مكة تجتمعون على وعندكم عطاء؟.
قيل انه حج اكثر من سبعين حجة توفى سنة 144 هـ.
(28) هو عطية بن سعد العوفى الكوفي. روى عن ابى هريرة وطائفة، ضربه الحجاج اربعمائة سوط على ان يشتم عليا فلم يفعل، قال الذهبي: وهو ضعيف الحديث، توفى عام 111 هـ.
(29) هو عمرو بن شعيب بن عبد الله بن عمرو بن العاص نزيل الطائف وثقة النسائي وحقق البخاري سماعه من جده عبد الله، توفى عام 118 هـ.
(30) هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، القرشي المدني، تابعي جليل، وامام علم، كان عالم الحجاز والشام، وكان آية فى الحفظ، حتى انه قال ما استودعت قلبي شيئا فنسيه، وقال الليث بن سعد: ما رأيت عالما قط اجمع من ابن شهاب، وقال مالك: لم يكن فى الناس له نظير توفى عام 124 هـ.
(31) هو نافع المدني ابو عبد الله من أئمة التابعين بالمدينة كان علامة متفقها على رياسته، كثير الرواية للحديث، ثقة، وهو ديلمى الأصل مجهول النسب، اصابه عبد الله بن عمر صغيرا فى بعض مغازيه، ونشا بالمدينة. وأرسله عمر بن عبد العزيز الى مصر ليعلم أهلها السنن، توفى عام 120 هـ.
(32) زيد بن اسلم المدني، كان أبوه مولى عمر بن الخطاب، أخذ العلم عن أبيه وعن عبد الله ابن عمر، وعائشة، توفى سنة 136 هـ.
(33) هو ابو بكر محمد بن سيرين البصري، احد فقهاء البصرة، توفى سنة 110 (ابن خلكان 1: 354) .
(34) هو ابو الحجاج مجاهد بن جبر المكي مولى السائب بن ابى السائب ولد سنة 21 هـ، وتوفى وهو مساجد سنة 102 هـ، كان من تلاميذ ابن عباس وام سلمة وابى هريرة وجابر، ومن تلاميذه عكرمة وعطاء وقتادة والحكم بن عتيبة، وأيوب، وثقه ابن معين وابو زرعة.(5/48)
«قال ابراهيم: وانما جمع مقاتل تفسير الناس وفسر عليه من غير سماع ولو ان رجلا جمع تفسير معمر عن قتادة، وشيبان عن قتادة- كان يحسن ان يفسر عليه.
«قال ابراهيم: لم ادخل فى تفسيري منه شيئا.
قال ابراهيم: «تفسير الكلبي مثل تفسير مقاتل سواء» «35» .
وقد مرت بنا دعوى مقاتل انه لقى الضحاك «36» وسمع منه، وانه كان يغلق عليهما باب!.
وان ابن عيينة «37» أول الباب الذي كان يغلق عليهما بباب المدينة او باب المقابر، ومقاتل على ظهر الأرض فى تلك المدينة والضحاك بين الأموات، كما ان جويبر ابن سعيد اقسم ان الضحاك مات ومقاتل صبي صغير.
ويرى ابراهيم الحربي ان الضحاك قد مات قبل ان يولد مقاتل بأربع سنين.
6- رجال أخذوا عنه
اما الذين رووا عن مقاتل، فمن بينهم إسماعيل بن عياش «38» ، وسعد بن الصلت «39» ، وسفيان بن عيينة «40» ، وعبد الرحمن بن محمد الحاربى «41» .
__________
(35) تهذيب الكمال المجلد العاشر، ترجمة مقاتل بن سليمان.
(36) الضحاك بن مزاحم الهلالي، وثقه الامام احمد وغيره. كان فقيه مكتب عظيم فيه ثلاثة آلاف صبي وكان يركب حمارا ويدور عليهم إذا عيى، توفى بخراسان سنة 102 هـ (شذرات الذهب:
1/ 125) .
(37) هو سفيان بن عيينة الأعور الكوفي، احد أئمة الإسلام، أخذ عن عمرو بن دينار والزهري وزيد بن اسلم. وعنه احمد وابن راهويه وابن معين وابن المدائني. قال ابن وهب: ما رأيت اعلم بكتاب الله من ابن عيينة. وقال الشافعي: لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز. ولد سنة 107 وتوفى سنة 198 هـ.
(38) هو ابو عتبة إسماعيل بن عياش العنسي، محدث الشام، ومفتى اهل حمص، روى عن شرحبيل بن مسلم، ومحمد بن زياد الالهانى، وخلق من التابعين بالشام والحرمين. قال ابن معين:
هو ثقة فى الشاميين وقال يزيد بن هارون: ما لقيت شاميا ولا عراقيا احفظ منه. كان يحفظ نحوا من عشرين الف حديث. توفى سنة 181 هـ عن بضع وسبعين سنة ومناقبه كثيرة.
(39) هو سعد بن الصلت الكوفي قاضى شيراز ومحدثها، روى عن الأعمش وطبقته، وكان حافظا، توفى سنة 196 هـ.
(40) سبقت ترجمته قبل قليل هامش (37) : 49. [.....]
(41) هو الحافظ: عبد الرحمن بن محمد المحاربي، روى عن عبد الله بن عمير، وخلق، قال وكيع ما كان احفظه للطوال، توفى بالكوفة سنة 195 هـ.(5/49)
وعبد الرزاق بن همام «42» ، والوليد بن مسلم «43» ، وابو نصير سعدال، وابن سعيد البلخي، وابو حيوة شريح بن بريد الحمصي، وابو نصر منصور بن عبد الحميد الباورذى، وابو الجنيد الضرير، وابو يحيى الحماني. وبقية بن الوليد وشبابة بن سوار، وعماد بن قيراط النيسابوري، وعبد الله بن المبارك، وعبد الرحمن بن سليمان (ابن ابى الحوب) ، وعبد الصمد بن عبد الوارث، وعتاب بن محمد بن شوذب، وعلى بن الجعد، وعيسى بن ابى فاطمة (وهو ابن صبيح) ، وعيسى بن يونس، وحرمي بن عمارة بن ابى حنيفة، وحماد بن محمد النوارى، وحمزة بن زناد الطوسي، نصر بن حماد الوراق، ويحيى بن شبل، ويوسف بن خالد السمتى، والوليد بن مرند البيروتى «44» .
7- الرواية عن مقاتل
اتهم مقاتل بالكذب والتدليس، بل ان خارجة بن مصعب اعتبره فاسقا فاجرا قال ابو معاذ النحوي سمعت خارجة بن مصعب يقول كان جهم ومقاتل بن سليمان عندنا فاسقين فاجرين. قال وسمعت خارجة يقول لم استحل دم يهودي ولا ذمي.
ولو قدرت على مقاتل بن سليمان فى موضع لا يراني فيه احد لقتلته «45» .
ولهذه الأسباب امتنع أئمة الحديث وأفاضل رجاله عن الرواية عن مقاتل لعدم أهليته للرواية عنه.
__________
(42) عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري الصنعاني، احد الائمة الاعلام الحفاظ، أخذ عنه ابن جريج، وهشام بن حسان، وثور بن يزيد ومعمر ومالك، ورحل اليه أئمة المسلمين وثقاتهم وأخذوا عنه.
قال الامام احمد: «لم اسمع منه شيئا، لكنه رجل يعجبه اخبار الناس» ولد سنة 126 وتوفى سنة 211 هـ.
(ابن تيمية: مقدمة فى اصول التفسير، تحقيق محب الدين الخطيب: 33 هامش) .
وقد مر فى الكلام على «مقاتل المحدث» ان عبد الرزاق بن همام يجلس اليه، وقد مر سفيان الثوري فقام الناس عن مقاتل غير ان عبد الرزاق استحى ان يقوم عنه. (تهذيب الكمال، المجلد العاشر، ترجمة مقاتل. تاريخ بغداد: 13/ 165) .
(43) هو ابو العباس الوليد بن مسلم الدمشقي، محدث الشام. أخذ العلم عن محمد بن عجلان القرشي، وهشام بن حسان، وثور بن يزيد، والأوزاعي. وهو من شيوخ الامام احمد وإسحاق وابن المديني وابى خيثمة، صنف كتبا كثيرة بلغت سبعين كتابا، كان واسع العلم صندوقا من الإثبات، توفى سنة 195 هـ وله ثلاث وسبعون سنة.
(44) تهذيب الكمال المجلد العاشر ترجمة مقاتل (مخطوط) ، الذهبي: ميزان الاعتدال: 3/ 196.
الذهبي: سير أعلام النبلاء (مصور) : 1/ 6 ص 65: تهذيب التهذيب 10/ 279، تاريخ بغداد 13/ 160.
(45) تهذيب الكمال المجلد العاشر ترجمة مقاتل (مخطوط) .(5/50)
قال وكيع بن الجراح مقاتل بن سليمان كذاب ليس حديثه بشيء. وسئل وكيع عن مقاتل فقال قد سمعنا منه فالله المستعان.
وقال رافع بن اشرس سمعت وكيعا يقول سمعت من مقاتل، ولو كان أهلا ان يروى عنه لروينا عنه «46» .
على ان ارتفاع منزلة مقاتل بين المفسرين والثناء عليه فى التفسير «قد جعل كثيرا من الثقات والمعروفين يحدث عن مقاتل» «47» .
وقد تتبعت الأحاديث التي رواها مقاتل فى تفسيره، فوجدت ان أكثرها قد ورد فى الصحيح او فى كتب السنن.
ولست أريد ان ارفع مقاتلا الى درجة الثقة، وانما أريد ان اثبت ان مقاتلا وان عرف عنه الكذب فى الحديث، الا ان كذبه لم ينتقل الى تفسيره. وان وجدنا بعض الضعف فى الأحاديث التي وردت فى تفسير مقاتل فبنسبة نادرة «48» .
وهذا يجعلنا نحتاط فى جميع أحاديثه ونقارنها ولا نقبلها الا إذا وردت من طريق آخر صحيح.
8- الثناء على مقاتل، تقويم هذا الثناء
قد اثنى بعض الثقات على مقاتل ورفعوا منزلته:
فالإمام الشافعي يقول من أراد ان يتبحر فى تفسير القرآن فهو عيال على مقاتل ابن سليمان.
وعن سفيان بن عيينة سمعت مشعرا يقول لحماد بن عمرو كيف رأيت الرجل يعنى مقاتلا: قال: ان كان ما يجيء به علما فما اعلمه.
وقال عبد الله بن المبارك- حين راى تفسير مقاتل- ياله من علم لو كان له اسناد.
وقال عباد بن كثير ما بقي احد اعلم بكتاب الله من مقاتل.
وقال حماد بن ابى حنيفة مقاتل اعلم بالتفسير من الكلبي.
وقال بقية: كنت كثيرا اسمع شعبة وهو يسال عن مقاتل بن سليمان فما سمعته قط ذكره الا بخير.
__________
(46، 47) المرجع السابق.
(48) انظر موضوع «منهج مقاتل فى اسباب النزول» فى هذا الكتاب: 123- 127.(5/51)
وقال على بن الحسين بن واقد المروزي عن عبد المجيد من اهل مرو، سالت مقاتل بن حيان فقلت: يا أبا بسطام أأنت اعلم ام مقاتل بن سليمان؟ قال ما وجدت علم مقاتل فى علم الناس الا كالبحر الأخضر فى سائر البحور.
وقال على بن الحسين بن واقد ايضا سمعت أبا نصير يقول صحبت مقاتل ابن سليمان، ثلاث عشرة سنة فما رايته يلبس قميصا قط الا لبس تحته صوفا «49» .
ونلاحظ ان الثناء على مقاتل يتجه الى تفسيره للقرآن الكريم، وأحيانا الى علمه وشخصه. اما فى الحديث فمقاتل متهم غير موثوق به عند أئمة الحديث، رغم انه قد مر بنا ثناء بعض الائمة على مقاتل، كالإمام الشافعي وعباد بن كثير، وحماد بن ابى حنيفة، وشعبة، ومقاتل بن حيان، وغيرهم.
غير ان هذا الثناء على مقاتل ليس معناه توثيق مقاتل، بل هو مدح لعلمه ولشخصه من غير توثيق له- وهناك فرق بين مدحهم للشخص وقولهم انه ثقة.
اما أئمة الحديث ونقاده، فقد اتهموا مقاتلا بالكذب، ومنهم يحيى بن معين، ومحمد بن سعد، والبخاري، والنسائي، وابن حبان «50» .
ونخلص من هذا الى ان بعض الائمة اثنى على مقاتل، وبعضهم جرحه ولم يوثقه.
والقاعدة فى علوم الحديث انه إذا اجتمع فى الراوي جرح مبين السبب وتعديل- فالجرح مقدم على التعديل وان كثر عدد المعدلين لان مع الجارح زيادة علم لم يطلع عليها المعدل «51» .
ونحب ان نعيد الى الأذهان هنا ان اتهام مقاتل بالكذب والتدليس قد بنى على قوله لمن سئل عن لون كلب اصحاب الكهف: (هلا قلت: هو ابقع) فكان هذا أول ما علم عن مقاتل.
بيد ان هذا لا يمنعنا ان نستفيد بما خلفه من تراث فى التفسير النقلى والعقلي، شريطة ان نكون حذرين فى قبول الأحاديث التي يوردها، فلا نقبلها الا إذا وردت من طريق آخر صحيح.
__________
(49) تجد هذه الأقوال كلها فى ترجمة مقاتل، بالمجلد العاشر، من تهذيب الكمال.
(50) انظر تهذيب الكمال المجلد العاشر، ترجمة مقاتل. أو انظر فيما سبق (مقاتل وعلم الحديث) : 41- 51.
(51) الباعث الحثيث شرح اختصار عموم الحديث للحافظ ابن كثير، تأليف احمد شاكر الطبعة الثالثة: 96 هامش، نقلا عن السيوطي فى التدريب، وهناك آراء اخرى فى هذا الموضوع.(5/52)
اما الجانب العقلي فى تفسيره فهو فيه بحر زاخر، وهو فيه سابق غير مسبوق، بشهادة الامام الشافعي له..
ولو اهملنا تفسير مقاتل فاننا بذلك نهمل جانبا مهما من تراثنا الفكرى والحضارى، بل نهمل أول نتاج للتفسير العقلي، فى وقت تتسابق فيه الأمم الى الاعتزاز بماضيها، والى احياء تراثها.(5/53)
الباب الثالث مقاتل وعلم التفسير
1- تفسير مقاتل جمع بين المأثور والمعقول.
2- هل كان مقاتل أول من فسر القرآن كله؟
3- أول من دون التفسير.
4- أيهما اسبق مقاتل او ابن جريج؟
5- مؤلفات مقاتل فى التفسير وعلوم القرآن.(5/55)
- 1- تفسير مقاتل يجمع بين المأثور والمعقول
رأينا فى التمهيد كيف بدا التفسير بالمأثور عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة، وكيف دخل فيه بعد ذلك شيء من الرأي أخذ يزيد على مر الزمن حتى صار قسما مستقلا او كاد، ونتناول الآن موقف مقاتل من التفسير بين الرواية والرأي، وأول ما يسترعى الانتباه فى مقاتل بوصفه مفسرا انه كان يفسر الآية بعقلية المعية جعلت الامام الشافعي يقول: من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل.
وتفسير مقاتل يتميز بالبساطة والسهولة، والاحاطة التامة بمعاني الآيات ونظائرها فى القرآن، وما يتعلق بها فى السنة. انه أشبه بالسهل الممتنع.
وفى رأيي ان تفسير مقاتل لا نظير له فى بابه، من جهة الاحاطة بالمعنى فى عبارة سهلة محدودة، ثم اختيار أقوى الآراء فى الآية وأولاها بدون سرد للخلاف.
ورغم مرور اكثر من الف ومائة سنة على هذا التفسير- فانك تحس وأنت تقرؤه انه كتب لأوساط الناس فى هذه الأيام.
أحاط مقاتل بالقرآن احاطة تامة، ويظهر ذلك فى كليات مقاتل.
فيقول كل شيء فى القرآن (الاتراب) يعنى مستويات فى الملاذ بنات ثلاث وثلاثين.
وكل شيء فى القرآن (الأجداث) يعنى القبور.
و (آلاء الله) يعنى نعماء الله.
وقد أحصيت له اثنتين وثلاثين من هذه الكليات.
ويقول كل شيء فى القرآن (بحمد ربهم) يعنى بأمر ربهم، وله عشر كليات على حرف الباء.
وكل شيء فى القرآن (تالله) يعنى والله.
وفى تفسيره خمس من هذه الكليات على حرف التاء.
وكل شيء فى القرآن (الجحيم) يعنى ما عظم من النار.
وفى تفسيره خمس من الكليات على حرف الجيم.(5/57)
وكل شيء فى القرآن (خاسئا) يعنى صاغرا.
وفى تفسيره سبع كليات على حرف الخاء.
وكل شيء فى القرآن (دار البوار) و (قوما بورا) و (تجارة لن تبور) يعنى به الهلاك.
وفى تفسيره ست كليات على حرف الدال.
الى غير ذلك من الكليات الاخرى التي أحصاها مقاتل فبلغت مائتين وثماني وأربعين كلية فى القرآن الكريم «1» .
واحاطة مقاتل بكليات القرآن جعلت تفسيره يمتاز بهذه الخاصة وهي تفسير القرآن بالقرآن، فهو يورد عند تفسيره للآية ما يتعلق بها وما يكمل معناها.
ومن ذلك إيراده للآيات التي يوهم ظاهرها التناقض كالآية السابعة من سورة هود التي تفيد ان خلق العرش كان قبل خلق السموات والأرض.
مع الآية 54 من سورة الأعراف التي تفيد ان خلق العرش كان بعد خلق السموات والأرض.
__________
(1) منها ثلاث على حرف الذال. مثل وكل شيء فى القرآن (ذات بهجة) يعنى ذات حسن.
ومنها ست على حرف الراء مثل: وكل شيء فى القرآن (رحيق) يعنى الخمر.
ومنها ثلاث على حرف الزاى مثل: (زرابى) يعنى الطنافس.
ومنها عشر على حرف السين مثل: (سفرة) يعنى الكتبة (وسخريا) يعنى استهزاء.
ومنها خمس للشين مثل: وكل شيء فى القرآن (شططا) يعنى جورا.
ومنها كليتان للصاد مثل: وكل شيء فى القرآن (صاغرين) يعنى مذلين.
ومنها اربع للضاء مثل: وكل شيء فى (طبع) يعنى ختم.
ومنها كليتان للطاء مثل: (ظل وجهه مسودا) يعنى متغيرا.
ومنها ثمان للعين مثل: (عربا) يعنى عاشقات لأزواجهن.
ومنها اربع عشرة كلية للغين مثل: (غل) يعنى الغش.
ومنها تسع عشرة كلية للفاء مثل (فالق) يعنى خالق.
ومنها تسع للقاف مثل: (فى قلوبنا غلف) و (فى اكنة) يعنى على القلوب غطاء.
ومنها احدى عشر للكاف مثل: (كظيم) و (مكظوم) يعنى مكروب.
ومنها احدى وعشرون كلية للام مثل: (لمزة) يعنى الطعن على الإنسان فى الشيء بعينه.
ومنها عشرون للميم مثل: (المغفرة) يعنى التجاوز.
ومنها ثمانية للنون مثل: (النكاح) يعنى الزواج الا آية النساء (6) (حتى إذا بلغوا النكاح) يعنى الحلم.
ومنها كليتان للهاء مثل: (هماز) و (همزة) يعنى المغتاب.
ومنها تسع وثلاثون كلية للواو مثل: (واردون) يعنى داخلون.
ومنها خمس عشرة كلية للياء مثل: (يهرعون) يعنى يسعون.(5/58)
وكالآية 11 من سورة فصلت التي تفيد ان خلق السماء كان بعد خلق الأرض.
مع الآية 30 من سورة النازعات التي تفيد العكس: اى ان خلق الأرض كان بعد خلق السماء.
ويذهب مقاتل الى ان الله خلق العرش قبل خلق السموات والأرض، وان الله خلق السموات قبل خلق الأرض.
ثم أول الآيات التي يفيد ظاهرها غير ذلك «2» .
كما يجمع مقاتل بين بعض الآيات جمعا عقليا سليما، فقد ذكر القرآن ان الله خلق آدم من تراب، ومن طين، ومن حما مسنون، ومن طين لازب، ومن صلصال كالفخار، ومن عجل، ومن ماء مهين.
ويجمع مقاتل بينها بأنها دليل على تدرج الخلقة.
فقد بدا خلق آدم من أديم الأرض وهو التراب، ثم تحول التراب الى الطين..
وتحول الطين الى سلالة، ثم تغيرت رائحة الطين فتحول الى حما مسنون، ثم لصق فتحول الى طين لازب، ثم صار له صوت كصوت الفخار، ثم نفخ فيه الروح، فأراد ان ينهض قبل ان تتم الروح فيه، فذلك قوله خلق الإنسان من عجل.
ثم جعل ذريته من النطفة التي تنسل من الإنسان، ومن الماء المهين وهو الضعيف «3» .
حقا ان مقاتلا فسر القرآن بالقرآن على أوسع معنى لذلك المبدإ، بما يشمل كليات القرآن، والتوفيق بين المتشابه، وتخريج ما يوهم التضاد، وترتيب آيات الحياة والموت وما أشبهها حسب تدرجها وتسلسلها. وفى ظني ان مقاتلا كان سابقا فى كثير من هذه المعاني.
ان اختلاط العقل بالنقل يظهر واضحا فى تفسير مقاتل، بل فى اغلب صفحاته.
فمن جهة النقل- يعتمد مقاتل فى تفسيره على جمع الآيات المتصلة بموضوع واحد، ويورد الأحاديث المتعلقة بالآية بعد ان يحذف أسانيدها، ولذلك اختلط الصحيح بالعليل فى تفسيره، وظهرت فيه إسرائيليات اهل الكتاب بصورة واضحة، خصوصا حول الأنبياء السابقين الذين عصم الله ظواهرهم وبواطنهم من التلبس بأمر منهى عنه.
__________
(2) انظر الباب الرابع، مقاتل وعلم الكلام: 75- 95 وانظر تفسير مقاتل: 2/ 228 ا، وانظر تحقيقي له: 4/ 578.
(3) التنبيه والرد للملطى، تحقيق الكوثرى: 70، تفسير مقاتل: 1/ 96- 98.(5/59)
وتاثر مقاتل باسرائيليات اليهود فى تفسيره لآيات الأحزاب المتعلقة بزواج النبي من زينب بنت جحش، فأعظم الفرية على رسول الله، ومكن للمستشرقين ان ينقلوا هذا الكلام عنه وعن أمثاله.
والاسرائيليات من ابرز العيوب فى تفسير مقاتل الى جوار حذف الأسانيد فى وقت مبكر كان الرواة يهتمون فيه كثيرا بالأسانيد.
اما الجانب العقلي فى تفسير مقاتل فهو واضح ظاهر، فأثر العقل المشرق يبدو فى كل صفحة من صفحاته تقريبا، وقد ساعد مقاتلا على هذا ما تمتع به من موهبة وذكاء ومعرفة واسعة بكل ما يحتاج اليه المفسر لكتاب الله.
فله معرفة واسعة باللغة ومفرداتها وتراكيبها، والدلالة وتطورها، والمشترك والمترادف.. ومعرفة بالمعاني والبيان والبديع، ومعرفة بالإجمال والتبيين، والعموم والخصوص، والإطلاق والتقييد، ودلالة الأمر والنهى.. إلخ. ومعرفة بالعقائد والإلهيات والنبوات واحكامها، ومعرفة بالقراءات والتجويد والنحو والشعر القديم.
وبالجملة فقد استكمل مقاتل جميع العلوم التي يحتاج إليها المفسر واستطاع ان يستثمرها جميعا فى تفسيره، ومع احاطة مقاتل بالكثير من العلوم والمعارف، فان تفسيره لم يسلم من عيوب ظاهرة، هي حذف الاسناد، والتدليس فى الرواية، ونقل علوم اليهود والنصارى الى تفسير القرآن، وهي عيوب كبيرة انقصت منزلة مقاتل ووضعت من قدره.
والى جوار هذه العيوب التي لصقت بمقاتل، نجد عبقرية تصل بصاحبها الى ادراك اسمى المعاني وأعلاها. وهو يفسر كتاب الله فى سهولة ويسر، ولذا حظى تفسيره باعجاب المعجبين وثناء الائمة الاعلام.
فشهادة الامام الشافعي لمقاتل بان الناس عيال عليه فى التفسير، شهادة لها قيمتها واعتبارها، لصدورها عن الشافعي وهو من هو.
كما اثر عن الامام احمد بن حنبل ان لمقاتل علما بالقرآن.
واثر عن حماد بن ابى حنيفة ان مقاتلا اعلم بالتفسير من الكلبي.
واثر عن ابراهيم الحربي ان الحسد هو الذي حمل الناس على الطعن فى مقاتل.
وقال عبد الله بن المبارك- وقد نظر فى تفسير مقاتل بن سليمان:
ما احسن تفسيره لو كان ثقة، ياله من علم لو كان له اسناد.
ولما سئل مقاتل بن حيان- وهو ثقة- أنت اعلم او مقاتل بن سليمان؟ قال:
ما وجدت علم مقاتل فى علم الناس الا كالبحر الأخضر فى سائر البحور «4» .
__________
(4) تجد هذه الآثار كلها فى: تهذيب الكمال، المجلد العاشر، ترجمة مقاتل بن سليمان. [.....](5/60)
- 2- هل كان مقاتل أول من فسر القرآن كله؟
ذكرنا ان التفسير كان مقصورا على رواية ما اثر عن رسول الله وعن صحابته والتابعين، وان جمهور المفسرين لم يكن يزيد فى تفسيره عن المأثور، اى ان التفسير كان لآيات ورد فى تفسيرها اثر ولم يكن تفسيرا لجميع القرآن.
ولا يعترض علينا بتنوير المقياس المنسوب الى ابن عباس، فان هذه النسبة مطعون فيها.
وقد جاء فى مقدمته انه برواية الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وقد سبق ان هذه الطريق اوهى الطرق عن ابن عباس «5» ، على ان الشافعي قال: (لم يثبت عن ابن عباس فى التفسير الا شبيه بمائة حديث) «6» .
والذي لا شك فيه هو ان تفسير مقاتل أول تفسير كامل للقرآن وصل إلينا.
بقي ان نتساءل: هل سبق مقاتل بمثل هذا التفسير؟ وبعبارة اخرى: هل عاصر مقاتلا مفسرون فسروا القرآن تفسيرا كاملا فضاعت كتبهم، وسلم كتاب مقاتل من الضياع؟.
للاجابة عن هذا التساؤل نذكر هذه الأشياء:
1- قول الشافعي: (من أراد التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان) .
2- قول ابراهيم الحربي: لم يسمع مقاتل من مجاهد شيئا وانما جمع مقاتل تفسير الناس وفسر عليه من غير سماع، ولو ان رجلا جمع تفسير معمر عن قتادة، وشيبان عن قتادة كان يحسن ان يفسر عليه.
قال ابراهيم: لم ادخل فى تفسيري منه شيئا.
قال ابراهيم: تفسير الكلبي مثل تفسير مقاتل سواء «7» .
ونلاحظ ان التفاسير التي اعتمد عليها مقاتل تفاسير بالمأثور، فتفسير مجاهد نقله عن ابن عباس، وابن عباس لم يصح عنه فى التفسير الا شبيه بمائة حديث، اى ان تفسير مجاهد كان مقصورا عن تفسير الآيات الصعبة التي عجز مجاهد عن فهمها، فامسك بالواحه وسال ابن عباس عنها وسجل فى ألواحه تفسيرها.
__________
(5) تنوير المقياس: 2.
(6) الإتقان: 2/ 189.
(7) تهذيب الكمال، المجلد العاشر، ترجمة مقاتل بن سليمان.(5/61)
ويشير ابراهيم الحربي الى اعتماد مقاتل على تفسير قتادة، وهو قتادة بن دعامة السدوسي الاكمة، عربي الأصل، كان يسكن البصرة. توفى سنة 117 هـ «8» .
روى عن انس وابى الطفيل وابن سيرين وعكرمة وعطاء بن ابى رباح، وكان قوى الحافظة واسع الاطلاع فى الشعر العربي، بصيرا بأيام العرب عليما بانسابهم، متضلعا فى اللغة العربية. وقد اثنى احمد بن حنبل على علمه وفقهه ومعرفته بالاختلاف والتفسير، ووصفه بالحفظ والفقه.
ونسب الى قتادة الحوض فى القضاء والقدر، قال ابن سعد: كان ثقة مأمونا حجة فى الحديث، وكان يقول بشيء من القدر.
والمرجح لدى ان تفسير قتادة تفسير يغلب عليه الأثر، مع اشتماله على جزء من التفسير العقلي «9» .
ومع ان من ترجم لمقاتل لم يذكر انه روى عن قتادة، سوى ابراهيم الحربي الذي ذكر ذلك تلميحا لا تصريحا، الا ان سكنى قتادة بالبصرة، ورحيل مقاتل الى البصرة، وموالاته للأزد بها ووفاته فيها تؤيد ان مقاتلا قد استفاد من تفسير قتادة.
اما ان قتادة توفى سنة 117 هـ، وقد رجحنا ان رحيل مقاتل الى البصرة كان بعيد سنة 130 هـ، فان هذا لا ينفى استفادة مقاتل من تفسير قتادة، بل يؤيد ان استفادة مقاتل بتفسير قتادة كان بطريق معمر عن قتادة، وشيبان عن قتادة، كما نفهمه من اشارة ابراهيم الحربي.
3- وقد روى ان تفسير مقاتل عرض على الضحاك فلم يعجبه قال فسر كل حرف «10» . وهذا دليل على ان التفسير الكامل للقرآن لم يكن مألوفا فى عصر مقاتل، فضلا عن العصر السابق عليه. وان مقاتلا كان من أوائل من فسروا القرآن تفسيرا كاملا، وربما اشترك معه معاصرون مثل الكلبي الذي قيل ان تفسيره مثل تفسير مقاتل سواء.
بيد ان هذه التفاسير الكاملة للقرآن الكريم لم تصل إلينا، والذي وصل إلينا منها هو تفسير مقاتل بن سليمان.
وقد طبع بالهند تفسير سفيان الثوري المتوفى سنة 161 هـ، ولكنه تفسير يقتصر على كلمات معدودة وآيات محدودة فى كل سورة.
__________
(8) تهذيب التهذيب: 8/ 351- 356.
(9) قال معمر: سالت أبا عمرو بن العلاء عن قوله تعالى: «وما كنا له مقرنين» (الزخرف/ 13) فلم يجبني فقلت سمعت قتادة يقول: مطيقين، فسكت، فقلت له: ما تقول يا أبا عمرو؟ فقال:
حسبك قتادة. ولولا كلامه فى القدر-
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ذكر القدر فأمسكوا- ما عدلت به أحدا من اهل دهره. (وفيات الأعيان: 2/ 179) .
(10) تهذيب الكمال، المجلد العاشر، ترجمة مقاتل بن سليمان.(5/62)
ففي سورة البقرة مثلا يقول:
3: 6 عن سعيد بن جبير فى قوله عز وجل أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ قال، السحاب فيه المطر- (الآية 19) «11» .
4: 73 سفيان عن ابى نجيح عن مجاهد فى قول الله جل وعز يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قال تطيعون (الآية 21) .
5: 133- سفيان عن مجاهد فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً قال عدلاء وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ يا اهل الكتاب تعلمون انه واحد فى التوراة والإنجيل (الآية 22) .
6: 113 سفيان فى قول الله جل وعز وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ قال حجارة من كبريت. وقال ابن مسعود كبريت احمر (الآية 24) .
7: 111 سفيان فى قوله وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً قال «متشابها» لونه واحد مختلف طعمه (الآية 25) «12» .
وتلاحظ ان تفسير سفيان الثوري لم يشمل جميع الآيات فتراه يفسر كلمة واحدة من آية، ثم كلمة او كلمات من آية اخرى، وأحيانا يترك عدة آيات لا يفسر منها شيئا.
فمجموع الآثار التي أوردناها فى سورة البقرة 136 أثرا، وعدد آيات سورة البقرة 286 آية.
وقريب من تفسير سفيان، تفسير عبد الرزاق بن همام الصنعاني المتوفى سنة 211 هـ، وهو تفسير بالمأثور يذكر ما اثر عنده فى تفسير الآية، ثم يترك عدة آيات لم يرد فيها اثر.
وهو محفوظ بدار الكتب المصرية بالقاهرة.
والذي نخلص اليه ان التفسير بالمأثور كان هو المألوف فى عهد الصحابة والتابعين وتابعيهم، وانه كان يقتصر على ما اثر عن السلف فى تفسير الآيات، ويسكت عن تفسير الآيات التي لم يؤثر فى تفسيرها شيء. وان تفسير مقاتل بن سليمان من أوائل التفاسير التي فسرت القرآن كله آية آية، وان هذه الخطة لم تكن مألوفة من قبل ولذلك أنكرها العلماء على مقاتل. كما ان تفسير مقاتل اقدم تفسير كامل للقرآن وصل إلينا.
__________
(11) تفسير سفيان الثوري، تحقيق امتياز على عرشي. طبع الهند سنة 1965 م.
(12) تفسير القرآن الكريم، للإمام سفيان الثوري: 2، تحقيق امتياز على- طبع الهند سنة 1965 م.(5/63)
- 3- أول من دون التفسير
أحب ان يكون واضحا ان هناك فارقا بين أول من فسر القرآن، وأول من دون التفسير، وأول مفسر.
فأول مفسر للقرآن هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صحابته ثم التابعون، وأول من فسر القرآن كاملا هو مقاتل بن سليمان، ولعل بعض معاصريه فسروا القرآن كاملا بيد انه لم يصل إلينا.
فتفسير مقاتل اقدم تفسير كامل للقرآن وصل إلينا.
اما أول من دون التفسير يقصد به أول من كتب التفسير والف فيه.
يميل الدكتور احمد أمين الى ان الفراء المتوفى سنة 207 هـ كان أول من فسر القرآن آية آية، واما السابقون عليه كانوا يقتصرون على تفسير المشكل.
وقد اعتمد فى هذا الميل على ما ذكره ابن النديم «13» من (ان عمر بن بكير كتب الى الفراء ان الحسن بن سهل ربما سألني عن الشيء بعد الشيء من القرآن، فلا يحضرني فيه جواب، فان رأيت ان تجمع لي أصولا او تجعل لي فى ذلك كتابا ارجع اليه فعلت، فقال الفراء لأصحابه: اجتمعوا حتى املى عليكم كتابا فى القرآن، وجعل لهم يوما، فلما حضروا خرج إليهم، وكان فى المسجد رجل يؤذن ويقرا بالناس فى الصلاة، فالتفت اليه الفراء فقال له: اقرا بفاتحة الكتاب نفسرها، ثم نوفى الكتاب كله فقرا الرجل وفسر الفراء، فقال ابو العباس: لم يعمل احد قبله مثله، ولا احسب ان أحدا يزيد عليه» اهـ.
وقد علق الدكتور احمد أمين على ذلك بقوله: (فهل نستطيع ان نفهم من هذا النص ان الفراء- المتوفى سنة 207- أول من تعرض لآية آية حسب ترتيب المصحف وفسرها على التتابع. وكان من قبله يقتصرون على تفسير المشكل، وان التفاسير السابقة عليه، كالذي روى عن ابن عباس وكتفسير السدى وغيره كانت من هذا القبيل؟ هذا هو الذي أميل اليه، وان كانت عبارة ابن النديم ليست قاطعة فى هذا) «14» .
وفى وسعنا ان نرد على الدكتور احمد أمين، وان نبطل ما مال اليه بجملة ادلة:
أولها: ان تفسير الفراء ليس تفسيرا كاملا للقرآن، بل هو تفسير لما أشكل من كلماته، ذلك ان الفراء فى معاني القرآن، وهو تفسيره، يفسر كلمة او كلمات
__________
(13) الفهرست: 66.
(14) ضحى الإسلام: 2/ 141.(5/64)
من آية، ثم يترك آيات لا يفسرها. وانا لنرى مثالا لذلك فى سورة الأعراف، فقد فسر جزءا من الآية 155 ثم انتقل الى تفسير جزء من الآية 160 «15» . كما نجد امثلة كثيرة له فى سور اخرى. واذن فتفسير الفراء تفسير تفسير لكلمات لغوية ونحوية يقتصر على اجزاء من الآيات..
وهمته فى هذا التفسير متجهة الى النحو واللغة.
وثانيها: ان الفراء- على فرض ان تفسيره تفسير كامل للقرآن- ليس هو أول من فسر القرآن كاملا، ذلك ان مقاتل بن سليمان المتوفى سنة 150 هـ اسبق منه بأكثر من نصف قرن، وتفسيره للقرآن تفسير كامل لجميع آياته.
وثالثها: ما يقوله الأستاذ أمين الخولي من ان: «كتاب معاني القرآن للفراء شبيه فى تناوله للآي على ترتيبها فى السور بكتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة [ت 209 هـ] ، فان القطعة التي بأيدينا تتناول السور على ترتيبها، وتعرض لما فى السورة من اى تحتاج لبيان مجازها، اى المراد بها.
فليس للفراء اولية شخصية فى هذا، بل كانت تلك على ما يبدو خطة العصر، ولعله لو وقع إلينا شيء مما قبل ذلك العهد، لرجح ان هذا التناول لتفسير القرآن وآية اقدم عهدا من صنيع الفراء وابى عبيدة بغير قليل» «16» .
وانا أقول للمرحوم الأستاذ الشيخ أمين الخولي: لقد تحقق رجاؤك، ووقع فى يدنا تفسير سابق لعهد الفراء بأكثر من نصف قرن، وهو تفسير كامل لجميع آيات القرآن، الا وهو تفسير مقاتل بن سليمان.
ورابعها: ما مر بنا من ان مجاهدا [ت 101 هـ] كان يسال ابن عباس عن التفسير ومعه ألواحه، وكان يكتب ما يقول له، حتى سال عن التفسير كله «17» .
ولهذا قال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين مرة «18» .
وخامسها: ما هو معروف من ان عبد الملك بن مروان المتوفى سنة 86 هـ، سال سعيد بن جبير ان يكتب اليه بتفسير القرآن، فكتب اليه سعيد بالتفسير الذي طلبه منه. وقد عثر عطاء بن دينار على هذا التفسير، فأخذه من الكتاب، وليس له سماع من سعيد!.
كما جاء فى تهذيب التهذيب عند ترجمة عطاء بن دينار: «قال على بن الحسن الهسنجاني عن احمد بن صالح: عطاء بن دينار من ثقات المصريين، وتفسيره فيما يروى
__________
(15) معاني القرآن، للفراء: 1/ 397، مطبعة دار الكتب المصرية 1955.
(16) دائرة المعارف الاسلامية: مادة تفسير: 5/ 364- 365 هامش، أمين الخولي: التفسير معالم حياته منهجه اليوم: 31- 33 هامش.
(17) تفسير ابن جرير الطبري: 1/ 30.
(18) تهذيب التهذيب: 10/ 109- 111. [.....](5/65)
عن سعيد بن جبير صحيفة، وليس له دلالة على انه سمع من سعيد بن جبير. وقال ابو حاتم: صالح الحديث الا ان التفسير اخذه من الديوان، وكان عبد الملك بن مروان المتوفى سنة 86 هـ سال سعيد بن جبير ان يكتب اليه بتفسير القرآن فكتب سعيد بهذا التفسير، فوجده عطاء بن دينار فى الديوان، فأخذه، فأرسله عن سعيد ابن جبير» .
وسادسها: ما جاء فى وفيات الأعيان من: (ان عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة [ت 143 هـ] كتب تفسيرا للقرآن عن الحسن البصري) ت 116 هـ «19» .
وسابعها: ما قاله السيوطي من ان (لابن جريج- ت 150 هـ- ثلاثة اجزاء كبار فى التفسير) «20» . وما نقل عن عكرمة مولى ابن عباس: من قوله: (لقد فسرت ما بين اللوحين) «21» .
بعد ما تقدم يمكننا الذهاب الى ان الفراء ليس أول من فسر القرآن آية آية.
يبقى بعد ذلك هذا السؤال: من أول من فسر القرآن آية آية؟.
اننى أميل الى ان تدوين التفسير كان سابقا على مقاتل، فسعيد بن جبير كتب تفسير القرآن الى عبد الملك بن مروان المتوفى سنة 86 هـ.
وأرجح ان التفاسير السابقة على تفسير مقاتل لم تكن شاملة لجميع القرآن، بل كانت قاصرة على المأثور وعلى شرح ما صعب من آيات القرآن.
وهذا ينطبق على تفسير سعيد بن جبير [94 هـ] وعلى تفسير مجاهد [103 هـ] .
اما تفسير عمرو بن عبيد عن الحسن: فأرجح انه كان تفسيرا لآيات معينة حول القدر وغيره من المسائل العقدية التي كانت تموج بها البصرة فى ذلك الوقت إذ كانت البصرة أهم مركز للفرق وعلم الكلام.
__________
(19) وفيات الأعيان: 2/ 3.
(20) الإتقان: 2/ 224.
(21) الإتقان: 2/ 225. وتوفى عكرمة سنة 104 هـ او سنة 105 هـ.
وانظر دائرة المعارف الاسلامية: مادة تفسير: 5/ 364 هامش تعليق للاستاذ أمين الخولي حيث نقل عبارة السيوطي هذه ثم قال: فهذه العبارة، وتلك الاجزاء الكبار إذا ما انضم إليها ملاحظة اتصال القرآن بالحياة الاسلامية، وشديد عناية القوم بأخذ الأحكام وغيرها منه وحاجتهم الملحة فى ذلك، كل أولئك وما يشبهه مؤذن بان تتبعهم لتفسير القرآن، واستيفائهم ذلك فى سوره وآيه قد كان عملا مبكرا ولا أميل الى تأخيره الى نهاية القرن الثاني وأوائل القرن الثالث ... إلخ وقد نقل الشيخ محمد حسين الذهبي هذا الكلام فى كتابه التفسير والمفسرون: 1/ 144 دون ان ينسبه الى صاحبه.
كما نقل الذهبي كلاما للدكتور احمد أمين من ضحى الإسلام: 1/ 332- 333 ط 7، نقله فى موضوع الاسرائيليات (1/ 167- 168) من كتابه التفسير والمفسرون، ولم ينسبه الى صاحبه.(5/66)
قال حماد بن سلمة عن حميد: قرأت القرآن على الحسن (البصري) ففسره على الإثبات يعنى- اثبات القدر- وكان يقول من كذب بالقدر فقد كفر «22» .
فهمة الحسن البصري فى تفسيره كانت متجهة الى الرد على اصحاب البدع واهل الأهواء، من الفرق والنحل المختلفة «23» .
اما تفسير عكرمة المتوفى سنة 104 هـ عن ابن عباس، فهو تفسير بالمأثور فقط، مقصور على المشكل من الآيات.
اما تفسير ابن جريج «24» المتوفى سنة 150 هـ، فالظاهر انه لم يكن تفسيرا كاملا. بل [ثلاثة اجزاء كبار فى التفسير عن ابن عباس منها الصحيح ومنها ما ليس بصحيح وذلك لأنه لم يقصد الصحة فيما جمع بل روى ما ذكر فى كل آية من الصحيح والسقيم] «25» .
وقد ذكروا ان ابن جريج أول من صنف الكتب بالحجاز، وعدوه من طبقة مالك ابن انس وغيره ممن جمعوا الحديث ودونوه. قال عبد الله بن احمد بن حنبل: قلت لأبي: من أول من صنف الكتب؟ قال: ابن جريج وابن ابى عروبة.
وقال ابن عيينة: سمعت أخي عبد الرزاق بن همام عن ابن جريج يقول:
ما دون العلم تدوينى احد.
وقد عرف عن ابن جريج انه كان رحالة فى طلب العلم فقد ولد بمكة ثم طوف فى كثير من البلاد فرحل الى البصرة واليمن وبغداد «26» .
- 4- أيهما اسبق مقاتل او ابن جريح؟
أيهما اسبق فى تدوين التفسير: مقاتل او ابن جريج؟:
ولد عبد الملك بن جريج سنة 80 هـ ومات سنة 150 هـ. وقيل مات سنة 159 هـ، وقيل غير ذلك. وولد مقاتل حوالى سنة 80 هـ، ومات سنة 150، وقيل مات بعد ذلك.
__________
(22) تهذيب التهذيب: 1/ 263- 270.
(23) ابن خلكان، وفيات الأعيان: 2/ 103.
(24) هو ابو الوليد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي مولاهم، أصله رومي نصراني، كان من علماء مكة ومحدثيهم، وهو من أول من صنف الكتب بالحجاز، وروى عنه الطبري كثيرا من تفسير الآيات التي وردت فى النصارى.
روى عن أبيه وعطاء بن ابى رباح وزيد بن اسلم والزهري وغيرهم. وروى عنه ابناه عبد العزيز ومحمد والأوزاعي والليث وغيرهم.
ولم يظفر بإجماع العلماء على توثيقه، فمنهم من وثقه ومنهم من ضعفه، وقد تزوج نحوا من تسعين امراة نكاح متعة. (تهذيب التهذيب: 6/ 402- 406) .
(25) الإتقان: 2/ 188.
(26) شذرات الذهب: 1/ 226.(5/67)
ويظهر من هذا ان مقاتلا وابن جريج كانا متعاصرين، لكن نشاة ابن جريج كانت بالحجاز، ونشاة مقاتل كانت بخراسان. ولذلك قيل عن ابن جريج انه أول من صنف الكتب بالحجاز.
وإذا عرفنا ان ابن جريج لم يطلب العلم الا فى الكهولة، وان مقاتلا قد دون تفسيره بمرو وهو فى شرخ الشباب او قوة الرجولة- ظهر لنا ان مقاتلا كان اسبق فى تدوين تفسيره من ابن جريج.
قال ابن خلدون فى العبر: (ان ابن جريج لم يطلب العلم الا فى الكهولة؟
ولو سمع فى عنفوان شبابه لحمل عن غير واحد من الصحابة، فانه قال كنت اتتبع الاشعار العربية والأنساب، فقيل لي لو لزمت عطاء؟ فلزمته ثمانية عشر عاما) «27» .
والظاهر ان تأليف الكتب لم يكن متداولا بين العرب، نظرا لأنهم امة امية تعتمد على الحفظ والرواية والسماع «28» .
وقد حث النبي على تعلم القراءة والكتابة، وكان فداء بعض اسرى بدر تعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة. وكان هناك كتاب الوحى لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا كان العلماء اليوم يفرقون بين المؤرخ والاخبارى، فيذكرون ان لقب الاخبارى الصق بالواقدى، لأنه جمع الاخبار بدون تمحيص لها او دراسة لفلسفة التاريخ، اما المؤرخ بحق فهو الذي يروى الاخبار بعد تمحيصها ووزنها بميزان التحقيق والنقد- فنحن نرى ان هناك كتبا تم تدوينها فى التفسير بمعنى جمعها وكتابتها رواية، كتفسير سعيد بن جبير، ومجاهد بن جبر المكي.
ولعل ابن جريج لكونه كان روميا نصرانيا قبل إسلامه كان ابرع فى ناحية الجمع والتنظيم والتأليف «29» ، فنسب اليه انه أول من صنف الكتب، لكنه- وان عاصر مقاتلا- كان أول تدوينه للتفسير فى كهولته، اى بعد ان دون مقاتل تفسيره.
هذا وتفسير ابن جريح انما كان جمعا ورواية عن ابن عباس، اما تفسير مقاتل فهو ماثل بين أيدينا كمؤلف كامل، يظهر فيه اثر العقل المشرق، والإبداع والتأليف الفنى، والتبحر فى ادراك اهداف القرآن ومقاصده، والجمع بين آيات كل موضوع، والتوفيق بين كل آيتين ظاهرهما التناقض.
ان مقاتلا لم يجمع تفسير السابقين وآراءهم، وانما درسها ومحصها واختار أولاها بالصواب فى رأيه، ثم عرض تفسيره فى إيجاز وبساطة ووضوح. ولعل هذا
__________
(27) شذرات الذهب: 1/ 226.
(28) قارن بأحمد أمين: فجر الإسلام (التدوين) : 166 ط 9.
(29) قارن بأحمد أمين: فجر الإسلام (وصف الحركة العلمية اجمالا) : 140 ط 9. وانظر أول الكتاب (حياة مقاتل) مولى الأزد. ونسب اشتهار الموالي بالعلم، هامش (3) : 23.(5/68)
هو الذي جعل الامام الشافعي يقول: (من أراد ان يتبحر فى التفسير فهو عيال على مقاتل بن سليمان) .
وأريد فى هذا المقام ان افرق بين رجل دون التفسير ونقله عن السابقين، ورجل فسر القرآن وأبدع التأليف فى التفسير.
وفى رأيي ان كل من سبق مقاتلا كانوا رواة للتفسير، وان من دونه منهم كان يغلب على تدوينه النقل والأثر.
اما تفسير مقاتل فهو أول تفسير كامل لكل آيات القرآن، كما انه أول تفسير فنى يشرح كل آية ويوضحها، ويبدو ان مقاتلا كان من أوائل من كتبوا فى علوم القرآن ايضا، فله كتاب (الوجوه والنظائر فى القرآن) «30» .
وقد نقل الزركشي فى البرهان، والسيوطي فى الإتقان، كثيرا من هذا الكتاب او ممن نقل منه، واستفاد به اكثر المؤلفين فى علوم القرآن بعد مقاتل، ويظهر ذلك بمقارنة ما كتبه مقاتل فى الوجوه والنظائر بما كتبه من جاء بعده، فمن ذلك كليات مقاتل التي أوردها الملطي فى كتابه (التنبيه، والرد على اهل الأهواء) «31» .
فيقول مقاتل:
كل شيء فى القرآن: (بخس) يعنى نقصا، غير واحد فى يوسف (وشروه بثمن بخس) يوسف/ 20 يعنى حراما.
وكل شيء فى القرآن: (بعل) يعنى الزوج. غير واحد فى الصافات (أتدعون بعلا) الصافات/ 125 يعنى ربا.
وقوله (ريب) يعنى شكا فى القرآن كله الا الذي فى الطور (ريب المنون) الطور/ 30 يعنى حوادث الموت.
ونقل الزركشي فى البرهان: 1/ 105.
(ان ابن فارس قال فى كتاب «الافراد» :
__________
(30) الزركشي فى البرهان: 1/ 102، قال وقد صنف فيه قديما مقاتل بن سليمان، فالوجوه اللفظ المشترك الذي يستعمل فى عدة معان كلفظ (الهدى) له سبعة عشر معنى فى القرآن بمعنى البيان كقوله أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ سورة البقرة: 5، وبمعنى الدين إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ سورة آل عمران: 73، وبمعنى الايمان وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً سورة مريم: 76، وذكر مقاتل فى صدر كتابه حديثا مرفوعا (لا يكون الرجل فقيها كل الفقه حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة) . قال السيوطي فى الإتقان: أخرجه ابن سعد وغيره عن ابى الدرداء موقوفا: 1/ 141، والنظائر كالألفاظ المتواطئة.
(31) بتحقيق الكوثرى: 72- 82.(5/69)
والبخس فى القرآن النقص، مثل: فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً «32» .
الا حرفا واحدا فى سورة يوسف: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ «33» فان اهل التفسير قالوا، بخس: حرام.
وما فى القرآن من ذكر البعل فهو الزوج كقوله تعالى: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ «34» الا حرفا واحدا فى الصافات أَتَدْعُونَ بَعْلًا «35» ، فانه أراد صنما.
وكل شيء فى القرآن من (ريب) فهو شك غير حرف واحد. وهو قوله تعالى:
نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ «36» فانه يعنى حوادث الدهر «37» .
وفى البرهان ايضا: 1/ 110:
«انتهى ما ذكره ابن فارس» .
«وزاد غيره: كل شيء فى القرآن: (لعلكم) فهو بمعنى «لكي» غير واحد فى الشعراء لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ «38» فانه للتشبيه اى كأنكم.
وكل شيء فى القرآن (أقسطوا) فهو بمعنى العدل الا واحدا فى الجن:
أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
«39» يعنى العادلين الذين يعدلون به غيره.
هذا باعتبار صورة اللفظ، والا فمادة الرباعي تخالف مادة الثلاثي.
وكل (كسف) فى القرآن يعنى جانبا من السماء غير واحد فى سورة الروم وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً «40» «يجعل» السحاب قطعا.
وكل (ماء معين) فالمراد به الماء الجاري، غير الذي فى سورة تبارك «41» فان المراد به الماء الطاهر «42» الذي تناله الدلاء وهي زمزم.
__________
(32) سورة الجن: 13. [.....]
(33) سورة يوسف: 20.
(34) سورة البقرة: 228.
(35) سورة الصافات: 125.
(36) سورة الطور: 30.
(37) البرهان للزركشى: 1/ 105، 106، 107.
(38) سورة الشعراء: 129.
(39) سورة الجن: 15.
(40) سورة الروم: 48.
(41) قوله تعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) سورة الملك: 30.
(42) هكذا فى البرهان، وصوابها: (الظاهر) بالاعجام. وانظر تفسير البيضاوي: 751 حيث يقول: (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) جار او ظاهر سهل المأخذ.
وانظر الجلالين: 480.(5/70)
ويكاد هذا الذي زاده غير ابن فارس يكون منقولا بالحرف عما ذكره مقاتل ابن سليمان، مع بعض التحريف فى البرهان.
فمقاتل يقول: «وكل شيء فى القرآن: وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ سورة الحجرات/ 9. يعنى واعدلوا ان الله يحب المعدلين. يقول الذين يعدلون فى القول والفعل. غير واحد فى قل اوحى أَمَّا الْقاسِطُونَ
يعنى العادلين الذين يعدلون بالله سبحانه وغيره كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
سورة الجن/ 15 «43» » .
وكل شيء فى القرآن (لعلكم) يعنى لكي. الا الذي فى الشعراء لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ/ 129، يعنى كأنكم تخلدون «44» .
وكل شيء فى القرآن (كسفا) يعنى جانبا من السماء غير واحد فى الروم وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً «45» يعنى يجعل السحاب قطعا «46» .
وكل شيء فى القرآن: (ماء معين) يعنى جاريا غير الذي فى تبارك: فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ يعنى ماء طاهرا تناله الدلاء «47» .
وهكذا نجد ان الزركشي قد استفاد من كل ما ذكره مقاتل فى الوجوه والنظائر.
وفى كثير من أبواب البرهان يتضح تأثره بما ذكره مقاتل. خصوصا فى الأسباب الموهمة للاختلاف، كما فى مسألة خلق الإنسان من تراب، ومن صلصال، ومن ماء مهين «48» .
وقد تاثر الزركشي فى البرهان بما ذكره مقاتل فى خلق آدم «49» ، وفى التوفيق بين الآيات الموهمة للاختلاف «50» عموما، ولعله لم يتأثر بمقاتل مباشرة، وانما تاثر بمن نقلوا عنه، فهو يقول فى البرهان: (النوع الرابع فى الوجوه والنظائر، وقد صنف فيه قديما مقاتل بن سليمان وجمع فيه من المتأخرين ابن الزاغونى «51» .
__________
(43) الملطي، التنبيه والرد: 78.
(44) الملطي، التنبيه والرد: 78.
(45) سورة الروم: 48.
(46) الملطي، التنبيه والرد: 79- 80. وفى البرهان يعنى السحاب قطعا. [.....]
(47) المرجع السابق: 80، وقد كتبت فيه (طاهرا) بدون إعجام وصوابها (ظاهرا) كما تقدم.
(48) انظر تفسير مقاتل: 1/ 8 ا، وتحقيق له: 1/ 96- 98، والتنبيه والرد للملطى: 70، بتحقيق الكوثرى.
(49) البرهان: 2/ 54.
(50) البرهان: 2/ 55.
(51) هو ابو الحسن على بن عبد الله بن نصر الزاغونى الحنبلي توفى سنة 527 هـ.(5/71)
وابو الفرج بن الجوزي «52» ، والدامغاني «53» الواعظ، وابو الحسين بن فارس «54» وسمى كتابه (الافراد) «55» .
وأخيرا يمكننا ان نسجل هذا الرأي وهو:
1- كان مقاتل أول من فسر القرآن تفسيرا عقليا كاملا.
2- كان مقاتل من أوائل من كتبوا فى علوم القرآن كتابة جامعة.
- 5- مؤلفات مقاتل فى التفسير وعلوم القرآن
1- التفسير الكبير، وهو تفسير كامل للقرآن وهو الذي حققناه مع هذه الدراسة.
2- نوادر التفسير.
3- الناسخ والمنسوخ.
4- الرد على القدرية.
والثلاثة الاخيرة فى حكم المفقودة «56» .
5- الوجوه والنظائر فى القرآن.
وهو مصور بمعهد المخطوطات بالجامعة العربية بالقاهرة عن مكتبات تركيا «57» .
6- تفسير خمسمائة آية من القرآن الكريم.
__________
(52) هو ابو الفرج عبد الرحمن بن على بن محمد بن على بن الجوزي توفى سنة 597 هـ.
(53) لعله قاضى القضاة أَبو عَبْد اللَّه محمد بْن علي بن محمد الحنفي توفى سنة 478 هـ.
(54) هو احمد بن فارس بن زكريا القزويني الرازي، صاحب جامع التأويل ومقاييس اللغة وغيرها، توفى سنة 395 هـ.
(55) البرهان: 1/ 102، للإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي توفى سنة 794 هـ.
(56) انظر معجم المؤلفين: 12/ 317، والاعلام: 8/ 206.
(57) معجم المؤلفين: 12/ 317، حيث يقول: الوجوه والنظائر فى القراءات. وهو تصحيف.
وقد حصلت على صورة لهذا المخطوط، وقد قمت بتحقيقه وطبعته المكتبة العربية، بالهيئة المصرية العامة للكتاب.(5/72)
محفوظة بالمتحف البريطانى تحت رقم (6333) وهو تفسير مطول نوعا ويتضمن احكاما فقهية «58» .
7- الأقسام واللغات.
8- الآيات المتشابهات.
وربما كانت الآيات المتشابهات هي الوجوه والنظائر فى القرآن، فيكون الكتاب واحدا واسمه متعدد.
__________
(58) جولد تسيهر: مذاهب التفسير الإسلامي. ترجمه الدكتور عبد الحليم النجار- رحمه الله-:
76 هامش.
وقد حصلت على صورة لهذا المخطوط.(5/73)
الباب الرابع مقاتل وعلم الكلام
الفصل الاول: مقاتل والذات الفصل الثاني: مقاتل والصفات الفصل الثالث: التجسيم عند مقاتل الفصل الرابع: كلمة انصاف لمقاتل(5/75)
«الفصل الاول»
1- ذات الله.
2- تشبيه مقاتل فى ذات الله.(5/77)
- 1- ذات الله
جاء الإسلام بالأصول الكاملة للعقيدة الصحيحة، فقرر ان الله يتعالى عن احاطة العقول بكنهه، او ادراك ذاته، وان غاية ما كتب لها من إدراكه هو العجز عن إدراكه «1» ، فقال سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «2» ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً «3» ، لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ «4» ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ «5» .
ولا يخفى ان هذا هو نهاية ما وصلت اليه الفلسفة فى القرن العشرين، فقد نصت على ان الله موجود ولكن العقل لا يمكن ان يدرك كنه وجوده ولا صورته، فهو روح الوجود وقيومه «6» .
وبينما كانت الأمم تخوض فى تحديد الله وتعريفه وتركيبه وتأليفه «7» ، وتطلق لخيالها العنان فى ذلك، إذا بالقرآن يهيب بذلك الخيال ان قف حيث أنت، هذا مقام ليس لك عليه سلطان، ولا لك فى الجولان فيه يدان «8» .
وقد بعث محمد عليه الصلاة والسلام، بدين وشريعة، اما الدين فقد استوفاه الله كله فى كتابه الكريم ووحيه «ولم يكل الناس الى عقولهم فى شيء منه «9» » ، واما الشريعة فقد استوفى أصولها، ثم ترك للنظر الاجتهادى تفصيلها، وجاء فى القرآن الكريم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً «10» .
__________
(1) محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين: 7/ 679.
(2) سورة الشورى: 11. [.....]
(3) سورة طه: 110.
(4) سورة الانعام: 103.
(5) سورة الحديد: 3.
(6) محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين: 7/ 679.
(7) انظر الحور العين: 573، حيث ذكر خمسين مقالة من اختلاف الناس فى صانعهم.
منها قول اليهود بالتشبيه، وادعاؤهم ان معبودهم ابيض الراس واللحية كما فى سفر دانيال او اشعيا، وزعمهم ان عزيرا ابن الله على وجه اليقين، ثم ذكر تفرق النصارى الى ملكانية يقولون ان اتحاد الله بعيسى كان باقيا حال صلبه، ويعقوبية يقولون ان روح الباري اختلط ببدن عيسى اختلاط الماء باللبن. وصدق الله العظيم: (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) 30: التوبة.
(8) دائرة معارف القرن العشرين: 7/ 679 وما بعدها.
(9) مصطفى عبد الرازق، الفلسفة الاسلامية: 270.
(10) المائدة: 5(5/79)
وقد عاش النبي عليه السلام وقضى والمسلمون على عقيدة واحدة هي ما جاء فى كتاب الله، «لأنهم أدركوا زمان الوحى وشرف الصحبة، وأزال نور الصحبة عنهم ظلم الشكوك والأوهام» «11» .
فالمسلمون فى الصدر الاول كانوا يرون ان لا سبيل لتقرير العقائد الا بوحي اما العقل فمعزول عن الشرع وانظاره كما يقول ابن خلدون، «وكانوا يرون ان التناظر والتجادل فى الاعتقاد يؤدى الى الانسلاخ من الدين، فقد قررت عقائد الدين فى القرآن الكريم المقطوع به فى الجملة والتفصيل» «12» .
- 2- تشبيه مقاتل فى ذات الله
نسب الى مقاتل «13» - والى غيره من المجسمة- القول (بان الله جسم، وانه جثة على صورة الإنسان، لحم ودم وشعر وعظم، لو جوارح وأعضاء، من يد ورجل وراس وعينين، مصمت، وهو مع هذا لا يشبهه «غيره» ) .
وقالت المقاتلية- اصحاب مقاتل بن سليمان- فى تعليل ذلك: (لأنا لم نشهد شيئا موسوما بالسمع والبصر والعقل والعلم والحياة والقدرة الا ما كان لحما ودما «14» .
وهذا راى فاسد بعيد عن عقائد الدين التي قررها الوحى، ونطق بها الصادق المصدوق، واجمع عليها الصحابة والسلف الصالح من هذه الامة.
قال ابو محمد عثمان بن الحسن العراقي «15» :
(واما المجسمة فهم طائفة يزعمون بان الله تعالى جسم لا كالأجسام، كما تقول هو شيء لا كالأشياء، ونفس لا كالانفس وعالم لا كالعلماء.
__________
(11) طاش كبرى زاده، مفتاح السعادة: 2/ 22.
(12) مصطفى عبد الرازق، الفلسفة الاسلامية: 270.
(13) مقالات الاسلاميين: للأشعري: 1/ 152، طبعة فيسبادن سنة 1963 م.
(14) الحور العين، تحقيق كمال مصطفى: 144 مطبعة السعادة سنة 1948 م. وانظر الإيجي:
المواقف: 273، والبدء والتاريخ: 1/ 80، والفرق والتاريخ: 118، والبزدوى، اصول الدين:
21.
(15) الفرق المفترقة بين اهل الزيغ والزندقة: 76، لأبي محمد بن عبد الله بن الحسن العراقي الحنفي، تحقيق بشار قوتلوآي، طبع انقرة سنة 1961 م.(5/80)
الجواب، ونقول ان راى هذه الطائفة فاسد، وعقيدتهم شر العقائد، لأنا قد بينا الفرق بين الشيء والجسم، فالشيء عبارة عن الموجود، والجسم عبارة عن التأليف والتركيب، والتأليف عبارة عن جمع شيئين بعد ان يكونا متفرقين، وذلك من أمارات الحدوث، وهو منفي عن ذات الباري تبارك وتعالى. والله اعلم) .
وقال عبد القاهر البغدادي:
(والمشبهة صنفان: صنف شبهوا ذات الباري بذات غيره، وكل صنف من هذين الصنفين متفرقون على اصناف شتى) «16» .
وقد كان السلف الصالح لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون.
ومن لم يتق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه، فان ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس فى معناه احد من البرية، وهو سبحانه: يتنزه عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات) «17» .
وقول المقاتلية: هو لحم ودم وله صورة كصورة الإنسان، (لأنا لم نشهد شيئا موسوما بالسمع والبصر والعقل والعلم والحياة والقدرة الا ما كان لحما ودما) «18» ، هذا القول انما ينطبق على الحوادث والمخلوقات، اما الخالق فليس مشبها للحوادث، ولا تنطبق عليه صفاتها، وما أضيف اليه من صفات كالعلم والحياة والقدرة هي صفات خاصة به سبحانه.
ثم اننا ان جعلنا الله لحما ودما وجسما، اقتضى ذلك ان يكون له طول وعرض وعمق يمنع غيره من ان يوجد بحيث هو الا بان يتنحى من ذلك المكان. وذلك فى حق الله تعالى محال وهو مقدس عنه.
قال ابو حامد الغزالي:
(فمن خطر بباله ان الله جسم مركب من أعضاء فهو عابد صنم، فان كل جسم مخلوق، وعبادة المخلوق كفر، وعبادة الصنم كانت كفرا، لأنه مخلوق فمن عبد جسما فهو كافر بإجماع الامة: السلف منهم والخلف..) .
(ومن نفى الجسمية عنه وعن يده، وإصبعه، فقد نفى العضوية واللحم
__________
(16) عبد القاهر البغدادي الأسفرائيني (ت 429 هـ) - 1307 م فى الفرق بين الفرق: 229، تحقيق محيى الدين عبد الحميد.
وفى نفس الكتاب: 138 تحقيق محمد زاهد الكوثرى ط 1948 م، (وكل صنف من هذين الصنفين مفترقون على اصناف شتى) . [.....]
(17) شرح العقيدة الطحاوية: 176- 177 ط 3 دمشق.
(18) الحور العين، 147.(5/81)
والعصب، وقدس الرب جل جلاله عما يوجب الحدوث، ليعتقد بعده انه معنى من المعاني- ليس بجسم ولا عرض فى جسم- يليق ذلك المعنى بالله تعالى) «19» .
وقال الشيخ محمد زاهد الكوثرى) «20» :
(ومن المشبهة مقاتل بن سليمان المفسر. قال المطهر المقدسي فى «البدء والتاريخ» : واما المقاتلية فهم اصحاب مقاتل بن سليمان، زعم ان الله جسم من الأجسام، لحم ودم، وانه سبعة أشبار بشبر نفسه) «21» .
قال الكوثرى: (ويزعم السكسكي فى برهانه ان مقاتلا هذا ليس بمقاتل المفسر.
لكنه هو بعينه رغم من يزعم خلاف ذلك، وانباء جهم ومقاتل فى غاية الشهرة عند اهل العلم) «22» .
ونلاحظ ان المقدسي لم ينسب الى مقاتل القول (بان الله سبعة أشبار بشبر نفسه) «23» ، وانما نسب ذلك الى هشام بن الحكم «24» . كما انى لم أجد فى
__________
(19) الجام العوام: 4- 5. وانظر فى ذلك ايضا: ابو الحسن الأشعري: كتاب اللمع فى الرد على اهل الزيغ والبدع: 9، المطبعة الكائوليكية ببيروت 1952، حيث يقول: (مسألة: فان قال قائل لم أنكرتم ان يكون الله تعالى جسما؟ - قيل له: أنكرنا ذلك لأنه لا يخلو ان يكون القائل لذلك أراد ما أنكرتم ان يكون طويلا عريضا مجتمعا او ان يكون أراد تسميته جسما، وان لم يكن طويلا عريضا مجتمعا عميقا فان كان أراد ما أنكرتم ان يكون طويلا عريضا مجتمعا، كما يقال ذلك للأجسام فيما بيننا- فهذا لا يجوز، لان المجتمع لا يكون شيئا واحدا، لان اقل قليل الاجتماع لا يكون الا بين شيئين، لان الشيء الواحد لا يكون لنفسه مجامعا، وقد بينا آنفا ان الله عز وجل شيء واحد، فبطل بذلك ان يكون مجتمعا. وان أراد لم لا تسمونه جسما وان لم يكن طويلا عريضا مجتمعا، فالأسماء ليست إلينا، ولا يجوز لنا ان نسمى الله تعالى باسم لم يسم به نفسه، ولا سماه به رسوله، ولا اجمع المسلمون عليه ولا على معناه) . اهـ.
وفى ص 8 يقول الأشعري (فان قال قائل لم قلتم ان صانع الأشياء واحد. قيل..) واستمر فى الاجابة.
وفى ص 7 يقول: (مسألة- فان قال قائل لم زعمتم ان الباري لا يشبه المخلوقات، قبل ... )
واستمر فى الاجابة.
(الشيخ الامام ابو الحسن على بن إسماعيل الأشعري: كتاب اللمع فى الرد على اهل الزيغ، تصحيح الأب وتشرد يوسف مكارثى اليسوعى المطبعة الكاتوليكية ببيروت 1952،: 7، 8، 9) .
(20) كان وكيل المشيخة الاسلامية فى دار الخلافة العثمانية ثم رحل الى القاهرة واقام بها الى ان توفى سنة 1371 هـ.
(21) الفرق بين الفرق: لعبد القاهر البغدادي، تحقيق الكوثرى ط 1948 م: 139 هامش.
(22) تعليق الكوثرى على كتاب الفرق بين الفرق للبغدادي: 139 هامش.
(23) المطهر المقدسي: البدء والتاريخ: 1/ 85 قال (وحكى عن مقاتل انه قال على صورة انسان لحم ودم) .
(24) نفس المرجع. وانظر فى ذلك ايضا الأشعري مقالات الاسلاميين: 1/ 104 ونسب الأشعري الى هشام انه وصف ربه فى خمسة أقاويل متضاربة فى عام واحد. فزعم مرة انه كالبلورة، وثانية انه كالسبيكة الذهبية الصافية. وثالثة انه فى صورة من الصور، ورابعة ان ربه لو شبر نفسه لجاء سبعة(5/82)
(ولعل المؤلف اغتر بكلام الذين اثنوا عليه فى التفسير، لكن الثناء الإجمالي عليه لا يفيد تصويب آرائه كلها، بل كان مقاتل وجهم على طرفي نقيض: غلا مقاتل فى الإثبات حتى شبه، وغلا جهم فى التنزيه حتى عطل، ولذا يقول ابو حنيفة:
ان هذا معطل وذاك مشبه وان لهما رأيين خبيثين) «25» .
وقد عرف الكوثرى الشدة فى الدفاع، والغلظة على جميع المشبهة والحشوية، وهي غلظة فى الدفاع عن الحق «26» ، ولكن التزام طريقة القرآن اولى وأحق، قال تعالى: (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) «27» .
ومع هذا أقول مخلصا نضر الله وجه الكوثرى وجزاه خير الجزاء.
__________
(25) ابو الحسين محمد بن احمد الملطي: التنبيه والرد على اهل الأهواء والبدع، تحقيق محمد زاهد الكوثرى سنة 1949 م. (مقدمة الكتاب للكوثري) : 6- 7.
ويلاحظ ان أبا الحسين الملطي اثنى فى كتابه هذا على مقاتل، واعتبره من أئمة السلف مثل الامام احمد بن حنبل، ونقل عنه تأويله لمتشابه القرآن، وقوله فى كليات القرآن من: (58- 82) .
(26) ذكر الكوثرى فى مقدمة كتاب الفرق بين الفرق: 6 ان الرازي قال: لا يعتمد على كتاب الملل والنحل للشهرستاني لأنه نقل المذاهب الاسلامية من الكتاب المسمى (بالفرق بين الفرق) من تصانيف ابى منصور البغدادي، وهذا الأستاذ كان شديد التعصب على المخالفين ولا يكاد ينقل مذهبهم على الوجه، ثم ان الشهرستاني نقل مذاهب الفرق الاسلامية من ذلك الكتاب، فلهذا السبب وقع الخلل فى نقل هذه المذاهب، اهـ.
وقد اتهم الكوثرى الرازي بالغلو، ودافع عن البغدادي، وانتصر له فى شيء من الغلو، قال:
(ومع ذلك خدماته مشكورة فى الرد على اهل الزيغ، وردوده وجيهة، وسهامه مصيبة فى المقتل، على تقدير ثبوت تلك الآراء من الخصوم، كما رآه فى مصادر عول عليها، وان لم تثبت فلا ضير من ذلك على من لم يقل بتلك الآراء، فإذا وجد فى زمن ما من يقول بها فالسهام تصيبه فى المقتل، وعلى كل حال ففي ذلك جودة التدريب على طرق الردود الناجحة) .
(الفرق بين الفرق للبغدادي تحقيق الكوثرى- مقدمة الكتاب للكوثري: 7) .
(27) سورة النحل: 125، وانظر كتاب مقالات للكوثري.(5/83)
«الفصل الثاني» مقاتل وصفات الله
1- تمهيد.
2- انكار الصفات.
3- مقاتل وجهم بن صفوان.
4- اتهام مقاتل بالتشبيه فى الصفات.
5- تحقيق هذه التهمة:
(ا) براءة مقاتل من التشبيه فى الوجه.
(ب) براءة مقاتل من التشبيه فى اليد.
(ج) براءة مقاتل من التشبيه فى العين.(5/85)
1- تمهيد
ورد فى القرآن الكريم آيات تضيف لله تعالى وجها ويدا وجهة ومكانا، وقد آمن الصحابة بهذه الآيات كما وردت واثبتوا لله تعالى ما أطلقه على نفسه الكريمة من الوجه واليد ونحو ذلك مع نفى مماثلة المخلوقين.
(فاثبتوا- رضى الله عنهم- بلا تشبيه، ونزهوا من غير تعطيل، ولم يتعرض مع ذلك احد منهم الى تاويل شيء من هذا، ورأوا بأجمعهم اجراء الصفات كما وردت) «1» .
2- انكار الصفات
كان الجعد بن درهم أول من قال بنفي الصفات عن الله «2» .
ثم أخذ عنه الجهم بن صفوان «3» هذا القول، فنفى عن الله تعالى العين، والوجه، واليد، والاستواء والتكلم «4» .
3- مقاتل وجهم بن صفوان
كان مقاتل معاصرا لجهم بن صفوان، وكان كلاهما من بلخ، وكلاهما كان مقررا لمذهب معين: جهم ينفى الصفات عن الله، ومقاتل يثبتها. وقد التقى جهم بمقاتل ابن سليمان فى مسجد مقاتل ببلخ «5» ، وتناظرا فبالغ جهم فى نفى الصفات والتعطيل، وأسرف مقاتل فى الإثبات والتجسيم. ويبدو ان الغلبة كانت لمقاتل
__________
(1) المقريزى، الخطط: 4/ 180- 181.
(2) قتل الجعد سنة 120 هـ (737 م) ، ابن عساكر، التاريخ الكبير: 5/ 68.
(3) قتل الجهم سنة 128 هـ (745 م) . [.....]
(4) ابن حنبل: الرد على الجهمية: 16- 23. رد الدارمي على بشر المريسي: 23.
(5) ابن كثير، البداية والنهاية فى التاريخ: 9/ 350.(5/87)
ابن سليمان، فقد كانت لمقاتل منزلة كبيرة فى بلخ، وكان مقربا الى سلم بن احوز المازني، قائد نصر بن سيار، فاستغل هذه المنزلة ونفى جهما الى ترمذ «6» .
ويذكر المقدسي فى تهذيب الكمال «7» ان لقاء جهم بمقاتل كان فى مرو فيقول:
(وقال العباس بن مصعب المروزي: مقاتل بن سليمان الأزدي أصله من بلخ، قدم الى مرو فنزل على الرزيق، وتزوج بأم ابى عصمة- نوح بن ابى مريم-، وكان حافظا فى التفسير، وكان لا يضبط الاسناد، وكان يقص فى الجامع بمرو، فقدم عليه جهم فجلس الى مقاتل، فوقعت العصبية بينهما، فوضع كل واحد منهما على الآخر كتابا ينقض على صاحبه [فيه] «8» .
كما ذكر الذهبي فى ميزان الاعتدال (3/ 196) : ان لقاء جهم بمقاتل كان فى مرو. ونسب ذلك للعباس بن مصعب فى تاريخ مرو.. وساق الرواية السابقة، على حين ذكر ابن كثير فى البداية والنهاية (9/ 350) ان لقاء جهم بمقاتل كان فى مسجد مقاتل ببلخ.
اما ابن حجر فى تهذيب التهذيب (10/ 279) ، فقد ساق رواية العباس بن مصعب المروزي السابقة. ولكنه أسقط منها مكان اللقاء قال: (.. وكان يقص فى الجامع فوقعت العصبية بينه وبين جهم، فوضع كل واحد منهما كتابا على الآخر ينقض عليه) .
ويمكن ان تجمع بين هذه الروايات بان لقاء جهم بمقاتل تكرر مرة فى بلخ ومرة فى مرو، فكلتاهما من مدن خراسان، وبين مرو وبلخ 122 فرسخا «9» اثنان وعشرون منزلا «10» .
وقد نشا جهم فى بلخ، وتنقل فى مدن خراسان، تلك المنطقة التي كانت تموج بالفرق المختلفة، والإسلام لا يزال جديدا على أهلها «11» .
وراى مقاتل بن سليمان لزاما عليه ان يتصدى لمنازلة جهم، ودحض دعاويه وأفكاره الدخيلة عن ذات الله وصفاته..
__________
(6) ابن كثير، البداية والنهاية فى التاريخ: 9/ 350.
(7) المجلد العاشر مخطوط: (ترجمة مقاتل) .
(8) المقدسي، تهذيب الكمال، المجلد العاشر (مخطوط) .
(9) ياقوت معجم البلدان: 4/ 507 (طهران سنة 1965) .
ونلاحظ ان الذي ذكر ان لقاء مقاتل بجهم كان فى مرو رجل من اهل مرو. وكان العلماء والمؤرخون يحبون ان ينوهوا بشأن بلادهم، وربما تعصبوا لبلدهم. (المناقب لابن البزازى: 1/ 85 وما يليها) .
(10) المرجع السابق: والمنزل هنا معناه: استراحة ينزل فيها المسافر ثم يستأنف السير الى المنزل التالي فيستريح فيه، وهكذا حتى يصل الى هدفه.
(11) بالنسبة للحجاز والعراق، فلم تثبت اقدام المسلمين فى خراسان الا سنة 90 هـ على يد قتيبة ابن مسلم (وانظر فيما سبق الفتح الإسلامي لبلخ: 30- 32) .(5/88)
قال يحيى بن شبل كنت جالسا عند مقاتل، فجاء شاب فسأله ما يقول فى قول الله تعالى كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «12» ؟ فقال مقاتل: هذا جهمي. قال ما أدرى ما جهمي، ان كان عندك علم فيما أقول والا فقل لا أدرى.
فقال: ويحك، ان جهما والله ما حج هذا البيت، ولا جالس العلماء، انما كان رجلا اعطى لسانا، وقوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ، انما هو كل شيء فيه الروح، كما قال لملكة سبا وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ «13» لم تؤت الا ملك بلادها.
وكما قال وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً «14» لم يؤت الا ما فى يده من الملك. ولم يدع فى القرآن من كل شيء وكل شيء الا سرده علينا) «15» .
4- اتهام مقاتل بالتشبيه فى الصفات
غير ان مقاتلا اتهم بالتشبيه والكلام فى الصفات «16» بما لا يحل.
قال ابن حبان «كان مشبها يشبه الرب سبحانه بالمخلوقين» «17» .
وقال ابو حنيفة: أتانا من المشرق رأيان خبيثان جهم معطل ومقاتل مشبه «18» وقال محمد بن سماعة عن ابى يوسف عن ابى حنيفة: (أفرط جهم فى النفي حتى قال انه ليس بشيء، وأفرط مقاتل فى الإثبات حتى جعل الله مثل خلقه) «19» وقد وجهت هذه التهم الى مقاتل فى حياته فدافع عن نفسه، وقال (انما اثبت ما جاء فى القرآن ولا أزيد عليه) . قال على بن الحسين بن واقد: (سال الخليفة مقاتل بن سليمان، فقال له: بلغني انك تشبه! فقال: انما أقول: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) . فمن قال غير ذلك فقد كذب) «20» .
__________
(12) سورة القصص: 88.
(13) سورة النمل: 23.
(14) سورة الكهف: 84.
(15) الخطيب: تاريخ بغداد، والمقدسي: تهذيب الكمال المجلد العاشر. ويلاحظ ان جهما لا يجيز ان يطلق على الله تعالى كلمة شيء لان الشيء هو الذي له مثل (مقالات الاسلاميين: 1/ 233، والبدء والتاريخ: 1/ 105 ا.
(16) تهذيب التهذيب: 10/ 283.
(17) المرجع السابق: 10/ 284. [.....]
(18) المرجع السابق: 10/ 281، وتهذيب الكمال المجلد العاشر.
(19) تهذيب التهذيب: 10/ 281، وتهذيب الكمال المجلد العاشر، وتاريخ بغداد: 13/ 166.
(20) المقدسي: تهذيب الكمال المجلد العاشر، وابن حجر: تهذيب التهذيب: 10/ 283، والآيات سورة الإخلاص.(5/89)
5- تحقيق هذه التهمة
وإذا قرانا تفسير مقاتل وجدنا ان هذه التهم مبالغ فيها، فتفسير مقاتل تفسير رجل مؤمن بالله، مقر بالتوحيد، بيد انه بالغ فى اثبات بعض الصفات حتى اتهم بالتشبيه والتجسيم.
والآن وقد رأينا ما قال الناس عن مقاتل- نرى لزاما علينا ان نرى ما قال مقاتل نفسه فى تفسير آيات الصفات، وهي الآيات التي يوهم ظاهرها مشابهة الله سبحانه للمخلوقات.
من ذلك الآيات التي تثبت ان لله وجها، وان لله يدا، وان لله عينا، وان الله استوى على العرش، ونحو ذلك.
براءة مقاتل من التشبيه
(ا) فى نسبة (الوجه) لله تعالى:
قال تعالى: فى سورة (الرحمن/ 26- 27) : (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ. وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) .
وقال تعالى فى سورة (القصص/ 88) : كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
قال مقاتل «21» : يقول سبحانه كل شيء من الحيوان ميت، ثم استثنى نفسه جل جلاله بأنه تعالى حي دائم لا يموت فقال جل جلاله الا وجهه يعنى الا هو.
فمقاتل يفسر وجه الله على انه هو الله، وهذا ما ذهب اليه ابو عبيدة «22» ، والطبري «23» ، والبغدادي «24» .
اما المعتزلة، فهم يرون فى معنى قوله تعالى: «وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ» اى «ويبقى الله من غير ان يكون له وجه» ، يقال انه الله، ولا يقال ذلك فيه «25» .
وقالوا ان كلمة الوجه فى هاتين الآيتين زائدة، فيكون المعنى «ويبقى ربك» ،
__________
(21) تفسير مقاتل نسخة احمد الثالث: 2/ 70 ا، وانظر تحقيقنا له: 3/ 360.
وقد جعل مقاتل آية القصص متممة لآية الرحمن، فان آية الرحمن تفيد فناء من على الأرض- اما آية القصص فانها تفيد فناء ملائكة السماء ايضا- ثم قال (الا وجهه) يعنى الا الله.
(ذكر هذا عند تفسير (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ) : 2/ 178 ب، تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث.
وانظر تحقيقنا له: 4/ 198.
(22) ابو عبيدة، مجاز القرآن: 2/ 112.
(23) الطبري، تفسير: 27/ 134.
(24) البغدادي، اصول الدين: 110.
(25) مقالات الاسلاميين: 1/ 266، والانتصار: 26 (طبعة فيبرج) .(5/90)
وذهب بعض المعتزلة الى ان وجه الله تعالى «هو قبلته او ثوابه او جزاؤه «26» » .
وتفسير مقاتل هنا قريب من تفسير المعتزلة الذين سموا معطلة، اى عطلوا صفات الله.
وتفسيره موافق لتفسير الطبري وابى عبيدة والبغدادي، وهؤلاء لم يتهموا بالتشبيه فمقاتل ليس مشبها هنا.
(ب) فى نسبة (اليد او اليدين) لله تعالى.
1- قال تعالى خطابا للرسول صلى الله عليه وسلم فى سورة الفتح/ 10:
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ.
قال مقاتل «27» (يد الله) بالوفاء لهم بما وعدهم من الخير.
2- وقال تعالى فى سورة آل عمران/ 73: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
3- وقال تعالى فى خطاب إبليس فى سورة (ص) / 75: قالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ.
ولم يفسر مقاتل اليد فى آية آل عمران، ولا اليدين فى آية (ص) ، اعتمادا على وضوح معناهما من سياق الكلام.
ومن سياق الكلام نستنتج انه يؤول اليد بالقوة، فمعنى آية آل عمران- عند مقاتل-: قل ان الفضل بقوة الله وبقضائه وقدره «28» . ومعنى آية (ص) :
ما منعك ان تسجد لما خلقت بقوتي وقدرتي وحكمتى «29» .
4- وقال تعالى فى سورة المائدة/ 64: «وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ» .
قال مقاتل «30» : (وقالت اليهود) يعني ابْن صوريا وفنحاص اليهوديين وعازر بن أَبِي عازر (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) يعني ممسكة أمسك اللَّه يده عنا، فلا يبسطها علينا بخير، وليس بجواد، وذلك أن اللَّه عَزَّ وَجَلّ بسط عليهم فِي الرزق، فلما عصوا واستحلوا ما حرم الله أمسك عَنْهُم الرزق، فقالوا عِنْد ذَلِكَ يد اللَّه محبوسة عن البسط، يَقُولُ اللَّه عَزَّ وَجَلّ: (غلت أيديهم) يعني أمسكت أيديهم عن الخير.
ومقاتل- وان لم يذكر شرحا مستقلا لليد هنا- يمكن ان يفهم من سياق تفسيره انه يؤول يد الله هنا بمعنى نعمته او ملكه وخزائنه، فمعنى (وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ) اى نعمته او ملكه وخزائنه ممسكة.
__________
(26) الصواعق المرسلة: 2/ 174.
(27) تفسير مقاتل: 2/ 161 ا، وانظر تحقيقنا له: 4/ 70.
(28) تفسير مقاتل: 1/ 56، وانظر تحقيقنا له: 1/ 284- 285.
(29) تفسير مقاتل: 2/ 121، وانظر تحقيقنا له 3/ 653- 654.
(30) تفسير مقاتل: 1/ 104 ا، وانظر تحقيقنا له: 1/ 490.(5/91)
اما تفسير مقاتل (لآية الفتح/ 10) (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) فهو وان لم يذكر تفسيرا خاصا باليد، يبدو من سياق كلامه انه يؤول اليد بالنصرة والقوة، او العهد والميثاق.
وقد اختلف المفسرون فى تفسير معنى اليد المذكورة فى القرآن الكريم:
وأجمل ذلك الطبري فى تفسيره فنقل عن السدى انها اليد الحقيقة «31» ، وعن بعضهم ان المراد بيديه نعمتاه، وان ذلك بمعنى يد الله على خلقه، وذلك نعمته عليهم، وقال: ان العرب تقول: لك عندي يد يعنون بذلك نعمة.
وقال آخرون منهم عنى بذلك القوة، وقالوا: ذلك نظير قول الله تعالى ذكره:
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي (ص/ 45) . وقال آخرون منهم بل يده ملكه، وقال معنى قوله وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ (المائدة/ 64) ملكه، وخزائنه. وقالوا ذلك كقول العرب للملوك، هو ملك يمينه، وفلان بيده عقد نكاح فلانة، اى يملك ذلك. وكقول الله تعالى: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً (المجادلة/ 12) .
وقال آخرون منهم: بل يد الله صفة من صفاته هي يد، غير انها ليست بجارحة كجوارح بنى آدم.
قالوا: وذلك ان الله- تعالى ذكره- اخبر عن خصوصية آدم بما خصه إياه من خلقه (بيده) ، إذ جميع خلقه مخلوقون بقدرته، ومشيئته فى خلقه نعمة، وهو لجميعهم مالك «32» .
ويمكن ان نوجز آراء المفسرين فى اليد فى ثلاثة مذاهب:
1- انها يد حقيقية.
2- انها من المتشابه الذي نؤمن به كما ورد، ونفوض المراد منه الى الله تعالى.
وتلك طريقة السلف.
3- ان اليد مجاز عن القوة او عن الجود.
اما المذهب الاول فهو ممنوع عقلا وشرعا، لما يفضى اليه من التجسيم والتشبيه.
والإله منزه عن ذلك.
بقي المذهبان الثاني والثالث، وهما يتفقان على تنزيه الله تعالى عن مشابهة خلقه، وعلى ان المراد باليد غير اليد الجارحة، اى انهما اتفقا على اصل التأويل.
وانحصر الخلاف بينهما فى ان الخلف حددوا المعنى المراد بانه القوة او الجود اما السلف ففوضوا الى الله.
__________
(31) الطبري، تفسير: 6/ 300. [.....]
(32) الطبري، تفسير: 6/ 300- 301، ولم يذكر الطبري اصحاب كل راى من هذه الآراء.(5/92)
وقد كان تفسير مقاتل لليد قريبا من راى الخلف، فقد أول اليد بمعنى القدرة والقوة فى آية الفتح/ 9، وآية آل عمران/ 73، وآية ص/ 75، وأولها بمعنى النعمة فى آية المائدة/ 64.
غير ان مقاتلا لم يصرح بهذا التأويل هنا كما صرح به فى الوجه والعين، فصار تفسيره لليد موافقا لراى السلف. ويمكن ان نستنتج منه موافقته لراى الخلف، وبخاصة ان الفرق بين الاثنين ليس شاسعا كما ذكره الامام النووي رضى الله عنه «33» .
(ج) فى نسبة (العين او الأعين) لله تعالى:
(ا) قال تعالى فى سورة (هود/ 37) : «وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا» .
قال مقاتل: (بِأَعْيُنِنَا) يعني بعلمنا (وَوَحْيِنَا) كما نأمرك، فعملها نوح فى اربعمائة سنة، وكانت السفينة من ساج «34» .
(ب) وقال تعالى فى سورة (القمر/ 13- 14) : وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ.
قال مقاتل: تجري السفينة في الماء بعين الله تعالى «35» .
(ج) وقال تعالى خطابا لموسى عليه السلام فى سورة (طه/ 39) : «وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» .
قال مقاتل (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) حين قذف فى التابوت في البحر، وحين التقط، وحين غذي، فكل ذلك بعين الله «36» .
(د) وقال تعالى خطابا لمحمد عليه الصلاة والسلام فى سورة (الطور/ 48) :
وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا.
قال مقاتل: يقول انك بعين الله تعالى «37» .
ونرى ان مقاتلا فسر العين فى سورة هود/ 37، بالعلم حيث قال (بأعيننا) :
بعلمنا.
وفسر العين فى الآيات الثلاثة (القمر/ 14، وطه/ 39، والطور/ 48) بأنها عين الله تعالى.
__________
(33) حسن البنا: العقائد: 85 تحقيق رضوان محمد رضوان، طبع دار النذير- بغداد.
(34) تفسير مقاتل: 1/ 172 ا. وانظر تحقيقنا له: 2/ 281.
والساج: ضرب من الشجر يعظم جدا، ويذهب طولا وعرضا، وله ورق كبير يتغطى الرجل بورقه منه فتقيه المطر. الوسيط: 1/ 462- 463.
(35) تفسير مقاتل: 2/ 176 ا. وانظر تحقيقنا له: 4/ 179.
(36) تفسير مقاتل: 2/ 3 ب. وانظر تحقيقنا له: 3/ 27.
(37) تفسير مقاتل: 2/ 172 ب، وانظر تحقيقنا له 4/ 150.(5/93)
اى ان مقاتلا استعمل طريقة التأويل (وهي طريقة الخلف) فى آية هود/ 37.
وفى الآيات الثلاث استعمل طريقة السلف (اى انها من المتشابه الذي نؤمن به كما ورد، ونفوض المراد منه الى الله تعالى) .
ومذهب السلف ومذهب الخلف لا غبار عليهما، فالسلف عظموا الله، والخلف نزهوا الله.
وقد اختلف المفسرون فى معنى العين الواردة فى القرآن الكريم مضافة الى الله تعالى.
- فابن جريج يفسر: «وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي» بمعنى ولتعمل على عيني «38» .
وابو عبيدة يجعله مجازا فيفسرها: «ولتغذى ولتربى على ما أريد وأحب، يقال:
اتخذه لي على عيني، اى على ما أردت وهويت» «39» .
وابن قتيبة يفسرها: «ولتربى بمرأى منى، على محبتى فيك» «40» .
اما الطبري فيفسر كلمة العين فى أماكن كثيرة من تفسيره بدون ذكر لرجال السند «بمرأى منا اى ونحفظك، ونحيط بك» «41» .
ولفظ العين مما اتفق لفظه واختلف معناه فى القرآن الكريم بحسب الاستعمال والتركيب «42» .
فالعين من المشترك اللفظي، اى ان لها عدة معان فى اللغة فقد تأتي بمعنى سحابة تجيء من قبل القبلة.
كما يسمى منبع الماء عين الماء، وبمعنى التجسس، والحسد، والرقيب كقول ذؤيب:
ولو انى استودعته الشمس لاتقت ... اليه المنايا عينها ورسولها
وقال جميل:
رمى الله فى عيني بثينة بالقذى ... وفى الغر من أنيابها بالقوادح
__________
(38) الطبري، تفسير: 16/ 162.
(39) ابو عبيدة، مجاز القرآن: 2/ 162.
(40) ابن قتيبة، تاويل غريب القرآن: 278.
(41) الطبري، تفسير: 18/ 7، 16/ 162، 27/ 37.
(42) المبرد، كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه فى القرآن المجيد: 3.(5/94)
وتأتي العين ايضا بمعنى حقيقة الشيء، يقال جاء الأمر من عين صافية «43» .
ولابن فارس احمد بن زكريا اللغوي (ت 369 هـ/ 979 م) قصيدة، قافية كل بيت منها عين فى معنى من معاني العين «44» .
وهكذا يلاحظ ان المفسرين واللغويين اختلفوا فى تفسير معنى العين، وذلك لان هذه الكلمة تستعمل فى معان عدة.
__________
(43) المرجع السابق. ابن منظور لسان العرب: 17/ 175- 180.
(44) ياقوت الحموي، معجم الأدباء: 2/ 11 (طبعة مرغليوث) .(5/95)
الفصل الثالث التجسيم عند مقاتل
التجسيم فى:
1- الاستواء.
2- الكرسي.
3- العرش.
4- يمين الله.
5- الساق.
6- تجسيم بالتلميح.(5/97)
تمهيد:
هناك آيات معدودة فسرها مقاتل تفسيرا يشعر بالتجسيم، من ذلك تفسيره الاستواء على العرش بالاستقرار، وقوله فى هذا ان الله فوق العرش «1» .
وفى سورة طه/ 5، يقول سبحانه: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى.
قال مقاتل يعنى استقر «2» .
وقال مقاتل، كل شيء فى القرآن: (واستوى) يعنى ابن اثنتين وثلاثين سنة، واستقر «3» .
وقد ذهب مقاتل الى ان خلق العرش والاستواء عليه كان قبل خلق السموات والأرض.
ثم خلق الله السموات بعد الاستواء على العرش، ثم خلق الله الأرض بعد خلق السموات.
وقد أول مقاتل الآيات التي تخالف ما ذهب اليه.
فى سورة الأعراف/ 54 يقول تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ «4» .
«اى ان الله استوى على العرش قبل خلق السموات والأرض» .
وفى سورة الرعد/ 2، يقول سبحانه: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ. قال مقاتل: قبل خلقهما «5» .
وفى سورة طه/ 5، يقول سبحانه: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى.
قال مقاتل: قبل خلق السموات والأرض «6» .
__________
(1) الملطي: التنبيه والرد على اهل الأهواء والبدع، تحقيق الكوثرى: 71. [.....]
(2) تفسير مقاتل، مخطوطة احمد الثالث: 2/ 2 أ، وانظر تحقيقنا له: 3/ 20- 21.
وانظر الزركشي فى البرهان: 2/ 10 (النوع السابع والثلاثون) فى حكم الآيات المتشابهات الواردة فى الصفات، قال: فمن ذلك صفة الاستواء، فحكى مقاتل والكلبي عن ابن عباس ان استوى بمعنى استقر، وهذا ان صح يحتاج الى تاويل، فان الاستقرار يشعر بالتجسيم.
(3) الملطي، والتنبيه والرد: ص 76.
(4) تفسير مقاتل: 1/ 130، وفى تحقيقنا له مجلد: 2/ 41.
(5) تفسير مقاتل: 1/ 186 ب، وفى تحقيقنا له: 2/ 366.
(6) تفسير مقاتل 2/ 2 أ، وفى تحقيقنا له: 3/ 20- 21، ويرد على مقاتل بان تم للترتيب فى الذكر لا فى الوقوع، وأنه بالنسبة لله تعالى لا يقال قبل وبعد.(5/99)
وفى سورة الحديد/ 4، يقول سبحانه: هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) .
قال مقاتل: قبل خلقهما «7» .
اى ان الله استوى على العرش قبل خلق السموات والأرض.
وهكذا نجد فى تفسير مقاتل ان كل آية ذكر فيها ان الله استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض يؤولها مقاتل بما يفيد ان الاستواء كان سابقا على الخلق.
كما ذهب مقاتل فى تفسيره الى ان الله خلق السموات قبل الأرض، اعتمادا على ما ورد فى القرآن الكريم من مثل قوله تعالى: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «8» .
وأول مقاتل الآيات التي وردت فى القرآن تفيد ان خلق الأرض كان قبل خلق السموات.
ففي سورة فصلت الآيات 9- 11 يقول سبحانه:
قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ: وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) .
قال مقاتل قبل ذلك «9» ، «اى قبل خلق الأرض» .
ومقاتل لا يرى غضاضة فى ذلك التأويل بل يعتقد ان هذا التأويل مما خص به اهل الفهم فى القرآن الكريم، حتى يلحقوا المتشابه بالمحكم، فان القرآن كله واضح لا لبس فيه، ولا يضرب بعضه بعضا.
قال مقاتل: «باب تفسير اشتباه التقديم فى الكلام» اما قوله عز وجل: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ «10» . وقوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ «11» . فكان هذا عند من يجهل التفسير ينقض بعضه بعضا، وليس بمنتقض، ولكن تفسيرهما فى وجوه تقديم الكلام مشتبه.
__________
(7) تفسير مقاتل: 2/ 183، وفى تحقيقنا له: 4/ 237.
(8) سورة النازعات: 27- 30.
(9) تفسير مقاتل: 2/ 132 ب، وفى تحقيقنا له: 3/ 736- 737.
(10) سورة هود: 7.
(11) الأعراف: 54، وما بين الأقواس « ... » ساقط.(5/100)
اما تفسير قوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ففيها تقديم يقول كان استواؤه على العرش قبل خلق السموات والأرض والله تعالى فوق العرش فهذا تفسيرهما «12» .
قال مقاتل: واما قوله عز وجل (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ. وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ. ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) «13» .
وقوله فى آية اخرى: أَمِ السَّماءُ بَناها. رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها الى قوله وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «14» ، فكان هذا عند من يجهل التفسير ينقض بعضه بعضا، وليس بمنتقض ولكن تفسيرهما فى وجوه تقديم الكلام مشتبه.
اما قوله: أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ الى قوله ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ ففيها تقديم: «اى» وكان استوى الى السماء قبل ذلك.
والسماء خلقت قبل الأرض، وذلك «قوله» أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً «15» ، كلاهما كانتا ماء ففتقهما الله، فأبان بعضهما من بعض، وخرج البخار من الماء كشبه الدخان، فخلق سبع سموات منه فى يومين قبل خلق الأرض، وكان موضع الكعبة زبدة على ظهر الماء، فخلق الأرض بعد ذلك فبسطها من تحت الكعبة، فذلك قوله: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها يعنى بعد خلق السموات (دحاها) يعنى بسطها من تحت الكعبة «16» .
والخلاصة:
ان مقاتلا فسر الاستواء على العرش بالاستقرار، وذكر ان الله تعالى فوق العرش.
وهذا يفيد التجسيم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وقد ذهب مقاتل الى ان الاستواء على العرش كان قبل خلق السماء والأرض، وان الله خلق السماء أولا، ثم خلق الأرض ثانيا.
__________
(12) الامام محمد بن احمد الملطي (ت 377 هـ) : التنبيه والرد على اهل الأهواء والبدع: 7، تحقيق محمد زاهد الكوثرى ط القاهرة 1949 م.
(13) فصلت: 9- 11.
(14) النازعات: 27- 30.
(15) الأنبياء: 30. [.....]
(16) الملطي: التنبيه والرد على اهل الأهواء والبدع، تحقيق الكوثرى: 71، 72.(5/101)
1- الاستواء
نسب الى ابن عباس ان (استوى الى السماء) سورة البقرة: 29 معناها (عمد الى خلق السماء) «17» او (قصدها) «18» .
وفسرها ابو عبيدة ب «الاستواء والظهور «19» » .
اما ابن قتيبة فقد فسر الاستواء الى السماء على انه عمد لها (وكل من كان يعمل عملا فتركه- بفراغ او غير فراغ- وعمد لغيره فقد استوى له واستوى اليه) «20» .
والاستواء فى «كلام العرب على جهتين: إحداهما ان يستوي الرجل وينتهى شبابه او يستوي عن اعوجاج، فهذان وجهان، ووجه ثابت ان تقول كان مقبلا على فلان ثم استوى على يشاتمنى والى سواء، على معنى اقبل الى فهو قوله تعالى: «ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ» 2» .
ويطلق الاستواء على الاستيلاء، كقولهم استوى فلان على المملكة بمعنى استولى عليها وحازها، ويطلق على العلو والارتفاع كقول القائل: استوى فلان على سريره بمعنى علوه عليه «22» .
وقد نفت المعتزلة الاستواء المادي لافضائه الى التجسيم، فقالوا: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى سورة طه: 5. اى استوى وملك وقهر «23» كما يقال استوى الخليفة على العرش قال الشاعر:
__________
(17) الفيروزآبادي: تفسير ابن عباس: 5.
(18) الفراء: معاني القرآن: 1/ 25.
(19) ابو عبيدة: مجاز القرآن: 2/ 237، 2/ 15.
(20) ابن قتيبة: تفسير غريب القرآن: 45.
(21) الفراء: معاني القرآن: 1/ 25، وانظر تفسير الطبري: 1/ 191- 192.
وجاء فى «رسالة فى تعريف علم التفسير» - وهي مخطوطة لم يذكر مؤلفها- تحت رقم 220 مجاميع م بدار الكتب المصرية ورقة 81: (ثم استوى اليه كالسهم المرسل الى قصده مستويا، اى توجه اليه بالاستقامة، من غير ان يلوى على شيء، اى يعطف عليه ويميل اليه. واصل الاستواء، طلب السواء وإطلاقه على الاعتدال لما فيه من التقوية.. إلخ) .
والظاهر انه رد على الكشاف حيث قال الاستواء الاعتدال والاستقامة يقال استوى العود وغيره إذا قام واعتدل ثم قيل استوى اليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا من غير ان يلوى على شيء ومنه استعير قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ سورة البقرة: 29.
(22) الطبري، تفسير: 1/ 191- 192.
(23) الابانة: 32، مقالات الاسلاميين: 1/ 261، الزركشي، البرهان: 2/ 80، قال: (وعن المعتزلة استوى بمعنى «استولى وقهر» ورد بوجهين ... إلخ) .(5/102)
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق «24»
وقال بعض المعتزلة ان كلمة استوى «معناها قصد او اقبل على خلق السموات» «25» .
وفى النهاية نرى ان تفسير مقاتل للاستواء بمعنى الاستقرار «والتمكن والقعود والجلوس» فوق العرش- تفسير يشعر بالتجسيم (اى بان الإله جسم) ، وهو تفسير غريب عن الإسلام، لعل مقاتلا تاثر فيه بالاديان الاخرى التي نشأت فى بلدته بلخ، كالزرادشتية والمانوية والبوذية والنصرانية.
وقد ذهب السلف الى ان الاستواء من المتشابه الذي نؤمن به مع التفويض والتنزيه.
اما الخلف فقد حملوه على معنى الملك والاستئثار بالملك ونحو ذلك.. على مقتضى اللغة ولسان والتخاطب.
ولا يسع المنصف الا ان يختار واحدا من هذين المذهبين بدون تجسيم ولا تعطيل.
2- الكرسي
(ا) ذهب مقاتل الى تفسير الكرسي تفسيرا ماديا، وهذا مما يشعر بالتجسيم، ويترتب عليه الاستقرار المكاني ولا يكون ذلك الا للجسم «26» والإله منزه عن ذلك.
جاء ذلك فى تفسير آية الكرسي (البقرة/ 255) :
اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ قال مقاتل- فى تفسير سنة- يعني ريح من قبل الرأس، فيغشى العينين وَهُوَ وسنان، بين النائم واليقظان.
ثُمّ قال جل ثناؤه: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ، وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ. وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) .
__________
(24) تنزيه القرآن عن المطاعن: 157- 179، وانظر نفس البيت مع تبديل كلمة بشر بعمرو، المواقف: 297. ويضيف الإيجي بيتا آخر:
فلما علونا واستوينا عليهم ... تركناهم صرعى لنسر وطائر
(25) البغدادي: اصول الدين: 112، والصواعق المرسلة: 2/ 126، 135 وانظر ورقة 81 «رسالة فى تعريف علم التفسير» مخطوطة بدار الكتب المصرية.
(26) لان كل متمكن على جسم لا محالة مقدر، فاما ان يكون اكبر منه او أصغر منه او مساويا له، كل ذلك لا يخلو من التقدير، ولو جاز ان يماسه تعالى جسم من جهة ما لجاز ان يماسه فى سائر الجهات فيصير محاطا به.
(انظر ابن حنبل: الرد على الجهمية: 33، الدارمي: رد الدارمي على بشير المريسي: 14) .(5/103)
قال مقاتل فى تفسير الكرسي: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كلها كل قائمة للكرسي طولها مثل السموات السبع والأرضين السبع وما بينهما، والسموات السبع والأرضون السبع تحت الكرسي فى الصغر كحلقة بأرض فلاة.
قال مقاتل: يحمل الكرسي أربعة أملاك، لكل ملك أربعة وجوه، اقدامهم تحت الصخر التي تحت الأرض السفلى مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل ارض مسيرة خمسمائة عام.
ملك وجهه عَلَى صورة الإِنْسَان وَهُوَ سيد الصور، وهو يسال «الله» الرزق للآدميين. وملك وجهه عَلَى صورة سيد الانعام- وهو الثور- يسال الرزق للبهائم، ولم يزل الملك الَّذِي عَلَى صورة الثور على وجهه كالغضاضة منذ عُبِدَ العجل من دون الرَّحْمَن عَزَّ وَجَلّ، وملك وجهه عَلَى صورة سيد الطير وَهُوَ يسأل اللَّه عَزَّ وَجَلّ الرزق للطير- وَهُوَ النسر- وملك عَلَى صورة سيد السباع- وهو الأسد- وهو يسال الرزق للسباع «27» .
نرى مما سبق ان مقاتلا يفسر الكرسي تفسيرا ماديا، ويذهب الى ان الكرسي يحمله اربعة أملاك.
ولم يذكر مقاتل الاسناد الذي اعتمد عليه، بل أورد الأثر محذوف الاسناد، مع انه من السمعيات التي لا تقبل الا إذا وردت فى القرآن، او رويت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وقد أورد الملطي فى كتابه التنبيه والرد الأثر الذي ذكره مقاتل واستنده الى وهب بن منبه «28» .
وذلك يجعلنا نعتقد انه من الاسرائيليات المرفوضة.
ثم ان القرآن الكريم قد اثبت العرض والاستواء فى آيات كثيرة «29» ، وليس فى تلك الآيات شيء يدل على الاستقرار الحسى على العرش. او على التمكن بمكان.
(ب) لقد ذكر الملطي حديث الأوعال للرد على جهم بن صفوان الذي أنكر ان يكون الله على العرش، وحديث الأوعال فيه علل قادحة «30» وإليك نصه:
__________
(27) تفسير مقاتل: 1/ 43 ا، ب، وانظر تحقيقنا له: 1/ 212- 213.
(28) الملطي: التنبيه والرد على اهل الأهواء والبدع: 66 (قال: وعن وهب بن منبه، قال: اربعة أملاك يحملون العرش على أكتافهم. لكل واحد منهم اربعة وجوه: وجه ثور، ووجه اسد، ووجه نسر، ووجه انسان، ولكل واحد منهم اربع اجنحة: اما جناحان فعلى وجهه ليحفظاه من ان ينظر الى العرش فيصفق، فيهفو بهما ليس له كلام الا ان يقول قدوس الملك القوى، ملات عظمته السموات والأرض،..)
(29) منها فى البقرة/ 29، والرعد/ 2، والسجدة/ 4، والأعراف/ 54. وهود/ 7، وطه/ 5، والمؤمن 7، والحاقة/ 17، والزمر/ 75، والفرقان/ 59. [.....]
(30) انظر مقال (اسطورة الأوعال) للكوثري فى مجلة الإسلام (العدد 41 من سنة 1359 هـ) .(5/104)
(عن العباس بن عبد المطلب قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوسا فى البطحاء، إذ مرت سحابة فقال: اتدرون ما هذه؟ قلنا: سحاب، قال: والمزن.
قلنا: والمزن. قال: والقتار فسكتنا. قال: اتدرون كم بين السماء والأرض قلنا: الله ورسوله اعلم. قال: بينهما مسيرة خمسمائة عام، الى ان ذكر السموات السبع، ثم قال: وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، وفوق ذلك ثمانية او عال، ما بين ركبهم واظلافهم كما بين السماء والأرض، وفوق ذلك العرش وما بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض، والله عز وجل فوق ذلك، ولا يخفى عليه شيء من اعمال بنى آدم) «31» .
«وحديث الأوعال أخرجه احمد فى مسنده بطريق عبد الرزاق، عن يحيى بن العلاء، عن شعيب بن خالد، عن سماك بن حرب، عن عبد الله بن عميرة، عن العباس.
«وأخرجه ابو داود والترمذي وابن ماجه بطريق سماك، عن ابن عميرة، عن الأحنف بن قيس، عن العباس، بزيادة الأحنف بين ابن عميرة والعباس.
«وقد تواترت نصوص ابن معين واحمد والبخاري ومسلم وابراهيم الحربي والنسائي وابن عدى وابن العربي وابن الجوزي وابى حيان على انه غير صحيح» .
قال ابن معين: لا تزول الجهالة عن الرجل برواية مثل سماك عنه، كما فى شرح علل الترمذي لابن رجب.
وعبد الله بن عميرة المذكور فى السند لم يرو عنه سوى سماك مطلقا، وقال احمد عن يحيى بن العلاء فى سنده «كذاب يضح الحديث» «32» .
وقال ابو حيان فى تفسير قوله تعالى (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) «33» : وذكروا فى صفات هؤلاء الثمانية اشكالا متكاذبة ضربنا عن ذكرها صفحا.
وقد آيد ابن جرير تفسير الثمانية بثمانية صفوف من الملائكة بأسانيد سردها واغفل عن ذكر خرافة الأوعال فى تفسير الآية.
والعرش فى الآية هو العرش الذي يستظل به يوم القيامة من يستحق الاظلال، وإضافته الى الله تعالى اضافة تشريف كما لا يخفى.
__________
(31) الملطي: التنبيه والرد: 98.
(32) محمد زاهد الكوثرى: مقالات الكوثرى مطبعة الأنوار بالقاهرة: 208.
(33) سورة الحاقة: 17.(5/105)
ومن راجع أساطير اليونانيين الأقدمين فى آلهتهم وركوبهم عروشا ومراكب علم مصدر تلك الخرافة «34» .
(ج) الكرسي عند المفسرين:
ذهب سعيد بن جبير وابن عباس الى ان الكرسي علمه تعالى، وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره فى آية الكرسي «ولا يؤوده حفظهما» ، على ان ذلك كذلك. فأخبر انه لا يؤوده حفظ ما علم، وأحاط به مما فى السموات والأرض، كما اخبر عن ملائكته انهم قالوا فى دعائهم: رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً «35» فأخبر تعالى ذكره ان علمه وسع كل شيء، فكذلك وسع كرسيه السموات والأرض. واصل الكرسي العلم، ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب: كراسة، ومنه قول الراجز- فى صفة قانص:
حتى إذا ما اجتازها تكرسا «36» وقد فسر ابو موسى، والسدى، والضحاك، وسفيان، وعمار الكرسي بانه (موضع القدمين، وهو الذي يوضع تحت العرش الذي يجعل الملوك عليه اقدامهم) «37» .
(وذهب الضحاك والحسن الى ان الكرسي: العرش «38» .
(وروى عن ابى عبد الله جعفر بن محمد انه قال: العرش والسموات والأرضون
__________
(34) ومن المناسب ان نذكر ان الدكتور مهدى حسين يرى ان لفظ الكرسي بمعناه: المقعد العظيم دخل قديما من الصينية وان أصله الصيني والمراد منه المقعد العظيم مع ظهر رفيع يعتمد عليه كما تصوره الرسامون عرش بوذا «وعروش» الملوك وقد ادخلت فيه الراء «» فأصبح--- ويعنى الكرسي كما هو الحال فى الكلمات الصينية التي انتقلت الى اللغات الهندية. (مجلة الجمعية الآسيوية الملكية «فى بومباى» ج 28/ 1 ص 19- 21) ويضيف حسين ابن فيض الله الهمداني انه قد يكون اللفظ الصيني انتقل الى اللغات الهندية والفارسية القديمة «البهلوية» ثم الى الآرامية ومن الآرامية والسريانية أخذته العرب لا من الصينية مباشرة (راجع الرازي: الزينة:
2/ 150 هامش رقم 1) ويرى الأستاذ جيفرى ان العرب أخذته من الآرامية، انظر:
. 24 ...
وربما تاثر مقاتل فى تفسيره المادي للكرسي بالمسيحية التي كانت موجودة فى مدينة بلخ.
وقد جاء فى إنجيل متى الاصحاح الخامس الآية 24- 25 (واما انا فأقول لكم لا تحلفوا البتة لا بالسماء لأنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدمه) .
(35) غافر: 7.
(36) الطبري، تفسير: 3/ 9- 11، وانظر الراغب الاصفهانى: مفردات غريب القرآن: 441 عن ابن عباس، وابن قتيبة، الاختلاف فى اللفظ: 39، والرازي: الزينة فى الكلمات العربية الاسلامية: 2/ 151.
(37) الطبري، تفسير: 3/ 9- 11.
(38) الطبري، تفسير: 3/ 15، المطهر بن طاهر المقدسي: البدء والتاريخ: 1/ 116.(5/106)
وجميع ما خلق الله فى جوف الكرسي كحلقة ألقيتها فى فلاة، وذلك قوله عز وجل:
وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ «39» (البقرة/ 255) .
وعن ابى ذر قال: «سمعت رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ما الكرسي فى العرش الا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهر فلاة من الأرض «40» » .
وقد اختلف اللغويون فى تفسير معنى الكرسي، فالأصمعى قال: الكراسة:
الكتاب، سميت بذلك لأنه جمع فيها العلم والحكمة «41» .
ويقال للعلماء (الكراسي) لأنه المعتمد عليهم، كما يقال ارتاد الأرض، يعنى بذلك ان الأرض تصلح بهم. ومنه قول الشاعر:
يحف بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسي بالأحداث حين تنوب «42»
والعرب تسمى اصل كل شيء الكرسي، يقال: فلان كريم الكرسي: اى كريم الأصل «43» .
ويذهب الزجاج الى ان الكرسي فى اللغة الشيء الذي يعتمد عليه ويجلس عليه «44» .
اما الزمخشري فيذهب الى ان الكرسي منسوب الى كرسي الملك، كقولهم دهري «45» .
وأخيرا، نرى ان مقاتلا فسر الكرسي تفسيرا ماديا واعتمد فى وصفه على الاسرائيليات، ولذلك نرفض ما رواه مقاتل فى وصف الكرسي، ونقول: اما ان يكون من المتشابه الذي نؤمن به مع التفويض والتنزيه، او نحمله على معنى من المعاني اللغوية التي أوردناها.
__________
(39) الزينة: 2/ 160 وانظر نفس الخبر عن عطاء: لسان العرب مادة (كرسي) .
(40) الطبري، تفسير: 3/ 9- 11.
(41) الزينة: 2/ 152، قال العجاج:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا ... قال: نعم أعرفه وابلسا
انظر البيت فى لسان العرب مادة (كرسي) .
(42) الطبري، تفسير: 2/ 9- 11 عن سعيد بن جبير.
وانظر البيت فى الزينة: 2/ 151، وفى أساس البلاغة نقلا عن قطرب مادة (كرسي) .
(43) الطبري: تفسير: 3/ 9- 11، والزمخشري: الأساس مادة (كرسي) ، ولسان العرب مادة (كرسي) . [.....]
(44) لسان العرب، مادة (كرسي) .
(45) الأساس مادة (كرسي) .(5/107)
3- العرش.
جمع مقاتل فى تفسير العرش بين التجسيم والتفويض، ففي تفسير الآية 17 من سورة الحاقة: قال مقاتل: (ويحمل عرش ربك فوقهم) على رءوسهم (يومئذ ثمانية) من الكروبيين لا يعلم كثرتهم أحد إلا الله عز وجل «46» .
كما فسر العرش فى سورة يوسف بالسرير، قال (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) رفع يوسف أبويه على السرير وجعل أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره وكانت أمه راحيل قد ماتت وخالته تحت يعقوب عليه السلام وهي التي رفعها على السرير «47» .
وقد جسم تجسيما صريحا حين ذكر ان الله استقر «48» فوق العرش «49» .
وفى سورة المؤمن: (غافر) / 15 يقول مقاتل: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ) يقول:
أنا فوق السموات، لأنها ارتفعت من الأرض سبع سموات (ذُو الْعَرْشِ) يعنى هو عليه يعنى على العرش «50» .
وكلمة العرش لها فى اللغة عدة معان مختلفة، فتاتى بمعنى السرير الذي يتخذه الملك «51» . وقد اختار هذا مقاتل فى تاويل قوله تعالى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) قال: اى رفعهما على السرير «52» .
وقد ذهب الى هذا التفسير مفسرون آخرون «53» كابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك «54» .
وقال ابو عبيدة فى قوله تعالى: (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ) مجازه على السرير وقال ايضا فى قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الأعراف/ 54، يونس/ 3» ،
__________
(46) تفسير مقاتل: 2/ 201 ا، وانظر تحقيقنا له: 4/ 423.
(47) تفسير مقاتل: 1/ 185 ب، وانظر تحقيقنا له: 2/ 350- 351.
(48) تفسير مقاتل: 3/ 2 تفسير (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) سورة طه: 5، وانظر تحقيقنا له:
3/ 21- 22.
(49) الملطي: التنبيه والرد: 71.
(50) تفسير مقاتل: 2/ 128 ا، وانظر تحقيقنا له: 3/ 708، وفى سورة الزمر/ 75 يقول مقاتل: (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) يعنى تحت العرش (تفسير مقاتل 2/ 126 ب) وانظر تحقيقنا له: 3/ 689.
(51) الزينة: 2/ 155، والبدء والتاريخ: 1/ 165- 166.
(52) تفسير مقاتل: 1/ 185 ب، وانظر تحقيقنا له: 2/ 250- 251.
(53) الزينة: 2/ 155.
(54) الطبري، تفسير: 13/ 67- 68.(5/108)
مجازه ظهر على العرش وعلا عليه، ويقال استويت على ظهر الفرس وعلى ظهر البيت «55» .
كذلك جاءت كلمة العرش بمعنى الملك «56» ، وبمعنى المظلة وسقف البيت «57» .
كقوله تعالى: وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها «58» .
ونقول فى العرش ما قلناه فى الاستواء والكرسي، فاما ان يكون من المتشابه الذي نؤمن به مع التفويض والتنزيه واما ان نحمله على معنى من المعاني اللغوية المذكورة.
4- يمين الله
قال تعالى فى سورة الزمر/ 67: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
قال مقاتل فى تفسيرها:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ نزلت في المشركين يقول: وما عظموا الله حق عظمته وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ مطويات يوم القيامة بيمينه فيها تقديم، فهما كلاهما في يمينه يعني في قبضته اليمنى، قال ابن عباس: يقبض على الأرض والسموات جميعا فما يرى طرفهما من قبضته ويده الاخرى يمين) «59» .
5- الساق
قال تعالى فى سورة القلم/ 42: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ.
وقد روى مقاتل عن ابن مسعود في قوله: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) يعنى عن ساقه اليمنى فيضيء نور ساقه الأرض فذلك قوله: (أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) يعنى نور ساقه اليمنى. هذا قول عبد الله بن مسعود. رضي الله عنه.
__________
(55) مجاز القرآن: 1/ 273.
(56) البغدادي، اصول الدين: 113. وانظر الزينة: 2/ 158.
(57) الزينة: 2/ 155. ولسان العرب. والصحاح. وأساس البلاغة مادة: (عرش) . [.....]
(58) البقرة: 259. والكهف: 42.
(59) تفسير مقاتل: 2/ 126 ا، وانظر تحقيقنا له، 2/ 685- 686.(5/109)
قال مُقَاتِلُ: وقال ابن عباس رضي الله عنه في قوله (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) يعنى عن شدة الآخرة كقوله قامت الحرب على ساق، قال: يكشف عن غطاء الآخرة وأهوالها «60» .
وقال تعالى فى سورة الزمر/ 69: وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها. قال مقاتل: يعني بنور ساقه فذلك قوله تعالى، يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ «61» .
6- تجسيم بالتلميح لا بالتصريح
هناك آيات فسرها مقاتل تفسيرا يشعر بالتجسيم او يحتمل التجسيم، وكان من المحتمل ان تمر هذه الآيات بدون اى اعتراض، لولا ما سبق لنا معرفته عن مقاتل بانه من المجسمة.
من ذلك تفسير قوله تعالى فى الأنفال/ 43: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ «62» .
وفى سورة الإنسان/ 20 يقول تعالى: (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) وقد جمع مقاتل فى تفسيرها بين الاسرائيليات والتشبيه «63» .
وأخيرا نقول، فسر مقاتل اليمين بالقبضة.
وقد ذهب كثير من المفسرين فى تفسير اليمين الى انها لا تعنى اليد الحقيقة، وأخرجوها على سبيل الاستعارة والمجاز.
وفسر ثعلب قوله تعالى: وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ (الزمر/ 67) فقال:
هو كما تقول الدر بيدي، والشيء فى يدي «64» .
اما الساق فيكفى فيها ما رواه مقاتل عن ابن عباس فى قوله- تعالى-: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ» يعنى عن شدة الآخرة كما تقول قامت الحرب على ساق.
ونحن إزاء جميع ما ورد فى القرآن من المتشابه نؤمن به مع التفويض والتنزيه.
او نؤوله بما يناسب السياق ومقتضى اللغة.
__________
(60) تفسير مقاتل: 2/ 206 ا، وانظر تحقيقنا له: 4/ 408- 411.
(61) تفسير مقاتل: 2/ 126 ا، وانظر تحقيقنا له: 3/ 687- 688.
(62) تفسير مقاتل: 1/ 146 ا. قال (لما التقوا ببدر قلل الله المشركين في أعين الناس..)
وانظر تحقيقي له 2/ 117.
(63) تفسير مقاتل: 2/ 221 وانظر تحقيقي له: 4/ 528- 531 يقول فى صفة رجل من اهل الجنة (فيأتيه رسول رب العزة فيقول له السَّلامُ عَلَيْكَ يَا وَلِيَّ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُقْرِئُكَ السَّلامَ وَهُوَ عَنْكَ رَاضٍ فَلَوْلا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ الْمَوْتَ لَمَاتَ مِنَ الْفَرَحِ فَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) سورة الإنسان/ 20.
(64) ثعلب. مجالس ثعلب: 2/ 469.(5/110)
«الفصل الرابع تعقيب وانصاف
1- كلمة انصاف لمقاتل المتكلم.
2- الرؤية عند مقاتل.
3- مقاتل والارجاء.(5/111)
- 1- كلمة انصاف لمقاتل المتكلم
انفردت كتب الفرق بنسبتها الى مقاتل القول «بان الله لحم ودم ... » ولم يرد ذلك فى تفسير مقاتل مطلقا.
وما صحت نسبته اليه من التجسيم والتشبيه فى الاستواء، والفوقية، وصفة العرش والكرسي، واليمين والساق- اقوال يشترك فيها مقاتل مع بعض السلف.
بقي قوله باللحم والدم. وقد كانت بعض هذه الكتب تروى كلام خصومها بشيء من التحامل وربما أضافت الى الرجل ما لم يقله. رغبة فى تنفير الناس من معتقده السيئ، مما حمل السكسكي فى برهانه على ان يذهب الى ان مقاتل بن سليمان المفسر غير مقاتل بن سليمان القائل باللحم والدم «1» .
غير ان الكوثرى خالفه وقال انهما شخص واحد «2» .
وبعض أئمة الكلام ومؤرخى الفرق اثنوا على مقاتل واعتبروه أساسا وركيزة لدفع الزيغ والإلحاد.
فالشهرستاني جعل مقاتلا من أئمة السلف. وقرنه بالإمام مالك بن انس حيث قال:
(ان السلف من اصحاب الحديث لما رأوا توغل المعتزلة فى علم الله ومخالفة السنة التي عهدوها من الائمة الراشدين. ونصرهم جماعة من بنى أمية على قولهم بالقدر، وجماعة من خلفاء بنى العباس على قولهم بنفي الصفات وخلق القرآن تحيروا فى تقرير مذهب اهل السنة والجماعة فى متشابهات آيات الكتاب واخبار النبي صلى الله عليه وسلم.
فاما احمد بن حنبل وداود بن على الاصفهانى وجماعة من أئمة السلف- فجروا على منهاج السلف المتقدمين عليهم من اصحاب الحديث مثل مالك بن انس ومقاتل ابن سليمان وسلكوا طريق السلامة فقالوا نؤمن بما ورد به الكتاب والسنة، ولا نتعرض للتأويل بعد ان نعلم قطعا ان الله عز وجل لا يشبه شيئا من المخلوقات وان كل ما تمثل فى الوهم فانه خالقه ومقدره. وكانوا يتحرزون عن التشبيه الى غاية ان قالوا من حرك يده عند قراءته «خلقت بيدي» او أشار بأصابعه عند رواية- قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن- وجب قطع يده وقطع إصبعه) «3» .
__________
(1، 2) الفرق بين الفرق: للبغدادي، تحقيق الكوثرى سنة 1948 م: 139 هامش.
(3) الامام ابو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني (ت سنة 548 هـ، الملل والنحل:
145- 146. صححه وعلق عليه: احمد فهمي. مطبعة حجازي بالقاهرة سنة 1948 م.(5/113)
اما الامام الشافعي فقد جعل الناس فى تفسير القرآن عيالا على مقاتل ابن سليمان.
ويذكر الدكتور صبحى الصالح ان مقاتلا من كبار علماء المسلمين ومفسريهم «4» .
ونحن نذكر جيدا قول الامام على لابنه: يا بنى اعرف الرجال بالحق، ولا تعرف الحق بالرجال.
فنقول سحقا لمقاتل ان كان قد قال بان الله لحم ودم، بيد ان الإنصاف يقتضينا ان نذكر ان هذا القول لم ينسب لمقاتل فى اى كتاب من كتب التراجم او التاريخ، وانما نسب اليه فى كتب الفرق وحدها، وكتب الفرق كانت تحكى كلام الخصوم بشيء من المبالغة أحيانا.
فواجبنا ان نأخذ آراء مقاتل من كتبه هو، ومن حسن الحظ ان بعضها مخطوط فى المتاحف، ونحن فى سبيلنا اليه.
يقول الدكتور محمد يوسف موسى «5» :
(ونعتقد انه اولى بالباحث المنصف ان يتشدد فى قبول كلام الخصم عن الخصم وفى نسبة ما ينسبه له، وبخاصة كتاب الفرق بين الفرق للبغدادي، وكتاب الملل والنحل للشهرستاني- من أهم المراجع فى المذاهب الاسلامية، وصاحب الاول- كما يذكر الامام فخر الدين الرازي- كان شديد التعصب على المخالفين ولا يكاد يحكى مذاهبهم على وجوهها، وعنه أخذ الشهرستاني مذاهب الفرق الاسلامية) «6» .
وإذا طالعنا كتاب التنبيه والرد للملطى المتوفى سنة 377 هـ «وهو من اقدم ما الف فى شرح احوال الفرق «7» » - رأيناه يثنى على مقاتل بن سليمان بل يعتبره ملجأ وسندا فى الرد على الزنادقة الذين شكوا فى القرآن، وزعموا ان فيه متشابها، ويقول: (فمن طلب علم ما أشكل عليه من ذلك عند اهل العلم به من ثقات العلماء وجد مطلبه، ولعمري ان اهل الأهواء فى مثل ذلك اختلفوا وضلوا، وهذه جملة جاءت بها الرواية، وأخذناها عن الثقات عن مقاتل بن سليمان ان تدبرت ذلك نفعك ان شاء الله. قال مقاتل ... ) «8» ونقل عنه أربعا وعشرين صفحة فى تاويل متشابه القرآن.
__________
(4) النظم الاسلامية: 179، حيث يقول: واشتهر امر جهم بعد مناظرة بينه وبين شخص من كبار علماء المسلمين ومفسريهم هو «مقاتل بن سليمان» الذي كان من مثبتى الصفات لله. بينما كان جهم متأثرا باستاذه- الجعد بن درهم- فى تجريد الله عن الصفات.
(5) دائرة المعارف الاسلامية: 6/ 210.
(6) مناظرات الرازي طبع الهند عام: 1315 هـ: 25.
(7) مقدمة الكتاب، الكوثرى.
(8) انظر التنبيه والرد للملطى. تحقيق الكوثرى: 58- 82. [.....](5/114)
والظاهرة الجديرة بالملاحظة ان تفسير مقاتل قد خلا خلوا تاما من القول باللحم والدم المنسوب اليه فى كتب النحل، فاما ان يكون مقاتل قال ذلك فى صدر حياته ثم عدل عنه، او يكون خصومه تقولوه عليه، او يكون القائل باللحم والدم مقاتل ابن سليمان آخر، غير مقاتل بن سليمان المفسر، كما ذكر ذلك السكسكي فى برهانه، او يكون رواة تفسير مقاتل هذبوه وحذفوا منه القول باللحم والدم، او يكون مقاتل قال ذلك فى علم الكلام، او عند جداله مع جهم فى الصفات، ولم يقله فى تفسير القرآن الكريم.
اما ترجيح احد هذه الفروض، فهو ما أرجو ان اهتدى اليه ان شاء الله.
- 2- رؤية الله عند مقاتل
ذهب مقاتل الى اثبات الصفات، كما فسر القرآن على اثبات رؤية الله يوم القيامة.
وقد أنكر جهم رؤية الله يوم القيامة «9» ، اعتمادا على قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ «10» .
اما مقاتل فقد اثبت الرؤية اعتمادا على قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ- (القيامة/ 22، 23) .
وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (المطففين/ 15) .
وقوله سبحانه: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (البقرة/ 210) «11» .
وقوله تعالى: (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ (الأحزاب/ 44) .
وقد فسر هذه الآيات على اثبات رؤية الله تعالى يوم القيامة، اما الآيات التي تنفى رؤية الله مثل لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ فقد أولها مقاتل بان الخلق لا يرون الله فى الدنيا دون الآخرة، ولا فى السموات «12» دون الجنة. قال مقاتل: «واما قوله جل ثناؤه لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «13» وقال فى آية اخرى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ
__________
(9) التنبيه والرد: 111، الغنية: 1/ 90.
(10) سورة الانعام: 103.
وانظر: جهم بن صفوان واثره فى التفكير الإسلامي، خالد العسلي: 98.
(11) انظر تفسير مقاتل لهذه الآية فى: 1/ 33 ا.
وفيه ما يشعر بالتجسيم- الذي يتنزه الله عنه-. او انظر تحقيقي لتفسير مقاتل: 1/ 180.
(12) هذه نزعة حشوية عند مقاتل يثبت ان الله فى السماوات، وإذا تحدد له مكان صار جسما وصار حادثا، وكل ذلك مما يتنزه عنه الله.
(13) سورة الانعام: 102.(5/115)
فكان هذا عند من يجهل التفسير ينقض بعضه بعضا، وليس بمنتقض ولكنها فى تفسير الخواص فى المواطن المختلفة.
فاما تفسير لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يعنى لا يراه الخلق فى الدنيا دون الآخرة ولا فى السموات دون الجنة وقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ يعنى يوم القيامة (ناضرة) يعنى الحسن والبياض يعلوها النور إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ ينظرون الى الله عز وجل يومئذ معاينة- فهذا تفسيرهما «14» .
ومن متشابه آيات الرؤية قوله سبحانه لموسى لَنْ تَرانِي الأعراف/ 143، وقوله سبحانه حكاية عن محمد صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى النجم/ 13.
وقد أول مقاتل الآيتين بان قوله تعالى لموسى لَنْ تَرانِي يعنى فى الدنيا، فاما فى الجنة فان موسى وغيره يرونه فى الجنة معاينة. واما قوله عن محمد صلى الله عليه وسلم وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى فقال: رآه فى الجنة ليلة اسرى به.
ولا يخلو تفسير مقاتل لهذه الآيات من نزعة التشبيه والتجسيم- وهي نزعة فاسدة- فى خلال هذا التفسير العظيم «15» .
وقد كان الامام الشافعي يعتقد رؤية الله يوم القيامة «16» ويقول: (لو لم يعرف ابن إدريس انه سيرى ربه ما عبده فى هذه الدنيا) «17» .
ونسب الأشعري «18» الى بعض المسلمين اعتقادهم: ان اهل الجنة يرون ربهم
__________
(14) الملطي، التنبيه والرد، تحقيق الكوثرى: 63.
(15) انظر نص كلام مقاتل فى تفسيره: 1/ 33 مخطوطة احمد الثالث، وانظر تحقيقنا له:
1/ 180، وفى التنبيه والرد على اهل الأهواء والبدع: 63- 64، حيث يقول: قال مقاتل:
واما قوله حيث قال موسى لربه عز وجل (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي) وقال فى آية اخرى لمحمد صلى الله عليه وسلم (ولقد رآه نزلة اخرى) فكان هذا عند من يجهل التفسير ينقض بعضه بعضا وليس بمنتقض ولكنهما فى تفسير الخواص فى المواطن المختلفة، فاما تفسير قوله جل اسمه لموسى لَنْ تَرانِي، قال موسى لما سمع كلام ربه بأرض القدس اشتاق الى رؤيته فقال رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ فقال الله عز وجل لَنْ تَرانِي يعنى فى الدنيا فاما فى الجنة فان موسى وغيره يرونه فى الجنة معاينة.
واما تفسير قوله لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى فقال: رآه فى الجنة ليلة اسرى به، تصديق ذلك قوله: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى فذلك قوله: (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) (سورة النجم/ 14- 17) يقول ما زاغ بصر محمد عن رؤية ربه حين رآه، نظر اليه فى جنة المأوى وما ظلم، كما قال موسى (تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ..) إلخ.
(16) السبكى، طبقات الشافعية: 1/ 115، محمد ابو زهرة: الشافعي: 137 ط 2.
(17) السبكى، طبقات الشافعية: 1/ 115.
(18) مقالات الاسلاميين: 1/ 264.(5/116)
يوم القيامة، ولكن ليس بالقوة الموضوعة فى العين بل بقوة خرى موهوبة من الله وقد سماها بعضهم «الحاسة السادسة «19» » .
وقد يدوا اعتقادهم فى رؤية الله يوم القيامة بالآيات التي تثبت الرؤية وسبق أن ذكرها مقاتل، وقروا مثله بعدم جواز رؤيته تعالى فى الدنيا «20» ، ونه تعالى يرى باصار يوم القيامة، كما يرى القمر ليلة البدر، يراه المؤمنون ولا يراه الكافرون، لأنهم محجوبون عن الرؤية «21» كما قال تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ وقد فسر مجاهد المكي (ت 102 هـ) قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) بقوله: هو م من ان تدركه الأبصار «22» ، وقال: «تنظر منه الثواب» «23» » .
اما عطية العوفى الكوفي (ت 111 هـ/ 729 م) فقد فسر الآية السابقة بقوله:
«هم ينظرون الى الله لا تحيط ابصارهم به من عظمته، وبصره يحيط بهم، فذلك قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ «24» .
وقد وردت فى البخاري وغيره من كتب الصحاح أحاديث تثبت رؤية الله تعالى، «وان المؤمنين يرونه يوم القيامة كما ترى الشمس فى يوم صحو ليس به غيم، وكما يرى القمر ليلة البدر لا يشك فى رؤيته» «25» .
وقد أول المعتزلة النظر الى الله بانتظار ثوابه.
__________
(19) قال ضرار وحفص الفرد: ان الله لا يرى بالأبصار ولكن يخلق لنا يوم القيامة حاسة سادسة غير حواسنا هذه فندركه بها، وندرك ما هو بتلك الحواس. (مقالات الاسلاميين: 1/ 264) .
(20) اختلف الصحابة فى رؤية النبي ربه ليلة الاسراء، والمتفق عليه عند أكثرهم انه رآه (النووي بستان العارفين: 59- 60) وهذا ما اختاره مقاتل، وعلل ذلك بان النبي كان فى الجنة والله يرى فى الجنة. وقد نفت السيدة عائشة ان يكون النبي راى ربه. انظر الطبري، تفسير:
7/ 300، والبخاري: 4/ 275، كتاب التوحيد، والترمذي: 2/ 189.
(21) مقالات الاسلاميين: 1/ 32.
(22) الطبري، تفسير: 7/ 299، وانظر ابن تيمية تفسير سورة الإخلاص: 94 (القاهرة سنة 1323 هـ) . [.....]
(23) الطبري، تفسير: 29/ 192.
(24) الطبري، تفسير: 7/ 299.
(25) البخاري، (كتاب الرقاع) : 1/ 140، (كتاب مواقيت الصلاة) : 1/ 105) ، وسنن النسائي باب الرؤية: 4/ 322، وابن ماجه المقدمة حديث رقم 177- 180، ومسلم، كتاب الايمان حديث رقم 299- 302، كتاب الزهد حديث رقم 116.(5/117)
- 3- مقاتل والارجاء «26»
اتهم مقاتل بانه من أول المرجئة، كما اتهم ابو حنيفة بذلك.
والمرجئة فرقة وقفت موقفا حياديا من الخلاف الذي وقع فى عصر الصحابة- بعد مقتل عثمان رضى الله عنه- والخلاف الذي كان فى العصر الأموي، وأرجأت الحكم على الجميع الى الله سبحانه «27» .
وذهبت طائفة من المرجئة الى ان الله يعفو عن كل الذنوب ما عدا الكفر، فلا تضر مع الايمان معصيته كما لا تنفع مع الكفر طاعة «28» .
وقد وجد الفساق فى هذا المذهب الفاسد ما يشبع نهمهم ويبرر مفاسدهم فاستتر به كل مفسد مستهتر، قال زيد بن على بن الحسين «ابرا من المرجئة الذين اطمعوا الفساق فى عفو الله» «29» .
وقالت المعتزلة ان مرتكب الكبيرة مخلد فى النار، وأطلقوا لقب المرجئة على كل من لا يقول بذلك، ما دام يرى ان صاحب الكبيرة ليس مخلدا، ولو كان يقول انه يعذب بمقدار ما أذنب «30» .
(وقد عد من المرجئة على هذا النحو عدد كبير غير ابى حنيفة وأصحابه، ومنهم
__________
(26) الارجاء على معنيين: أحدهما بمعنى التأخير، كما فى قوله تعالى: (ارجه وأخاه) ، والثاني إعطاء الرجاء (الملل والنحل: 1/ 222) .
(27) اعتمدت المرجئة فى ذلك الأصل على حديث
رواه ابو بكر عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو: «ستكون فتن القاعد فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي فيها- الا فان نزلت- او وقعت- فمن كانت له ابل فليلحق بإبله، ومن كانت له غنم فيلحق بغنمه، ومن كانت له ارض فليلحق بأرضه» . قال رجل من الصحابة: ومن لم تكن له ابل ولا غنم ولا ارض؟ قال رسول الله «ليعمد الى سيفه فليدعه على حده بحجر ثم لينج ان استطاع النجاة» .
لكن فى هذا الحديث مقالا، وان كانت فى الصحيحين أحاديث تقارب معناه العام وتختلف عنه اختلافا يسيرا.
(انظر دكتور صبحى الصالح: النظم الاسلامية: 143 ط 1) .
(28) قسم عبد القاهر المرجئة الى ثلاثة اصناف،) الفرق بين الفرق: 20، تحقيق الكوثرى ط سنة 1948 م) .
وقسم ابو الحسن الملطي المرجئة الى اثنتى عشرة فرقة، (التنبيه والرد للملطى: 139 تحقيق الكوثرى ط سنة 1949 م) .
اما الشهرستاني فقسم المرجئة الى اربعة اصناف: مرجئة الخوارج، ومرجئة القدرية، ومرجئة الجبرية، والمرجئة الخالصة، (الملل والنحل: 222- 223 تحقيق احمد فهمي ط سنة 1948 م) .
والأشعري حدد المرجئة باثنتي عشرة فرقة (مقالات الاسلاميين: 1/ 197) .
(29) محمد ابو زهرة، ابو حنيفة: 137 ط دار الفكر العربي سنة 1960 م.
(30) الملل والنحل: 1/ 226، وانظر دكتور صبحى الصالح: النظم الاسلامية: 149 ط بيروت سنة 1965 م (دار العلم للملايين) .(5/118)
الحسن بن محمد بن على بن ابى طالب، وسعيد بن جبير، وطلق بن حبيب، وعمرو ابن مرة، ومحارب بن دثار، ومقاتل بن سليمان، وحماد بن ابى سليمان، وقديد ابن جعفر، وهؤلاء من أئمة الفقه والحديث لم يكفروا اصحاب الكبائر الكبيرة، او يحكموا بتخليدهم فى النار) «31» .
وقد قسم العلماء المرجئة الى قسمين:
1- مرجئة السنة وهم الذين قرروا ان مرتكب الكبيرة يعذب بمقدار ما أذنب، ولا يخلد فى النار، وقد يتغمده الله برحمته «32» .
ويمكن ان يعد من هذا الصنف مقاتل بن سليمان وابو حنيفة وأصحابه وغيرهم ممن سبق ذكرهم.
2- ومرجئة البدعة وهم الذين ذهبوا الى انه لا يضر مع الايمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة «33» .
ولقد صحح الشهرستاني ما اتهم به مقاتل من الارجاء فقال:
(ويحكى عن مقاتل بن سليمان ان المعصية لا تضر صاحب التوحيد والايمان وانه لا يدخل النار مؤمن.
والصحيح من النقل عنه ان المؤمن العاصي يعذب يوم القيامة على الصراط وهو على متن جهنم يصيبه لفح النار ولهبها فيتألم بذلك على قدر المعصية، ثم يدخل الجنة، ومثل ذلك بالحبة على المقلاة المؤججة بالنار) «34» .
وإذا قرانا تفسير مقاتل أدركنا انه ليس من مرجئة البدعة (الذين يقولون لا تضر مع الايمان معصية ولا تنفع مع الكفر طاعة) .
وفى تفسير بعض الآيات نشم رائحة الارجاء عند مقاتل «35» ، لكنه ليس ارجاء البدعة. بل هو ارجاء السنة «36» او اقرب الأشياء الى ارجاء السنة.
__________
(31) محمد ابو زهرة فى (ابو حنيفة) : 137 ط دار الفكر العربي سنة 1960 م، (تاريخ المذاهب الاسلامية) : 145، واحمد أمين فى. ضحى الإسلام: 3/ 223.
(32، 33) محمد ابو زهرة، تاريخ المذاهب الاسلامية: 145. وقارن: الدكتور صبحى الصالح، النظم الاسلامية: 148- 149.
(34) الشهرستاني، الملل والنحل: 228 تحقيق احمد فهمي. واحمد أمين، ضحى الإسلام:
3/ 223.
(35) انظر تفسير مقاتل لقوله تعالى: (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) سورة الحجرات: 14. قال: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ) يعنى ولما يدخل التصديق.
تفسير مقاتل: 2/ 167 ا، وانظر تحقيقنا له: 4/ 98- 99.
(36) انظر تفسير مقاتل للآية 124 وما بعدها من سورة الشعراء، حيث يذهب الى ان العمل من لوازم الايمان. (تفسير مقاتل: 2/ 55 ب، 56 ا) وانظر تحقيقنا له: 3/ 282- 283.(5/119)
القسم الثاني منهج مقاتل فى تفسير القرآن الكريم
تميز منهجه بخصائص واضحة فى الأمور الآتية:
1- اسباب النزول.
2- النسخ.
3- المحكم والمتشابه.
4- فواتح السور.
5- الاسرائيليات.
6- التشيع.
7- المكي والمدني.
8- كيفية إنزال القرآن.(5/121)
الباب الاول اسباب النزول
1- اسباب النزول فى تفسير مقاتل.
2- اسباب النزول وشئون الاسرة.
3- اهداف القرآن ومقاصده السامية.
4- نماذج تطبيقية من هدى القرآن.
5- القرآن والحرب.
6- العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
7- مثال بحركة النفاق فى المدينة.
8- وصف المنافقين فى سورة التوبة.
9- التعبير عن سبب النزول.
10- تعدد الأسباب والمنزل واحد.
11- تعدد النازل والسبب واحد.
12- فوائد معرفة اسباب النزول.(5/123)
- 1- اسباب النزول فى تفسير مقاتل
تفسير مقاتل تفسير بالمأثور، اى انه يعتمد على ما اثر عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحابته والتابعين، ولذلك اعتنى مقاتل فيه بأسباب نزول القرآن، ومن نزلت فيهم الآية.
وقد كان الرأي السائد ضعف الأحاديث والآثار التي اعتمد عليها مقاتل فى اسباب نزول القرآن، وفى تفسير القرآن. ولكن بمقارنة هذه الأحاديث والآثار بكتب السنن، ظهر ان أكثرها غير ضعيف، فضلا عن ان فيها عددا وافرا من الأحاديث الصحيحة.
وتوجد أحاديث ضعيفة فى تفسير مقاتل، وبعضها ضعيف الاسناد، لكن المتن فيه صحيح، واسناده مؤيد بطرق أخرى تقويه «1» .
ولا نستطيع ان نبرئ مقاتلا من تهمة اعتماده على الآثار الضعيفة والموضوعة وخصوصا فى الاسرائيليات، واخطر من ذلك حذفه للإسناد، فقد اختلط بسببه الصحيح بالعليل فى تفسيره، حتى قال فيه ابن المبارك: (يا له من تفسير لو كان له اسناد) .
على انه ليس لكل آية سبب نزول، فان من آيات القرآن ما نزل ابتداء بشرح الدعوة، ويدعو الى الايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذا النوع من
__________
(1) ففي أوائل سورة البقرة يقول الله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ، ... ) : 8- 14.
قال مقاتل: «نزلت هذه الآيات فى عبد الله بن ابى المنافق ... » انظر تفسير مقاتل: 1/ 6 ا، وانظر تحقيقنا له: 1/ 89- 91.
وأورد الأثر بدون اسناد- وترك الاسناد من اخطر الأشياء التي أدت الى ضعف التفسير بالمأثور.
وقد اخرج هذا الأثر الواحدي والثعلبي من طريق محمد بن مروان السدى الصغير عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عباس.
وعلق عليه السيوطي- فى اسباب النزول: 7- بقوله: هذا الاسناد واه جدا، فان السدى الصغير كذاب، وكذا الكلبي، وابو صالح ضعيف.
وقد أورد ابن جرير الطبري تسعة آثار فى تفسير الآية تلتقى فى مجموعها على معنى ما ذكره مقاتل، وهو ان المنافقين كانوا يظهرون الخير ويسرون الشر، وفى تفسير ابن كثير: 1/ 47- 52.
صحح ابن كثير بعض الآثار التي أوردها ابن جرير. وشرح سبب وجود النفاق فى المدينة دون مكة، وعرف النفاق بانه اظهار الخير واسرار الشر اهـ. فالأثر الذي أورده مقاتل ضعيف السند الا انه صحيح المتن ومؤيد بروايات اخرى. [.....](5/125)
الآيات ليس له سبب نزول سوى الأسباب العامة التي تنزلت من أجلها الشرائع، وهي الشرائع، وهي هداية البشر وتنظيم حياتهم، وإرشادهم الى ما فيه خيرهم، واغلب هذا القسم يشتمل على آيات العقائد والوقائع الماضية، وقصص الأنبياء ومشاهد القيامة.
ومن آيات القرآن آيات نزلت بأسباب دعت إليها، شان كثير من آيات احكام العبادات والمعاملات، والحلال والحرام، والغزو والجهاد، والأحوال الشخصية، والحقوق المدنية والمعاهدات الدولية. فان الغالب على أمثال هذه الآيات ان تكون لها اسباب دعت الى نزولها، ومعرفتنا بهذه الأسباب تعين كثيرا على فهم الآيات التي نزلت فيها.
وقد لقى هذا القسم عناية سلف الامة وخلفها، وأفرده جماعة بالتأليف، منهم على بن المديني شيخ البخاري، ومنهم الواحدي، والجعبري، وابن حجر، والسيوطي.
وأشهر كتب اسباب النزول وأيسرها الآن كتابان هما:
اسباب النزول للواحدي المتوفى سنة 468 هـ.
ولباب النقول فى اسباب النزول للسيوطي المتوفى سنة 911 هـ.
وهما مطبوعان متداولان فى أيدي الناس.
ويكاد تفسير مقاتل ان يكون تفسيرا خاصا بأسباب النزول ومن نزلت فيهم آيات القرآن.
ان معرفة سبب النزول يجعلك تعيش فى زمن الوحى تستطلع الحياة وأسبابها، ويعطيك تاريخ الآيات، وما نزلت متحدثة عنه او مبينة لحكمه ايام وقوعه.
فإذا وقعت حادثة فى زمن الرسول (ص) نزل الوحى من السماء يبين الحكم ويشرع للناس ما يرشدهم الى ما فيه صلاحهم فى معاشهم ومعادهم. سواء أكانت تلك الحادثة خصومة دبت، كالخلاف الذي شجر بين جماعة من الأوس وجماعة من الخزرج، بدسيسة من اعداء الله اليهود حتى تنادوا: السلاح السلاح، ونزل بسببه تلك الآيات الحكيمة فى سورة آل عمران من أول قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ ... «2»
الى آيات اخرى بعدها هي من أروع ما ينفر من الانقسام والشقاق ويرغب فى المحبة والوحدة والاتفاق.
ام كانت تلك الحادثة خطا ارتكب كخطا ذلك الأنصاري الذي سكر فضرب وجه سعد بن ابى وقاص بلحى بعير فشجه، فانطلق سعد مستعديا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل تحريم الخمر فى قوله سبحانه فى سورة المائدة:
__________
(2) سورة آل عمران: 100- 105.(5/126)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ- 90- إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ- 91 «3» .
وما اكثر الاخطاء التي تحدث فى المجتمع، لكن القرآن يضع العلاج الحاسم لكل خطا، حتى يحفظ المجتمع من استمرار الخطا او تكرار الجريمة.
فهذا عَيَّاش بن أَبِي رَبِيعَة بن المغيرة الْمَخْزُومِيّ، يقتل مؤمنا خطا، والقتيل هو الْحَارِث بن يزيد بن أَبِي أنيسة من بنى عامر بن لؤي، فينزل الوحى علاجا للمشكلة الحادثة، ونظاما متبعا فى أمثالها الى يوم الدين، يقول تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا «4» .
وحينما قتل مقيس بن ضبابة الكناني ثم الليثي رجلا من قريش يقال له عمرو الفهري عامدا متعمدا- انزل الله الآية الكريمة التي يقول فيها: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً «5» .
- 2- اسباب النزول وشئون الاسرة
وقد تكون الحادثة سببا فى بيان حكم فى شان من شئون الاسرة او المجتمع:
فمن امثلة ذلك ان اهل الجاهلية كانوا لا يورثون البنات والصغار من الذكور ولكن القرآن كرم المراة فجعل لها نصيبا من الميراث، وكرم انسانية الإنسان فجعل نصيب الصغير والكبير سواء.
وحدث هذا التشريع اثر حادثة معينة، حتى تتشوف له النفوس وتستجيب له القلوب، فقد جاء فى تفسير مقاتل لقوله تعالى (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً)
__________
(3) ورد ذلك فى تفسير مقاتل: مخطوطة احمد الثالث ج 1 ورقة 107 ا، وانظر تحقيقي له:
1/ 500. كما ورد فى اسباب النزول للواحدي: 118 وقد ساق الواحدي ما رواه مقاتل ثم ساق روآية اخرى طويلة فى سبب نزول الآية. كما أورد السيوطي عدة روآيات فى اسباب نزول هذه الآية وما بعدها.
(4) سورة النساء: 92. وقد ورد سبب نزول الآية فى تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث ج 1 ورقة 82 ا. وانظر تحقيقي له: 1/ 396- 397.
(5) سورة النساء: 93، وقد أورد مقاتل القصة بطولها فى تفسيره ج 1 ورقة 82 ب مخطوطة احمد الثالث، وانظر تحقيقي له: 1/ 397- 398.(5/127)
قال المفسرون «6» : ان أوس بن ثابت الأنصاري توفى وترك امراة يقال لها ام كحة وثلاث بنات له منها، فقام رجلان هما ابنا عم الميت ووصياه، يقال لهما سويد وعرفطة فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته شيئا ولا بناته، وكانوا فى الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وان كان ذكرا، انما يورثون الرجال الكبار وكانوا يقولون: لا يعطى الا من قاتل على ظهور الخيل وحاز الغنيمة، فجاءت ام كحة إلى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: يا رسول الله ان أوس بن ثابت مات وترك على بنات: وانا امراة، وليس عندي ما أنفق عليهن، وقد ترك أبوهن مالا حسنا، وهو عند سويد وعرفطة لم يعطيانى ولا بناته من المال شيئا، وهن فى حجري، ولا يطعمانى ولا يسقياني ولا يرفعان لهن رأسا، فدعاهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالا: يا رَسُول الله ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كلا، ولا ينكى عدوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصرفوا حتى انظر ما يحدث الله لي فيهن، فانصرفوا، فانزل الله تعالى هذه الآية: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ ... الآية «7» .
وطبيعي ان تكثر الآيات التي تتحدث عن شئون الاسرة فانها قوام المجتمع ومرتبطة بأحوال الناس فى غدوهم ورواحهم وصباحهم ومسائهم.
وما اكثر المشاكل التي تنشأ فى احوال الزواج، والعشرة الزوجية، والطلاق وما الى ذلك من النفقات، والظهار، والإيلاء، والخلع، واللعان، وغيرها.
وقد حفلت كتب التفسير ببيان هذه الأحكام وذكرت اسباب نزولها كما عنى بها مقاتل فى تفسيره، وهي بالطبع تناولت شخصا او اشخاصا فيجب ان يعرفهم المفسر ليكشف الإبهام فى الآية، ويحيط بالواقع الذي نزلت فيه الآية او الآيات.
وسيظل سياق الآيات مع هذا عاما يشمل الاحياء فى كل زمان ومكان كما قال علماء الأصول، فان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
لقد قال سبحانه: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ «8» .
«فلا بد للمفسر من معرفة سبب نزول هذه الآية توضيحا لمبهماتها، حتى نعرف اسم المراة واسم البعل» «9» .
__________
(6) تفسير مقاتل بن سليمان، مخطوطة احمد الثالث، ج 1 ورقة 70 ب، وانظر تحقيقي له:
1/ 358. 359. كما ورد ذلك فى اسباب النزول للواحدي: 82، وفى لباب النقول فى اسباب النزول للسيوطي: 58.
(7) سورة النساء: 7.
(8) سورة النساء: 128.
(9) تفسير القرآن الكريم التحرير والتنوير: محمد الطاهر بن عاشور: 43.(5/128)
قال المفسرون ومقاتل «9» : نزلت فِي رافع بن خَدِيج الْأَنْصَارِيّ وَفِي امرأته خويلة بِنْت محمد بن مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيّ، وكان رافع قد كره منها امرا اما كبرا او غيره فأراد طلاقها، فقالت لا تطلقني واقسم لي ما بدا لك، فانزل الله: (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً.. الآية) .
وغنى عن البيان ان هذا الحكم وان نزل بسبب رافع وخويلة، هو حكم عام فى كل الأزواج الى يوم القيامة.
كذلك آيات الميراث، فقد يحدث ان يموت بعض الأشخاص فتنزل الآية تجيب على اسئلة ورثته، حلا لمشكلتهم، ولتكون دستورا لمن جاء بعدهم.
وفى تفسير قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ... «10» .
قال المفسرون ومقاتل «11» : «نزلت فِي جَابِر بن عَبْد اللَّه الْأَنْصَارِيّ من بني سَلَمَة بن جشم بن سعد بْن عَلِيّ بن شاردة «12» بن يَزِيد بن جشم بن الخزرج فى أخواته.
والكلالة: هو الميت الَّذِي يموت وليس لَهُ وَلَد وَلا والد فهو الكلالة.
وذلك
أن جَابِر بن عَبْد اللَّه الْأَنْصَارِيّ- رحِمَه اللَّه- مرض بالمدينة فعاده رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يا رَسُول اللَّهِ إني كلالة لا أب لي وَلا وَلَد، فكيف أصنع فِي مالي؟ فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلّ: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) يعني مات (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) الميت من الميراث (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ) إذا ماتت قبله (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ) يعني أختين (فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) يَقُولُ لئلا تخطئوا قسمة المواريث (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من قسمة المواريث (عَلِيمٌ) » .
- 3- اهداف القرآن ومقاصده السامية
وقد انزل الله القرآن هدى ونورا لتصحيح الاعتقاد، وتهذيب الأخلاق، وتشريع الأحكام، وتعليم المسلمين.
فمن آياته ما أبطل بعض عادات الجاهلية، مثل قوله: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ، وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ
__________
(9) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث ج 1 ورقة 86 ب وانظر تحقيقي له: 1/ 412. كما ورد ذلك فى اسباب النزول للواحدي: 106 وذكر ان سبب نزول الآية رواه البخاري عن محمد ابن مقاتل عن ابن المبارك. ورواه مسلم عن ابى كريب وابى اسامة، كليهما عن هشام، كما ورد ايضا فى لباب النقول فى اسباب النزول للسيوطي: 81.
(10) سورة النساء: 176.
(11) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث ج 1 ورقة 91 ا. وانظر تحقيقي له: 1/ 426.
كما ورد ذلك فى اسباب النزول للواحدي: 107. وفى لباب النقول فى اسباب النزول للسيوطي: 82.
(12) فى احمد الثالث: ساردة.(5/129)
سورة المائدة: 103 «13» .
ومن آياته ما نزل ردا على افتراء بعض اليهود مثل افتراء مَالِك بن الضيف اليهودي حين خاصمه عُمَر بن الخَطَّاب فِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وذكر عمر أَنَّهُ مكتوب فِي التوراة، فغضب مَالِك فَقَالَ ما انزل الله على احد كتابا، وكان ربانيا فِي اليهود فعزلته اليهود عن الربانية «14» ، فانزل الله عز وجل قوله: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ سورة الانعام: 91.
ومنه ما فند دعوى الكافرين ورد على مسيلمة بن حبيب الكذاب الحنفي حين زعم ان الله اوحى اليه بالنبوة، فقال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ «15» .
__________
(13) جاء فى تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث ج 1 ورقة 109 ا، وانظر تحقيقنا:
1/ 509- 510.
(ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ) نزلت فِي مشركي العرب منهم قريش وكنانة وعامر بن صَعْصَعَة وبنو مدلج والحارث وعامر ابنا عَبْد مناة وخزاعة وثقيف، أمرهم بِذَلِك فِي الجاهلية عمر بن ربيعة بن لحى (106 ب) بن قمعة بن خندف الخزاعي.
و (البحيرة) الناقة إذا ولدت خمسة ابطن، فإذا كان الخامس سقبا وَهُوَ الذكر ذبحوه للآلهة، فكان لحمه للرجال دون النّساء وإن كان الخامس ربعة يعني أنثى شقوا أذنيها فهي البحيرة- وكذلك من البقر- ولا يجز لها وبر وَلا يذكر اسم اللَّه عَلَيْهَا إن ركبت أَوْ حمل عَلَيْهَا ولبنها للرجال دون النّساء.
وأما (السائبة) فهي الأنثى من الانعام كلها، كان الرجل يسيب للآلهة ما شاء من ابله وبقره وغنمه- ولا يسيب الا الأنثى- وظهورها وأولادها وأصوافها وأوبارها واشعارها وألبانها للآلهة، ومنافعها للرجال دون النساء.
- واما (الوصيلة) فهي «الشاة» من الغنم إذا ولدت سبعة أبطن عمدوا الى السابع، فان كان جديا ذبحوه للآلهة وكان لحمه للرجال دون النساء، وان كانت عناقا استحيوها فكانت من عرض الغنم.
- واما (الحام) فهو الفحل من الإبل إذا ركب أولاد أولاده، فبلغ ذلك عشرة او اقل من ذلك، قالوا قد حمى هذا ظهره فاحرز نفسه، فيهمل للآلهة ولا يحمل عليه، ولا يركب، ولا يمنع من مرعى، ولا ماء، ولا حمى، ولا ينحر ابدا حتى ينفق. فانزل الله عز وجل (ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ) . (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) لقولهم ان الله أمرنا بتحريمه (وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ان الله عز وجل لم يحرمه.
(14) ورد ذلك فى تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث ج 1 ورقة 120 ب، وانظر تحقيقنا له:
1/ 574.
كما ورد فى اسباب النزول للواحدي: 126، وفى لباب النقول فى اسباب النزول للسيوطي:
101. [.....]
(15) سورة الانعام: 93 ورد ذلك فى تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث ج 1 ورقة رقم 121 ا، وانظر تحقيقنا له: 1/ 575، كما ورد فى كتاب لباب النقول فى اسباب النزول للسيوطي: 101.
وفى كتاب اسباب النزول للواحدي: 126.(5/130)
ومن آياته ما بين سماحة الإسلام ويسر تعاليمه وموافقته للفطرة السمحة، كقوله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ «16» .
قال المفسرون ومقاتل «17» : نزلت فِي عشر نفر منهم عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وعمر وابن مَسْعُود وعمار بن ياسر وعثمان بن مَظْعُون والمقداد بن الأسود وأَبُو ذر الغفاري وسلمان الفارسي وحُذَيْفة بن اليمان وسالم مَوْلَى أَبِي حُذَيْفة ورجل آخر، اجتمعوا فِي بيت عُثْمَان بن مظعون وذلك ان بعض الصحابة اتفقوا على ان يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم، ويترهبنوا ويجبوا المذاكير، فانزل الله الآية.
ومنه ما بين احكام العبادات كالصلاة والصيام والطهارة مثل قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى «18» أَوْ عَلى سَفَرٍ ... الآية) «19» .
قال وقد نزلت فِي عَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا حين أسقطت قلادتها وهي مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غزاة بني أنمار، وهم حي من قَيْس عيلان «20» .
وهناك حوادث فردية نادرة الحدوث كانت سببا فى نزول آيات من القرآن الكريم، حلالها وبيانا لامثالها. مثل قوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ... سورة المائدة: 106.
قال مقاتل «21» : نزلت فِي بديل بن أَبِي مارية مَوْلَى العاص بن وائل السهمي كان خرج مسافرا فِي البحر إلى أرض النجاشي ومعه رجلان نصرانيان أَحَدهمَا يسمى تميم بن أَوْس الداري وكان من لحم وعدي بن بندا، فمات بديل وَهُمْ فِي البحر فرمى
__________
(16) سورة المائدة: 87.
(17) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث ج 1 ورقة 106 ب، وانظر تحقيقنا له: 1/ 498.
كما ورد فى اسباب النزول للواحدي: 117، وفى لباب النقول فى اسباب النزول للسيوطي.
(18) قال مقاتل نزلت (وان كنتم رضى) فى عبد الرحمن بن عوف، انظر تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث ج 1 ورقة 93 ب وانظر تحقيقنا له: 1/ 455. كما ورد ذلك فى اسباب النزول للواحدي، وفى لباب النقول للسيوطي.
(19) سورة المائدة: 6 وتمامها: ( ... أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
(20) ورد ذلك فى حديث طويل فى صحيح البخاري ايضا. وهو موافق لما ذكره مقاتل فى اسباب نزول الآية، انظر تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث الجزء الثاني ورقة 35 ا، 35 ب، وانظر تحقيقنا له 3/ 187- 190.
(21) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث ج 1، ورقة رقم 110 ب. 111 ا. وانظر تحقيقنا له:
1/ 511- 523، كما وردت قصة هذه الآية فى اسباب النزول للواحدي: 121، وفى لباب النقول فى اسباب النزول للسيوطي: 97.(5/131)
به فى البحر. وكان بديل قد كتب وصيته ثُمّ جعلها فِي متاعه ثُمّ دفعه إلى تميم وصاحبه وقَالَ لهما أبلغا هَذَا المتاع إلى أهلي فجاءا ببعض المتاع وحبسا جاما من فضة مموها بالذهب، فنزلت الآية «22» .
- 4- نماذج تطبيقية من هدى القرآن
وكثيرا ما تنزل آيات لتهذيب النفوس وتأديب المسلمين بأدب الإسلام فتكون الحادثة سببا فى إبراز أخلاق الإسلام العالية ودعوة المسلمين إليها بلا محاباة ولا مجاملة فى الحق.
كان لأحد المسلمين شهادة على أبيه «23» فنزل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً سورة النساء: 135.
ان الأخلاق السامية التي دعا إليها القرآن كانت نموذجا رائعا للخلق الكريم المتسامى على النفعية والانانية.
«هذا «24» يهودي يسمى زيد بن السمين يستودع طعمة بن أبيرق الأنصاري من الأوس درعا من حديد، ثم يطلب اليهودي درعه من طعمة فيجحده طعمة، ويذهب قوم طعمة الى النبي صلى الله عليه وسلم فيبرئوا صاحبهم ويجادلوا عنه بالباطل، وقد صدقهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرى انهم صدقوا. ولكن القرآن نزل يدافع عن اليهودي ويتهم الأنصاري» رغم حرب اليهود للمسلمين وحملتهم المضلة على الإسلام، وذلك فى قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ، وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً. وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً. وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً. يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ، وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً. ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا، وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ، وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ، وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
«25» .
__________
(22) أكمل مقاتل قصة نزول هذه الآية وتفسيرها باسهاب فى الورقة 110، 111 من المخطوطة ج 1، وانظر تحقيقي له: 1/ 511- 513.
(23) ورد ذلك فى تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث ج 1 ورقة 78 ب، وانظر تحقيقنا له:
1/ 413- 414. كما ورد فى اسباب النزول للواحدي: 106، وفى لباب النقول للسيوطي: 81.
(24) ورد ذلك فى تفسير مقاتل مخطوطة، احمد الثالث ج 1 ورقة 84 ا، 84 ب. وانظر تحقيقنا له: 1/ 404- 406، كما ورد فى اسباب النزول للسيوطي: 78- 79، وفى الواحدي:
103.
(25) سورة النساء: 105- 113.(5/132)
- 5- القرآن والحرب
وإذا كانت الدعوة الاسلامية قد اضطرت الى الحرب تامينا للدعاة، وحماية للحق، وتحطيما لطواغيت الكفر، فان القرآن ينظم هذه الحرب، ويدعو المسلمين الى اعداد العدة للقاء أعدائهم، والى الجهاد فى سبيل الله نصرا لدينه، وطلبا لمرضاته، وابتغاء للثواب من عنده.
وفى أول معركة بين المسلمين والكفار انتصر المسلمون، وغنموا، وبدا ان كل فئة ترى انها أحق بالغنائم من الاخرى، فينزل الوحى مجيبا على سؤالهم ومؤدبا لهم.
يقول تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. قال مقاتل «26» : لما هزم العدو يوم بدر، واتبعتهم طائفة يقتلونهم، وأحدقت طائفة برسول الله عليه الصلاة والسلام، واستولت طائفة على العسكر والنهب- قالت كل طائفة نحن أحق بالانفال، فانزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ ... الآية. فقسمه رسول الله عليه الصلاة والسلام بالسوية.
وقد انزل الله ملائكة السماء تؤيد المؤمنين وتلقى الرعب فى قلوب الكافرين.
ويذهب مقاتل «27» الى ان الملائكة قاتلت يوم بدر مع المؤمنين ولم يقاتلوا يوم الأحزاب ولا يوم خيبر، فى تفسير قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ.
قال مقاتل «28» وذلك
أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نظر الى المشركين وهم
__________
(26) تفسير مقاتل. مخطوطة احمد الثالث ج 1 ورقة رقم 141 ب. وانظر تحقيقنا له:
2/ 99- 100، كما ورد ذلك فى كتب السنة، وفى اسباب النزول للواحدي: 132، وفى لباب النقول فى اسباب النزول للسيوطي.
(27) تفسير مقاتل، مخطوطة احمد الثالث ج 1 ورقة 142 ب، وانظر تحقيقنا له: 104- 105.
2/ 102.
(28) تفسير مقاتل، مخطوطة احمد الثالث ج 1 ورقة 142 ا. وانظر تحقيقنا له: 100- 102.
وقد ورد ذلك فى لباب النقول فى اسباب النزول للسيوطي. [.....](5/133)
الف وأصحابه ثلثمائة واربعة عشر رجلا. استقبل القبلة ثم مد يديه وجعل يهتف بربه اللهم أنجز ما وعدتني اللهم ان تهلك هذه العصابة من اهل الإسلام لا نعبد فى الأرض.. فأمدهم الله بالملائكة، ونزل جبريل عليه السلام في ألف من الملائكة، فقام جبريل فى خمسمائة ملك عن ميمنة الناس معهم أبو بكر، ونزل ميكائيل عليه السلام فى خمسمائة على ميسرة الناس معهم عمر، في صور الرجال عليهم البياض، وعمائم بيض قد ارخوا أطرافها بين أكتافهم. والظاهرة الملاحظة هنا هي إسراف مقاتل فى التجسيم، سواء فى حديثه عن صفات الله او عن اعمال الملائكة.
وقد ذهب استاذنا الدكتور مصطفى زيد فى تفسيره لسورة الأنفال الى ان نزول الملائكة فى غزوة بدر كان لتثبيت المؤمنين، واستبعد ان يكونوا قد اشتركوا مع المؤمنين فى قتال المشركين «29» .
وفى تأييد الله للمؤمنين بانزال المطر لهم وتغشية النعاس إياهم يقول مقاتل تفسيرا للآية 11 «30» فى السورة:
القى الشيطان الرعب فى قلوب المؤمنين، فألقى الله عليهم النعاس أمنة من الله ليذهب همهم، وأرسل السماء عليهم ليلا فمطرت مطرا جوادا حتى سالت الأودية، وملئوا الأسقية، وسقوا الإبل، واتخذوا الحياض، واشتدت الرملة، وكانت تأخذ الى كعبي الرجال «31» .. فانزل الله الآية.
- 6- العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
اولع مقاتل ببيان اسباب نزول وقد أعاب قوم عليه العناية بأسباب النزول «32» ، لأنها توهم ان لكل آية فى القرآن سبب نزول ولأنها تقطع الآية الواحدة الى اجزاء متناثرة لكل جزء سبب نزول خاص.
ونحن لا نوافقهم على ذلك فالعناية بأسباب النزول ضرورية لمن أراد تفسير القرآن حتى قال الواحدي:
لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان سبب نزولها.
وقال ابن دقيق العيد:
__________
(29) سورة الأنفال: عرض وتفسير: 65- 68- ط 3 سنة 1957.
(30) من قوله تعالى: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ، وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ، وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ» .
(31) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث ج 1 ورقة 143 ب، وانظر تحقيقنا له: 2/ 104.
والعبارة مختصرة من التفسير وليست بنصها.
(32) منهم الشيخ محمد عبده فى تفسير المنار: 2/ 57، 225. والشيخ محمد الطاهر بن عاشور فى تفسير القرآن- المقدمة الخامسة فى اسباب النزول: 41.(5/134)
بيان سبب النزول طريق قوى فى فهم معاني القرآن، وقال ابن تيمية:
معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية، فان العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب.
وقال السيوطي: لمعرفة اسباب النزول فوائد. وأخطأ من قال لا فائدة له لجريانه مجرى التاريخ.
على ان العناية بأسباب النزول لا تعنى قصر الحكم على من نزل بشأنه فقد انزل الله الكتاب هدى ونورا وتبيانا لكل شيء وتكفل الله بحفظه، ومن حفظ الكتاب حفظ علومه وتاريخ نزوله واسباب نزوله ومعرفة «ان ورود العام على سبب خاص لا يسقط عمومه» «33» .
ان القول بتعدية الآيات الى غير أسبابها جعل جمهور الأصوليين يذهبون الى ان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» «34» .
فالنص القرآنى العام الذي نزل بسبب خاص معين يشمل بنفسه افراد السبب وغير افراد السبب، لان عموميات القرآن لا يعقل ان توجه الى شخص معين.
قال ابن تيمية: «والناس وان تنازعوا فى اللفظ العام الوارد على سبب: هل يختص بسببه؟ فلم يقل احد ان عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وانما غاية ما يقال: انها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ «35» والآية التي لها سبب معين ان كانت امرا او نهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته. وان كانت خبرا بمدح او ذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته ايضا فان العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب ولهذا كان أصح قولي الفقهاء: انه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رجع الى سبب يمينه وما هيجها وأثارها «36» .
- 7- مثال بحركة النفاق المدينة
هذه مثلا حركة النفاق التي تفاقم أمرها بالمدينة، وكان لزاما ان يثير القرآن فى كثير من سوره وآياته حملة عنيفة عليها، وعلى دسائس المنافقين واراجيفهم،
__________
(33) قاله الغزالي فى المستصفى: 2/ 60.
(34) الإتقان للسيوطي المسالة الثانية فى اسباب النزول: 30.
(35) فان اللفظ بعد قصره على بسببه يصير خاصا فيكون العموم باعتبار علة الحكم لا باعتبار مدلول اللفظ.
(36) الإتقان: 1/ 51، وانظر التحرير لابن الهمام وشرحه: 1/ 235، فقد صرح بهذا المعنى، ومقدمة فى اصول التفسير لابن تيمية: 12.(5/135)
حتى نزلت فيهم سورة تخمل اسمهم الخاص، وترسم لهم اخزى صورة، ثم ترميهم بالبلادة والجمود، حتى لتشبههم بالتماثيل الصامتة والخشب المسندة، وتصفهم بالتوجس والجبن والفزع كلما هجس صوت، او علت صيحة، او تحرك شيء، بالرغم من ظاهرهم الخداع، وأجسامهم الطوال العراض، التي تسر الناظرين. قال تعالى:
وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ، وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ، قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ «37» .
وقد قال مقاتل فى بيان سبب نزولها «38» : نزلت فى عبد الله بن ابى ابن سلول، وكان رجلا جسيما صبيحا فصيحا زلق اللسان، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم لقوله (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) يقول كان أجسامهم خشب لا تسمع ولا تعقل، لأنها خشب ليست فيها أرواح، فكذلك المنافقون لا يسمعون الايمان ولا يعقلون «إذ» ليس فى أجوافهم ايمان فشبه أجسامهم بالخشب.
يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ يقول إذا نادى مناد في العسكر او أفلتت دابة او أنشدت ضالة ظنوا أنما يرادون بذلك مما في قلوبهم من الرعب.
فهل يعقل ان يكون المقصود بهذا الوصف نفرا من منافقي الأوس والخزرج كانوا فى عصر التنزيل ثم لم يلبثوا ان انقرضوا؟ «39» .
وإذا تناول القرآن أولئك النفر تناولا اوليا ووصف أخلاقهم وصفا مطابقا، فهل من مانع عقلي يحجر هذه الآيات ونظائرها عن ان تكون عبرة عامة شاملة، ونموذجا خالدا، شاخصا لمن مضى ولمن يجيء من هذا الصنف الى يوم القيامة، فى كل طائفة تدعى انها على دين «40» .
- 8- وصف المنافقين فى سورة التوبة
ولعل أوضح وادل منال على عموم الآيات النازلة فى المنافقين ما ورد من صفاتهم فى سورة التوبة.
فقد وصفتهم السورة ابلغ وصف وأظهرت خيانتهم وكشفت نفاقهم وكذبهم حتى
__________
(37) سورة المنافقون: 4.
(38) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث 2/ 197. ب، وانظر تحقيقنا له: 4/ 337- 338. وقد ورد ذلك فى كتب التفسير، وصحيح البخاري، واسباب النزول للواحدي: 244 ولباب النقول للسيوطي: 219.
(39) قارن بتفسير المنار: 1/ 148- 149 فى تاويل قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ الآيات من سورة البقرة. وقد ذهب الى ان الآية عامة فى كل منافق فى الماضي والحاضر الى يوم القيامة.
(40) قارن بتفسير ابن كثير: 1/ 47 فى تاويل الآيات المصورة للمنافقين، فى سورة البقرة ايضا.(5/136)
يتقى المسلمون شرهم وغدرهم وحتى يظلوا عبرة للاجيال القادمة فى كل زمان ومكان، فنحذرهم أينما وجدوا ونتقي شرهم أينما حلوا.
وهناك هدف آخر من وصف المنافقين وهو تحذير الناس ان يأمنوا جانبهم ويركنوا إليهم او ينخرطوا فى جماعتهم بسبب الغرور او الغفلة.
فمن كذبهم وسوء قصدهم اتخاذ المساجد مكانا للخيانة والغدر ومكر السوء بالمسلمين. وقد عناهم الله بقوله: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ سورة التوبة: 107.
قال مقاتل «41» : نزلت في اثني عشر رجلا من المنافقين وكلهم من الأنصار، قالوا نبنى مسجدا نتحدث فيه ونخلوا فيه فإذا رجع ابو عامر الراهب من الشام قلنا بنيناه لتكون امامنا فيه.
فلما فرغوا من بنائه أتوا رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا انا قد بنينا مسجدا وما أردنا الا الحسنى، ونحب ان تصلى فيه فانزل الله الآية.
ومن اسلحة المنافقين السخرية والاستهزاء وتوهين العزائم وعيب المجاهدين كما وصفهم الله بقوله: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
قال مقاتل «42» : نزلت فى مصعب بن قيس وحكيم بن زيد، كانوا يطعنون المتصدقين. فجاء عبد الرحمن بن عوف بشيء كثير فقالوا مراء وجاء عاصم بن عدى الأنصاري بسبعين وسقا من تمر وهو حمل بعير فنثره فى الصدقة، وجاء ابو عقيل ابن قيس الأنصاري بصاع، ونفر من المنافقين جلوس فمن تصدق بشيء كثير قالوا مراء ومن جاء بقليل قالوا كان هذا أفقر إلى ماله. وقالوا لعبد الرحمن بن عوف ما أنفقت الا رياء وقالوا لأبي عقيل لقد كان الله ورسوله غنيين عن صاع أبي عقيل فسخروا وضحكوا منهم فانزل الله الآية.
وقد حاول المنافقون قتل النبي وبيتوا أمرهم على الكيد للإسلام والمسلمين فلما كشف الله أمرهم واخبر نبيه بمكرهم اقسموا بالله كذبا كعادتهم قال تعالى:
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ
__________
(41) تفسير مقاتل [1/ 160 ب] مخطوطة احمد الثالث، وانظر تحقيقنا له: 2/ 195- 196، كما ورد فى الواحدي: 139 وفى السيوطي: 125.
(42) فى تفسيره [1/ 158] وانظر تحقيقنا له: 2/ 186، وقد ورد فى الواحدي: 146- 147، وفى السيوطي: 131، كما روى ذلك الشيخان. [.....](5/137)
سورة التوبة: 74.
وقد تعددت الأقوال فى اسباب نزول هذه الآية. فذهب مقاتل «43» الى انها نزلت فى الجلاس بن سويد الصامت وكان ممن تخلف عن غزوة تبوك. فلما سمع ما أنزله الله فى المنافقين قال لئن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير فرفع عامر بن قيس ذلك إلى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحلف الجلاس بالله ما قلت فانزل الله الآية.
واخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا فى ظل شجرة فقال انه سيأتيكم انسان ينظر بعيني شيطان، فطلع رجل أزرق فدعاه النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم فانزل الله تعالى «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا ... » الآية «44» .
واخرج الحاكم هذا الحديث بهذا اللفظ وقال: فانزل الله يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ.. الآيتين «45» .
وتعدد الأقوال فى اسباب نزول الآية الواحدة يدعونا الى توضيح لهذا الموضوع.
- 9- التعبير عن سبب النزول
تختلف عبارات الرواة فى التعبير عن سبب النزول. فتارة يصرح فيها بلفظ السبب فيقال: (سبب نزول الآية كذا) وهذه العبارة نص فى السببية لا تحتمل غيرها، وتارة لا يصرح بلفظ السبب، ولكن يؤتى بفاء داخلة على مادة نزول الآية عقب سرد حادثة، او ذكر سؤال طرح على رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل (حدث كذا فنزلت آية كذا- او سئل عليه السلام عن كذا فنزلت آية كذا) .
وهذا نص واضح فى السببية ايضا، كرواية ابن مسعود عند ما سئل النبي عن الروح فانزل الله (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ... ) الآية.
ومرة اخرى لا يصرح بلفظ السبب، ولا يؤتى بتلك الفاء، ولا بذلك الجواب المبنى على السؤال. بل يقال: نزلت هذه الآية فى كذا (مثلا) . وهذه العبارة ليست نصا
__________
(43) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث [1/ 157 ا] ، وانظر تحقيقنا له: 2/ 184، كما ورد ذلك فى الواحدي: 144، وفى السيوطي: 119. قال السيوطي: أخرجه ابن ابى حاتم عن ابن عباس، وبرواية اخرى: أخرجه ابن ابى حاتم عن انس بن مالك.
(44) لباب النقول فى اسباب النزول للسيوطي: 120.
(45) سورة المجادلة: 18- 19.(5/138)
فى السببية بل نحتملها ونحتمل امرا آخر هو بيان ما تضمنته الآية من الأحكام.
والقرائن وحدها هي التي تعين احد هذين الاحتمالين او ترجحه.
قال ابن تيمية «46» : قولهم (نزلت هذه الآية فى كذا) يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة ان ذلك داخل فى الآية وان لم يكن السبب كما تقول عنى بهذه الآية كذا.
وقال الزركشي فى «البرهان» قد عرف من عادة الصحابة والتابعين ان أحدهم إذا قال: (نزلت هذه الآية فى كذا) فانه يريد بذلك ان هذه الآية تتضمن هذا الحكم لا ان هذا كان السبب فى نزولها.
«وكثيرا ما نجد المفسرين وغيرهم يقولون نزلت فى كذا وكذا، وهم يريدون ان من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة، فكأنهم يريدون التمثيل» «47» .
ففي كتاب الايمان من صحيح البخاري فى باب قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا،
ان عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان.
فانزل الله تصديق ذلك إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا الآية «48» .
فدخل الأشعث بن قيس فقال ما حدثكم ابو عبد الرحمن قالوا كذا وكذا قال فى أنزلت، كانت لي بئر فى ارض ابن عم لي ... إلخ.
فابن مسعود جعل الآية عامة لأنه جعلها تصديقا لحديث عام والأشعث جعلها خاصة بحادثة معينة هي نص فى سبب نزول الآية.
فالمعتمد فى سبب نزول هذه الآية رواية الأشعث بن قيس لأنها نص فى سبب النزول. اما رواية ابن مسعود فاستنباط منه وتفسير لا ذكر لسبب النزول.
ومن هنا نعلم انه إذا وردت عبارتان فى موضوع واحد: أحدهما نص فى السببية لنزول آية او آيات، والثانية ليست نصا فى السببية لنزول تلك الآية او الآيات.
هنالك نأخذ فى السببية بما هو نص ونحمل الاخرى على انها بيان لمدلول الآية، لان النص أقوى فى الدلالة من المحتمل.
__________
(46) مقدمة فى اصول التفسير، لابن تيمية: 13.
(47) تفسير القرآن الكريم، محمد الطاهر بن عاشور: 43.
(48) سورة آل عمران: 77.(5/139)
مثال ذلك: ما أورده مقاتل «49» - وهو موافق لما أخرجه مسلم عن جابر- فى سبب نزول قوله تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ ... سورة البقرة: 223.
قال مقاتل: وذلك أن حيي بن أخطب ونفرا من اليهود قَالُوا للمسلمين إنَّه لا يحل لَكُمْ جماع النّساء إِلَّا مستلقيات وإنا نجد فِي كتاب اللَّه عَزَّ وَجَلّ أن جماع المرأة غير مستلقية ذنب عند الله، فقال المسلمون «لرسول الله» إنا كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّة وَفِي الْإِسْلام نأتي النّساء عَلَى كُلّ حال فزعمت اليهود أَنَّهُ ذنب عِنْد اللَّه عَزَّ وَجَلّ إِلَّا مستلقيات. فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلّ (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) يعني مزرعة للولد (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فى الفروج.
وما أخرجه البخاري عن ابن عمر قال: أنزلت «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ» فى إتيان النساء فى أدبارهن يقصد انها رخصة فى إتيان الدبر، فالمعول عليه ما أورده مقاتل وهو الموافق لما أخرجه مسلم عن جابر «لأنه صريح فى الدلالة على السبب، وقول ابن عمر استنباط منه وقد وهمه فيه ابن عباس وذكر مثل حديث جابر كما أخرجه ابو داود والحاكم» «50» .
نحن اذن امام روايتين فى اسباب نزول آية نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ، الرواية الاولى تذكر ان سبب نزولها ان العرب كانوا يجامعون المراة مقبلة ومدبرة وعلى جنبها وعلى قفاها. فلما هاجروا الى المدينة وجدوا ان اليهود يحرمون إتيان المراة غير مستلقية وان الأنصار تقتدى بهم فى ذلك. فتزوج رجل من قريش امراة من الأنصار فذهب يصنع بها ما يشاء فأنكرته وقالت انما كنا نؤتى على حرف فسرى أمرهما فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فانزل الله نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ اى مقبلات ومدبرات ومستلقيات ما دام فى صمام واحد.
وهذه الرواية هي التي ذكر مضمونها مقاتل فى تفسيره.
وقد رواها الشيخان وابو داود والترمذي واحمد والحاكم «51» .
__________
(49) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث 1/ 37 ا، وانظر تحقيقنا له: 1/ 192. وقد أورده الواحدي برواية البخاري عن جابر، وبرواية اخرى للحاكم عن ابن عباس، وبرواية مسلم عن هارون بن معروف عن وهب بن جرير، قال الشيخ ابو حامد بن الشرفى: هذا حديث جليل يساوى مائة حديث لم يروه عن الزهري الا النعمان بن راشد. كما ورد فى كتاب لباب النقول فى اسباب النزول للسيوطي قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ... الآية روى الشيخان وابو داود والترمذي عن جابر قال: كانت اليهود تقول إذا جامعها من ورائها فى قبلها جاء الولد أحول فنزلت- نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ.
واخرج احمد والترمذي عن ابن عباس قال: (جاء عمر إلى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: يا رسول الله هلكت؟ قال: وما أهلكك؟ حولت رحلي الليلة، قال: فلم يرد عليه شيئا، فأوحى إلى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذه الآية نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ
يقول اقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة) .
(50) الإتقان للسيوطي: 1/ 31.
(51) يعلم ذلك من: اسباب النزول للواحدي: 41. ولباب النقول للسيوطي: 36، والإتقان للسيوطي: 1/ 22.(5/140)
والرواية الثانية. رواية البخاري عن ابن عمر ان الآية نزلت فى إتيان المراة فى دبرها.
الرواية الاولى هي التي نعتمد عليها فى اسباب النزول لما يأتي:
1- لأنها صرحت بذكر السبب، اما الثانية فلم تصرح بل قال ابن عمر أنزلت (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ... ) فى إتيان النساء فى أدبارهن.
2- الاولى اتفق عليها البخاري ومسلم وابو داود والترمذي واحمد والحاكم والثانية تفرد بها البخاري والطبراني فى الأوسط «52» .
وقد ذكر علماء الحديث ان أعلى درجات الحديث ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم، فالاولى اولى لاتفاق البخاري ومسلم على روايتها، بينما الثانية تفرد بها البخاري.
3- الرواية الاولى موافقة لسياق الآية ولضمونها وفحواها، فان معنى قوله تعالى نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ترشيح لان المراد إتيان المراة فى مكان الحرث، وقوله بعد ذلك وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ قيل هو تقديم الولد الصغير يموت قبل أبيه. وهذا ايضا تقوية، لان المراد بقوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ اى كيف شئتم وعلى اى حالة رغبتم ما دام فى مكان الحرث.
4- يبدو ان ابن عمر لم يبلغه حديث جابر الذي صرح بان سبب نزول الآية ادعاء اليهود تحريم جماع الزوجة الا مستلقية، ولهذا استنبط ان الآية تبيح إتيان المراة فى دبرها وقد وهم ابن عمر فى ذلك.
اخرج ابو داود والحاكم عن ابن عباس قال: ان ابن عمر- والله يغفر له- وهم.
انما كان اهل هذا الحي من الأنصار وهم اهل وثن مع هذا الحي من يهود، وهم اهل كتاب كانوا يرون لهم فضلا عليهم فى العلم، فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم. وكان من امر اهل الكتاب انهم لا يأتون النساء الا على حرف، وذلك استر ما تكون المراة، وكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك.
وكان هذا الحي من قريش يشرحون النساء شرحا ويتلذذون منهن مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل منهم امراة من الأنصار. فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه، وقالت انما كنا نؤتى على حرف، فسرى أمرهما، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانزل الله نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ اى مقبلات ومدبرات ومستلقيات، يعنى بذلك موضع الولد.
وإزاء ما تقدم نعتمد فى اسباب النزول هنا على رواية الشيخين، دون رواية البخاري وحده.
__________
(52) لباب النقول، للسيوطي: 36.(5/141)
- 10- تعدد الأسباب والمنزل واحد
قد ترد روايات متعددة فى اسباب نزول الآية وتذكر كل رواية سببا صريحا غير ما تذكره الاخرى.
فللمحققين «53» مقاييس دقيقة فى تعدد اسباب النزول تتلخص فيما يأتي:
1- إذا كانت احدى الروايتين صحيحة والاخرى غير صحيحة- اعتمدنا على الصحيحة، وردت غير الصحيحة.
2- إذا كانت كلتاهما صحيحتين ولإحداهما مرجح- اعتمدنا فى بيان السبب على الراجحة دون المرجوحة.
3- إذا استوت الروايتان فى الصحة، ولا مرجح لإحداهما على الاخرى، وأمكن الأخذ بهما معا لتقارب زمنيهما- أخذنا بهما معا، وحكمنا بنزول الآية عقب حصول السببين كليهما.
4- إذا استوت الروايتان فى الصحة ولا مرجح، ولا يمكن الأخذ بهما معا حكمنا بنزول الآية عقب كل سبب منهما. اى بتكرار نزولها.
وإليك امثلة ذلك:
اما الصورة الاولى، فمثالها ما أورده مقاتل «54» فى سبب نزول وَالضُّحى، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى سورة الضحى/ 1- 3.
قال: وذلك أن جبريل عليه السلام لم ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم أربعين يوما، ويقال ثلاثة ايام، فقال مشركو العرب من أهل مكة لو كان من الله لتتابع الوحى- كما كان يفعل «مع» من كان قبله من الأنبياء. فقد ودعه الله وتركه صاحبه فيما يأتيه، فانزل الله قوله: وَالضُّحى، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى سورة الضحى/ 1- 3.
وما
أورده مقاتل موافق فى المعنى لما أخرجه الشيخان وغيرهما عن جندب قال: اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يقم ليلة او ليلتين، فاتته امراة فقالت:
يا محمد ما ارى شيطانك الا قد تركك، فانزل الله: وَالضُّحى، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى.
وهناك رواية اخرى فى سبب نزول الآيات من أول سورة الضحى: هي ما
أخرجه الطبراني وابن ابى شيبة عن حفص بن ميسرة عن امه عن أمها وكانت خادم
__________
(53) انظر البرهان للزركشى: 1/ 29. 30. 31. والإتقان للسيوطي: 1/ 32.
(54) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث: 2/ 234، وانظر تحقيقي له: 4/ 731- 732.(5/142)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن جروا دخل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فدخل تحت السرير فمات، فمكث النبي صلى الله عليه وسلم اربعة ايام لا ينزل عليه الوحى فقال: يا خولة ما حدث فى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ جبريل لا يأتيني. فقلت فى نفسي: لو هيأت البيت وكنسته. فأهويت بالمكنسة تحت السرير فأخرجت الجرو، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ترعد «55» لحيته، وكان إذا نزل عليه أخذته الرعدة» فانزل الله: والضحى الى قوله «فترضى» .
فنحن بين هاتين الروايتين تقدم الرواية الاولى فى بيان السبب لصحتها. دون الثانية. لان فى اسنادها من لا يعرف، ورائحة الوضع ظاهرة فيها.
قال ابن حجر فى شرح البخاري: (قصة إبطاء جبريل بسبب الجرو مشهورة لكن كونها سبب نزول الآية غريب، وفى اسناده من لا يعرف، فالمعتمد ما فى الصحيح) «56» .
واما الصورة الثانية، وهي صحة الروايتين كلتيهما- ولإحداهما مرجح- فحكمها ان نأخذ فى بيان السبب بالراجحة دون المرجوحة.
والمرجح ان تكون إحداهما أصح من الاخرى، او ان يكون راوي إحداهما مشاهدا للقصة دون راوي الاخرى. مثال ذلك، ما أخرجه البخاري عن ابن مسعود قال: «كنت امشى مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود، فقال بعضهم: لو سألتموه. فقالوا: حدثنا عن الروح فقام ورفع رأسه فعرفت انه يوحى اليه حتى صعد الوحى، ثم قال: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا سورة الاسراء/ 85.
وما أورده مقاتل «57» من انها نزلت فى ابى جهل وأصحابه وهو موافق لما أخرجه الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: «قالت قريش لليهود، أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل عنه فقالوا اسالوه عن الروح فسألوه فانزل الله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الآية» «58» .
فهذا الخبر الثاني يدل على انها نزلت بمكة، وان سبب نزولها سؤال قريش إياه.
اما الاول فصريح فى انها نزلت بالمدينة بسبب سؤال اليهود إياه وهو أرجح من وجهين: أحدهما انه رواية البخاري. اما الثاني فانه رواية الترمذي، ومن المقرر
__________
(55) قال فى القاموس: «وقد رعد كنصر ومنع، وقال هامش القاموس استعمل رعد ثلاثيا ايضا مجهولا دائما كجن. قالوا رعد اى اصابته رعدة قاله الخفاجي فى شرح الشفاء» اهـ.
(56) الإتقان: 1/ 33. [.....]
(57) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث [319 ب] وانظر تحقيقي له: 2/ 547.
(58) سورة الاسراء: 85.(5/143)
ان ما رواه البخاري أصح مما رواه غيره. ثانيهما ان راوي الخبر الاول وهو ابن مسعود كان مشاهد القصة من أولها الى آخرها كما تدل على ذلك الرواية الاولى، بخلاف الخبر الثاني فان راوية لم يشهد نزول الوحى وما راء كمن سمع «59» .
واما الصورة الثالثة- وهي ما استوت فيه الروايتان فى الصحة ولا مرجح لإحداهما، لكن يمكن الجمع بينهما، بان كلا من السببين حصل ونزلت الآية عقب حصولهما معا لتقارب زمنيهما.
فحكم هذه الصورة ان نحمل الأمر على تعدد السبب لأنه الظاهر ولا مانع يمنعه. قال ابن حجر: «لا مانع من تعدد الأسباب» .
مثال ذلك: ما
أخرجه البخاري من طريق عكرمة عن ابن عباس ان هلال ابن امية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «البينة او حد فى ظهرك» ، فقال يا رسول الله، إذا وجد أحدنا مع امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة. وفى رواية انه قال: والذي بعثك بالحق انى لصادق، ولينزلن الله تعالى ما يبرئ ظهري من الحد فنزل جبريل عليه السلام وانزل عليه: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ حتى بلغ إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ
ةا هـ. سورة النور: 6- 9.
وقال مقاتل «60» - وهو موافق لما أخرجه الشيخان عن سهل بن سعد- لما انزل الله تعالى، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً.. وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
فقرأ النبي صلى الله عليه وسلم هاتين الآيتين في خطبة يوم الجمعة، فقال عاصم ابن عدى الأنصاري للنبي صلى الله عليه وسلم: جعلني الله فداك، لو أن رجلا منا وجد على بطن امرأته رجلا فتكلم- جلد ثمانين جلدة، ولا تقبل له شهادة في المسلمين أبدا، ويسميه المسلمون فاسقا، فكيف لأحدنا عند ذلك بأربعة شهداء؟ إلى أن يلتمس أحدنا أربعة شهداء فقد فرغ الرجل من حاجته، فأنزل الله عز وجل فى قوله:
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ بالزنا وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ يعني الزوج أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ الى ثلاث آيات.
__________
(59) وفى هذا يقول السيوطي: «وقد رجح بان ما رواه البخاري أصح من غيره وبان ابن مسعود كان حاضر القصة» الإتقان: 1/ 55.
بينما ذهب الزركشي الى ان آية وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ نزلت بمكة ثم تكرر نزولها فى المدينة، فهي مما نزل مكررا، البرهان: 1/ 30، كما ذهب ابن كثير الى انها مما تكرر نزوله بمكة والمدينة، تفسير ابن كثير وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ والإتقان: 1/ 34.
(60) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث 2/ 34 ب. 35 ا. وانظر تحقيقي له:
3/ 183- 186.(5/144)
فابتلى الله عز وجل عاصما بذلك في يوم الجمعة الأخرى، فأتاه ابن عمه عويمر الأنصاري من بني العجلان بن عمرو بن عوف، وتحته ابنة عمه أخي أبيه، فرماها بابن عمه شريك بن السحماء «58» والخليل والزوج والمرأة كلهم من بني عمرو بن عوف وكلهم بنو عم عاصم. فقال «عويمر» يا عاصم لقد رأيت شريكا على بطن امرأتي فاسترجع عاصم فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أرأيت سؤالي عن هذه وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ؟ فقد ابتليت بها في أهل بيتي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما ذاك يا عاصم؟ فقال: أتاني ابن عمي فأخبرني أنه وجد ابن عم لنا على بطن امرأته، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الزوج والخليل والمراة، فاتوه فقضى بينهم «59» .
فهاتان الروايتان صحيحتان، ولا مرجح لإحداهما على الاخرى. ومن السهل ان نأخذ بكلتيهما لقرب زمانيهما، على اعتبار ان أول من سال هو هلال بن امية، ثم قفاه عويمر قبل اجابته، فسال بواسطة عاصم مرة، وبنفسه مرة اخرى «60» .
فانزل الله الآية اجابة للحادثين معا. ولا ريب ان اعمال الروايتين بهذا الجمع، اولى من اعمال إحداهما وإهمال الاخرى، إذ لا مانع يمنع الأخذ بهما على ذلك الوجه.
ثم لا جائز ان نردهما معا لأنهما صحيحتان ولا تعارض بينهما، ولا جائز ايضا ان نأخذ بواحدة ونرد الاخرى لان ذلك ترجيح بلا مرجح. فتعين المصير الى ان نأخذ بهما معا. واليه جنح النووي وسبقه اليه الخطيب فقال: (لعلهما اتفق لهما ذلك فى وقت واحد «61» اهـ.
واما الصورة الرابعة- وهي استواء الروايتين او الروايات فى الصحة دون مرجح لإحداهما، ودون إمكان الأخذ بهما معا او بها جميعا، لبعد الزمان بين الأسباب- فحكمها هو تكرار نزول الآية بعدد اسباب النزول التي تحدثت عنها الروايتان، لأنه اعمال لكل رواية ولا مانع منه.
__________
(58) فى رواية مقاتل ادراج. فقد لاحظنا ان رواية البخاري الاولى عن ابن عباس ان هلال بن امية قذف امرأته عند النبي (ص) بشريك بن سحماء.
والحديث الثاني برواية الشيخين عن سهل بن سعد، ان عويمرا قذف امرأته برجل (مبهم غير مذكور الاسم) . غير ان مقاتلا وضح هذا المبهم بانه شريك بن السحماء، مع انه هو المتهم فى الرواية الاولى، عن ابن عباس. فلعل هذا: زيادة من مقاتل. او وهم منه.
(59) الحديث طويل فى تفسير مقاتل: 2/ 34 ب. 35 ا (انظر تحقيقي له: 3/ 183- 186 وفيه تفصيل لشهادة الزوج على زوجته والزوجة على زوجها. ولقضاء النبي بينهما.
(60) يستفاد ذلك من رواية الشيخين للحديث وهي عن سهل بن سعد (ان عويمرا أتى عاصم ابن عدى.
وكان سيد بنى عجلان فقال: ما نقولون فى رجل وجد مع امرأته رجلا أيقتله فتقتلونه ام ما يصنع؟ سل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فسال عاصم النبي صلى الله عليه وسلم، فكره المسائل وعابها، فأخبر عاصم عويمرا. فأتاه فقال «النبي» انه قد نزل فيك وفى صاحبتك قرآن) . الحديث.
(61) الإتقان 1/ 34.(5/145)
قال الزركشي فى البرهان: «وقد ينزل الشيء مرتين تعظيما لشأنه، وتذكيرا به عند حدوث سببه خوف نسيانه» «65» .
مثال ذلك ما أورده مقاتل فى سبب نزول قوله تعالى: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ ... الى آخر سورة النحل: 126- 128.
قال مقاتل: «وذلك أن كفار مكة قتلوا يوم أحد طائفة من المؤمنين ومثلوا بهم، منهم حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بقروا بطنه، وقطعوا مذاكيره، وأدخلوها في فيه. وحنظلة بن أبي عامر غسيل الملائكة. فحلف المسلمون للنبي صلى الله عليه وسلم لئن دالنا الله عز وجل «منهم» لنمثلن بهم أحياء، فأنزل الله عز وجل الآيات» «66» .
وما أورده مقاتل قريب مما
أخرجه البيهقي والبزار عن ابى هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف على قبر حمزة حين استشهد وقد مثل به، فقال: لأمثلن بسبعين منهم مكانك، فنزل جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بخواتيم سورة النحل، وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ الى آخر السورة.
وقد اخرج الترمذي والحاكم عن ابى بن كعب قال: (لما كان يوم احد أصيب من الأنصار اربعة وستون، ومن المهاجرين ستة، منهم حمزة فمثلوا به، فقالت الأنصار: لئن أصبنا منهم يوما مثل هذا لنربين (اى لنزيدن) عليهم، فلما كان يوم فتح مكة انزل الله (وان عاقبتم) الآية..
فالرواية الاولى تفيد ان الآية نزلت فى غزوة احد، والثانية تفيد انها نزلت يوم فتح مكة، على حين ان بين غزوة احد وغزوة الفتح الأعظم بضع سنين، فبعد ان يكون نزول الآية مرة واحدة عقبيهما معا.
فلا بد لنا من القول بتعدد نزول الآيات. أول الأمر فى غزوة احد، وبعد ذلك عقب فتح مكة.
أقول. وقد لاحظنا ان مقاتلا كان يورد روايات صحيحة فى اسباب نزول الآية فى الصور الأربع التي ذكرها السيوطي فى الإتقان.
ففي الصورة الاولى- وهي الاعتماد على الرواية الصحيحة ورفض غير الصحيحة- كانت رواية مقاتل لسبب نزول وَالضُّحى، وَاللَّيْلِ إِذا سَجى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى موافقة لما فى الصحيح.
وفى الصورة الثانية- كانت رواية مقاتل مرجوحة لا راجحة عند السيوطي.
فى حين ذهب الزركشي فى البرهان، الى ان وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ مما تكرر نزوله،
__________
(65) البرهان: 1/ 29.
(66) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث ج 1 ورقة 210 ا. وانظر تحقيقي له: 2/ 494- 495.(5/146)
وكذلك قال عنها ابن كثير فى تفسيره. وبذلك صار ما ذهب اليه مقاتل راجحا فى نظرهما، وهما أوثق من السيوطي.
وفى الصورة الثالثة- وهي الحكم بتعدد الأسباب والنازل واحد- كان ما رواه مقاتل موافقا لما رواه الشيخان البخاري ومسلم فى سبب نزول آية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ فروايته هنا صحيحة كذلك.
وفى الصورة الرابعة- وهي تكرر نزول الآية او الآيات- كما فى خواتيم سورة النحل- كان ما رواه مقاتل موافقا لما أخرجه البيهقي والبزار عن ابى هريرة انها نزلت فى استشهاد حمزة، وقد اجتمعت الروايات على هذه الحقيقة.
وهذا يؤيد ما ذكرته فى صدر الموضوع. من ان الرأي السائد بضعف الأحاديث التي اعتمد عليها مقاتل فى اسباب النزول او كذبها، تكذبه مقارنة هذه الأحاديث والآثار بما فى كتب السنن، فهذه المقارنة تظهر ان أكثرها غير ضعيف. وان فيها عددا وافرا موافقا لما فى الصحيح، لكن هذا لا يمنع من ان فى تفسير مقاتل آثارا ضعيفة، لكن ضعف بعضها انما هو فى الاسناد، اما المتن فصحيح مؤيد بطرق اخرى تقويه. وضعف بعضها الآخر- بل وضعه- ظاهر ليس فى حاجة الى بيان..
- 11- تعدد النازل والسبب واحد
ذكر مقاتل انه قد يكون امر واحد سببا لنزول آيتين او آيات متعددة من القرآن. مثال ذلك ما رواه مقاتل «67» - وهو موافق لما أخرجه الحاكم والترمذي ان أم سَلَمَة أم الْمُؤْمِنِين رَضِيَ اللَّه عَنْهَا قَالَتْ: ما لنا مَعْشَر النساء عِنْد اللَّه خبر، وما يذكرنا فى الهجرة بشيء، فانزل الله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى، بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ، وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ
«68» .
وانزل ايضا فى قول ام سلمة: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ فى الأحزاب، الى آخر الآية «69» . قال مقاتل. فأشرك الله النساء مع الرجال فِي الثواب، كَمَا شاركن الرجال فِي الأعمال الصالحة فى الدنيا «70» .
__________
(67) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث جزء 1 ورقة 68 ا، ب وانظر تحقيقي له:
1/ 322- 323.
(68) سورة آل عمران: 195.
(69) سورة الأحزاب: 35 وتمامها: وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً.
(70) تفسير مقاتل جزء 1 ورقة 68 ب، وانظر تحقيقي له: 1/ 222- 223. [.....](5/147)
واخرج الحاكم ايضا ان ام سلمة رضى الله عنها قالت: تغزو الرجال ولا تغزو النساء وانما لنا نصف الميراث. فانزل الله: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ... «71» وانزل: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ... «72» .
فظهر لنا ان كلام ام سلمة كان سببا فى نزول آيات ثلاث:
1- إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ ... سورة الأحزاب: 35.
2- فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ...
سورة آل عمران: 195.
3- وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ... سورة النساء: 32.
وهذا هو ما يعبر عنه بتعدد النازل والسبب واحد «73» .
- 12- فوائد معرفة اسباب النزول
معرفة اسباب النزول تعين على فهم الآية. وتوضح ما خفى منها. وقد زعم بعض الناس انه لا فائدة للإلمام بأسباب النزول، فانها لا تعدو ان تكون تاريخا او جارية مجرى التاريخ «74» .
__________
(71) سورة النساء: 32 وتمامها: (وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) . وذكر مقاتل انه لما نزلت للذكر مثل حظ الأنثيين قالت النساء ثم هَذَا؟ نَحْنُ أحق أن يَكُون لنا سهمان ولهم سهم، لأنا ضعاف الكسب، والرجال أقوى عَلَى التجارة والطلب والمعيشة مِنَّا، فإذا لَمْ يفعل اللَّه ذَلِكَ بنا فإنا نرجو أن يَكُون الوزر عَلَى نحو ذَلِكَ علينا وعليهم. فأنزل اللَّه فِي قولهم كنا نَحْنُ أحوج إلى سهمين قوله سُبْحَانَهُ: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ.
(72) سورة الأحزاب: 35. وتمامها قد تقدم.
(73) انظر تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث جزء 2 ورقة ... ، تحقيقي له: 3/ 489- 490.
حيث ذكر مقاتل ان ام سلمة ام المؤمنين ونسيبة بنت كعب الأنصاري قلن ما شان ربنا يذكر ولا يذكر النساء فى شيء من كتابه ... فانزل الله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ.. الآية 35 من سورة الأحزاب، والآية 195 من سورة آل عمران، والآية 40 من سورة غافر وفيها: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ.
(74) قاله السيوطي فى الإتقان، وتعقبه بانه خطا وقال بل لمعرفة اسباب النزول فوائد منها معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، ومنها تخصيص الحكم به عند من يرى العبرة بخصوص السبب، ومنها الوقوف على المعنى وازالة الاشكال فمن ذلك قوله تعالى فى سورة الطلاق: 4 وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ فقد أشكل معنى هذا الشرط على بعض الائمة حتى قال الظاهرية بان الآيسة لا عدة عليها إذا لم ترتب. وقد بين ذلك سبب النزول وهو انه لما نزلت الآية التي فى سورة البقرة فى عدد النساء قالوا قد بقي عدد من النساء لم يذكرن: الصغار، والكبار، فنزلت. أخرجه الحاكم.(5/148)
واستهان الشيخ محمد عبده بأسباب النزول «75» ، ولم يعول عليها كثيرا، بسبب اشتمالها على الصحيح والعليل، واختراع بعض الناس أسبابا لنزول الآيات.
والحق انه لا طريق لمعرفة اسباب النزول الا النقل عن الصحابة الذين عاصروا الوحى والنزول ووقفوا على الأحوال والملابسات التي أحاطت بنزول الآيات، وسمعوا من الرسول صلى الله عليه وسلم ما لم يسمعه غيرهم، فعنهم وحدهم يؤخذ هذا العلم.
والى هذا أشار الواحدي بقوله: (ولا يحل القول فى اسباب نزول الكتاب الا بالرواية والسماع ممن شاهدوا التنزيل، ووقفوا على الأسباب، وبحثوا عن علمها، وجدوا فى الطلاب) «76» .
ان اسباب النزول آثار واردة وأحاديث مأثورة ينطبق عليها ما ذكره علماء الحديث ونقدته.
فلا تقبل جملة ولا ترفض جملة، فما كان صحيحا قبلناه، وما كان موضوعا رفضناه.
ويقول الواحدي ايضا: (لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها) .
(وان التعبير عن سبب النزول بالقصة ليوحى بالحكمة البالغة فى معرفة الأسباب التي دعت الى تنزيل الوحى، ويجعل آيات القرآن تتلى فى كل زمان ومكان بشغف وولوع، وتطرد السآمة عن جميع القارئين بما توالى عرضه من حكايات أمثالهم، وأقاصيص أسلافهم، كأنها حكاياتهم هم إذ يرتلون آيات الله، او أقاصيصهم هم ساعة يطربون لوحى السماء) «77» .
من اجل هذا كان جهل الناس بأسباب النزول كثيرا مما يوقعهم فى اللبس والإبهام فيفهمون الآيات على غير وجهها ولا يصيبون الحكمة الالهية من تنزيلها، كما حدث لمروان بن الحكم حين توهم ان قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ «78» ينطبق عليه، فقال لبوابه: اذهب يا رافع الى ابن عباس فقل له: لئن كان كل امرئ فرج بما اوتى وأحب ان يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون!
__________
فمعنى ان ارتبتم ان أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن فهذا حكمهن. اهـ الإتقان:
1/ 30. ومثل ذلك قد ورد فى تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث جزء 2 ورقة 200 اوانظر تحقيقي له: 4/ 364- 365.
(75) تفسير المنار: 2/ 57- 58، 225- 226.
(76) اسباب النزول للواحدي: 4.
(77) مباحث فى علوم القرآن، دكتور صبحى الصالح: 130.
(78) سورة آل عمران: 188.(5/149)
فقال ابن عباس: وما لكم ولهذه! انما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهود، فسألهم عن شيء فكتموه إياه، واخبروه بغيره، فاروه ان قد استحمدوا اليه بما اخبروه عنه فيما سألهم، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم، ثم قرا ابن عباس: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ «79» حتى قوله: (يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) «80» فلم يزل الاشكال الا بمعرفة سبب النزول.
ولولا بيان اسباب النزول لأباح الناس لأنفسهم التوجه فى الصلاة الى الناحية التي يرغبون فيها، عملا بالمتبادر من قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ «81» .
فإذا قرانا تفسير مقاتل «82» رأينا انها نزلت فى ناس من الْمُؤْمِنِين كانوا فِي سفر، فحضرت الصَّلاة فى يوم غيم، فتحيروا، فمنهم من صلى قبل المشرق، ومنهم من صلى قبل المغرب، وذلك قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة، فَلَمَّا طلعت الشمس عرفوا أنهم قَدْ صلوا لغير القبلة، فقدموا المدينة، فأخبروا النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِك، فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلّ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ.
قال مقاتل: وأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلّ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ... الى آخر الآية «83» .
ولولا بيان اسباب النزول لظل الناس الى يومنا هذا يبيحون تناول المسكرات وشرب الخمور، أخذا بظاهر قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا «84» .. فقد «حكى عن عثمان بن مطعون وعمرو بن معد يكرب انهما كانا يقولان: الخمر مباحة، ويحتجان بهذه الآية. وخفى عليهما سبب نزولها فانه يمنع من ذلك، وهو ما ذكره مقاتل «85» وغيره: من انه لما نزل تحريم الخمر
__________
(79) سورة آل عمران: 187- 188 وهما: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ، لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
(80) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث: جزء 1 ورقة 68 ا، وانظر تحقيقي له: 1/ 320- 321.
وقد ورد فى هذا صحيح البخاري كتاب التفسير: 6/ 40، وفى تفسير ابن كثير: 1/ 436، والبرهان:
1/ 27، والإتقان: 1/ 48.
(81) سورة البقرة: 115.
(82) تفسير مقاتل، مخطوطة احمد الثالث: جزء 1 ورقة 21 ا، وانظر تحقيقي له: 1/ 133.
(83) سورة البقرة: 177. [.....]
(84) سورة المائدة: 93 وتمامها: ... إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
(85) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث جزء ورقة 107 ب، وانظر تحقيقي له: 1/ 503. وقد ورد ذلك ايضا فى البرهان: 1/ 28، واسباب النزول للواحدي: 196، وتفسير ابن كثير: 1/ 97، والإتقان: 1/ 53.(5/150)
قال المسلمون: إن إخواننا ماتوا وقتلوا وَقَدْ كانوا يشربونها، فانزل الله تعالى:
لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ ... الآية.
فنزلت الآية عذرا للماضين وحجة على الباقين.
نخلص من كل ما تقدم الى ان لاسباب النزول فوائد عديدة أهمها:
1- دفع الاشكال عن الآية:
كما روى ان عروة بن الزبير أشكل عليه ان يفهم فرضية السعى بين الصفا والمروة من قوله سبحانه: (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) . واشكاله نشا من ان الآية الكريمة نفت الجناح، ونفى الجناح لا يتفق والفرضية فى رأيه. وبقي فى اشكاله حتى سال خالته عائشة ام المؤمنين رضى الله عنها، فأفهمته ان نفى الجناح هنا ليس نفيا للفرضية، انما هو نفى لما وقر فى أذهان المسلمين يومئذ من ان السعى بين الصفا والمروة من عمل الجاهلية، نظرا الى ان الصفا كان عليه صنم يقال له (إساف) ، وكان على المروة صنم يقال له (نائلة) ، وكان المشركون إذا سعوا بينهما تمسحوا بهما، فلما ظهر الإسلام وكسر الأصنام تحرج المسلمون ان يطوفوا بينهما لذلك، فنزلت الآية. كما رواه مقاتل «86» .
2- دفع توهم الحصر، عما يفيد بظاهر الحصر:
نحو قوله سبحانه فى سورة الأنعام: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ، أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ «87» ..
قال مقاتل «88» : ان الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: من اين أتيتم بهذا التحريم؟ فسكتوا فلم يجيبوه إِلَّا أنهم قَالُوا حرمه آباؤنا، فقال النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَمنْ أَيْنَ حرمه آباؤكم؟
قَالُوا: اللَّه أمرهم بتحريمه ... فأنزل الله الآية: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ... إلخ الآية.
وقد ذهب الشافعي الى ان الحصر فى هذه الآية غير مقصود، وقال انها نزلت بسبب أولئك الكفار الذين أبوا الا ان يحرموا ما أحل الله ويحلوا ما حرم الله، فنزلت الآية بهذا الحصر الصوري مشادة لهم، لا قصدا الى حقيقة الحصر. يؤيد هذا ما نقله عنه
__________
(86) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث جزء 1 ورقة 26 ا، وانظر تحقيقي له: 1/ 152.
(87) سورة الانعام: 145، وتمامها (.. فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) .
(88) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث: جزء 1 ورقة 125 ب، وانظر تحقيقنا له:
1/ 594- 595.(5/151)
السبكى من قوله: (ان الكفار لما حرموا ما أحل الله وأحلوا ما حرم الله، وكانوا على المضادة والمحادة، جاءت الآية مناقضة لغرضهم، فكأنه قال: لا حلال الا ما حرمتموه، ولا حرام الا ما أحللتموه. نازلا منزلة من يقول لك: لا تأكل اليوم حلاوة فتقول لا آكل اليوم الا حلاوة والغرض المضادة لا النفي والإثبات على الحقيقة. فكأنه تعالى قال: لا حرام الا ما أحللتموه من الميتة، والدم، ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به، ولم يقصد حل ما وراءه، إذ القصد اثبات التحريم لا اثبات الحل. قال امام الحرمين: وهذا فى غاية الحسن، ولولا سبق الشافعي الى ذلك لما كنا نستجيز مخالفة مالك فى حصر المحرمات فيما ذكرته الآية «89» .
3- معرفة من نزلت فيهم الآية على التعيين حتى لا يشتبه بغيره فيتهم البريء ويبرأ المريب: ولهذا ردت عائشة على مروان حين اتهم أخاها عبد الرحمن بن ابى بكر بانه الذي نزلت فيه آية وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما سورة الأحقاف/ 16 «90» وقالت: والله ما هو به. ولو شئت ان أسميه لسميته «91» .
وقد ذهب مقاتل الى ان هذه الآية نزلت فى عبد الرحمن بن أبي بكر وأمه رومان بنت عمرو بن عامر الكندي، دعاه أبواه إلى الإسلام وأخبراه بالبعث بعد الموت، فقال لوالديه (أف لكما) «92» . وما رواه مقاتل موافق لما أخرجه ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس، ولما أخرجه ابن ابى حاتم عن السدى. لكن الرواية الاولى- وهي رد عائشة على مروان- وردت فى البخاري من طريق يوسف بن ماهان.
كما اخرج عبد الرزاق من طريق مكي انه سمع عائشة تنكر ان تكون الآية نزلت فى عبد الرحمن بن ابى بكر، وقالت انما نزلت فى فلان سمت رجلا.
والمقاييس الدقيقة التي ذكرت فى اسباب النزول- وهي التي تقضى بقبول الصحيح ورفض ما عداه- تلزمنا هنا بقبول رواية البخاري ورفض ما رآه مقاتل.
قال الحافظ ابن حجر: ونفى عائشة أصح اسنادا واولى بالقبول «93» .
4- وأخيرا فان من فوائد معرفة اسباب النزول تيسير حفظ القرآن، وتسهيل فهمه، وتثبيت الوحى فى ذهن كل من يسمع الآية إذا عرف سببها. وذلك لان ربط الأسباب بالمسببات، والأحكام بالحوادث، والحوادث بالاشخاص والازمنة والامكنة-
__________
(89) الإتقان: 1/ 20.
(90) سورة الأحقاف: 17.
(91) الإتقان: 1/ 30.
(92) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث: جزء 3 ورقة 153 ا، وانظر تحقيقي له: 214.
(93) لباب النقول فى اسباب النزول للسيوطي: 196- 197.(5/152)
كل أولئك من دواعي تقرير الأشياء ورسوخها فى الذهن، وسهولة استذكارها عند استذكار مقارناتها فى الفكر، بسبب تداعى المعاني كما ذكر فى علم النفس.
وأخيرا لقد ترك لنا مقاتل فى تفسيره ذخيرة كبيرة من اسباب نزول الآيات، وقد كانت هذه الذخيرة فى حاجة الى دراسة فاحصة لتمييز الصحيح من العليل، فبذلت جهدي فى ذلك أثناء تحقيقي لهذا التفسير، وانى لأرجو ان يكون الله قد وفقني فيما قمت به، واساله ان يعينني على تدارك ما فاتنى، انه ولى التوفيق؟(5/153)
الباب الثاني النسخ عند مقاتل
1- النسخ عند مقاتل.
2- الآيات المنسوخة عند مقاتل.
جدول لجميع الآيات المنسوخة عند مقاتل.
3- مناقشة نسخ هذه الآيات.
4- مناقشة المنسوخ بآية السيف.
5- راى أستاذي الدكتور مصطفى زيد فى المراد بآية السيف.
6- تعقيب على المناقشة.
7- تقسيم الآيات المنسوخة عند مقاتل الى ستة اقسام.
8- جدول بالآيات المنسوخة بآية السيف.
بيان تفصيلي بالآيات المنسوخة بآية السيف.
9- جدول بآيات ليس فيها الا التخصيص.
بيان تفصيلي بهذه الآيات والآيات الناسخة لها.
10- جدول بآيات ليس فيها الا تفسير المبهم.
بيان تفصيلي بهذه الآيات.
11- جدول بآيات لا تعارض فيها بين الناسخ والمنسوخ.
بيان تفصيلي بهذه الآيات.
12- جدول بآيات منسوخة عند مقاتل وهي اخبار لا تقبل النسخ.
بيان تفصيلي بهذه الآيات.
13- جدول بآيات منسوخة عند مقاتل وفيها حقيقة النسخ.
بيان تفصيلي بهذه الآيات.
14- آيات ينطبق عليها النسخ ولم يعتبرها مقاتل منسوخة.(5/155)
- 1- النسخ عند مقاتل
تمهيد:
كان الصحابة والتابعون وتابعوهم يستعملون النسخ بإزاء المعنى اللغوي- الذي هو ازالة شيء بشيء- لا بإزاء مصطلح الأصوليين «1» .
«فيطلقون النسخ على تقييد المطلق وعلى تخصيص العام وعلى بيان المبهم والمجمل، كما يطلقونه على رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر عنه» «2» .
فلما جاء الامام الشافعي (150- 305 هـ) حرر معنى النسخ وميزه عن تقييد المطلق وتخصيص العام واعتبرهما من انواع البيان «3» .
ومضى الاصوليون والمؤلفون فى الناسخ والمنسوخ على نهج الشافعي، فعنى معظمهم ببيان الفروق بين النسخ وكل من التخصيص والتقييد والتفسير والتفصيل.
هذا ابو جعفر محمد بن جرير الطبري (224- 310 هـ) يشير فى تفسيره «4» (الى انه لا ناسخ من آي القرآن واخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ما نفى حكما ثابتا الزم العباد فرضه، غير محتمل بظاهره وباطنه غير ذلك. فاما إذا احتمل غير ذلك- من ان يكون بمعنى الاستثناء او الخصوص والعموم، او المجمل والمفسر- فمن الناسخ والمنسوخ بمعزل ... ولا منسوخ الا الحكم الذي قد كان ثبت حكمه وفرضه) .
وقد ظل بعض المؤلفين فى النسخ يتبعون الإطلاق الاول له فيطلقونه على التخصيص والتقييد والتفسير، مما ادى الى الاضطراب فى الموضوع. وكان من فضل الله توفيق استاذنا الدكتور مصطفى زيد الى إخراج كتابه «النسخ فى القرآن» .
ففي هذا الكتاب عالج المشكلة علاجا حاسما، مما حملني على اعتباره مرجعي الاول فى الموضوع لأنه آخر انتاج استفاد مما سبقه، ويسر الطريق لمن جاء بعده.
__________
(1) النسخ فى القرآن: د. مصطفى زيد: 1/ 110 فقرة 162.
(2) المرجع السابق، وقد نقله عن الموافقات للشاطبي: 3/ 75.
(3) د. مصطفى زيد: 1/ 74 نقلا عن كتاب الشافعي لمحمد ابو زهرة: 249- 250.
(4) . 2/ 435 بتحقيق محمود محمد شاكر. وقد نقله د. مصطفى زيد فى كتابه النسخ فى القرآن 1/ 79 بعد ان صوب النص. [.....](5/157)
- 2- الآيات المنسوخة عند مقاتل
عدد الآيات المنسوخة عند مقاتل اربع وأربعون آية، منها ست عشرة آية منسوخة بآية السيف- او فى حكمها- وثمان وعشرون آية منسوخة بآيات اخرى.
وعند تفسير هذه الآيات يتضح ان تعريف النسخ لا ينطبق الا على ثلاث آيات منها، اما الباقي فليس فيه الا تخصيص العام «5» او تفسير المبهم، وما إليهما ومنه آيات هي فى حقيقتها اخبار، والاخبار لا تقبل النسخ، ومنه آيات لا تعارض بينها وبين ناسخها.
__________
(5) التخصيص هو قصر العام على بعض افراده (او آحاده او مسمياته) والتخصيص يكون بمخصصات لفظية هي بدل البعض، والاستثناء، والصفة، والشرط، والغاية. كما يكون بالعقل والحس الواقعي والعادة والعرف.
(النسخ فى القرآن الكريم: 1/ 113 فقرة 168- 169، واصول التشريع الإسلامي، على حسب الله:
188- 195) .
والفرق بين التخصيص والنسخ:
1- ان النسخ ازالة لحكم المنسوخ، اما التخصيص فهو قصر الحكم على بعض افراده كقصر إيجاب الحج على المستطيع.
2- ان النسخ لا يكون الا بدليل متراخ عن المنسوخ اما التخصيص فيكون بالسابق واللاحق والمقارن.
3- ان النسخ لا يقع فى الاخبار، بخلاف التخصيص فانه يكون فى الاخبار وفى غيرها.
(النسخ فى القرآن الكريم: 1/ 125) ، وقد ساق عشرة فروق بين النسخ والتخصيص. وانظر (مناهل العرفان: 2/ 82) .(5/158)
السورة/ رقم الآية/ جزء من الآية/ رقم الورقة فى تفسير مقاتل/ رقم المجلد والصفحة فى النسخة المحققة/ رقم الفقرة التي عالجتها فى كتاب النسخ فى القرآن الأنفال 2/ 61 75/ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ والذين آمنوا من بعد وهاجروا/ 1/ 148 ا 1/ 149 ب/ 2/ 123 2/ 131/ 785- 789 التوبة 1/ 80/ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً/ 1/ 158 ا/ 2/ 186- 187/ 1094- 1097 يونس/ 99 108/ وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ وما انا عليكم بوكيل/ 1/ 169 ب 1/ 169 ب/ 2/ 250 2/ 252/ 586- 587 586- 587 الاسراء/ 2/ 24 34/ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما ولا تقربوا مال اليتيم/ 1/ 214 ب 1/ 215 ا/ 2/؟ / 2/؟ / 843 1104- 1105 الحج 1/ 69/ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ/ 1/ 28 ا/ 3/ 137/ 627 العنكبوت 1/ 46/ وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ/ 2/ 74 ا/ 3/ 385/ 767- 768 السجدة 1/ 30/ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ/ 2/ 86 ا/ 3/ 454/ 738- 739 الأحزاب 1/ 6/ وَأُولُوا الْأَرْحامِ/ 2/ 88 ا/ 3/ 474- 475 الشورى 3/ 5 15 20/ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ لنا اعمالنا ولكم اعمالكم ومن كان يريد حرث الدنيا/ 2/ 137 ب 2/ 138 ب 2/ 139 ا/ 3/ 763- 764 3/ 767 3/ 768/ 634 635- 636 637(5/159)
جدول لجميع الآيات المنسوخة عند مقاتل
السورة/ ارقام الآيات المنسوخة/ جزء من الآية/ رقم الورقة فى تفسير مقاتل/ رقم المجلد والصفحة فى النسخة المحققة/ رقم الصفحة التي عالجتها فى كتاب النسخ فى القرآن البقرة 8/ 178/ الْحُرُّ بِالْحُرِّ/ 1/ 27 ب/ 1/ 158/ 869- 872 180/ الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ/ 1/ 28 ا/ 1/ 159/ 820- 824 184/ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ/ 1/ 28 ب/ 1601- 161/ 883- 888 191 وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ/ 1/ 30 ب/ 1/ 168/ 889- 895 215/ يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ/ 1/ 34 ب 1/ 183/ 912- 919 228/ وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ/ 1/ 37 ب/ 1/ 194/ 834- 835 240/ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ/ 1/ 40 ا/ 1/ 201/ 1155- 1165 284/ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ/ 1/ 49 ا/ 1/ 231/ 836- 839 آل عمران 1/ 102 اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ/ 1/ 59 ا/ 1/ 292- 293/ 847 النساء 5/ 10/ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى / ا 70 ا/ 1/ 360/ 849 15/ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ/ 1/ 72 ا/ 1/ 362- 363- 1250/ 1262 16/ وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ/ 1/ 72 ا/ 1/ 363/ 1250/ 1262 63/ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ/ 1/ 78 ا/ 1/ 385- 386/ 731 91/ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ/ 1/ 82 ا/ 1/ 396/ 1166/ 1172 المائدة 3/ 2/ لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ/ 1/ 92 ب/ 1/ 448- 451/ 1173/ 1184 13/ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ/ 1/ 95 ب/ 1/ 462/ 745- 749 42/ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ/ 1/ 100 ب/ 1/ 478/ 1019/ 1026 الانعام 5/ 15/ قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي/ 1/ 114 ب/ 1/ 552- 553/ 599- 600 66/ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ/ 1/ 118 ب/ 566/ 584- 587 69/ وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ/ 1/ 118 ب/ 1- 567/ 601- 602 107/ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ/ 1/ 122 ب/ 1/ 583/ 584- 587 159/ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ/ 1/ 127 ا/ 1/ 599/ 603- 605 الأعراف 1/ 199/ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ/ 1/ 141 ا/ 2/ 81/ 1057/ 1064(5/160)
السورة/ رقم الآية/ جزء من الآية/ رقم الورقة فى تفسير مقاتل/ رقم المجلد والصفحة فى النسخة المحققة/ رقم الفقرة التي عالجتها فى كتاب النسخ فى القرآن الزخرف 1/ 89/ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ/ 2/ 146 ب/ 3/ 807/ 752 الجاثية 1/ 14/ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا/ 2/ 149 ب/ 3/ 837/ 772- 775 الأحقاف 1/ 9/ قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ/ 2/ 152 ا/ 4/ 17 الذاريات 1/ 19/ وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ/ 2/ 170 ا/ 4/ 129/ 646 المجادلة 1/ 12/ إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ/ 2/ 188 ا/ 4/ 264/ «6» 1231- 1235 الممتحنة 1/ 11/ وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ/ 2/ 194 ب/ 4/ 305- 306/ 1197- 1203 المزمل 1/ 10/ وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ/ 2/ 213 ب/ 4/ 476/ 715 المجموع/ 44 آية
__________
(6) هذه النجمة () تميز الآيات الثلاث التي انطبق عليها النسخ عند مقاتل وعند الدكتور مصطفى زيد فى كتابه (النسخ فى القرآن) .(5/161)
- 3- مناقشة نسخ هذه الآيات
وإذا امعنا النظر فى الآيات التي ادعى مقاتل انها منسوخة وجدنا كثيرا منها لا ينطبق عليه تعريف النسخ عند الأصوليين، وعذر مقاتل واضح فى ذلك، فقد جاء فى عصر مبكر «7» كان النسخ يطلق فيه على التخصيص والتقييد وبيان المبهم وتفصيل المجمل.
(فقد كان الصحابة والتابعون يرون ان النسخ هو مطلق التغيير الذي يطرأ على بعض الأحكام فيرفعها ليحل غيرها محلها او يخصص ما فيها من عموم او يقيد ما فيها من اطلاق) «8» .
- 4- مناقشة المنسوخ بآية السيف
ويكفى ان تعرف ان ست عشرة آية منسوخة عنده بآية السيف وليس فى هذه الآيات نسخ. بل هي مما امر به لسبب ثم زال سببه.
فالله امر المسلمين بالصبر وعدم القتال، فى ايام ضعفهم وقلة عددهم، لعلة الضعف والقلة، ثم أمرهم بالجهاد فى ايام قوتهم وكثرتهم، لعلة القوة والكثرة.
وأنت خبير بان الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وان انتفاء الحكم لانتفاء علته لا يعد نسخا، بدليل ان وجوب الصبر والتحمل عند الضعف والقلة لا يزال قائما الى اليوم، وان وجوب الجهاد والدفاع عند القوة والكثرة لا يزال قائما كذلك الى اليوم.
وما احكم الزركشي فى تعليقه على هذا الموضوع بقوله: (وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين فى الآيات الآمرة بالتخفيف انها منسوخة بآية السيف، وليست كذلك بل هي من المنسأ، بمعنى ان كل امر ورد يجب امتثاله فى وقت ما، لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة الى حكم آخر، وليس بنسخ انما النسخ الازالة حتى لا يجوز امتثاله ابدا) «9» .
- 5- راى أستاذي الدكتور مصطفى زيد فى المراد بآية السيف
وقد جاء فى كتاب (النسخ فى القرآن) ان آية السيف تامر بقتل المشركين
__________
(7) توفى مقاتل سنة 150 هـ، وفى السنة التي ولد فيها الامام الشافعي الذي حرر معنى النسخ وقصره على رفع الشارع حكما شرعيا بدليل شرعي متأخر.
(8) النسخ فى القرآن الكريم: 1/ 73.
(9) البرهان: 2/ 42.(5/162)
حيث وجدوا، وباسر من لم يقتل منهم، وبحصارهم وتضييق الخناق عليهم. لكن من هم هؤلاء المشركون؟.
(ان الآية السابقة واللاحقة تحدد انهم فريق خاص من المشركين. كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنقضوه، وظاهروا عليه أعداءه. وقد برىء الله ورسوله منهم، وآذنهم بالحرب ان لم يتوبوا عن كفرهم، ويؤمنوا بالله ربا واحدا، وبمحمد نبيا ورسولا.
(وهؤلاء المشركون اعداء الإسلام ونبيه ليسوا هم كل المشركين، بدليل قوله جل ثناؤه قبل آية السيف: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً، فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ «10» .
(فليس قتال المشركين غاية فى ذاته، بل هو وسيلة لتأديب أئمة الكفر الذين طعنوا فى دين الله، وصدوا الناس عن سبيله، ونقضوا عهودهم مع رسول الله، وظاهروا عليه أعداءه، ونكثوا ايمانهم، وهموا بإخراج الرسول، وبداوا المؤمنين بالقتال فى بدر) «11» .
فقتالهم مقصود به كسر شوكتهم، وازالة جبروتهم وطغيانهم من طريق الدعوة الاسلامية، حتى تستطيع ان تصل الى آذان العرب جميعا.
(وانما شرع القتال فى الإسلام لتأمين الدعاة اليه، ولضمان الحرية التي تكفل لهم إبلاغ دعوته، ودرء الشبه عن عقيدته، بالمنطق السليم والحجة المقنعة. ومن اجل هذا خص أئمة الكفر بالأمر بقتالهم، لأنهم يحولون بالقوة بين الدعاة والشعوب التي يجب ان تدعى.
فإذا ما هيئت للدعاة وسائل الدعوة فى امن وحرية فلا حرب ولا قتال) «12» ؟
- 6- تعقيب على المناقشة
وهكذا يتضح ان الآيات التي ادعى مقاتل انها منسوخة بآية السيف ليست من النسخ فى شيء، بل هي من (المنسأ) «13» الذي دار مع سببه وجودا وعدما.
__________
(10) سورة التوبة: 4.
(11) النسخ فى القرآن الكريم، للدكتور مصطفى زيد: 2/ 504- 506.
(12) النسخ فى القرآن، للدكتور مصطفى زيد: 2/ 507. بتصرف.
(13) الإنساء فى التأخير والتاجيل. قال تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها سورة البقرة: 106.
وانظر: اصول التشريع الإسلامي- على حسب الله: 316 ط 3.
ومعنى الإنساء تأخير الأمر بالقتال الى وقت الحاجة. وانظر الزركشي فى البرهان: 2/ 42، والسيوطي فى الإتقان: 2/ 21.(5/163)
ويلحق بهذا القسم كل ما أمر به لسبب، ثم زال حكمه لزوال علته. كالامر بالمغفرة للذين لا يرجون لقاء الله. ثم نسخه بإيجاب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر «14» . وكالنهى عن ادخار لحوم الأضاحي من اجل الدافة «15» ، ثم ورود «16» الاذن فيه فلم يعد منسوخا، بل من باب زوال الحكم لزوال علته. حتى لو فجا اهل ناحية جماعة مضرورون تعلق باهلها النهى) «17» .
- 7- تقسيم الآيات المنسوخة عند مقاتل الى ستة اقسام
لقد قلنا ان عدد الآيات المنسوخة عند مقاتل اربع وأربعون آية. ويمكننا الآن ان نقسم هذه الآيات الى ستة اقسام:
1- القسم الاول آيات منسوخة بآية السيف «18» وعددها ست عشرة آية.
2- القسم الثاني ليس فيها الا تخصيص العام وعددها خمس آيات.
3- القسم الثالث آيات ليس فيها الا تفسير المبهم وعددها آيتان.
4- القسم الرابع آيات لا تعارض بينها وبين ناسخها وعددها ثلاث عشرة آية.
5- القسم الخامس آيات هي فى حقيقتها اخبار وعددها خمس آيات.
6- القسم السادس آيات هي المنسوخ حقيقة وعددها ثلاث آيات.
وسنخصص جدولا لآيات كل قسم، مع الاشارة الى جزء من الآية، ثم نورد كل آية منسوخة على حدة. ونتبعها بالآية الناسخة لها عند مقاتل، وتعقيبنا على دعوى النسخ. وجل هذا التعقيب مستخرج من كتاب (النسخ فى القرآن الكريم) لاستاذى الدكتور مصطفى زيد.
__________
(14) البرهان: 2/ 42.
(15) وردت فى كتاب الاختيار شرح المختار باب الاضحية (من اجل الدافة) اى المجاعة. وانظر ايضا النسخ فى القرآن: 11/ 129 فقرة 198، فقد وردت بلفظ الدافة.
(16) فى البرهان ثم ورد. وهي عطف على المصدر فالأنسب الإتيان بها بصيغة المصدر.
(17) البرهان للزركشى: 21- 42. وقد حرفت فيه كلمة «الدافة» الى «الرافة» مع انها «الدافة» فى نص الحديث الصحيح.
(18) الحقنا بهذا القسم ما فى حكمه مما امر به لسبب ثم زال حكمه لزوال سببه، كالتوراث على الهجرة ثم التوارث على مطلق القرابة- كما فى الآية (6) من سورة الأحزاب المنسوخة عند مقاتل بآخر آية فى سورة الأنفال. [.....](5/164)
- 8- جدول بالآيات المنسوخة بآية السيف عند مقاتل
اسم السورة/ الآيات التي فيها/ رقم الآية/ من نص الآية/ رقم الجزء والورقة فى تفسير مقاتل/ رقم المجلد والصفحة فى تحقيقي له النساء/ 2/ 63/ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ/ 1/ 78 ا/ 1/ 385- 386 91/ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ/ 1/ 82 ا/ 1/ 396 المائدة/ 1/ 13/ فَاعْفُ عَنْهُمْ/ 1/ 95 ب/ 1/ 462 الانعام/ 2/ 66/ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ/ 1/ 118 ب/ 1/ 566 107/ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ
/ 1/ 122 ب/ 1/ 583 الأعراف/ 1/ 109/ خُذِ الْعَفْوَ/ 1/ 141 ا/ 1/ 81 الأنفال/ 1/ 75/ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ/ 1/ 149 ب/ 3/ 131 يونس/ 2/ 99/ وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ/ 1/ 169 ب/ 2/ 250 108/ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ/ 1/ 169 ب/ 2/ 252 الحج/ 1/ 69/ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ/ 2/ 28 ا/ 3/ 137 العنكبوت/ 1/ 46/ وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ/ 2/ 47 ا/ 3/ 385 الم السجدة/ 1/ 30/ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ/ 2/ 86 ا/ 3/ 454 الأحزاب/ 1/ 6/ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ/ 2/ 88 ا/ 3/ 474- 475 الزخرف/ 1/ 89/ فَاصْفَحْ عَنْهُمْ/ 2/ 146 ب/ 3/ 807 الجاثية/ 1/ 14/ قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا/ 2/ 149 ب/ 3/ 837 المزمل/ 1/ 10/ وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ/ 2/ 213 ب/ 4/ 476 المجموع/ 16 آية(5/165)
وهذا هو نص الآيات:
1- الآية 63 من سورة النساء هي قوله تعالى:
أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً.
والحديث فيها عن المنافقين، والمنافق لا يقتل وانما يوعظ ويخوف.
2- والآية 91 من سورة النساء هي قوله تعالى:
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها، فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً.
والآية نزلت فى قوم مخصوصين اسلموا قبل ان تنزل آية السيف، كما ان آية السيف نزلت- هي ايضا- فى قوم مخصوصين «19» .
3- والآية 13 من سورة المائدة هي قوله تعالى:
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
والآية تتحدث عن بنى إسرائيل: او عن بنى النضير الذين هموا بقتل رسول الله وأصحابه حين أتاهم يستعين بهم فى دية العامريين- كما قال الطبري-، فلا وجه لنسخها بآية السيف التي نزلت فى فئة من المشركين «20» .
4- والآية 66 من سورة الانعام هي:
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ.
وهي توضيح ان وظيفة الرسول هي التبليغ عن الله، وانه ليس وكيلا على الكفار ولا حفيظا عليهم، ما دام قد بلغهم دعوة الله. فلا منافاة بينها وبين قتالهم، إذا تعين هذا القتال وسيلة للدعوة «21» .
ومن جهة اخرى سبق ان ذكرنا ان هذا من المنسأ لا من المنسوخ.
5- والآية 107 من سورة الانعام هي:
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ.
وهي كسابقتها.
__________
(19) النسخ فى القرآن: 2/ 786 فقرة 1172.
(20) النسخ فى القرآن: 2/ 535 فقرة 749.
(21) النسخ فى القرآن: 1/ 429 فاقرة 587.(5/166)
6- والآية 199 من سورة الأعراف هي.
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. وهي كسابقتيها.
7- والآية 75 من سورة الأنفال هي:
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ.
قال مقاتل فَأُولئِكَ مِنْكُمْ فى الميراث، وهي منسوخة بالجزء الأخير منها وهو:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.
قال مقاتل بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في الميراث. فورث المسلمون بعضهم بعضا من هاجر ومن لم يهاجر في الرحم والقرابة «22» .
وليس هذا من المنسوخ، ولكنه مما امر به لسبب ثم زال الحكم لزوال علته، فقد كان الميراث على الهجرة عند الحاجة إليها. ثم صار الى القرابة حين أعز الله الإسلام، وأغناه عن الهجرة.
8- والآية 99 من سورة يونس هي:
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ.
وفيها ما تقدم.
9- والآية 108 من سورة يونس هي:
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ.
وفيها ما تقدم ايضا.
10- والآية 69 من سورة الحج هي:
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ.
وهي ايضا خبرية، والاخبار لا تقبل النسخ، بل ان ادعاء النسخ فيها إساءة ادب مع الله فهو سبحانه الحكم العدل يوم القيامة.
1- والآية 46 من سورة العنكبوت هي:
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
والآية فى مجادلة اهل الكتاب، وآية السيف فى قتال فئة من المشركين، فلا تعارض ولا نسخ.
وقد ذهب الطبري وابو جعفر النحاس الى انها محكمة «23» .
__________
(22) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث: جزء 1 ورقة 149 ب، وانظر تحقيقي له: 2/ 131.
(23) النسخ فى القرآن الكريم: 2/ 549، فقرة 768.(5/167)
12- والآية 30 من سورة السجدة هي:
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ.
وفيها ما تقدم.
13- والآية 6 من سورة الأحزاب هي:
النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً.
وقال مقاتل نسختها الآية فى آخر الأنفال. يقصد الجزء الأخير منها وهو وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وقد سبق بيان ان هذا من باب المنسأ، وليس بنسخ.
14- والآية 89 من سورة الزخرف هي:
فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ.
وقد سبق بيان انها ليست منسوخة.
15- والآية 14 من سورة الجاثية هي:
قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
16- والآية 10 من سورة المزمل هي:
وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا.
وسبق بيان ان المسلمين أمروا عند قلتهم وضعفهم بالصبر والتحمل، ثم أمروا عند قوتهم بالقتال وصد العدوان، فليس فى الأمر بالقتال نسخ للأمر بالصفح والعفو، بل هو من باب تغيير الحكم لتغيير العلة. فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما.
وبهذا يظهر لنا خطا مقاتل فى دعوى النسخ بآية السيف على الآيات السابقة.
كما يظهر خطا من نقل عنه بدون تمحيص، كهبة الله بن سلامة المتوفى سنة 410 هـ فى كتابه الناسخ والمنسوخ حيث يقول:
«كل ما فى القرآن من مثل فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، وَتَوَلَّ عَنْهُمْ، وخلوا سبيلهم، وما شاكل ذلك- فناسخه آية السيف.
«وكل ما فى القرآن من مثل إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ فناسخه لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ.
«وكل ما فى القرآن من خبر الذين أوتوا الكتاب، والأمر بالعفو والصفح عنهم- نسخه قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... الآية.
ثم يصرح بانه نقل هذه الجمل واستخرجها من كتب المحدثين وشيوخ المفسرين(5/168)
وعلمائهم: من كتاب ابى صالح مما رواه الكلبي. ومن كتاب مقاتل بن سليمان أنبأ به عبد الخالق بن الحسين السقطي أنبأ عبد الله بن ثابت عن أبيه عن الهذيل ابن حبيب عن مقاتل) «24» .
- 9- جدول بآيات ليس فيها الا التخصيص
اسم السورة/ رقم الآية/ جزء منها/ رقم الجزء والورقة فى تفسير مقاتل/ رقم المجلد والصفحة فى النسخة المحققة البقرة/ 180/ الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ/ 1/ 28 ا/ 1/ 159 البقرة/ 228/ وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ/ 1/ 137 ا/ 1/ 194 البقرة/ 284/ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ/ 1/ 49 ا/ 1/ 231 الاسراء/ 24/ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما/ 1/ 213 ب/ 2/ 528 الشورى/ 5/ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ/ 3/ 137 ب/ 3/ 763- 764 المجموع/ 5 آيات
وهذا هو نص هذه الآيات:
1- الآية 180 من سورة البقرة:
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ.
ذكر مقاتل انها نسخت بآيات المواريث، والآية لم تنسخ، وانما خصص وجوب الوصية بغير الورثة، فالوصية واجبة فى حد ذاتها، اعتمادا على ما أخرجه البخاري فى كتاب الوصايا: باب الوصية وقول النبي صلى الله عليه وسلم وصية الرجل مكتوبة عنده «25» .
__________
(24) النسخ فى القرآن الكريم: 1/ 365 الفقرة 496، نقلا عن الورقة الاخيرة من المخطوطة: 248 تفسير بدار الكتب المصرية.
ونلاحظ ان الاسناد الذي ذكره ابن سلامة الى، مقاتل هو نفس الاسناد الذي روى لنا تفسيره الكامل للقرآن الكريم.
(25) فتح الباري: 5/ 263- 267، ومسلم فى كتاب الوصايا، والنسائي، والدارقطني والنسخ فى القرآن د. مصطفى زيد: 2/ 592- 596 فقرة 820- 824.(5/169)
4- والآية 228 من سورة البقرة هي:
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
ذكر مقاتل انها منسوخة بالآية بعدها، وهي الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ سورة البقرة: 229.
والاولى تتحدث عن عدة المطلقة ذوات الأقراء. والثانية تبين انواع الطلاق ومتى يكون رجعيا ومتى يكون بائنا، فليس فيها الا تقييد المطلق، وقد الحقه السابقون بالتخصيص.
3- والآية 284 من سورة البقرة هي:
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
نسختها الآية 286 من سورة البقرة وهي:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها.. الآية وهي انما خصصت العموم الذي فى الاولى ولم تنسخه «26» .
4- والآية 24 من سورة الاسراء هي:
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً.
نسختها الآية 113 من سورة براءة وهي:
مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
وهذه الآية مخصصة للآية السابقة وليست ناسخة لها.
5- والآية 5 من سورة الشورى هي:
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
نسختها الآية 7 من سورة غافر وهي:
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ... الآية.
وقد أسند ابن الجوزي زعم النسخ هنا الى وهب بن منبه والسدى ومقاتل
__________
(26) النسخ فى القرآن الكريم: 2/ 607 فقرة 837.(5/170)
ابن سليمان، ثم عقب بقوله: (وهذا قبيح، لان الآيتين خبر والخبر لا ينسخ ثم ليس بينهما تضاد) . فالآية الثانية مخصصة للاستغفار بالمؤمنين. وليست ناسخة «27» .
- 10- جدول بآيات ليس فيها الا تفسير المبهم
اسم السورة/ رقم الآية/ جزء من الآية/ رقم الجزء والورقة فى تفسير مقاتل/ رقم المجلد والصفحة فى النسخة المحققة آل عمران/ 102/ ااتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ/ 1/ 59 ا/ 1/ 292- 293 النساء/ 10/ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً/ 1/ 70 ا/ 1/ 360 المجموع/ آيتان الاولى هي قوله تعالى فى سورة آل عمران: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ نسختها: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ سورة التغابن: 16. وهذا من تفسير المبهم وليس نسخا «28» . ولان ما استطعتم هو حق تقاته لم يطلب منهم غير ذلك «29» .
والآية الثانية هي قوله تعالى فى سورة النساء: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً. نسختها الآية 220 فى سورة البقرة وهي: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
قال ابن الجوزي: والآية لا يجوز فيها ناسخ ولا منسوخ، لأنها خبر ووعيد ونهى عن الظلم والتعدي، ومحال نسخ هذا. اهـ.
ثم انه لا تنافى بين الآيتين، لان الثانية بينت لنا طريقة النجاة من الوعيد الذي فى الاولى- وذلك برعاية اليتيم ومخالطته بالإصلاح، فهي تفسير للمبهم وليست نسخا «30» .
__________
(27) النسخ فى القرآن الكريم: 1/ 464 فقرة 634.
(28) النسخ فى القرآن: 2/ 614.
(29) اصول الفقه للخضري: 279.
(30) النسخ فى القرآن الكريم: 2/ 616- 617، الفقرة 849.(5/171)
- 11- جدول بآيات لا تعارض فيها بين الناسخ والمنسوخ
اسم السورة/ رقم الآية/ جزء من الآية/ رقم الجزء والورقة فى تفسير مقاتل/ رقم المجلد والصفحة فى تحقيقي له البقرة/ 178/ الْحُرُّ بِالْحُرِّ/ 1/ 27 ب/ 1/ 158 البقرة/ 184/ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ/ 1/ 28 ب/ 1/ 160- 161 البقرة/ 191/ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ/ 1/ 30 ب/ 1/ 168 البقرة/ 215/ يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ/ 1/ 34 ب/ 1/ 183 البقرة/ 240/ وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ/ 1/ 40 ا/ 1/ 201 المائدة/ 2/ لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ/ 1/ 92 ب/ 1/ 448- 451 المائدة/ 42/ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ/ 1/ 100 ب/ 1/ 478 الانعام/ 15/ قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي/ 1/ 114 ب/ 1/ 552- 553 الأنفال/ 61/ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ/ 1/ 148 ا/ 2/ 123 الاسراء/ 34/ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ/ 1/ 215 ا/ 2/ 530 الأحقاف/ 9/ قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ/ 2/ 152 ا/ 4/ 17 الذاريات/ 19/ وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ/ 2/ 170 ا/ 4/ 129 الممتحنة/ 11/ وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ/ 2/ 194 ب/ 4/ 305- 306 المجموع/ 13 آية(5/172)
وإليك هذه الآيات والآيات الناسخة لها عند مقاتل:
1- الآية 178 من سورة البقرة هي:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ، ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ، فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ.
وناسخها عند مقاتل هو قوله تعالى فى سورة المائدة: 45 وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ، وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ، وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ.
ولا نسخ هنا، لان آية المائدة تحكى ما كتبه الله عز وجل فى التوراة، وآية البقرة تقرر حكم القصاص فى شريعة الإسلام، واما قصاص الرجل بالمراة فمستفاد مما ورد فى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: بان نفس الرجل الحر قود، قصاصا بنفس المراة الحرة. وقد ذكر الطبري اربعة مذاهب فى تاويل الآية الاولى:
يقوم الاول منها على تحديد المسموح به من القصاص بانه هو الذي لا يتعدى القاتل فيه الى غيره «31» .
وقد اجمع العلماء على ان الله لم يقض فى حكم القصاص قضاء ثم نسخه «32» .
2- والآية 184 من سورة البقرة هي قوله تعالى:
وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ. وناسخها عند مقاتل فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ سورة البقرة: 185.
ولا نسخ هنا، لان الآية الاولى خاصة بالشيخ الكبير والعجوز وأمثالهما ممن يعجزون عن الصوم. او يقدرون عليه بمشقة بالغة. قال الامام محمد عبده ان الاطاقة ادنى درجات المكنة والقدرة على الشيء. فلا تقول العرب أطاق الشيء الا إذا كانت قدرته عليه فى نهاية الضعف، فالمراد بالذين يطيقونه هنا الشيوخ والضعفاء، والزمنى الذين لا يرجى برؤهم، ونحوهم: كالفعلة الذين جعل الله معاشهم الدائم بالاشغال الشاقة، كاستخراج الفحم الحجري من مناجمه. ومنهم المجرمون الذين يحكم عليهم بالاشغال الشاقة المؤبدة إذا كان الصوم يشق عليهم بالفعل وكانوا يملكون الفدية «33» .
__________
(31) الطبري: 3/ 363- 364.
(32) النسخ فى القرآن الكريم: 2/ 632 فقرة 866- 872. [.....]
(33) تفسير المنار: 2/ 156، والنسخ فى القرآن الكريم: 2/ 643 فقرة 883- 887.
وانظر: اصول الفقه للخضري: 278.(5/173)
3- والآية 191 من سورة البقرة هي:
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ. وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ.
زعم مقاتل ان النصف الأخير من الآية منسوخ بالنصف الاول منها، اى ان:
وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ منسوخ بقوله فى أول الآية: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ..
وهذا عجيب، لان المنسوخ يجب ان يتقدم على الناسخ ولا يتأخر عنه فى النزول. ثم ان الموضوعين مختلفان، فالنصف الاول يتعلق بما عدا المسجد الحرام، والأخير يتعلق بالقتال عند المسجد الحرام، فهو مخصص للنصف الاول وليس منسوخا به.
4- والآية 215 من سورة البقرة هي:
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ، وهي منسوخة عند مقاتل بآية الزكاة. ولا نسخ هنا، لان الاولى فى الصدقة او النفقة، والثانية فى الزكاة، وفرضية الزكاة لا تمنع الإنفاق تطوعا «34» .
5- والآية 240 من سورة البقرة هي:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ، فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
وهي عند مقاتل منسوخة بالآية 234 من سورة البقرة وهي التي يقول الله فيها: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً، فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ.
والناظر فى الآيتين يراهما مختلفي الموضوع، فالاولى تبين حقا للمتوفى عنهن هو حق السكنى والنفقة، ولذلك قال: وصية لأزواجهم متاعا الى الحول. والثانية تبين واجبا عليهن هو ان يتربصن بأنفسهن اربعة أشهر وعشرا لا يتزوجن فى أثنائها، فلا تناقض بين الحكمين. ولا مجال للنسخ.
__________
(34) النسخ فى القرآن: 2/ 657 فقرة، 912- 919.(5/174)
6- والآية 3 من سورة المائدة هي:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ....
وقد ادعى مقاتل انها منسوخة بآية السيف فى سورة التوبة: 5 وهذا عجيب ايضا لاختلاف الموضوعين، فالاولى تتعلق بافراد معينين قصدوا البيت الحرام فى زمن معين طلبا للثواب. والثانية تتعلق بالمشركين الذين نقضوا العهد.
7- والآية 42 من سورة المائدة هي قوله عز وجل:
سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ، فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ... الآية. وقد زعم مقاتل انها منسوخة بالآية 49 من السورة نفسها وهي:
وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ... الآية.
ولا معنى للنسخ، لان الثانية متممة للأولى، فهو مخير ان يحكم او يعرض، وإذا اختار الحكم حكم بما انزل الله، فالطلب منصب على القيد «35» .
8- والآية 15 من سورة الانعام هي:
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، وهي فى زعم مقاتل منسوخة بالآيات الاولى من سورة الفتح وهي: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ ... ، والمراد بالمعصية فى الآية الاولى الإشراك بالله وما يؤدى الى هذا الإشراك من تبديل القرآن. والمغفرة فى سورة الفتح ليست للشرك، كيف وقد قال تعالى لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ. فلا تعارض ولا نسخ.
9- والآية 61 من سورة الأنفال هي:
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، نسختها عند مقاتل الآية التي فى محمد: 35 فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ..، والحقيقة انه لا نسخ هناك، لان الاولى انما عنى بها بنو قريظة، والثانية قصد بها مشركو العرب. ومن ثم كان القول بالنسخ هنا لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة ولا عقل كما يقول الطبري «36» .
__________
(35) اصول الفقه للخضري: 280.
(36) تفسير الطبري: 14/ 42- 43. والنسخ فى القرآن: 2/ 565- 566 فقرة 785 وما بعدها(5/175)
10- والآية 34 من سورة الاسراء هي:
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ... ، وناسخها فى راى مقاتل هو الآية 220 فى سورة البقرة وهي: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ، ولا تعارض بين الآيتين، لان الاولى تبيح المخالطة بالتي هي احسن، والثانية كذلك، وبذلك تلتقى الآيتان عند المحافظة على مال اليتيم والاحتياط لمصلحته.
11- والآية 9 من سورة الأحقاف هي:
قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ، وهي عند مقاتل منسوخة بقوله تعالى فى سورة الفتح:
الآية الثانية لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ... والاولى تقول: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ فى الدنيا، والثانية تثبت ان جزاءه المغفرة والجنة فى الآخرة، وقد روى ذلك عن الحسن البصري، ورجحه الطبري، فلا تعارض بينهما «37» .
12- والآية 19 من سورة الذاريات هي:
وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، ومقاتل يزعم انها منسوخة بآية الزكاة. والواقع ان الآية خبر، والاخبار لا تنسخ، ثم انه لا تعارض بين الصدقة والزكاة، فالصدقة تطوع ومعونة، والزكاة فريضة.
13- والآية 11 من سورة الممتحنة هي:
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ، ومعناها: ان ارتدت امراة ولم يرد الكفار صداقها الى زوجها كما أمروا- فردوا أنتم الى زوجها مثل ما أنفق. ومعنى فعاقبتم: فأصبتم من الكفار عقبى: هي الغنيمة.
وقد نسب ابن كثير هذا التفسير الى مسروق وابراهيم وقتادة، ومقاتل والضحاك، وسفيان بن حسين، والزهري «38» .
وذكر مقاتل انها منسوخة بآية السيف، ولا ارى تعارضا بينهما «39» .
__________
(37) تفسير الطبري: 26/ 6، وانظر النسخ فى القرآن الكريم: 1/ 742 فقرة 645.
(38) تفسير ابن كثير: 4/ 352.
(39) النسخ فى القرآن الكريم: 2/ 800 فقرة 1197- 1202.(5/176)
- 12- جدول بآيات منسوخة عند مقاتل وهي اخبار لا تقبل النسخ
اسم السورة/ رقم الآية/ جزء من الآية/ رقم الجزء والورقة فى تفسير مقاتل/ رقم المجلد والصفحة فى النسخة المحققة الانعام/ 69/ وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ/ 1/ 118 ب/ 1/ 567 الانعام/ 159/ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً/ 1/ 127 ا/ 1/ 599 التوبة/ 80/ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً/ 1/ 158 ا/ 2/ 186- 187 الشورى/ 15/ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ/ 2/ 138 ب/ 3/ 767 الشورى/ 20/ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها/ 2/ 139 ا/ 3/ 768 المجموع/ 5 آيات
وإليك بيان هذه الآيات:
1- الآية 69 من سورة الانعام هي قوله تعالى:
وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ، وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ، وقد ذكر مقاتل انها منسوخة بالآية 140 فى سورة النساء وهي: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ، إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً، والآية الاولى خبر، والاخبار لا تقبل النسخ. وقد ذهب الى ذلك الطبري، وابو جعفر النحاس، وابن الجوزي «40» .
__________
(40) النسخ فى القرآن الكريم: 1/ 441 الفقرة 602.(5/177)
2- والآية 159 من سورة الانعام هي:
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ، ناسخها عند مقاتل الآية 29 من سورة التوبة وهي: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ.
والمراد بالذين فرقوا دينهم: اليهود، او من سيخالفون امر الدين من المسلمين.
وعلى كل فالآية خبر لا امر، والنسخ انما يكون فى الأمر والنهى «41» .
3- والآية 80 من سورة التوبة هي:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ.
ذكر مقاتل انها منسوخة بالآية 6 من سورة المنافقين، ونصها: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ، إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ والأمر والنهى فى آية التوبة ليس على ظاهره، بل مراد به الخبر، ومعناه:
ان استغفرت لهم يا محمد او لم تستغفر لهم فلن يغفر الله لهم. والاخبار لا يدخلها النسخ «42» .
4- والآية 15 من سورة الشورى هي:
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ، وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ.
قال مقاتل: نسختها آية القتال فى براءة- وآية القتال غير آية السيف عند مقاتل.
فآية السيف هي 5 من سورة التوبة: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.. الآية. اما آية القتال فهي الآية 29 من سورة التوبة وهي: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ... الآية.
ونلاحظ ان الآية 15 من سورة الشورى خبر فلا تقبل النسخ، كما انها تقرر مبدا لا يقبله. وهو ان كل انسان مسئول عن عمله ومحاسب عليه «43» .
__________
(41) تفسير الطبري: 12/ 272- والنسخ فى القرآن الكريم: 1/ 441 فقرة 602.
(42) النسخ فى القرآن الكريم: 2/ 749 فقرة 1096.
(43) النسخ فى القرآن الكريم: 1/ 464 الفقرة 635.(5/178)
5- والآية 20 من سورة الشورى هي:
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ.
ذكر مقاتل انها منسوخة بالآية 14 من سورة الاسراء وهي: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً.
والآية 20 من سورة الشورى خبر، والاخبار لا تقبل النسخ.
ثم ان الآية الناسخة لا تختلف عن الآية الاولى فى شيء الا انها قيدت المطلق، وتقييد المطلق ليس من النسخ فى شيء حتى فى الآيات التشريعية. ثم ان الأشياء كلها بارادة الله ومشيئته، وهذا بديهي «44» .
- 13- جدول بآيات منسوخة عند مقاتل وفيها حقيقة النسخ
اسم السورة/ رقم الآية/ جزء من الآية/ رقم الجزء والورقة فى تفسير مقاتل/ رقم المجلد والصفحة فى النسخة المحققة النساء/ 15/ وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ/ 1/ 72 ا/ 1/ 362- 363 النساء/ 16/ وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ/ 2/ 72 ا/ 1/ 363 المجادلة/ 12/ إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ/ 2/ 188 ا/ 4/ 264 المجموع/ 3 آيات
وإليك بيان هذه الآيات:
1- الآية 15 من سورة النساء هي:
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ، فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا.
__________
(44) النسخ فى القرآن الكريم: 1/ 466 فقرة 637.(5/179)
يرى مقاتل انها تتعلق بالمراة الثيب تزنى ولها زوج، فيأخذ المهر منها من غَيْر طلاق وَلا حد ولا جماع، - اى لا يجامعها- وتحبس فى السجن حتى تموت. ثم نسخ الحد فى سورة النور الحبس فى البيوت.
2- والآية 16 من سورة النساء هي:
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً.
يرى مقاتل انها تتعلق بالبكرين اللذين لم يحصنا، فيعيران ليندما ويتوبا.
ثم نسختها آية 3 فى سورة النور: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
فلما امر الله بالجلد قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّه أكبر جاء اللَّه بالسبيل، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة.
فاخرجوا من البيوت لاقامة الحد، ولم يحبسوا، فذلك قوله عَزَّ وَجَلّ:
أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا يعنى مخرجا من الحبس باقامة الحد.
هذا هو راى مقاتل فى تفسير الآيتين وقد نقلت عبارته بنصها.
ولأبي مسلم راى فى تفسير الآيتين، ان الاولى فى السحاقات والثانية فى اهل اللواط.
وآية النور فى الزنا بين الرجل والمراة، فلا نسخ «45» .
والحق ان تفسير مقاتل للآيتين تفسير مقبول عقلا ونقلا، اهـ.
3- والآية 12 من سورة المجادلة هي:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، وهي على التحقيق منسوخة بالآية: 13 بعدها، لأنها تقول: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ؟ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ...
ويرى مقاتل ان الزكاة نسخت تقديم الصدقة بين يدي المناجاة. ويعلل مقاتل نزول الآية الاولى بان الأغنياء كانوا يكثرون مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم، ويغلبون الفقراء على مجالس النبي صلى الله عليه وسلم. وكان النبي صلى الله عليه
__________
(45) انظر الرد عليه فى كتاب النسخ فى القرآن: 2/ 833 فقرة 1259.(5/180)
وسلم يكره طول مجالستهم وكثرة نجواهم، فلما أمرهم بالصدقة عند المناجاة انتهوا عند ذلك، وقدرت الفقراء على كلام النبي صلى الله عليه وسلم ومجالسته.
ولم يقدم أحد من اهل الميسرة صدقة غير علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قدم دينارا وكلم النبي صلى الله عليه وسلم عشر كلمات.
فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى انزل الله تعالى: ء أشفقتم يقول أشق عليكم؟
أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ.. الآية.
- 14- آيات ينطبق عليها النسخ ولم يعتبرها مقاتل منسوخة
قد اعتبر ما فى الآيات الناسخة لها تخفيفا وتيسيرا او رخصة بعد الهزيمة:
1- كما فى نسخ الآية 65 بالآية 66 من سورة الأنفال حيث يقول سبحانه:
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ.
قال مقاتل: فجعل الرجل من المؤمنين يقاتل عشرا من المشركين، ولم يكن «ذلك فرضا» فرضه الله لا بد منه، ولكنه تحريض من الله ليقاتل الواحد عشرة، فلم يطق المؤمنون ذلك، فخفف الله عنهم بعد قتال بدر، فانزل الآية: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ «46» .
وفى كتاب النسخ فى القرآن الكريم يرى الدكتور مصطفى زيد: (ان آية الأنفال المذكورة منسوخة بالآية التي تليها) ونقل ذلك عن الشافعي والبخاري والطبري وشيوخ اهل التأويل وجمهور المفسرين من بعدهم «47» .
ويقول الأستاذ الخضرى «48» : (والظاهر هو ان تعريف النسخ ينطبق على هذه الآية، لان الاولى كانت توجب عليهم الصبر لعشرة أمثالهم، والثانية رفعت هذا الوجوب عنهم وأوجبت شيئا آخر، وهو صبرهم لضعفهم) .
والخلاف بين مقاتل وغيره أساسه ما يأتي:
هل لقاء المسلمين لعشرة أمثالهم كان فرضا او ندبا؟.
__________
(46) قارن بأصول التشريع الإسلامي، على حسب الله: 307 ط 3، ورواية فى الآية شبيه براى مقاتل فيها. [.....]
(47) النسخ فى القرآن الكريم: 2/ 821 الفقرة 1231.
(48) اصول الفقه: محمد الخضرى: 281.(5/181)
لمقاتل يرى- ان الآية 65 من الأنفال- لم تكن فرضا لا بد منه، بل كانت تحريضا للمسلمين على لقاء أعدائهم ولو كانوا عشرة أمثالهم، ثم خفف الله عنهم ذلك الى قتال مثليهم.
(فهي كقول المعلم لتلميذه يحثه على المذاكرة، ويعده لتقبل ما سيكلفه إياه:
انك- بما اعهد فيك من ذكاء وحب للعلم- تستطيع ان تذاكر من هذا الكتاب كل يوم مائة صفحة. ثم يتبع هذا بقوله: وانا الآن أخفف عنك فلا أكلفك هذا الذي تقدر عليه، لأني اعلم ان عليك من العلوم الاخرى ما يحتاج الى مذاكرة، فذاكر فى كل يوم عشرين صحيفة) «49» .
اما الذين يقولون بالنسخ- فى الآية 65 من سورة الأنفال- فهم يرون ان الآية فرضت على المسلمين الا يفروا من عشرة أمثالهم، ثم نسخ الله ذلك بعدم الفرار من مثليهم فى الآية التالية، وقد ورد ذلك فى الصحيح، واثر عن السلف.
ولمقاتل ان يقول: ان ما روى عن السلف من نسخ هنا لا ينقض ما ذهبنا اليه، فقد كانوا يطلقون النسخ على التخفيف وعلى كل تغيير يطرأ على الحكم «50» .
2- وفى نسخ صدر سورة المزمل بالآية الاخيرة منها «51» ، ذكر مقاتل ان
__________
(49) على حسب الله، اصول التشريع الإسلامي: 307.
(50) لكن للقائلين بالنسخ ان يقولوا: ان الأمر للوجوب أصلا، ولا صارف له هنا عن حقيقته، وان الآية الثانية بدأت بقوله عز وجل (الآن خفف الله عنكم) وهذا يشعر بان الحكم قد تغير، إذ لا معنى للتخفيف برفع ندب شيء كان مندوبا، لأنه بطبيعة كونه ليس ملزما، فلا يحتاج الى التخفيف ما داموا لا يؤاخذون على تركه. ويقول الأستاذ الخضرى (اصول الفقه: 281) معلقا على القول بنسخ الآية المذكورة: (وربما يقال ان الرخص مع العزائم كذلك، ولم يقل احد ان الرخصة تنسخ العزيمة، فآية التيمم لم تنسخ آية الوضوء. مع ان آية الوضوء توجبه على كل حال، وآية التيمم توجب رفع الاول وإيجاب شيء آخر، فكذلك هنا) .
بينما ينقض ذلك الدكتور مصطفى زيد بقوله: (النسخ فى القرآن الكريم: 2/ 924 فقرة 1242) : والحكم الذي شرع بالآية الثانية هنا- وهو التخفيف بإيجاب الثبات على كل مسلم امام اثنين بدلا من عشرة- لم يشرع على انه رخصة لا يجوز العمل بها الا عند تعذر العمل بالعزيمة، التي هي الحكم الاول، وانما شرع ليحل محل الحكم الاول فى كل حال. فلا يقال ان المسلمين فى حال القوة يجب عليهم الثبات لعشرة أمثالهم من الكفار، لان هذا الحكم قد نسخ فلم يعد محل تكليف. ولا يعتبر المؤمنون مخالفين إذا فروا فى حال قوتهم امام ثلاثة أمثال او اكثر، لأنه لم يعد الثبات واجبا عليهم- بعد النسخ- امام اكثر من مثليهم) ا. هـ.
(51) قال تعالى فى أول السورة: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا سورة المزمل: 1- 3.
ويذكر مقاتل: ان الله فرض على الرسول والمسلمين قيام مقدار من الليل- نصفه او انقص من النصف او اكثر- وذلك قبل ان تفرض الصلوات الخمس. فكانوا لا يصلون الا بالليل، ومكنوا على ذلك سنة، فشق عليهم القيام. فانزل الله الرخصة فى قوله سبحانه: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى(5/182)
الآيات الاولى من السورة كانت عزيمة، والآية الاخيرة رخصة من الله بعد التشديد.
ثم عاد فقال: ان الآية الاخيرة نسخت قيام الليل عن المؤمنين، وثبت قيام الليل على رسول الله صلى الله عليه وسلم..
ويلاحظ ان مقاتلا سوى بين الرخصة والنسخ فى إطلاقهما هنا، مع ان هناك فارقا بينهما: فالرخصة لا يجوز العمل بها الا عند تعذر العمل بالعزيمة. اما النسخ فان الحكم الثاني حل محل الاول فى كل حال «52» .
وعذر مقاتل فى ذلك ان النسخ لم يكن تميز عما سواه فى ذلك الوقت، كما يلاحظ ان مقاتلا يرى: ان الآية الاخيرة لم تنسخ قيام الليل فى حق الرسول صلى الله عليه وسلم بل نسخته فى حق المسلمين فقط وبقي قيام الليل فرضا على رسول الله.
وفى تفسيره للآية 26 من سورة الإنسان وهي: وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا. يذكر ان قيام الليل كان فريضة على رسول الله صلى الله عليه وسلم «53» .
ويذكر الدكتور مصطفى زيد: (ان قيام الليل كان قد فرض أولا على جميع الامة، ثم نسخ بعد اثنى عشر شهرا فأصبح تطوعا بعد ان كان فريضة، - كما قالت عائشة رضى الله عنها- وان التهجد قد فرض على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة بمقتضى آية الاسراء [79] وبقي فرضا عليه حتى انتقل الى الرفيق الأعلى، فلم ينسخ) «54» .
__________
مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ... سورة المزمل: 20. قال مقاتل: فهذه رخصة من الله بعد التشديد، فنسخ قيام الليل على المؤمنين وثبت قيام الليل على النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان بين أول هذه السورة وآخرها سنة. حتى فرضت الصلوات الخمس والزكاة، فهما واجبتان.
(52) النسخ فى القرآن الكريم: 2/ 816 فقرة 1242 وقد نقلتها لك قبل قليل.
(53) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث جزء 2 ورقة 222 ب، وانظر تحقيقي له: 4/ 534. وفى تفسيره للآية 79 من سورة الاسراء وهي وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً، يقول (نافلة) لك بعد المغفرة لان الله قد غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تأخر، فما كان من عمل «له» فهو نافلة، مثل قوله سبحانه (ووهبنا له إسحاق) حين سال الولد (ويعقوب نافلة) يعنى فضلا على مسألته.
تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث جزء 1 ورقة 219 ا. وانظر تحقيقي له: 2/ 564.
(54) النسخ فى القرآن الكريم: 2/ 816 الفقرة 1225. وقارن بأصول التشريع الإسلامي: على حسب الله: 203 ط 3.(5/183)
فمقاتل يرى ان قيام الليل لم ينسخ فى حق الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويذهب غيره الى انه نسخ ثم عاد ففرض عليه، وقد استعرض الدكتور مصطفى زيد الآراء والآثار التي اثرت عن السلف فى هذا الموضوع، وقارن بينها فى دراسة محررة جامعة، لا نرى بعدها زيادة لمستزيد، ثم انتهى الى رأيه المذكور سابقا «55» ، فجزاه الله احسن الجزاء.
__________
(55) النسخ فى القرآن الكريم: 2/ 808- 816 الفقرة 1212- 1215.(5/184)
الباب الثالث المحكم والمتشابه
1- راى مقاتل فى المحكم والمتشابه.
2- متشابه الصفات عند مقاتل.
3- الرأي السديد فى متشابه الصفات.
4- ثلاثة مذاهب فى متشابه الصفات.
5- تفسير مقاتل فى ضوء هذه المذاهب.
6- الاستواء على العرش فى ضوء المذاهب.
7- الاستواء عند مقاتل وعند المفسرين.
8- بين التشبيه والتعطيل.
9- راى شترتمان فيهما.
10- مناقشة هذا الرأي.
(ا) المسلمون ليسوا فى حيرة.
(ب) وحدانية الذات.
(ج) اختلاف الفرق.
(د) بين السلف والخلف.
(هـ) خلاصة هذه المناقشة.(5/185)
- 1- راى مقاتل فى المحكم والمتشابه
ان الأساس فى هذا الموضوع هو ان كلمة آيات متشابهات قد وردت فى القرآن الكريم فى مقابل آيات محكمات «1» وذلك فى قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ، وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ «2» .
«وقد اتفق المفسرون على ان فى هذه الآية روايتين مشهورتين بالنسبة للوقف» «3» .
فقد روى الوقف على كلمة (الله) فى قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وهذه الرواية تقتضي التفويض عند الجمهور، والا يخوض الناس فيها والا يحاولوا إدراكها، وانه لا يحاول التأويل الا الذين يتبعون الزيغ.
والرواية الاخرى عطف قوله: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ على لفظ الجلالة. وهذا يقتضى ان يعلم التأويل الراسخون فى العلم ايضا..
وقد سار مقاتل فى تفسير هذه الآية على ان الآيات المحكمات هي ثلاث آيات فى سورة الانعام تبدا من قوله تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.... «4» .
وإنما تسمين أم الكتاب لأنهن مكتوبات فِي جميع الكتب التي أنزلها اللَّه تبارك وتعالى على جميع الأنبياء، وليس من دين الا وهو يوصى بهن.
اما الآيات المتشابهات: فهي كلمات اربع، فى فواتح السور هي: «الم» .
«المص» ، «المر» ، «الر» ،
__________
(1) المحكم فى لسان الشرعيين هو ما ورد من نصوص الكتاب او السنة دالا على معناه بوضوح لاخفاء فيه، واختار اهل السنة ان المحكم: ما عرف المراد منه اما بالظهور واما بالتأويل.
اما المتشابه فهو ما استأثر الله بعلمه كموعد قيام الساعة وخروج الدجال، وكالحروف المقطعة فى أوائل السور،.
وجرى اكثر الأصوليين على ان المحكم ما لا يحتمل الا وجها واحدا من التأويل، اما المتشابه فهو ما احتمل أوجها. (مناهل العرفان: 2/ 168) .
(2) سورة آل عمران: 7.
(3) قارن بالإتقان: 2/ 3- 5، والبرهان: 2/ 78- 85.
(4) سورة الانعام: 151، 152، 153. [.....](5/187)
وسميت متشابهات لأنها شبهت على اليهود كم تملك امة محمد من السنين «5» .
قال مقاتل: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) فهم اليهود فيتبعون ما تشابه «منه» من أوائل السور ابتغاء تكفير المؤمنين وتاويل هذه الأحرف بما يبين منتهى ما يكون وكم يكون ملك امة محمد.
وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ اى لا يعرف كم تملك من السنين الا الله. فانها ستملك الى يوم القيامة باستثناء ايام الفتنة بالدجال. وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، اى المتدارسون علم التوراة وهم عبد الله بن سلام وأصحابه مؤمنو اهل التوراة يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ يعنى قليله وكثيره كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ «6» .
فالمتشابه عند مقاتل هو أوائل السور.
الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ هم الذين يؤولونها بحسب حروف الجمل.
وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هم من آمن من اليهود دخل فى الإسلام.
- 2- متشابه الصفات عند مقاتل
متشابه الصفات او آيات الصفات هي الآيات المشكلة التي وردت فى شان الله تعالى، كالآيات التي أضافت الوجه واليد والعين الى الله مثل: وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ «7» ، بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ «8» ، وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي «9» .
وقد كان منهج مقاتل سليما فى تفسيره لبعض آيات الصفات فلم يخرج عن طريقة السلف او طريقة الخلف. لكن تفسيره لبعضها الآخر يشعر بالتجسيم والتشبيه.
فقد فسر الاستواء والعرش تفسيرا ماديا فى قوله تعالى
__________
(5) تفسير مقاتل: 1/ 50 ا، ب، وانظر تحقيقي له: 1/ 264.
وقد اخرج الحاكم وغيره عن ابن عباس قال الثلاث آيات من آخر سورة الانعام محكمات «قل تعالوا ... » والآيتان بعدها. (الإتقان: 2/ 3) .
واخرج ابن ابى حاتم عن مقاتل بن حيان قال المتشابهات فيما بلغنا «الم» ، «المص» ، «المر» ، «الر» .
قال ابن ابى حاتم: وقد روى عن عكرمة وقتادة وغيرهما ان المحكم الذي يعمل به والمتشابه الذي يؤمن به. (الإتقان: 2/ 3) .
وقد عرض السيوطي فى الإتقان: 2/ 3، كثيرا من الآراء فى المحكم والمتشابه.
(6) تفسير مقاتل جزء 1 ورقة 50 ب، وانظر تحقيقي له: 1/ 264.
(7) سورة الرحمن: 27.
(8) سورة المائدة: 64.
(9) سورة طه: 39.(5/188)
الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «10» ، فذكر ان الله استقر فوق العرش، والاستقرار انما يكون بعد اضطراب سابق، وتحديد الفوقية يستلزم التحيز والجسمية، والتجزؤ والحركة، وغيرها من اعراض الحدوث.
والثابت بالادلة القطعية ان الله تعالى ليس جسما، ولا متحيزا، ولا متجزئا، ولا متركبا، ولا محتاجا لأحد، ولا الى مكان او زمان. وقد جاء القرآن بهذا فى محكم آياته إذ يقول تعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «11» ويقول: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ «12» .
- 3- الرأي السديد فى متشابه الصفات
علماؤنا أجزل الله مثوبتهم- قد اتفقوا على ثلاثة امور تتعلق بهذه المتشابهات ثم اختلفوا فيما وراءها.
فأول ما اتفقوا عليه هو صرفها عن ظواهرها المستحيلة، واعتقاد ان هذه الظواهر غير مرادة للشارع قطعا.
وثانيه انه إذا توقف الدفاع عن الإسلام على التأويل لهذه المتشابهات وجب تأويلها بما يدفع شبهات المشتبهين، ويرد طعن الطاعنين.
وثالثه ان المتشابه ان كان له تاويل واحد يفهم منه فهما قريبا، وجب القول به اجماعا، وذلك كقوله سبحانه: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ «13» فان الكينونة بالذات مع الخلق مستحيلة قطعا. وليس لها بعد ذلك الا تاويل واحد، هو الكينونة معهم بالاحاطة علما وسمعا وبصرا وقدرة وارادة «14» .
- 4- ثلاثة مذاهب فى متشابه الصفات
واما اختلاف العلماء فيما وراء ذلك فقد وقع على ثلاثة مذاهب:
المذهب الاول مذهب السلف، ويسمى مذهب المفوضة (بكسر الواو) وهو تفويض معاني هذه المتشابهات الى الله وحده، بعد تنزيهه تعالى عن ظواهرها المستحيلة.
__________
(10) سورة طه: 5.
(11) سورة الشورى: 11.
(12) سورة الإخلاص.
(13) سورة الحديد: 4.
(14) قارن بالبرهان: 3/ 78، والإتقان: 2/ 6، ومناهل العرفان: 2/ 182.(5/189)
والمذهب الثاني مذهب الخلف، ويسمى مذهب المؤولة (بتشديد الواو وكسرها) . وهم فريقان:
فريق يؤولها بصفات سمعية غير معلومة على التعيين ثابتة له تعالى، زيادة على صفاته المعلومة لنا بالتعيين. وينسب هذا الى ابى الحسن الأشعري.
وفريق يؤولها بصفات او بمعان نعلمها على التعيين، فيحمل اللفظ الذي استحال ظاهره من هذه المتشابهات على معنى يسوغ لغة، ويليق بالله عقلا وشرعا، وينسب هذا الرأي الى ابن برهان «15» ، وجماعة من المتأخرين.
والمذهب الثالث مذهب المتوسطين، وقد نقل السيوطي هذا المذهب فقال:
(وتوسط ابن دقيق العيد فقال: إذا كان التأويل قريبا من لسان العرب لم ينكر، او بعيدا توقفنا عنه، وآمنا بمعناه على الوجه الذي أريد به، مع التنزيه. وما كان معناه من هذه الألفاظ ظاهرا مفهوما من تخاطب العرب قلنا به من غير توقف، كما فى قوله تعالى: يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «16» فنحمله على حق الله وما يجب له) «17» .
(ومنشأ الخلاف بين السلف والخلف هو انه: هل يجوز ان يكون فى القرآن شيء لا يعلم معناه؟ فعند المفوضة يجوز، ولهذا منعوا التأويل، واعتقدوا التنزيه على ما يعلمه الله. وعند المؤولة لا يجوز ذلك بل الراسخون يعلمونه) «18» .
وقد سار مقاتل فى تفسيره على انه لا متشابه فى القرآن تمتنع معرفته الا اخبار الغيب، كصفة الآخرة وأحوالها، فمنهجه فى ذلك موافق لراى ابن قتيبة (فى ان الله لم ينزل شيئا من القرآن الا لينفع به عباده، ويدل به على معنى اراده) «19» .
__________
(15) هو ابو الفتح احمد بن على بن برهان الشافعي غلب عليه علم الأصول وكان يضرب به المثل فى حل الاشكال، وهو صاحب البسيط والوسيط والوجيز فى الفقه والأصول توفى سنة 520 هـ.
انظر: وفيات الأعيان: 1/ 29، وشذرات الذهب: 4/ 61.
(16) سورة الزمر: 56.
(17) الإتقان: 2/ 6.
(18) ورد هذا فى البرهان: 2/ 79- 80 منسوبا الى ابن برهان كما ورد فى الإتقان: 2/ 6 باختصار. [.....]
(19) ابن قتيبة فى مشكل القرآن، تحقيق السيد احمد صقر: 72، ويستمر ابن قتيبة فى دعم رأيه فيقول: وهل يجوز لأحد ان يقول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف المتشابه؟ وإذا جاز ان يعرفه مع قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ جاز ان يعرفه الربانيون من صحابته،
فقد علم عليا التفسير، ودعا لابن عباس فقال: اللهم علمه التأويل وفقهه فى الدين.
وبعد، فانا لم نر المفسرين توقفوا عن شيء من القرآن فقالوا: هذا متشابه لا يعلمه الا الله، بل أمروه كله على التفسير، حتى فسروا الحروف المقطعة فى أوائل السور. (تاويل مشكل القرآن:
73) .
وقال ابن قتيبة، ان (يقولون) فى معنى الحال، كأنه قال: والراسخون فى العلم قائلين آمنا به.(5/190)
- 5- تفسير مقاتل فى ضوء هذه المذاهب
كان تفسير مقاتل لبعض آيات الصفات لا يخرج عن هذه المذاهب الثلاثة، ففي تفسيره للوجه جمع بين منهج الخلف والسلف. وفى تفسيره لليد كان سلفيا، وفى تفسيره للعين كان متوسطا «20» .
ولكن مقاتلا خرج على هذه المذاهب الثلاثة وكان مجسما فى تفسيره لاشياء احصيناها عليه وهي: الاستواء، والعرش والكرسي، والساق، واليمين، والمجيء.
فقد فسر الاستواء بالاستقرار.
وفسر العرش تفسيرا ماديا وذكر ان الله فوق العرش.
وفسر الكرسي تفسيرا يشعر بالتجسيم، اعتمادا على حديث رواه وهب بن منبه وهو من رواة الاسرائيليات، وعلى حديث الأوعال، وقد بينا ان فيه عللا قادحة.
كما ذكر ان الله يكشف عن ساقه يوم القيامة فتضيء الأرض بنور ساقه، وانه يمسك السماء والأرض بقبضة يمينه، وقد نسب تفسيره للساق الى ابن مسعود، كما نسب تفسيره لليمين الى ابن عباس) «21» .
كما فسر المجيء فى قوله تعالى: وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا «22» بقوله:
فيجيء الله عز وجل كما قال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ «23» .
وقد نسبت كتب الفرق الى مقاتل القول: «بان الله جسم، وانه جثة، وانه على صورة الإنسان، لحم ودم وشعر وعظم، له جوارح وأعضاء من يد، ورجل، وراس وعينين، مصمت، وهو مع هذا لا يشبه غيره ولا يشبهه غيره» «24» .
بيد ان هذا القول لم يرد له اثر فى تفسيره الكامل للقرآن الكريم، وقد أخذت
__________
(20) انظر: بحث ذلك بالتفصيل فى باب: مقاتل وعلم الكلام، فى الفصل الثاني: مقاتل والصفات: 85- 95.
(21) انظر بحث ذلك بالتفصيل فى باب: مقاتل وعلم الكلام فى الفصل الثالث: التجسيم عند مقاتل: 97- 110.
(22) سورة الفجر: 22.
(23) سورة البقرة: 210.
تفسير مقاتل: جزء 2 ورقة 239 ب. وانظر تحقيقي له: 4/ 691، وابن تيمية ايضا يقول المجيء مجيء الله (ابو زهرة: ابن تيمية: 278) .
(24) مقالات الاسلاميين: 1/ 241، المواقف: 273، الحور العين: 254 والفرق والتاريخ: 118.(5/191)
السبيل لتصوير جميع مؤلفات مقاتل بن سليمان، بغية التثبت من نسبة هذا القول اليه، من كلامه هو لا من كلام الناس عنه «25» .
- 6- الاستواء على العرش فى ضوء المذاهب
إذا أردنا تطبيق المذاهب الثلاثة على قوله سبحانه الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «26» - وجدنا ان الجميع من سلف وخلف يتفقون على ان ظاهر الاستواء على العرش، وهو الجلوس عليه مع التمكن والتحيز مستحيل، لان الادلة القاطعة تنزه الله عن ان يشبه خلقه، او يحتاج الى شيء مثلهم، سواء أكان مكانا يحل فيه ام غيره، وكذلك اتفق السلف والخلف على ان هذا الظاهر غير مراد لله قطعا، لأنه تعالى نفى عن نفسه المماثلة لخلقه، واثبت لنفسه الغنى عنهم، فقال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «27» وقال هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «28» ، فلو أراد هذا الظاهر لكان متناقضا.
ثم اختلف السلف والخلف بعد ما تقدم، فراى السلف ان يفرضوا تعيين معنى الاستواء الى الله، فهو اعلم بما نسبه الى نفسه واعلم بما يليق به.
وراى الخلف ان يؤولوا. لأنه يبعد كل البعد ان يخاطب الله عباده بما لا يفهمون، وما دام ميدان اللغة متسعا للتأويل فالتأويل واجب.
بيد انهم افترقوا فى هذا التأويل فرقتين:
فطائفة الاشاعرة يؤولون من غير تعيين ويقولون: ان المراد من الآية اثبات ان الله تعالى متصف بصفة سمعية لا نعلمها على التعيين، تسمى صفة الاستواء «29» .
وطائفة المتأخرين يعينون فيقولون:
ان المراد بالاستواء هنا هو الاستيلاء والقهر، من غير معاناة ولا تكلف، لان اللغة تتسع لهذا المعنى، ومنه قول الشاعر العربي:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق
__________
(25) وقد صورت نسخة من كتاب تفسير خمسمائة آية من القرآن لمقاتل بن سليمان، وهو محفوظ بالمتحف البريطانى برقم (6333) ، كما صورت نسخة من كتاب الوجوه والنظائر لمقاتل بن سليمان المحفوظ بمكتبة عمومية بتركيا تحت رقم 516. وقد قمت بتحقيقه وطبعته المكتبة العربية بالهيئة المصرية العامة للكتاب.
(26) سورة طه: 5.
(27) سورة الشورى: 11.
(28) سورة فاطر: 15.
(29) انظر دائرة المعارف الاسلامية (مادة توحيد) : 5/ 532 فقرة 4 مذهب الأشعري، 5/ 536 توسط الأشعري.(5/192)
اى استولى وقهر وحكم، فكذلك يكون معنى النص الكريم: الرحمن استولى على عرش العالم، وحكم العالم بقدرته ودبره بمشيئته.
وابن دقيق العيد يقول بهذا التأويل ان رآه قريبا، ويتوقف ان رآه بعيدا.
- 7- الاستواء عند مقاتل وعند المفسرين
قال السيوطي والزركشي..
1- «حكى مقاتل والكلبي عن ابن عباس ان استوى بمعنى استقر، فمعنى الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «30» اى استقر، وهذا ان صح يحتاج الى تاويل، فان الاستقرار يشعر بالتجسيم» «31» .
أقول: وقد صح عن مقاتل القول: بان استوى بمعنى استقر.
2- وعن المعتزلة بمعنى استولى وقهر. ورد بوجهين:
أحدهما: ان الله تعالى مسئول عن الكونين والجنة والنار وأهلهما، فأي فائدة فى تخصيص العرش؟.
والثاني: ان الاستيلاء انما يكون بعد قهر وغلبة، والله تعالى منزه عن ذلك.
3- انه بمعنى صعد، ورد بان الله تعالى منزه عن الصعود.
4- ان التقدير الرحمن علا اى ارتفع من العلو، والعرش له استوى، حكاه إسماعيل الضرير «32» فى تفسيره، ورد بوجهين:
أحدهما: انه جعل علا فعلا وهي حرف هنا باتفاق، فلو كانت فعلا لكتبت بالألف كقوله عَلا فِي الْأَرْضِ والثاني انه رفع العرش وهو مجرور عند جميع القراء بلا استثناء.
5- ان الكلام تم عند قوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ، ثم ابتدا بقوله اسْتَوى لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.
ورد بانه يزيل الآية عن نظمها ومرادها، ولا يتأتى له فى قوله ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ.
__________
(30) سورة طه: 5.
(31) البرهان: 2/ 80، والإتقان: 2/ 6. وتفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث 2/ 2 ا، وانظر تحقيقي له: 3/ 22.
(32) هو إسماعيل بن احمد بن عبد الله الحيرى ابو عبد الرحمن الضرير المفسر المقرئ المحدث، وفى كشف الظنون ان اسم تفسيره الكفاية. [.....](5/193)
6- ان معنى استوى اقبل وعمد الى خلقه، كقوله ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ اى قصد وعمد الى خلقها، قاله الفراء «33» والأشعري وجماعة من اهل المعاني.
وقال إسماعيل الضرير انه الصواب. ويبعده تعديته بعلى. ولو كان كما ذكروه لتعدى بإلى كما فى قوله ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ.
7- ان الاستواء المنسوب اليه تعالى بمعنى اعتدل اى قام بالعدل، كقوله تعالى قائِماً بِالْقِسْطِ. والعدل هو استواؤه. ويرجع معناه الى انه اعطى بعته كل شيء خلقه موزونا بحكمته البالغة، قاله ابن اللبان «34» .
- 8- بين التشبيه والتعطيل
رويت لك سبعة آراء فى تفسير الاستواء على العرش بعضها بالغ فى التشبيه كتفسير مقاتل، وبعضها بالغ فى التعطيل كتفسير المعتزلة، وبين هذا وذاك آراء مختلفة بعضها مردود وبعضها مقبول.
وارى انه لا مناص من سلوك طريق التأويل فى هذه الآية وأمثالها.
كما يتضح لنا من مقارنة آراء المفسرين فى آيات الصفات ان البون ليس شاسعا بين المشبهة والمعطلة، فليس هناك مشبهة خلص ولا معطلة خلص، فان كلا منهما سلك أمثل الطرق فى نظره لتعظيم الله.
فالسلفيون اختاروا طريق التثبت المستند الى التنزيل ولم يقولوا بالتعطيل والمعتزلة اختارت طريق التنزيه، ولم يكن هناك حد جامع مانع لكل من الفريقين، فالإمام احمد بن حنبل الحجة الثبت بين السلفيين لم يجد مناصا من تاويل الآيات القائلة بوجود الله مع خلقه فى سورة المجادلة حيث يقول سبحانه (فى الآية 7) :
وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا «35» . وفى سورة طه يقول سبحانه فى الآية 46: قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى «36» .
__________
(33) هو ابو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله الديلمي الفراء. ابرع الكوفيين فى النحو وصاحب كتاب معاني القرآن. توفى سنة 207 هـ.
(34) البرهان: 2/ 82، والإتقان: 2/ 6- 7، ورسالة فى تعريف علم التفسير مخطوطة بدار الكتب المصرية رقم 220 مجاميع م ص 166، ص 81.
(35) تمام الآية: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ المجادلة/ 7.
(36) انظر دائرة المعارف الاسلامية (مادة تشبيه) : 5/ 254 وما بعدها.(5/194)
- 9- راى شترتمان فيهما
«الى انه من الصعب التفرقة بين اهل السنة. ويذهب شترثمان وأخذهم بظاهر اللفظ من جهة وبين المعتزلة وقولهم بالتأويل من جهة اخرى» «37» ثم يقول:
«وليست المسالة من اليسر بحيث نستطيع ان نجلوها فى عبارات عامة، فنقول انها تنازع بين وجهتين إحداهما: ان الله ذات روحانية خالصة، والاخرى ان له تعالى وجودا مشخصا. فإذا كانت المسالة كذلك فأين نضع الأشعري اذن؟» «38» .
ثم يقول: «ان المسلمين كانوا فى حيرة بين الحدين التشبيه والتعطيل» «39» .
«ان مذهب المسلمين فى الذات الالهية أساس دينهم، وان القرآن يؤكد وحدانية الله، ولكنه يصفه مع ذلك فى بساطة وصفا تشبيهيا، فيجعل له وجها وعينا ويدا ويتحدث عن كلامه واستوائه» «40» .
- 10- مناقشة هذا الرأي
(ا) وارى ان شترثمان قد أخطأ فى حديثه عن التشبيه، وان المسلمين ليسوا فى حيرة، وانما الحيرة حقيقة هي حيرة المثقف المسيحي الذي يلقن ان الأب والابن وروح القدس اله واحد، فان التعدد مدعاة الفساد والخلاف والعلو، ولا سيما ان شان الالوهية الكبرياء والعظمة. وايضا فلو استقل احد المتعددين بالتصرف تعطلت صفات الآخرين، ولو اشتركوا تعطلت بعض صفات كل منهم، وتعطيل صفات الالوهية يتنافى مع جلالها وعظمتها، فلا بد ان يكون الإله واحدا لا رب غيره.
ثم ان التعدد من شان الحوادث والإله منزه عن الحدوث والبنوة واعراضها، قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ.
(ب) اما غمز شترثمان فى وحدانية الذات عند المسلمين- ففيه تعصب بالغ مكشوف، - فالوحدانية شعار الإسلام وخاصيته، ولا يعد مسلما من لا يكون موحدا، والوحدانية فى الإسلام تتجه الى ثلاثة معان كل واحد جزء من حقيقتها، وهي مجموعها وأركانها، فلا تتوافر الوحدانية ان لم تتوافر معانيها:
وأولها- وحدة الخالق، فهو الخالق المبدع وحده.
وثانيها- وحدانية المعبود، فلا يعبد الا رب العالمين ولا يشرك العابد بربه أحدا، فليس لبشر ولا حجر، ولا لكائن فى الوجود ان يعبد مع رب العالمين.
__________
(37، 38، 39) دائرة المعارف الاسلامية مادة تشبيه: 5/ 258.
(40) دائرة المعارف الاسلامية مادة تشبيه: 5/ 252 وما بعدها.(5/195)
وثالثها- الوحدانية فى الذات، فالله سبحانه وتعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ، وذاته الكريمة وحدة ليست مركبة من اجزاء كسائر الناس.
موضع الاتفاق وهو اللب:
والوحدانية فى الذات يقر بها المسلمون أجمعون، ويتفقون على اصل المعنى فيها من غير نكير من احد على احد، ولا اختلاف فيها عند اهل القبلة، وهي فى مرتبة البديهيات المعلومة من الدين بالضرورة التي لا يمترى فيها عالم من العلماء ولا فرقة من الفرق، ولا مذهب من المذاهب الاسلامية «41» .
(ج) اختلاف الفرق فى معنى توحيد الذات:
اختلفت فرق المسلمين فى وصف الذات العلية بالصفات الكمالية، وقد قال فى ذلك ابن تيمية:
(لفظ التوحيد والتنزيه والتجسيم ألفاظ قد دخلها الاشتراك بسبب اختلاف اصطلاحات المتكلمين وغيرهم، فكل طائفة تعنى بهذه الأسماء ما لا يعنيه غيرهم.
فالمعتزلة وغيرهم يريدون بالتوحيد والتنزيه نفى جميع الصفات. وبالتجسيم او التشبيه اثبات شيء منها، حتى ان من قال ان الله يرى او ان له علما فهو عندهم مجسم.
وكثير من الطوائف المتكلمة بصفاته يريدون بالتوحيد والتنزيه نفى الصفات الخبرية «42» او بعضها، وبالتجسيم والتشبيه إثباتها او بعضها) «43» .
«بينما يقرر السلفيون ان الأخذ بظاهر القرآن والسنة لا يقتضى التشبيه او التجسيم لان ما يثبت لله بنصهما ليس من جنس ما يثبت للحوادث، بل يثبت «44» صفات واحوال تليق بذاته الكريمة، وبما يجب له سبحانه من تنزيه ووحدانية، فالتشابه فى الاسم لا يقتضى التشابه فى الحقيقة، والمنفي ليس هو التشابه فى الحقائق، وان الله سبحانه وتعالى مخالف للحوادث فى ذلك تمام المخالفة» «45» .
__________
(41) قارن- بمحمد ابو زهرة: ابن تيمية ص 258. حسن البنا: العقائد ص 55 وما بعدها.
(42) اى التي جاء بها الخبر من قرآن او اثر.
(43) نقض المنطق ص 256.
(44) ابو زهرة: ابن تيمية 267 ونص الجملة (بل انها يثبت صفات وأحوالا) وفيها تحريف ظاهر.
(45) محمد ابو زهرة: ابن تيمية ص 267.(5/196)
(د) بين السلف والخلف:
ذكرنا ان مذهب السلف فى الآيات والأحاديث التي تتعلق بصفات الله تبارك وتعالى ان يمروها على ما جاءت عليه، ويسكتوا عن تفسيرها او تأويلها. وان مذهب الخلف ان يؤولوها بما يتفق مع تنزيه الله تبارك وتعالى عن مشابهة خلقه.
وقد حدث خلاف شديد بين اهل الرأيين، حتى ادى بهما الى التنابز بالألقاب العصبية «46» .
ولو نظرنا للأمر من زاوية أوسع افقا، وارحب صدرا- لوجدنا ان الاتفاق بين الفريقين اكثر من الاختلاف، وبيان ذلك من عدة وجوه:
الاول: اتفق الفريقان على تنزيه الله تبارك وتعالى عن المشابهة لخلقه.
والثاني: كل منهما يقطع بان المراد بألفاظ هذه النصوص فى حق الله تبارك وتعالى غير ظواهرها التي وضعت لها هذه الألفاظ فى حق الخلوقات، وذلك مترتب على اتفاقهما على نفى التشبيه.
والثالث: كل من الفريقين يعلم ان الألفاظ توضيع للتعبير عما يجول فى النفوس، او يقع تحت الحواس، مما يتعلق باصحاب اللغة وواضعيها. وان اللغات مهما اتسعت، لا تحيط بما ليس لأهلها بحقائقه علم، وحقائق ما يتعلق بذات الله تبارك وتعالى من هذا القبيل. فاللغة اقصر من ان تواتينا بالألفاظ التي تدل على هذه الحقائق، فالتحكم فى تحديد المعاني بهذه الألفاظ تغرير.
إذا تقرر هذا، فقد اتفق السلف والخلف على اصل التأويل، وانحصر الخلاف بينهما فى ان الخلف زادوا تحديد المعنى المراد، حينما ألجأتهم ضرورة التنزيه الى ذلك، حفظا لعقائد العوام من شبهة التشبيه، وهو خلاف لا يستحق ضجة ولا اعناتا ولا حيرة وليس بعيدة الشقة كما يذكر شترثمان «47» .
ان صدر الإسلام أوسع من هذا كله، وقد لجا أشد الناس تمسكا براى السلف- رضوان الله عليهم- الى التأويل فى عدة مواطن، وهو الامام احمد بن حنبل رضى الله عنه، من ذلك تأويله لحديث: «الحجر الأسود يمين الله فى ارضه» «48» .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» «49» ،
وقوله
__________
(46) انظر فى ذلك: ابو الفرج بن الجوزي الحنبلي فى كتابه دفع شبه التشبيه، وفخر الدين الرازي فى كتابه أساس التقديس، والغزالي فى الجزء الاول من كتابه احياء علوم الدين، عند كلامه على نسبة العلم الظاهر الى الباطن واقسام ما يتأتى فيه الظهور والبطون، والتأويل وغير التأويل.
وانظر للغزالى ايضا كتاب الجام العوام عن علم الكلام. وانظر ابن تيمية، الإكليل فى المتشابه والتأويل، وكثير من كتبه حمل فيها حملة شعواء على كثير من الفرق. وانظر له الرسالة التدمرية ص؟ 1 وما بعدها.
(47) انظر دائرة المعارف الاسلامية (مادة تشبيه) : 5/ 253.
(48) قال العراقي: رواه الحاكم وصححه؟ حديث عبد الله بن عمر. [.....]
(49) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو.(5/197)
صلى الله عليه وسلم: «انى لأجد نفس الرحمن من جانب اليمين» «50» .
وقد روى حنبل ابن أخي الامام احمد انه سمعه يقول: (احتجوا على يوم المناظرة فقالوا تجيء يوم القيامة سورة البقرة وتجيء سورة تبارك قال: «فقلت لهم انما هو الثواب» . قال الله جل ذكره: «وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» وانما تأتي قدرته) «51» وهذا بلا شك تفسير للمجيء بمجاز الحذف.
وقد ذكر ابن حزم الظاهري فى الفصل ان احمد بن حنبل قال فى قوله تعالى:
«وجاء ربك» انما معناه وجاء امر ربك فابن حنبل سلفي من اهل التفويض والتنزه والتوقف «52» ومع هذا لجا الى التأويل فى المجاز الظاهر.
«وقد رأيت للإمام النووي رضى الله عنه ما يفيد قرب مسافة الخلاف بين راى السلف والخلف مما لا يدع مجالا للنزاع والجدال، ولا سيما وقد قيد الخلف أنفسهم فى التأويل بجوازه عقلا وشرعا، بحيث لا يصطدم بأصل من اصول الدين» «53» .
وقال الرازي فى كتابه (أساس التقديس) :
ثم ان جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل، وان لم نجز التأويل فوضنا العلم بها الى الله تعالى، فهذا هو القانون الكلى المرجوع اليه فى جميع المتشابهات، وبالله التوفيق» .
(هـ) وخلاصة هذا البحث ان السلف والخلف قد اتفقا على ان المراد غير الظاهر المتعارف بين الخلق، وهو تاويل فى الجملة. واتفقا كذلك على ان كل تاويل يصطدم بالأصول الشرعية غير جائز.
فانحصر الخلاف فى تاويل الألفاظ بما يجوز فى الشرع، وهو هين كما ترى، وليس موجبا للحيرة. ولا مبعدا لشقة الخلاف بين المسلمين كما ادعى شترثمان.
وقد لجا بعض السلف الى التأويل، واثر ذلك عن الامام احمد بن حنبل رضى الله عنه.
والله الموفق والهادي الى سواء السبيل.
__________
(50) قال العراقي: رواه احمد من حديث ابى هريرة فى حديث قال فيه: «وأجد نفس ربكم من اليمين» ورجاله ثقات. وانظر: العقائد، تحقيق رضوان محمد رضوان ص 85 طبع بغداد.
(51) محمد ابو زهرة: ابن تيمية ص 278.
(52) هو تفويض معنى اللفظ الى الله وعدم تخريجه لا على الظاهر ولا على غير الظاهر. ومن ذلك ان الامام احمد رضى الله عنه لما سئل عن أحاديث النزول والرزية ووضع القدم قال نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى. وروى الحلال فى مسنده عن الامام احمد انهم سألوه عن الاستواء فقال: «استوى على العرش كيف شاء وكما شاء وبلا حد وذ صفة يبلغها واصف» .
(53) العقائد تحقيق رضوان محمد رضوان ص 85 طبعة بغداد.(5/198)
الباب الرابع فواتح السور
1- فواتح السور.
2- معاني هذه الفواتح.
3- مقاتل يرى انها من حساب الجمل.
4- الطبري وراى مقاتل.
5- حديث حساب الجمل.
6- ابن كثير وحساب الجمل.
7- المحقق احمد محمد شاكر ينقد حساب الجمل ويضعف روايات أحاديثه.
8- راى أراه فى الحديث.
9- قول الزركشي والسيوطي فى حساب الجمل.
10- راى السيد رشيد رضا فى فواتح السور.
11- راى الشيخ طنطاوي جوهرى فى حساب الجمل.
12- راى الباحث.(5/199)
- 1- فواتح السور
استفتح الله عز وجل بعض سور كتابه الحكيم ببعض الحروف الهجائية التي لا تكون كلمات. فبعضها ابتدئ بحرف واحد مثل: ص، ق، ن. وبعضها ابتدئ بحرفين مثل: حم، طه، يس. وبعضها بثلاثة أحرف مثل: الم، الر، طسم. ومن بينها سور بدئت باربعة أحرف مثل: المص، المر، ومنها ما بدئ بخمسة أحرف مثل: كهيعص، ومنها المبدوء بستة أحرف مثل: حم عسق.
وقد تكرر بعض هذه الحروف فى اكثر من سورة كما تشاهد فى الجدول الآتي اسم الحرف/ السور التي فتحت به حم/ سورة غافر، فصلت، الشورى، الزخرف، الدخان الجاثية، الأحقاف (من سورة 40 حتى سورة 46) الم/ البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة (وأرقامها 2، 3، 29، 30، 31، 32) الر/ يونس، هود، يوسف، ابراهيم، الحجر. (أرقامها 10، 11، 12، 14، 15) .
طسم/ الشعراء، القصص (أرقامها 26، 28)
- 2- معاني هذه الفواتح
عدد السور التي بدئت بهذه الفواتح تسع وعشرون سورة، كلها من القسم المكي الذي عنى بتقرير التوحيد والرسالة والبعث، ما عدا سورتي البقرة وآل عمران فهما مدنيتان، تضمنتا مناقشة اهل الكتاب.
وليس لهذه الفواتح فى اللغة العربية معان مستقلة، ولم يرد من طريق صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بيان للمراد منها.
بيد انه قد اثرت عن السلف آراء متعددة فى معاني هذه الفواتح.(5/201)
وهذه الآراء على كثرتها ترجع الى رأيين اثنين:
أحدهما: انها جميعا مما استأثر الله به، ولا يعلم معناه احد سواه، وهذا راى كثير من الصحابة والتابعين «1» .
وثانيها: ان لها معنى، وقد ذهبوا فى معناها مذاهب شتى:
1- فمنهم من قال انها اسماء للسور التي بدئت بها «2» ، او ان كلا منها علامة على انتهاء سورة والشروع فى اخرى.
2- ومنهم من قال انها رموز لبعض اسماء الله تعالى او صفاته، فنسب الى ابن عباس فى (كهيعص) ان الكاف من الملك، والهاء من الله، والياء من العزيز والصاد من المصور.
ونسب اليه اشارة الى: كاف، هاد، أمين، عالم، صادق، وروى عنه فيها ايضا: كبير، هاد، أمين، عزيز، صادق «3» .
وروى عن الضحاك فى معنى، الر: انا الله ارفع «4» .
3- ومنهم من قال انها قسم اقسم الله به «5» ، لبيان شرف هذه الحروف وفضلها، إذ هي مباني كتابه المنزل على رسوله.
4- ومنهم من قال ان المقصود منها هو تنبيه السامعين وايقاظهم.
5- ومنهم من قال: ان المقصود منها سياسة النفوس المعرضة عن القرآن واستدراجها الى الاستماع اليه. والمعروف ان اعداء الإسلام فى صدر الدعوة كانوا يتواصون بعدم الاستماع للقرآن ويقولون: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ.
فلما أنزلت السور المبدوءة بحروف الهجاء، وقرع اسماعهم ما لم يألفوا، التفتوا، وإذا هم امام آيات بينات استهوت قلوبهم، واستمالت عقولهم، فآمن من أراد هدايته، وشارف الايمان من شاء الله تأخيره، وقامت الحجة فى وجه الطغاة المكابرين «6» .
__________
(1) نسب القرطبي فى تفسيره هذا الرأي الى ابى بكر وعمر وعثمان وعلى وابن مسعود رضى الله عنهم أجمعين. وقال به عامر الشعبي وسفيان الثوري والربيع بن خيثم واختاره ابو حاتم بن حيان (تفسير ابن كثير 1/ 36) .
(2) قال بذلك عبد الرحمن بن زيد بن اسلم قال الزمخشري فى تفسيره وعليه اطباق الأكثر ونقله عن سيبويه وروى عن مجاهد انه قال: الم، حم، المص، ص فواتح افتتح الله بها القرآن (تفسير ابن كثير 1/ 36، والبيضاوي ص 7) .
(3) انظر هذه الأقوال المختلفة فى الإتقان 2/ 14. وفى تفسير الطبري أول سورة مريم.
(4) الإتقان 2/ 13.
(5) تفسير ابن كثير: 1/ 36.
(6) مناهل العرفان للزرقاني: 1/ 222، ويلاحظ ان هذا الرأي قريب من سابقه.(5/202)
6- ومنهم من ذهب الى ان هذه الحروف ذكرت للتحدي وبيان اعجاز القرآن وان الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن مع انه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها «7» .
وفى هذا دلالة على انه ليس من صنع بشر، بل تنزيل من حكيم حميد. وقد لاحظ اصحاب هذا الرأي ان فواتح السور مكونة فى جملتها من اربعة عشر حرفا هي نصف حروف الهجاء، كما انها حوت فوق ذلك من كل جنس من الحروف نصفه فقد حوت نصف الحروف المهموسة «8» ، ونصف المجهورة «9» ، ونصف الشديدة «10» ، ونصف الرخوة «11» ، ونصف المطبقة «12» ، ونصف المنفتحة «13» .
«وقال القاضي ابو بكر: انما جاءت على نصف حروف المعجم، كأنه قيل:
من زعم ان القرآن ليس بآية فليأخذ الشطر الباقي، ويركب عليه لفظا معارضة للقرآن. وقد علم ذلك بعض ارباب الحقائق» «14» .
والرأي الأخير قد انتصر له الزمخشري (ت 538، هـ) فى كشافه أتم انتصار، ومال اليه ابن كثير (ت 774 هـ) فى مقدمة تفسيره «15» وضعف ما عداه، ونقل ابن كثير عن بعضهم انه لخص فى هذا المقام كلاما فقال: (لا شك ان هذه الحروف لم ينزلها سبحانه وتعالى عبثا ولا سدى، ومن قال من الجهلة ان فى القرآن ما هو تعبد لا معنى له بالكلية فقد أخطأ خطا كبيرا، فتعين ان لها معنى فى نفس الأمر، فان صح لنا فيها عن المعصوم شيء قلنا به، والا وقفنا حيث وقفنا وقلنا (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا)
__________
(7) حكى هذا المذهب الرازي فى تفسيره عن المبرد وجمع من المحققين وحكى القرطبي عن الفراء وقطرب نحو هذا. كما ذهب اليه الزمخشري وابن تيمية وابى الحجاج المزي. انظر تفسير ابن كثير: 1/ 38.
والكشاف للزمخشري 1/ 16، 17، ومقدمة تفسير البيضاوي ص 7، وانظر ايضا البرهان: 1/ 165.
166، والإتقان: 2/ 13.
(8) الحروف المهموسة عشرة يجمعها قولك (فحثه شخص سكت) وقد ذكر منها فى فواتح السور:
السين، والحاء، والكاف، والصاد، والهاء.
(9) والحروف المجهورة 18 ونصفها ذكر فى فواتح السور ويجمعها (لن يقطع امر) . [.....]
(10) الحروف الشديدة 8 وهي (أجدت طبقك) اربعة منها فى الفواتح وهي (اقطك) .
(11) والحروف الرخوة 20 وهي الباقية بعد الشديدة نصفها 10 فى هذه الفواتح يجمعها (حمس على نصره) .
(12) الحروف المطبقة 4 هي الصاد، والضاد، والطاء، والظاء، وفى الفواتح نصفها الصاد والطاء.
(13) وبقية الحروف وهي 24 تسمى منفتحة نصفها وهو 12 فى الفواتح المذكورة. (الكشاف:
1/ 13- 14) بتصرف. وقال الزمخشري فى الكشاف بعد ذلك: «ثم إذا استقريت الكلام تجد ان الحروف التي ذكرت فى هذه الفواتح اكثر تداولا من التي تركت، ودليله ان الالف واللام لما كانت اكثر تداولا فى الكلام جاءت فى معظم هذه الفواتح فسبحان الذي دقت فى كل شيء حكمته» .
(14) البرهان للزركشى: 1/ 167.
(15) وقدم كثيرا من الادلة ثم قال وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب اليه هؤلاء لمن أمعن النظر والله اعلم.(5/203)
، ولم يجمع العلماء فيها على شيء معين، وانما اختلفوا فمن ظهر له بعض الأقوال بدليل فعليه اتباعه، والا فالوقف حتى يتبين) «16» .
وقريب من هذا ما ذهب اليه ابن قتيبة (المتوفى سنة 276 هـ) : (من ان الله لم ينزل شيئا من القرآن الا لينفع به عباده، ويدل به على معنى اراده. ثم يقول ابن قتيبة: وبعد. فانا لم نر المفسرين توقفوا عن شيء من القرآن فقالوا: هذا متشابه لا يعلمه الا الله، بل أمروه كله على التفسير، حتى فسروا الحروف المقطعة فى أوائل السور) «17» .
- 3- مقاتل يرى انها من حساب الجمل
ذهب مقاتل الى انها حروف من حساب الجمل. (وذَكَر مُقَاتِلٌ حساب الجمل فَقَالَ: يبدأ بحروف ابى جاد) «18» . ثم ذكر جميع الحروف الابجدية، والحقها بعد ابى جاد.
فالالف بواحد والباء باثنين والجيم بثلاثة والدال باربعة وهكذا.. الى القاف والراء بمائتين. وهكذا الى الغين بألف كما ستراه فى الجدول الآتي:
الحرف/ قيمته فى حساب الجمل/ الحرف/ قيمته فى حساب الجمل/ الحرف/ قيمته فى حساب الجمل ا/ 1/ ك/ 20/ ر/ 200 ب/ 2/ ل/ 30/ ش/ 300 ج/ 3/ م/ 40/ ت/ 400 د/ 4/ ن/ 50/ ث/ 500 هـ/ 5/ س/ 60/ خ/ 600 و/ 6/ ع/ 70/ ذ/ 700 ز/ 7/ ف/ 80/ ض/ 800 ح/ 8/ ص/ 90/ ظ/ 900 ط/ 9/ ق/ 100/ غ/ 1000 ى/ 10
__________
(16) تفسير ابن كثير: 1/ 37.
(17) تاويل مشكل القرآن، لابن قتيبة ص 73، تحقيق السيد احمد صقر. وانظر: «المحكم والمتشابه» فى هذا الكتاب.
(18) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث، مقدمة هذا التفسير 1/ 2، 3. وانظر تحقيقي لهذا التفسير مجلد 1/ 28- 29.(5/204)
- 4- الطبري وراى مقاتل
وقد أورد ابن جرير الطبري فى تفسيره آراء العلماء فى فواتح السور، ونسب كل راى الى قائله. بيد انه حين ذكر راى مقاتل فى انها حروف من حساب الجمل- كره ان يصرح بنسبته الى مقاتل، لان ابن جرير تعمد الا يدخل فى تفسيره شيئا لمقاتل. قال الطبري: (وقال بعضهم: هي حروف من حساب الجمل- كرهنا ذكر الذي حكى ذلك عنه، إذ كان الذي رواه ممن لا يعتمد على روايته ونقله وقد مضت الرواية بنظير ذلك من القول عن الربيع بن انس «19» .
وبعد ان ذكر الطبري عددا من الآراء فى فواتح السور- بدا يوجه كل راى ويذكر حجة أصحابه، فوجه راى مقاتل وشرحه اكثر من مقاتل نفسه «20» .
ومن العجيب انه اختاره مع اولى الآراء بالصواب، وأورد الأحاديث التي احتج بها مقاتل «21» .
- 5- حديث حساب الجمل
واستدل مقاتل على صحة ما ذهب اليه بحديث أورده فى أول تفسيره، وقد حكاه الطبري وأورد سنده، وفيه الكلبي عن ابى صالح، ومعلوم ان رواية الكلبي عن ابى صالح ضعيفة.
__________
(19) تفسير ابن جرير الطبري: 1/ 208 تحقيق محمود محمد شاكر واحمد محمد شاكر والقول الذي ذكره الربيع بن انس هو ما حكاه الطبري بقوله: (وقال بعضهم: هي حروف يشتمل كل حرف منها على معان شتى مختلفة) ذكر من قال ذلك.
243- حدثني المثنى بن ابراهيم الطبري، قال: حدثنا إسحاق بن الحجاج عن عبد الله بن ابى جعفر الرازي، قال: حدثني ابى، عن الربيع بن انس فى قول الله تعالى ذكره: «الم» : قال: هذه الأحرف، من التسعة والعشرين حرفا دارت فيها الألسن كلها. ليس منها حرف إِلَّا وَهُوَ مفتاح اسم من أسمائه، وليس حرف الا وهو فى آلائه وبلائه، وليس منها حرف إِلَّا وَهُوَ فِي مدة قوم وآجالهم. وقال عيسى بن مريم: «وعجيب ينطقون فى أسمائه ويعيشون فى رزقه، فكيف يكفرون» قال: الالف مفتاح اسمه: (الله) . واللام مفتاح اسمه: (لطيف) ، والميم اسمه: (مجيد) . الالف آلاء الله، واللام لطفه والميم مجده. الالف سنة، واللام ثلاثون سنة، والميم سبعون سنة.
244- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن ابى جعفر عن الربيع بنحوه.
(تفسير ابن جرير الطبري: 1/ 208 تخريج احمد محمد شاكر ثم قال: الاخبار 225- 244 ذكرها ابن كثير: 1/ 65- 66 بعضها بالإسناد، وبعضها دون اسناد، وسردها السيوطي: 1/ 22- 23، والشوكانى: 1/ 21) .
(20) انظر تفسير الطبري: 1/ 216. الطبعة المحققة.
(21) انظر تفسير الطبري: 1/ 221- 223، تجد كل ذلك مشروحا فيه.(5/205)
وهذا الحديث الذي يستدل به مقاتل على صحة ما ذهب اليه قد أورده الطبري مع غيره من الآراء، ثم قال الطبري:
(والصواب عندي فى تاويل مفاتح السور، التي هي حروف المعجم، ان الله ابتدا بها السور للدلالة بكل حرف على معان كثيرة، لا على معنى واحد) «22» .
«فهن فواتح ما افتتح بهن من سور القرآن» .
«وهن مما اقسم الله بهن» .
«وهن من حروف حساب الجمل» .
«وهن للسور التي افتتحت بهن شعار واسماء» «23» .
- 6- ابن كثير وحساب الجمل ابن كثير وراى مقاتل:
وقد نقل ابن كثير ما حكاه ابن جرير الطبري من الآراء فى فواتح السور، كما نقل اختياره الجمع بين هذه الآراء، وانها مقصودة جميعها من هذه الحروف- بما فيها حساب الجمل-، ثم خالف الطبري فيما ذهب اليه، فأنكر ان يكون المراد بالحرف الواحد، معاني متعددة فى وقت واحد، «اما لفظ الامة وما أشبهها من الألفاظ المشتركة فى الاصطلاح فانما دل فى القرآن فى كل موطن على معنى واحد دل عليه سياق الكلام» «24» .
ولم يرتض ابن كثير دلالة هذه الحروف على حساب الجمل، وضعف الحديث الذي استدل به مقاتل، قال ابن كثير:
(واما من زعم انها دلالة على معرفة المدد، وانه يستخرج من ذلك اوقات الحوادث والفتن والملاحم- فقد ادعى ما ليس له، وطار فى غير مطاره. وقد ورد فى ذلك حديث ضعيف. وهو مع ذلك ادل على بطلان هذا المسلك من التمسك به على صحته، وهو ما رواه محمد بن اسحق عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عباس.
__________
(22) الطبري: 1/ 220 تحقيق محمود شاكر، بتصرف.
(23) تفسير الطبري: 1/ 222 تحقيق محمود شاكر، بتصرف. [.....]
(24) انظر تفسير ابن كثير: 1/ 37 ط دار احياء الكتب العربية. ثم قال: (فاما حمله على جميع محامله إذا أمكن فمسالة مختلف فيها بين علماء الأصول ليس هذا موضع البحث فيها والله اعلم.
ثم ان لفظ الامة تدل على كل من معانيها فى سياق الكلام بدلالة الوضع، فاما دلالة الحرف الواحد على اسم يمكن ان يدل على اسم آخر من غير ان يكون أحدهما اولى من الآخر فى التقدير او الإضمار بوضع ولا بغيره- فهذا ما لا يفهم الا بتوقيف والمسالة مختلف فيها وليس فيها اجماع حتى يحكم به) .(5/206)
(وساق الحديث السابق الذي يدل على ان المراد بفواتح السور حساب الجمل) «25» .
ثم قال: (فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي وهو ممن لا يحتج بما انفرد به، ثم كان مقتضى هذا المسلك ان كان صحيحا ان يحسب ما لكل حرف من الحروف الاربعة عشر التي ذكرناها، وذلك يبلغ منه جملة كثيرة، وان حسبت مع التكرار فأطم وأعظم والله اعلم) «26» .
- 7- المحقق احمد محمد شاكر ينقد حساب الجمل، ويضعف روايات أحاديثه
ذكرنا ان الطبري أورد عدة آراء فى فواتح السور، من بينها انهن من حروف حساب الجمل، وذكرنا كذلك انه اختار ان هذه الأحرف تحوى سائر المعاني، ثم ساق الحديث الذي أورده مقاتل.
وفى تعليق المحقق المرحوم الشيخ احمد محمد شاكر على هذا الحديث ضعف اسناده، وتعجب من احتجاج الطبري بهذه الروايات المتهافتة، ورضائه بالتأويل المستنكر بحساب الجمل.
وقد ذكر ان الحديث الذي أورده الطبري فى حساب الجمل فى اسناده محمد بن السائب الكلبي وهو ضعيف جدا رمى بالكذب. وقال ابو حاتم «الناس مجتمعون على ترك حديثه، لا يشتغل به، هو ذاهب الحديث» وساق المحقق عدة روايات للحديث كلها ضعيف مضطرب «27» .
- 8- راى أراه فى الحديث
أسلفنا ان المحقق الشيخ احمد محمد شاكر- رحمه الله- قد ذهب الى ضعف الحديث واضطرابه، ولا شك ان لهذا المحقق قدما ثابتة فى معرفة الرجال والأحاديث، فقد ساق أسانيد ثلاثة رواها البخاري فى التاريخ الكبير «28» .
ثم جرح الاسناد الاول لان فيه مجهولا، وجرح الاسناد الثاني لان فيه
__________
(25) انظر فيما سبق: 4- الطبري وراى مقاتل: 205 هامش: 21.
(26) تفسير ابن كثير: 1/ 38، 39 ط (دار احياء الكتب العربية) .
(27) تفسير الطبري تحقيق احمد محمد شاكر: 1/ 218 هامش. فانظر كلامه هناك ان شئت.
(28) التاريخ الكبير فى ترجمة (عبد الله بن رئاب) 1/ 2/ 207- 208.(5/207)
اضطرابا «29» ، اما الاسناد الثالث فذهب الى انه أشدها ضعفا، لأنه من رواية الكلبي عن ابى صالح.
وارى ان هذا المحقق قد بالغ فى تضعيف الحديث، مع انه فيما ارى ليس بالشديد الضعف، فقد رواه البخاري بثلاثة أسانيد:
1- الاسناد الاول ضعفه احمد شاكر لان فيه مجهولا (مولى لزيد بن ثابت) .
2- والاسناد الثاني صرح فيه باسم هذا المجهول وهو (محمد بن ابى محمد) ومحمد هذا هو الأنصاري المدني مولى زيد بن ثابت، قال عنه احمد شاكر:
«زعم الذهبي فى الميزان انه (لا يعرف) ! وهو معروف، ترجمه البخاري فى الكبير 1/ 1/ 225 فلم يذكر فيه جرحا، وذكره ابن حيان فى الثقات، وكفى بذلك معرفة وتوثيقا» .
3- وقد اضطرب الاسناد الثاني على ابن اسحق او على سلمة بن الفضل فكانت الرواية فيه عن عكرمة او سعيد (يعنى ابن جبير) على الشك.
ونلاحظ ان هذا الاضطراب شك من الراوي: هل رواه عن سعيد بن جبير او عن عكرمة، وكلاهما موثوق به، فسعيد بن جبير ثقة مجمع عليه من اصحاب الكتب الستة «30» ، وعكرمة ثقة وثقه البخاري ومسلم، واحمد بن حنبل، وابن راهويه، ويحيى بن معين، وابو ثور، وابو داود، وغيرهم. قال ابن حجر (فاما البدعة، فان ثبتت عليه فلا تضر حديثه، لأنه لم يكن داعية لها، مع انها لم تثبت عليه) «31» .
وكان مسلم بن الحجاج من أسوئهم رأيا فيه ثم عدله بعد ما جرحه «32» .
4- اما تضعيف سلمة بن الفضل فليس مجمعا عليه بل وثقه ابن معين، فيما رواه ابن ابى حاتم فى كتابه، وله عنده ترجمة جيدة وافية 2/ 1/ 168، 169.
وروى ايضا عن جرير قال: (ليس من لدن بغداد الى ان تبلغ خراسان اثبت فى ابن اسحق من سلمة بن الفضل، وقد رجح توثيقه احمد شاكر فى شرح المسند 886 وذهب الى توثيقه هنا.
__________
(29) قال ابن كثير الحديث المضطرب: هو ان يختلف الرواة فيه على شيخ بعينه، وقد يكون تارة فى الاسناد وقد يكون فى المتن (الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، ص 72) . مثال الاضطراب فى الاسناد: (وقال سلمة حدثني ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن ابى محمد عن عكرمة او سعيد عن ابن عباس (الم ذلِكَ الْكِتابُ) .
فقد شك الراوي هل روى الحديث عن عكرمة او عن سعيد.
(30) وفيات الأعيان: 1/ 364، تهذيب التهذيب: 4/ 13. 14، والتفسير والمفسرون:
1/ 102- 103.
(31) مقدمة فتح الباري: 2/ 148. والتفسير والمفسرون: 1/ 110.
(32) انظر تهذيب التهذيب: 7/ 263- 273.(5/208)
ولم يقبل احمد شاكر تضعيف البخاري ولا تضعيف شيخه لسلمة «33» .
5- بقي ان ابن كثير قد ذهب الى تضعيف هذا الحديث، بعد ان ذكر اسناده قال: (فهذا الحديث مداره على محمد بن السائب الكلبي وهو ممن لا يحتج بما انفرد به) «34» .
ونقول فى ردنا على الامام ابن كثير: ان الكلبي لم ينفرد برواية هذا الحديث، فقد رواه البخاري بثلاثة أسانيد، وكان الثالث فقط من طريق الكلبي، اما الاول والثاني فمن طرق اخرى.
- 9- قول الزركشي والسيوطي فى حساب الجمل
قال الزركشي فى البرهان، والسيوطي فى الإتقان:
واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم عن ابى العالية فى قوله (الم) قال: (هذه الأحرف الثلاثة من الأحرف التسعة والعشرين دارت بها الألسن، فليس منها حرف إِلَّا وَهُوَ مفتاح اسم من اسماء الله عز وجل او آلائه، او بلائه، او مدة أقوام او آجالهم، فالالف سنة، واللام ثلاثون سنة، والميم أربعون، روى عن الربيع ابن انس، قال ابن فارس: وهو قول حسن لطيف لان الله تعالى انزل على نبيه الفرقان، فلم يدع نظما عجيبا، ولا علما نافعا الا أودعه إياه، علم ذلك من علمه وجهله من جهله) «35» .
«قال الخويي وقد استخرج بعض الائمة من قوله تعالى الم، غُلِبَتِ الرُّومُ ...
ان بيت المقدس يفتحه المسلمون فى سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ووقع كما قاله) «36» .
قال السهيلي: لعل عدد الحروف التي فى أوائل السور مع حذف المكرر للاشارة الى مدة بقاء هذه الامة.
قال ابن حجر: وهذا باطل لا يعتمد عليه، فقد ثبت عن ابن عباس رضى الله عنه الزجر عن ابى جاد والاشارة الى ان ذلك من جملة السحر، وليس ذلك ببعيد، فانه لا اصل له فى الشريعة «37» .
__________
(33) تفسير الطبري: 1/ 219.
(34) تفسير ابن كثير: 1/ 38، 39 ط (دار احياء الكتب العربية) .
(35) البرهان: 1/ 174، والإتقان: 2/ 10- 11.
(36) البرهان: 1/ 175، والإتقان: 2/ 10.
(37) الإتقان: 2/ 10- 11. [.....](5/209)
- 10- راى السيد رشيد رضا فى فواتح السور
أوضح السيد محمد رشيد رضا الغرض من افتتاح بعض السور القرآنية بهذه الأحرف المقطعة فقال:
(من حسن البيان وبلاغة التعبير، التي غايتها افهام المراد مع الاقناع والتأثير ان ينبه المتكلم المخاطب الى مهمات كلامه والمقاصد الاولى بها.
ويحرص على ان يحيط علمه بما يريده هو منها، ويجتهد فى انزالها من نفسه فى أفضل منازلها، ومن ذلك التنبيه لها قبل البدء بها لكيلا يفوته شيء منها، وقد جعلت العرب منه (ها) التنبيه واداة الاستفتاح، فأي غرابة فى ان يزيد عليها القرآن الذي بلغ حد الاعجاز فى البلاغة وحسن البيان، ويجب ان يكون الامام المقتدى، كما انه هو الامام فى الإصلاح والهدى؟ ومنه ما يقع فى أثناء الخطاب من رفع الصوت وتكييفه بما تقتضيه الحال من صيحة التخويف والزجر، او غنة الاسترحام والعطف، او رنة النعي واثارة الحزن، او نغمة التشويق والشجو او هيمة الاستصراخ عند الفزع، او صخب التهويش وقت الجدل. ومنه الاستعانة بالاشارات وتصوير المعاني بالحركات، ومنه كتابة بعض الكلمات او الجمل بحروف كبيرة او وضع خط فوقها او تحتها ... ) «38» إلخ.
- 11- 11- راى الشيخ طنطاوي جوهرى فى حساب الجمل
ذهب الشيخ طنطاوي جوهرى الى دلالة هذه الفواتح على حساب الجمل، فقال عند تفسيره للآية الاولى فى سورة آل عمران:
(اعلم ان القرآن كتاب سماوي. والكتب السماوية تصرح تارة وترمز اخرى.
والرمز والاشارة من المقاصد السامية والمعاني والمغازي الشريفة، وقديما كان ذلك فى اهل الديانات، الم تر الى اليهود الذين كانوا منتشرين فى المدينة، وفى بلاد الشرق ايام النبوة، كيف كانوا يصطلحون فيما بينهم على اعداد الجمل، المعروفة اليوم فى الحروف العربية؟ فيجعلون الالف بواحد، والباء باثنين، والجيم بثلاثة والدال باربعة ... وهكذا، مارين على الحروف الابجدية الى الياء بعشرة والكاف بعشرين ...
وهكذا. الى القاف بمائة والراء بمائتين.. وهكذا الى الغين بألف.
__________
(38) تفسير المنار: 8/ 299.(5/210)
(كذلك ترى النصارى فى الاسكندرية ومصر وبلاد الروم وفى سوريا، قد اتخذوا الحروف رموزا دينية معروفة فيما بينهم ايام نزول القرآن، وكانت اللغة اليونانية هي اللغة الرسمية فى مصر. وكانوا يرمزون بلفظ (اكسيس) لهذه الجملة (يسوع المسيح ابن الله المخلص) فالالف من اكسيس هي الحرف الاول فى لفظ (ايسوس) يسوع. والكاف منها هي الحرف الاول من (كرستوس) المسيح.
والسين منها هي حرف الناء التي تبدل منها فى النطق فى لفظ (ثبو) الله. والياء منها تدل على (ايرث) ابن. والسين الثانية منها تشير الى (توثير) المخلص.
ومجموع هذه الكلمات: يسوع المسيح ابن الله المخلص. ولفظ (اكسيس) اتفق انه يدل على معنى سمكة، فأصبحت عند هؤلاء رمزا لإلههم.
(فانظر كيف انتقلوا من الأسماء الى الرمز بالحروف، ومن الرمز بالحروف الى الرمز بحيوان دلت عليه الحروف.
قال الحبر الانجليزى صموئيل موننج: انه كان يوجد كثيرا فى قبور روما صور اسماك صغيرة مصنوعة من الخشب والعظم. وكان كل مسيحى يحمل سمكة اشارة للتعارف فيما بينهم) اهـ.
قال الشيخ طنطاوي: (فإذا كان ذلك من طبائع الأمم التي أحاطت بالبلاد العربية وتغلغلت فيها، ونزل القرآن لجميع الناس من عرب وعجم، كان لا بد ان يكون على منهج يلذه الأمم ويكون فيه ما يألفون، وستجد انه لا نسبة بين الرموز التي فى أوائل السور، وبين الجمل عند اليهود ورموز النصارى، الا كالنسبة بين علم الرجل العاقل والصبى، او بين علم العلماء وعلم العامة. وبهذا تبين لك ان اليهود والنصارى كان لهم رموز، وكانت رموز اليهود هي حروف الجمل، قال ابن عباس رضى الله عنهما «مر ابو ياسر بن اخطب برسول الله وهو يتلو سورة البقرة (الم، ذلِكَ الْكِتابُ..) - ثم ساق الحديث الذي ذكرناه سابقا عن مقاتل، وعلق عليه قائلا:
(فبهذا تعرف ايها الذكي ان الجمل كانت للتعارف عند اليهود، وهو نوع من الرموز الحرفية، فكانت هذه الحروف لا بد من نزولها فى القرآن، ليأخذ الناس فى فهمها كل مذهب، ويتصرف الفكر فيها.) «39» .
__________
(39) انظر تفسير الجواهر للشيخ طنطاوي جوهر أول سورة آل عمران.
وقد نقل هذا الكلام بنصه الشيخ محمد عبد العظيم الزرقانى فى كتابه مناهل العرفان:
1/ 222- 225 ط 3، ثم ساق عدة ادلة على تأييد فكرة الرمز والاشارة ودلالة حروف القرآن عليها.
فقال: ان هذه الأحرف التي بدئت بها سور القرآن اربعة عشر حرفا وتشاهد:
1- ان مفاصل اليدين فى كل يد اربعة عشر.
2- منازل القمر ثمان وعشرون منزلة، ففي البروج الشمالية اربع عشرة: وفى الجنوبية اربع عشرة.
3- خرزات عمود ظهر الإنسان منها اربع عشرة فى أسفل الصلب، واربع عشرة فى أعلاه.. إلخ.(5/211)
- 12- راى الباحث
ان هذه الأحرف يراد بها أعلام العرب بان القرآن الدال على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قد انزل بهذه الحروف وصيغت كلماته منها، وان عجزهم عن الإتيان بمثله مع نزوله بالحروف التي هي حروف لغتهم، ومع تحديهم به، دليل على كفرهم وعنادهم وجحودهم، وعلى انهم مخطئون كل الخطا فى كفرهم به، وبمن انزل عليه وجاء يدعوهم الى توحيد الله وعبادته «40» .
__________
(40) هذا هو الرأي عندي، وله ما يعززه:
أولا: من استعمال نصف حروف المعجم فى فواتح السور.
وثانيا: من كون كل سورة افتتحت بواحدة منها تحدثت عن نزول القرآن واعجازه.
وثالثا: من كون الفواتح تنطق فيها الحروف بأسمائها، لا حسب رسمها.(5/212)
الباب الخامس الاسرائيليات فى تفسير مقاتل
1- الاسرائيليات.
2- اليهود والنصارى.
3- التوراة.
4- قصص الأنبياء بين القرآن والتوراة.
5- اقسام الاسرائيليات.
6- الاسرائيليات في تفسير مقاتل: (13 نموذج) . مقارنة.
7- راى ابن كثير فى الاسرائيليات.
8- الاسرائيليات بعد مقاتل فى كتب التفسير.
9- مسئولية المفسرين.
10- اعتذار الطوفى عن المفسرين.
11- تفنيد فرية.
12- تأثير الإسلام فى اليهودية.(5/213)
- 1- الاسرائيليات
تمهيد:
نشا التفسير بالمأثور مقصورا على أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد انزل الله عليه القرآن عربيا مبينا، وكان الصحابة يقرءون القرآن، فيتسابقون الى العمل بأحكامه، وامتثال أوامره.
وربما أشكل على أحدهم معنى من المعاني او آية من الآيات، فيسأل النبي صلى الله عليه وسلم، ويجيبه النبي فى بساطة ويسر.
ومن ذلك تفسيره عليه الصلاة والسلام الظلم بالشرك، وتفسيره القوة بالرمي، وتفسيره المغضوب عليهم، باليهود والضالين بالنصارى.
وكان التفسير مقصورا على ما أشكل معناه او غمض لفظه، فقد كانت حياة النبي تطبيقا عمليا لاوامر القرآن ونواهيه، حتى قالت عائشة رضى الله عنها، (كان خلقه القرآن) .
(ولعل الروعة الدينية لهذا العهد، والمستوى العقلي لأهله وتحدد حاجات حياتهم العملية، كل أولئك جعلهم لا يقولون فى تفسير القرآن الا بما روى عن صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام توقيفا) «1» .
(وقد جمعت كتب الصحاح والسنن مقادير مختلفة من التفسير بالمأثور، حتى لترى فى صحيح البخاري: كتابين هما: كتاب تفسير القرآن، وكتاب فضائل القرآن، وهما يشغلان حيزا واضحا من الكتاب ربما كان نحو الثمن منه) «2» .
ولما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، وبدا عصر الصحابة- زادت حاجة الناس الى التفسير، نظرا لاتساع الرقعة الاسلامية، ولظهور احداث واقضية لم تكن موجودة فى عصر النبي صلى الله عليه وسلم، ولدخول كثير من الأعاجم فى الإسلام، مع ضعف المامهم بالعربية، وبعدهم عن البيئة التي نزل فيها القرآن.
وفى هذا العصر- اعنى عصر الصحابة- بدا دخول الاسرائيليات فى التفسير، وساعد على ذلك دخول عدد كثير من اليهود والنصارى فى الإسلام، ومعهم ثقافاتهم وافكارهم، ومعلوماتهم الدينية، حول كثير من قصص الأنبياء السابقين.
فلما كان عصر التابعين زادت الاسرائيليات، وزاد الوضع فى التفسير.
__________
(1) دائرة المعارف الاسلامية مادة تفسير: 5/ 349.
(2) المرجع السابق.(5/215)
- 2- اليهود والنصارى
وكان اليهود فى ماضيهم الطويل قد شرقوا راحلين من مصر، ومعهم آثار حياتهم فيما معهم، ثم ابعدوا مشرقين الى بابل فى اسرهم، ثم عادوا الى موطنهم وقد حملوا معهم ما حملوا.
ووفد على البيئة العربية الاسلامية من كل هذا المزيج وفد، الى جانب ما بعثت إليها الديانات الاخرى التي دخلت تلك الجزيرة، والقت الى أهلها ما القت من خبر او قصص ديني، وكل أولئك قد تردد على آذان قارئي القرآن ومتفهميه، قبل ما خرجوا الى ما حول جزيرتهم شرقا وغربا فاتحين.
ثم ملا آذانهم حين خالطوا اصحاب تلك البلاد التي نزلوا وعاشوا بها، وان كان الذي اشتهر من ذلك هو اليهودي، لكثرة اهله، وظهور أمرهم فاشتهرت تلك التزايدات التي اتصلت بمرويات التفسير النقلى باسم الاسرائيليات «3» .
وكان اغلب الماليين فى الشام يهودا، واغلب أطباء القصور فى بغداد نصارى.
واشتهر اليهود باحترافهم حرفا خاصة، كالصيرفة، ودباغة الجلود والصباغة «4» ، «وكان عدد اليهود فى المملكة الاسلامية غير العرب نحو ثلثمائة الف» فى سنة 560 هـ «5» .
وكان اليهود منتشرين على نهر دجلة والفرات، وفى جزيرة ابن عمر والموصل، وعكيرة وواسط، وفى بغداد والحلة، والكوفة والبصرة، وفى كثير من بلاد فارس «6» .
- 3- التوراة
وأهم منبع للثقافة اليهودية هو التوراة، وقد ذكرت فى القرآن الكريم، ووصفت بأنها كتاب من كتب الله المنزلة: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) ونص القرآن على بعض احكام وردت فى التوراة: (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) .
__________
(3) أمين الخولي، دائرة المعارف الاسلامية مادة تفسير: 5/ 351.
(4) الجاحظ: الرد على النصارى، ص 17.
(5) احمد أمين: ضحى الإسلام 1/ 325، ونسب هذا القول الى رحالة يهودي يدعى بنيامين.
(6) المرجع السابق.(5/216)
وأشير فى الأحاديث كذلك الى التوراة وبعض احكامها.
جاء فى تفسير مقاتل، وورد فى البخاري وابى داود: (ان نفرا من اليهود دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فى بيت المدارس، فقالوا:
يا أبا القاسم، ان رجلا منا زنى بامراة فاحكم، فرضعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسادة فجلس عليها، ثم قال ائتوني بالتوراة فأتى بها، فنزل الوسادة من تحته، ووضع التوراة عليها، ثم قال آمنت بك وبمن أنزلك ثم قال ائتوني باعلمكم، فأتى بشاب ثم ذكر قصة الرجم) «7» .
وكلمة التوراة يستعملها المسلمون كثيرا للدلالة على كل الكتب المقدسة عند اليهود، فتشمل الزبور وغيره كما يستعملها اليهود أنفسهم أحيانا بهذا الإطلاق.
وكان لليهود بجانب ذلك سنن ونصائح وشروح لم تنقل عن موسى عليه السلام كتابة، وانما تداول الناس نقلها شفاها، ونمت على تعاقب الأجيال، ثم دونت، وهي المسماة بالتلمود. والتلمود مختلف فيه فيما بينهم، فمنهم من يقبله وهم طائفة الربانيين، ومنهم من لا يقبله وهم طائفة القرائين.
فاما التوراة بالمعنى الدقيق فخمسة اسفار: سفر التكوين «8» ، وسفر الخروج «9» ، وسفر اللاويين- اى الاخبار «10» - وسفر العدد «11» ، وسفر التثنية «12» .
وفى العهد القديم غير التوراة: سفر يوشع. وهو فى استيلاء بنى إسرائيل على فلسطين. ثم سفر القضاة اى الحكام، ثم اسفار الملوك الاربعة:
الاول فى اخبار شمويل او سمويل وشاول او طالوت، والثاني فى ذكر داود والثالث والرابع فى سليمان بن داود، ومن ملك بنى إسرائيل من بعده..
واما التلمود فمجموعة من المناقشات الدينية الاولى، مع شروح لرجال الدين من الأجيال المتعاقبة بسجل أفكار اليهود فى حياتهم وتقاليدهم فى نحو الفى عام ويمزج مزجا تاما نواحي الشعب الخلقية بنواحيهم الدينية «13» .
__________
(7) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث 1/ 100 اوانظر تحقيقي له مجلد 1 ص 475. وانظر كذلك البخاري فى باب التوحيد وباب الاعتصام وباب التفسير، وقد رواه ايضا ابو داود عن ابن عمر.
(8) وفيه خلق العالم، وقصة آدم وحواء وأولادهما ونوح والطوفان وتبلبل الالسنة، ثم قصة ابراهيم عليه السلام وابنه اسحق وابنيه يعقوب وعيصو ثم قصة يوسف.
(9) وفيه خروج اليهود من مصر وقصة موسى من ولادته وبعثته وفرعون وخروج بنى إسرائيل من مصر، وصعود موسى الجبل وإيتاء الله إياه الألواح.
(10) وفيه حكم القربان والطهارة.
(11) وفيه قصة البقرة واخبار بنى إسرائيل وبعض الشرائع. [.....]
(12) اى اعادة الناموس.
(13) انظر احمد أمين: ضحى الإسلام: 1/ 329 ط 7.(5/217)
وقد تسربت ثقافة اليهود الى العرب قبل الإسلام وبعده.
وجاء فى الحديث عن ابن عباس: (كان هذا الحي- من الأنصار- وهم اهل وثن، مع هذا الحي من اليهود وهم اهل الكتاب، فكانوا يرون لهم فضلا عليهم فى العلم، وكانوا يقتدون بكثير من فعلهم) «14» .
وفى الحديث عن ابى هريرة قال: (كان اهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها لأهل الإسلام بالعربية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصدقوا اهل الكتاب ولا تكذبوهم، وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا، وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ والهنا وإلهكم واحد) «15» .
- 4- قصص الأنبياء بين القرآن والتوراة
عرض القرآن لكثير من قصص الأنبياء السابقين، مقتصرا على مواضع العظة والعبرة، مكتفيا من القصة بما يحقق الهداية، ويوحى بمتابعة الحق والايمان.
ولذا لم يتعرض للتفصيل، فلم يذكر تاريخ الوقائع، ولا اسماء البلدان التي حصلت فيها، ولا اسماء الأشخاص الذين جرت على يدهم بعض الحوادث، وانما تخير ما يمس جوهر الموضوع، وما يحرك العقول للتفكير، وينبه القلوب الى الخير، وينفرها من عاقبة الشر.
ولنضرب لهذا مثلا قصة آدم عليه السلام، فقد ورد ذكرها فى القرآن الكريم «16» ، كما ورد ذكرها فى التوراة. بيد ان القرآن لم يتعرض لمكان الجنة، ولا لنوع الشجرة التي نهى آدم عن الاكل منها، ولا لبيان الحيوان الذي تقمصه الشيطان ليزلهما، ولا ما كان من تفصيل الحوار بين الله تعالى وآدم، ولا للبقعة التي طرد إليها آدم بعد خروجه من الجنة.
__________
(14) أخرجه ابو داود وجاء فى تفسير مقاتل لقوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ... سورة البقرة: 223 نسخة احمد الثالث: 37 اوانظر تحقيقنا له 1/ 192. كما جاء فى تفسير ابن كثير لهذه الآية، وجاء فى اسباب نزول القرآن للواحدي والسيوطي.
(15) البخاري فى كتاب التفسير: 8 ط. 12 من فتح الباري.
(16) انظر الآيات التي وردت فى القرآن فى قصة آدم، ومنها آية 34 فى سورة البقرة، وآية 23 فى آل عمران، وآية 20 وما بعدها فى الأعراف، وآية 61 فى الاسراء، والآيات 115- 122 فى طه، حيث يقول سبحانه: (وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً. وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى. فَقُلْنا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى. إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى. فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى. فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ، وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى. ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى) .(5/218)
ولكن التوراة تعرضت لكل ذلك واكثر منه فابانت ان الجنة فى عدن شرقا، وان الشجرة التي نهيا عنها كانت فى وسط الجنة، وانها شجرة الحياة، وذكرت ما انتقم الله به من حواء بتعبها هي ونسلها فى حيلها.. إلخ «17» .
وقد نقل بعض المفسرين عن مقاتل بن سليمان قصة آدم وإبليس فى تفسيرهم «18» . كما ذكروا كثيرا من الاسرائيليات بجوار تفسيرهم للقرآن. ويهيأ للقارىء ان هذه الاسرائيليات التي لا نعرف صدقها من كذبها بيان لمعنى قول الله سبحانه، وتفصيل ما أجمل فيه، وحاشا لله ولكتابه من ذلك.
«وان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اذن بالتحدث عنهم- أمرنا الا نصدقهم ولا نكذبهم. فأي تصديق لرواياتهم وأقاويلهم أقوى من ان نقرنها بكتاب الله ونضعها منه موضع التفسير او البيان؟! اللهم غفرا» «19» .
- 5- اقسام الاسرائيليات
تنقسم الاخبار الاسرائيلية الى اقسام ثلاثة:
القسم الاول: ما يعلم صحته بان نقل عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقلا صحيحا، او كان له من الشرع شاهد يؤيده. ومنه تعيين اسم صاحب موسى عليه السلام بانه الخضر، فقد جاء هذا الاسم صريحا فى حديث البخاري «20» . وهذا القسم بنوعيه صحيح مقبول.
القسم الثاني: ما يعلم كذبه بان يناقض ما عرفناه من شرعنا، او يكون مخالفا لما يقرره العقل، وهذا القسم لا يصح قبوله ولا روايته.
القسم الثالث: هو المسكوت عنه، فلا هو من قبيل الاول، ولا هو من قبيل الثاني. وهذا القسم نتوقف فيه فلا نصدقه ولا نكذبه.
__________
(17) العهد القديم، الاصحاح الاول من سفر التكوين ص 4- 5. وانظر ايضا ضحى الإسلام:
1/ 232، 233، والتفسير والمفسرون: 1/ 168.
(18) تفسير مقاتل بن سليمان مخطوطة احمد الثالث 1/ 8 ب، 9 ا، وانظر تحقيقي له مجلد 1/ 96- 98.
(19) احمد محمد شاكر: مقدمة كتاب عمدة التفسير لابن كثير ص 17.
(20) باب التفسير: 8/ 297 من فتح الباري.(5/219)
وذهب ابن كثير الى جواز رواية هذا القسم «21» ، ولم يوافقه فى ذلك احمد شاكر، لان رواية هذا القسم بجوار تفسير القرآن إقرارا له وتصديق به «22» .
- 6- الاسرائيليات فى تفسير مقاتل
ما كان اغنى القرآن وتفسيره عن هذه الاسرائيليات التي نقلها مقاتل عن اليهود والنصارى، «حتى ذكر فى تمييز خصيصته انه (استمد علمه بالقرآن من اليهود والنصارى وجعله موافقا لما فى كتبهم) » «23» .
وسأنقل لك عدة نماذج من هذه الاسرائيليات التي أوردها مقاتل فى تفسيره.
وقد نقلها عنه بعض المفسرين، مع بعدها عن روح الإسلام، وهدى القرآن.
1- جاء فى تفسير مقاتل «24» لقوله تعالى:
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ «25» ، قوله: فخلق آدم عَلَيْه السَّلام من طين أحمر واسود وابيض، من السبخة والعذبة،
__________
(21) وقد تابعه فى هذا الشيخ محمد حسين الذهبي فى كتابه التفسير والمفسرون ص 179، 180، ونقل كلام ابن كثير بدون ان يعزوه اليه.
(22) عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير، تحقيق احمد شاكر ص 14 حيث قال ابن كثير:
«.. ولكن هذه الأحاديث الاسرائيلية تذكر للاستشهاد لا للاعتضاد فانها على ثلاثة اقسام: أحدهما:
ما علمنا صحته مما بأيدينا مما نشهد له بالصدق فذاك صحيح. والثاني ما علمنا كذبه عندنا مما يخالفه. والثالث ما هو مسكوت عنه لا من هذا القبيل ولا من هذا القبيل، فلا نؤمن به ولا نكذبه، وتجوز حكايته لما تقدم. وهو
حديث: (بلغوا عنى ولو آية، وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج.
ومن كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) .
وغالب ذلك مما لا فائدة فيه تعود الى امر ديني، ولهذا يختلف علماء اهل الكتاب فى مثل هذا كثيرا، ويختلف المفسرون عادة بسبب ذلك، كما يذكرون فى مثل اسماء اصحاب الكهف ولون كلبهم وعدتهم، وعصا موسى من اى شجر كانت؟ واسماء الطيور التي أحياها ابراهيم، وتعيين البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة، ونوع الشجرة التي كلم الله منها موسى، الى غير ذلك مما أبهمه الله تعالى فى القرآن، حيث لا فائدة منه تعود على المكلفين فى دنياهم او دينهم، ولكن نقل الخلاف عنهم جائز، كما قال تعالى سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ ... الى آخر الآية. سورة الكهف: 22.
ويعلق احمد شاكر بقوله: ان إباحة التحدث عنهم شيء، وذكر ذلك فى تفسير القرآن شيء آخر، إذ انه يوهم البيان والتفصيل لكتاب الله، وحاشا لله ولكتابه من ذلك.
(23) جولد زيهر، مذاهب التفسير الإسلامي، ترجمة دكتور عبد الحليم النجار ص 76 نقلا عن ابن خلكان رقم 743.
(24) مخطوطة احمد الثالث 1/ 8 ا، ب وانظر تحقيقي له مجلد 1/ 96- 98.
(25) سورة البقرة الآية 30. [.....](5/220)
فَمنْ ثَمّ نسله أبيض وأحمر وأسود، مؤمن وكافر، فحسد إبليس تِلْكَ الصورة فَقَالَ للملائكة الَّذِين هُمْ معه أرأيتم هَذَا الَّذِي لَمْ تروا شيئا من الخلق على هيئته إن فضل عَلَيّ ماذا تصنعون؟ قَالوا نسمع ونطيع لأمر الله وأسر عدو الله فِي نفسه لئن فضل آدم عَلَيْه لا يطيع، وليستفزنه فترك آدم طينا أربعين سنة مصورا فجعل إبليس يدخل من دبره ويخرج من فِيهِ وَيَقُولُ أَنَا نار وهذا طين أجوف والنار تغلب الطين، لاغلبنه.
فذلك قوله عَزَّ وَجَلّ: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يعنى قوله يومئذ: لاغلبنه) وقوله: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا يعني لأحتوين عَلَى ذريته إِلَّا قليلا.
فَقَالَ الله للروح ادخلي هَذَا الجسد فقالت أَي رب أَيْنَ تدخلني هذا الجسد المظلم؟
فَقَالَ اللَّه ادخليه كرها، فدخلته كرها وهي لا تخرج منه إِلَّا كرها، ثُمّ نفخ فِيهِ الروح من قبل رأسه، فترددت الروح فِيهِ حَتَّى بلغت نصف جسده موضع السرة، فعجل للقعود، فذلك قوله (وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا) «26» .
وقد نقل المفسرون عن التوراة كثيرا مما يتعلق بخلق آدم وبدء الخليقة، ومن السفر الاول وهو سفر التكوين او الخلق، وفى هذا السفر خلق العالم وقصة آدم وحواء وأولادهما.
ومن أوائل من نقل هذا عن اهل الكتاب مقاتل بن سليمان.
وقد ساق الحافظ ابن كثير «27» كلاما قريبا من كلام مقاتل ثم علق عليه قائلا:
هذا سياق غريب، وفيه أشياء فيها نظر تطول مناقشتها، وهذا الاسناد الى ابن عباس يروى به تفسير مشهور، وقال السدى فى تفسيره عن ابى مالك وعن ابى صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن عباس وعن أناس من أصحاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
لما فرغ الله من خلق ما أحب استوى على العرش فجعل إبليس على ملك السماء الدنيا، وكان من قبيلة من الملائكة يقال لهم الجن.. ثم ساق تفسيرا للآية يحتوي على تفسير مقاتل وعلق عليه قائلا:
فهذا الاسناد الى هؤلاء الصحابة مشهور فى تفسير السدى، وتقع فيه إسرائيليات
__________
(26) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث: 1/ 8، وانظر تحقيقي له مجلد 1/ 96 واتبع ذلك إسرائيليات عن تعليم آدم الأسماء، وتوبة الله على آدم (1/ 9 ا) وانظر تحقيقي له مجلد 1/ 99- 100.
(27) تفسير ابن كثير: 1/ 76.
.(5/221)
كثيرة، فلعل بعضها مدرج «28» ، ليس من كلام الصحابة، او انهم أخذوه من بعض الكتب المتقدمة والله اعلم «29» .
والحاكم يروى فى مستدركه بهذا الاسناد بعينه أشياء ويقول على شرط البخاري «30» .
2- جاء فى تفسير مقاتل لآية الكرسي «31» ما يأتي:
(يحمل الكرسي أربعة أملاك، لكل ملك أربعة وجوه، أقدامهم تحت الصَّخرة التي تحت الأرض السفلى مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل ارض مسيرة خمسمائة عام.
(ملك وجهه عَلَى صورة الإِنْسَان، وَهُوَ سيد الصور، وهو يسال الله الرزق للآدميين.
(وملك وجهه عَلَى صورة سيد الانعام- وهو الثور- يسال الله الرزق للبهائم.
(وملك وجهه عَلَى صورة سيد الطير- وَهُوَ النسر- وهو يسال الله الرزق للطير.
(وملك على صورة سيد السباع- وهو الأسد- وهو يسال الله الرزق للسباع) «32» .
وقد ساق مقاتل هذا الأثر بدون اسناد كما حذف الاسناد من جميع تفسيره الا نادرا.
وقد أورد الملطي «33» هذا الأثر مسندا الى وهب بن منبه، وهذا يؤكد انه من الاسرائيليات التي أخذها مقاتل عن اهل الكتاب.
وقريب من هذا الأثر حديث الأوعال، وفيه ان العرش يحمله ثمانية أوعال «34» ما بين ركبهم واظلافهم كما بين السماء والأرض.
__________
(28) الإدراج هو ان يزاد فى الحديث ما ليس منه، ومدرج المتن: هو ان يدخل فى حديث رسول الله (ص) شيء من كلام بعض الرواة فيتوهم من يسمع الحديث ان هذا الكلام منه» (الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ط 3 ص 74) .
(29) تفسير ابن كثير: 1/ 76. 77.
(30) المرجع السابق.
(31) هي الآية 255 من سورة البقرة.
(32) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث 1/ 43 ا، ب، وانظر تحقيقي له مجلد 1 ص 213.
(33) هو ابو الحسين محمد بن احمد الملطي المتوفى سنة 377 هـ. وقد ساق الأثر فى كتابه التنبيه والرد على اهل الأهواء والبدع ص 99 تحقيق محمد زاهد الكوثرى.
(34) الوعل هو التيس الجبلي.(5/222)
وهذا الحديث فيه علل قادحة تمنع من قبوله، وقد ساق الكوثرى سند حديث الأوعال ثم نقل عن احمد عن يحيى بن العلاء ان (فى سنده كذابا يضع الحديث) «35» .
وقال ابو حيان فى تفسير قوله تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ3»
، وذكروا فى صفات هؤلاء الثمانية اشكالا متكاذبة ضربنا عن ذكرها صفحا.
3- وجاء فى تفسير مقاتل للآية 258 من سورة البقرة، وهي: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
(بهت نمروذ الجبار فلم يدر بخلده ما يرد عَلَى إِبْرَاهِيم ثُمّ إن اللَّه عز وجل سلط على نمروذ بعوضة بعد ما أنجى الله إبراهيم من النار، فعضت شفته، فأهوى إليها فطارت فى منخره، فذهب ليأخذها فيستخرجها فدخلت فى خياشيمه، فذهب ليستخرجها فدخلت دماغه فعذبه الله عز وجل أربعين يومًا ثُمّ مات منها. وكان يضرب رأسه بالمطرقة فإذا ضرب سكنت البعوضة فإذا رفع عَنْهَا تحركت. فَقَالَ اللَّه سُبْحَانَهُ وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حَتَّى آتي بها- يعني الشمس- من قبل المغرب فيعلم من يرى ذَلِكَ أني أَنَا اللَّه قادر عَلَى ان افعل ما شئت) «37» .
4- وفى تفسير مقاتل للآية 259 من سورة البقرة وهي: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها.. الآية.
ذكر مقاتل ان اسم الشخص الذي مر على القرية عزيز، واسم القرية سابورا على شاطئ دجلة بين واسط والمدائن «38» ، فى قصة منقولة من الاسرائيليات، كما صرح بذلك الحافظ ابن كثير «39» .
__________
(35) الملطي فى التنبيه والرد ص 98، ومحمد زاهد الكوثرى فى معال (اسطورة الأوعال) العدد 41 من سنة 1359 هـ: مجلة الإسلام. ثم كتاب مقالات الكوثرى ص 308.
(36) سورة الحاقة الآية 17.
(37) تفسير مقاتل: 1/ 44 ا، وانظر تحقيقي له مجلد 1/ 216.
(38) تفسير مقاتل: 1/ 44 ا، ب، وانظر تحقيقي له مجلد 1 ص 124- 126.
(39) انظر مقدمة تفسير ابن كثير ص 4، وكتاب العمدة من تفسير ابن كثير اختصار وتحقيق احمد شاكر ص 14. ومنهج الامام محمد عبده فى تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاتة ص 137 مطابع الشعب سنة 1963 م، حيث يقول الامام محمد عبده: (ونسكت عن تعيين القرية كما سكت عنها القرآن..) (.. والقرآن لم يعين الزمان ولا المكان، والعبرة المقصودة لا تتوقف على تعيين هذه الجزئيات..) . [.....](5/223)
5- وفى تفسير الآيات 112، 113، 114 من سورة المائدة حيث يقول سبحانه: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ... والآيتين بعدها- ذكر مقاتل وصفا تفصيليا للمائدة منقولا عن اهل الكتاب «40» .
6- وفى تفسير قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا الأعراف الآية 143- يذكر مقاتل ان الجبل صار دكا اى قطعا على ستة فرق فوقع ثلاثة بأجبل مكة: ثبير، وغار ثور، وحزن، ووقع بالمدينة «ثلاثة» : رضوى، وورقان، وجبل أحد. فذلك قوله جعله دكا «41» .
7- وفى تفسير قوله تعالى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً «42» .
يقول مقاتل: ( ... وكتبه اللَّه عَزَّ وَجَلّ بيده. فكتب فيها إني أَنَا اللَّه الَّذِي لا إله إِلَّا أَنَا الرَّحْمَن الرحيم، لا تشركوا بي شيئًا، وَلا تقتلوا النَّفْس، وَلا تزنوا وَلا تقطعوا السبيل، وَلا تسبوا الوالدين، ووعظهم فِي ذَلِكَ. والألواح من زمرد وياقوت) «43» .
ويلاحظ فى هذا النص تاثر مقاتل بالاسرائيليات، ونقله أفكار المشبهة والمجسمة، عن اليهود.. قال الشهرستاني- فى الكلام على المشبهة- انهم اجروا الأحاديث الواردة فى ذلك على ما يتعارف فى صفات الأجسام «44» وزادوا فى الاخبار
__________
(40) تفسير مقاتل 1/ 112 ا. وانظر تحقيقي له مجلد 1 ص 518- 519 قال مقاتل: فنزلت من السماء «مائدة» عَلَيْهَا سمك طري وخبز رقاق وتمر. وذكروا ان عيسى عليه السلام قَالَ لأصحابه وهم جلوس فِي روضة هَلْ مَعَ أحد منكم شيء، فجاء شمعون بسمكتين صغيرتين وخمسة أرغفة، وجاء آخر بشيء من سويق، فعمد عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقطعهما صغارا وكسر الخبز فوضعها فلقا ووضع السويق، ثم توضأ وصلى ركعتين ودعا ربه عز وجل فالقى عَلَى أصحابه شبه السبات، ففتح القوم أعينهم وقد زاد الطعام حتى بلغ الركب، فقال عيسى للقوم كلوا وسموا اللَّه عَزَّ وَجَلّ وَلا ترفعوا، وأمرهم ان يجلسوا حلقا حلقا، فجلسوا فأكلوا حَتَّى شبعوا، وهم خمسة آلاف رَجُل وهذا ليلة الأحد ويوم الأحد، فنادى عِيسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أكلتم؟ قَالُوا نعم، قَالَ لا ترفعوا، قَالُوا لا نرفع فرفعوا فبلغ ما رفعوا من الْفَضْل أربعة وعشرين مكتلا فآمنوا عند ذلك بعيسى، وصدقوا به. ثُمّ رجعوا إلى قومهم اليهود من بني إِسْرَائِيل ومعهم فضل المائدة. فلم يزالوا بهم حَتَّى ارتدوا عن الإسلام، فكفروا بِاللَّه وجحدوا بنزول المائدة. فمسخهم اللَّه عَزَّ وَجَلّ وهم نيام خنازير، وليس فيهم صبي وَلا امراة. اهـ.
ونقول لمقاتل ما قاله الأستاذ الامام: (ان العبرة المقصودة من الآيات لا تتوقف على تعيين هذه الجزئيات) ، وان هذه التفاصيل لا سند لها من النقل او من العقل.
(41) تفسير مقاتل 1/ 136 ا، وانظر تحقيقي له مجلد 2/ 61.
ونقول لمقاتل: كلام الله غنى عن هذه الأشياء التي لا سند لها من العقل او النقل.
(42) الأعراف آية 145.
(43) تفسير مقاتل 1/ 136 اوانظر تحقيقي له مجلد 2/ 62- 63.
(44) انظر باب: مقاتل وعلم الكلام، والتشبيه عند مقاتل: 80- 84.(5/224)
أكاذيب وضعوها ونسبوها الى النبي صلى الله عليه وسلم، وأكثرها مقتبس من اليهود، فان التشبيه فيهم طباع حتى قالوا فى الله تعالى اشتكت عيناه فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوح حتى رمدت عيناه، وان العرش ليئط من تحته كاطيط الرحل الجديد)
وروى المشبهة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لقيني ربى فصافحني وكافحنى، ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله) «45» .
ويقول فى موضع آخر (ولقد كان التشبيه صرفا خالصا فى اليهود لا فى كلهم، بل فى القرائين منهم، إذ وجدوا فى التوراة ألفاظا كثيرة تدل على ذلك) «46» .
8- وفى تفسير مقاتل للآية 29 من سورة الرعد، وهي: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ. يقول طُوبى لَهُمْ يعنى حسنى لهم وهي بلغة العرب. (وطوبى شجرة في الجنة لو أن رجلا ركب فرسا أو نجيبة وطاف على ساقها لم يبلغ المكان الذي ركب منه حتى يقتله الهرم، ولو أن طائرا طار من ساقها لم يبلغ فرعها حتى يقتله الهرم، وكل ورقة منها تظل امة من الأمم، وعلى كل ورقة منها ملك يذكر الله تعالى، ولو أن ورقة منها وضعت في الأرض لأضاءت الأرض نورا كما تضيء الشمس، تحمل هذه الشجرة لهم ما يشاءون من ألوان الحلي والحلل، والثمار غير الشراب) «47» .
وإذا لاحظنا ان اسباب الضعف فى رواية التفسير بالمأثور ترجع الى اسباب ثلاثة هي كثرة الوضع فى التفسير، ودخول الاسرائيليات فيه، وحذف الأسانيد- قلنا ان وصف مقاتل للجنة لا يخرج عن ان يكون من الموضوعات، او مما نقله من الاسرائيليات، وزاد مقاتل انه حذف السند فوضع الشوك فى طريق تجريد التفسير من الموضوع والدخيل.
9- وقد تحدثت سورة الأنبياء عن ابراهيم عليه السلام فى الآيات 51- 73.
وذكرت ان ابراهيم حطم الأصنام، وجعلها قطعا، وترك الصنم الأكبر.
قال تعالى فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ الأنبياء/ 58.
ويقول مقاتل: (.. يعني أكبر الأصنام، فلم يقطعه وهو من ذهب ولؤلؤ، وعيناه ياقوتتان حمراوان تتوقدان في الظلمة، لهما بريق كبريق النار، وهو في مقدم البيت، وضع الفاس فى يدي الصنم الأكبر «لعلهم اليه يرجعون» اى يرجعون من عيدهم الى الصنم الأكبر) «48» .
__________
(45) الشهرستاني: الملل والنحل ص 37، 38.
(46) الشهرستاني، الملل والنحل ص 31، وانظر احمد أمين ضحى الإسلام: 1/ 336، 337 ط 7.
(47) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث: 1/ 189 ب، وانظر تحقيقي له مجلد 2/ 377.
(48) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث 2/ 15 ا. وانظر تحقيقي له مجلد 3/ 84.(5/225)
وإذا ذكرنا ان هذا الوصف للصنم الأكبر لم يرد فى القرآن ولا فى السنة الصحيحة- أدركنا انه من الموضوعات او من الاسرائيليات.
10- ونجد فى سورة النمل حديثا عن نبى الله سليمان وبلقيس، وان بلقيس أرسلت الى سليمان هدية تختبره بها. قال تعالى فى حكاية ما قالته بلقيس: وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ النمل/ 35.
ويقول مقاتل فى وصف هذه الهدية: (.. فأرسلت بهدية مع الوفد عليهم المنذر بن عمرو، والهدية مائة وصيف ووصيفة، وجعلت للجارية قصة أمامها وقصة مؤخرها، وجعلت للغلام قصة أمامه وذؤابة وسط رأسه، وألبستهم لباسا واحدا، وبعثت بحقة فيها جوهرتان، إحداهما مثقوبة، والأخرى غير مثقوبة، وقالت للوفد إن كان نبيا فسيميز بين الجواري والغلمان، ويخبر بما فى الحقة، فلما انتهت إلى سليمان عليه السلام، ميز بين الوصفاء والوصائف «49» ، وحرك الحقة، وجاء جبريل عليه السلام فأخبره بما فيها، فقيل له: أدخل في المثقوبة خيطا من غير حيلة إنس ولا جان، واثقب الأخرى من غير حيلة إنس ولا جان، وكانت الجوهرة المثقوبة معوجة الثقب فاتته دودة تكون فى الفضفضة وهي الرطبة، فربط في مؤخرها خيطا، فدخلت الجوهرة حتى أنفذت الخيط إلى الجانب الآخر فجعل رزقها فى الفضفضة وجاءت الأرضة فقالت لسليمان اجعل رزقي في الخشب والسقوف والبيوت قال: نعم فثقبت الجوهرة، فهذه حيلة من غير إنس ولا جان. وسألوه ماء لم ينزل من السماء ولم يخرج من الأرض فامر بالحيل فأجريت حتى عرقت، فجمع ماء العرق فى شيء حتى صفا، وجعل فى قداح الزجاج، فعجب الوفد من عمله وجاء جبريل عليه السلام فأخبره بما في الحقة، فأخبرهم سليمان بما فيها، ثم رد سليمان الهدية وقال للوفد: «أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ» يقول فمما أعطاني الله تعالى من الإسلام والنبوة والملك والجنود خيرا مما أعطاكم) «50» .
وقد نقل النسفي فى تفسير الآية 35 من سورة النمل هذه، كلام مقاتل ولم يعقب عليه بكلمة واحدة، (مع ان وصف الهدية هذا أشبه ما يكون بقصة نسجها خيال شخص مسرف فى تخيله) «51» .
وعند ما فسر ابو السعود هذه الآية- نقل كلام مقاتل مع شيء من التغيير، فقد ذكر مقاتل ان هدية بلقيس كانت مائة وصيف ووصيفة. اما ابو السعود فقال:
(روى انها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهم الأسوار
__________
(49) يقصد بالوصفاء الذكور، وبالوصائف الإناث.
(50) تفسير مقاتل 2/ 59 ا، وانظر تحقيقي له مجلد 3/ 304- 306.
(51) التفسير والمفسرون: 1/ 208.(5/226)
والاطواق..) «52» الى آخر ما ذكره من هذه القصة. ولم يعقب عليها بكلمة واحدة.
ولعله اكتفى بان بدا القصة بكلمة روى للاشارة الى ضعفها.
ومن هذا نرى ان مقاتلا سن سنة سيئة للمفسرين حين وضع هذه الاسرائيليات فى تفسيره لكتاب الله.
11- وفى أول سورة فاطر يقول سبحانه: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ ويقول مقاتل: (وذلك أن في الجنة نهرا يقال له نهر الحياة، يدخله كل يوم جبريل عليه السلام، بعد ثلاث ساعات من النهار يغتسل فيه، وله جناحان ينشرهما في ذلك النهر، وجناحه سبعون ألف ريشة، فيسقط من كل ريشة قطرة من ماء، فيخلق الله جل وعز منها ملكا يسبح الله تعالى إلى يوم القيامة، فذلك قوله عز وجل يَزِيدُ فِي الخلق ما يشاء) اهـ.
وغنى عن البيان ان هذا الكلام من الاسرائيليات التي لا يقبلها العقل، ولم يرد بها اثر صحيح، فما أجدر تفسير كتاب الله ان ينقى منها.
12- اما الكلام عن أنبياء الله ورسله واتهامهم بالنقائص فقد نقله مقاتل عن التوراة وغيرها من الكتب السابقة بعد ان عبث بها اليهود والنصارى.
يقول الله تعالى: وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ ص/ 21، ويقول مقاتل فى تفسيرها: (وذلك أن داود قال: رب اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، فوددت أنك أعطيتني من الذكر مثل ما أعطيتهما. فقال له: انى ابتليتهما بما لم أبتلك به، فان شئت ابتليتك وأعطيتك مثل ما أعطيتهما من الذكر، قال:
نعم، قال اعمل عملك، فمكث داود عليه السلام ما شاء الله عز وجل يصوم نصف الدهر، ويقوم نصف الليل، إذ صلى في المحراب فجاء طير حسن ملون فوقع إليه، فتناوله فصار إلى الكوة، فقام ليأخذه، فوقع الطير في بستان، فأشرف داود فرأى امرأة تغتسل، فتعجب من حسنها، وأبصرت المرأة ظله فنفضت شعرها فغطت جسمها، فزاده ذلك بها عجبا، ودخلت المرأة منزلها وبعث داود غلاما فى اثرها.
فإذا هي بتسامع امراة أوريا بن حنان، وزوجها في الغزو في بعث البلقاء الذي بالشام، مع ثواب بن صوريا ابن أخت داود عليه السلام، فكتب داود إلى ابن أخته بعزيمة أن يقدم أوريا فيقاتل أهل البلقاء ولا يرجع حتى يفتحها أو يقتل فقدمه فقتل رحمة الله عليه، فلما انقضت عدة المرأة تزوجها داود، فولدت له سليمان بن داود، فبعث الله عز وجل إلى داود عليه السلام ملكين ليستنقذه بالتوبة، فاتوه يوم راس
__________
(52) تفسير ابى السعود: 4/ 131. وابو السعود هو محمد بن محمد بن مصطفى العمادي الحنفي المولود سنة 892 هجرية، بقرية قريبة من القسطنطينية والمتوفى بمدينة القسطنطينية سنة 982 هـ واسم تفسيره (ارشاد العقل السليم الى مزايا الكتاب الكريم) وشهرته تفسير ابى السعود.(5/227)
المائة فى المحراب، وكان يوم عبادته، والحرس حوله، فلما رآهما داود قد تسوروا «53» المحراب فزع داود وقال في نفسه: لقد ضاع ملكي حين يدخل على بغير اذن ...
فقال أحدهما (إِنَّ هذا أَخِي) يعني الملك الذي معه (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) يعنى تسع وتسعون امراة وهكذا كن لداود، فطلب منى ان اضم امراتى اليه..
فقال داود (لَقَدْ ظَلَمَكَ) بهذا الطلب. ثم صعد الملكان- فعلم ان الله ابتلاه بذلك) «54» اهـ.
وهذه القصة التي ذكرها مقاتل عن داود عليه السلام نقدها النسفي، وبين انها كذب وافتراء على أنبياء الله حيث قال:
(وما يحكى من ان داود بعث مرة بعد مرة أوريا الى غزوة البلقاء، وأحب ان يقتل ليتزوجها- يعنى زوجة أوريا- فلا يليق من المتسمين بالصلاح من افناء الناس فضلا عن بعض أعلام الأنبياء، وقال على رضى الله عنه من حدثكم بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين جلدة، وهو حد الفرية على الأنبياء) «55» أهـ.
وقد نقل الخازن «56» فى تفسيره قصة داود وامراة أوريا كما ذكر قصصا عن داود أشبه ما يكون بالخرافة، ولكنه عقب على هذا القصص بقوله:
(فصل فى تنزيه داود عليه الصلاة والسلام عما لا يليق به وينسب اليه) وفند فى هذا الفصل كل ما ذكره مما يتنافى مع عصمة نبى الله داود عليه السلام «57» .
ومما يؤكد ان كتب اليهود هي التي وصمت الأنبياء بالنقائص، واتهمتهم بالزنا وشرب الخمر وارتكاب الكبائر- ما ورد فى الاصحاحين الحادي عشر والثاني عشر من سفر صموئيل الثاني:
ان داود زنى بامراة (أوريا) المجاهد المؤمن وحملت من ذلك الزنا فخشي داود الفضيحة. وأراد تمويه الأمر على أوريا، فطلبه وامره ان يدخل بيته، فأبى أوريا
__________
(53) فى الأصل تسوروا. [.....]
(54) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث 2/ 116 ا، ب. وانظر تحقيقي له: 3/ 640- 641.
(55) تفسير النسفي: 4/ 29- 30. والنسفي هو ابو البركات عبد الله بن احمد بن محمود النسفي الحنفي: نسبة الى نسف من بلاد ما وراء النهر توفى سنة 701 هـ. ودفن بايذج بكرستان. وله عدة تصانيف فى الفقه والأصول وغيرهما. ومن تصانيفه مدارك التنزيل وحقائق التأويل وهو تفسير متداول بين الناس.
(56) هو علاء الدين ابو الحسن على بن محمد بن ابراهيم بن عمر بن خليل الشيحى البغدادي الشافعي الصوفي المعروف بالخازن، ولد ببغداد سنة 678 هـ. وتوفى بمدينة حلب سنة 741 هـ.
وقد ترك كتبا جمة فى فنون مختلفة منها تفسيره المسمى (لباب التأويل فى معاني التنزيل) وشهرته تفسير الخازن.
(57) تفسير الخازن: 6/ 38- 42.(5/228)
وقال: سيدي (يوآب) وعبيد سيدي نازلون على وجه الصحراء، وانا آتى الى بيتي لآكل واشرب واضطجع مع امراتى، وحياتك لا افعل هذا الأمر.
فلما يئس داود من التمويه اقامه عنده اليوم ودعاه فأكل عنده وشرب واسكره، وفى الصباح كتب داود الى يوآب: اجعلوا أوريا فى وجه الحرب الشديدة، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت. وقد فعل يوآب ذلك فقتل أوريا، وأرسل الى داود يخبره بذلك، فضم داود امراة أوريا الى بيته وصارت امراة له بعد انتهاء مناحتها على بعلها.
وفى الاصحاح الاول من إنجيل متى: ان سليمان بن داود ولد من تلك المراة.
(فتامل كيف تجرا هذا الواضع على الله؟ وكيف تصح نسبة هذا الفعل الى من له ادنى غيرة وحمية، فضلا عن انه نبى من أنبياء الله؟ وكيف يجتمع هذا مع ما فى إنجيل لوقا من ان المسيح يجلس على كرسي داود أبيه؟!!) «58» .
وأظنك ترى الشبه واضحا بين ما ورد فى كتب العهد القديم: فى سفر صمويل وما ورد فى تفسير مقاتل، فليس هناك فارق سوى ان سفر صمويل اتهم داود بالزنا مع امراة أوريا وان مقاتل جعله يحتال على قتل زوجها ليظفر بها، وكلاهما افتراء على أنبياء الله.
وسفر صمويل من اسفار العهد القديم.
وفى العهد القديم غير التوراة سفر يوشع. ثم سفر القضاة، ثم اربعة اسفار الملوك: الاول فى اخبار شمويل او سمويل او صمويل، والثاني فى ذكر داود والثالث والرابع فى سليمان بن داود ومن ملك بنى إسرائيل من بعده «59» .
13- ويطول بنا القول لو ذهبنا نذكر جميع الاسرائيليات التي أوردها مقاتل وقبلها فى تفسيره، ولكني أحب ان أنبه على ان كثيرا من المفسرين قد اغتروا بوجود هذه القصص فى كتب العهد القديم والجديد، فنقلوه بجوار تفسيرهم للاستشهاد لا للاعتضاد، فجاء من بعدهم وظنها من تفسير القرآن. او انها راى للمفسر فى الآية.
ومع ورود النهى الشديد عن تصديق اهل الكتاب او تكذيبهم، فيما لا نعرف صحته من باطله، ووجوب تكذيبهم فيما نعرف كذبه، وتصديقهم فيما نعرف صدقه- رأينا بعض المفسرين يصدقونهم فيما صح عندنا كذبه، وما ثبت لنا عن المعصوم صلى الله عليه وسلم انه باطل وافتراء.
__________
(58) ابو القاسم الموسوي الخوئى: البيان فى تفسير القرآن: 1/ 38 المطبعة العلمية بالنجف.
(59) ضحى الإسلام: 1/ 329 ط 7.(5/229)
- 7- راى ابن كثير فى الاسرائيليات
(ا) قال ابن كثير فى تفسيره لاول سورة ق (وقد روى عن بعض السلف انهم قالوا: ق جبل محيط بجميع الأرض، يقال له جبل قاف!! وكان هذا- والله اعلم- من خرافات بنى إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس، لما راى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب، وعندي ان هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاف بعض زنادقتهم، يلبسون به على الناس امر دينهم، كما افترى فى هذه الامة- مع جلالة قدر علمائها وحفاظها وأئمتها- أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وَمَا بالعهد من قدم فكيف بامة بنى إسرائيل، مع طول المدى، وقلة الحفاظ والنقاد فيهم، وشربهم الخمور، وتحريف علمائهم الكلم عن مواضعه، وتبديل كتب الله وآياته. وانما أباح الشارع الرواية عنهم فى قوله: «وحدثوا عن بنى إسرائيل ولا حرج» - فيما قد يجيزه العقل فاما فيما تحيله العقول، ويحكم فيه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه- فليس من هذا القبيل والله اعلم. وقد اكثر كثير من السلف من المفسرين وكذا طائفة كثيرة من الخلف. من الحكاية عن كتب اهل الكتاب فى تفسير القرآن المجيد، وليس بهم احتياج الى اخبارهم ولله الحمد والمنة.
حتى ان الامام أبا محمد عبد الرحمن بن ابى حاتم الرازي رحمة الله عليه أورد هاهنا أثرا غريبا- لا يصح سنده- عن ابن عباس رضى الله عنهما، فقال حدثنا ابى، قال حدثت عن محمد بن إسماعيل المخزومي، حدثنا ليث بن ابى سليم، عن مجاهد، عن ابن عباس رضى الله عنهما قال.
خلق الله تبارك وتعالى من وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها، ثم خلق من وراء ذلك البحر جبلا يقال له قاف، سماء الدنيا مرفوعة عليه.. الحديث «60» .
قال ابن كثير: واسناد هذا الحديث فيه انقطاع. والذي رواه على بن ابى طلحة عن ابن عباس رضى الله عنهما فى قوله عز وجل (ق) هو اسم من اسماء الله عز وجل.
والذي ثبت عن مجاهد انه حرف من حروف الهجاء كقوله تعالى (ص- ن- حم- طس- الم) ونحو ذلك. فهذه تبعد ما تقدم عن ابن عباس رضى الله عنهما) «61» .
(ب) وتوالت حملات الحافظ ابن كثير على هذه الاسرائيليات وانتقد ما أورده المفسرون من روايات إسرائيلية فى تفسير آيات معينة من القرآن الكريم.
__________
(60) ذكر ابن كثير تمام الحديث حتى عد سبع ارضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل وسبع سموات (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ) . انظر تفسير ابن كثير: 4/ 221.
(61) تفسير ابن كثير: 4/ 221.(5/230)
فعند تفسيره للآية 50 من سورة الكهف «62» - بعد ان ذكر أقوالا فى (إبليس) واسمه ومن اى قبيل هو؟! - قال: (وقد روى فى هذا آثار كثيرة عن السلف.
وغالبها من الاسرائيليات التي تنقل لينظر فيها، والله اعلم بحال كثير منها، ومنها ما يقطع بكذبه لمخالفته للحق الذي بأيدينا) «63» .
(ج) وقد ذكر مقاتل فى تفسيره للآيات 74- 80 من سورة الانعام، قصة ابراهيم عليه السلام، وان أباه حفر له سربا فى الأرض بعيدا عن الناس، فلما راى ابراهيم الكواكب لاول مرة قال للكوكب هذا ربى «64» .
وذكر ابن كثير عند تفسيره للآيات 51- 56 من سورة الأنبياء قصة ابراهيم مع أبيه، ونظره الى الكواكب ثم قال: (وما يذكر من الاخبار عنه فى إدخال أبيه له فى السرب وهو رضيع، وانه خرج به بعد ايام، فنظر الى الكواكب والمخلوقات فتبصر فيها، وما قصه كثير من المفسرين وغيرهم- فعامتها أحاديث بنى إسرائيل) «65» .
__________
(62) هي قوله تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ، أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا.
(63) ابن كثير: 3/ 89، ويزيد ابن كثير قائلا: (وفى القرآن غنية عن كل ما عداه من الاخبار المتقدمة، لأنها لا تكاد تخلو من تبديل، وزيادة ونقصان. وقد وضع فيها أشياء كثيرة. وليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عنها تحريف الغالين وانتحال المبطلين- كما لهذه الامة من الائمة والعلماء، والسادة والأتقياء، والبررة والنجباء، من الجهايذة النقاد والحفاظ الجياد، الذين دونوا الحديث وحرروه، وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه، من منكره وموضوعه ومتروكه ومكذوبه، وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين وغير ذلك من اصناف الرجال. كل ذلك صيانة للجناب النبوي والمقام المحمدي وخاتم الرسل وسيد البشر- صلى الله عليه وسلم- ان ينسب اليه كذب، او يحدث عنه بما ليس منه. فرضي الله عنهم وأرضاهم. وجعل جنات الفردوس مأواهم. وقد فعل) .
(64) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث 1/ 119، وانظر تحقيقي له 1/ 569- 573. عند تفسيره لقوله تعالى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً.. الآيات. وقد ذكر مقاتل قصة طويلة فى تفسيره هذه الآية منها: (ان الكهنة قالوا لنمروذ الجبار انه يولد فى هذه السنة غلام يفسد آلهة الأرض، فامر النمروذ بقتل كل غلام يولد فى هذه السنة، فلما ولد ابراهيم وضعه ابو فى السرب خوفا عليه، ونما ابراهيم نماء سريعا ثم أخذ يبحث عن الإله، فلما جن الليل عليه دنا من باب السرب فراى الزهرة، فقال هذا ربى، ثم قال ذلك للقمر ثم للشمس) .
(65) تفسير ابن كثير: 3/ 181، عند تفسيره لقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ والآيات التي تليها من سورة الأنبياء من آية 74- 80.
ثم عنق ابن كثير بحديث طويل عن الاسرائيليات وأقسامها الثلاثة وهي:
1- ما يعلم صدقه فنقبله.
2- ما يعلم كذبه فترفضه.
3- ما لا يعلم صدقه من كذبه فنتوقف عنه، فلا تصدقه ولا نكذبه.(5/231)
(ذ) وفى تفسير الآية 102 من سورة البقرة ورد ذكر هاروت وماروت. وأورد مقاتل فى تفسيره قصة نقلها عن بنى إسرائيل «66» .
اما ابن كثير فانه بين فساد هذا المسلك من المفسرين فقال:
وقد روى فى قصة هاروت وماروت عن جماعة من التابعين، كمجاهد والسدى والحسن البصري وقتادة وابى العالية والربيع بن انس ومقاتل بن حيان وغيرهم، وقصها خلق من المفسرين، من المتقدمين والمتأخرين، وحاصلها راجع فى تفصيلها الى اخبار بنى إسرائيل، إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الاسناد الى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا اطناب فنحن نؤمن بما ورد فى القرآن على ما اراده الله تعالى، والله اعلم بحقيقة الحال «67» .
(هـ) وعند تفسير الآيات 41- 44 من سورة النمل أورد مقاتل كثيرا من الاسرائيليات عن بلقيس ملكة سبا «68» .
اما ابن كثير فقد ذكر طرفا من هذه الاسرائيليات ثم علق عليها بقوله:
(والأقرب فى مثل هذه السياقات انها متلقاة عن اهل الكتاب، ومما وجد فى صحفهم، كروايات كعب ووهب، سامحهما الله فيما نقلاه الى هذه الامة من اخبار بنى إسرائيل، من الاوابد والغرائب والعجائب، مما كان وما لم يكن، ومما حرف وبدل ونسخ. وقد أغنانا الله سبحانه عن ذلك بما هو أصح منه وانفع وأوضح وابلغ. ولله الحمد والمنة) «69» .
(و) وتعقيب ابن كثير فى تفسيره من هذه الاسرائيليات بالنقد والتمحيص بعد روايتها. كما فى تفسيره للآية 46 من سورة العنكبوت «70» ، وللآية 190 من سورة الأعراف، وللآية 79 من سورة البقرة. حيث أورد كلمة لابن عباس رواها البخاري فى صحيحه وهي قول ابن عباس: (يا معشر المسلمين كيف تسألون اهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي انزل الله على نبيه أحدث اخبار الله، تقرءونه محضا لم يشب!
__________
(66) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث 1/ 19 ا، وانظر تحقيقي له مجلد 1/ 127، قال مقاتل:
كان هاروت وماروت من الملائكة مكانهما فى السماء واحد وكان ابو صالح يروى عن الحسن انهما هبطا بالسحر ابتلاء من الله لخلقه ...
(67) انظر تفسير ابن كثير للآية 102 من سورة البقرة الجزء الاول من ص 133- 148. [.....]
(68) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث 2/ 59 وانظر تحقيقي له مجلد 3/ 304- 308.
(69) تفسير ابن كثير: 3/ 366.
(70) فقد روى ابن كثير حديث: (إذا حدثكم اهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم) ثم قال (وليعلم ان اكثر ما يتحدثون به غالبه كذاب وبهتان، لأنه قد دخله تحريف وتغيير وتاويل. وما اقل الصدق فيه ثم ما اقل فائدته لو كان صحيحا)(5/232)
وقد حدثكم الله ان اهل الكتاب قد بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا. أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟ ولا والله ما رأينا منهم أحدا قط سألكم عن الذي انزل إليكم) .
وهذه الموعظة القوية الرائعة، رواها البخاري فى ثلاثة مواضع من صحيحه «71» .
- 8- الاسرائيليات فى كتب التفسير بعد مقاتل
نمت الاسرائيليات واتسعت فى كتب التفسير وخاصة المطولة التي تعتمد المأثور منذ كتب الطبري والبغوي والخازن وابن كثير والقرطبي وغيرهم.
ورغم تحذير بعض هؤلاء المفسرين من هذه الاسرائيليات ونقدهم لبعضها فى كتبهم كما قدمنا عن ابن كثير، نراهم عند التطبيق قد حشدوا كثيرا من هذه الروايات الاسرائيلية، خصوصا عند توضيح جزئيات قصص القرآن، وعند ذكر الشخصيات والاحداث، وكيفياتها ووقائعها وظروفها.
ومعظم هذه الروايات معزوة الى كعب الأحبار، وعبد الله بن سلام وثعلبة ومحمد القرطبيين، وابن جريج، وابن نوف، وأبناء منبه، وغيرهم من مسلمي اهل الكتاب وخاصة مسلمي اليهود.
وابن خلدون فى مقدمته يذكر من اسباب الاستكثار من هذه المرويات اعتبارات اجتماعية، ودينية، اغرت المسلمين بهذا الأخذ والنقل، الذي اتسعت له كتب التفسير المروي فاشتملت على الغث والسمين، والمقبول والمردود، فيعد ابن خلدون من الاعتبارات الاجتماعية غلبة البداوة والامية على العرب وتشوقهم لمعرفة ما تتشوق اليه النفوس البشرية فى اسباب المكونات وبدء الخليقة واسرار الوجود، وهم انما يسألون فى ذلك اهل الكتاب قبلهم، ثم يذكر من الاعتبارات الدينية التي سوغت عنده هذا التلقي الكثير لمثل تلك المرويات فى تساهل وعدم تحر للصحة، ان مثل هذه المنقولات ليست مما يرجع الى الأحكام فيتحرى فيها الصحة التي يجب بها العمل.
فتساهل المفسرون فى مثل ذلك، وملئوا كتبهم بمنقولات عن عامة اهل التوراة الذين كانوا بين العرب وكانوا بداة مثلهم، لا يعرفون من ذلك الا ما تعرفه العامة من اهل الكتاب، ولا تعلق لها بالاحكام الشرعية التي يحتاط لها «72» .
والحق ان هذه الروايات التي امتلأت بها كتب التفسير المذكورة وغير المذكورة
__________
(71) انظر عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير، اختصار وتحقيق احمد شاكر: 1/ 19. والمواضع الثلاثة التي روى فيها البخاري موعظة ابن عباس هي ص 215 ج 5، ص 82، 414 ج 13 من فتح الباري.
(72) مقدمة ابن خلدون ص 383، 384 بتصرف.(5/233)
والمطبوعة وغير المطبوعة- قد استغرقت حيزا كبيرا، ان لم يكن الحيز الأكبر منها، وكادت تغطى على ما فى القرآن من مبادئ واحكام ووصايا، هي جوهر القرآن ومحكمه الذي فيه الهدى والذكر والموعظة والنور والفرقان، حتى كادت تشغل المسلمين وتستغرق تفكيرهم.
ولقد كان كثير من القصص والشخصيات القرآنية مما ذكر فى الكتب والاسفار التي كانت متداولة فى أيدي اهل الكتاب، ولم تكن هذه الكتب والاسفار مترجمة الى العربية، فكان اليهود يقرءونها بالعبرانية، ويفسرونها للسائلين بالعربية، ولم يكن لدى المسلمين الوسيلة للتاكد من صدقهم فى الترجمة او تحريفهم لها. ولذلك قال صلى الله عليه وسلم (لا تصدقوا اهل الكتاب ولا تكذبوهم) «73» .
ونحن نرجح ان جل ما روى عن مسلمة اهل الكتاب كان اجوبة على اسئلة من المسلمين عن جزئيات الاحداث والشخصيات والاعلام والمسائل القرآنية، وانهم كانوا يعزون اجوبتهم الى ما فى أيديهم من الاسفار، فيتقبله السامعون على علاته، ويرويه الرواة ويدونه المدونون، لأنه لا سبيل الى التحقق من صحته، بالنسبة للسائلين والرواة والمدونين، من اهل القرون الثلاثة الاولى.
ولا يمنع هذا، ان اهل الكتاب كانوا يسترسلون فى شرح الاجوبة والتعليق عليها من عند أنفسهم.
- 9- مسئولية المفسرين
ان المسئولية الاولى عن هذه الاسرائيليات التي ملئت بها كتب التفسير، لا تقع على عاتق اهل الكتاب وحدهم كما هو قائم فى الأذهان، وانما تقع على عاتق الرواة والمدونين القدماء، سواء الذين رووا ودونوا اجوبة اهل الكتاب وشروحهم لاول مرة فى كتب لم تصل إلينا، او الذين دونوها فى الكتب التي وصلت إلينا نقلا عن الكتب المتقدمة.
وكلهم مفروض فيه القدرة على تمييز الغث من السمين، والباطل من الحق، والكذب من الصدق، وعلى لمح ما فى هذه الروايات من غلو ومبالغات لا يصح كثير منها فى عقل او منطق او واقع، ولا يؤيدها اثر صحيح.
ولا شك ان هناك مفسرين وقفوا من بعض هذه الروايات موقف المنكر الناقد، غير ان الحق يقتضينا ان نقول ان هذا لم يكن شاملا ولا عاما، وان الناقدين والمفكرين أنفسهم رووا كثيرا منها فى مناسبات كثيرة بدون نقد او انكار.
__________
(73)
رواه البخاري عن ابى هريرة قال كان اهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تصدقوا اهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ الى ابراهيم وإسماعيل واسحق وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ احد منهم ونحن له مسلمون) .(5/234)
الدارس لكتب التفسير القديمة يجد بيانات مسهبة حول القصص والشخصيات والاعلام والاحداث القرآنية، معزوزة الى بعض اصحاب رسول الله وتابعيهم، من غير مسلمي اهل الكتاب: أمثال عبد الله بن مسعود، وابن عباس، وابى هريرة، وابى ذر، وعبد الله بن جابر، ومسروق، ومجاهد، وعكرمة، والحسن، والضحاك وسعيد بن جبير، وزيد بن اسلم، وعطاء، وطاوس، وابن اسحق، وغيرهم. ويجد فى هذه البيانات اغرابا ومبالغة وخيالا وبعدا عن المنطق والعقل والإمكان.
ومنها ما رووه بصيغة أحاديث نبوية غير واردة فى كتب الأحاديث المعتبرة، بحيث تكون تسمية البيانات جميعها بالاسرائيليات ليس صحيحا، وانما هو من قبيل التغليب.
ومن هذه البيانات ما يدور حول قصص وشخصيات وأعلام واحداث قرآنية ليست واردة فى اسفار اهل الكتاب، وبخاصة اسفار العهد القديم، مثل قصص هود وقومه عاد فى الأحقاف، وتبع، وصالح وقومه ثمود فى الحجر، وشعيب وقومه فى مدين، واصحاب الايكة واهل الرس، ولقمان، وذى القرنين، واصحاب الكهف، وغير ذلك مما هو عربي او غير اسرائيلى بالاضافة الى البيانات التي تساق على هامش قصص ابراهيم عليه السلام، والتي لم تذكر فى الاسفار «74» .
والامثلة على هذا القصص لا حصر لها فى كتب التفسير، ومن ذلك ما يروى عن قتادة فى سياق إنشاء ابراهيم بيت الله مع إسماعيل «75» ، من ان آدم حين هبط الى الأرض كان رأسه فى السماء ورجلاه فى الأرض، وانه طاف بالبيت فى مكة، ومد الله له فى خطوه فكان بين كل خطوتين مفازة، فطاف آدم بالبيت، وطاف به من بعده الأنبياء «76» .
ومن ذلك ما يروى عن السدى عن زيد بن اسلم فى سياق المناظرة بين ابراهيم عليه السلام والملك نمروذ. وهذه القصة قد وردت فى تفسير مقاتل «77» ، كما وردت فى تفسير ابن كثير «78» ، وفيها ان الله سلط العوض على النمروذ وجنوده
__________
(74) محمد عزة دروزة، مقال بمجلة الوعى الإسلامي (بالكويت) ، السنة الثانية عدد 19 رجب سنة 1386 هـ، اكتوبر 1966 م. والسيد ابو القاسم الموسوي الخوئى، البيان فى تفسير القرآن:
1/ 35- 40 المطبعة العلمية بالنجف.
(75) انظر تفسير ابن كثير للآية 127 من سورة البقرة: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ... الآية) .
(76) انظر تفسير ابن كثير للآية 127 من سورة البقرة.
(77) تفسير مقاتل للآية 258 من سورة البقرة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ ... الآية: 1/ 215- 216.
(78) تفسير ابن كثير للآية 258 من سورة البقرة.(5/235)
وقت طلوع الشمس فلم يروا عين الشمس، وسلطها عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم وتركتهم عظاما بادية، ودخلت واحدة منها فى منخري الملك فمكثت فيها اربعمائة سنة يعذبه الله بها، حتى كان يضرب رأسه بالمرزبة فى هذه المدة، ثم أهلكه الله بها «79» .
على ان هناك وجها آخر لهذه المسالة، فنحن لا نعتقد ان هذه البيانات العجيبة الغريبة سواء منها ما روى عن اصحاب رسول الله وتابعيهم من غير مسلمي اهل الكتاب، ام ما روى عن مسلمي اهل الكتاب، مخترعة من قبل الذين أوردوها جوابا عن سؤال او توضيحا لمسالة من المسائل او قصة من القصص، لان هذا يقتضى ان يكونوا جميعهم كذابين مفترين.
ونحن ننزههم عن ذلك، ونرجح ان هذه البيانات مما كان متداولا فى بيئتهم.
ومن المحتمل جدا ان تكون واردة فى كتب وقراطيس لم تصل إلينا. كما ان من المحتمل ان بعضها كان من بعض الناس، ثم لفقوا لها الأسانيد.
وعلماء الحديث يذكرون ان من اسباب رفض الحديث ان يكون به علة قادحة تمنع من قبوله.. وكم فى هذه الاسرائيليات من شذوذ وعلل قادحة.
كثير من اخبار الأنبياء وقصصهم ورد ذكره فى القرآن، كما ورد فى كتب العهد القديم والجديد.
ومع ذلك انفرد القرآن باخبار عن بعض هؤلاء الأنبياء لم ترد فى الاسفار المتداولة اليوم، مثل المحاورة بين الله والملائكة فى صدد خلق آدم وخلافته. وامر الله الملائكة بالسجود له، وامتناع إبليس وتخلف احد أبناء نوح عن الركوب فى السفينة وغرقه.
وتوبة آدم وقبول الله لها. وقصص ابراهيم مع أبيه وقومه، واسكان ابراهيم بعض ذريته فى منطقة المسجد الحرام، وبنائه البيت هو وإسماعيل، وايمان سحرة فرعون. ومؤمن آل فرعون، وصنع داود للدروع، وحكومة داود وسليمان فى الحرث الذي نفشت فيه غنم القوم، وتسخير الخيل والطير لداود، وتسخير الجن والريح والطير لسليمان، وبناء الجن له التماثيل والمحاريب، وغوصهم له، وتقييده إياهم بالاغلال، وقصة الهدهد وملكة سبا وعرشها، والصرح الممرد من القوارير، وإحضار الذي عنده العلم عرشها فى لمح البصر. والجسد الملقى على عرشه والصافنات الجياد، ومائدة عيسى وكلامه فى المهد وغير ذلك بكثير «80» .
__________
(79) المرجع السابق.
(80) انظر عبد الوهاب النجار: قصص الأنبياء، وكتاب الإنجيل والصليب تأليف الأب عبد الأحد داود الآشورى العراقي، نقله من التركية الى العربية مسلم عراقي طبع فى القاهرة 1351 هـ وبه تعليقات-(5/236)
وقد وردت أشياء كثيرة فى القرآن مغايرة قليلا او كثيرا لما ورد فى الاسفار مثل نسبة صنع العجل للسامري فى القرآن بدلا من هارون فى الاسفار، وشق قميص يوسف وهمه بامراة العزيز، ومثل ما جاء مباينا للقرآن فى قصص يونس وأيوب وزكريا ومريم وأمها وغير ذلك كثير ايضا.
(ونحن نرجح انه كانت هناك اسفار وقراطيس لم تصل إلينا فيها ما هو المتطابق مع ما جاء فى القرآن، وانه كان فى هذه الاسفار والقراطيس التي لم تصل إلينا كثير من البيانات التي تروى عن مسلمي اهل الكتاب، وعن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتابعيهم من غير مسلمي اهل الكتاب.
وفى الاسفار المتداولة اليوم إشارات الى اسفار كانت موجودة فى القديم ثم فقد تداولها فى هذه الأيام.
من جملتها توراة موسى التي كتبها بيده، ودون فيها تبليغات الله تعالى ووصاياه، والألواح، ومدونة وصفت بالنشيد الرباني، واسفار عديدة اخرى: مثل اسفار ياشر وعدى واخيلو وشيلو، واخبار ايام كل ملك من ملوك إسرائيل ويهوذا.. إلخ، مما يمكن ان يكون مثالا يقاس عليه) «81» .
وقد ذكر القرآن ان اليهود حرفوا التوراة «82» ، وكتموا بعض ما انزل الله «83» ، وأضافوا الى التوراة ما ليس منها «84» ، وجحدوا ما انزل الله كفرا وعنادا، قال تعالى:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً، وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ «85» .
__________
هامة، انظر صفحات 141، 160 هامش كتاب الإنجيل والصليب المذكور، وانظر مجلة الوعى الإسلامي عدد 19 رجب سنة 1386 هـ مقال محمد عزة دروزة. [.....]
(81) المراجع السابقة، وانظر: «ابو القاسم الموسوي الخوئى: البيان فى تفسير القرآن:
1/ 39» .
(82) فى الآية 75 من سورة البقرة. أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
(83) فى الآية 76 من سورة البقرة.
(84) فى الآية 79 من سورة البقرة.
(85) الآية 91 من سورة الانعام.(5/237)
- 10- اعتذار الطوفى عن المفسرين
وقد اعتذر الطوفى «86» عن المفسرين فى ملء تفاسيرهم بالاسرائيليات (بان كثيرا من المفسرين قد دونوا من الاسرائيليات ما يظنون به ان له نفعا لتبين بعض النواحي فى انباء القرآن الحكيم، من معارف عصرهم، المتوارثة من اليهود وغيرهم، تاركين امر غربلتها لمن بعدهم من النقاد، حرصا على إيصال تلك المعارف الى من بعدهم، لاحتمال ان يكون فيها بعض فائدة فى إيضاح ما أجمل من الأنباء فى الكتاب الكريم، لا لتكون تلك الروايات حقائق فى نظر المسلمين، يراد اعتقاد صحتها والأخذ بها على علاتها بدون تمحيص، فلا تثريب على من دون الاسرائيليات بهذا القصد) .
ذكر الطوفى ذلك فى كتابه (الإكسير فى قواعد التفسير) ، ثم ضرب لذلك مثلا بصنيع رواة الحديث حين عنوا بادئ ذى بدء بجمع الروايات كلها تاركين امر التمييز بين صحاحها وضعافها لمن بعدهم من النقاد «87» .
وذكر ابن كثير فى تفسيره كلاما قريبا من كلام الطوفى «88» .
بيد ان المحقق احمد محمد شاكر فند كلام ابن كثير ورفض اعتذاره عن المفسرين، وعاب على ابن كثير إيراده كثيرا من الاسرائيليات والأحاديث الواهية فى تفسيره، رغم النقد الشديد الذي وجهه ابن كثير لمن يفعل ذلك، الا انه عند التطبيق خانه التوفيق.
يقول احمد محمد شاكر رحمه الله: (ان إباحة التحدث عن بنى إسرائيل شيء، وذكر ذلك فى تفسير القرآن وجعله قولا او رواية معنى الآيات، او فى تعيين ما لم يعين فيها او فى تفصيل ما أجمل فيها- شيء آخر!، لان فى اثبات مثل ذلك بجوار كلام الله ما يوهم ان هذا الذي لا نعرف صدقه ولا كذبه مبين لمعنى قول الله سبحانه، ومفصل لما أجمل فيه! وحاشا لله ولكتابه من ذلك. وان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اذن بالتحدث عنهم- أمرنا ان لا نصدقهم ولا نكذبهم. فأي تصديق لرواياتهم
__________
(86) هو نجم الدين ابو الربيع سليمان بن عبد القوى بن عبد الكريم الطوفى نسبة الى طوفي وهي قرية من سواد بغداد. اختلف فى سنة مولده: هل هي 657 او 675، وقد رجح الدكتور مصطفى زيد انه ولد عام 675 هـ اما وفاته فقد اتفق على انها كانت سنة 716 هـ. (المصلحة فى التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفى. للدكتور مصطفى زيد ص 68، 69 ط 2) .
(87) مقالات الكوثرى ص 34 مطبعة الأنوار بالقاهرة، وذكر الكوثرى ان اعتذار الطوفى عن المفسرين اعتذار وجيه. وفى معهد المخطوطات بالجامعة العربية نسخة مصورة من كتاب الإكسير عن مكتبة «جلبي زاده» بتركيا، وتقع هذه النسخة فى مائة وخمسين ورقة، انظر وصف هذه النسخة وفكرة عامة عما جاء فيها فى كتاب «المصلحة فى التشريع الإسلامي ونجم الدين الطوفى» ط 2 ص 96، للدكتور مصطفى زيد.
(88) عمدة التفسير عن الحافظ ابن كثير ص 14، 15 تحقيق احمد محمد شاكر.(5/238)
وأقاويلهم أقوى من ان نقرنها بكتاب الله ونضعها منه موضع التفسير او البيان؟! اللهم غفرا) «89» .
وأخيرا فانا نرى ان اعتذار الطوفى وغيره عن المفسرين لا يعفيهم ابدا من المسئولية، ولا يعفى من نقل عنهم جيلا بعد جيل، تلك البيانات والروايات الغريبة العجيبة التي شغلت الحيز الكبير من كتب التفسير، وأدت الى تشويش الأذهان، والتغطية على محكم القرآن، فوجود هذه الاسرائيليات فى اسفار اليهود وكتبهم لا يسوغ إيرادها فى كتب التفسير على علاتها، حيث توهم من يقرؤها انها بيان للقرآن وتوضيح لاهدافه. مع انها صارفة للذهن عما اقتضت حكمة التنزيل إيراده.
«وبعضها من عمل القصاص ووضاع الحديث واهل الدس والكيد من اليهود» «90» . قال الامام احمد: (ثلاثة امور ليس لها اصل التفسير والملاحم والمغازي) ، ويريد من التفسير هنا التفسير بالرواية، ويعنى بأنها ليس لها اصل:
انها ليس لها اسناد صحيح، ومعنى هذا ان كثيرا مما روى من هذا النوع على كثرته مما يتوجه اليه الاتهام «91» .
وان على عاتقنا واجبا كبيرا نحو التفسير بالرواية، الا وهو نقد هذه المجموعة المركومة من التفسير النقلى متنا وسندا، لنستبعد منها كثيرا مما لا يستحق البقاء، ونريح الناظرين فى كتاب الله من الاتصال به، إذا ما حاولوا تفهم آيه، فلا يقفون عند شيء لا أساس له.
واما هذه الاسرائيليات، فعلينا ازاءها واجب آخر، هو جمع هذه القصص ودرسها مردودة الى أصولها، مبينة مصادرها، ليدل ذلك على مسالك التأثر والتأثير بين الأديان «92» .
__________
(89) المرجع السابق ص 15.
(90) محمد الزفزاف: التعريف بالقرآن والحديث ص 169.
(91) المرجع السابق.
(92) مثال ذلك: ان التوراة ذكرت فى الاصحاحين الثاني والثالث من سفر التكوين، قصة آدم وحواء:
1- فنسبت لله المشي فى الجنة..
2- وفى الاصحاح الثاني عشر من التكوين ان ابراهيم ادعى امام فرعون ان سارة أخته لا زوجته.
3- وفى الاصحاح التاسع عشر من سفر التكوين ان لوطا ضاجع ابنتيه فانجبتا منه.
4- وفى الاصحاح السابع والعشرين من التكوين ان يعقوب خادع أباه إسحاق حتى نال بركة النبوة، وكانت من نصيب (عيسو) .
5- وفى الثامن والثلاثين من سفر التكوين ان (يهوذا) بن يعقوب زنى بزوجة ابنه.
كما نسب لداود الزنا بامراة أوريا، ولسليمان عبادة الأصنام، وللنبي هوشع الزنا، وللمسيح شرب الخمر.
(البيان فى تفسير القرآن للخوئي 1/ 35- 40 طبع النجف) .(5/239)
- 11- تفنيد فرية
إذا كان المسلمون قد تاثروا باليهود فى الاسرائيليات التي تناقلها بعض المفسرين- وأفلح المصلحون، او كادوا- فى تطهير العقول منها والرجوع بها الى الجادة الاسلامية. فان بعض المستشرقين يتخذ من ذلك ذريعة للقول بان الإسلام نسخة من اليهودية.
وهو قول خاطئ واشاعة رائجة «لم يبرأ منها رجل فى طبقة الدكتور (شويتزر) فى الثقافة والخلق» «93» .
والحقيقة المجردة هي:
ان اليهودية دين سماوي، والإسلام دين سماوي ومصدر الوحى فى القرآن، وغيره من الكتب السماوية، واحد، وهو الله جل وعلا.
وقد كان القرآن خاتم الكتب السماوية فمن الطبيعي ان يكون فى القرآن ما فى هذه الكتب والرسالات السماوية من انباء وقصص، وان كان بعضها على نحو ابسط وأوجز، هذا لا عجب فيه، ولو كان الأمر غير هذا لكان هو العجب.
«من هنا، كان خطا بعض المستشرقين خطا كبيرا فى المنهج حين يتعرضون لشيء مما حوى القرآن من تلك الأنباء وذلك القصص، متخذين التوراة وحدها المقياس والمصدر لكل شيء من اخبار الماضين، متناسين ان كلا من التوراة والقرآن من عند الله الذي أودع فى كل من الكتابين ما شاء من العقائد وقصص الماضين، على النحو الذي شاء من البسط او الإيجاز» «94» .
لا معنى إذا للقول بان القرآن أخذ هذه القصة او تلك عن التوراة، او الادعاء بان الرسول كان يعرف التوراة وأخذ عنها. هذا وذاك لا ضرورة لافتراضه، ما دام كل من الكتابين من عند الله. وبخاصة انه قد تعارف الناس جميعا ان محمدا عليه الصلاة والسلام كان اميا لا يقرا ولا يكتب، قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ 9» .
ثم كيف يفسر هؤلاء المتعنتون اشتمال القرآن على قصص وانباء لم تجيء فى التوراة، بل لم تشر إليها ان كانت هي المصدر الذي أخذ منه الرسول ما أخذ فى هذه الناحية؟ «96» .
__________
(93) عباس العقاد، ما يقال عن الإسلام ص 146.
(94) د. محمد يوسف موسى، دائرة المعارف الاسلامية مادة داود: 9/ 124. [.....]
(95) سورة العنكبوت الآية 48.
(96) د. محمد يوسف موسى. دائرة المعارف الاسلامية مادة داود: 9/ 124.(5/240)
- 12- تأثير الإسلام فى اليهودية
ان المقارنة بين عادات اليهود قبل اتصالهم بالمسلمين وعباداتهم بعد هذا الاتصال ببضعة اجيال تثبت ان القدوة بالمسلمين عادت باليهود الى احياء السنن التي هجروها من عباداتهم الاولى وعلمتهم سننا اخرى لم يعلموها ومنها شعائر فى صميم العبادة كشعائر الوضوء والغسل ونظام الصلاة الجامعة وغيرها من الصلوات. فلم يرد فى نصوص التلمود ذكر للوضوء اكثر من غسل اليدين، ولم يرد امر بالغسل من الجنابة فى كتب اليهود. قال موسى بن ميمون (انه لا يرى فى كتب السلف الأولين ما يوجد غسل الجنابة ولكنه يغتسل بحكم العادة حيث عاش ونشا فى بلاد المسلمين) «97» .
وقد كانت صلاة الهمس تصلى فى المعابد الاسرائيلية، وكان جمهور المصلين يتحدثون الى من بجوارهم ويبصقون ويثرثرون أثناء صلاة الهمس، ظنا منهم ان الصلاة مقصورة على ما يهمس به الكاهن ولا يسمعونه.
وكانت خير وسيلة للقضاء على هذه الحالة ان دعا بعض المصلحين اليهود (مثل ميمون بن مهران) الى ان يسلك اليهود مسلك المسلمين فى صلواتهم الجامعة. بعد الاقتداء بهم فى فرائض الوضوء والتطهر، ورعاية ادب المسجد من جميع الوجوه.
وفى هذا كله تفنيد لخرافة القائلين بان الإسلام شعبة من اليهودية او ان الإسلام مدين لها بشعائره واحكامه.
فالواقع ان اليهودية بعد الإسلام قد استفادت من آدابه وشعائره كما استفادت من ثقافته فى علم الأصول وفى نحو اللغة وعروضها وأوزان شعرها «98» .
واما قبل الإسلام فمصادر اليهودية فى المسائل المتفق عليها هي مصادر الإسلام، كلاهما دين سماوي من عند الله، بيد ان اليهود حرفوا كلام الله وكتموا بعض احكام التوراة بينما حفظ الله القرآن الكريم من التحريف والتبديل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) .
__________
(97) عباس العقاد: ما يقال عن الإسلام ص 150، نقلا عن كتاب (تأثير الإسلام فى العبادة اليهودية) تأليف نفتالى فيدر.
(98) عباس العقاد: ما يقال عن الإسلام ص 150.(5/241)
الباب السادس التشيع فى تفسير مقاتل
1- مقاتل من الزيدية.
أساس مذهب الزيدية اربعة أشياء.
2- تشيع مقاتل:
نماذج من تفسيره تدل على تشيعه.
اعتماد مقاتل على الروايات المرجوحة والضعيفة إذا كانت تنسب فضلا للإمام على- رضى الله عنه-.
3- خلاصة هذا البحث:
(ا) مقاتل شيعى زيدي.
(ب) اقتصر تشيع مقاتل على تفضيل على.
(ج) استعان مقاتل بالروايات المرجوحة والضعيفة.
(د) خصص مقاتل بعض الآيات العامة فى جميع المؤمنين بعلى.(5/243)
- 1- مقاتل من الزيدية
قال ابن النديم فى الفهرست: (مقاتل بن سليمان من الزيدية والمحدثين والقراء) «1» .
وإذا قرانا تفسير مقاتل رأينا دلائل متعددة على انه كان شيعيا زيديا. والشيعة الزيدية اقرب فرق الشيعة الى الجماعة الاسلامية، فلم تغل فى معتقداتها، ولم ترفع الائمة الى مرتبة الإله، ولا الى مرتبة النبيين.
وامام الزيدية زيد بن على بن الحسين، خرج على هشام بن عبد الله بالكوفة، فقتل وصلب بكناسة الكوفة «2» .
وقوام مذهب الزيدية ما يأتي:
1- ان الامام منصوص عليه بالوصف لا بالاسم، وأوصاف الامام التي قالوا انه لا بد من وجودها حتى يكون اماما يبايعه الناس هي كونه: فاطميا، ورعا، عالما، سخيا، يخرج داعيا لنفسه.
2- انه تجوز امامة المفضول، فكان هذه الصفات عندهم للإمام الأفضل الكامل، وهو بها اولى من غيره فان اختار أولو الحل والعقد فى الامة اماما لم يستوف بعض هذه الصفات وبايعوه، صحت إمامته ولزمت بيعته، وبنوا على ذلك الأصل صحة امامة الشيخين: ابى بكر وعمر رضى الله عنهما، وعدم تكفير الصحابة ببيعتهما، فكان الامام زيد يرى: (ان على بن ابى طالب أفضل الصحابة الا ان الخلافة فوضت الى ابى بكر لمصلحة راوها وقاعدة دينية رعوها، من تسكين ثائرة الفتنة، وتطبيب قلوب العامة فان عهد الحروب التي جرت فى ايام النبوة كان قريبا، وسيف امير المؤمنين عليه السلام على دماء المشركين لم يجف، والضغائن فى صدور
__________
(1) وانظر الفهرست: 1/ 179، معجم المؤلفين: 12/ 317، والأعثم: 8/ 206.
(2) الكناسة والكنس، كسح ما على وجه الأرض من القمام، والكناسة ملقى ذلك وهي محلة بالكوفة عند ما أوقع يوسف بن عمر الثقفي بزيد بن على بن الحسين، وفيها يقول الشاعر:
يايها الراكب الغادي لطيته ... يؤم بالقوم اهل البلدة الحرم
ابلغ قبائل عمرو ان أتيتهم ... او كنت من دارهم يوما على امم
انا وجدنا- فقروا فى بلادكم- ... اهل الكناسة اهل اللوم والعدم
ارض تغير احساب الرجال بها ... كما رسمت بياض الربط بالحمم
(معجم سابع: 282) .(5/245)
القوم من طلب الثار كما هي، فما كانت القلوب تميل اليه كل الميل ولا تنقاد له الرقاب كل الانقياد، وكانت المصلحة ان يكون القيام بهذا الشان لمن عرفوا باللين والتودد، والتقدم بالسن، والسبق فى الإسلام، والقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم) «3» .
3- ومن مذهب الزيدية جواز خروج إمامين فى قطرين مختلفين فى وقت واحد بحيث يكون كل واحد منهما اماما فى قطره الذي خرج فيه، ما دام متحليا بأوصاف الامامة.
4- ويعتقد الزيديون بان مرتكب الكبيرة مخلد فى النار ما لم يتب توبة نصوحا. وقد اقتبسوا هذه المقالة من المعتزلة، لان زيدا رحمه الله كان ينتحل نحلة المعتزلة.
ولما قتل زيد بايع الزيديون ابنه يحيى، فلما قتل هو ايضا، بويع بعده محمد الامام، وابراهيم الامام، فقتلهما ابو جعفر المنصور، ولم ينتظم امر الزيدية بعد ذلك، ومالوا عن القول بامامة المفضول، ثم أخذوا يطعنون فى الصحابة كسائر الشيعة، فذهبت عنهم بذلك اولى خصائصهم «4» .
- 2- تشيع مقاتل
أسلفنا ان مقاتلا كان شيعيا زيديا، ونضيف هنا ان تشيعه كان مقصورا على تفضيل الامام على كرم الله وجهه على سائر الصحابة، وان مظهر هذا التشيع فى تفسيره كان هو تخصيص الامام ببعض آيات المدح والثناء فى القرآن، ولو كانت عباراتها عامة تشمله وغيره.
وإليك نماذج من تفسير مقاتل تدل على تشيعه:
فى الآية 71 من سورة التوبة يقول الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ قال مقاتل: يعنى المصدقين والمصدقات بتوحيد الله، يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه «5» .
وفى الآية 25 من سورة الأنفال يقول الله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً قال مقاتل:
__________
(3) الملل والنحل للشهرستاني.
(4) الفرق بين الفرق للبغدادي تحقيق الكوثرى ط سنة 1948 م ص 14، 18، 19، 22، 25، 34، 193. والملل والنحل للشهرستاني ص 249- 255 تحقيق الشيخ احمد فهمي محمد، مطبعة حجازي. والشافعي لأبي زهرة ص 98- 100 ط 2.
(5) تفسير مقاتل مخطوط احمد الثالث: 1/ 156 ب، وانظر تحقيقي له مجلد 2/ 181.(5/246)
تكون من بعدكم مع علي بن أبي طالب، (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) ، فقد أصابتهم يوم الجمل، منهم طلحة والزبير «6» .
وفى الآية 18 من سورة السجدة يقول الله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ. ويذهب مقاتل الى ان المراد بالمؤمن هنا على بن ابى طالب «7» .
والمراد بالفاسق الوليد بن عقبة بن ابى معيط بن بنى امية، أخو عثمان بن عفان من امه «8» .
وفى ختام تفسير سورة الأنفال أورد مقاتل عددا من الآثار فى مدح على رضى الله عنه «9» .
وفى الآية 55 من سورة المائدة يقول الله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ.
ويقول مقاتل فى تفسيرها:.. خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى باب المسجد، فإذا هُوَ بمسكين قَدْ خرج من المسجد وَهُوَ يَحْمَد اللَّه عَزَّ وَجَلّ، فدعاه النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ له: هَلْ أعطاك أحد شيئًا؟ قَالَ: نعم يا نَبِيّ اللَّه، قَالَ:
من أعطاك؟ قَالَ الرَّجُل القائم أعطاني خاتمه، يعني عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب رضوان اللَّه عَلَيْه. فَقَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلَى أَيّ حال أعطاكه؟ قَالَ: أعطاني وَهُوَ راكع، فكبر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقَالَ: الحمد للَّه الَّذِي خص عليا بهذه الكرامة.
فأنزل اللَّه عَزَّ وَجَلّ: وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ «10» .
وفى اسباب النزول للواحدي ان هذه الآية نزلت فى على بن ابى طالب. بيد ان الرواية فى ذلك عن الكلبي وهو ممن لا يوثق بروايته وفيها:
(ثُمّ إن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج الى المسجد والناس بين قائم وراكع، فنظر سائلا فَقَالَ: هَلْ أعطاك أحد شيئًا؟ قَالَ نعم خاتم من ذهب، قال: من أعطاكه؟ قال: ذلك القائم، وأومأ بيده الى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال:
على اى حال أعطاك؟ قَالَ: أعطاني وَهُوَ راكع، فكبر النَّبِيّ صَلَّى الله عليه وسلم،
__________
(6) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث: 1/ 143 ب، وانظر تحقيقي له مجلد 2/ 108.
(7) تفسير مقاتل: 2/ 85 أ، وانظر تحقيقي له مجلد 3 ص 451.
(8) ورد ذلك فى لباب النقول للسيوطي من عدة طرق ص 174.
(9) تفسير مقاتل: 1/ 149 ا، وانظر تحقيقي له مجلد 2/ 132 من بينها،
حدثنا عبيد الله قال حدثني أبي قال حدثنا الْهُذَيْلُ عن محمد بن عبد الحق عن أبي جعفر محمد بن علي عليه السلام، قال: قلت له: ما كان رأي علي- عليه السلام- في الخمس؟ قال رأي اهل بيته. قال: قلت له:
فكيف لم يمضه على ذلك حين ولي؟ قال: كره أن يخالف أبا بكر وعمر.
(10) تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث 1/ 103 ا، وانظر تحقيقي له مجلد 1 ص 485- 486. [.....](5/247)
ثم قرا «وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ» «11» .
وفى لباب النقول للسيوطي ان الآية الماضية نزلت فى على بن ابى طالب.
قال السيوطي: اخرج الطبراني فى الأوسط بسند فيه مجاهيل عن عمار بن ياسر ... انها نزلت فى على.
وله شاهد قال عبد الرازق حدثنا عبد الوهاب بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس.. أنها نزلت فى على بن ابى طالب.
وروى ابن مردويه من وجه آخر عن ابن عباس مثله واخرج ايضا عن على مثله.
واخرج ابن جرير عن مجاهد وابن ابى حاتم عن سلمة بن كهيل مثله، فهذه شواهد يقوى بعضها بعضا) «12» .
وقد جاء فى تفسير المنار قوله: (يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) اى خاضعون لأمر الله، طيبة نفوسهم بامره، لا خوفا ولا رياء ولا سمعة، او يعطونها وهم فى ضعف ووهن، لا يأمنون الفقر والحاجة، فاستعمل الركوع فى المعنى النفسي لا الحسى.
.. ويقال فى مجاز الركوع: ركع الرجل: انحطت حاله وافتقر، قال الشاعر:
ولا تهين الفقير علك ان تر ... كع يوما والدهر قد رفعه
وجاء فيه ايضا: (وفسره بعضهم بركوع الصلاة وهو الانحناء فيها، ورووا من عدة طرق انها نزلت فى امير المؤمنين على المرتضى كرم الله وجهه إذ مر به سائل وهو فى المسجد فأعطاه خاتمه. ولكن التعبير عن المفرد ب (الَّذِينَ آمَنُوا) وعن إعطاء الخاتم ب (يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) مما لا يقع فى كلام الفصحاء من الناس، فهل يقع فى المعجز من كلام الله، على عدم ملاءمته للسياق) «13» .
وفى تفسير الآية التالية- وهي الآية 60 من سورة المائدة- يقول الله تعالى:
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ. ويقول السيد رشيد رضا فى تفسير المنار:
(وقد استدلت الشيعة بالآية على ثبوت امامة على بالنص بناء على ما روى من نزول الآية فيه وجهلوا الولي فيها بمعنى المتصرف فى امور الامة. وقد بينا ضعف
__________
(11) اسباب النزول للواحدي ص 114 طبعة الحلبي سنة 1959 م، وسند الرواية فى الواحدي هكذا: أخبرنا ابو بكر التميمي قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن جعفر قال: حدثنا الحسين بن محمد عن ابى هريرة قال حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال: حدثنا محمد الأسود، عن محمد بن مروان، عن محمد بن السائب، عن ابى صالح عن ابن عباس، وساق الرواية. وقد أورد رواية اخرى عن الكلبي ايضا.
(12) لباب النقول فى اسباب النزول للسيوطي: 90- 91 طبعة الحلبي الطبعة الثانية.
(13) تفسير المنار، للسيد رشيد رضا: 6/ 441- 442، ط 1.(5/248)
كون (لفظ) المؤمنين فى الآية يراد به شخص واحد، وعلمنا من السياق ان الولاية هاهنا ولاية النصر، لا ولاية التصرف والحكم، إذ لا مناسبة له فى هذا السياق، وقد رد عليهم الرازي وغيره بوجوه.
وهذه المجادلات ضارة غير نافعة، فهي التي فرقت الامة وأضعفتها، فلا نخوض فيها. ولو كان فى القرآن نص على الامامة لما اختلف الصحابة فيها، ولاحتج به بعضهم على بعض، ولم ينقل ذلك) «14» .
وأخيرا نقول:
ان فى تفسير مقاتل ما يؤيد انه كان شيعيا زيديا، غير ان تشيعه مقصور على تفضيل على رضى الله عنه، ولم يؤثر فى تفسيره جميعه ما يخرجه عن التشيع المحمود الى التطرف المذموم.
بل نقول جازمين ان تفسير مقاتل ليس فيه من مظاهر التشيع الا تفضيل على وليس فيه اكثر من هذا.
والعيب الذي يمكن ان يوجه الى مقاتل فى ذلك ينحصر فى أمرين:
أولهما: ان الآية قد تكون فى جميع المؤمنين فيقصرها على علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وثانيهما: ان الروايات التي تنسب فضلا خاصا لعلي وآل بيته قد تكون واهية، لكنه مع ذلك يقبلها ويفسر بها الآية. ويلحق بهذا إيثاره بعض الروايات على روايات أصح منها، لان الاولى تنسب الى على فضلا لم تنسبه الثانية.
من ذلك ما
أورده مقاتل فى أول سورة التوبة حين قال: لما نزلت براءة بعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق على حج الناس، وبعث معه ببراءة من أول سورة براءة إلى تسع آيات، فنزل جبريل فقال يا محمد إنه لا يؤدي عنك إلا رجل منك، ثم تبعه على بن ابى طالب فأدركه بذي الخليفة، على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذها منه.. «15» .
ورجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله نزل فى شيء؟
فقال: (لا ولكن جبريل جاءني فقال: لن يؤدى عنك الا أنت او رجل منك) «16» .
وقد أورد ابن كثير فى تفسيره رواية مقاتل هذه وفى اسنادها: قال عبد الله ابن احمد بن حنبل حدثنا محمد بن سليمان حدثنا لوين حدثنا محمد بن جابر عن سماك عن حنش عن على رضى الله عنه. وساق الرواية.
__________
(14) تفسير المنار: 6/ 442.
(15) تفسير مقاتل: 1/ 150 ا، وانظر تحقيقي له مجلد 2 ص 154- 155.
(16) تفسير مقاتل: 1/ 150 اباختصار. وانظر تحقيقي له مجلد 2 ص 155.(5/249)
قال ابن كثير: (هذا اسناد فيه ضعف) «17» ، وقال الامام احمد: حدثنا عفان حدثنا حماد عن سماك عن انس بن مالك رضى الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه ببراءة مع ابى بكر فلما بلغ ذا الخليفة قال: (لا يبلغها الا انا او رجل من اهل بيتي) فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال ابن كثير: (رواه الترمذي فى التفسير عن بندار عن عفان وعبد الصمد، كلاهما عن حماد بن سلمة به، ثم قال: حسن غريب من حديث انس رضى الله عنه) .
رواية البخاري:
ولكن روايات البخاري تفيد ان إرسال النبي لعلى على انه رديف لأبي بكر ومساعد له فى إبلاغ المشركين «18» .
وقد سبق ان ذكرنا فى اسباب نزول الآية ان اسباب النزول إذا تعددت قدم الأصح على الصحيح، وقدم الصحيح على غيره.
وقد اتفق الجمهور على ان صحيح البخاري مقدم على غيره.
مقارنة:
وبمقارنة ما ذهب اليه مقاتل من التشيع فى تفسير بعض الآيات بما كتبه بعض أئمة الشيعة، نجد ان مقاتلا كان معقولا وسمحا فى تشيعه بالنسبة لغيره، ففي كتاب المراجعات للإمام عبد الحسين شرف الدين الموسوي «19» نجد مئات الآيات «20» والآثار فى مدح على وآل البيت، حتى ليكاد يقصر الآيات الواردة فى مدح المؤمنين والصادقين على على وآله.
__________
(17) تفسير ابن كثير: 2/ 333.
(18) قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن يوسف حدثنا الليث حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني حميد بن عبد الرحمن ان أبا هريرة قال: بعثني ابو بكر رضى الله عنه فى تلك الحجة فى المؤذنين الذين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى: الا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان.
قال حميد: ثم اردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلى بن ابى طالب فأمره ان يؤذن ببراءة قال ابو هريرة فاذن معنا على فى اهل منى يوم النحر ببراءة، وان لا يحج بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان. ورواه البخاري ايضا: حدثنا ابو اليمان أخبرنا شعيب عن الزهري أخبرني حميد بن عبد الرحمن ان أبا هريرة قال بعثني ابو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى: الا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، ويوم الحج الأكبر يوم النحر وانما قيل الأكبر من اجل قول الناس الحج الأصغر فنبذ ابو بكر الى الناس فى ذلك العام. فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك. هذا لفظ البخاري فى كتاب الجهاد. وانظر: تفسير ابن كثير: 2/ 232.
(19) الطبعة السادسة. مطبعة الآداب. النجف الأشرف.
(20) المراجعات: 52- 67، فكلها آيات يدعى نزولها فى على بن ابى طالب.(5/250)
ثم هو يروى عن ابن عباس انه قال: نزل فى على وحده ثلثمائة آية «21» وقال غيره نزل فيهم ربع القرآن.
ويحضرني فى هذا المقام ما
أخرجه البخاري فى صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تطرونى كما اطرت النصارى عيسى بن مريم قالوا انه ابن الله) .
- 3- خلاصة البحث
وخلاصة هذا البحث ما يأتي:
(ا) فى تفسير مقاتل ما يدل على انه شيعى زيدي.
(ب) اقتصر تشيع مقاتل على تفضيل على.
(ج) استعان مقاتل فى ذلك بالروايات المرجوحة والضعيفة.
(د) خصص مقاتل بعض الآيات العامة فى جميع المؤمنين بعلى بن ابى طالب.
__________
(21) أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس، كما فى الفصل الثالث من الباب التاسع من الصواعق: 76.(5/251)
الباب السابع المكي والمدني فى تفسير مقاتل
1- السور المكية والسور المدنية عند مقاتل وجدول تفصيلي بها.
2- مقارنة بين تفسير مقاتل وعناوين السور فى المصحف، (فى المكي والمدني) .
3- إحصاء بالسور التي اختلف مكان نزولها فى المصحف فى تفسير مقاتل.(5/253)
- 1- السور المكية والسور المدنية عند مقاتل
نقل السيوطي فى الإتقان أقوالا كثيرة فى تعيين السور المكية والمدنية، يعنينا منها قول ذكر ان له شاهدا فى تفسير مقاتل، فقد ساق السيوطي رواية عن البيهقي فى دلائل النبوة، ذكر فيها اسماء السور المكية واسماء السور المدنية، ونسب معنى الحديث الى مجاهد عن ابن عباس ثم قال: وللحديث شاهد فى تفسير مقاتل وغيره مع المرسل الصحيح الذي تقدم «1» .
وبمقارنة كلام السيوطي عن مقاتل بتفسير مقاتل نجد اختلافا ظاهرا، فقد أفاد كلام السيوطي ان المدني عند مقاتل تسع وعشرون سورة «2» ، على حين نجد ان المدني عند مقاتل اربع وعشرون سورة فقط، كما يتضح لك من الجدول الآتي:
__________
(1) الإتقان: 1/ 10، ونص الحديث فى السيوطي كالآتى:
وقال البيهقي فى دلائل النبوة: أخبرنا ابو عبد الله الحافظ، أخبرنا ابو محمد بن زياد العدل، حدثنا محمد بن إسحاق، حدثنا يعقوب بن ابراهيم الدورقي، حدثنا احمد بن نصر بن مالك الخزاعي، حدثنا على بن الحسين بن واقد عن أبيه، حدثني يزيد النحوي عن عكرمة والحسين بن ابى الحسين قالا:
انزل الله من القرآن بمكة:
(اقرا باسم ربك، والمزمل، والمدثر، وتبت يدا ابى لهب، وإذا الشمس كورت، وسبح اسم ربك الأعلى، والليل إذا يغشى، والفجر، والضحى، والم نشرح، والعصر، والعاديات، والكوثر، وألهاكم التكاثر، وأ رأيت، وقل يايها الكافرون، واصحاب الفيل، والفلق، وقل أعوذ برب الناس، وقل هو الله احد، والنجم، وعبس، وانا أنزلناه، والشمس وضحاها، والسماء ذات البروج، والتين والزيتون، ولإيلاف قريش، والقارعة، ولا اقسم بيوم القيامة، والهمزة، والمرسلات، وق، ولا اقسم بهذا البلد، والسماء والطارق، واقتربت الساعة، وص، والجن، ويس، والفرقان، والملائكة، وطه، والواقعة، وطسم (الشعراء) وطس، وطسم، (القصص) وبنى إسرائيل، والتاسعة (يونس) ، وهود، ويوسف، واصحاب الحجر، والانعام، والصافات، ولقمان، وسبأ، والزمر، وحم المؤمن، وحم الدخان، وحم السجدة، وحم عسق، وحم الزخرف، والجائية، والأحقاف، والذاريات، والغاشية، واصحاب الكهف، والنحل، ونوح، وابراهيم، والأنبياء، والمؤمنون، والم السجدة والطور، وتبارك، والحاقة، وسال، ول م يتساءلون، والنازعات، وإذا السماء انشقت، وإذا السماء انفطرت، والروم، والعنكبوت، والفاتحة والأعراف وكهيعص) .
وما نزل بالمدينة:
ويل للمطففين، والبقرة، وآل عمران، والأنفال، والأحزاب، والمائدة، والممتحنة، والنساء، وإذا زلزلت، والحديد، ومحمد، والرعد، وهل أتى على الإنسان، والطلاق، ولم يكن، والحشر وإذا جاء نصر الله، والنور، والحج، والمنافقون، والمجادلة، والحجرات، ويايها النبي لم تحرم، والصف، والجمعة، والتغابن، والفتح، وبراءة.
وروى عن مجاهد عن ابن عباس انه قال ان أول ما انزل الله على نبيه من القرآن اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ فذكر معنى هذا الحديث، قال (البيهقي) وللحديث شاهد فى تفسير مقاتل وغيره مع المرسل الصحيح الذي تقدم.
(2) الإتقان: 1/ 10.(5/255)
جدول بالسور المكية والمدنية فى تفسير مقاتل
العدد/ السور المكية/ عدد آياتها/ رقم الآيات المستثناة/ السور المدنية/ عدد آياتها/ رقم الآيات المستثناة 1///// 7/ 2//// الفاتحة/ 286/ 3//// البقرة/ 200/ 4//// آل عمران/ 176/ 5//// النساء/ 120/ 6/ الانعام/ 165/ 153/ المائدة// 7/ الأعراف/ 206/ 163، 173/// 8////// 9//// الأنفال/ 75/ 30 10/ يونس/ 109/ 94- 95/ براءة/ 129/ 128- 129 11/ هود/ 123/ 12، 17، 14/// 12/ يوسف/ 111//// 13/ الرعد/ 43//// 14/ ابراهيم/ 52/ 38- 39/// 15/ الحجر/ 99//// 16/ النحل/ 128/ 41، 75، 106، 110، 126- 128/// 17/ الاسراء/ 111/ 73- 76 107- 109/// 18/ الكهف/ 110/ 1- 7/// 19/ مريم/ 98/ 58/// 20/ طه/ 135//// 21/ الأنبياء/ 112//// 22/ الحج/ 78/ 1- 2، 10، 25، 40، 54، 58- 59///(5/256)
(تابع) جدول السور المكية والمدنية فى تفسير مقاتل العدد/ السور المكية/ عدد آياتها/ رقم الآيات المستثناة/ السور المدنية/ عدد آياتها/ رقم الآيات المستثناة 23/ المؤمنون/ 118//// 24//// النور/ 64/ 25/ الفرقان/ 77//// 26/ الشعراء/ 227/ 197، 224/// 27/ النمل/ 73//// 28/ القصص/ 86/ 52- 55/// 29/ العنكبوت/ 69//// 30/ الروم/ 60//// 31/ لقمان/ 34//// 32/ السجدة/ 30/ 16/// 33/// الأحزاب/ 72/ 34/ سبا/ 54//// 35/ الملائكة (فاطر) / 45//// 36/ يس/ 83//// 37/ الصافات/ 182//// 38/ ص/ 88//// 39/ الزمر/ 75/ 53- 55/// 40/ المؤمن/ 85//// 41/ فصلت/ 45//// 42/ الشورى/ 53//// 43/ الزخرف/ 89//// 44/ الدخان/ 59//// 45/ الجاثية/ 37//// 46/ الأحقاف/ 35//// 47//// محمد (ص) / 38 48//// الفتح/ 29/ 49//// الحجرات/ 29/ 50/ ق/ 45//// 51/ الذاريات/ 70//// 52/ الطور/ 49//// 53/ النجم/ 62////(5/257)
(تابع) جدول السور المكية والمدنية فى تفسير مقاتل العدد/ السور المكية/ عدد آياتها/ رقم الآيات المستثناة/ السور المدنية/ عدد آياتها/ رقم الآيات المستثناة 54/ القمر/ 55//// 55/ الرحمن/ 87//// 56/ الواقعة/ 96//// 57//// الحديد/ 27/ 58//// المجادلة/ 22/ 59//// الحشر/ 24/ 60//// الممتحنة/ 13/ 61/ الصف/ 24//// 62//// الجمعة/ 11/ 63//// المنافقون/ 11/ 64/ التغابن/ 12//// 65//// الطلاق/ 12/ 66//// التحريم/ 12/ 67/ الملك/ 30//// 68/ ن/ 52//// 69/ الحاقة/ 52//// 70/ المعارج/ 44//// 71/ نوح/ 28//// 72/ الجن/ 28//// 73/ المزمل/ 20//// 74/ المدثر/ 56//// 75/ القيامة/ 40//// 76/ الإنسان/ 31//// 77/ المرسلات/ 50//// 78/ النبا/ 40//// 79/ النازعات/ 46//// 80/ الأعمى (عبس) / 42//// 81/ التكوير/ 29//// 82/ الانفطار/ 17//// 83//// المطففين/ 31/ 84/ الانشقاق/ 45//// 85/ البروج/ 22////(5/258)
(تابع) جدول السور المكية والمدنية فى تفسير مقاتل العدد/ السور المكية/ عدد آياتها/ رقم الآيات المستثناة/ السور المدنية/ عدد آياتها/ رقم الآيات المستثناة 86/ الطارق/ 19//// 87/ الأعلى/ 19//// 88/ الغاشية/ 16//// العدد/ الفجر/ 30//// 90/ البلد/ 20//// 91/ الشمس/ 15//// 92/ الليل/ 21//// 93/ الضحى/ 11//// 94/ الم نشرح/ 8//// 95/ التين/ 8//// 96/ العلق/ 19//// 97//// القدر/ 5/ 98//// لم يكن (البينة) / 8/ 99/ الزلزلة/ 8/ 100/ العاديات/ 11//// 101/ القارعة/ 11//// 102/ التكاثر/ 8//// 103/ العصر/ 3//// 104/ الهمزة/ 7//// 105/ الفيل/ 5//// 106/ قريش/ 4//// 107/ الماعون/ 7//// 108/ الكوثر/ 3//// 109/ الكافرون/ 6//// 110//// النصر/ 3/ 111/ تبت (المسد) / 5//// 112/ الإخلاص/ 4//// 113/ الفلق/ 5//// 114/ الناس/ 4////(5/259)
ومن الجدول السابق نلاحظ الآتي:
عدد السور المكية فى تفسير مقاتل 90 سورة عدد السور المدنية فى تفسير مقاتل 24 سورة الجملة 114 سورة بينما نقل السيوطي عن البيهقي حديثا يفيد:
ان المكي من سور القرآن 85 سورة وان المدني من سور القرآن 29 سورة ثم نقل السيوطي عن البيهقي قوله: وللحديث شاهد فى تفسير مقاتل وغيره «3» .
والواقع ان تفسير مقاتل ليس فيه شاهد للحديث، الا ان قصد بالشاهد التقارب لا التوافق الكامل.
- 2- مقارنة بين تفسير مقاتل والمصحف
إذا قارنا بين المكي والمدني عند مقاتل، وما نشاهده فى أوائل السور فى المصحف المطبوع والمتداول بين الناس فى هذه الأيام- لاحظنا ان هناك اختلافا بينهما فى عشر سور.
ثلاث مدنية عند مقاتل ومكية فى المصحف وهي:
الفاتحة، والمطففين، والقدر.
وسبع مكية عند مقاتل ومدنية فى المصحف وهي:
الرعد، والحج، والرحمن، والصف، والتغابن، والإنسان، والزلزلة.
اى ان تفسير مقاتل يتفق مع المصحف المتداول فى المكي والمدني فى 104 سورة، ويخالفه فى عشر سور تجدها موضحة فى الجدول الآتي:
__________
(3) الإتقان: 1/ 10 وقد سبق ان نقلت هذا الحديث بنصه فى هامش 1/ 255. [.....](5/260)
إحصاء بالسور التي اختلف مكان نزولها فى المصحف عنه فى تفسير مقاتل
رقم السورة/ اسم السورة/ عند مقاتل/ فى المصحف 1/ الفاتحة/ مدنية/ مكية 83/ المطففين/ مدنية/ مكية 97/ القدر/ مدنية/ مكية 13/ الرعد/ مكية/ مدنية 22/ الحج/ مكية/ مدنية 55/ الرحمن/ مكية/ مدنية 61/ الصف/ مكية/ مدنية 64/ التغابن/ مكية/ مدنية 76/ الإنسان/ مكية/ مدنية 99/ الزلزلة/ مكية/ مدنية وعدد سور القرآن 114 سورة 104 سورة يتفق مكان نزولها فى تفسير مقاتل وفى المصحف المتداول.
10 سور يختلف مكان نزولها فى تفسير مقاتل عنه فى المصحف المتداول.(5/261)
الباب الثامن كيفية نزول القرآن
1- آراء ثلاثة فى كيفية نزول القرآن:
الاول: راى الجمهور.
والثاني: راى مقاتل.
والثالث: راى الشعبي.
ترجيح راى الجمهور.
2- راى مقاتل فى نزول القرآن.
3- راى الشعبي فى نزول القرآن.
4- راى آخر لمقاتل.
5- مدة نزول القرآن عند مقاتل.
6- راى للشيخ الخضرى وتعقيب عليه.(5/263)
- 1- كيفية نزول القرآن
1- تمهيد:
فى القرآن الكريم آيات تفيد ان نزول القرآن كان جملة واحدة:
قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «1» .
وقال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ «2» .
وقال تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «3» .
والواقع المشاهد ان نزول القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استمر ثلاثة وعشرين عاما قال تعالى:
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «4» .
وروى عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن الحسن انه قال فى قول الله عز وجل وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا «5» قال: كان ينزل آية وآيتين وآيات، جوابا عما يسألون، وردا على النبي صلى الله عليه وسلم «6» .
قال ابن قتيبة: «ولو أتاهم القرآن نجما واحدا لسبق حدوث الأسباب التي أنزله الله بها، ولثقلت جملة الفرائض على المسلمين، وعلى من أراد الدخول فى الدين، ولبطل معنى التنبيه، وفسد معنى النسخ، لان المنسوخ يعمل به مدة ثم يعمل بناسخه بعده، وكيف يجوز ان ينزل القرآن فى وقت واحد: افعلوا كذا، ولا تفعلوا؟» «7» .
2- للعلماء فى كيفية نزول القرآن آراء ثلاثة:
الرأي الاول: - وهو راى الجمهور- ان القرآن نزل الى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة، ثم نزل بعد ذلك منجما فى ثلاث وعشرين سنة «8» .
والرأي الثاني: - وهو راى مقاتل بن سليمان- انه نزل الى سماء الدنيا
__________
(1) سورة البقرة الآية 185.
(2) سورة الدخان الآية 3.
(3) سورة القدر الآية 1.
(4) سورة الاسراء الآية 106.
(5) سورة الفرقان الآية 32.
(6) فى تفسير الطبري 19/ 8، وتاويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 184.
(7) تاويل مشكل القرآن لابن قتيبة ص 180.
(8) واصحاب هذا الرأي يذهبون الى ان للقرآن تنزلات ثلاثا:(5/265)
فى ثلاث وعشرين ليلة قدر من ثلاث وعشرين سنة. ينزل الله فى كل ليلة قدر ما قدر انزاله فى تلك السنة. ثم ينزل به جبريل منجما على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والرأي الثالث: - وهو راى الشعبي- انه ابتدا انزاله فى ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجما فى اوقات مختلفة من سائر الأزمان على النبي صلى الله عليه وسلم «9» .
وقد ساق السيوطي فى الإتقان هذه الآراء، ونقل عن ابن حجر ان الاول هو الصحيح المعتمد، كما ذكر هذه الآراء الزركشي فى البرهان ثم قال: «والقول الاول أشهر وأصح، واليه ذهب الأكثرون، ويؤيده ما رواه الحاكم فى مستدركه عن ابن عباس قال: انزل الله القرآن جملة واحدة الى سماء الدنيا فى ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك فى عشرين سنة. قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين» «10» .
- 2- راى مقاتل فى نزول القرآن
ذهب مقاتل الى ان القرآن نزل الى السماء الدنيا فى ثلاث وعشرين ليلة قدر، ينزل فى كل ليلة قدر منها ما يقدر الله انزاله فى تلك السنة، ثم ينزل بعد ذلك منجما فى جميع السنة، على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد ردد مقاتل هذا القول فى تفسيره لآيات نزول القرآن، فى ثلاثة مواضع:
(ا) عند تفسيره لقوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ.. «11»
__________
التنزل الاول الى اللوح المحفوظ قال تعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ.
والتنزل الثاني من اللوح المحفوظ الى بيت العزة فى السماء الدنيا. ودليله قوله سبحانه:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
والتنزل الثالث: من سماء الدنيا إلى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منجما فى ثلاث وعشرين سنة، ودليله قوله تعالى: وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا.
(9) انظر البرهان: 1/ 228، والإتقان: 1/ 40، والفرقان فى علوم القرآن للزرقاني: 1/ 39، وتفسير ابن كثير: 1/ 215- 216. وتفسير مقاتل بن سليمان مخطوط احمد الثالث: 1/ 28 ب، وانظر تحقيقي له مجلد 1/ 161، ونفس التفسير، مخطوطة احمد الثالث 2/ 226 ا. وتحقيقي له مجلد 4 563.
(10) البرهان: 1/ 228. وانظر السيوطي فى الإتقان: 1/ 40. فقد ساق جملة من الأحاديث الصحيحة فى تأييد الرأي الاول، وهي أحاديث صحيحة موقوفة على ابن عباس، غير ان لها حكم المرفوع الى النبي صلى الله عليه وسلم، لما هو مقرر من ان قول الصحابي فيما لا مجال للرأي فيه، ولم يعرف بالأخذ عن الاسرائيليات- حكمه حكم المرفوع.
ونزول القرآن الى بيت العزة من انباء الغيب التي لا تعرف الا من المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وابن عباس لم يعرف بالأخذ عن الاسرائيليات.
(11) سورة البقرة الآية 185. وانظر تفسيرها فى تفسير مقاتل مخطوطة احمد الثالث 1/ 28 ب، وانظر تحقيقي له مجلد 1/ 161.(5/266)
(ب) وعند تفسيره لقوله تعالى: حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «12» .
(ج) وعند تفسيره لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «13» .
وقد ذهب الى هذا القول ايضا الامام: ابو عبد الله الحليمي فى المنهاج «14» والماوردي فى تفسيره «15» .
وقد ذكره الامام فخر الدين الرازي مجوزا له. فقال: «يحتمل انه كان ينزل فى كل ليلة قدر ما يحتاج الناس الى انزاله الى مثلها من اللوح المحفوظ الى السماء الدنيا» «16» .
ثم توقف الرازي: هل هذا اولى او الاول اولى؟.
قال ابن كثير: «وهذا الذي جعله احتمالا نقله القرطبي عن مقاتل بن حيان، وحكى الإجماع على انه نزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ الى بيت العزة فى السماء الدنيا» «17» .
ونلاحظ ان ابن كثير نقل عن القرطبي نزول القرآن فى 23 ليلة قدر الى مقاتل ابن حيان «18» .
والمشهور ان هذا قول مقاتل بن سليمان، وهو موجود فى تفسير مقاتل ابن سليمان الذي حققته.
فاما ان يكون هناك تحريف فى النقل، فكتبت مقاتل بن حيان بدلا من مقاتل ابن سليمان، الذي حققته.
فاما ان يكون هناك تحريف فى النقل، فكتبت مقاتل بن حيان بدلا من مقاتل ابن سليمان، او ان يكون هذا القول قد ذهب اليه مقاتل بن سليمان ومقاتل بن حيان معا، وقد كانا متعاصرين وكلاهما من بلخ.
وقد سئل مقاتل بن حيان أنت اعلم ام مقاتل بن سليمان؟، فقال: ما وجدت
__________
(12) أول سورة الدخان، وانظر تفسير مقاتل لهذه الآيات فى مخطوطة احمد الثالث 2/ 146 ب، وتحقيقي له مجلد 3 ص 817.
(13) سورة القدر، وهي فى تفسير مقاتل 2/ 226 ا، وتحقيقي له مجلد 4 ص 1783. [.....]
(14) هو ابو عبد الله حسين بن الحسن الحليمي الجرجاني المتوفى سنة 403 هـ وكتابه المنهاج فيه احكام كثيرة، ومسائل فقهية مما يتعلق بأصول الايمان، رتبه على سبعة وسبعين بابا، على ان للايمان بضعا وسبعين شعبة. (كشف الظنون 1871) .
(15) انظر تفسير الماوردي بدار الكتب المصرية، قسم المخطوطات.
(16) الإتقان: 1/ 41.
(17) المرجع السابق.
(18) مقاتل بن حيان هو ابو بسطام النبطي البلخي الحراز، قال يحيى بن معين ثقة، وقال الدارقطني صالح الحديث. وكان يلي الولايات واعمالا بخراسان، مع قدرته عند بنى امية، وكان ناسكا فاضلا. هرب ايام ابى مسلم الى كابل، وكان رجلا صالحا. روى له الجماعة الا البخاري.
(الكمال فى اسماء الرجال للمقدسي الجزء الرابع، مخطوط بدار الكتب المصرية تحت رقم 56 «مصطلح الحديث» ) .(5/267)
علم مقاتل بن سليمان فى علم الناس الا كالبحر الأخضر فى سائر البحور «19» .
وكان بعض الناس يلتبس عليهم مقاتل بن سليمان بمقاتل بن حيان «20» .
فالسيوطي نقل عن ابن كثير انه نقل عن القرطبي ان مقاتل بن حيان ذهب الى نزول القرآن فى 23 ليلة قدر «21» .
اما الزركشي فقد نسب هذا القول فى البرهان الى مقاتل دون ان يذكر لقبه «22» .
وعند تحقيق كتاب البرهان ذهب الأستاذ ابو الفضل ابراهيم فى فهارس الاعلام ان المراد بكلمة مقاتل هو مقاتل بن سليمان «23» .
واكثر المراجع المتداولة والمخطوطة إذا أطلقت اسم مقاتل- انصرف الذهن الى مقاتل بن سليمان، لشهرته عند المفسرين والمحدثين دون سائر من سمى بمقاتل.
والذي يعنينا أخيرا هو ان مقاتل بن سليمان ذهب الى ان نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا كان فى ثلاث وعشرين ليلة قدر، ينزل فى كل ليلة قدر منها ما يقدر الله انزاله فى كل السنة.
وقد ذهب معه الى هذا القول ابو عبد الله الحليمي، والماوردي، وذكر بعضهم ان مقاتل بن حيان ايضا قد ذهب الى هذا الرأي.
- 3- راى الشعبي «24» فى نزول القرآن
ويذهب الشعبي وغيره: الى ان ابتداء نزول القرآن كان فى ليلة القدر، ثم نزل القرآن بعد ذلك منجما فى سائر الأوقات.
والشعبي يجمع فى هذا الرأي بين قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، حيث يكون تأويلها عنده «انه ابتدا نزول القرآن فى ليلة القدر» ، وبين قوله تعالى:
__________
(19) تاريخ بغداد: 13/ 162، تهذيب التهذيب: 10/ 279.
(20) تهذيب التهذيب ص 278. 279.
(21) الإتقان: 1/ 41.
(22) البرهان: 1/ 228.
(23) البرهان: 4/ 492 (فهارس الاعلام) .
(24) الشعبي: هو عامر بن شراحيل، ويكنى أبا عمرو. اكبر شيوخ ابى حنيفة، واحد المشهود لهم بالامانة فى الحديث والفقه. روى عن على بن ابى طالب وسعد بن ابى وقاص، وزيد بن ثابت، وجابر بن عبد الله. وغيرهم. وقال: انه أدرك مائة من الصحابة، وروى عنه الأعمش وقتادة وابو الزناد وغيرهم. توفى سنة 109 هـ.(5/268)