[الجزء الاول]
مقدمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وبه نستعين أخبرنا القاضي أَبُو بَكْر محمد بن عقيل بن زَيْد الشّهْرَزُوريّ- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- قَالَ: حدثنا القاضي أَبو عَبْد اللَّه محمد بْن علي بن زادلج، قال: حدثنا عبد الخالق ابن الْحَسَن، قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بن ثَابِت «1» بن يعقوب الثوري المقري «2» ، قَالَ: حدثنا أَبِي، قَالَ: حدثنا الْهُذَيْلُ بن حبيب أَبُو صَالِح الزيداني عن مُقَاتِلٍ بن سُلَيْمَان عن ثلاثين رَجُلا منهم اثني عشر رَجُلا من التابعين منهم من زاد عَلَى صاحبه الحرف ومنهم من وافق صاحبه فِي التفسير فَمن الاثني عشر عَطَاء بن أَبِي رباح، والضحاك بن مُزَاحِم، ونافع مَوْلَى ابن عُمَر، والزُّبَيْر وابن شهاب الزُّهْرِيّ، ومُحَمَّد بن سِيرِينَ، وابن أَبِي مَلِيكة، وشهر بن حَوْشَب، وعكرمة، وعطية الكوفي، وأَبُو إسحاق الشَّعْبِيّ، ومُحَمَّد بن على ابن الحسين بن علي، ومن بعد هَؤُلاءِ قَتَادَة ونظراؤه حَتَّى ألفت هَذَا الكتاب. قَالَ عَبْد الخالق بن الْحَسَن: وجدت عَلَى ظهر كتاب عُبَيْدُ اللَّهِ بن ثَابِت عن أَبِيهِ تمام الثلاثين الَّذِين رَوَى عَنْهُمْ مُقَاتِلٌ «3» . قَالَ: حدثنا الْهُذَيْلُ، قَالَ: رجال مُقَاتِلٍ الَّذِين أَخَذَ التفسير عَنْهُمْ سوى من سمينا قَتَادَة بن دعامة، وسليمان بن مهران الأعمش، وحماد
__________
(1) فى الأصل: عبد الله بن ثابت، وهذه المقدمة كلها ساقطة من ل.
(2) فى الأصل: المقري، ومن شأن الناسخ أن يترك الهمزة فى مثل هذا الموضع.
(3) فى الأصل: عبيد الله بن ثابت تمام الثلاثين عن أبيه الذين روى عنهم مقاتل عن أبيه.(1/25)
ابن أَبِي سُلَيْمَان، وإسماعيل بن أَبِي خَالِد، وابن طاوس اليماني، وعبد الكريم وعبد القدوس صاحبي الْحَسَن، وأَبُو روق، وابن أَبِي نجيح، وليث بن سُلَيْم، وأيوب وعَمْرو بن دينار «1» ، وداود بن أَبِي هند، والقاسم بن «2» محمد، وعَمْرو بن شُعَيْب، والحكم بن عُتْبَة، وهشام بن حَسَّان، وسفيان الثَّوْرِي. ثُمّ قَالَ أَبُو محمد:
قَالَ أَبِي. فقلت لأبي صَالِح: لم كتب عن سُفْيَان وَهُوَ أكبر منه؟ فَقَالَ: إن مُقَاتِلٍ عُمِّر فكتب عن الصغار والكبار.
قَالَ أَبُو محمد: قَالَ أَبِي: قَالَ أَبُو صَالِح: بِذَلِك أَخْبَرَنِي مُقَاتِلُ.
قَالَ: حدثنا عَبْد اللَّه، قَالَ: وحَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حدثنا الْهُذَيْلُ عن مُقَاتِلٍ، قَالَ: أنزل القرآن عَلَى خمسة أوجه أمره، ونهيه، ووعده، ووعيده، وخبر الأولين. قَالَ: حدثنا عبيد الله قال: وحدثني أبي قال: حَدَّثَنِي الْهُذَيْلُ عَنِ الْمُسَيِّبِ عَنِ الأَعْمَشِ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: تَعَلَّمُوا التَّأْوِيلَ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ أَقْوَامٌ يَتَأَوَّلُونَهُ عَلَى غَيْرِ تَأْوِيلِهِ. قَالَ: حَدَّثَنَا عبيد الله، قال:
حدثني أبي، قال: حدثنا الْهُذَيْلُ عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- كِتَابًا إِلا أَحَبَّ أَنْ يُعْلَمَ تَأْوِيلُهُ، قَالَ: حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الْهُذَيْلُ عن إسماعيل بن عَيَّاش الحِمْصِيّ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي مُعَاذ بن رِفَاعة عن إِبْرَاهِيم العُذْريّ قَالَ: يحمل هَذَا العلم من كُلّ خلف عدو له ينفون عَنْهُ تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين، قال:
حدثنا عبيد الله، قال: وحدثني أبي، قَالَ: حدثنا الْهُذَيْلُ عن سُفْيَان الواسطي، قَالَ: إن مثل من قرأ القرآن وَلَم يعلم تفسيره كمثل رَجُل جاءه كتاب أعز الناس
__________
(1) فى الأصل: عمر بن دينار.
(2) فى الأصل: القسم بن محمد.(1/26)
عَلَيْه ففرح به فطلب من يقرؤه (لَهُ) فلم يجده وَهُوَ أمي. فهكذا من قرأ القرآن وَلَم يدر ما فِيهِ. قَالَ: حَدَّثَنَا عبيد الله، قال: وحدثني أبي عن الهذيل عن على ابن عَاصِمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كُنَّا إِذَا عَلَّمَنَا رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعَشْرَ آيَاتٍ «1» مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ نُجَاوِزْهُنَّ إِلَى غَيْرِهِنَّ حَتَّى نَعْلَمَ مَا فِيهِنَّ.
قال: حدثنا عبيد الله، قال: وحدثني أبي، قَالَ: حَدَّثَني الْهُذَيْلُ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الْقُرْآنُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: تَفْسِيرٌ يَعْلَمُهُ الْعُلَمَاءُ، وَعَرِبِيَّةٌ تَعْرِفُهَا الْعَرَبُ، وَحَلالٌ وَحَرَامٌ لا يَسَعُ النَّاسَ جَهْلُهُ، وَتَأْوِيلٌ لا يَعْلَمُهُ إِلا اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ. قُلْتُ: وَمَا التَّأْوِيلُ؟ قَالَ:
مَا هُوَ كَائِنٌ. قَالَ: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: وَحدثنا أَبِي عن الْهُذَيْلِ عن مُقَاتِلٍ أَنَّهُ قَالَ: فِي القرآن خاص وعام، خاص للمسلمين «2» وخاص في المشركين وعام لجميع الناس ومتشابه ومحكم ومفسر ومبهم وإضمار وتمام وصلات فِي الكلام مَعَ ناسخ ومنسوخ وتقديم وتأخير وأشباه مَعَ وجوه كثيرة وجواب فِي سورة أخرى وأمثال ضربها اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لنفسه وأمثال ضربها للكافر والصنم وأمثال ضربها للدنيا والبعث والآخرة وخبر الأولين وخبر ما في الْجَنَّةِ والنار وخاص لمشرك واحد وفرائض وأحكام وحدود وخبر ما في قلوب الْمُؤْمِنِين وخبر ما في قلوب الكافرين وخصومة مشركي العرب وتفسير وللتفسير تفسير. قَالَ: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ:
حدثنا أَبِي عن الْهُذَيْلِ بن حبيب عن مُقَاتِلٍ قَالَ: من قرأ القرآن فلم يعلم تأويله فهو فِيهِ أمي. قَالَ: حدثنا عبيد اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْهُذَيْلِ عَنْ مقاتل عن عبد الكريم الجزوى قَالَ: ما أجد أعظم أجرا يوم الْقِيَامَة ممن علّم القرآن وعلّمه.
__________
(1) فى الأصل: الآيات.
(2) هكذا فى الأصل.(1/27)
وذَكَر مُقَاتِلٌ حساب الجمل فَقَالَ: يبدأ «1» بحروف أبى جاد [3 أ] فألحقها بها ألف واحد ب اثنين ج ثلاثة د أربعة هـ خمسة وستة ز سبعة ح ثمانية ط تسعة ي عشرة ك عشرون ل ثلاثون م أربعون ن خمسون ص ستون ع سبعون ف ثمانون س تسعون ق مائة ر مائتين ش ثلثمائة ت أربعمائة باقى المعجم: ث خمسمائة خ ستمائة ذ سبعمائة ض ثمانمائة ظ تسعمائة غ ألف.
قَالَ: وَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْهُذَيْلِ عَنْ مُقَاتِلٍ، قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-: مَا أَنْزَلَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْقُرْآنِ سُورَةً مِثْلَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَلا نَزَلَ فِي كُتُبِ الأَنْبِيَاءِ مِثْلُهَا.
قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُعْطِيتُ بِالتَّوْرَاةِ السَّبْعُ الطِّوَالُ وَهُنَّ الْقُرْآنُ، وَأُعْطِيتُ بِالإِنْجِيلِ الْمَثَانِي وَهُنَّ هُدَى الْقُرْآنِ، وَأُعْطِيتُ بِالزَّبُورِ الْمِئِينَ «2» وَهُنَّ رَيْحَانُ الْقُرْآنِ وفضلني بالمفصل «3» .
قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثني الْهُذَيْلُ عن الْمُسَيِّب بن شريك عن أَبِي روق عن الضَّحَّاك فِي قول اللَّه- سُبْحَانَهُ وتعالى-: الم، قَالَ: أَنَا اللَّه أَعْلَم.
قال: حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، قَالَ: حدثنا الْهُذَيْلُ عن أَبِي جَعْفَر الرَّازيّ عن أَبِي العالية فِي قوله- سُبْحَانَهُ- الم. قَالَ: هَذِهِ من الثمانية وعشرين حرفا التي دارت الألسن كلها بها وليس منها حرف إِلَّا وَهُوَ مفتاح اسم من أسماء اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وليس منها اسم إِلَّا وَهُوَ في الآية وبلا آية وليس منها حرف إِلَّا وَهُوَ فِي مدة قوم وآجالهم فالألف مفتاح اسم اللَّه- جلَّ جلاله-. واللام مفتاح اسمه لطيف والميم مفتاح اسمه مجيد.
__________
(1) فى الأصل: تبدأ.
(2) المئين ساقطة من الأصل.
(3) أ: المفضل.(1/28)
الألف آلاؤه واللام لطفه والميم مجده. قَالَ: حدثنا عبيد الله، قال:
وحدثني أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ عَنْ أَبِي بَكْر الهذلي عن عِكْرمَة فِي قوله- عَزَّ وَجَلّ-: ذلِكَ الْكِتابُ يعني التوراة والإنجيل، قَالَ أَبُو روق: فِي قوله- سبحانه-: لا رَيْبَ فِيهِ لا شك فِيهِ وهُدىً لِلْمُتَّقِينَ قَالَ: كرامة لهم هداهم إليه. وأما قوله- سبحانه-: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يعني بالغيب لا إله إِلَّا اللَّه وبما جاء به محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ يعني الصَّلاة المكتوبة وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ يعنى المفروضة وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ قَالَ روق: هَذِهِ للعرب «1» خاصة، قَالَ: وقَالَ أَبُو صَالِح، قَالَ الكلبي:
قَالَت: اليهود جُديّ وحُييّ ومن معهما نَحْنُ المتقون الَّذِين يؤمنون بالغيب آمنا بمحمد قبل أن يبعث. قَالَ الكلبي: هاتان الآيتان نزلتا فى اليهود.
__________
(1) أ: العرب.(1/29)
سورة الفاتحة(1/31)
سورة الفاتحة مكية وهي سبع آيات
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)(1/33)
بسم الله الرحمن الرحيم قَالَ: حدثنا عُبَيْدُ الله، قال: وحدثني أبى عن [3 ب] الْهُذَيْلِ عن سُفْيَان عن مَنْصُور عن مُجَاهِد، قال: قَالَ «1» : فاتحة الكتاب مدنية.
قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ الله، قال: وحدثني أبي عن الهذيل عن مُقَاتِلٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: فَاتِحَةُ الْكِتَابِ مَدَنِيَّةٌ «2» .
سُورَةُ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ سَبْعُ آيَاتٍ كوفية وهي مدنية ويقال مكية «3» .
__________
(1) هكذا بالأصل: (قال: قال) .
(2) لم يرد عن الرسول- صلى الله عليه وسلم- أى قول فى مكية بعض السور أو مدنيتها وإنما يرجع ذلك لحفظ الصحابة والتابعين وتابعيهم.
جاء فى البرهان للزركشى ص 191 ( ... غير أنه لم يكن من النبي- صلى الله عليه وسلم- في ذلك قول، ولا ورد عنه أنه قال: اعلموا أن قدر ما نزل بمكة كذا وبالمدينة كذا وفصله لهم. ولو كان ذلك منه لظهر وانتشر. وإنما لم يفعله لأنه لم يؤمر به ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة ...
وإذا كان كذلك ساغ أن يختلف فى بعض القرآن هل هو مكي أو مدني وأن يعملوا فى القول بذلك ضربا من الرأى والاجتهاد ... ) نقلا عن القاضي أبى بكر فى الانتصار.
(3) الأكثرون أنها مكية من أوائل ما نزل بمكة، وعند مجاهد أن الفاتحة مدنية. قال الحسين ابن الفضل لكل عالم هفوة وهذه بادرة من مجاهد لأنه تفرد بهذا القول والعلماء على خلافه. ومما يقطع به على أنها مكية قوله- تعالى-: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ وسورة الحجر مكية بلا خلاف، ولم يكن الله ليمتن على رسوله بإتيانه الفاتحة وهو بمكة ثم ينزلها بالمدينة، ولا يسعنا القول بأن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قام بمكة بضع عشرة سنة يصلى بلا فاتحة الكتاب، هذا مما لا تقبله العقول (انظر أسباب النزول للواحدي ص 11) .
وقيل إنها نزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة فتكرر نزولها لشرفها وأهميتها. وقد ورد فى فضلها أحاديث صحيحة فى البخاري ويكفى أن المسلم يقرؤها سبع عشرة مرة فى كل يوم وليلة- فى صلاة الفرائض- بخلاف النوافل. [.....](1/35)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ- 1- الْحَمْدُ لِلَّهِ يعني الشكر للَّه رَبِّ الْعالَمِينَ- 2- يعني الجن والإنس مثل قوله: لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ- 3- اسمان رقيقان أَحَدهمَا أرق من الآخر الرَّحْمنِ يعني المترحم، الرَّحِيمِ يعني المتعطف بالرحمة.
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ- 4- يعنى يوم الحساب كقوله- سبحانه- إِنَّا لَمَدِينُونَ «1» يعني لمحاسبون وذلك أن ملوك الدُّنْيَا يملكون فِي الدُّنْيَا فأخبر- سُبْحَانَهُ- أَنَّهُ لا يَمْلك يوم الْقِيَامَة أحد غيره فذلك قوله- تعالى-:
وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «2» .
إِيَّاكَ نَعْبُدُ يعني نوحد كقوله- سُبْحَانَهُ- فِي المفصل: عابِداتٍ «3» يعني موحدات.
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ- 5- عَلَى عبادتك اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ- 6- يعني دين الإسلام لأن غير دين الإسلام لَيْسَ بمستقيم وَفِي قراءة ابْن مَسْعُود:
ارشدنا.
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ يعني دلنا عَلَى طريق الَّذِين أنعمت عليهم يعني النبيين الَّذِين أنعم اللَّه عليهم بالنبوة كقوله- سُبْحَانَهُ: أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ «4» .
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يعني دلنا عَلَى دين غير اليهود الَّذِين غضب اللَّه عليهم «5» فجعل «6» منهم القردة والخنازير.
وَلَا الضَّالِّينَ- 7- يَقُولُ وَلا دين المشركين يعني النصارى.
__________
(1) سورة الصافات: 53.
(2) سورة الانفطار: 19.
(3) سورة التحريم الآية: 5.
(4) سورة مريم الآية: 58.
(5) أ: دنيا.
(6) أ: فجعلت(1/36)
قَالَ: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الْهُذَيْلِ عَنْ مُقَاتِلٍ عَنْ مَرْثَدٍ عَنْ أََبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: يَقُولُ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: قَسَّمْتُ هَذِهِ السُّورَةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. يَقُولُ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: شَكَرَنِي عَبْدِي. فَإِذَا قَالَ: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. يَقُولُ اللَّهُ: مَدَحَنِي عَبْدِي. فإذا قال: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. يَقُولُ اللَّهُ:
أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي. وَلِعَبْدِي بَقِيَّةُ السُّورَةِ. وَإِذَا قَالَ: وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. يَقُولُ اللَّهُ: فَهَذِهِ لِعَبْدِي. وَإِذَا قَالَ: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ. يَقُولُ اللَّهُ: فَهَذِهِ لِعَبْدِي.
وَلَا الضَّالِّينَ. فَهَذِهِ لِعَبْدِي «1» .
قَالَ: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي، قال: حدثنا الهذيل عن مقاتل قال: إذا قرأ [4 أ] أحدكم هَذِهِ السورة فبلغ خاتمتها، فَقَالَ: وَلَا الضَّالِّينَ فليقل آمين فَإِن الملائكة تؤمن فَإِن وافق تأمين الناس غفر للقوم ما تقدم من ذنوبهم.
قَالَ: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ حَدَّثَنِي هُذَيْل عن وَكِيع عن منصور عن مُجَاهِد، قَالَ: لما نزلت فاتحة الكتاب رنَّ إبليس «2» .
قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ السُّدِّيِّ عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ عَنْ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي قَوْلِهِ- عَزَّ وَجَلَّ-: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي قال: هي فاتحة الكتاب.
__________
(1) ورد هذا الحديث من عدة طرق فى الدر المنثور فى التفسير بالمأثور للسيوطي ص 6.
(2) رن إبليس: يعنى صاح صيحة حزينة، وانظر لسان العرب مادة رن.(1/37)
سورة البقرة(1/39)
(2) سورة البقرة مدنية وهي ست وثمانون ومائتا آية
[سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 286]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14)
اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19)
يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)
وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)
يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94)
وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99)
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104)
مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ مَا كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)
وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159)
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169)
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174)
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204)
وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269)
وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279)
وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا مَا دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)(1/41)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم- 1- ذلِكَ الْكِتابُ وذلك أن كَعْب بن الأشرف، وكعب بن أُسَيْد لما دعاهما النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الْإِسْلام قَالا: ما أنزل اللَّه كتابا من بعد مُوسَى تكذيبا به فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي قولهما: الم، ذلِكَ الْكِتابُ بمعنى هَذَا الكتاب الَّذِي كفرت به اليهود لا رَيْبَ فِيهِ يعني لا شك فيه أَنَّهُ من اللَّه جاء، وَهُوَ أنزله عَلَى محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمّ قَالَ:
هَذَا القرآن هُدىً من الضلالة لِلْمُتَّقِينَ- 2- من الشرك. ثُمّ نعتهم فَقَالَ سُبْحَانَهُ-: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يعني يؤمنون بالقرآن أَنَّهُ من اللَّه- تَعَالَى- جاء وَهُوَ أنزله عَلَى محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيحلون حلاله ويحرمون حرامه ويعملون بما فِيهِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ المكتوبة الخمس يعني يقيمون ركوعها وسجودها فِي مواقيتها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ من الأموال يُنْفِقُونَ- 3- يعني الزكاة المفروضة نظيرها فِي لقمان فهاتان الآيتان نزلتا فِي مؤمني أصحاب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمهاجرين «1» .
ثُمّ ذكر مؤمني أَهْل التوراة عَبْد اللَّه بن سلام وأصحابه منهم أُسَيْد بن زَيْد، وأسد بن كَعْب، وسلام بن قَيْس، وثعلبة بن عُمَر، وابن يامين «2» واسمه سلام فَقَالَ:
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ يعني يصدقون بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يا محمد من القرآن أَنَّهُ من اللَّه
__________
(1) هكذا فى أ، ل. ولعل الأصل المهاجرين والأنصار.
(2) ل: وابن يافين.(1/81)
__________
(مقصود السورة إجمالا) مدح مؤمنى أهل الكتاب، وذم كفار مكة ومنافقي المدينة والرد على منكري النبوة، وقصة التخليق والتعليم وتلقين آدم وملامة علماء اليهود فى مواضع عدة وقصة موسى، واستسقائه ومواعدته ربه ومنته على بنى إسرائيل، وشكواه منهم، وحديث البقرة، وقصة سليمان، وهاروت وماروت والسحرة، والرد على النصارى، وابتلاء إبراهيم- عليه السلام، وبناء الكعبة، ووصية يعقوب لأولاده وتحويل القبلة، وبيان الصبر على المصيبة وثوابه، ووجوب السعى بين الصفا والمروة، وبيان حجة التوحيد، وطلب الحلال وإباحة الميتة حال الضرورة، وحكم القصاص والأمر بصيام رمضان، والأمر باجتناب الحرام والأمر بقتال الكفار والأمر بالحج والعمرة وتعديد النعم على بنى إسرائيل، وحكم القتال فى الأشهر الحرم.
والسؤال عن الخمر والميسر ومال الأيتام والحيض والطلاق والمناكحات وذكر العدة والمحافظة على الصلاة وذكر الصدقات والنفقات، وملك طالوت وقتل جالوت، ومناظرة الخليل عليه السلام ونمروذ وإحياء الموتى بدعاء إبراهيم وإثبات إيمان الرسول والمؤمنين بربهم.
وعدد كلمات سورة البقرة: ستة آلاف كلمة ومائة وإحدى وعشرون كلمة (6121) .(1/82)
نزل وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ «1» عَلَى الْأَنْبِيَاء يعني التوراة والإنجيل والزبور وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ- 4- يعني يصدقون بالبعث الَّذِي فِيهِ جزاء الأعمال [4 ب] بأنه كائن.
ثُمّ جمعهم جميعًا فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- 5-.
فَلَمَّا سَمِع أَبُو ياسر بن أخطب اليهودي بهؤلاء الآيات، قَالَ لأخيه جدي بن أخطب: لقَدْ سَمِعْتُ من محمد كلمات أنزلهن اللَّه عَلَى مُوسَى بن عِمْرَانَ. فَقَالَ جدي لأخيه: لا تعجل حَتَّى تتثبت «2» فِي أمره. فعمد أبو ياسر وجدي ابنا أخطب، وكعب ابن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وحيي بن أخطب، وسعيد «3» بن عمرو الشاعر، وأَبُو لبابة بن عمرو، ورؤساء اليهود، فأتوا النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال جدي للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا أبا الْقَاسِم «4» ، أَخْبَرَنِي أَبُو ياسر بكلمات تقولهن آنفا، فقرأهن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ جدي: صدقتم «5» أما الم، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ فنحن هم وأما الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ فهو كتابك وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ فهو كتابنا وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ فأنتم هُمْ قَدْ آمنتم بما أنزل إليكم وإلينا وآمنتم بالجنة والنار فآيتان فينا وآيتان فيكم. ثُمّ قَالُوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-:
__________
(1) أ، ل: (ويصدقون بما أنزل من قبلك) مع تميز كلمات القرآن بالمداد الأحمر. وقد اضطررت إلى كتابة نص القرآن فقط.
(2) فى ل: تثبت، وفى أ: تثبت. وفى حاشية أ: فى الأصل: تثبت.
(3) فى ل: وشعبة. [.....]
(4) أ: القسم.
(5) هكذا فى أ، ل ولو كان الخطاب للنبي وحده لقال: صدقت. فصدقتم لتعظيم النبي أو يقصد المسلمين معه.(1/84)
ننشدك بِاللَّه أنها نزلت عليك من السماء. فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
أشهد بِاللَّه أنها نزلت عليّ من السماء. فذلك قوله- سُبْحَانَهُ- فِي يُونُس وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي «1» يعني «2» ويستخبرونك أحق هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي ويعني بلى وربي إنَّه لحق.
فَقَالَ جدي: لئن كُنْت صادقا فإنكم تملكون إحدى وسبعين سنة، ولقد بعث اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي بني إِسْرَائِيل ألف نَبِيّ كلهم يخبرون عن أمتك وَلَم يخبرونا كم تملكون حَتَّى أخبرتنا أَنْت الآن. ثُمّ قَالَ جدي لليهود: كيف ندخل فِي دين رَجُل منتهى ملك أمته إحدى وسبعون سنة. فَقَالَ عُمَر بن الخَطَّاب- رضوان اللَّه عَلَيْه: وما يدريك أنها إحدى وسبعون سنة؟ فَقَالَ جدي: أما ألف فِي الحساب فواحد، واللام ثلاثون، والميم أربعون سنة. فضحك رسول اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَقَالَ جدي: هَلْ غَيْر هَذَا؟ فَقَالَ النَّبِيّ- صلى اللَّه عَلَيْه وسلم: نعم المص، كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ «3» . فَقَالَ جدي: هَذِهِ أكبر من الأولى ولئن كنت صادقا فإنكم تملكون مائتي سنة واثنتين وثلاثين سنة. ثُمّ قَالَ «4» : هَلْ غَيْر هَذَا؟ فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الر، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ «5» فَقَالَ جدي: هَذِهِ أكبر من الأولى والثانية وَقَدْ حكم وفصل ولئن كُنْت صادقا فإنكم تملكون [5 أ] أربعمائة سنة وثلاثا وستين «6» سنة، فاتق اللَّه وَلا تقولن إِلَّا حقا. فهل غَيْر هَذَا؟ فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: المر، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ «7» . فَقَالَ جدي: لئن كُنْت صادقا فإنكم تملكون سبعمائة سنة وأربعا «8» وثلاثين سنة.
ثُمّ إن جدي قال: الآن لا نؤمن بما
__________
(1) يونس: 53.
(2) فى أ، ل زيادة: «بلى وربى إنه لحق» .
(3) الأعراف: 1، 2.
(4) أ: فقال.
(5) سورة هود: 1.
(6) أ: وستون.
(7) الرعد: 1.
(8) أ: وأربع.(1/85)
تَقُولُ ولقد خلطت علينا فَمَا ندري بأي قولك نأخذ، وأيما أنزل عليك نتبع، ولقد لبست علينا حَتَّى شككنا فِي قولك الأول، ولولا ذَلِكَ لاتبعناك. قَالَ أَبُو ياسر:
أما أَنَا فأشهد أن ما أنزل عَلَى أنبيائنا حق وأنهم قَدْ بينوا لنا ملك هَذِهِ الأمة، فَإِن كان محمد صادقا فيما يَقُولُ ليجمعن لَهُ هَذِهِ السنون كلها ثُمّ نهضوا من عنده.
فَقَالَوا: كفرنا بقليله وكثيره. فَقَالَ جدي لعبد اللَّه بن سلام وأصحابه: أما تعرفون الباطل فيما خلط عليكم. فقالوا: بلى، نعرف الحق فيما يَقُولُ «1» فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي كفار اليهود بالقرآن الم، اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ:
الَّذِي لا يموت الْقَيُّومُ: يعني القائم على كل شيء نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يا محمد بِالْحَقِّ لَمْ ينزل باطلا مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ: يَقُولُ- سُبْحَانَهُ قرآن محمد يصدق الكتب التي كَانَتْ قبله وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ «2» هُدىً لِلنَّاسِ يعني لبني إسرائيل من الضلالة. ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ يعني قرآن محمد بعد التوراة والإنجيل يعني بالفرقان المخرج من الشبهات والضلالة. نظيرها فِي الْأَنْبِيَاء وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ «3» يعني المخرج.
وَفِي البقرة: وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ «4» . إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ اليهود، كفروا بالقرآن يعني هَؤُلاءِ النفر الْمُسْلِمِين وأصحابهم لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ فِي ملكه وسلطانه ذُو انْتِقامٍ «5» من أَهْل معصيته.
وأنزلت أيضا فِي اليهود فِي هَؤُلاءِ النفر وما يحسبون من المتشابه هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ.
__________
(1) هذا الأثر أخرجه ابن إسحاق والبخاري فى تاريخه وابن جرير بسند ضعيف عن ابن عباس.
وانظر السيوطي فى الدر المنثور 1: 23.
(2) أ: هما.
(3) سورة الأنبياء: 48 وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ.
(4) سورة البقرة: 185، وفى أ: بينات. [.....]
(5) سورة آل عمران: 1- 4.(1/86)
فأما المحكمات فالآيات الثلاث اللاتي فِي الأنعام: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.... إلى قوله سبحانه: ... لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «1» فهن محكمات وَلَم ينسخهن شيء من الكتاب، وإنما سمين أم الكتاب لأن تحريم هَؤُلاءِ الآيات فِي كُلّ كتاب أنزله اللَّه- عَزَّ وَجَلّ.
وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ يعني الم، المص، الر، المر «2» ، شبهوا عَلَى هَؤُلاءِ النفر من اليهود كم تملك هَذِهِ الأمة من السنين فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يعني ميل عن الهدى وهُمْ هَؤُلاءِ اليهود فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ يعني الكفر وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ: يعني منتهى كم يملكون.
يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [5 ب] : يعني كم تملك هَذِهِ الأمة من السنين «3» وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يعني عَبْد اللَّه بن سلام وأصحابه، يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ: يعني بالقرآن كله. - كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ: يعني من كان لَهُ لب أَوْ عقل.
ثُمّ قَالَ ابْن سلام وأصحابه رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا كَمَا أزغت قلوب اليهود بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا إلى الإسْلام وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ «4» .
__________
(1) آيات: 151، 152، 153 من سورة الأنعام وهي: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
(2) آلم: أول البقرة، وآل عمران. المص: أول الأعراف. الر: أول يونس، وهود، ويوسف، وإبراهيم، والحجر. والمر: أول الرعد.
(3) فى أ: وما يعلم تأويل: كم يملكون إلا الله: يعنى هذه الأمة من السنين.
(4) سورة آل عمران: 7- 8.(1/87)
فآيتان من أول هذه السورة نزلتا فِي أصحاب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المهاجرين (والأنصار «1» .
والآيتان اللتان تليانهما نزلتا فى مشركي العرب.
وثلاث عشرة آية «2» فِي المنافقين من أَهْل التوراة.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ- 6- يعني لا يصدقون.
خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ يعني طبع اللَّه عَلَى قلوبهم فهم لا يعقلون الهدى وَعَلى سَمْعِهِمْ يعني آذانهم فلا يسمعون الهدى. وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ يعني غطاء فلا يبصرون الهدى. وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ- 7- يعني وافر لا انقطاع لَهُ. نزلت هاتان الآيتان فِي مشركي العرب منهم شَيْبَة وعتبة ابنا ربيعة، والوليد ابن المُغِيرَة، وأَبُو جهل بن هِشَام- اسمه عمرو-، وعبد اللَّه بن أَبِي أمية، وأمية بن خلف، وعَمْرو بن وَهْب، والعاص بن وائل، والحارث بن عمرو «3» ، والنضر بن الْحَارِث، وعدي بن مطعم بن عَدِيّ، وعامر بن خَالِد، أبو البختري
__________
(1) روى السيوطي بإسناده عن مجاهد قال: «من أول البقرة أربع آيات فى نعت المؤمنين، وآيتان فى نعت الكافرين، وثلاث عشرة آية فى نعت المنافقين ومن أربعين إلى عشرين ومائة فى بنى إسرائيل» الدر المنثور 1: 23.
وأخرج وكيع عن مجاهد قال: هؤلاء الآيات الأربع فى أول سورة البقرة إلى المفلحون نزلت فى نعت المؤمنين، واثنتان من بعدها إلى عظيم نزلت فى نعت الكافرين، وإلى العشرين نزلت فى المنافقين.
المرجع السابق 1: 23، ومع ذلك ففي نسخة أ، ل: آيتان فى أصحاب النبي (ص) المهاجرين.
والمقصود بالآيتين آيتي 4، 5 (فى المؤمنين) ، آيتي 6، 7 فى المشركين، آية 8- 20 فى المنافقين.
(2) فى أ: ثلاثة عشر آية.
(3) فى أ: عمر. وفى ل: عمرو.(1/88)
ابن هشام، ثُمّ رجع إلى المنافقين فَقَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ- يعني صدقنا بِاللَّه بأنه واحد لا شريك لَهُ وصدقنا بالبعث الَّذِي فِيهِ جزاء الأعمال بأنه كائن فكذبهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فَقَالَ: وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ- 8- يعني بمصدقين بالتوحيد وَلا بالبعث الَّذِي فِيه جزاء الأعمال يُخادِعُونَ اللَّهَ حين أظهروا الْإِيمَان بمحمد، وأسروا التكذيب وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ- 9- نزلت فِي منافقي أَهْل الكتاب اليهود منهم عبد الله بن أبى بن سلول، وجد بن قيس، والحارث ابن عمرو، ومغيث بن قشير، وعَمْرو بن زَيْد، فخدعهم اللَّه فِي الآخرة حين يَقُولُ فِي سورة الحديد: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً «1» . فَقَالَ لهم استهزاء بِهِمْ «2» كَمَا استهزءوا فِي الدُّنْيَا بالمؤمنين حين قَالُوا: آمنا وليسوا بمؤمنين، وذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
«3» : أيضا عَلَى الصراط حين يُقَالُ لهم ارْجِعُوا وراءكم فالتمسوا نورا.
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعنى الشك بالله وبمحمد نظيرها فى سورة محمد أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «4» يعنى الشك [6 أ] .
فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً يعني شكا فِي قلوبهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني وجيع فِي الآخرة بِما كانُوا يَكْذِبُونَ- 10- لقولهم آمنا بالله وباليوم الآخر وذلك أن عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ المنافق قَالَ لأصحابه: انظروا إليّ وإلى ما أصنع فتعلموا مني وانظروا دفعي فِي هَؤُلاءِ القوم كيف أدفعهم عن نفسي وعنكم. فَقَالَ أصحابه:
أَنْت سيدنا ومعلمنا، ولولا أَنْت لَمْ نستطع أن نجتمع مَعَ هَؤُلاءِ. فَقَالَ عَبْد اللَّه
__________
(1) سورة الحديد: 13.
(2) «بهم» : ساقطة من ل وأ.
(3) سورة النساء: 142.
(4) سورة محمد: 29.(1/89)
ابن أُبَيٍّ لأبي بَكْر الصِّدِّيق وأخذ بيده: مرحبا بسيد بني تميم بن مرة، ثاني اثنين، وصاحبه فِي الغار، وصفيه من أمته الباذل نفسه وماله. ثُمّ أَخَذَ بيد عُمَر بن الخَطَّاب فَقَالَ: مرحبا بسيد بني عَدِيّ بن كَعْب، القوي فِي أمر اللَّه الباذل نفسه وماله. ثُمّ أَخَذَ بيد عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب فَقَالَ: مرحبا بسيد بني هَاشِم، غَيْر رَجُل واحد اختصه اللَّه بالنبوة لما علم من صدق نيته ويقينه. فَقَالَ عُمَر بن الخطاب- رضي الله عنه-: ويحك يا ابن أُبَي اتق اللَّه، وَلا تنافق وأصلح، وَلا تفسد، فَإِن المنافق شر خليقة اللَّه، وأخبثهم خبثا، وأكثرهم غشا. فَقَالَ عَبْد اللَّه بن أبى بن سلول: يا عُمَر، مهلا فواللَّهِ، لقَدْ آمنت كإيمانكم، وشهدت كشهادتكم، فافترقوا عَلَى ذَلِكَ. فانطلق أَبُو بَكْر وعمر وعلي- رحمة اللَّه عليهم- إلى رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبروه بالذي قاله عَبْد اللَّه فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عَلَى نبيه- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ يعني لا تعملوا فِي الأرض بالمعاصي قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ- 11- يعنى مطيعين.
يَقُولُ اللَّه- سُبْحَانَهُ: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ يعنى العاصين وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ- 12- بأنهم مفسدون وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ نزلت فى منذر ابن معاذ، وأبي لبابة، ومعاذ بن جبل، وأسيد، قَالُوا لليهود: صدقوا بمحمد أنَّه نَبِيّ، كَمَا صدق به عَبْد اللَّه بن سلام وأصحابه فقالت اليهود: قالُوا أَنُؤْمِنُ «1» يعني نصدق كَما آمَنَ السُّفَهاءُ يعني الجهال يعنون عَبْد اللَّه بن سلام وأصحابه يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ردا عليهم: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ
__________
(1) فى أ: (أنؤمن) .(1/90)
- 13- بأنهم السفهاء ثُمّ أخبر عَنْهُمْ فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا يعني صدقوا من أصحاب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالُوا لهم: آمَنَّا صدقنا بمحمد وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ يعني رؤساء اليهود كَعْب بن الأشرف وأصحابه قالُوا لهم: إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى دينكم إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ- 14- بمحمد وأصحابه فَقَالَ اللَّه- سُبْحَانَهُ: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فى الآخرة إذا ضرب [6 ب] بينهم وبَيْنَ الْمُؤْمِنِين بسور لَهُ باب عَلَى الصراط فيبقون فِي الظلمة حَتَّى يُقَالُ لهم: ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فهذا من الاستهزاء بهم. ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ:
وَيَمُدُّهُمْ ويلجهم فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ- 15- يعنى فى ضلالتهم يترددون ثُمّ نعتهم فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وذلك أن اليهود وجدوا نعت محمد النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي التوراة قبل أن يبعث فآمنوا به وظنوا أَنَّهُ من ولد إسحاق- عَلَيْه السَّلام- فَلَمَّا بعث محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من العرب من ولد إسماعيل- عَلَيْه السَّلام- كفروا به حسدا، واشتروا الضلالة بالهدى، يَقُولُ: باعوا الهدى الَّذِي كانوا فِيهِ من الْإِيمَان بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل أن يبعث بالضلالة التي دخلوا فيها بعد ما بعث من تكذيبهم بمحمد- صلى اللَّه عَلَيْه وسلم- فبئس التجارة فذلك قوله- سُبْحَانَهُ:
فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ- 16- من الضلالة ثُمّ ضرب اللَّه للمنافقين مثلا فَقَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ طفئت ناره، يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- مثل المنافق إذا تكلم بالإيمان كان لَهُ نور بمنزلة المستوقد نارا يمشي بضوئها ما دامت ناره تتقد «1» فإذا ترك الْإِيمَان كان فِي ظلمة كظلمة من طفئت ناره فقام لا يهتدى ولا يبصر فذلك قوله
__________
(1) فى أ: تقد. [.....](1/91)
- سبحانه-: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ يعنى بإيمانهم نظيرها فى سورة النور وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ «1» - يعني به الْإِيمَان، وقَالَ- سُبْحَانَهُ- فِي الأنعام: وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ «2» يعني يهتدي به الَّذِين تكلموا به وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ يعنى الشرك لا يُبْصِرُونَ- 17- الهدى ثُمّ نعتهم فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: صُمٌّ لا يسمعون يعني لا يعقلون بُكْمٌ خرس لا يتكلمون بالهدى عُمْيٌ «3» فهم لا يبصرون الهدى حين ذهب اللَّه بنورهم يعني بإيمانهم فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ- 18- عن الضلالة إلى الهدى ثُمّ ضرب للمنافقين مثلا فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ يعنى المطر فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ مثل المطر مثل القرآن، كَمَا أن المطر حياة الناس فكذلك القرآن حياة لمن آمن به. ومثل الظلمات يعني الكافر بالقرآن يعني الضلالة التي هُمْ فيها، ومثل الرعد ما خوفوا به من الوعيد فِي القرآن، ومثل البرق الذي في المطر مثل الإيمان وهو النور الذي في القرآن يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ يَقُولُ مثل المنافق إذا سَمِع القرآن فصم أذنيه كراهية للقرآن كمثل الَّذِي جعل أصبعيه فِي أذنيه من شدة الصواعق حَذَرَ الْمَوْتِ [7 أ] يعني مخافة الموت يَقُولُ كَمَا كره الموت من الصاعقة فكذلك يكره الكافر القرآن فالموت خير لَهُ من الكفر بِاللَّه- عَزَّ وَجَلّ- والقرآن وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ- 19- يعنى أحاط علمه بالكافرين ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: يَكادُ الْبَرْقُ الَّذِي فِي المطر يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ يعني يذهب بأبصارهم من شدة نوره. يَقُولُ- سُبْحَانَهُ مثل الْإِيمَان إذا تكلم به المنافق مثل نور البرق الذي يكاد أن يذهب بأبصارهم كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ البرق مَشَوْا فِيهِ يقول كلما تكلموا بالإيمان مضوا فيه
__________
(1) سورة النور: 40.
(2) سورة الأنعام: 122.
(3) فى أ: وعمى.(1/92)
يَقُولُ: ويضيء لهم نورا يهتدون به «1» وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ البرق أَي ذهب ضوءه قامُوا فِي ظلمة لا يبصرون الهدى وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ فلا يسمعون وَأَبْصارِهِمْ فلا يرون أبدا عقوبة لهم إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- 20- من ذلك وغيره.
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ يعني المنافقين واليهود وحدوا ربكم الَّذِي خَلَقَكُمْ ولم تكونوا شيئا وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ «2» من الأمم الخالية لَعَلَّكُمْ يعني لكي تَتَّقُونَ- 21- الشرك وتوحدوا اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إذا تفكرتم فِي خلقكم وخلق الَّذِين من قبلكم ثُمّ دل عَلَى نفسه بصنعه ليوحدوه وذكرهم النعم فَقَالَ- سُبْحَانَهُ- اعبدوا ربكم الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً يعني بساطا وَالسَّماءَ بِناءً يعني سقفا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً يعني المطر فَأَخْرَجَ بِهِ يَقُولُ فأخرج بالمطر من الأرض أنواعا مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً يَقُولُ لا تجعلوا مَعَ اللَّه شركاء وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ- 22- أن هَذَا الَّذِي ذكر كله من صنعه فكيف تعبدون غيره؟ قَالَت اليهود منهم رِفَاعة بن زَيْد، وزيد بن عمرو، ما يشبه هَذَا الكلام الوحي وإنا لفي شك منه. فأنزل اللَّه- عَزَّ وجل- وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ يعني فِي شك مِمَّا نَزَّلْنا من القرآن عَلى عَبْدِنا يعني محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ اللَّه مِثْلِهِ يعني مثل هذا القرآن وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ يَقُولُ واستعينوا بالآلهة التي تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 23- بأن محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ من تلقاء نفسه، ثُمّ يَقُولُ- سُبْحَانَهُ-:
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا يعني تجيئوا به فيها تقديم تقديمها ولن تفعلوا ذلك
__________
(1) هكذا فى ل، وفى أ: ويضيء لهم وكان هذا يهتدون به.
(2) فى أ: وخلق الذين من قبلكم.(1/93)
فإن تفعلوا فأتوا بسورة من مثل هَذَا القرآن فلم يجيبوه «1» وسكتوا، يَقُولُ- اللَّه سُبْحَانَهُ-: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ وتلك الحجارة تحت الأرض الثانية مثل الكبريت تجعل فِي أعناقهم إذا اشتعلت فيها النار احترقت عامة اليوم «2» فكان وهجها عَلَى وجوههم وذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ [7 ب] يعني شدة العذاب يَوْمَ الْقِيامَةِ «3» ثُمّ قَالَ:
أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ- 24- بالتوحيد يخوفهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فلم يخافوا فقالوا من تكذيبهم: هَذِهِ النار وقودها الناس فَمَا بال الحجارة، فرق المؤمنون عند التخويف، فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني البساتين كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ كلما أطعموا منها من الجنة من ثمرة رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وذلك أن لهم فِي الجنة رزقهم فيها بكرة وعشيا فإذا أتوا بالفاكهة فِي صحاف الدر والياقوت فِي مقدار بكرة الدُّنْيَا وأتوا بالفاكهة غيرها عَلَى مقدار عشاء الدُّنْيَا فإذا نظروا إِلَيْهِ «4» متشابه الألوان قَالُوا هَذَا الَّذِي رزقنا من قبل يعني أطعمنا بكرة فإذا أكلوا وجدوا طعمه غَيْر الَّذِي أتوا به بكرة فذلك قوله- سُبْحَانَهُ: وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً يعني يشبه بعضه بعضا فِي الألوان مختلفا فى الطعم وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ خلقن فِي الجنة مَعَ شجرها وحللها مطهرة من الحيض والغائط والبول والأقذار كلها وَهُمْ فِيها «5» خالِدُونَ- 25- لا يموتون إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا وذلك أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ذكر العنكبوت والذباب فِي القرآن فضحكت اليهود وقالت: ما يشبه
__________
(1) هكذا فى ل، وفى أ: فلم تجيبوا.
(2) فى أ: يوم.
(3) سورة الزمر 24.
(4) أ: إليها.
(5) (وهم فيها) : ساقط من أ، ل.(1/94)
هَذَا من الأمثال. فَقَالَ- سُبْحَانَهُ: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا يعني أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لا يمنعه الحياء أن يصف للخلق مثلا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا يعني يصدقون بالقرآن فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ «1» أَي هَذَا المثل هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا بالقرآن يعني اليهود فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرادَ اللَّهُ بِهذا الَّذِي ذكر مَثَلًا إِنَّمَا يقوله محمد من تلقاء نفسه وليس من اللَّه فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يُضِلُّ بِهِ أي يضل اللَّه بِهَذَا المثل كَثِيراً من الناس يعني اليهود وَيَهْدِي بِهِ أي بهذا المثل كَثِيراً من الناس يعنى المؤمنين وَما يُضِلُّ بِهِ أَي بِهَذَا المثل إِلَّا الْفاسِقِينَ- 26- يعني اليهود ثُمّ أخبر فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-:
الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ فنقضوا العهد الأول، ونقضوا ما أَخَذَ عليهم فِي التوراة، أن يعبدوا اللَّه. وَلا يشركوا به شيئًا، وأن يؤمنوا بالنَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكفروا بعيسى وبمُحَمَّد- عليهما السَّلام- وآمنوا ببعض الْأَنْبِيَاء، وكفروا ببعض، وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ «2» وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ يعني ويعملون فيها بالمعاصي أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ- 27- فِي العقوبة يعني اليهود ونظيرها فِي الرعد الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [8 أ] من إيمان بمحمد- صلى الله عليه وسلم- وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ «3» .
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ بأنه واحد لا شريك لَهُ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً يعني نطفا فَأَحْياكُمْ يعني فخلقكم وذلك قوله- سبحانه-:
__________
(1) أ: فيعلمون، وفى الحاشية: الآية يقولون.
(2) وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ: ساقط من أ، ل.
(3) سورة الرعد: 25.(1/95)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ «1» ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عِنْد إحيائكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ من بعد الموت يوم الْقِيَامَة ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ- 28- فيجزيكم بأعمالكم فأما اليهود فعرفوا وسكتوا وأمّا المشركون فقالوا أإذا كُنَّا ترابا من يقدر أن يبعثنا من بعد الموت فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من شيء ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فبدأ بخلقهن وخلق الأرض فَسَوَّاهُنَّ يعني فخلقهن سَبْعَ سَماواتٍ فهذا أعظم من خلق الْإِنْسَان وذلك قوله- سبحانه-:
لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «2» وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ من الخلق عَلِيمٌ- 29- بالبعث وغيره وَإِذْ يعني وَقَدْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً وذلك أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- خلق الملائكة والجن قبل خلق الشياطين والإنس. وَهُوَ آدم- عَلَيْه السلام- فجعلهم سكان الأرض وَجَعَل الملائكة سكان السماوات فوقع فِي الجن الفتن والحسد فاقتتلوا فبعث اللَّه جندا من أَهْل سماء الدُّنْيَا- يُقَالُ لهم الجن، إبليس عدو اللَّه منهم، خلقوا جميعًا من نار وهم خزان الجنة رأسهم إبليس- فهبطوا إلى الأرض فلم يكلفوا من العبادة فِي الأرض ما كلفوا فِي السماء فأحبوا القيام فِي الأرض فأوحى الله- عَزَّ وَجَلّ- إليهم إني جاعل فِي الأرض خليفة سواكم ورافعكم إليّ فكرهوا ذَلِكَ لأنهم كانوا أهون الملائكة أعمالا قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها يَقُولُ أتجعل فِي الأرض مَنْ يُفْسِدُ فِيها يعنى من يعمل فيها بالمعاصي وَيَسْفِكُ الدِّماءَ بغير حق كفعل الجن وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ يَقُولُ نَحْنُ نذكرك بأمرك كقوله- سُبْحَانَهُ-: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ «3» يعني يذكره بأمره ونقدس لك ونصلي لك ونعظم أمرك قالَ
__________
(1) الروم: 19. [.....]
(2) سورة غافر: 57.
(3) سورة الرعد: آية 13 وتمامها ... وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ.(1/96)
اللَّه- سُبْحَانَهُ-: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ- 30- إن فِي علمي أنكم سكان السماء ويكون آدم وذريته سكان الأرض ويكون منهم من يسبح بحمدي ويعبدني فخلق آدم- عَلَيْه السَّلام- من طين أحمر وأبيض من السبخة والعذبة فَمنْ ثَمّ نسله أبيض وأحمر وأسود مؤمن وكافر، فحسد إبليس تِلْكَ الصورة فَقَالَ للملائكة الَّذِين هُمْ معه أرأيتم هَذَا الَّذِي لَمْ تروا شيئًا من الخلق عَلَى خلقته إن فضل [8 ب] عَلَيّ ماذا تصنعون؟ قَالوا: نسمع ونطيع لأمر اللَّه، وأسر عدو اللَّه إبليس فِي نفسه لئن فضل آدم عليه لا يطيعه وليستفزنه. فترك آدم طينا أربعين سنة مصورا فجعل إبليس يدخل من دبره ويخرج من فِيهِ، وَيَقُولُ أَنَا نار وهذا طين أجوف والنار تغلب الطين «1» ولأغلبنه فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» يعنى قوله يومئذ لأغلبنه وقوله لأحتنكن يعني لأحتوين عَلَى ذريته إِلَّا قليلا. فَقَالَ للروح: ادخلي هَذَا الجسد. فقالت:
أَي رب أَيْنَ تدخلني هذا الجسد المظلم؟ فَقَالَ اللَّه- تبارك وتعالى-: ادخليه كرها فدخلته كرها وهي لا تخرج منه إِلَّا كرها ثُمّ نفخ فِيهِ الروح من قبل رأسه، فترددت الروح فِيهِ حَتَّى بلغت نصف جسده موضع السرة فجعل للقعود فذلك قوله- تَعَالَى-: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «3» فجعلت الروح تتردد فِيهِ حَتَّى بلغت أصابع الرجلين، فأرادت أن تخرج منها فلم تجد منفذا، فرجعت إلى الرأس فخرجت من المنخرين، فعطس عِنْد ذَلِكَ لخروجها من منخريه فَقَالَ: الحمد لله.
__________
(1) هذا الأثر أورده بطوله ابن كثير ج 1: 75 رواية عن ابن جرير بدأه بقوله: وقال ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبى روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة وكان اسمه الحارث وكان خازنا من خزان الجنة وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي.. إلخ.
(2) سورة سبأ: 20
(3) سورة الإسراء: 11- والأثر كله فى ابن كثير ج 1: 75 ولكن الآية وردت فى تفسير ابن كثير هكذا وخلق الْإِنْسانُ عَجُولًا وهو خطأ فليصحح.(1/97)
فكان أول كلامه فرد ربه- عَزَّ وَجَلّ-: يرحمك اللَّه لهذا خلقتك تسبح بحمدي وتقدس لي. فسبقت رحمته لآدم- عَلَيْه السَّلام- وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «1» ثُمّ إن اللَّه- تبارك وتعالى حشر الطير والدواب وهوام الأرض كلها فعلم آدم- عليه السَّلام- أسماءها فَقَالَ: يا آدم هَذَا فرس، وهذا بغل، وهذا حمار، حَتَّى سمى لَهُ كُلّ دابة، وكل طير باسمه ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ ثُمّ عرض أَهْل تِلْكَ الأسماء عَلَى الملائكة الَّذِين هُمْ فِي الأرض فَقالَ أَنْبِئُونِي يعني أخبروني بِأَسْماءِ هؤُلاءِ يعني دواب الأرض كلها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- 31- بأني جاعل فِي الأرض من يفسد فيها ويسفك الدماء قالُوا «2» قَالَت الملائكة:
سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ- 32- قال «3» : حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، قَالَ: حدثنا الْهُذَيْلُ، قَالَ: قَالَ مُقَاتِلٌ:
قال اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: لهم كيف تدعون العلم فيما لَمْ يخلق بعد وَلَم تروه وأنتم لا تعلمون من ترون قالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لآدم: يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ يَقُولُ أخبر الملائكة بأسماء دواب الأرض والطير كلها ففعل قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ ما يكون فى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ يعني ما أظهرت الملائكة لإبليس من السمع والطاعة للرب وَأعلم ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ- 33- يعني إبليس وحده ما كان أسر إبليس فِي نفسه من المعصية للَّه- عَزَّ وَجَلّ- فى السجود لآدم ثُمّ قَالَ: وَإِذْ يعني وَقَدْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ [9 أ] الَّذِين خلقوا من مارج من نار السموم اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ وحده فاستثنى «4» لَمْ يسجد أَبى وَاسْتَكْبَرَ يعني وتكبر عن السجود لآدم وإنما
__________
(1) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها: ساقط من أ.
(2) قالُوا: ساقطة من أ.
(3) هكذا فى أوفى ل: قال: قال مقاتل: قال الله.
(4) بالأصل فاستثنا بالألف.(1/98)
أمره اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بالسجود لآدم لما علم اللَّه منه فأحب أن يظهر ذَلِكَ للملائكة ما كان أسر فى نفسه قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ وَكانَ إبليس مِنَ الْكافِرِينَ- 34- الَّذِين أوجب اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لَهُم الشقاء «1» فِي علمه فَمنْ ثُمّ لَمْ يسجد وَقُلْنا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ يعني حواء خلقا يوم الجمعة وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ يعني ما شِئْتُما وإذا شئتما من حيث شئتما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ يعني السنبلة وهي الحنطة فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ- 35- لأنفسكما فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها يقول- سبحانه- فاستزلهما الشيطان عنها يعني عن الطاعة وَهُوَ إبليس فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ من الخير في الجنة وَقُلْنَا اهْبِطُوا منها يعني آدم وحواء وإبليس بوحي منه فهبط آدم بالهند وحواء بجدة وإبليس بالبصرة وهي الأيلة «2» وهبط آدم فِي واد اسمه نوذ في شعب يقال له سرنديب فاجتمع آدم وحواء بالمزدلفة فمن ثم جمع لاجتماعهما بها ثم قال:
بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فإبليس لهما عدو وهما لإبليس عدو ثُمّ قَالَ: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ- 36- يعنى بلاغا إلى منتهى آجالكم: الموت.
وهبط إبليس قبل آدم فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ بعد ما هبط إلى الأرض يوم الجمعة يعني بالكلمات أن قَالَ رب أكان هَذَا شيء كُنْت قدرته علي قبل أن تخلقني فسبق لي به الكتاب أني عامله وسبقت لي منك الرحمة، حين خلقتني قَالَ: نعم، يا آدم قَالَ: يا رب خلقتني بيدك فسويتني ونفخت من روحك فعطست فحمدتك فدعوت لي برحمتك فسبقت رحمتك إلي غضبك قَالَ: نعم، يا آدم. قال: أخرجتنى من الجنة وأنزلتنى الأرض يا رب. إن تبت وأصلحت ترجعني إلى الجنة قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لَهُ: نعم يا آدم فتاب آدم وحواء يَوْم الجمعة
__________
(1) فى الأصل: الشقا بدون همزة.
(2) فى أ: الأبلة، بالباء.(1/99)
فعند ذَلِكَ قَالا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «1» فَتابَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عَلَيْهِ يوم الجمعة إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ- 37- لخلقه قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً يعني من الجنة جميعًا آدم وحواء وإبليس فأوحى الله إليهم بعد ما هبطوا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ يعني ذرِّيَّة آدم فَإِن يأتيكم يا ذرِّيَّة آدم مِنِّي هُدىً يعني رسولا وكتابا فِيهِ البيان ثُمّ أخبر بمستقر من اتبع الهدى فِي الآخرة قَالَ- سُبْحَانَهُ-: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ يعنى رسولي [9 ب] وكتابي فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ- 38- من الموت ثُمّ أخبر بمستقر من ترك الهدى فَقَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا برسلي وَكَذَّبُوا بآياتي القرآن أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ- 39- لا يموتون يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ يعني أجدادهم فكانت النعمة حين أنجاهم من آل فرعون، وأهلك عدوهم وحين فرق البحر لهم، وحين أنزل عليهم المن والسلوى، وحين ظلل عليهم الغمام بالنهار من حر الشمس وَجَعَل لهم عمودا من نور يضيء لهم بالليل إذا لَمْ يَكُنْ ضوء القمر وفجر لهم اثني عشر عينا من الحجر وأعطاهم التوراة فيها بيان كُلّ شيء فدلهم عَلَى صنعه ليوحدوه- عَزَّ وَجَلّ- وَأَوْفُوا بِعَهْدِي يعني اليهود وذلك أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عهد إليهم فِي التوراة أن يعبدوه وَلا يشركوا به شيئا وأن يؤمنوا بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالنبيين والكتاب فأخبر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عَنْهُمْ فِي المائدة فَقَالَ-: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَزَّرْتُمُوهُمْ يعني ونصرتموهم وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «2» فهذا الَّذِي قَالَ اللَّه وَأَوْفُوا بِعَهْدِي الذي عهدت إليكم
__________
(1) سورة الأعراف: 23.
(2) سورة المائدة: 12.(1/100)
في التوراة فإذا فعلتم ذلك أُوفِ لكم بِعَهْدِكُمْ يعني المغفرة والجنة فعاهدهم إن أوفوا لَهُ بما قَالَ المغفرة والجنة، فكفروا بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعيسى- عَلَيْه السَّلام- فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فهذا وفاء الرب- عَزَّ وَجَلّ- لهم، وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ- 40- يعني وإياي فخافون فِي محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «1» فَمنْ كذب به فَلَه النار. ثم قال: وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً نزلت فِي كَعْب بن الأشرف وأصحابه رءوس اليهود يَقُولُ صدقوا بما أنزلت من القرآن عَلَى محمد مصدقا لِما مَعَكُمْ يَقُولُ محمد تصديقه معكم أَنَّهُ نَبِيّ رسول وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ يعني محمدا فتتابع «2» اليهود كلها عَلَى كفر به فَلَمَّا كفروا تتابعت اليهود كلها: أَهْل خيبر، وأهل فدك، وأهل قريظة، وَغَيْرُهُمْ عَلَى الكفر بمحمد- صلى الله عليه وسلم- ثُمّ قال لرؤوس اليهود: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وذلك أن رؤوس اليهود كتموا أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي التوراة وكتموا أمره عن سفلة اليهود وكانت للرؤساء منهم مأكلة «3» فِي كُلّ عام من زرعهم وثمارهم ولو تابعوا محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لحبست تِلْكَ المأكلة عَنْهُمْ فَقَالَ اللَّه لهم وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [10 أ] : يعني بكتمان بعث محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عرضا قليلا من الدُّنْيَا مما تصيبون من سفلة اليهود ثم يخوفهم وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ- 41- فِي محمد فَمنْ كذب به فله النار. ثُمّ قَالَ لليهود: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وذلك أن اليهود يقرون ببعض أمر محمد ويكتمون بعضا ليصدقوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: وَلا تخلطوا الحق بالباطل نظيرها
__________
(1) فى أ: زيادة ثم قال. [.....]
(2) هكذا فى ل، وفى أ: فتايع، ولعل أصلها فتابع.
(3) هكذا فى ل، وفى أ: تأكله.(1/101)
فِي آل عِمْرَانَ «1» والأنعام وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ «2» يعني وَلَم يخلطوا بشرك وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ أَي وَلا تكتموا أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ- 42- أن محمدا نَبِيّ ونعته فى التوراة.
وقَالَ لليهود: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فِي مواقيتها وَآتُوا الزَّكاةَ يعني وأعطوا الزكاة من أموالكم وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ- 43- يعني اليهود صلوا مَعَ المصلين يعني مَعَ الْمُؤْمِنِين من أصحاب النَّبِيّ محمد- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وذلك أن اليهود قَالُوا لبعض أصحاب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن محمدا حق فاتبعوه ترشدوا، فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لليهود أتأمرون الناس بالبر يعنى أصحاب محمد وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ يَقُولُ وتتركون أنفسكم فلا تتبعوه وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ يعني التوراة فيها بيان أمر محمد ونعته أَفَلا تَعْقِلُونَ- 44- أنتم فتتبعونه ثُمّ قَالَ: وَاسْتَعِينُوا عَلَى طلب الآخرة بِالصَّبْرِ عَلَى الفرائض وَالصَّلاةِ الخمس حافظوا عَلَيْهَا فِي مواقيتها وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ يعني حين صرفت القبلة عن بيت المَقْدِس إلى الكعبة فكبر ذَلِكَ عَلَى اليهود منهم جدي بن أخطب، وسعيد بن عمرو الشاعر، وَغَيْرُهُمْ ثُمّ استثنى فَقَالَ: إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ- 45- يعني إِلَّا عَلَى المتواضعين من الْمُؤْمِنِين لَمْ يكبر عليهم تحويل القبلة ثُمّ نعت الخاشعين فَقَالَ: الَّذِينَ يَظُنُّونَ يعني يعلمون يقينا أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ يعنى فى الآخرة وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ- 46- فيجزيهم بأعمالهم يا بَنِي إِسْرائِيلَ يعني اليهود بالمدينة اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ
__________
(1) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ- سورة آل عمران: 71.
(2) الأنعام: 82 وتمامها الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ.(1/102)
يعني أجدادكم والنعمة عليهم «1» حين أنجاهم من آل فرعون فأهلك عدوهم والخير الَّذِي أنزل عليهم فِي أرض التيه وأعطاهم التوراة ثم قال:
وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ- 47- يعني عالمي ذلك الزمان يعني أجدادهم من غير بنى إسرائيل ثُمّ خوفهم فَقَالَ: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ يَقُولُ لا تغني نفس كافرة عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً من المنفعة فِي الآخرة وَلا يُقْبَلُ مِنْها يعني من هَذِهِ النَّفْس الكافرة شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ يعني فداء كفعل أَهْل الدُّنْيَا بعضهم من بعض ثم قال: وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ- 48- يقول ولا هم يمنعون من العذاب ثم ذكرهم النعم ليوحدوه [10 ب] فقال سبحانه: وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ يعنى أنفذناكم مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يعنى أهل مصر يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يعني يعذبونكم شدة العذاب يعني ذبح الأبناء واستحياء النّساء لأن فرعون أمر بذبح البنين فِي حجور أمهاتهم ثُمّ بين العذاب فَقَالَ: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ فِي حجور أمهاتهم وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يعني قَتْل البنين وترك البنات قَتَل منهم فرعون ثمانية عشر طفلا «2» مخافة أن يَكُون فيهم مولود يَكُون هلاكه «3» فِي سببه يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-:
وَفِي ذلِكُمْ يعني فيما يخبركم من قتل الأبناء وترك البنات بَلاءٌ يعنى نقمة مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ- 49- فاذكروا فضله عليكم حين أنجاكم من آل فرعون وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ وذلك أَنَّهُ فرق البحر يمينا وشمالا كالجبلين المتقابلين كُلّ واحد منهما على الآخر وبينهما كوى من طريق إلى طريق ينظر كُلّ سِبْط إلى الآخر ليكون آنَس لهم فَأَنْجَيْناكُمْ من الغرق وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ يعنى أهل مصر يعنى
__________
(1) (عليهم) ساقطة من أ، وفى ل: على.
(2) هكذا فى ل وفى أ: ثمانية عشر ألف طفلا: وهو دليل أن ألف زيدت من الناسخ بعد كتابة ثمانية عشر طفلا، وإلا لكتبها طفل لأنها مضاف إليه.
(3) فى أ، ل: هلاكهم.(1/103)
القبط وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ- 50- أجدادهم يعلمون أن ذَلِكَ حق وكان ذَلِكَ من النعم.
وَإِذْ واعَدْنا مُوسى يعني الميعاد أَرْبَعِينَ لَيْلَةً يعني ثلاثين من ذِي القعدة وعشر ليال من ذِي الحجَّة فكان الميعاد الجبل ليعطي التوراة وكان مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- أخبر بني إِسْرَائِيل بمصر فَقَالَ لهم إذا خَرَجْنَا منها أتيناكم من اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بكتاب يبين لَكُمْ فِيهِ ما تأتون وما تتقون فَلَمَّا فارقهم مُوسَى مَعَ السبعين واستخلف هَارُون أخاه عليهم اتخذوا العجل فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-:
ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ يَقُولُ من بعد انطلاق مُوسَى إلى الجبل وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ- 51- وذلك أن مُوسَى قطع البحر يوم العاشر من المحرم فَقَالَ بنو إِسْرَائِيل: وعدتنا يا مُوسَى أن تأتينا بكتاب من ربنا إلى شهر فأتنا بما وعدتنا فانطلق مُوسَى وأخبرهم أَنَّهُ يرجع إلى أربعين يومًا عن أمر ربه- عَزَّ وَجَلّ- فَلَمَّا سار مُوسَى فدنا من الجبل أمر السبعين أن يقيموا فِي أصل الجبل وصعد مُوسَى الجبل فكلم ربه- تبارك اسمه- وأخذ الألواح فيها التوراة فَلَمَّا مضى عشرون يومًا قَالُوا «1» : أخلفنا مُوسَى العهد فعدوا عشرين يومًا وعشرين ليلة، فقالوا:
هَذَا أربعون يومًا فاتخذوا العجل فأخبر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- مُوسَى بِذَلِك عَلَى الجبل فَقَالَ مُوسَى لربه: من صنع لهم العجل؟ قَالَ: السامري صنعه «2» لهم، قَالَ مُوسَى لربه: فمن نفخ فيه الروح؟ قَالَ الرب- عَزَّ وَجَلّ-: أَنَا. فَقَالَ مُوسَى:
يا رب، السامري صنع لهم العجل فأضلهم، وصنعت فِيهِ الخوار فأنت فتنت قومي [11 أ] . فَمنْ ثُمّ قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ «3» يعني الَّذِين خلفهم مَعَ هَارُون سوى السبعين
__________
(1) فى أ: فقالوا.
(2) فى أ: صنع.
(3) سورة طه: 85.(1/104)
حين أمرهم بعبادة العجل فَلَمَّا نزل مُوسَى من الجبل إلى السبعين أخبرهم بما كان وَلَم يخبرهم بأمر العجل، فَقَالَ السبعون لموسى: نَحْنُ أصحابك جئنا معك، وَلَم نخالفك فِي أمر، ولنا عليك حق فأرنا اللَّه جهرة- يعني معاينة- كَمَا رَأَيْته فَقَالَ مُوسَى:
واللَّه ما رَأَيْته، ولقد أردته عَلَى ذَلِكَ فأبى وتجلى للجبل فجعله دكا. يعني فصار دكا وكان أشد مني وأقوى. فقالوا: إنا لا نؤمن بك وَلا نقبل ما جئت به حَتَّى تريناه معاينة.
فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ أخذتهم الصاعقة، يعني الموت عقوبة. فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-:
فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ «1» يعني الموت نظيرها وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً «2» يعني ميتا وكقوله- عَزَّ وَجَلّ-: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ «3» يعني فمات وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ يعني السبعين ثُمّ أنعم اللَّه عليهم فبعثهم وذلك أنهم لما صعقوا قام مُوسَى يبكي وظن أنهم إِنَّمَا صعقوا بخطيئة أصحاب العجل فقال- عز وجل- فى سورة الأعراف: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ، أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا «4» - وقَالَ: يا رب ما أقول لبني إِسْرَائِيل إذا رجعت إليهم وَقَدْ أهلكت أحبارهم فبعثهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لما وجد مُوسَى من أمرهم. فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «5» - 52- يَقُولُ لكي تشكروا ربكم فِي هَذِهِ النعمة فبعثوا يَوْم ماتوا ثُمّ انصرفوا مَعَ مُوسَى راجعين فلما دنوا من المعسكر عَلَى ساحل البحر سمعوا اللغط حول العجل، فقالوا هَذَا قتال فِي المحلة فَقَالَ مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- لَيْسَ بقتال ولكنه صوت الفتنة فَلَمَّا دخلوا المعسكر «6» رَأَى مُوسَى ماذا يصنعون حول العجل، فغضب وألقى الألواح فانكسر منها لوحان
__________
(1) فى أ: فأخذتهم- البقرة 55.
(2) سورة الأعراف: 143.
(3) سورة الزمر: 68.
(4) سورة الأعراف: 155. [.....]
(5) فى أ: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
(6) فى أ، ل: العسكر.(1/105)
فارتفع من اللوح بعض كلام اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فأمر بالسامري فأخرج من محلة بني إِسْرَائِيل ثُمّ عمد إلى العجل فبرده بالمبرد وأحرقه بالنار ثُمّ ذراه فِي البحر فذلك قوله: لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً «1» فَقَالَ مُوسَى: إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ- أَي ضررتم- أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ إلها من دون اللَّه- سُبْحَانَهُ وتعالى فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ يعني خالقكم وندم القوم عَلَى صنيعهم فذلك قوله- سُبْحَانَهُ: وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا يعني أشركوا بالله- عَزَّ وَجَلّ- قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «2» فقالوا كيف لنا بالتوبة يا مُوسَى قَالَ اقتلوا أنفسكم يعني يقتل بعضكم بعضا كقوله سبحانه فى النساء [11 ب] وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يقول لا يقتل بعضكم بعضكم إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً «3» يعني ذَلِكَ القتل والتوبة خير لَكُمْ عِنْد بارئكم يعني عند خالقكم قَالُوا قَدْ فعلنا فَلَمَّا أصبحوا أمر مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- البقية الاثني عشر ألفا الَّذِين لَمْ يعبدوا العجل أن يقتلوهم بالسيف والخناجر فخرج كُلّ بني أب عَلَى حدة من منازلهم فقعدوا بأفنية بيوتهم فَقَالَ بعضهم لبعض: هَؤُلاءِ إخوانكم أتوكم شاهرين السيوف فاتقوا اللَّه واصبروا فلعنة اللَّه عَلَى رَجُل حل جيوبه أَوْ قام من مجلسه أَوْ اتقى بيد أَوْ رَجُل أَوْ حار إليهم طرفة عين. قَالُوا: آمين فقتلوهم من لدن طلوع الشمس إلى انتصاف النهار يوم الجمعة وأرسل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عليهم الظلمة حَتَّى لا يعرف بعضهم بعضا فبلغت القتلى سبعين ألفا ثُمّ أنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الرحمة فلم يحد «4» فيهم السلاح فأخبر الله- عز وجل- موسى- عليه السلام- أنه قد نزلت
__________
(1) سورة طه: 97.
(2) سورة الأعراف: 149. وفى أ: فلما سقط.
(3) سورة النساء: 29.
(4) يحد: يقطع.
وفى الحديث: إذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته.
وفى أ: بحكم.(1/106)
الرحمة. فَقَالَ لهم: قَدْ نزلت الرحمة ثُمّ أمر مُوسَى المنادي فنادى أن ارفعوا سيوفكم عن إخوانكم فجعل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- القتلى شهداء وتاب اللَّه عَلَى الأحياء وعفي عن الَّذِين صبروا للقتل فلم يقتلوا فَمنْ مات قبل أن يأتيهم مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- عَلَى عبادة العجل دخل النار ومن هرب من القتل لعنهم الله وضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، فذلك قوله: سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وذلك قوله سُبْحَانَهُ-: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ «1» .
فكان الرَّجُل يَأْتِي نادى قومه وهم جلوس فيقتل من العشرة ثلاثة ويدع البقية ويقتل الخمسة من العشرين ومن كتب عليهم الشهادة ويبقى الَّذِين لَمْ يقض لهم أن يقتلوا. فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ- ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ فلم نهلككم جميعا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني بعد العجل لَعَلَّكُمْ يعني لكي تَشْكُرُونَ ربكم فِي هَذِهِ النعم يعني العفو فتاب عليكم إنَّه هو التواب الرحيم وذلك قوله- سُبْحَانَهُ- فِي الأعراف: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها يعني من بعد عبادة العجل وَآمَنُوا يعني وصدقوا بأن اللَّه واحد لا شريك لَهُ إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «2» لذو تجاوز عَنْهُمْ رحيم بهم عِنْد التوبة.
وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة وَالْفُرْقانَ يعني النصر حين فرق بين الحق والباطل ونصر مُوسَى وأهلك فرعون نظيرها فِي الأنفال قوله- سُبْحَانَهُ-:
وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يعنى يوم النصر يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ «3»
__________
(1) سورة الأعراف: 167.
(2) سورة الأعراف: 153.
(3) سورة الأنفال: 41.(1/107)
فنصر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الْمُؤْمِنِين وهزم المشركين لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ «1» - 53-[12 أ] من الضلالة بالتوراة يعني بالنور «2» .
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ- 54- وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ- 55- ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ- 56- «3» .
وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ وذلك أن مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- قَالَتْ لَهُ بنو إِسْرَائِيل وهم فِي التيه: كيف لنا بالأبنية، وَقَدْ نزلنا فِي القفر، وخرجنا من العمران، من حر الشمس «4» . فظلل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عليهم الغمام الأبيض يقيهم حر الشمس ثُمّ إنهم سألوا مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- الطعام فأنزل اللَّه عليهم طعام الجنة وَهُوَ الْمَنَّ وَالسَّلْوى أما المن فهو الترنجبين فكان ينزل بالليل عَلَى شجرهم أبيض كالثلج حلو مثل العسل، فيغدون عليه لكل إنسان صاع لكل ليلة فيغدون عليه فيأخذون ما يكفيهم ليومهم ذَلِكَ لكل رَجُل صاع وَلا يرفعون منه فِي غد ويأخذون»
يوم الجمعة ليومين لأن السبت كان عندهم لا يشخصون فِيهِ وَلا يعملون «6» كان هَذَا لهم في التيه وتنبت ثيابهم مَعَ أولادهم فأما الرجال فكانت
__________
(1) هذه آية 53 من سورة البقرة. وبدأ يفسر بعدها مباشرة الآية 57. وكذلك فى ل.
أما الآيات 54، 55، 56 فقد اكتفى بذكر قصتها وموضوعها فيما تقدم.
(2) فى أ: النور.
(3) هذه الآيات ساقطة من أ، ل.
(4) هكذا فى أ، ل 5 والمقصود كيف سبيلنا إلى الأبنية لتقينا من حر الشمس.
(5) فى أ: يأخذون. [.....]
(6) هكذا فى أ، ل.(1/108)
ثيابهم عليهم لا تبلى وَلا تنخرق وَلا تدنس. وأما السلوى فهو الطير، وذلك أن بني إسرائيل سألوا موسى اللحم، وهم في التيه، فسأل مُوسَى ربه- عَزَّ وَجَلّ- فَقَالَ الله: لأطعمنهم أقل الطير لحما فبعث الله- سبحانه- السماء فأمطرت لهم السلوى وهي السمانا، وجمعتهم ريح الجنوب. وهي طير حمر تكون فِي طريق مصر فأمطرت قدر ميل فِي عرض الأرض «1» وقدر رمح فِي السماء بعضه عَلَى بعض.
فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ يعني من حلال. كقوله:
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً «2» يعني حلالا طيبا فِي غَيْر مأثم، وإذا وجدوا الماء فهو حرام: فَمنْ ثُمّ قَالَ طيبا يعني حلالا من ما رَزَقْناكُمْ من السلوى، وَلا تطغوا فِيهِ يعني تعصوا اللَّه فِي الرزق فيما رزقكم وَلا ترفعوا منه لغد فرفعوا وقددوا مخافة أن ينفد، وَلو لَم يفعلوا لدام لهم ذَلِكَ فقددوا منه ورفعوا فدود وتغير ما قددوا منه وما رفعوا فعصوا ربهم فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: وَما ظَلَمُونا يعني وما ضرونا يعني ما نقصونا من ملكنا بمعصيتهم شيئًا حين رفعوا وقددوا منه فِي غد وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ- 57- يعني أنفسهم يضرون نظيرها فِي الأعراف قوله- سبحانه-: مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ «3» إلى آخر الآية.
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ يعني إيلياء وهم يومئذ من وراء البحر فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً يعني ما شئتم، وإذ شئتم، وحيث شئتم وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً يعني باب إيلياء سجدا فدخلوا متحرفين عَلَى شق وجوههم وَقُولُوا حِطَّةٌ
__________
(1) الأرض: ساقطة من ل.
(2) سورة المائدة: 6.
(3) سورة الأعراف: 160، وتمامها وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ.(1/109)
وذلك أن بني إِسْرَائِيل خرجوا مَعَ يوشع بن نون بن اليشامع بن عميهوذ بن غيران بن شونالخ بن إفراييم بن يُوسُف- عَلَيْه السَّلام- من أرض التيه إلى العمران حيال أريحا وكانوا أصابوا خطيئة فأراد اللَّه- عز وجل- أن [12 ب] يغفر لهم وكانت الخطيئة أن مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- كان أمرهم أن يدخلوا أرض أريحا التي فيها الجبارون فلهذا «1» قال لهم: قولوا حطة، يعني بحطة حط عنا خطايانا. ثُمّ قال: نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ- 58- الَّذِين لَمْ يصيبوا خطيئة، فزادهم اللَّه إحسانا إلى إحسانهم، فَلَمَّا دخلوا إلى الباب فعل «2» المحسنون ما أمروا به وقَالَ الآخرون: هطا سقماثا يعنون حنطة حمراء. قَالُوا: ذَلِكَ استهزاء وتبديلا، لما أمروا به فدخلوا مستقلين فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً يعنى عذابا مِنَ السَّماءِ كقوله فى سورة الأعراف: قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ «3» يعني عذابا ويُقَالُ الطاعون ويُقَالُ الظلمة شَبَّه النار بِما كانُوا يَفْسُقُونَ- 59- وأهلك منهم سبعون ألفا فِي يوم واحد عقوبة لقولهم هطا سقماثا فهذا القول ظلمهم.
وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ وهم فِي التيه، قَالُوا: من أَيْنَ لنا شراب نشرب؟ فدعا مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- ربه أن يسقيهم فأوحى اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إلى مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- فَقُلْنَا «4» اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ وكان الحجر خفيفا مربعا فضربه فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ «5» من الحجر اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً فرووا بإذن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وكانوا اثني عشر سبطا لكل سِبْط من بني إِسْرَائِيل عين تجري عَلَى حدة لا يخالطهم غيرهم «6» . فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ
__________
(1) فى أ: فلها.
(2) فى أ: فعلوا.
(3) سورة الأعراف: 71.
(4) فى أ: أن.
(5) فى أ: وانفجرت.
(6) فى أ: غيره.(1/110)
يعني كُلّ سِبْط مشربهم يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- كُلُوا من المن والسلوى وَاشْرَبُوا من العيون وهو مِنْ رِزْقِ اللَّهِ حلالا طيبا فذلك قوله- سُبْحَانَهُ- كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ يَقُولُ لا تعلوا وَلا تسعوا «1» فِي الأرض مُفْسِدِينَ- 60- يَقُولُ لا تعملوا فِي الأرض بالمعاصي فرفعوا من المن والسلوى لغد فذلك قوله- سبحانه- وَلا تَطْغَوْا فِيهِ «2» يَقُولُ لا ترفعوا منه لغد وكان مُوسَى- عليه السلام- إذا ظعن حمل الحجر معه وتنصب العيون منه.
ثُمّ إنهم قَالُوا: يا مُوسَى، فأين اللباس؟ فجعلت الثياب تطول مَعَ أولادهم وتبقى عَلَى كبارهم وَلا تمزق وَلا تبلى وَلا تدنس، وكان لهم عمود من نور يضيء لهم بالليل إذا ارتحلوا وغاب «3» القمر، فَلَمَّا طال عليهم المن والسلوى سألوا مُوسَى نبات الأرض فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى فِي التيه لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ يعني المن والسلوى فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها يعني الثوم وَعَدَسِها وَبَصَلِها فغضب مُوسَى- عَلَيْه السلام- قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى يَقُولُ الَّذِي هُوَ دون المن والسلوى من نبات الأرض بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ يعنى المنّ والسلوى [13 أ] فَقَالَ مُوسَى: اهْبِطُوا مِصْراً من الأمصار فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ من نبات الأرض وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ يعني عَلَى اليهود الذلة وهي الجزية وَالْمَسْكَنَةُ يعنى الفقر وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ يعني استوجبوا غضب اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ذلِكَ الذل والمسكنة الَّذِي نزل بهم بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني القرآن وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ- 61- فِي أديانهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا
__________
(1) فى أ: يقول لا تسعوا.
(2) سورة طه: 81.
(3) فى أ، ل: مكان القمر. ولكن فى مكان آخر: وغاب القمر.(1/111)
يعنى اليهود وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ وهم قوم «1» يصلون للقبلة «2» ، يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة، وذلك
أن سُلَمَان الفارسي كان من جند سابور، فأتى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأسلم وذَكِر سَلْمان أمر الراهب وأصحابه، وأنهم مجتهدون فِي دينهم يصلون ويصومون، فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
هُمْ فِي النار
فأنزل الله- عز وجل- فيمن صدق منهم بمحمد- صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا يعني صدقوا يعني أقروا وليسوا بمنافقين وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً يَقُولُ من صدق منهم بِاللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بأنه واحد لا شريك لَهُ وصدق بالبعث الَّذِي فِيهِ جزاء الأعمال بأنه كائن فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من نزول العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ- 62- عِنْد الموت «3» . يَقُولُ إن الَّذِين آمنوا يعني صدقوا بتوحيد اللَّه- تَعَالَى- ومن آمن من الَّذِين هادوا ومن النَّصارى ومن الصابئين من آمن منهم بِاللَّه واليوم الآخر فيما تقدم إلى آخر الآية وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ فِي التوراة وأن تعملوا بما فيها فَلَمَّا قرءوا التوراة وفيها الحدود والأحكام كرهوا أن يقروا بما فيها رفع اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عليهم الجبل ليرضخ به رءوسهم، وذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ يعني الجبل فَلَمَّا رأوا ذَلِكَ أقروا بما فيها فذلك قوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ يَقُولُ ما أعطيناكم من التوراة بالجد والمواظبة عَلَيْه وَاذْكُرُوا يَقُولُ احفظوا ما فِيهِ من أمره ونهيه وَلا تضيعوه لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ- 63- يَقُولُ لكي تتقوا المعاصي ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ يَقُولُ أعرضتم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عن الحق
__________
(1) فى أ: قوما. [.....]
(2) فى أ: القبلة.
(3) فى أ: بالموت.(1/112)
من بعد الجبل فَلَوْلا «1» فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ يعني نعمته لعاقبكم ولَكُنْتُمْ فِي الآخرة مِنَ الْخاسِرِينَ- 64- فِي العقوبة وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ يعني اليهود الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فصادوا فِيهِ «2» السمك وكان محرما عليهم صيد السمك يوم السبت فأمهلهم اللَّه- سُبْحَانَهُ- بعد صيد السمك سنين ثُمّ مسخهم اللَّه قردة فذلك قوله: فَقُلْنا لَهُمْ بوحي كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ- 65- يعنى صاغرين فَجَعَلْناها نَكالًا [13 ب] لبنى إسرائيل لِما بَيْنَ يَدَيْها يَقُولُ أخذناهم بمعاصيهم قبل صيد الحيتان وَما خَلْفَها ما استنوا من سنة سيئة فاقتدى بها من بعدهم فالنكال هِيَ العقوبة ثُمّ مسخهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي زمان دَاوُد- عَلَيْه السَّلام- قردة ثُمّ حذر هَذِهِ الأمة فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-:
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ- 66- يعني تعظهم يا محمد أن يركبوا ما ركبت بنو إِسْرَائِيل من المعاصي فيستحلوا محرما أَوْ صيدا فِي حرم اللَّه أَوْ تستحلوا أنتم حراما لا ينبغي فينزل بكم من العقوبة مثل ما نزل بالذين استحلوا صيد السمك يوم السبت.
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا بني إِسْرَائِيل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً بأرض مصر قبل الغرق «3» وذلك أن أخوين كانا فِي بني إِسْرَائِيل فقتلا ابْن عم لهما ليلا بمصر ليرثاه ثُمّ حملاه فألقياه بين القريتين. قال: حدثنا عبيد الله، قال:
حدثني أبي، قَالَ: حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ عَنْ مُقَاتِلٍ عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: قَاسُوا مَا بَيْنَ الْقَرْيَتَيْنِ فَكَانَتَا سَوَاءً فَلَمَّا أَصْبَحُوا أَخَذُوا أَهْلَ الْقَرْيَةِ «4» ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلا. قالوا: يا موسى، ادع
__________
(1) فى أ: ولولا.
(2) فى أ: فيها.
(3) أى قبل غرق فرعون وجنوده.
(4) هكذا فى أ، ل. وصوابها القريتين. وهذه القصة واردة من عدة طرق فى تفسير الدر المنثور السيوطي أ: 77.(1/113)
لَنَا رَبَّكَ، يُطْلِعْ عَلَى الْقَاتِلِ «1» إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا كَمَا تَزْعُمُ فَدَعَا مُوسَى رَبَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ- عَلَيْه السَّلامُ- فَأَمَرَهُ بِذَبْحِ بَقَرَةٍ. فَقَالَ لَهُمْ مُوسَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً، فَتَضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا فَيَحْيَا، فَيُخْبِرَكُمْ بِقَاتِلِهِ. وَاسْمُ الْمَقْتُولِ عَامِيلُ.
فَظَنُّوا أَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ، فَقَالُوا: نَسْأَلُكَ عَنِ الْقَاتِلِ لِتُخْبِرَنَا بِهِ فَتَأْمُرُنَا بِذَبْحِ بَقَرَةٍ اسْتِهْزَاءً بِنَا. فَذَلِكَ قَوْلُهُمْ لِمُوسَى: قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ- 67- يَعْنِي مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ فَعَلِمُوا أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمَ ذلك قالُوا يا موسى: ادْعُ لَنا رَبَّكَ أَي سل لنا ربك يُبَيِّنْ لَنا مَا هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إن ربكم يَقُولُ: إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ يعنى ليست بكبيرة ولا بكر أى شاب عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ يعني بالعوان بين الكبيرة والشابة فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ- 68- فانطلقوا ثُمّ رجعوا إلى مُوسَى قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ أَي سل ربك:
يُبَيِّنْ لَنا مَا لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها يعني صافية اللون نقية تَسُرُّ يعني تعجب النَّاظِرِينَ- 69- يعني من رآها فشددوا عَلَى أنفسهم فشدد اللَّه عليهم
قَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم-: إنما أمروا بقرة ولو عمدوا إلى أدنى بقرة لأجزأت «2» عَنْهُمْ، وَالَّذِي نفس محمد بيده لو لَمْ يستثنوا ما بينت لَهُم آخر الأبد فانطلقوا ثُمّ رجعوا قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا تشكل «3» وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
- 70- لو لَمْ يستثنوا لَمْ يهتدوا لها أبدا فعند ذَلِكَ هموا أن يفعلوا ما أمروا. ولو أنهم عمدوا إلى الصفة الأولى فذبحوها لأجزأت عنهم.
قالَ إِنَّهُ يَقُولُ أى قال موسى إن الله يقول [14 أ] : إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ يَقُولُ ليست «4» بالذلول التي يعمل عَلَيْهَا فِي الحرث وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ
__________
(1) فى ل: هذا القاتل.
(2) هكذا فى ل، وفى أ: لأجرت.
(3) بعضه يشبه الآخر وفى ل: تشتكل.
(4) هكذا فى ل وفى أ: ليس.(1/114)
يَقُولُ ليست بالذلول التي يسقي عَلَيْهَا بالسواقي الماء للحرث مُسَلَّمَةٌ يعني صحيحة لا شِيَةَ فِيها يَقُولُ لا وضح «1» فيها يَقُولُ لَيْسَ فيها سواد وَلا بياض وَلا حمرة قالُوا:
الْآنَ يا مُوسَى جِئْتَ بِالْحَقِّ يَقُولُ الآن بينت لنا الحق، فانطلقوا حتى وجدوها عند امرأة اسمها نور يا بِنْت «2» رام فاستاموا بها. فقالوا لموسى: إنها لا تباع إِلَّا بملء مسكها ذهبا. قَالَ مُوسَى: لا تظلموا «3» انطلقوا اشتروها بما عَزَّ وهان، فاشتروها بملء مسكها ذهبا. فَذَبَحُوها فقالوا لموسى: قَدْ ذبحناها. قَالَ:
خذوا منها عضوا فاضربوا به القتيل، فضربوا القتيل، بفخذ البقرة اليمنى فقام القتيل وأوداجه تشخب دما فَقَالَ: قتلني فُلان وفلان. يعني ابني عمّه. ثُمّ وقع ميتا.
فأخذا فقتلا، فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ- 71- وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها فاختلفتم فِي قتلها فَقَالَ أَهْل هَذِهِ القرية الأخرى:
أنتم قتلتموه. وقَالَ الآخرون: أنتم قتلتموه فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ- 72- يعني كتمان قَتْل المقتول فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ
يقول هكذا يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ
فكان ذَلِكَ من آياته وعجائبه لَعَلَّكُمْ
يَقُولُ لكي تَعْقِلُونَ
- 73- فتعتبروا فِي البعث وإنما فعل اللَّه ذَلِكَ بهم لأنه كان فِي بني إِسْرَائِيل من يشك فِي البعث فأراد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أن يعلمهم أَنَّهُ قادر على أن يبعث الموتى. وذلك قوله- سُبْحَانَهُ-:
لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
فتعتبروا فِي البعث.
فقالوا: نَحْنُ لَمْ نقتله، وَلَكِن كذب علينا، فَلَمَّا كذبوا المقتول ضرب اللَّه لهم مثلا وذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ فى الشدة فلم تطمئن يعنى تلين
__________
(1) وضح: ساقطة من أوفى البيضاوي لا شِيَةَ فِيها لا لون فيها يخالف لون جلدها. وهي فى الأصل مصدر وشاه وشيا وشية إذا خلط بلونه لونا آخر.
(2) هكذا فى ل، وفى أ: ابنت.
(3) هكذا فى أ، ل: بدون ذكر المفعول فيهما.(1/115)
حَتَّى كذبتم المقتول. ثُمّ قَالَ: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني من بعد حياة المقتول فَهِيَ كَالْحِجارَةِ فشبه قلوبهم حين لَمْ تلن بالحجارة فِي الشدة ثُمّ عذر الحجارة وعاب قلوبهم، فَقَالَ فهي كالحجارة فِي القسوة: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ثم قال: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ ما هي ألين من قلوبهم فمنها لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يعني ما يَشَّقَّقُ يعني يتصدع فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ يَقُولُ من بعض الحجارة الَّذِي يهبط من أعلاه فهؤلاء جميعا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ يفعلون ذلك وبنو إِسْرَائِيل لا يخشون اللَّه وَلا ترق قلوبهم كفعل الحجارة وَلا يقبلون إلى طاعة ربهم ثُمّ وعدهم فَقَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ- 74- من المعاصي.
أَفَتَطْمَعُونَ أَي النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحده.
أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ أن يصدقوا قولك يا محمد يعني يهود المدينة وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ على عهد موسى [15 ب] «1» - عليه السلام- يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ وذلك أن السبعين الَّذِين اختارهم مُوسَى حين قالوا أرنا الله جهرة فعاقبهم الله- عَزَّ وَجَلّ- وأماتهم عقوبة، وبقي «2» مُوسَى وحده، يبكي فَلَمَّا أحياهم اللَّه- سُبْحَانَهُ- قَالُوا: قَدْ علمنا الآن أنَّكَ لَمْ تر ربك وَلَكِن سَمِعْتَ صوته فأسمعنا صوته.
قَالَ مُوسَى: أما هَذَا فعسى. قَالَ مُوسَى: يا رب إن عبادك هَؤُلاءِ بني إِسْرَائِيل يحبون أن يسمعوا كلامك. فَقَالَ: من أحبّ منهم أن يسمع كلامي فليعتزل النّساء ثلاثة أيام، وليغتسل يوم الثالث وليلبس ثيابا جددا «3» ، ثُمّ ليأتي الجبل فأسمعه كلامي.
ففعلوا ذَلِكَ ثُمّ انطلقوا مَعَ مُوسَى إلى الجبل، فَقَالَ لهم موسى: إذا رأيتم السحابة
__________
(1) ورقة (14 ب) ، (15 أ) ليس فيهما شيء والكلام متصل بين (14 أ) و (15 أ) . [.....]
(2) هكذا فى ل، وفى أ: بقي.
(3) هكذا فى ل، وفى أ: ثياب جدد.(1/116)
قَدْ غشيت، ورأيتم فيها نورا وسمعتم فيها صوتا، فاسجدوا لربكم وانظروا ما يأمركم به، فافعلوا، قَالُوا: نعم، فصعد مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- الجبل فجاءت الغمامة فحالت بينهم وبَيْنَ مُوسَى ورأوا النور وسمعوا صوتا كصوت الصور «1» ، وَهُوَ البوق»
، فسجدوا وسمعوه وَهُوَ يَقُولُ: إني أنا ربكم لا إله إِلَّا أَنَا الحي القيوم، وأنا الَّذِي أخرجتكم من أرض مصر بيد رقيقة «3» وذراع شديد فلا تعبدوا إلها غيري، وَلا تشركوا بي شيئًا وَلا تجعلوا لي شبها فإنكم لن تروني، وَلَكِن تسمعون كلامي.
فَلَمَّا أن سمعوا الكلام ذهبت أرواحهم من هول ما سمعوا ثُمّ أفاقوا وَهُم سجود. فقالوا لموسى- عَلَيْه السَّلام-: إنا «4» لا نطيق أن «5» نسمع كلام ربنا، فكن بيننا وبَيْنَ ربنا، فليقل لك وقل أَنْت لنا. قَالَ مُوسَى: يا رب إن بني إِسْرَائِيل لَمْ يطيقوا أن يسمعوا كلامك فقل لي، وأقل لهم. قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: نعم ما رأوا.
فجعل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يأمر مُوسَى ثُمّ يخبرهم مُوسَى ويقولون سمعنا ربنا وأطعنا فَلَمَّا فرغ من أمره ونهيه ارتفعت السحابة وذهب الصوت فرفع القوم رءوسهم ورجعوا إلى قومهم. قِيلَ لهم: ماذا أمركم به ربكم ونهاكم عَنْهُ؟ فَقَالَ بعضهم: أمرنا بكذا وكذا، ونهانا عن كذا وكذا. وقَالَ آخرون: واتبع فِي آخر قوله إن لَمْ تستطيعوا ترك ما نهاكم عَنْهُ فافعلوا ما تستطيعون. فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يعني طائفة من بني إِسْرَائِيل يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وفهموه وَهُمْ يَعْلَمُونَ- 75- أنهم حرفوا الكلام وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا يعني صدقنا بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- بأنه نبى وذلك أن الرجل
__________
(1) هكذا فى ل، وفى أ: الشبور.
(2) فى ل: البرق.
(3) فى ل: رفيقة، وفى أ: رفيعة.
(4) فى أ: وإنا.
(5) أن: ساقطة من أ، وموجودة فى ل.(1/117)
المسلم كان يلقى من اليهود حليفة أَوْ أخاه من الرضاعة [16 أ] فيسأله أتجدون محمدا فِي كتابكم فيقولون نعم إن نبوة صاحبكم حق وإنا نعرفه فسمع كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وجدي بن أخطب، فقالوا لليهود فِي السر: اتحدثون أصحاب محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما فتح اللَّه لَكُمْ يعني بما بين لَكُمْ فِي التوراة من أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذلك قوله- تَعَالَى-: [وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ «1» ] لِيُحَاجُّوكُمْ يعنى ليخاصموكم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ باعترافكم أن محمدا- صلى الله عليه وسلم- نَبِيّ ثُمّ لا تتابعوه أَفَلا تَعْقِلُونَ- 76- يعني أفلا ترون أن هَذِهِ حجة لهم عليكم فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ فِي الخلا وَما يُعْلِنُونَ- 77- فِي الملأ فيقول بعضهم لبعض: أتحدثونهم بأمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- أو لا يعلمون حين قَالُوا: إنا نجد محمدا فِي كتابنا وإنا لنعرفه وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ يَقُولُ من اليهود من لا يقرأ التوراة إِلَّا أن يحدثهم عَنْهَا رءوس اليهود وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ- 78- فِي غَيْر يقين ما يستيقنون به فَإِن كذبوا رءوس اليهود أَوْ صدقوا تابعوهم باعترافهم فَلَيْس لَهُم بالتوراة علم إِلَّا ما حدثوا عنها. فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ سوى نعت محمد- صلى الله عليه وسلم- وذلك أن رءوس اليهود بالمدينة محوا نعت محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من التوراة وكتبوا سوى نعته وقالوا لليهود سوى نعت محمد ثُمَّ يَقُولُونَ هذا النعت مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني عرضا يسيرا مما يعطيهم سفلة اليهود كُلّ سنة من زروعهم وثمارهم يَقُولُ فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ يعني فِي التوراة من تغيير نعت محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ
__________
(1) ما بين القوسين [-..-] ليس فى أ.(1/118)
- 79- من تِلْكَ المآكل على التكذيب بمحمد- صَلَّى الله عليه وسلم- ولو تابعوا محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا لحبست عنهم تلك المآكل وَقالُوا يعني اليهود لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً لأنا أبناء اللَّه وأحباؤه يعني ولد أنبياء اللَّه: إِلَّا أربعين يومًا التي عَبْد آباؤنا فيها العجل «1» . قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فعلتم بما عهد إليكم فِي التوراة فَإِن كنتم فعلتم فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ يعني بل تقولون عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ- 80- فَإنَّهُ لَيْسَ بمعذبكم إِلَّا تِلْكَ الأيام فإذا مضت تِلْكَ الأيام مقدار كُلّ يوم ألف سنة قَالَت الخزنة يا أعداء اللَّه ذهب الأجل وبقي الأبد وأيقنوا بالخلود فَلَمَّا قَالُوا لن تمسنا النار إِلَّا أياما معدودة أكذبهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فَقَالَ: بَلى يخلد فيها مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً يعنى الشرك وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [16 ب] حَتَّى مات عَلَى الشرك فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ- 81- يعني لا يموتون ثُمّ بين مستقر الْمُؤْمِنِين فَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ- 82- لا يموتون وَإِذْ يعني ولقد أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً يعنى برا بهما وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى يعني ذوي القرابة صلته وَالْمَساكِينِ واليتيم أن تصدق عَلَيْه وابن السبيل يعني الضيف أن تحسن إليه. وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً يعني حقا نظيرها فِي طه قوله- عَزَّ وجل- أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً «2» يعنى حقا.
وقوله: وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً يعني لِلنَّاسِ أجمعين صدقا فِي محمد وعن الإيمان.
__________
(1) فى أ، ل زيادة: يعنون آباءهم لقول الله- عز وجل-.
(2) سورة طه: 86.(1/119)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يعني أتموا الصَّلاة لمواقيتها وَآتُوا «1» وأعطوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ يعني أعرضتم عن الْإِيمَان فلم تقروا ببعث محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» - إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ- 83- يعني ابْن سلام، وسلام بن قَيْس، وثعلبة بن سلام، وقيس بن أخت عَبْد اللَّه بن سلام، وأسيد، وأسد ابني كَعْب ويامين، وابن يامين، وهم مؤمنو أهل التوراة وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ فِي التوراة يعني ولقد أخذنا ميثاقكم فِي التوراة لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ يَقُولُ لا يقتل بعضكم بعضا وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ يعني لا يُخْرُج بعضكم بعضا مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بِهَذَا وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ- 84- أن هَذَا فِي التوراة ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ مَعْشَر اليهود بالمدينة تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ يعني يقتل بعضكم بعضا وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً يعني طائفة مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ يعني تعاونون عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ يعني بالمعصية وَالْعُدْوانِ يعني بالظلم ومكتوب عليهم فِي التوراة أن يفدوا أسراهم فيشتروهم إذا أسرهم «3» أَهْل الروم فِي القتال إن كان عبدا أَوْ أَمَة يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-:
وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ يَقُولُ تصدقون ببعض ما في التوراة لمن يقتل، والإخراج من الديار، فهو محرم عليكم إخراجهم وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ يعنى الهوان فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فكان خزي أَهْل قريظة القتل والسبي «4» وخزي أَهْل النضير الجلاء والنفي من منازلهم وجناتهم التي بالمدينة إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام فكان هَذَا خزيا لهم «5» وهوانا لهم «6» وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ
__________
(1) ساقطة من أ.
(2) فى أزيادة: كقوله وقولوا للناس أجمعين صدقا فِي محمد وعن الْإِيمَان.
(3) فى أ: أسروهم.
(4) فى أ: والسبا. [.....]
(5) فى أ: خزيهم.
(6) فى أ: وهوان لهم.(1/120)
يعنى رءوس اليهود يقول [17 أ] هُمْ أشد عذابا يعني رءوس اليهود من أهل ملتهم لأنهم أول من كفر بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من اليهود ثُمّ أوعدهم فَقَالَ: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ- 85- ثُمّ نعتهم فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا يعنى اختاروا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ يَقُولُ باعوا الآخرة بالدنيا مما يصيبون من سفلة اليهود من المآكل فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ فى الآخرة وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ- 86- يعني وَلا هُمْ يمنعون من العذاب وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يَقُولُ أعطينا مُوسَى التوراة وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ يَقُولُ وأتبعنا من بعد مُوسَى بِالرُّسُلِ إلى قومهم وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ يَقُولُ وأعطينا عِيسَى ابن مريم العجائب التي كان يصنعها من خلق الطير «1» وإبراء الأكمه «2» والأبرص وإحياء «3» الموتى بإذن اللَّه ثُمّ قَالَ- سبحانه-: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ يَقُولُ وقوينا عِيسَى بجبريل- عليهما السَّلام- فقالت اليهود عِنْد ذَلِكَ فجئنا يا محمد بمثل ما جاء به مُوسَى من الآيات كَمَا تزعم يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ يعني اليهود اسْتَكْبَرْتُمْ يعني تكبرتم عن الْإِيمَان برسولي يعنى محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ يعني طائفة من الْأَنْبِيَاء كذبتم بهم منهم عِيسَى ومُحَمَّد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ- 87- يعني وطائفة قتلتموهم منهم زَكَرِيّا ويحيى والأنبياء أيضا فعرفوا أن الَّذِي قَالَ لهم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حق فسكتوا وَقالُوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قُلُوبُنا غُلْفٌ يعني فِي غطاء ويعنون فِي أكنة عَلَيْهَا الغطاء فلا تَفْهم وَلا تفْقَه ما تَقُولُ يا محمد كراهية لما سمعوا من
النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قوله إنكم كذبتم
__________
(1) فى ل: هي خلق الطير.
(2) فى أ: ويبرى.
(3) فى أ: ويحيى.(1/121)
فريقا من الْأَنْبِيَاء وفريقا قتلتم فَإِن كُنْت صادقا فأفهمنا ما تَقُولُ.
يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وجل-: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فطبع على قلوبهم فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ- 88- يعني بالقليل بأنهم لا يصدقون بأنه من اللَّه وكفروا بما سواه مما جاء به محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: فِي النّساء: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا «1» وإنما سمي اليهود من قبل يهوذا بن يَعْقُوب وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني قرآن محمد- صلى الله عليه وسلم- مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ فِي التوراة بتصديق محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقرآنه فِي التوراة نزلت فِي اليهود منهم أَبُو رافع، وابن أَبِي الحقيق، وأبو نافع وغرار، وَكانُوا مِنْ قَبْلُ أن يبعث محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رسولا يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا نظيرها فِي الأنفال إِنْ تَسْتَفْتِحُوا «2» يعني إن تستنصروا بخروج محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على مشركي العرب «3» [17 ب] جهينة، ومزينة، وبني عذره، وأسد وغطفان، ومن يليهم كَانَت اليهود إذا قاتلوهم قَالُوا: اللَّهُمَّ إنا نسألك باسم النَّبِيّ الَّذِي نجده فِي كتابنا تبعثه فِي آخر الزمان أن تنصرنا فينصرون عليهم. فَلَمَّا بعث اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من غَيْر بني إِسْرَائِيل كفروا به وهم يعرفونه فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: فَلَمَّا جاءَهُمْ محمد ما عَرَفُوا أَي بما عرفوا من أمره فِي التوراة كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ- 89- يعنى اليهود بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ يَقُولُ بئسما باعوا أنفسهم بعرض يسير من الدُّنْيَا مما كانوا يصيبون من سفلة اليهود من المأكل فِي كُلّ عام ثُمّ قَالَ: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن عَلَى محمد- صلى اللَّه عَلَيْه وسلم- بَغْياً يعني حسدا لمحمد إذ كان من العرب يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
__________
(1) سورة النساء: 155.
(2) سورة الأنفال: 19.
(3) فى أ: مشركين العرب.(1/122)
النُّبُوَّة والكتاب عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمّ قال- سبحانه-: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ يَقُولُ استوجبوا بغضب من اللَّه حين كفروا بعيسى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى غضب بكفرهم بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبما جاء به وَلِلْكافِرِينَ من اليهود عَذابٌ مُهِينٌ- 90- يعنى الهوان. ثم قال: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعني اليهود منهم أَبُو ياسر، والنعمان بن أوفي آمِنُوا يعني صدقوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن عَلَى محمد قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعنى التوراة وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ يعني بما بعد التوراة الإنجيل والفرقان وَهُوَ الْحَقُّ يعني قرآن محمد مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ يَقُولُ تصديقا لمحمد بما أنزل اللَّه عَلَيْه من القرآن مكتوبا عندهم فِي التوراة قُلْ لهم يا محمد: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- دعا اليهود إلى الْإِيمَان فقالوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: آتنا بالآيات والقربان كَمَا كانت الأنبياء تجيء بها إلى قومهم يقول اللَّه- سُبْحَانَهُ- فقد كَانَت الأنبياء تجيء إلى آبائهم فكانوا يقتلونهم فقال الله- عز وجل- قُلْ يا محمد فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ يَقُولُ فلم قتلتم أنبياء اللَّه مِنْ قَبْلُ يعني آباءهم وَقَدْ جاءوا بالآيات والقربان إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- 91- يعني إن كنتم صادقين بأن اللَّه عهد إليكم فِي التوراة ألا تؤمنوا بالرسول حَتَّى يأتيكم بقربان تأكله النار فقد جاءوا بالقربان فلم قتلتموهم يعنى آباءهم «1» . ثُمّ قَالَ لمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قل لليهود: وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ يعنى بالآيات التسع ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ إلها مِنْ بَعْدِهِ يعني من بعد انطلاق مُوسَى إلى الجبل وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ- 92- لأنفسكم وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ يعني وَقَدْ أخذنا ميثاقكم فِي التوراة يعني اليهود يعنى على
__________
(1) فى أ: فلم قتلتموهم إن كنتم يعنى آباءهم.(1/123)
أن تعبدوا اللَّه «1» وَلا تشركوا به شيئًا [18 أ] وأن تؤمنوا بالكتاب والنبيين وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ حين لَمْ يقبلوا التوراة قَالَ مُوسَى: يا رب إن عبادك لَمْ يقبلوا كتابك وعصوا أمرك «2» . فأمر- اللَّه عَزَّ وَجَلّ- الملائكة «3» وجبريل فرفعوا من الأرض المقدسة جبلا فوق رءوسهم فحال الجبل بينهم وبَيْنَ السماء فَقَالَ مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- لبني إِسْرَائِيل: إن لَمْ تقبلوا التوراة طرح هَذَا الجبل فيرضخ به رءوسكم وكان الجبل منهم قدر ميل فَلَمَّا رأوا ذَلِكَ قبلوها فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ «4» خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ يعني ما آتيناكم من التوراة بالجد والمواظبة عَلَيْه فرجع الجبل إلى مكانه فَقَالَ مُوسَى لبني إِسْرَائِيل:
وَاسْمَعُوا يَقُولُ اسمعوا ما فِي التوراة من الحدود والأحكام والشدة قالُوا سَمِعْنا بِذَلِك الَّذِي تخوفنا به من أمر الجبل وَعَصَيْنا أمرك فلا نتبع ما جئتنا به من الشدة فِي التوراة والعجل كان أرفق بنا وأهون علينا مما جئتنا به من الشدة يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قَالَ لهم مُوسَى أن تحبوا شيئًا دونه يعدل حبه فِي قلوبكم كحب اللَّه خالقكم قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- 93- كما تزعمون ثُمّ أخبر أَنَّهُ حين رفع الجبل عليهم والبحر من ورائهم خافوا الهلكة فقبلوا التوراة قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً يعني الجنة وذلك أن اليهود قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه وأن الله لن يعذبنا «5» فقال الله- عز وجل- للنبي- صلى الله عليه وسلم- قل لهم إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
__________
(1) الله: ساقط من أ.
(2) فى أ: وعدوا.
(3) فى أ، ل: وهو جبريل عليه السلام.
(4) سورة الأعراف: 171.
(5) فى أ: أن الله لا يعذبنا قال. [.....](1/124)
94- يَقُولُ فأحبوا الموت إن كنتم أولياء اللَّه وأحباؤه وأنكم فِي الجنة «1» قَالَ اللَّه- عَزَّ وجل- للنبي- صلى الله عليه وسلم-: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ «2» ألم أمسخهم قردة بمعصيتهم ثم أخبر عنهم بمعصيتهم «3» ، فقال: وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً يعني ولن يحبوه أبدا يعني الموت بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من ذنوبهم وتكذيبهم بِاللَّه ورسوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ- 95- يعني اليهود فأبوا أن يتمنوه
فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لو تمنوا الموت ما قام منهم رَجُل من مجلسه حَتَّى يغصه اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بريقه فيموت
وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أي وأحرص الناس عَلَى الحياة من الَّذِين أشركوا أى مشركي العرب يَوَدُّ أَحَدُهُمْ [18 ب] يعني اليهود لَوْ يُعَمَّرُ فِي الدُّنْيَا أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ فيها وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ- 96- فأبوا أن يتمنوه
فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لو تمنوا الموت ما قام منهم رَجُل من مجلسه حَتَّى يغصه اللَّه- عز وجل- بريقه فيموت.
فقالت اليهود: إن جبرئيل لنا عدو أمر أن يجعل النُّبُوَّة فينا فجعلها فِي غيرنا من عداوته إيانا فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ يعني اليهود فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ يقول جبرئيل- عَلَيْه السَّلام- تلاه عليك ليثبت به فؤادك يعني قلبك نظيرها فِي الشعراء قوله سُبْحَانَهُ: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ «4» ثم قال: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يعني قرآن محمد- صلى الله عليه وسلم- يصدق
__________
(1) فى أزيادة وذلك أن اليهود قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه وأن الله لن يعذبنا قال.
(2) سورة الأعراف: 163.
(3) هكذا فى أ، ل.
(4) سورة الشعراء: 194.(1/125)
الكتب التي كَانَتْ قبله وَهُدىً «1» أَي وهذا القرآن هدى من الضلالة وَبُشْرى لمن آمن به من الْمُؤْمِنِين لِلْمُؤْمِنِينَ- 97- مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ يعني بالملائكة جبريل ورسله يعني محمدا وعيسى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كفرت اليهود بهم وبجبريل وبميكائيل «2» يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ «3» فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ- 98- يعني اليهود وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ يعني القرآن ثُمّ قَالَ بينات يعني ما فِيهِ من الحلال والحرام وَما يَكْفُرُ بِها يعني بالآيات إِلَّا الْفاسِقُونَ- 99- يعني اليهود ثُمّ قال- سبحانه-:
أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً بينهم وبين النبي- صلى الله عليه وسلم- نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ من اليهود بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ- 100- يعني لا يصدقون بالقرآن أَنَّهُ من اللَّه جاء وَلَمَّا جاءَهُمْ يعني اليهود رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعني محمدا- صلى الله عليه وسلم- مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ يعني يصدق محمدا أَنَّهُ نَبِيّ رسول معهم فِي التوراة نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني جعل طائفة من اليهود كِتابَ اللَّهِ يعني ما فِي التوراة من أمر محمد وَراءَ ظُهُورِهِمْ فلم يتبعوه وَلَم يبينوه للناس كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ- 101- بأن محمدا رسول نَبِيّ لأن تصديقه معهم نزلت فِي كَعْب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، وأبى ياسر ابن أخطب، وسعيد بن عمرو»
الشاعر، ومالك «5» بن الضيف وحيي بن أخطب وأبي لبابة بن عمرو وَاتَّبَعُوا يعنى اليهود ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ يعني ما تلت الشياطين عَلَى عهد سُلَيْمَان وَفِي سلطانه وذلك أن طائفة من الشياطين
__________
(1) فى أ: هدى.
(2) فى أزيادة: «وذلك أنهم قالوا إن جبريل عدوا لميكائيل» .
(3) وجبريل وميكال: ساقط من أ، ل.
(4) فى أ: عمر.
(5) فى أ: ملك.(1/126)
كتبوا كتابا فِيهِ سحر فدفنوه فِي مصلى سُلَيْمَان حين خرج من ملكه ووضعوه تحت [19 أ] كرسيه فَلَمَّا تُوُفّي سُلَيْمَان استخرجوا الكتاب، فقالوا: إن سُلَيْمَان تملككم بِهَذَا الكتاب به كَانَتْ تجيء الريح وبه سخرت الشياطين فعلموه الناس فأبرأ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- منه سُلَيْمَان وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فتركت اليهود كتاب الْأَنْبِيَاء واتبعوا ما قَالَتْ من السحر وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ «1» أَي واتبعوا ما أنزل عَلَى الملكين: يعني هاروت وماروت «2» وكانا من الملائكة مكانهما فِي السماء واحد ثُمّ قَالَ: ببابل.
أَي وهما ببابل. وإنما سميت بابل لأن الألسن تبلبلت بها حين ألقي إِبْرَاهِيم- صلى الله عليه وسلم- فِي النار ثُمّ قَالَ: وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ «3» وذلك أن هاروت وماروت يصنعان من السحر الفرقة «4» فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما بعد قولهما فلا تكفر إذا وصفا «5» فيتعلمون منهما مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ والفرقة أن يؤخذ الرَّجُل عن امرأته يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-:
وَما هُمْ بِضارِّينَ يعني السحرة بِهِ مِنْ أَحَدٍ يعني بالسحر من أحد إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فِي ضره «6» وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ فيتعلمون السحر من الشياطين- والفرقة من هاروت وماروت وَلا يَنْفَعُهُمْ ثُمّ قَالَ: وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ «7» يَقُولُ لقَدْ علمت اليهود «8» فِي التوراة لمن اختار السحر مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ يقول ماله فِي الآخرة من نصيب نظيرها فِي براءة قوله سُبْحَانَهُ-:
فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ «9» وكقوله: أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ «10» يعنى نصيب.
__________
(1) هاروت وماروت: ساقط من أ.
(2) فى أ: زيادة سحرا.
(3) اضطراب وخطأ فى نسخة أ، وقد أصلحته من ل.
(4) ساقطة من ل.
(5) ساقطة من أ: (إذا وصفا) . [.....]
(6) فى أ: فى ضيره.
(7) فى أ: زيادة ماله.
(8) فى أ، ل زيادة: أن.
(9) سورة التوبة: 69.
(10) سورة آل عمران: 77(1/127)
وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا يَقُولُ باعوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ من السحر لَوْ يعني إن كانُوا يَعْلَمُونَ- 102- ولكنهم لا يعلمون «1» .
كان أَبُو صَالِح يروي عن الْحَسَن فِي قوله- تَعَالَى-: وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ قَالَ: وكان هاروت وماروت مطيعين للَّه- عَزَّ وَجَلّ-. هبطا بالسحر ابتلاء من اللَّه لخلقه وعهد إليهما عهدا أن لا يعلما أحدا سحرا حَتَّى يقولا لَهُ مقدمة إِنَّمَا نَحْنُ فتنة يعني محنة وبلوى فلا تكفر فإذا أبى عليهما إِلَّا تعليم السحر قَالا له: اذهب إلى موضع كذا وكذا فإنك إذا أتيته وفعلت كذا وكذا كنت ساحرا «2» .
ثُمّ قَالَ لليهود: وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا يعني صدقوا بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاتَّقَوْا الشرك لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَقُولُ لكان ثوابهم عِنْد اللَّه خَيْرٌ من السحر والكفر لَوْ يعني إن كانُوا يَعْلَمُونَ- 103- نظيرها فِي المائدة قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ «3» يعنى ثوابا.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وذلك [19 ب] أن الْمُؤْمِنِين قَالُوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- راعنا سمعك كقولهم فِي الْجَاهِلِيَّة بعضهم لبعض.
وراعنا فِي كلام اليهود الشتم فَلَمَّا سَمِعْتُ ذَلِكَ اليهود من المشركين أعجبهم فقالوا: مثل ذَلِكَ للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال رجل من الأنصار- وهو سعد بن عبادة الْأَنْصَارِيّ- لليهود «4» لئن قالها رَجُل منكم للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأضربن عنقه فوعظ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الْمُؤْمِنِين فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا
__________
(1) فى أ: زيادة نظيرها فى المائدة.
(2) هذا الأثر ذكر فى أبعد تفسير أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ.
(3) فى أ: قل هل أنبئكم بهمزة على نبرة والآية 60 سورة المائدة.
(4) فى أ: فقال رجل من الأنصار لليهود وهو سعد بن عبادة.(1/128)
للنبي- صلى اللَّه عَلَيْه وسلم- راعِنا وَلكن قُولُوا انْظُرْنا قولوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسمع مِنَّا ثُمّ قَالَ: وَاسْمَعُوا ما تؤمرون به وَلِلْكافِرِينَ يعني اليهود عَذابٌ أَلِيمٌ- 104- يعني وجيعا مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ منهم قَيْس بن عمرو، وعازار بن ينحوم، وذلك أن الأنصار دعوا خلفاءهم من اليهود إلى الْإِسْلام، فقالوا للمسلمين: ما تدعونا إلى خير مما نَحْنُ عَلَيْه وددنا أنكم عَلَى هدى وأنه كَمَا تقولون فكذبهم اللَّه- سُبْحَانَهُ- فَقَالَ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ يعني دينه الْإِسْلام مَنْ يَشاءُ نظيرها فِي- هَلْ أتى يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ «1» يعني فِي دينه الْإِسْلام فاختص الْمُؤْمِنِين وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ- 105- فاختصهم لدينه.
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها «2» يعني نبدل من آية فنحولها فيها تقديم يقول نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها يَقُولُ نأت من الوحي مكانها أفضل منها لَكُمْ وأنفع لَكُمْ ثُمّ قَالَ:
أَوْ مِثْلِها يَقُولُ أَوْ نأت بمثل ما نسخنا أَوْ ننسها يَقُولُ أَوْ نتركها كَمَا هِيَ فلا ننسخها وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي- صلى الله عليه وسلم-: إنما تقولت أَنْت يا محمد هَذَا القرآن من تلقاء نفسك قُلْتُ كذا وكذا ثُمّ غيرت فقلت كذا وكذا فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يعظم نفسه تبارك اسمه أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- 106- من الناسخ والمنسوخ قدير.
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يحكم فيهما ما يشاء ويأمر بأمر ثُمّ يأمر بغيره: ثُمّ قَالَ سُبْحَانَهُ: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يعني قريب ينفعكم وَلا نَصِيرٍ- 107- يعني وَلا مانع يمنعكم من اللَّه لقولهم إن القرآن
__________
(1) سورة الإنسان: 31.
(2) فى أ: ننساها.(1/129)
لَيْسَ من اللَّه وإنما تقوله محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من تلقاء نفسه نظيرها فِي براءة قوله- سُبْحَانَهُ-: وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ «1» وقَالَ- عَزَّ وَجَلّ- فِي النحل: وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ «2» أنَّكَ لن تَقُولُ إِلَّا ما قِيلَ لك. أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ [20 أ] يعني يَقُولُ تريدون أن تسألوا محمدا أن يريكم ربكم جهرة كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ محمد يعني كَمَا قَالتْ بنو إِسْرَائِيل لموسى أرنا الله جهرة وَمَنْ يَتَبَدَّلِ يعني من يشتر الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ يعنى اليهود فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ- 108- يعني قَدْ أخطأ قصد طريق الهدى كقوله- سُبْحَانَهُ- فِي القصص: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ «3» يعني قصد الطريق وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وذلك أن نفرا من اليهود منهم فنحاص، وزيد بن قَيْس- بعد قتال أحد- دعوا حُذَيْفة، وعمارا إلى دينهم وقالوا لهما: إنكما لن تصيبا خيرًا للذي أصابهم يوم أحد من البلاء. وقالوا لهما «4» : ديننا أفضل من دينكم ونحن أهدى منكم سبيلا. قَالَ لهم عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قَالُوا: شديد. قال عمار:
فإنى عاهدت ربي أن لا أكفر بمحمد أبدا، وَلا أتبع دينا غَيْر دينه فقالت اليهود: أما عمار فقد ضل، وصبأ عن الهدى، بعد إذ بصره اللَّه، فكيف أَنْت يا حُذَيْفة، ألا تبايعنا. قَالَ حُذَيْفة: اللَّه ربي ومُحَمَّد نبيي والقرآن إمامي أطيع ربي، وأقتدي برسولي، وأعمل بكتاب اللَّه ربي، حَتَّى يأتيني اليقين على الإسلام
__________
(1) سورة التوبة: 74.
(2) سورة النحل: 101.
(3) سورة القصص: 22. [.....]
(4) فى أ: قالوا لهم.(1/130)
واللَّه السَّلام ومنه السَّلام. فقالوا: وإله مُوسَى لقَدْ أشربت قلوبكم حب محمد.
فَقَالَ عمار: ربي أحمده، وربي أكرم محمدا، ومنه اشتق «1» الجلالة، إن محمدا أَحْمَد هُوَ محمد.
ثُمّ آتيا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبراه، فَقَالَ: ما رددتما عليهما. فَقَالا: قُلْنَا اللَّه ربنا، ومُحَمَّد رسولنا، والقرآن إمامنا، اللَّه نطيع، وبمحمد نقتدي، وبكتاب اللَّه نعمل. فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصبتما أخا الخير، وأفلحتما فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يحذر الْمُؤْمِنِين: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ
فِي التوراة أن محمدا نَبِيّ ودينه الْإِسْلام ثُمّ قَالَ سُبْحَانَهُ:
فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا يَقُولُ اتركوهم «2» واصفحوا يَقُولُ وأعرضوا عن اليهود حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ فأتى اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بأمره فِي أَهْل قريظة: القتل والسبي وَفِي أَهْل النضير الجلاء والنفي من منازلهم وجناتهم التي بالمدينة إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- 109- من القتل والجلاء قدير وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ يَقُولُ وأتموها لمواقيتها وَآتُوا الزَّكاةَ يَقُولُ آتوا زكاة أموالكم وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ فِي الصدقة، ثُمّ قَالَ: تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [20 ب]- 110- وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ عَلَى ديننا هُوداً أَوْ نَصارى يَقُولُ اللَّه- سُبْحَانَهُ-: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ يَقُولُ تمنوا عَلَى اللَّه فقال الله- عز وجل- لنبيه- صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ يعني حجتكم من التوراة والإنجيل إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- 111- بما تقولون فأكذبهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فَقَالَ: بَلى لكن يدخلها مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يعني أخلص دينه للَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ فِي عمله
__________
(1) فى أ: انبثق.
(2) فى أ: اتركهم.(1/131)
فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ- 112- عِنْد الموت وَقالَتِ الْيَهُودُ يعني ابْن صوريا وأصحابه لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ من الدّين فمالك يا محمد والنصارى اتبع ديننا وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ من الدين فمالك يا محمد واليهود اتبع ديننا يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-:
وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ يَقُولُ وهم يقرءون التوراة والإنجيل يعني يهود المدينة ونصارى نجران كَذلِكَ يعني هكذا قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ بتوحيد ربهم يعني مشركي العرب أن محمدا وأصحابه ليسوا عَلَى شيء من الدّين. يقول الله:
مِثْلَ قَوْلِهِمْ يعني مثل ما قالت اليهود والنصارى بعضهم لبعض فذلك قوله سُبْحَانَهُ فِي المائدة: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ «1» يقول:
فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يعني بين مشركي العرب وبَيْنَ أَهْل الكتاب فِيما كانُوا فِيهِ من الدّين يَخْتَلِفُونَ- 113- وَمَنْ أَظْلَمُ نزلت فى أنطياخوس ابن ببليس الرومي ومن معه من أَهْل الروم يَقُولُ فلا أحد أظلم مِمَّنْ مَنَعَ يعني نصارى الروم مَساجِدَ اللَّهِ يعنى بيت المقدس أن يصلى فيه أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يعني التوحيد وَسَعى فِي خَرابِها وذلك أن الروم ظهروا عَلَى اليهود فقتلوهم وسبوهم وخربوا بيت المَقْدِس وألقوا فِيهِ الجيف وذبحوا فِيهِ الخنازير ثُمّ كان عَلَى عهد الروم الثانية ططسر بن سناباتوس ويُقَالُ اصطفانوس فقتلهم وخرب بيت المَقْدِس فلم يعمر حَتَّى بناه المسلمون فِي زمان عُمَر بن الخَطَّاب- رضوان اللَّه عَلَيْه. يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: أُولئِكَ يعني أَهْل الروم ما كانَ ينبغي لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها يعني الأرض المقدسة إذ بعث محمد- صلى الله عليه وسلم-: إِلَّا خائِفِينَ فلا يدخل بيت المقدس اليوم الرومي إلا
__________
(1) سورة المائدة 14.(1/132)
خائفا متنكرا فَمنْ قدر عَلَيْه منهم فَإنَّهُ يعاقب ثُمّ أخبر عن أَهْل الروم فَقَالَ: لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ يعني الهوان إن لَمْ تقتل مُقَاتِلتهم وتسب ذراريهم بأيدي الْمُسْلِمِين فِي ثلاث مدائن قُسْطَنْطِينيَّة والرومية ومدينة أخرى وهي عمورية فهذا خزيهم فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ [21 أ]- 114- من النار وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وذلك أن ناسا من الْمُؤْمِنِين كانوا فِي سفر فحضرت الصَّلاة فِي يوم غيم فتحيروا فمنهم من صلى قبل المشرق ومنهم من صلى قبل المغرب وذلك قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة فَلَمَّا طلعت الشمس عرفوا أنهم قَدْ صلوا لغير القبلة فقدموا المدينة فأخبروا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِك فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا تحولوا وجوهكم فِي الصَّلاة فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ فثم اللَّه إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ لتوسيعه عليهم فِي ترك القبلة حين جهلوها عَلِيمٌ- 115- بما نووا وأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ «1» إلى آخر الآية وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ إِنَّمَا نزلت فِي نصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما من الوفد قدموا عَلَى النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمدينة فقالوا: عِيسَى ابْن اللَّه فأكذبهم اللَّه- سُبْحَانَهُ- وعظم نفسه- تَعَالَى عما يقولون- فَقَالَ: بَلْ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ- 116- يعني للَّه يعني من فيهما: يعني عِيسَى- صلى الله عليه وسلم- وغيره عبيده وَفِي ملكه ثُمّ قَالَ: قانتون يعنى مقرون بالعبودية ثم عظم
__________
(1) سورة البقرة: 177 وتمامها لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.(1/133)
نفسه فقال: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ابتدعهما وَلَم يكونا شيئًا وَإِذا قَضى أَمْراً فِي علمه أَنَّهُ كائن فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ- 117- لا يثنى «1» قوله كفعل المخلوقين وذلك أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- قضى أن يَكُون عِيسَى- عَلَيْه السَّلام- فِي بطن أُمّه من غَيْر أب، فَقَالَ لَهُ كن فكان. وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ بتوحيد ربهم يعني مشركي العرب للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَوْلا يعنون هلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ يخبرنا بأنك رسوله أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَمَا كَانَت الْأَنْبِيَاء تأتيهم الآيات تجيء إلى قومهم يَقُولُ اللَّه: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ يقول هكذا قالت بنو إِسْرَائِيل من قبل مشركي العرب فقالوا فِي سورة البقرة «2» ، والنساء «3» لموسى أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وأتوا بالآيات وسمعوا الكلام فحرفوه فهل هَؤُلاءِ إِلَّا مثل أولئك؟ فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ثُمّ قَالَ وإن كذب مشركو العرب بمحمد قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ أَي فقد بينا الآيات فذلك قوله- سُبْحَانَهُ- فِي العنكبوت: بَلْ هُوَ آياتٌ يعني بيان أمر محمد آيات بَيِّناتٌ «4» يعني واضحات فِي التوراة أَنَّهُ أمي لا يقرأ الكتاب وَلا يخط بيمينه لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ- 118- يعني مؤمني أَهْل التوراة إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ يَقُولُ لَمْ نرسلك عبثا لغير شيء بَشِيراً وَنَذِيراً بشيرا بالجنة ونذيرا من النار وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ
__________
(1) فى أ: لابثن.
(2) فى سورة البقرة: 55 وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ.
(3) سورة النساء: 153 وتمامها يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً.
(4) سورة العنكبوت: 49 وتمامها بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ.(1/134)
- 119- فَإِن اللَّه قَدْ أحصاها عليهم «1» وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ [21 ب] من أهل المدينة وَلَا النَّصارى من أَهْل نجران حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ وذلك أنهم دعوا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى دينهم وزعموا أنهم عَلَى الهدى فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- قُلْ لهم: إِنَّ هُدَى اللَّهِ يعني الْإِسْلام هُوَ الْهُدى ثُمّ حذر نبيه- صلى اللَّه عَلَيْه وسلم- فَقَالَ: وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ يعني أَهْل الكتاب عَلَى دينهم بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ وعلم البيان «2» مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ يعنى من قريب فينفعك وَلا نَصِيرٍ- 120- يعني وَلا مانع ثُمّ ذكر مؤمني أَهْل التوراة عَبْد اللَّه بن سلام وأصحابه فَقَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني أعطيناهم التوراة يَتْلُونَهُ يعني نعت محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي التوراة حَقَّ تِلاوَتِهِ فِي التوراة وَلا يحرفون نعته أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ يقول أولئك يصدقون بمحمد يعني عَبْد اللَّه بن سلام وأصحابه ثُمّ قَالَ: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ يعني بمحمد من أَهْل التوراة فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ- 121- فِي العقوبة يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ- 122- يعني عالمي ذَلِكَ الزمان يعني عالمي أجدادهم يعني بالمن والسلوى والحجر والغمام وَاتَّقُوا يَوْماً يعني اخشوا يومًا يوم الْقِيَامَة لا تَجْزِي نَفْسٌ كافرة عَنْ نَفْسٍ كافرة شَيْئاً من المنفعة وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ يعني فداء وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ يعني شفاعة نَبِيّ وَلا شهيد وَلا صديق وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ- 123- يعني يمتنعون من العذاب.
وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ يعني بِذَلِك كُلّ مسألة فِي القرآن مما سأل إبراهيم
__________
(1) هكذا فى أ، ل ولعل المراد: قد أحصى أعمالهم عليهم.
(2) هكذا، أ، ل والمراد: الكتاب المبين الواضح المبين للهدى والمحذر من الضلال.(1/135)
من قوله: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ» .
ومن قوله: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ «2» .
وحين قَالَ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ «3» .
وحين قَالَ لقومه حين حاجوه: إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ «4» .
وحين قَالَ: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً «5» .
وحين ألقى فِي النار، وحين أراد ذبح ابنه، وحين قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين، وحين سَأَلَ الولد «6» .
وحين قَالَ وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «7» .
وحين قَالَ: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ «8» .
وحين قَالَ: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ «9» .
وما كان نحو هَذَا فِي القرآن وما سَأَلَ إِبْرَاهِيم فاستجاب لَهُ فَأَتَمَّهُنَّ ثُمّ زاده اللَّه مما لَمْ يَكُنْ فِي مسألته قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فى الدين يقتدى
__________
(1) سورة البقرة: 126.
(2) سورة البقرة: 128.
(3) سورة البقرة: 129. [.....]
(4) سورة الأنعام: 78 وتمامها فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ.
(5) سورة الأنعام: 79. وفى الأصل: إنى وجهت وجهى لله وهو خطأ فى الآية.
(6) فى أ: حين سأل الولد.
(7) سورة إبراهيم: الآية 35.
(8) سورة إبراهيم: 37.
(9) سورة البقرة: 127.(1/136)
بسنتك «1» قالَ إِبْرَاهِيم: يا رب، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي فاجعلهم أئمة قالَ اللَّه: إن فِي ذريتك الظلمة يعني اليهود والنصارى لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ- 124- يعني المشركين من ذريتك قَالَ لا ينال طاعتي الظلمة من ذريتك [22 أ] وَلا أجعلهم أئمة «2» : أنحلها «3» أوليائي وأجنبها أعدائي وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ يقولون يثوبون إليه فِي كُلّ عام ليقضوا «4» منه وطرا ثُمّ قَالَ: وَأَمْناً لمن دخله وعاذ به «5» فِي الْجَاهِلِيَّة ومن أصاب اليوم حدا ثُمّ لجأ إِلَيْهِ أمن فِيهِ حَتَّى يَخْرُج من الحرم ثُمّ يقام عَلَيْه ما أحل «6» بنفسه ثُمّ قال: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى
__________
(1) جرى مقاتل فى تفسيره على أن الابتلاء كان من إبراهيم لربه وهي قراءة فى الآية: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ على أنه دعا ربه بكلمات مثل أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى. اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً فيرى هل يجيبه. وعلى هذه القراءة معنى فأتمهن أى أعطاه الله جميع ما دعاه.
أما قراءة حفص فهي وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ أى كلفه ربه واختبره بأوامر ونواه (فأتمهن أى فأداهن كلهن وقام بهن حق القيام لقوله- تعالى- وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى. والكلمات قد تطلق على المعاني فلذلك فسرت بالخصال الثلاثين المحمودة المذكورة فى قوله- تعالى- التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ.. الآية وقوله تعالى: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ إلى آخر الآيتين وقوله قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ... إلى قوله أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ كما فسرت بها فى قوله فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ وبمناسك الحج وبالكواكب والقمرين وذبح الولد والنار والهجرة على أنه تعالى عامله بها معاملة المختبر بهن.
وأورد ابن جرير الطبري وابن كثير أحاديث كثيرة فى الكلمات التي ابتلى بها إبراهيم. منها ما وراء ابن كثير عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن عباس قال: ابتلاه بالطهارة خمس فى الرأس وخمس فى الجسد فى الرأس: قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس.
وفى الجسد تقليم الأظافر وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء.
ثم قال ابن كثير: قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله أنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر وجائز أن يكون بعض ذلك ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع قال: ولم يصح فى ذلك خبر بنقل الواحد ولا الجماعة الذي يجب التسليم له. أهـ انظر ابن كثير ج 1: 166 والبيضاوي ص: 25.
(2) فى أ: ولأجعلنهم أئمة.
(3) أى أنحل الإمامة أوليائى.
(4) فى أ: لا يقضوا.
(5) فى أ: وأعاذ.
(6) فى أ: ما أخذ.(1/137)
يعني صلاة وَلَم يؤمروا بمسحه وَلا تقبيله وذلك أَنَّهُ كان ثلاثمائة وستون صنما فِي الكعبة «1» فكسرها النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمّ قَالَ: وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ من الأوثان فلا تذرا حوله صنما وَلا وثنا يعني حول البيت لِلطَّائِفِينَ بالبيت من غَيْر أَهْل مكة وَالْعاكِفِينَ يعني أَهْل مكة مقيمين بها وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ- 125- فِي الصلوات وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً يعني مكة فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- نعم فحرمه من الخوف «2» .
وَارْزُقْ أَهْلَهُ من المقيمين بمكة مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ يعني من صدق منهم بِاللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وصدق بِاللَّه أَنَّهُ واحد لا شريك لَهُ، وصدق بالبعث الَّذِي فِيهِ جزاء الأعمال، فأما مكة فجعلها اللَّه أمنا وأمّا الرزق فَإِن إِبْرَاهِيم اختص بمسائلته الرزق للمؤمنين قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ أَي قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- والذين كفروا أرزقهم أيضا مَعَ الَّذِين آمنوا ولكنها لهم متعة من الدُّنْيَا قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ ألجئه إن مات عَلَى كفره «3» إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ- 126- وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ يعني أساس البيت الحرام الَّذِي كان رفع ليالي الطوفان عَلَى عهد نوح فبناه إِبْرَاهِيم وإسماعيل عَلَى ذَلِكَ الأصل وأعانهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بسبعة أملاك على البناء.
ملك إِبْرَاهِيم. وملك إسماعيل، وملك هاجر. والملك الموكل بالبيت «4» . وملك الشمس. وملك القمر. وملك آخر. فَلَمَّا فرغا من بناء البيت قَالا: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا يعني بناء هَذَا البيت الحرام إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ- 127- لدعائهما
__________
(1) الأولى: فى الكعبة ثلاثمائة وستون صنما.
(2) هكذا فى أ، ل والمراد جعله حرما آمنا لا يخافه من أقام به. [.....]
(3) فى أ: اضطرهم إن ماتوا على كفرهم.
(4) فى أ: وملك الموكل بالبيت.(1/138)
ربنا تقبل مِنَّا. ثُمّ قَالا: رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ يعني مخلصين لك وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا يعني علمنا مناسكنا نظيرها بِما أَراكَ اللَّهُ «1» يعني بما علمك اللَّه ونظيرها وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ «2» يعني يرى اللَّه ونظيرها أيضا وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «3» يعنى ويعلم ونظيرها فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا يعني وليرين اللَّه «4» وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ «5» يعني ويرى.
أَرِنا مَناسِكَنا فنصلي لك وَتُبْ عَلَيْنا يعني إِبْرَاهِيم وإسماعيل أنفسهما إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ- 128- ففعل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ذَلِكَ به فنزل جبريل- عليه السلام- فانطلق [22 ب] بإبراهيم- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى عرفات وإلى المشاعر ليريه ويعلمه كيف يسأل ربه فَلَمَّا أراه اللَّه المناسك والمشاعر علم أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- سيجعل فِي ذريتهما أَمَة مُسْلِمَةَ كَمَا سألا ربهما فَقَالا عِنْد ذَلِكَ: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ يعني فِي ذريتنا رَسُولًا مِنْهُمْ يعني محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ يعني يقرأ عليهم آيات القرآن وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ يَقُولُ يعلمهم ما يتلى عليهم من القرآن ثُمّ قَالَ: وَالْحِكْمَةَ يعني المواعظ التي فِي القرآن من الحلال والحرام وَيُزَكِّيهِمْ يعني ويطهرهم من الشرك والكفر إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- 129- فاستجاب الله له فى سورة الجمعة فَقَالَ: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ «6» . إلى آخر الآية وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ وذلك أن عبد الله ابن سلام دعا ابني أَخِيهِ «7» سَلَمَة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما: ألستما تعلمان
__________
(1) سورة النساء: 105 وتمامها إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً.
(2) سورة آل عمران: 142 وتمامها أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ
(3) سورة سبأ: 6 وتمامها وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.
(4) فى أ: وليرى الله.
(5) فى أ: سأل والآية سورة العنكبوت: 3.
(6) سورة الجمعة: 2.
(7) فى أ: ابنا أخيه.(1/139)
أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- قَالَ لموسى: إني باعث نبيا من ذرِّيَّة إسماعيل، يُقَالُ لَهُ أَحْمَد يحيد «1» أمته عن النار، وأنه ملعون من كذب بأحمد النَّبِيّ، وملعون من لَمْ يتبع دينه، فأسلم سَلَمَة، وأبي مهاجر ورغب عن الْإِسْلام. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ يعني الْإِسْلام ثُمّ استثنى:
إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ يعني إِلَّا من خسر نفسه من أَهْل الكتاب وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ يعني إِبْرَاهِيم يعني اخترناه بالنبوة والرسالة فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ- 130- إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ يَقُولُ أخلص قالَ أَسْلَمْتُ يعني أخلصت لِرَبِّ الْعالَمِينَ- 131- وَوَصَّى بِها يعني بالإخلاص إِبْراهِيمُ بَنِيهِ الأربعة إسماعيل وإسحاق ومدين ومداين ثُمّ وصى بها يَعْقُوب بنيه يُوسُف وإخوته اثني عشر ذكرا بنيه وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ أَي فَقَالَ يَعْقُوب لبنيه الاثني عشر إِنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلّ- اصْطَفى يعني اختار لَكُمُ الدِّينَ يعني دين الْإِسْلام فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ- 132- يعني مخلصون بالتوحيد أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ وذلك أن اليهود قالوا للنبي- صلى الله عليه وسلم-: يا محمد، ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه بدين اليهودية فأنزل الله- عز وجل- أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ.
قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إن اليهود لَمْ يشهدوا وصية يَعْقُوب لبنيه إِذْ قالَ لِبَنِيهِ يوسف وإخوته ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أَي بعد موتي «2» قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ- 133- يعني مخلصون لَهُ بالتوحيد يَقُولُ: تِلْكَ أُمَّةٌ يعني عصبة قَدْ خَلَتْ لَها مَا كَسَبَتْ
__________
(1) هكذا فى أ، ل- والمراد يميل بأمته عن النار: أو بصرف أمته عن النار.
(2) فى أ: من بعد موتى.(1/140)
من العمل يعني الدّين يعني إِبْرَاهِيم وبنيه ويعقوب وبنيه ثُمّ قَالَ لليهود: وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ من الدين وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [23 أ]- 134- أولئك وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا وذلك أن رءوس اليهود كعب ابن الأشرف، وكعب بن أُسَيْد، وأبا ياسر بن أخطب، ومالك بن الضيف، وعازارا، وإشماويل، وخميشا، ونصارى نجران السيد والعاقب، ومن معهما قَالُوا للمؤمنين: كونوا عَلَى ديننا فَإنَّهُ لَيْسَ دين إِلَّا ديننا فكذبهم اللَّه- تَعَالَى- فَقَالَ: قُلْ بَلْ الَّدين مِلَّةَ إِبْراهِيمَ يعني الْإِسْلام ثُمّ قَالَ: حَنِيفاً يعني مخلصا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ- 135- يعني من اليهود والنصارى ثُمّ أمر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الْمُؤْمِنِين فَقَالَ: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ بأنه واحد لا شريك لَهُ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا يعني قرآن محمد- صلى الله عليه وسلم- وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم بنو يَعْقُوب يُوسُف وإخوته فنزل عَلَى هَؤُلاءِ صحف إِبْرَاهِيم. قَالَ: وَما أُوتِيَ مُوسى يعني التوراة (و) ما أوتى عِيسى يعني الإنجيل: يَقُولُ ما أنزل عَلَى مُوسَى وعيسى وصدقنا وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ وأوتي دَاوُد وسليمان الزبور لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ فنؤمن ببعض النبيين، ونكفر ببعض، كفعل أَهْل الكتاب وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ- 136- يعني مخلصون نظيرها فِي آل عِمْرَانَ. يَقُولُ اللَّه- سُبْحَانَهُ-: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ يقول فإن صدق «1» أهل الكتاب بالذي صدفتم به يا مَعْشَر الْمُسْلِمِين من الْإِيمَان بجميع الأنبياء والكتب «2» فَقَدِ اهْتَدَوْا من الضلالة
__________
(1) فى أ: صدقوا.
(2) فى أ، ل: يا معشر جميع المسلمين بالإيمان من الأنبياء والكتب.(1/141)
وَإِنْ تَوَلَّوْا «1» أَي وإن كفروا بالنبيين وجميع الكتب فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ يعني فِي ضلال واختلاف نظيرها وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ»
يعني لفي ضلال واختلاف لأن اليهود كفروا بعيسى، ومُحَمَّد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِما وَسَلَّمَ- وبما جاءا به، وكفرت النَّصارى بمحمد- صلى اللَّه عليه وسلم- وبما جاء به،
فَلَمَّا نزلت هَذِهِ الآية قرأها النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى اليهود والنصارى، فَقَالَ: إن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أمرني أن أوصي بهذه الآية، فَإِن انتم آمنتم يعني صدقتم بالنَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والكتاب، فقد اهتديتم وإن توليتم وأبيتم عن الْإِيمَان فَإِنَّمَا أنتم فِي شقاق
فَلَمَّا سَمِعْتُ اليهود ذكر عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالُوا: لا نؤمن بعيسى. وقالت النَّصارى: وعيسى بمنزلتهم مَعَ الْأَنْبِيَاء، ولكنه وَلَدُ اللَّه. يَقُولُ: إن أبوا أن يؤمنوا بمثل ما آمنتم به فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ يا محمد يعني أَهْل الكتاب ففعل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ذَلِكَ فقتل أهل قريظة، وأجلى [بني] النضير من المدينة إلى الشام، وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ- 137- لقولهم للمؤمنين كونوا هودا أو نصارى تهتدوا ثُمّ قَالَ العليم بما قَالُوا قل لَهُمْ صِبْغَةَ اللَّهِ التي صبغ الناس عليها وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً يعني الْإِسْلام لقولهم للمؤمنين اتبعوا ديننا فَإنَّهُ ليس دين إلا ديننا [23 ب] يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- دين اللَّه ومن أحسن من اللَّه دينا يعني الْإِسْلام وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ- 138- يعني موحدون قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ يَقُولُ أتخاصموننا فِي اللَّه وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، فَقَالَ لهم: وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ- 139- يقول لنا
__________
(1) ساقط من أ. [.....]
(2) سورة البقرة: 176 وتمامها ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ.(1/142)
ديننا ولكم دينكم يعني أن يهود أَهْل المدينة ونصارى أَهْل نجران، قَالُوا للمؤمنين:
إن أنبياء اللَّه كانوا مِنَّا من بني إِسْرَائِيل فكانوا عَلَى ديننا فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يكذبهم أَمْ تَقُولُونَ «1» إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ وإنما سموا الأسباط لأنه وُلِد «2» لكل واحد منهم أمة من الناس «3» كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ لهم يا محمد أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ بدينهم أَمِ اللَّهُ ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَمَنْ أَظْلَمُ يَقُولُ فلا أحد أظلم مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ- 140- فكتموا تِلْكَ الشهادة التي عندهم وذلك أن الله- عز وجل- بين أمر محمد في التوراة والإنجيل وكتموا تلك الشهادة التي عندهم وذلك قوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ «4» لِلنَّاسِ.
يعني أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا قَالُوا: إن إِبْرَاهِيم وبنيه ويعقوب وبنيه كانوا عَلَى ديننا، قَالَ اللَّه «5» - تَعَالَى- تِلْكَ أُمَّةٌ يعني عصبة يعني إِبْرَاهِيم وبنيه ويعقوب وبنيه قَدْ خَلَتْ يعني قَدْ مضت لَها ما كَسَبَتْ يعني من العمل يعني من الدّين وَلَكُمْ مَعْشَر اليهود والنصارى ما كَسَبْتُمْ من العمل يعني من الدّين وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ- 141- أولئك. سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا بمكة يصلون ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي، فلما عرج بالنبي- صلى الله عليه وسلم- إلى السماء ليلا أمر بالصلوات «6» الخمس، فصارت الركعتان للمسافر، وللمقيم أربع
__________
(1) فى أ: يقولون.
(2) فى أ: لأنهم إذ، وفى ل: لأنه ولد.
(3) وفى البيضاوي: والأسباط جمع سبط وهو الحافد يريد به حفدة يعقوب أو أبناؤه وذريتهم فإنهم حفدة إبراهيم وإسحاق.
(4) فى أ: ليبيننه- 187 سورة آل عمران.
(5) فى أ: يقول.
(6) فى أ: بالصلاة.(1/143)
ركعات، فَلَمَّا هاجر إلى المدينة لليلتين خلتا من ربيع الأول أمر أن يصلي نحو بيت المَقْدِس لئلا يكذب به أَهْل الكتاب إذا صلى «إلى غَيْر) قبلتهم «1» مَعَ ما يجدون من نعته فِي التوراة فصلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه قبل بيت المَقْدِس من أول مقدمه المدينة سبعة عشر شهرا وصلت الأَنْصَار قبل بيت المَقْدِس سنتين قبل هجرة النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكانت الكعبة أحبّ القبلتين إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لجبريل- عَلَيْه السَّلام- وددت أن ربي صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها. فَقَالَ جبريل- عَلَيْه السَّلام- إِنَّمَا أَنَا عَبْد مثلك لا أملك شيئًا، فاسأل ربك ذَلِكَ، وصعد جبريل إلى السماء، وَجَعَل النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبريل- عَلَيْه السَّلام- بما سَأَلَ.
فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي رجب عِنْد صلاة الأولى قبل قتال بدر بشهرين- قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «2» - ولما صرفت القبلة إلى الكعبة قَالَ مشركو مكة: قَدْ تردد عَلَى أمره واشتاق إلى مولد آبائه. وَقَدْ توجه إليكم وَهُوَ راجع إلى دينكم، فكان قولهم هَذَا سفها منهم فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ يعني مشركي مكة ما وَلَّاهُمْ يَقُولُ ما صرفهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الأولى الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ يا محمد لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ- 142- يعني دين الْإِسْلام يهدي اللَّه نبيه والمؤمنين لدينه وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً وذلك أن اليهود منهم مرحب، ورافع، وربيعة، قالوا لمعاذ:
__________
(1) فى أل: إذا صلى إلى قبلتهم.
(2) ما بين العلامتين (--) شطر من آية رقم 144. وقد فسرت فى الأصل قبل آية رقم 142، 143 وقد راعيت فى التحقيق ترتيب الآيات كما وردت فى المصحف، وأخرت تفسير آية 441 إلى مكانه.(1/144)
ما ترك محمد قبلتنا إِلَّا حسدا وإن قبلتنا قبلة الْأَنْبِيَاء، ولقد علم محمد أَنّا عدل بين الناس. فَقَالَ مُعَاذ «1» : إنا عَلَى حق وعدل، فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي قول مُعَاذ وَكَذلِكَ يعني وهكذا جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً يعني عدلا نظيرها فِي ن والقلم قوله- سُبْحَانَهُ: قالَ أَوْسَطُهُمْ «2» يعني أعدلهم وقوله سبحانه-: مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ «3» يعني أعدل فقول اللَّه: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً يعني أمة محمد تشهد بالعدل فِي الآخرة بين الْأَنْبِيَاء وَبَيْنَ أممهم لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ يعني عَلَى الرسل هَلْ بلغت الرسالة عن ربها إلى أممهم «4» وَيَكُونَ الرَّسُولُ يعني محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْكُمْ شَهِيداً يعني على أمته أَنَّهُ بلغهم الرسالة وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها «5» يعني بيت المَقْدِس إِلَّا لِنَعْلَمَ إِلَّا لنرى مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ يعني محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى دينه فِي القبلة ومن يخالفه من اليهود مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ يَقُولُ ومن يرجع إلى دينه الأول وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً يعني القبلة حين صرفها عن بيت المقدس إلى الكعبة عظمت عَلَى اليهود، ثُمّ استثنى فَقَالَ: إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ «6» فَإنَّهُ لا يكبر عليهم ذَلِكَ.
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ وذلك أن حيي بن أخطب اليهودي وأصحابه، قَالُوا للمسلمين: أخبرونا عن صلاتكم نحو بيت المَقْدِس، أكانت هدى أم ضلالة فواللَّهِ لئن كَانَتْ هدى، لَقَدْ تحولتم عَنْهُ. ولئن كَانَتْ ضلالة لقد دنتم الله بها فتقربتم
__________
(1) فى أ: محمد.
(2) سورة القلم: 28.
(3) سورة المائدة: 89.
(4) فى أ، ل اضطراب وتقديم سطر قبل موضعه.
(5) فى الأصل خطأ فى النقل. حيث فسر النصف الأخير من آية 143 قبل النصف الأول.
وقد أصلحت الخطأ فى التحقيق وراعيت ترتيب المصحف. [.....]
(6) فى أ: إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ من المؤمنين يعنى المتواضعين من المؤمنين فإنه لا يكبر عليهم ذلك فذلك قوله- عز وجل-: إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ. وقد خلط بين هذه الآية والآية رقم 45: البقرة وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ.(1/145)
إليه بها، وإن من مات منكم عَلَيْهَا مات على الضلالة. فَقَالَ المسلمون: إِنَّمَا الهدى ما أمر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- به، والضلالة ما نهى اللَّه عَنْهُ. قَالُوا: فَمَا شهادتكم عَلَى من مات منكم عَلَى قبلتنا، وكان قَدْ مات «1» قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة أسعد بن زُرَارَة بن عدس بن عُبَيْد بن ثَعْلَبَة بن غنم بن مالك بن النجار ابن مالك بن الخزرج من بني النَّجّار «2» ، ومات الْبَرَاء بن معرور بن صخر بن سِنَان بن عُبَيْد بن عدى بن سلمة بن سعد «3» [24 ب] بْن علِي بن شاردة بن زَيْد بن جشم ابن الخزرج من بني «4» سَلَمَة، وكانا من النقباء. ومات رجال فانطلقت عشائرهم فقالوا للنبي- صلى اللَّه عَلَيْه وسلم-: توفي إخواننا وهم يصلون إلى القبلة الأولى وَقَدْ صرفك «5» اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إلى قبلة إِبْرَاهِيم عَلَيْه السَّلام- فكيف بإخواننا فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ. يعني إيمان صلاتكم نحو بيت المَقْدِس يَقُولُ لقد تقبّلت منهم إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ يعني يرق لهم رَحِيمٌ- 143- حين قبلها منهم قبل تحويل القبلة. قَدْ نَرى تَقَلُّبَ «6» وَجْهِكَ فِي السَّماءِ يعنى نرى أنك تديم نظرك إلى [24 أ] السماء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ يعني لنحولنك إلى قِبْلَةً تَرْضاها لأن الكعبة كَانَتْ أحبّ إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من بيت المَقْدِس فَوَلِّ يعني فحول وَجْهَكَ شَطْرَ يعني تلقاء الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ من الأرض فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ يعني فحولوا وجوهكم فِي الصَّلاة تلقاءه، وقد كان النبي- صلى الله عليه
__________
(1) فى أ: وقد كان قبل.
(2) فى: ابن عدس ابن عبيد، كل ابن بألف رغم وقوعها بين علمين ثانيهما أب للأول.
(3) ابن سعد ساقط من ل.
(4) كل ابن له ألف فى أ: والألف ساقطة من ل.
(5) فى أ: صرفكم.
(6) نقل تفسير جزء آية 143 الأول بعد الأخير فى الأصل. وقد أصلحته.(1/146)
وَسَلَّمَ- يصلي «1» فِي مَسْجِد بني سَلَمَة فصلى ركعة ثُمّ حولت القبلة إلى الكعبة وفرض اللَّه صيام رمضان، وتحويل القبلة، والصلاة إلى الكعبة قبل بدر بشهرين. وحرم الخمر قبل الخندق «2» .
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني أَهْل التوراة وهم اليهود منهم الحميس بن عمرو قَالَ: يا محمد ما أمرت بهذا الأمر، وما هذا إلا شيء ابتدعته، يعني فِي أمر القبلة فأنزل اللَّه- عَزَّ وجل- وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني أَهْل التوراة لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ بأن القبلة هِيَ الكعبة فأوعدهم اللَّه، فَقَالَ:
وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ- 144- يعني عما يعملون من كفرهم بالقبلة وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود ينحوم «3» بن سُكَيْن، ورافع بن سُكَيْن، ورافع بن حريملة، ومن النَّصارى أَهْل نجران السيد والعاقب. فقالوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ائتنا بآية نعرفها كَمَا كَانَت الْأَنْبِيَاء تأتي بها فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَلَئِنْ أَتَيْتَ يَقُولُ ولئن جئت يا محمد الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ يعنى الكعبة وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ يعني بيت المَقْدِس ثُمّ قَالَ: وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ يَقُولُ إن اليهود يصلون قبل المغرب لبيت المَقْدِس والنصارى قبل المشرق فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يحذر نبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويخوفه وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ فصليت إلى قبلتهم مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يعنى البيان إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ- 145- الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ يعنى اليهود منهم
__________
(1) فى أ: صلى.
(2) بالأصل فرق بين أول هذه الآية وبين آخرها بآيتين: 142، 143.
(3) فى ل: بيحوم بن سكر.(1/147)
أَبُو ياسر بن أخطب، وكعب بن الأشرف «1» وكعب بن أسيد، وسلام بن صوريا، وكنانة بن أَبِي الحقيق، ووهب بن يهوذا. وأَبُو نَافِع،
فقالوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[25 أ] لَمْ تطوفون بالكعبة وإنما هِيَ حجارة مبنية. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: إنكم لتعلمون أن الطواف بالبيت حق «2» ، فَإنَّهُ هُوَ القبلة مكتوب فِي التوراة والإنجيل، ولكنكم تكتمون ما في كتاب اللَّه من الحق وتجحدونه.
فَقَالَ ابْن صوريا: ما كتمنا شيئًا مما فِي كتابنا فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَقُولُ أعطيناهم التوراة يَعْرِفُونَهُ أَي يعرفون «3» البيت الحرام أَنَّهُ القبلة كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ يعني طائفة من هَؤُلاءِ الرءوس لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ يعني أمر القبلة وَهُمْ يَعْلَمُونَ- 146- أن البيت هُوَ القبلة ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يا محمد إن القبلة التي وليناكها هِيَ القبلة فَلا يعني لئلا تَكُونَنَّ يا محمد مِنَ الْمُمْتَرِينَ- 147- يعنى من الشاكين أن البيت الحرام هو «4» القبلة لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها
يَقُولُ لكل أَهْل مَلَّة قبلة هُمْ مستقبلوها، يريدون بها الله- عز وجل-: اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ
يَقُولُ سارعوا فِي الصالحات من الأعمال يْنَ ما تَكُونُوا
من الأرض أنتم وأهل الكتاب أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً
يوم القيامةنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
- 148- من البعث وغيره قدير وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ يَقُولُ ومن أَيْنَ توجهت من الأرض فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يَقُولُ فحول وجهك فِي الصَّلاة تلقاء المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ- 149- وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
__________
(1) فى أ: أشرف.
(2) فى أ: الحق.
(3) فى أ: التوراة يعرفون.
(4) فى أ: هي. [.....](1/148)
يعني الحرم كله فَإنَّهُ مَسْجِد كله وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ من الأرض فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ يعني فحولوا وجوهكم تلقاءه، ثُمّ قَالَ:
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ يعني اليهود [فِي] أن الكعبة هِيَ القبلة وَلا حجة لهم عليكم فِي انصرافكم إليها ثُمّ استثنى فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يعني من الناس يعني مشركي «1» العرب وذلك أن مشركي مكة قَالُوا: إن الكعبة هِيَ القبلة «2» فَمَا بال محمد تركها وكانت لهم فِي ذَلِكَ حجة. يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: فَلا تَخْشَوْهُمْ أن يَكُون لهم عليكم حجة فِي شيء غيرها وَاخْشَوْنِي فِي ترك أمري فِي أمر القبلة، ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ فِي انصرافكم إلى الكعبة، وهي القبلة وَلَعَلَّكُمْ ولكي تَهْتَدُونَ- 150- من الضلالة فَإِن الصَّلاة قبل بيت المَقْدِس بعد ما نسخت الصَّلاة إِلَيْهِ ضلالة «قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، قَالَ الْهُذَيْلُ عَنْ لَيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ ابن أَبِي حَبِيبٍ عَنْ أَبِي الْجَهْمِ مَرْثَدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ وَالرُّومِيَّةَ وحمقلة. قَالَ: حَدَّثَنَا عبيد الله، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الْهُذَيْلُ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي قَبِيلٍ عن عبد الله بن عمرو [25 ب] قَالَ: إِنَّكُمْ سَتَفْتَحُونَ رُومِيَّةَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهَا فَادْخُلُوا كَنِيسَتَهَا الشَّرْقِيَّةَ فَعُدُّوا سَبْعَ بَلاطَاتٍ وَاقْلَعُوا الثَّامِنَةَ وَهِيَ بَلاطَةٌ حَمْرَاءُ فَإِنَّ تَحْتَهَا عَصَا مُوسَى وَإِنْجِيلَ عِيسَى وَحُلِيَّ إِيلِيَاءَ. يَعْنِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ هَذَا خِزْيُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ. قَالَ: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عن الْهُذَيْلِ بن حبيب عن مُقَاتِلٍ، قَالَ: كُلّ من ملك القبط يسمى قبطوس وكل من ملك الروم يسمى
__________
(1) فى أ: بمشركي.
(2) فى أ: قبلة.(1/149)
قيصر، وكل من ملك الفرس يسمى كسرى» «1» كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يعنى محمدا- صلى الله عليه وسلم- يَتْلُوا عَلَيْكُمْ «2» آياتِنا القرآن وَيُزَكِّيكُمْ يعنى ويطهركم من الشرك والكفر وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ يعني القرآن وَالْحِكْمَةَ يعني الحلال والحرام وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ- 151- إذا فعلت ذَلِكَ بكم «3» فَاذْكُرُونِي يَقُولُ فاذكروني بالطاعة أَذْكُرْكُمْ بخير وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ- 152- يَقُولُ اشكروا اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي هَذِهِ النعم لا تكفروا بها «4» لقوله كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ إلى آخر الآية.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ يَقُولُ استعينوا عَلَى طلب الآخرة بالصبر عَلَى الفرائض والصلوات الخمس فِي مواقيتها نحو الكعبة، حين عيرتهم اليهود بترك قبلتهم. إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ- 153- عَلَى الفرائض والصلاة وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ نزلت فِي قتلى بدر من الْمُسْلِمِين وهم أربعة عشر رَجُلا من الْمُسْلِمِين. ثمانية من الأَنْصَار، وستة من المهاجرين فَمن المهاجرين عُبَيْدة بن الْحَارِث بن عَبْد الْمُطَّلِب، وعمير بن نضلة، وعقيل بن بكير، ومهجع بن عبد اللَّه مَوْلَى عُمَر بن الخَطَّاب- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- وصفوان بن بيضاء، فهؤلاء ستة من المهاجرين، ومن الأنصار سعد بن خيثمة بن الْحَارِث بن النخاط بن كَعْب بن غَنْم بن أسلم بن مَالِك بن الأوس، ومبشر
__________
(1) ما بين القوسين «» ساقط من ل. وقد ذكر نقاد الحديث أن الأحاديث التي رويت عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يجب أن نتحفظ فى الأخذ بها خشية أن تكون من الزاملتين اللتين أصابهما فى بعض الغزوات، والأثر الأول عن عبد الله بن عمرو، والأثر الثاني عنه وكلاهما مستفاد من الإسرائيليات.
(2) فى أ: آيات.
(3) هكذا فى ل، وفى أ: بهم.
(4) فى أ: زيادة يعنى بها.(1/150)
ابن عَبْد الْمُنْذِر ويزيد بن الْحَارِث، وعمر بن الحمام، ورافع بن المعلى، وحارثة ابن سراقة، ومعوذ بن عفراء، وعوف بن عفراء وهما ابنا الحارث بن مالك ابن سَوَّار، فهؤلاء ثمانية من الأَنْصَار.
وذلك أن الرَّجُل كان يقتل فِي سبيل اللَّه فيقولون مات فُلان فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَلا تَقُولُوا مَعْشَر الْمُؤْمِنِين لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ مرزوقون فِي الجنة عِنْد اللَّه، ثُمّ قَالَ سُبْحَانَهُ: وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ- 154- بأنهم أحياء مرزوقون. ومساكن أرواح الشهداء سدرة المنتهى فِي جنة المأوى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ «1» بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ يعني القحط «2» وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ يعني قحط المطر وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ- 155- عَلَى هَذِهِ البلية بالجنة [26 أ] ثُمّ نعت أَهْل المصيبة، فَقَالَ: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ يعني فيما ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الآية قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ- 156- أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ يعني مغفرة كقوله سُبْحَانَهُ: وَصَلِّ عَلَيْهِمْ يعني استغفر لهم إِنَّ صَلاتَكَ يعني استغفارك سَكَنٌ لَهُمْ «3» من ربهم وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ- 157- للاسترجاع «4» .
«قَالَ عَبْد اللَّه بن ثَابِت: سَمِعْتُ أَبِي، يَقُولُ: سَمِعْتُ هَذَا الكتاب من أوله إلى آخره من هذيل أَبِي صَالِح عن مُقَاتِلٍ بن سُلَيْمَان، ببغداد فى درب السدرة فى المدينة سنة تسعين ومائة، وسمعته من أوله إلى آخره قراءة عَلَيْه فى سنة أربعين
__________
(1) فى أ: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ يعنى ولنبلونكم، وفى ل: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ يقول ولنبتليكم.
(2) فى أ، ل: القتل وفى الجلالين القحط.
(3) سورة التوبة: 103.
(4) فى أ: الاسترجاع.(1/151)
ومائتين ومات وهو ابن خمس وثمانين. قال أبو عمرو: وسمعت هذا الكتاب من عبد الله بن ثابت سنة أربع وثمانين ومائتين» «1» إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ وذلك أن الخمس: وهم قريش، وكنانة، وخزاعة، وعامر بن صعصعة، قَالُوا: ليست الصفا والمروة من شعائر اللَّه، وكان عَلَى الصفا صنم يُقَالُ لَهُ نائلة، وعلى المروة صنم يُقَالُ لَهُ يسَاف فِي الْجَاهِلِيَّة. قَالُوا، إنَّه حرج علينا فِي الطواف بَيْنَهُمَا «2» . فكانوا لا يطوفون بَيْنَهُمَا فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ يَقُولُ هما من أمر المناسك التي أمر اللَّه بها فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما يَقُولُ لا حرج عَلَيْه أن يطوف بَيْنَهُمَا «3» لقولهم إن علينا حرجا فِي الطواف بَيْنَهُمَا. ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً بعد الفريضة فزاد فِي الطواف «4» فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ- 158- لأعمالكم عليم بها وَقَدْ طاف إِبْرَاهِيم الخليل- عليه السلام- بين الصفا والمروة إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ وذلك أن مُعَاذ بن جبل، وسعد بن مُعَاذ، وحارثة بن زَيْد، سألوا اليهود عن أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعن الرجم وغيره فكتموهم يعني اليهود، منهم كَعْب بن الأشرف، وابن صوريا، ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ يعني ما بين اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي التوراة يعني الرجم والحلال والحرام وَالْهُدى يعني أمر محمد- صلى الله عليه وسلم- في التوراة فكتموه الناس يقول الله- سبحانه-:
__________
(1) ما بين القوسين «» فى ل وليس فى أ. وبعد سبع ورقات من أ. أى فى ورقة 33 نجد فيها هذا الكلام ولا يوجد فى ل هناك.
ولكن تزيد ل هنا عن أهناك (قال أبو عمرو وسمعت هذا الكتاب من عبد الله بن ثابت سنة أربع وثمانين ومائتين) .
(2) فى أ: بهما.
(3) فى أ: يطوف.
(4) أى زاد فى السعى بين الصفا والمروة. [.....](1/152)
مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ يعني أمر محمد- صلى الله عليه وسلم- لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ يعني لبني إِسْرَائِيل فِي التوراة وذلك قوله- سبحانه- فى العنكبوت: وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا أَي بمحمد «1» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا الظَّالِمُونَ «2» يعني المكذبون بالتوراة وهم أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ- 159- وذلك أن الكافر يضرب فِي قبره فيصيح ويسمع صوته الخليقة كلهم غَيْر الجن والإنس فيقولون: إِنَّمَا كان يحبس عنا الرزق بذنب هَذَا فتلعنهم الخليقة فهم اللاعنون. ثُمّ استثنى مؤمني أَهْل التوراة فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من الكفر وَأَصْلَحُوا العمل وَبَيَّنُوا أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للناس فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ يعني أتجاوز عَنْهم وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ- 160- ثُمّ ذَكَرَ مَنْ مات من اليهود عَلَى الكفر، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ [26 ب] لعنة الْمَلائِكَةِ وَلعنة النَّاسِ أَجْمَعِينَ- 161- يعني الْمُؤْمِنِين جميعًا خالِدِينَ فِيها يعني فِي اللعنة واللعنة النار لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ- 162- لا يناظر بهم حَتَّى يعذبوا «3» ثُمّ قَالَ لأهل الكتاب: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ يَقُولُ ربكم رب واحد فوحد نفسه تبارك اسمه لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ- 163- إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وذلك أن كفار مكة قَالُوا لرسول اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ائتنا بآية: اجعل لنا الصفا ذهبا. فَقَالَ اللَّه- سُبْحَانَهُ-: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي يعني السفن التي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ فِي معايشهم وَما أَنْزَلَ «4» اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ يعنى بالماء
__________
(1) فى أ: أى محمدا
(2) سورة العنكبوت: 49.
(3) فى أ: يعذب
(4) فى أ: وفيما أنزل(1/153)
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يبسها «1» وَبَثَّ فِيها يعني وبسط «2» مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ فِي العذاب والرحمة وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ- 164- فيما ذُكِرَ مَنْ صنعه فيوحدوه وَمِنَ النَّاسِ يعني مشركي العرب مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يعني شركاء وهي الآلهة يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ يَقُولُ، يحبون آلهتهم كَمَا يحب الَّذِين آمنوا ربهم ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ منهم لآلهتهم ثُمّ أخبر عَنْهُمْ، فَقَالَ: وَلَوْ يَرَى «3» محمد يوم الْقِيَامَة الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني مشركي العرب ستراهم يا محمد فِي الآخرة إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ فيعلمون حينئذ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ- 165- ثُمّ أخبر- سُبْحَانَهُ- عَنْهُمْ، فَقَالَ: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا يعني القادة مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا يعني الأتباع وَرَأَوُا الْعَذابَ يعني القادة والأتباع وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ- 166- يعني المنازل والأرحام التي كانوا يجتمعون عَلَيْهَا من معاصي اللَّه ويتحابون «4» عَلَيْهَا فِي غَيْر عبادة اللَّه انقطع عَنْهُمْ ذَلِكَ وندموا وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَي الأتباع لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً يعني رجعة إلى الدُّنْيَا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ من القادة كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا فِي الآخرة وذلك قوله سُبْحَانَهُ: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ يعني يتبرأ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً «5» كَذلِكَ يَقُولُ هكذا يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ يعني القادة والأتباع
__________
(1) فى أ: البعث، ل: البيت، وفى الجلالين يبسها.
(2) فى الجلالين (وبث) : فرق ونشر به.
(3) قراءة حفص لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أى ولو يعلم الذين ظلموا باتخاذ الأنداد. وقرأ ابن عامر ونافع ويعقوب ولو ترى على أنه خطاب للنبي- صلى الله عليه وسلم- أى ولو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما. وابن عامر إذ يرون على البناء للمفعول. انظر تفسير البيضاوي: 34.
وفى الجلالين وَلَوْ يَرَى تبصر يا محمد. فأتى بقراءة حفص بالياء وفسرها على أنها ترى على قراءة ابن عامر ونافع ويعقوب. انظر الجلالين: ص 23.
(4) فى أ: يتجاوبون، ل: يتحابون.
(5) سورة العنكبوت: 25 وتمامها: وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ.(1/154)
حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ يعني ندامة وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ- 167- يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّباً يعني مما حرموا من الحرث والأنعام نزلت فِي ثقيف، وَفِي بني عامر بن صعصعه، وخزاعة، وبني مدلج، وعامر، والحارث ابني عَبْد مناة، ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ يعني تزيين الشَّيْطَان فِي تحريم الحرث والأنعام إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ- 168- يعني بين إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ يعني بالإثم وَالْفَحْشاءِ [27 أ] يعني وبالمعاصي لأنه لَكُمْ عدو مبين وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ بأنه حرم عليكم ما لا تَعْلَمُونَ
- 169- أنتم أَنَّهُ حرمه. ثُمّ أخبر عَنْهُمْ فَقَالَ: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن فِي تحليل ما حرموه قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا من أمر الدّين فَإِن آباءنا أمرونا أن نعبد ما كانوا يعبدون. قل يا محمد:
أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً من الدّين وَلا يَهْتَدُونَ- 170- به أفتتبعونهم «1» . ثُمّ ضرب لهم مثلا فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ يعني الشاة والحمار بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً يعني مثل الكافر كمثل البهيمة إن أمرت أن تأكل أَوْ تشرب سَمِعَت صوتا وَلا تعقل ما يُقَالُ لها فكذلك الكافر الَّذِين يسمع الهدى والموعظة إذا دعي إليها فلا يعقل وَلا يفهم بمنزلة البهيمة يَقُولُ: صُمٌّ فلا يسمعون الهدى بُكْمٌ فلا يتكلمون بالهدى عُمْيٌ فلا يبصرون الهدى فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ- 171- الهدى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ من تحليل الحرث والأنعام يعني بالطيب الحلال «2» وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ- 172- ولا تحرموا ما أحل اللَّه لَكُمْ من الحرث والأنعام ثُمّ بين ما حرم فَقَالَ: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ
__________
(1) فى أ: لها أفتتبعونه.
(2) فى أ: يعنى الحلال بالطيب.(1/155)
يَقُولُ وما ذبح للأوثان فَمَنِ اضْطُرَّ إلى شيء مما حرم اللَّه غَيْرَ باغٍ استحلاله وَلا عادٍ يعنى ولا متعديا لَمْ يضطر إِلَيْهِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ فِي أكله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما أكل من الحرام فِي الاضطرار رَحِيمٌ- 173- إذ رخص لهم فِي الاضطرار مثلها فِي الأنعام «1» «والمضطر» يأكل عَلَى قدر قوته.
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ يعني التوراة أنزلت فِي رءوس اليهود منهم كَعْب بن الأشرف، وابن صوريا، كتموا أمر محمد- صلى الله عليه وسلم- في التوراة وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني عرضا من الدُّنْيَا ويختارون عَلَى الكفر بمحمد ثمنا قليلا يعني عرضا من الدُّنْيَا يسيرا مما يصيبون من سفلة اليهود من المآكل كُلّ عام ولو تابعوا محمدا لحبست عَنْهُمْ تِلْكَ المآكل.
فَقَالَ اللَّه- تَعَالَى ذكره-: أُولئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ يَقُولُ وَلا يزكي لهم أعمالهم وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ- 174- يعني وجيع ثُمّ اخبر عَنْهُمْ، فَقَالَ- سبحانه-:
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى يعنى باعوا الهدى الَّذِي كانوا فِيهِ من إيمان بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل أن يبعث بالضلالة التي دخلوا فيها بعد ما بعث محمد ثُمّ قَالَ: وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ أَي اختاروا العذاب «2» عَلَى المغفرة.
فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ- 175- يَقُولُ أَي شيء جرأهم عَلَى عمل يدخلهم
__________
(1) يشير إلى الآية 145 من سورة الأنعام وهي قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
(2) فى أ: ثم قال واختاروا العذاب على المغفرة. وفى الحاشية الآية: بالمغفرة.(1/156)
النار فما أصبرهم عليها [27 ب] إِلَّا أعمالهم الخبيثة ذلِكَ العذاب الَّذِي نزل بهم فِي الآخرة «1» بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ يعني القرآن بِالْحَقِّ يَقُولُ لَمْ ينزل باطلا لغير شيء فلم يؤمنوا به وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ يعني فِي القرآن لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ- 176- يعني لفي ضلال بعيد يعني طويل «2» .
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ يعني لَيْسَ التقوى أن تحولوا وجوهكم فِي الصَّلاة قِبَلَ يعني تلقاء الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فلا تفعلوا ذَلِكَ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ يعني صدق باللَّه بأنه واحد لا شريك لَهُ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني وصدق بالبعث الَّذِي فِيهِ جزاء الأعمال. بأنه كائن وَالْمَلائِكَةِ أَي وصدق بالملائكة وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ يعني وأعطى المال عَلى حُبِّهِ لَهُ أعطى ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ يعنى والضيف نازل عليك وَأعطى السَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ فهذا تطوع. ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَأَقامَ الصَّلاةَ المكتوبة وَآتَى «3» وأعطى الزَّكاةَ المفروضة وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا فيما بينهم وبَيْنَ الناس وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ يعني الفقر والضراء يعني البلاء وَحِينَ الْبَأْسِ يعني وعند القتال هُمْ صابرون أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا فى إيمانهم وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ- 177- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى إذا كان عمدا وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا فِي الْجَاهِلِيَّة قبل الْإِسْلام بقليل، وكانت بينهم قتلى وجرحى، حَتَّى قُتِل العبيد والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض الأموال حَتَّى أسلموا، وكان أحد الحيين لَهُ طول على الآخر «4» فى العدد والأموال، فحلفوا ألا نرضى حَتَّى يقتل بالعبد مِنَّا الحر منهم،
__________
(1) فى أ: الآخرة ذلك. [.....]
(2) فى أ: الطويل.
(3) فى أ: وَآتَى ساقطة.
(4) فى ل، فى أ: الآخرين.(1/157)
وبالمرأة مِنَّا الرَّجُل منهم، فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فسوى بينهم فِي الدماء وأمرهم بالعدل فرضوا فصارت منسوخة نسختها الآية التي فِي المائدة قوله- سُبْحَانَهُ- وَكَتَبْنا فيما قضينا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «1» يعني: النَّفْس: المسلم الحر بالنفس: المسلم الحر، والمسلمة الحرة بالمسلمة الحرة فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ثُمّ رجع إِلَى أول الآية فِي قوله- سبحانه-: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى إذا كان عمدا إذا عفى وَلِي المقتول عن أَخِيهِ القاتل ورضي بالدية فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ يعني الطالب ليطلب ذَلِكَ فِي رفق ثُمّ قَالَ للمطلوب: وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ يَقُولُ ليؤدي الدية إلى الطالب عفوا فِي غَيْر مشقة وَلا أذى ذلِكَ العفو والدية تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ إذ جعل فى قتل [28 أ] العمد العفو والدية «2» ثُمّ قَالَ: وَرَحْمَةٌ يعني وتراحموا وكان اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- حكم عَلَى أَهْل التوراة أن يقتل القاتل، وَلا يعفى عَنْهُ، وَلا يقبل منه الدية، وحكم عَلَى أَهْل الإنجيل العفو، وَلا يقتل القاتل بالقصاص، وَلا يأخذ وَلِيّ المقتول الدية ثُمّ جعل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- التخفيف لأمة محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن شاء وَلِيّ المقتول قَتَل القاتل، وإن شاء عفا عَنْهُ، وإن شاء أَخَذَ منه الدية.
فكان لأهل التوراة أن يقتل قاتل الخطأ والعمد فرخص اللَّه- عز وجل- لأمة محمد- صلى الله عليه وَسَلَّمَ- فذلك قوله- سُبْحَانَهُ- فِي الأعراف: وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ «3» من التشديدات (وهي أن) يقتل قاتل
__________
(1) سورة المائدة: 45.
(2) ما بعد ذلك ساقط من ل حتى قوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ أى من الآية 179 إلى أواخر الآية 187: فلعل ورقة سقطت من المخطوطة ل، أو نسى المصور تصويرها.
(3) سورة الأعراف: 157.(1/158)
العمد وَلا يعفي عَنْهُ وَلا يؤخذ منه الدية، ثُمّ قَالَ: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ- 178- يعني وجيع فَإنَّهُ يقتل، وَلا يؤخذ منه دية،
قَالَ «1» النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا عفو عمن قَتَل القاتل بعد أَخَذَ الدية. وَقَدْ جعل اللَّه لَهُ عذابا أليما.
ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يعني بقاء يحجز بعضكم عن بعض يا أُولِي الْأَلْبابِ يعني من كان لَهُ لب أَوْ عقل فذكر القصاص فيحجزه الخوف عن القتل لَعَلَّكُمْ يعني لكي تَتَّقُونَ- 179- الدماء مخافة القصاص. كُتِبَ عَلَيْكُمْ يعني فرض عليكم، نظيرها كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ «2» يعنى فرض، نظيرها أيضا ما كَتَبْناها يعني ما فرضناها عَلَيْهِمْ «3» يعني الرهبانية. إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ بعد موته خَيْراً يعني المال الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ يعني تفضيل الوالدين عَلَى الأقربين فِي الوصية، وليوص للأقربين بالمعروف، والذين لا يرثون يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- تِلْكَ الوصية حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ- 180- فَمنْ لَمْ يوص لقرابته عِنْد موته فقد ختم عمله بالمعصية، ثُمّ نزلت «4» آية الميراث بعد هَذِهِ الآية فنسخت للوالدين «5» ، وبقيت «6» الوصية للأقربين الَّذِين لا يرثون: ما بينه وبين ثلث ما له فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ يَقُولُ من بدل وصية الميت يعني الوصي والولي بعد ما سمعه من الميت فلم يمض وصيته فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ يعنى الوصي والولي وبرىء منه الميت إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لوصية الميت عَلِيمٌ- 181- بها. ثُمّ قَالَ فَمَنْ خافَ يعني الوصي مِنْ مُوصٍ يعني الميت جَنَفاً ميلا عن الحق خطأ أَوْ إِثْماً
__________
(1) فى أ: وقال.
(2) سورة البقرة: 216.
(3) سورة الحديد: 27.
(4) فى أ: نزل.
(5) وفيه نظر لأن آية المواريث لا تعارض الوصية بل تؤكدها من حيث أنها تدل على تقديم الوصية مطلقا- القرطبي.
(6) فى أ: فبقيت.(1/159)
تعمدا للجنف «1» أَي إن جار الميت فِي وصيته عمدا أَوْ خطأ، فلم يعدل فخاف الوصي أَو الولي من جور وصيته فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ بين الورثة بالحق والعدل فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ حين خالف جور [28 ب] الميت إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للمصلح رَحِيمٌ- 182- به إذا رخص فى مخالفة «2» جور الميت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ وذلك
أن لبيد الْأَنْصَارِيّ من بني عَبْد الأشهل كبر فعجز عن الصوم، فَقَالَ للنَّبِيّ- صلى اللَّه عَلَيْه وسلم-: ما علي من عجز عن الصوم فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ
يعني فرض عليكم نظيرها كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ يعني فرض عليكم القتال «3» كَما كُتِبَ يعني كما فرض عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني أَهْل الإنجيل لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ- 183- يعني لكي تتقون الطعام والشراب والجماع فَمنْ صلى العشاء الآخرة أَوْ نام قبل أن يصلي العشاء الآخرة حرم عَلَيْه ما يحرم عَلَى الصائم.. وكان ذَلِكَ «4» عَلَى الَّذِين من قبلنا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وهي دون الأربعين فإذا كَانَتْ فوق الأربعين فلا يقال لها معدودات «5» فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ أَي ومن كان يطيق الصوم، وليس بمريض ولا مسافر،
__________
(1) فى أ: (جنفا) يعنى عمدا (أو إثما) يعنى خطأ.
وكتب التفسير بالمأثور وبالمعقول. على أن الجنف: الميل عن الحق خطأ والإثم: تعمد ذلك.
انظر الجلالين والبيضاوي وابن كثير. وفى ابن كثير: قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والضحاك والربيع بن أنس والسدى: الجنف الخطأ، وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها بأن زادوا وارثا بواسطة أو وسيلة كما إذا أوصى ببيعه الشيء الفلاني مخافات أو أوصى ليزيدها أو نحو ذلك من الوسائل إما مخطئا غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر أو متعمدا آثما فى ذلك فالوصى والحالة هذه أن يصلح القضية ويعدل فى الوصية على الوجه الشرعي، ويعدل على الذي أوصى به الميت إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به جمعا بين مقصور الموصى والطريق الشرعي.
(2) فى أ: خلافة. [.....]
(3) فى أ: الصيام: (سورة البقرة: 216) .
(4) فى أ: فهذا كان.
(5) فى أ: فإذا كان فوق الأربعين فلا يقال له معدودة.(1/160)
فَإِن شاء صام وإن شاء أفطر وعليه فدية «1» ، طَعامُ مِسْكِينٍ «2» لكل مسكين نصف صاع حنطة فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فزاد عَلَى مسكين فأطعم مسكينين أَوْ ثلاثة «3» مكان كُلّ يوم فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ من أن يطعم مسكينا واحدًا، ثُمّ قَالَ: وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ يعني ولأن تصوموا خير لَكُمْ من الطعام إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ- 184- وكان المؤمنون قبل رمضان يصومون عاشوراء وَلا يصومون غيره. ثُمّ أنزل «4» اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- صوم رمضان بعد. فنسخ الطعام «5» ، وثبت الصوم إِلَّا عَلَى من لا يطيق الصوم فليفطر وليطعم مكان كُلّ يوم مسكينا نصف صاع حنطة ثُمّ بين لهم أي شهر يصومون، فَقَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ من اللوح المحفوظ فِي عشرين شهرا وأنزل به جبريل- عَلَيْه السَّلام- عشرين سنة، ثُمّ قَالَ- سبحانه-: هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى «6» وَالْفُرْقانِ يعني فِي الدّين من الشبهة والضلالة نظيرها فى آل عمران الآية 4 وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ من قبل يعني المخرج من الشبهات فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فواجب عَلَيْه الصِّيَام. وَلا يطعم «7» وَمَنْ كانَ منكم مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فلم يصم فإذا برىء المريض من مرضه فَعِدَّةٌ فليصم عدة مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ إن شاء صام متتابعا وإن شاء متقطعا وهكذا المسافر يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ يعني الرفق فِي أمر دينكم حين رخص للمريض والمسافر فِي الفطر وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ يعنى الضيق فى
__________
(1) فى أ: يقول على الذين يطيقون الصوم وليس بمريض وَلا مسافر فَإِن شاء أفطر وعليه فدية.
(2) فى أ: مساكين.
(3) فى أ: أو ثلاثة يطعم.
(4) أنزل: أى فرض.
(5) كان صيام عاشوراء فرضا فلما فرض الله صيام رمضان نسخ فرضية صيام عاشوراء. وكان مباحا للمسلم: أن يصوم. أو يطعم مسكينا عن صوم كل يوم فدية لصيامه. ثم نسخ إطعام المسكين وأصبح الصوم فرضا على القادر لا يتركه إلى الفدية إلا لعذر.
(6) ساقطة من أ.
(7) فى أ: (فليصمه) فأوجبه ولا يطعم.(1/161)
الدّين فلو لَمْ يرخص للمريض والمسافر كان عسرا [29 أ] ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-:
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ يعني تمام الأيام المعدودات وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ يعني لكي تعظموا اللَّهَ عَلى مَا هَداكُمْ من أمر دينه وَلَعَلَّكُمْ يعني لكي تَشْكُرُونَ- 185- ربكم فِي هَذِهِ النعم إذ هداكم لأمر دينه، ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي وذلك أَنَّهُ كان فِي الصوم الأول أن الرَّجُل إذا صلى العشاء الآخرة أو نام قبل أن يصليها حرم عَلَيْه الطعام والشراب والجماع كَمَا يحرم بالنهار عَلَى الصائم ثُمّ إن عُمَر بن الخَطَّاب- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- صلى العشاء الآخرة ثُمّ جامع امرأته «1» فَلَمَّا فرغ
__________
(1) ذكر ذلك فى كتب التفسير والحديث والأصول وفى أسباب النزول للواحدي ص 27، 28
وجاء فى أسباب النزول للسيوطي ص 25: روى أحمد وأبو داود والحاكم من طريق عبد الرحمن ابن أبى ليلى عن معاذ بن جبل قال: كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا، فإذا ناموا امتنعوا. ثم إن رجلا من الأنصار يقال له قيس بن صرمة صلى العشاء ثم نام فلم يأكل ولم يشرب حتى أصبح. فأصبح مجهودا، وكان عمر قد أصاب من النساء بعد ما نام فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فذكر ذلك له فأنزل الله أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ إلى قوله ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ
ثم علق السيوطي بقوله- هذا الحديث مشهور عن أبى ليلى لكنه لم يسمع من معاذ وله شواهد فأخرج البخاري عن البراء قال: كان أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار.
فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسى، وإن قيس بن صرمة الأنصارى كان صائما فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال: هل عندك طعام فقالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل فغلبته عينه. وجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبة لك. فلما انتصف النهار غشى عليه. فذكر ذلك للنبي- صلى الله عليه وسلم- فنزلت هذه الآية- أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ففرحوا بها فرحا شديدا. ونزلت وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ.
وأخرج البخاري عن البراء قال: لما نزل صوم شهر رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، فكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ الآية.
وأخرج أحمد وابن جرير وابن أبى حاتم من طريق عبد الله بن كعب بن مالك عن أبيه قال: كان الناس فى رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد. فرجع عمر من عند النبي- صلى الله عليه وسلم- وقد سمر عنده فأراد امرأته، فقالت: إنى قد نمت قال:(1/162)
ندم وبكا فَلَمَّا أصبح أتى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبره، فَقَالَ:
يا نَبِيّ اللَّه، إني أعتذر إلى اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ثُمّ إليك من نفسي هَذِهِ الخاطئة واقعت أهلي بعد الصَّلاة، فهل تجد لي رخصة، فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَمْ تك جديرا بِذَلِك يا عُمَر، فرجع حزينا: ورأى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صرمة بن أنس بن صرمة بن مَالِك من بني عَدِيّ بن النَّجّار «1» عِنْد العشاء، فَقَالَ النَّبِيّ- صلى اللَّه عَلَيْه وسلم-: يا أبا قَيْس، مَالِك طليحا، فَقَالَ: يا رَسُول اللَّهِ، ظللت «2» أمس فِي حديقتي فَلَمَّا أمسيت أتيت أهلي، وأرادت المرأة أن تطعمني شيئًا سخنا، فأبطأت «3» علي بالطعام، فرقدت فأيقظتني وَقَدْ حرم عَلَي الطعام، فأمسيت وَقَدْ أجهدني الصوم. واعترف رجال من الْمُسْلِمِين عِنْد ذَلِكَ بما كانوا يصنعون بعد العشاء فقالوا: بتنا ومخرجنا مما عملنا فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ «4» أَي فأعلمهم أني قريب منهم فى
__________
ما نمت ووقع عليها وصنع كعب مثل ذلك فغدا عمر إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَه فنزلت الآية، وهذه الأحاديث نقلها السيوطي عن ابن كثير.
أو اختصرها من عدد كثير فى مضمونها أورده ابن كثير، وعقب ابن كثير على هذه الروايات بقوله: وهكذا روى عن مجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغيرهم فى سبب نزول هذه الآية فى عمر بن الخطاب ومن صنع كما صنع وفى صرمة بن قيس فأباح الله الجماع والطعام والشراب فى جميع الليل رحمة ورخصة ورفقا.. ابن كثير: 1- 221.
وما كان عمر خليقا أن يفعل ذلك كما ورد فى حديث ابن عباس الوارد فى: (ابن كثير 1:
220) ومع ذلك كانت زلة عمر سببا فى تيسير الله ورحمته بنا فى الصيام.
(1) جاء فى حاشية ابن كثير (1: 220) اختلف فى اسمه لاختلاف الروايات فقيل صرمة ابن قيس أو ابن أنس وقيل حمزة بن أنس وذكر هذا فى حاشية نسخة الأزهر. فراجع هذه الأسماء فى الإصابة.
(2) فى أ: ظلت [.....]
(3) فى أ: فأبطت.
(4) فى أ: فأعلمهم أنى قريب.(1/163)
الاستجابة أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي بالطاعة وَلْيُؤْمِنُوا بِي يعني وليصدقوا بي فَإِنِّي «1» قريب سريع الإجابة أجيبهم لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ- 186- يعني لكي يهتدون، ثم قال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ رخصة للمؤمنين بعد صنيع عُمَر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- الرَّفَثُ يعني الجماع إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ يَقُولُ هن سكن لَكُمْ وأنتم سكن لهن عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ يعني عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فِي جماع امرأته فَتابَ عَلَيْكُمْ يعني فتجاوز عنكم وَعَفا عَنْكُمْ قوله سُبْحَانَهُ-: تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ بالمعصية نظيرها فَخانَتاهُما «2» فخالفتاهما يعني بالمعصية. وكقوله- سُبْحَانَهُ-:
وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ «3» يعني عَلَى معصية وَعَفا عَنْكُمْ يَقُولُ ترككم فلم يعاقبكم فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ يعني جامعوهن من حيث أحللت لَكُم الجماع الليل كله وَابْتَغُوا من نسائكم ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ من الولد يعني واطلبوا ما قضى لَكُمْ وأنزل فِي صرمة بن أنس وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ [29 ب] حَتَّى يتبين لَكُمْ وجه الصبح، يعني بياض النهار من سواد الليل مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ والخيط الأبيض يعني أول بياض الصبح: الضوء المعترض قبل المشرق، والخيط الأسود أول سواد الليل وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ نزلت فِي عَلِيّ بْن أبي طَالِب- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- وعمار بن ياسر، وأبي عُبَيْدة بن الجراح، كان أحدهم يعتكف فإذا أراد الغائط من السحر رجع إلى أهله بالليل، فيباشر ويجامع امرأته ويغتسل ويرجع إلى المسجد، فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ يقول
__________
(1) فى أ: فإنه.
(2) سورة التحريم: 10.
(3) سورة المائدة: 13.(1/164)
لا تجامعوا النساء ليلا ولا نهارا ما دمتم معتكفين. ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ المباشرة تِلْكَ معصية اللَّه فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ «1» يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ يعني أمره لِلنَّاسِ وأمر الاعتكاف لَعَلَّهُمْ يعني لكي يَتَّقُونَ- 187- المعاصي فِي الاعتكاف وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ يعني ظلما وذلك أن امرأ القيس بن عابس وعبدان بن أشوع الْحَضْرَمِيّ اختصما فِي أرض فكان امرؤ القيس المطلوب وعبدان الطالب فلم يَكُنْ لعبدان بينة وأراد امرؤ القيس أن يحلف، فقرأ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا «2» يعني عرضا يسيرا من الدُّنْيَا إلى آخر الآية فَلَمَّا سمعها امرؤ القيس كره أن يحلف «3» وَلَم يخاصمه فِي أرضه وحكمه فِيهَا فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ يَقُولُ لا يدلين أحدكم بخصومة فِي استحلال مال أَخِيهِ، وَهُوَ يعلم أَنَّهُ مبطل. فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-:
لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً يعني طائفة مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ- 188- أنكم تدعون الباطل
فَقَالَ النَّبِيّ- صلى اللَّه عَلَيْه وسلم-: إِنَّمَا أَنَا بشر مثلكم، فلعل بعضكم أَعْلَم بحجته، فأقضى لَهُ وَهُوَ مبطل، ثُمّ قَالَ- عَلَيْه السَّلام-:
أيما رَجُل قضيت لَهُ بمال امرئ مُسْلِم. فَإِنَّمَا هِيَ قطعة من نار جهنم أقطعها فلا تأكلوها.
قوله- سبحانه-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ نزلت فِي مُعَاذ بن جبل، وثعلبة بن غَنْمة وهما من الأَنْصَار فَقَالَ مُعَاذ: يا رَسُول اللَّهِ، ما بال الهلال
__________
(1) فى أ: هكذا
(2) سورة آل عمران: 77.
(3) فى أ: يحلفه، ل: يحلف. وفى أسباب النزول للواحدي: ص 28، قال مقاتل بن حيان نزلت آية وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ فى امرئ القيس بن عابس الكندي وفى عبدان ابن أشوع الحضرمي وذلك إنهما اختصما إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- في أرض وكان امرؤ القيس المطلوب وعبدان الطالب فأنزل الله- تعالى- هذه الآية فحكم عبدان فى أرضه ولم يخاصمه.(1/165)
يبدو مثل الخيط ثُمّ يَزِيد حَتَّى يمتلئ فيستوي ثُمّ لا يزال ينقص حَتَّى يعود كما بدأ «1» فأنزل الله- عز وجل- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ فِي أجل دينهم وصومهم وفطرهم وعدة نسائهم والشروط التي بينهم إلى أجل. ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَالْحَجِّ يَقُولُ وقت حجهم والأهلة مواقيت لهم. وذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وذلك أن الأَنْصَار فِي الْجَاهِلِيَّة وَفِي الْإِسْلام كانوا إذا [30 أ] أحرم أحدهم بالحج أَوْ بالعمرة، وَهُوَ من أَهْل المدن وَهُوَ مقيم فِي أهله لَمْ يدخل منزله من باب الدار، وَلَكِن يوضع لَهُ سلم إلى ظهر البيت فيصعد فِيهِ، وينحدر منه أَوْ يتسور من الجدار، وينقب بعض بيوته، فيدخل منه ويخرج منه، فلا يزال كذلك حَتَّى يتوجه إلى مكة محرما. وإذا كان من أهل الوبر دخل وخرج من وراء بيته
وأن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل يومًا نخلا لبني النجار، ودخل معه قطبة بن عامر ابن حديدة» الْأَنْصَارِيّ من بني سَلَمَة «3» بن جشم من قبل الجدار، وَهُوَ محرم فَلَمَّا خرج النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من الباب وَهُوَ محرم خرج قطبة من الباب. فَقَالَ رَجُل هَذَا قطبة خرج من الباب وَهُوَ محرم فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّمَ-:
مَا حملك أن تخرج من الباب وأنت محرم. قال: يا نبى رأيتك خرجت من الباب وأنت محرم فخرجت معك، وديني دينك. فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم-:
__________
(1) في أ: بدأه. وفى أسباب النزول للواحدي قال معاذ بن جبل: يا رسول الله، إن اليهود تغشانا ويكثرون مساءلتنا عن الأهلة فأنزل الله الآية.
(2) كتب التفسير وأسباب النزول ذكرت أن اسمه قطبة بن عامر بيد أن مقاتل يزيد فى ذكر جدود الشخص. وما يتفرد به مقاتل من الجدود يحصل فيه التصحيف عادة. وفى أ: حديد بدون إعجام فى الياء. وكذلك ل.
(3) فى أ: سامه، ل: سلمة.(1/166)
خرجت لأني من أحمس. فَقَالَ قطبة للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن كُنْت أحمسيا فَإِنِّي أحمسي «1» ، وَقَدْ رضيت بهديك «2» ودينك، فاستننت بسنتك.
فأنزل اللَّه فِي قول قطبة بن عامر للنبي- صلى الله عليه وسلم- لَيْسَ الْبِرُّ يعني التقوى بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى اللَّه واتبع أمره ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تعصوه يحذركم (لَعَلَّكُمْ) . يَقُولُ لكي تُفْلِحُونَ- 189- والحمس قريش، وكنانة، وخزاعة وعامر بن صَعْصَعَة، الَّذِين لا يسلون السمن «3» وَلا يأكلون الأقط ولا يبنون الشعر والوبر. وقوله- سُبْحَانَهُ-: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وذلك أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- نهى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمؤمنين عن الشهر الحرام أن يقاتلوا فِي الحرم إِلَّا أن يبدأهم المشركون بالقتال، وأن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينا هُوَ وأصحابه معتمرون إلى مكة فِي ذِي القعدة، وهم محرمون عام الحديبية، والمسلمون يومئذ ألف وأربعمائة رَجُل. فصدهم مشركو مكة عن المسجد الحرام وبدأوهم بالقتال، فرخص اللَّه فِي القتال. فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-:
وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا فتبدءوا بقتالهم فِي الشهر الحرام وَفِي الحرم فَإنَّهُ عدوان إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ- 190- ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-:
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ يعني أَيْنَ أدركتموهم فِي الحل والحرم وَأَخْرِجُوهُمْ من مكة مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ يعني من مكة وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [30 ب]
__________
(1) فى أ: إن كنت أحمس فأنا أحمس. وفى أسباب النزول للواحدي: 29 «إن كنت أحمسيا فإنى أحمسى، ديننا واحد رضيت بهديك وسمتك ودينك.
(2) فى أ: بهداك.
(3) هكذا فى أ، ل. قال المفسرون سموا حمسا لشدتهم فى دينهم (أسباب النزول للواحدي) . [.....](1/167)
يعني الشرك أعظم «1» عِنْد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- جرما من القتل نظيرها أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا «2» يعني فِي الكفر وقعوا فَلَمَّا نزلت وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ أنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بعد وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني أرض الحرم كله فنسخت هَذِهِ الآية «3» ثُمّ رخص لهم حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ يعني حَتَّى يبدءوا «4» بقتالكم فِي الحرم فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فيه فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ- 191- إن بدأوا بالقتال فِي الحرم أن يقاتلوا فِيهِ ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: فَإِنِ انْتَهَوْا عن قتالكم ووحدوا ربهم فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لشركهم رَحِيمٌ- 192- بهم فِي الْإِسْلام. نظيرها فِي الأنفال وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ إلى آخر الآية «5» . ثم قال: وَقاتِلُوهُمْ أبدا حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ يَقُولُ حَتَّى لا يَكُون «6» فيهم شرك فيوحدوا ربهم وَلا يعبدوا غيره يعني مشركي العرب خاصة وَيَكُونَ يعني ويقوم الدِّينُ لِلَّهِ فيوحدوه وَلا يعبدوا غيره فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك ووحدوا ربهم فَلا عُدْوانَ يعني فلا سبيل إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ- 193- الَّذِين لا يوحدون ربهم نظيرها فِي القصص فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ «7» يعني فلا سبيل علي «8» .
الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين ساروا إلى مكة محرمين بعمره، ومن كان معه عام الحديبية، لست
__________
(1) فى أ: عظم، ل: أعظم.
(2) سورة التوبة: 49.
(3) هكذا فى أ، وفى ل: شكل الآية بالفتح.
(4) فى أ: تبدأوا.
(5) سورة الأنفال: 39 وتمامها وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.
(6) فى أ: حتى لا يكون ترى فيهم يعنى شركا. فى ل يقول حتى لا يكون فيهم. يعنى شرك.
(7) سورة القصص: 28.
(8) فى أ، ل: فلا سبيل إلا على الظالمين.(1/168)
سنين من هجرته إلى المدينة. فصدهم مشركو مكة. وأهدى «1» أربعين بدنة «ويُقَالُ مائة بدنة» «2» فردوه وحبسوه شهرين لا يصل إلى البيت وكانت بيعة الرضوان عامئذ فصالحهم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أن ينحر الهدي مكانه فِي أرض الحرم ويرجع فلا يدخل مكة، فإذا كان العام المقبل خرجت قريش من مكة وأخلوا لَهُ مكة ثلاثة أيام. لَيْسَ مَعَ الْمُسْلِمِين «3» سلاح إِلَّا في غمده فرجع النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمّ توجه من فوره ذَلِكَ إلى خيبر، فافتتحها فِي المحرم ثُمّ رجع إلى المدينة فَلَمَّا كان العام المقبل. وأحرم النبي (ص) وأصحابه بعمرة «4» فِي ذِي القعدة وأهدوا ثُمّ أقبلوا من المدينة فأخلى «5» لهم المشركون مكة ثلاثة أيام. وأدخلهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- مكة فقضوا عمرتهم ونحروا البدن فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الشَّهْرُ الْحَرامُ الَّذِي دخلتم فِيهِ مكة هَذَا العام بِالشَّهْرِ الْحَرامِ يعني الَّذِي صدوكم فِيه العام الأول وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ يعني اقتصصت لك منهم فِي الشهر الحرام يعني فِي ذِي القعدة كَمَا صدوكم فِي الشهر الحرام وذلك أنهم فرحوا وافتخروا حين صدوا النَّبِيّ- صلى اللَّه عَلَيْه وسلم- عن المسجد الحرام، فأدخله اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- من قابل، ثُمّ «6» قَالَ سُبْحَانَهُ: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ وذلك أن أصحاب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- أهلوا إلى مكة محرمين بعمرة
__________
(1) فى أ: وأهدوا، ل: وأهدى.
(2) ما بين الأقواس ساقط من ل.
(3) فى أ، ل: ليس معهم.
(4) فى أ، ل: وحرم بعمرة النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه.
(5) فى ل: فخلا، فى أ: فخلو
(6) انظر أسباب النزول للواحدي: 30. ولباب النقول للسيوطي: 28. وقد ساق أثرا أخرجه ابن جرير عن قتادة.. بأن المشركين افتخروا على النبي حين ردوه فأقصه الله منهم وأدخله مكة فى ذلك الشهر الذي كانوا ردوه فيه. [.....](1/169)
فخافوا ألا يفي لهم المشركون بدخول المسجد الحرام وأن يقاتلوهم عنده «1» فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فقاتلكم فِي الحرم فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ يَقُولُ فقاتلوهم فِيهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ فِيهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ يعني الْمُؤْمِنِين وَلا تبدءوهم بالقتال فِي الحرم فَإِن بدأ المشركون فقاتلوهم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ «2» فِي النصر مَعَ الْمُتَّقِينَ- 194- الشرك فخبرهم أنه ناصرهم. قوله- سبحانه: وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- والمسلمين ساروا من المدينة إلى مكة محرمين بعمرة فِي العام الَّذِي أدخله اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- مكة، فَقَالَ ناس من العرب منازلهم حول المدينة: والله مالنا زاد، وما يطعمنا أحد، فأمر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بالصدقة عليهم. فَقَالَ سُبْحَانَهُ-: «3» وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أَي وَلا تكفوا أيديكم عن الصدقة فتهلكوا.
وقَالَ رَجُل من الفقراء: يا رسول اللَّه ما نجد ما نأكل، فبأي شيء نتصدق.
فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «4» فَإِن أمسكتم عَنْهَا فهي التهلكة. وَأَحْسِنُوا النفقة فِي سبيل اللَّه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ- 195- يعني من أحسن فِي أمر النفقة فِي طاعة الله. وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ «5» من المواقيت وَلا تستحلوا فيهما ما لا ينبغي لكم. فريضتان واجبتان.
__________
(1) الأثر فى أسباب الواحدي ص 29 برواية عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عباس وفى أسباب السيوطي ص 28.
(2) فى أ: فاعلموا.
(3) فى أ: فقال سبحانه: (ولا تكفوا أيديكم عن الصدقة فتهلكوا) ، وهو تحريف للآية، وقد نقلتها من المصحف.
(4) ساق الواحدي أربعة آثار فى أسباب نزول الاية، أسباب النزول: ص 30. وساق السيوطي ثلاثة آثار فى أسباب نزول الآية فى لباب النقول: ص 29.
(5) أورد السيوطي أثرا فى أسباب نزول الآية فى لباب النقول: ص 29.(1/170)
ويُقَالُ العمرة هِيَ الحج الأصغر، وتمام الحج والعمرة المواقيت والإحرام خالصا لا يخالطه شيء من أمر الدُّنْيَا وذلك أن أَهْل الْجَاهِلِيَّة كانوا يشركون فِي إحرامهم. فأمر «1» اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والمسلمين أن يتموهما للَّه فَقَالَ «2» : وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ وَهُوَ ألّا يخلطوهما «3» بشيء ثُمّ خوفهم أن يستحلوا «4» منهما ما لا ينبغي «5» فَقَالَ- سُبْحَانَهُ- فِي آخر الآية وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ «6» فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يقول فإن حسبتم كقوله- سُبْحَانَهُ-: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ «7» اللَّهِ يعني حبسوا. نظيرها أيضا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً «8» يعني محبسا. يَقُولُ إن حبسكم فِي إحرامكم بحج أَوْ بعمرة كسر»
أَوْ مرض أَوْ عدو عن المسجد الحرام فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ يعني فليقم محرما مكانه ويبعث ما استيسر من الهدى أَوْ بثمن الهدى فيشتري لَهُ الهدى. فإذا نحر الهدى عَنْهُ فَإنَّهُ يحل من إحرامه مكانه. ثُمّ قَالَ: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ فى الإحرام حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ يعني حَتَّى يدخل الهدى مكة، فإذا نحر الهدى حل من إحرامه فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً «10» وذلك
أن كَعْب بن عُجْرة الْأَنْصَارِيّ كان محرما بعمرة عام الحديبية فرأى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى مقدم رأسه قملا كثيرًا، فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-[31 ب] : يا كَعْب، أيؤذيك هوام رأسك. قَالَ: «11» نعم، يا نبى الله.
__________
(1) فى أ: ثم أمر
(2) فى أ: ثم قال.
(3) فى أ: لا يخلطوها. وفى الحاشية: أن وفوقها محمد (وهو الناسخ) وفى ل: ولا يخلطوها بشيء.
(4) فى أ، ل: ألا يستحلوا.
(5) فى أ: ما لا ينبغي ثم خوفهم.
(6) فى أزيادة: فيها تقديم.
(7) سورة البقرة: 273.
(8) سورة الإسراء: 8.
(9) فى أ: بحبس. [.....]
(10) ساق الواحدي خمسة طرق فى أسباب نزول الآية ص 31، 32 أسباب النزول. وساق السيوطي حديث البخاري عن كعب بن عجرة. ثم رواية أحمد عن كعب أيضا. لباب النقول: 30.
(11) فى أ: فقال. وفى رواية الواحدي.. عن مجاهد ... عن عبد الرحمن بن أبى ليلى ... قال نعم.(1/171)
فأمره رَسُول اللَّهِ «1» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يحلق.
فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي كعب فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فحلق رأسه فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ «2» فعليه فدية صيام ثلاثة أيام إن شاء متتابعا وإن شاء متقطعا أَوْ صَدَقَةٍ عَلَى ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة أَوْ نُسُكٍ يعني شاة أَوْ بقرة أَوْ بعيرا ينحره ثُمّ يطعمه المساكين بمكة، وَلا يأكل منه، وَهُوَ بالخيار إن شاء ذبح شاة أَوْ بقرة أَوْ بعيرا. فأما كَعْب فذبح بقرة فَإِذا أَمِنْتُمْ من الحبس من العدو عن البيت الحرام فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ يَقُولُ وَهُوَ يريد الحج فَإِن دخل مكة وَهُوَ محرم بعمرة فِي غرة «3» شوال، أَوْ ذِي القعدة، أَوْ فِي عشر من ذِي الحجة فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ «4» يعني شاة فَمَا فوقها يذبحها «5» فيأكل منها ويطعم. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة، وسلمان، وأَبُو العرباض للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنا لا نجد الهدي، فلنصم ثلاثة أيام. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فيهم فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الهدي فليصم فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ فِي عشر الأضحى فِي أول يَوم من العشر إلى يَوْم عرفة فَإِن كان يوم عرفة يوم الثالث تَمَّ صومه ثُمّ قَالَ وَسَبْعَةٍ «6» يعني ولتصوموا سبعة أيام إِذا رَجَعْتُمْ من منى إلى أهليكم تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ فَمنْ شاء صام فِي الطريق ومن «7» شاء صام فِي أهله إن شاء متتابعا، وإن شاء متقطعا، ثُمّ قَالَ:
ذلِكَ التمتع لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ- 196- يعني من لَمْ يَكُنْ منزله فِي أرض الحرم كله فمن كان
__________
(1) فى أ: نبى الله. وفى أسباب النزول للسيوطي رسول الله.
(2) فى أ: فعلية فدية صيام.
(3) فى أ: عمرة: وفى ل: غرة.
(4) فى أ: فعليه ما استيسر.
(5) فى أ: فيذبحها.
(6) فى أ: ولتصوموا سبعة.
(7) فى أ: وإن.(1/172)
أهله فِي أرض الحرم فلا متعة عَلَيْه وَلا صوم. ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ يَقُولُ من أحرم بالحج فليحرم فِي شوال أَوْ فِي ذِي القعدة «1» أَوْ فِي عشر ذِي الحجَّة فَمنْ أحرم فِي سوى هَذِهِ الأشهر فقد أخطأ السنة، وليجعلها عَمْرَة، ثُمّ قَالَ: فَمَنْ فَرَضَ يَقُولُ فَمنْ أحرم فِيهِنَّ الْحَجَّ «2» أَي الحج فَلا رَفَثَ يعني فلا جماع. كقوله- سُبْحَانَهُ- أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ يعني الجماع إِلى نِسائِكُمْ «3» وَلا فُسُوقَ يعني ولا سباب وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ «4» يعني وَلا مراء كقوله- سُبْحَانَهُ-: مَا يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ «5» يعني ما يماري حَتَّى يغضب وَهُوَ محرم، أَوْ يغضب صاحبه وَهُوَ محرم، فَمنْ فعل ذَلِكَ فليطعم مسكينا، وذلك
أن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر فِي حجة الوداع فَقَالَ: من «6» لَمْ يَكُنْ معه هدى، فليحل من إحرامه، وليجعلها عَمْرَة،
فقالوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنا أهللنا بالحج فذلك جدالهم للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يعنى مما نهى [32 أ] من ترك «7» الرفث والفسوق والجدال يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيجزيكم به ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-:
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى «8» وذلك أن ناسا من أَهْل اليمن وَغَيْرُهُمْ كانوا يحجون
__________
(1) فى أ: وفى ذى القعدة، فى ل: أو فى ذى القعدة.
(2) فى أ: بالحج.
(3) سورة البقرة: 187.
(4) فى الحج: ساقطة من أ.
(5) سورة غافر: 4. [.....]
(6) فى أ، ل: فمن.
(7) فى أ: ذلك.
(8) أخرج الواحدي عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يزودون يقولون نحن المتوكلون فإذا قدموا مكة سألوا الناس. فأنزل الله- عَزَّ وَجَلّ- وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وقال عطاء بن أبى رباح: كان الرجل يخرج فيحمل كله على غيره فأنزل الله- تعالى- وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى أسباب النزول للواحدي: 32.
وذكر السيوطي فى لباب النقول ص (30) روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال: كان أهل(1/173)
بغير زاد وكانوا يصيبون من أَهْل الطريق ظلما فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَتَزَوَّدُوا من الطعام ما تكفون به وجوهكم عن الناس وطلبهم وخير الزاد التقوى.
يَقُولُ اللَّه- تبارك اسمه- التقوى خير زاد من غيره، وَلا تظلمون من تمرون عَلَيْه وَاتَّقُونِ وَلا تعصون يا أُولِي الْأَلْبابِ- 197- يعنى يا أهل اللُّبِّ والعقل
فَلَمَّا نزلت هَذِهِ الآية قَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: تزودوا ما تكفون به
__________
اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن متوكلون فأنزل الله وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وجاء فى تفسير المنار ج 2/ 225 ط 1.
وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى قالوا إن هذا نزل فى ردع أهل اليمن عن ترك التزود زعما أنه من مقتضى التوكل على الله. فقد أخرج البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم عن ابن عباس أنه قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن متوكلون ثم يقومون فيسألون الناس فنزلت. فالمراد بالتقوى على هذا اتقاء السؤال وبذل ماء الوجه. قال الأستاذ الإمام: وهو غير ظاهر من العبارة بل المتبادر منها أن الزاد هو زاد الأعمال الصالحة وما تدخر من الخير والبر كما يرشد إليه التعليل فى قوله فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى والمعنى من التقوى معروف وهو ما به يتقى سخط الله ليس ذلك إلا البرّ والتنزه عن المنكر ولا يعلل بأن التقوى خير زاد إلا وهو يريد التزود منها أما المعنى الذي ذكروه فلا يصلح مرادا من الآية لولا؟؟؟
ما أوردوا من السبب لم يخطر ببال سامع اللفظ، والسبب ليس مذكورا فى الآية ولا مشارا إليه فيها فلا يصلح قرينة على المراد من ألفاظها. نعم إن السبب قد ينير السبيل فى فهم الآية ولكن يجب أن تكون مفهومة بنفسها لأن السبب ليس من القرآن ولذلك أتمها بقوله وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ يعنى من كان له لب وعقل فليتقينى فإنه يكون على نور من فائدة التقوى وأهلا للانتفاع بها. أه.
ولا أدرى لماذا يعدل الشيخ محمد عبده عن تفسير الآية كما رأى المفسرون مع ورود الحديث الصحيح مؤيدا لتفسيرهم.
أليس هذا من التفسير بالرأى المذموم وهو أن يتبع الإنسان هواه فى فهم الآية ولا يتقيد بالمأثور فى تفسيرها؟ وقد علق السيد رشيد رضا على كلام الشيخ محمد عبده بقوله. أقول ويدخل فى فعل الخير والطاعة الأخذ بالأسباب كالتزود وتحامى وسائل الحاجة إلى السؤال المذموم والله أعلم.
فكأنه أراد أن يجمع بين رأى المفسرين ورأى الشيخ محمد عبده. فجعل التزود بالطعام وترك سؤال الناس مندرجا تحت مدلول التزود بالأعمال الصالحة واتقاء سخط الله.
وأرى أن الحديث إذا صح بسبب؟؟؟ نزول الآية فلا يجوز العدول عنه. والله أعلم.(1/174)
وجوهكم عن الناس، وخير ما تزودتم التقوى.
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وذلك أن أَهْل الْجَاهِلِيَّة كانوا يحجون منهم الحاج والتاجر فَلَمَّا أسلموا قَالُوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن سوق عكاظ وسوق منى وذي المجاز فِي الْجَاهِلِيَّة كَانَتْ تقوم قبل الحج وبعد الحج فهل يصلح لنا البيع والشراء «1» في أيام حجنا قبل الحج وبعد الحج، فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فى مواسم الحج يعنى النجارة فرخص اللَّه- سُبْحَانَهُ- فِي التجارة فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ بعد غروب فَاذْكُرُوا اللَّهَ تِلْكَ الليلة عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ فإذا أصبحتم يعني بالمشعر حيث يبيت الناس بالمزدلفة فاذكروا اللَّه وَاذْكُرُوهُ «2» كَما هَداكُمْ لأمر دينه وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ من قبل أن يهديكم لدينه لَمِنَ الضَّالِّينَ- 198- عن الهدى ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وذلك الحمس، قريش، وكنانة، وخزاعة، وعامر بن صعصعه كانوا يبيتون بالمشعر الحرام، وَلا يخرجون من الحرم خشية أن يقتلوا وكانوا لا يقفون بعرفات: فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فيهم يأمرهم بالوقوف بعرفات فَقَالَ لهم:
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ يعني رَبِيعَة، واليمن كانوا يفيضون منْ عرفات قبل غروب الشمس، ويفيضون من جمع «3» إذا طلعت الشمس فخالف النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- فى الإفاضة وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ لذنوبكم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوب الْمُؤْمِنِين رَحِيمٌ- 199- بهم فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ بعد أيام التشريق فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ وذلك أنهم كانوا إذا فرغوا من المناسك وقفوا بين مَسْجِد منى وبَيْنَ الجبل يذكر كل واحد منهم أباه
__________
(1) فى أ، ل: الشرى.
(2) فى أ: فاذكروا الله
(3) أ: جمع، وفى ل: جمع.(1/175)
ومحاسنه ويذكر صنائعه «1» فِي الجاهلية أَنَّهُ كان من أمره كذا وكذا، ويدعو لَهُ بالخير. فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ [32 ب] كذكر «2» الأبناء الآباء فَإِنِّي أَنَا فعلت ذَلِكَ الخير إلى آبائكم الَّذِين تثنون عليهم ثُمّ قَالَ سُبْحَانَهُ-: أَوْ أَشَدَّ يعني أكثر ذِكْراً للَّه منكم لآبائكم وكانوا إذا قضوا مناسكهم، قَالُوا: اللهم أكثر أموالنا، وأبناءنا، ومواشينا، وأطل بقاءنا، وأنزل علينا الغيث، وأنبت لنا المرعى، واصحبنا فِي سفرنا، وأعطنا الظفر عَلَى عدونا، وَلا يسألون ربهم عن أمر آخرتهم شيئًا. فأنزل اللَّه- تَعَالَى- فيهم فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا يعني أعطنا فِي الدُّنْيا يعني هَذَا الَّذِي ذكر. فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ- 200- يعني من نصيب نظيرها فِي براءة فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ «3» يعني بنصيبهم فهؤلاء مشركو العرب فَلَمَّا أسلموا وحجوا دعوا ربهم. فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ «4» - 201- أَي دعوا ربهم أن يؤتيهم فِي الدُّنْيا حَسَنَةً يعني الرزق الواسع وأن يؤتيهم فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً فيجعل ثوابهم الجنة وأن يقيهم عَذابَ النَّارِ.
ثُمّ أخبر عَنْهُمْ فَقَالَ: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا يَقُولُ حظ من أعمالهم الحسنة وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ- 202- يَقُولُ كأَنَّه قَدْ كان. فهؤلاء المؤمنون. وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ إذا رميتم الجمار يعني أيام التشريق «والأيام المعلومات يعني يوم النحر ويومين من أيام التشريق «5» » بعد النحر فكان
__________
(1) فى أ: صنائعه.
(2) فى أ: كذلك.
(3) سورة التوبة: 69.
(4) أ: فيها تحريف فى كتابة الآية.
(5) ما بين الأقواس «» فى ل، وليس فى أ.(1/176)
عُمَر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- يكبر فِي قبته «1» بمنى، فيرفع صوته فيسمع أَهْل مَسْجِد منى فيكبرون كلهم حَتَّى يرتج منى «2» تكبيرا، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ يعني بعد يوم النحر بيومين، يَقُولُ من تعجل فنفر قبل غروب الشمس فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يَقُولُ فلا ذنب عَلَيْه يَقُولُ ذنوبه مغفورة فَمنْ لَمْ ينفر حَتَّى تغرب الشمس فليقم إلى الغد يوم الثالث فيرمي الجمار ثُمّ ينفر مَعَ الناس. قَالَ: وَمَنْ تَأَخَّرَ إلى يوم الثالث حَتَّى ينفر الناس فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يَقُولُ لا ذنب عَلَيْه «3» . يَقُولُ ذنوبه مغفورة. ثُمّ قَالَ:
لِمَنِ اتَّقى قَتْلَ الصيد «4» وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تستحلوا»
قتل الصيد فِي الإحرام وَاعْلَمُوا يخوفهم أَنَّكُمْ «6» إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ- 203- فِي الآخرة فيجزيكم بأعمالكم نظيرها فِي المائدة وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ «7» فيجزيكم بأعمالكم. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا نزلت فِي الْأَخْنَس بن شريق بن عمرو بن وَهْب بن أَبِي سَلَمَة الثَّقَفيّ، وأُمّه اسمها ريطة بِنْت عَبْد اللَّه بن أَبِي قيس الْقُرَشِيّ من بني عامر بن لؤي، وكان عديد بنى زهرة «8» وكان يأتى النبي [33 أ]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيخبره «9» أَنَّهُ يحبه ويحلف بِاللَّه عَلَى ذَلِكَ ويخبره «10» أَنَّهُ يتابعه عَلَى دينه فكان النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- «يعجبه ذلك» «11»
__________
(1) فى أ: فوتته فى قبته.
(2) فى أ: منها. [.....]
(3) فى أ: لا ذنب، ل: لا ذنب عليه.
(4) لا وجه لتخصيص التقوى بترك قتل الصيد. والأولى تفسيرها بقول الجلالين (لمن اتقى) الله فى حجه لأنه الحاج فى الحقيقة.
(5) فى أ: ولا تخسوا فتستحلوا، وفى ل: ولا تستحلوا.
(6) فى أ: بأنكم.
(7) سورة المائدة: 96.
(8) أى معدودا فيهم.
(9) فى أ: فيخبر، ل: فيخبره.
(10) فى أويخبر، ل: ويخبره.
(11) ما بين الأقواس « ... » ساقط من أ.(1/177)
ويدنيه فِي المجلس، وَفِي قلبه غَيْر ذَلِكَ فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما يَقُولُ يعني يمينه التي حلف بِاللَّه وما فِي قَلْبِهِ أن الَّذِي يَقُولُ حق وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ- 204- يَقُولُ جدلا بالباطل كقوله- سبحانه: - وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا «1» يعني جدلاء خصماء ثُمّ أخبر نبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: وَإِذا تَوَلَّى يعني إذا توارى وكان رَجُلا مانعا جريئا «2» عَلَى القتل سَعى فِي الْأَرْضِ بالمعاصي لِيُفْسِدَ فِيها يعني فِي الأرض وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ يعني كُلّ دابة وذلك أَنَّهُ عمد إلى كديس بالطائف إلى رَجُل مُسْلِم فأحرقه وعقر دابته وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ- 205- وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ يعنى الحمية نظيرها فى ص (آية 2) قوله- سُبْحَانَهُ- بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ يعني حمية بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ شدة عذاب وَلَبِئْسَ الْمِهادُ- 206- وكان الْأَخْنَس يسمى «3» أبي بن شريق من بنى زهرة ابن كَعْب بن لؤي بن غالب. وإنما سمي الأخنس لأنه يوم بدر رد ثلاثمائة رَجُل من بني زهرة عن قتال النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقَالَ لهم: إن محمدا ابْن أختكم وأنتم أحق من كف عَنْهُ، فَإِن كان نَبِيّا لَمْ نقتله وإن كان كذابا كنتم أحق من كف عَنْهُ فخنس بهم فَمنْ ثُمّ سمي الْأَخْنَس وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وذلك أن كفار مكة أخذوا عمارا وبلالا وخبابا وصهيبا فعذبوهم لإسلامهم حَتَّى يشتموا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأما صُهَيْب بن سِنَان مَوْلَى عَبْد اللَّه بن جدعان الْقُرَشِيّ وكان شخصا ضعيفا فَقَالَ لأهل مكة: لا تعذبونى، هل
__________
(1) سورة مريم: 97 وتماما فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا.
(2) فى أ، ل: مانعا جريا. ولعل المراد مانعا: أى يمنع نفسه من عدوه فى الحرب. جريئا:
على الكر والفر.
(3) فى أ: اسمه.(1/178)
لَكُمْ إليّ خير؟ قَالُوا: وما هُوَ؟ قَالَ: أَنَا شيخ كبير لا يضركم إن كُنْت معكم، أَوْ مَعَ غيركم، لئن كُنْت معكم لا أنفعكم، ولئن كُنْت مَعَ غيركم لا أضركم، وإن لي عليكم لحقا لخدمتي وجواري إياكم. فقد علمت أنكم إِنَّمَا تريدون مالي، وما تريدون نفسي، فخذوا مالي واتركوني وديني غَيْر راحلة. فَإِن أردت أن ألحق بالمدينة فلا تمنعوني. فَقَالَ بعضهم «1» لبعض: صدق خذوا ماله فتعاونوا به عَلَى عدوكم.
ففعلوا ذَلِكَ فاشترى نفسه بماله كله غَيْر راحلة، واشترط ألا يمنع عن صلاة وَلا هجرة، فأقام بين أظهرهم ما شاء الله، ثُمّ ركب راحلته نهارا حَتَّى أتى المدينة مهاجرا فلقبه أبو بكر الصديق- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- فَقَالَ: ربح البيع يا صُهَيْب.
فَقَالَ: وبيعك لا يخسر. فَقَالَ أَبُو بَكْر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ-: قَدْ أنزل اللَّه [33 ب] فيك وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ- 207- يعني للفعل فعل الرومي صُهَيْب بن سنان «2» مولى عبد الله بن جدعان بن عمرو بن سَعِيد بن تيم بن مرة بن كَعْب بن لؤي بن غالب الْقُرَشِيّ «قَالَ عَبْد اللَّه بن ثَابِت: سَمِعْتُ أَبِي، يَقُولُ: سَمِعْتُ هَذَا الكتاب من أوله إلى آخره من الْهُذَيْلِ أَبِي صَالِح عن مُقَاتِلٍ بن سُلَيْمَان ببغداد درب السدرة سنة تسعين ومائة. قَالَ: وسمعته من أوله إلى آخره قراءة عَلَيْه «3» فِي المدينة فِي سنة أربع ومائتين وَهُوَ ابْن خمس وثمانين سنة رحمنا الله وإياهم» «4» . يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وذلك أن عَبْد اللَّه بن سلام، وسلام بن قَيْس، وأسيد وأسد ابنا كَعْب، ويامين بن يامين، وهم مؤمنو أَهْل التوراة استأذنوا
__________
(1) فى أ: بعض، ل: بعضهم.
(2) فى أ: شبان، ل: سنان. [.....]
(3) فى أ: على، ل: علبة.
(4) ما بين القوسين «» ساقط من ل وموجود فى أ. ويلاحظ أن هذا السماع سبق أن وجد فى ل مع زيادة قليلة.(1/179)
النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قراءة التوراة فِي الصَّلاة. وَفِي أمر السبت «1» وأن يعملوا ببعض ما فِي التوراة. فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- خذوا سنة محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشرائعه، فَإِن قرآن محمد ينسخ كل كتاب كان قبله، فقال:
ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً يعني في شرائع الْإِسْلام كلها وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ يعنى تزيين الشيطان فإن السنّة الأولى بعد ما بعث محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «2» ضلالة من خطوات الشَّيْطَان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ- 208- يعني بين فَإِنْ زَلَلْتُمْ يعني ضللتم عن الهدى وفعلتم هَذَا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ يعني شرائع محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمره ثُمّ حذرهم عقوبته. فَقَالَ: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ فى نقمته حَكِيمٌ- 209- حكم عليهم العذاب هَلْ يَنْظُرُونَ يعني ما يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ يعني كهيئة الضبابة أبيض وَالْمَلائِكَةُ فِي غَيْر ظلل فِي سبعين حجابا من نور عرشه والملائكة يسبحون.
فذلك قوله: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا «3» يعني وليس بسحاب. ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَقُضِيَ الْأَمْرُ يعني وقع العذاب وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ- 210- يَقُولُ يصير أمر الخلائق إِلَيْهِ فِي الآخرة.
سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني يهود المدينة كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ يعني كم أعطيناهم من آية بينة يعني حين فرق بهم البحر، وأهلك عدوهم، وأنزل عليهم المن والسلوى والغمام والحجر، فكفروا برب هَذِهِ النعم، حين كفروا بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ
__________
(1) فى أ: فى أمر السبت، ل: وفى.
(2) فى أ: وسلم من خطوات الشيطان ضلالة من خطوات الشيطان. والمثبت من ل.
(3) سورة الفرقان: 25. وفى أ: يوم تشقق.(1/180)
فخوفهم عقوبته «1» بقوله فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ- 211- إذا عاقب.
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وما بسط لهم فيها من الخير نزلت فِي المنافقين عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ وأصحابه [34 أ] وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي أمر المعيشة بأنهم فقراء نزلت فِي عَبْد اللَّه بن ياسر الْمَخْزُومِيّ، وصهيب بن سِنَان من بني تيم بن مرة، وبلال بن رباح مَوْلَى أَبِي بَكْر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- وخباب بن الأرت مَوْلَى ابْن أمَّ بهار الثَّقَفيّ حليف بني زهرة، وسالم مَوْلَى أَبِي حُذَيْفة، وعامر بن فهيرة مَوْلَى أَبِي بَكْر الصِّدِّيق- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ-، وعبد اللَّه بن مَسْعُود، وأبي هُرَيْرَة الدوسي، وَفِي نحوهم من الفقراء يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-:
وَالَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك يعني هَؤُلاءِ النفر فَوْقَهُمْ يعني فوق المنافقين والكافرين يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ- 212- حين يبسط للكافرين الرزق ويقدر عَلَى الْمُؤْمِنِين يَقُولُ لَيْسَ فوقي ملك يحاسبني أَنَا الملك أعطي من شئت بغير حساب حين أبسط للكافرين فِي الرزق وأقتر عَلَى الْمُؤْمِنِين. كانَ النَّاسُ يعني أَهْل السفينة أُمَّةً واحِدَةً يعني عَلَى مَلَّة الْإِسْلام وحدها وذلك أن عَبْد اللَّه بن سلام خاصم اليهود فِي أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ إِبْرَاهِيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ولوط بن حران بن آزر فبعثهم اللَّه مُبَشِّرِينَ بالجنة وَمُنْذِرِينَ من النار وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ يعني صحف إِبْرَاهِيم لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ ليقضي الكتاب فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ من الدّين فدعا «2» بها إِبْرَاهِيم وإسحاق قومهما ودعا بها إسماعيل جرهم فآمنوا به ودعا بها يعقوب
__________
(1) فى ل: فخوفهم واعلموا.
وفى أ: فخوفهم عقوبته فاعلموا. وقد ظن الناسخ أن كلمة فاعلموا من القرآن.
(2) فى أ: به. ودعا بها أى بالصحف.(1/181)
أَهْل مصر، ودعا بها لوط سدوم وعامورا وصابورا ودمامورا «1» فلم يسلم منهم غَيْر ابنتيه ريتا وزعوتا يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ يعني أعطوا الكتاب مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ يعني البيان بَغْياً بَيْنَهُمْ يَقُولُ تفرقوا بغيا وحسدا بينهم فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ يَقُولُ حين اختلفوا فِي القرآن مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ يعني التوحيد وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ- 213- يعني دين الإسلام لأن غير دين الإسلام باطل ثم بين للمؤمنين أن لا بد لهم من البلاء والمشقة فِي ذات اللَّه. فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ نظيرها فِي آل عِمْرَانَ قوله سُبْحَانَهُ-: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ «2» . وَفِي العنكبوت: الم، أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ «3» . وذلك أن المنافقين قَالُوا للمؤمنين فِي قتال أحد: لَمْ تقتلون أنفسكم وتهلكون أموالكم، فإنه لو كان محمد بيننا لَمْ يسلط عليكم «4» القتل. فرد المؤمنون عليهم فقالوا: قال الله: [34 ب] من قُتِل «5» مِنَّا دخل الجنة. فَقَالَ المنافقون:
لَمْ تمنون أنفسكم بالباطل. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يَومَ أحد أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ نزلت فِي عُثْمَان بن عَفَّان وأصحابه- رحمهم اللَّه. يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-:
وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ يعني سنة الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ من البلاء يعني مؤمني الأمم الخالية ثُمّ أخبر عَنْهُمْ ليعظ أصحاب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ سُبْحَانَهُ: مَسَّتْهُمُ يعني أصابتهم الْبَأْساءُ يعني الشدة وهي «6» البلاء وَالضَّرَّاءُ يعني البلاء وَزُلْزِلُوا يعني وخوفوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وهو اليسع وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
__________
(1) فى أ: جامورا. والمثبت من ل.
(2) سورة آل عمران 142.
(3) سورة العنكبوت: 1: 2.
(4) فى أ: قبل.
(5) فى أ: قبل.
(6) فى أ: وهو.(1/182)
وَهُوَ حزقيا الملك حين حضر القتال ومن معه من الْمُؤْمِنِين مَتى نَصْرُ اللَّهِ فَقَالَ الله- عَزَّ وَجَلّ-: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ- 214- يعني سريع. وإن ميشا بن حزقيا قَتَل اليسع واسمه اشعيا يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ من أموالهم وذلك أن اللَّه أمر بالصدقة فَقَالَ عمرو بن الجموح الْأَنْصَارِيّ من بني سلمة ابن جشم بن الخزرج- قُتِل يوم أحد، رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- قَالَ: يا رَسُول اللَّهِ، كم ننفق، وعلى من ننفق؟ فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي قول عمرو كم ننفق وعلى من ننفق يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ من الصدقة قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ من مال كقوله- سُبْحَانَهُ-: إِنْ تَرَكَ خَيْراً «1» يعني مالا فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ فهؤلاء موضع نفقة أموالكم وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ من أموالكم فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ- 215- يعني بما أنفقتم عليم، وأنزل فِي قول عمرو يا رَسُول اللَّهِ كم ننفق من أموالنا وعلى من ننفق قول «2» اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: قُلِ الْعَفْوَ يعني فضل قوتك فَإِن كان الرَّجُل من أصحاب الذهب والفضة أمسك الثلث وتصدق «3» بسائره، وإن كان من أصحاب الزرع والنخل أمسك ما يكفيه فِي سنته وتصدق «4» بسائره، وإن كان مِمَّنْ يعمل بيده أمسك ما يكفيه يومه ذَلِكَ وتصدق «5» بسائره فبين اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ما ينفقون فِي هَذِهِ الآية فَقَالَ: قُلِ الْعَفْوَ يعني فضل القوت كَذلِكَ يعظكم هكذا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ يعني أمر الصدقات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ «6» يَقُولُ لكي تتفكروا- فِي- أمر الدُّنْيَا- فتقولون هِيَ دار بلاء وهي دار فناء ثُمّ تتفكروا فِي الآخرة فتعرفون فضلها فتقولون هي دار
__________
(1) سورة البقرة: 180. [.....]
(2) فى أ: يقول.
(3، 4، 5) فى أ: وصدق.
(6) الآية 219 من سورة البقرة وتمام الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.(1/183)
خير ودار بقاء فتعملون لها فِي أيام حياتكم فهذا التفكر فيهما. فشق عَلَى الناس حين أمرهم أن يتصدقوا «1» بالفضل حَتَّى نزلت آية الصدقات «2» فى براءة [35 أ] فكان لهم الْفَضْل وإن كثر إذا أدوا الزكاة «3» قوله- سبحانه-: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ يعني فرض عليكم، كقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ يعني فرض وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ يعني مشقة لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فيجعل اللَّه عاقبته فتحا وغنيمة وشهادة وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً يعني القعود عن الجهاد وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ فيجعل اللَّه عاقبته شر فلا تصيبون ظفرا وَلا غنيمة وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ- 216- أَي واللَّه يعلم من ذَلِكَ ما لا تعلمون يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ «4» وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- بعث عُبَيْدة بن الْحَارِث بن عَبْد الْمُطَّلِب عَلَى سرية فِي جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين عَلَى رأس ستة عشر شهرا بعد قدوم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة فَلَمَّا ودع رسول اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاضت عيناه ووجد من فراق النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد أن عقد له اللواء «5» فَلَمَّا رَأَى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجده بعث مكانه عَبْد اللَّه بْن جحش الأَسَديّ من بني غَنْم ابن دودان وأُمّه عمَّة النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أميمة بِنْت عَبْد الْمُطَّلِب وَهُوَ حليف لبني عبد شمس وكتب لَهُ كتابا وأمره أن يتوجه قبل مكة
__________
(1) فى أ: يصدقوا.
(2) المراد بآية الصدقات قوله- تعالى-: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
سورة التوبة: 60.
(3) فى أسباب النزول للسيوطي. وفى أسباب الواحدي. آثار فى سبب نزول الآية.
(4) أورد الواحدي والسيوطي آثار فى أسباب نزول الآية.
(5) فى أ: لواء.(1/184)
وَلا يقرأ الكتاب حَتَّى يسير ليلتين فَلَمَّا سار عَبْد اللَّه ليلتين قرأ «1» الكتاب فإذا فِيهِ:
سر باسم اللَّه إلى بطن نخلة عَلَى اسم اللَّه وبركته، وَلا تكرهن أحد من أصحابك عَلَى السير، وامض لأمري ومن اتبعك منهم، فترصد بها عير قريش. فَلَمَّا قرأ الكتاب استرجع عَبْد اللَّه، واتبع استرجاعه بسمع وطاعة لله- عَزَّ وَجَلّ- ولرسوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمّ قَالَ عَبْد اللَّه لأصحابه: من أحبّ منكم أن يسير معي فليسر ومن أحبّ أن يرجع فليرجع وهم ثمانية رهط من المهاجرين «2» عَبْد اللَّه بن جحش الأَسَديّ، وسعد بنى أَبِي وَقَّاص الزُّهْرِيّ، وعتبة بن غزوان المُزَني حليف لقريش، وأبي حُذَيْفة بن عُتْبَة بن ربيعة بن عبد شمس، وسهل «3» بن بيضاء الْقُرَشِيّ ويُقَالُ سهل من بني الْحَارِث بن فهد، وعامر بن رَبِيعَة الْقُرَشِيّ من بني عَدِيّ بن كَعْب، وواقد بن عَبْد اللَّه التَّميْميّ. فرجع من القوم سعد بن أَبِي وَقَّاص وعتبة بن غزوان وسار عَبْد اللَّه ومعه خمسة نفر وَهُوَ سادسهم «4» فَلَمَّا قدموا لبطن نخلة بين مكة والطائف حملوا عَلَى أهل العير فقتلوا عُمَر بن الْحَضْرَمِيّ الْقُرَشِيّ قتله واقد بن عَبْد اللَّه التَّميْميّ رماه بسهم فكان أول قتيل فِي الْإِسْلام من المشركين وأسروا عُثْمَان بن عَبْد اللَّه بن المُغِيرَة، والحكم بن كَيْسَان مَوْلَى هِشَام بن المُغِيرَة الْمَخْزُومِيّ فغديا بعد ذَلِكَ فِي المدينة، وأفلتهم نوفل بن عَبْد اللَّه بن المغيرة [35 ب] الْمَخْزُومِيّ عَلَى فرس لَهُ جواد أنثى فقدم مكة من الغد وأخبر الخبر مشركي مكة، وكرهوا الطلب، لأنه أول يوم من رجب وسار المسلمون بالأسارى والغنيمة حَتَّى قدموا المدينة.
__________
(1) هذه القصة بطولها فى أسباب النزول للواحدي: 38.
(2) فى أ: وهم سبعة نفر. ولم يذكر واقد بن عبد الله فيهم. ثم ذكر فى أثناء القصة ... أن واقد ابن عبد الله التميمي رمى عمرو بن الحضرمي القرشي بسهم فقتله (تصحيح هذه الواقعة من أسباب النزول للواحدي) .
(3) فى الواحدي: سبيل.
(4) فى أ: معه أربعة نفر وهو خامسهم.(1/185)
فقالوا: يا نَبِيّ اللَّه، أصبنا القوم نهارا فَلَمَّا أمسينا رأينا هلال رجب، فَمَا ندري أصبناهم فى رجب أَوْ فِي آخر يوم من جمادى الآخرة وأقبل مشركو مكة عَلَى مسلميهم فقالوا: يا مَعْشَر الصباة، ألا ترون أن إخوانكم استحلوا القتال فِي الشهر الحرام وأخذوا أسارانا وأموالنا وأنتم تزعمون أنكم عَلَى دين اللَّه، أفوجدتم «1» هَذَا فِي دين اللَّه حيث أمن الخائف، وربطت الخيل، ووضعت الأسنة، وبدأ الناس لمعاشهم.
فَقَالَ المسلمون: اللَّه ورسوله أَعْلَم. وكتب «2» مسلمو مكة إلى عَبْد اللَّه بن جحش أن المشركين عابونا فِي القتال وأخذ الأسرى والأموال فِي الشهر الحرام فاسأل «3» رَسُول اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ألنا «4» فِي ذَلِكَ متكلم، أَوْ أنزل اللَّه بِذَلِك قرآنا. فدفع عَبْد اللَّه بن جحش الأَسَديّ الكتاب إلى النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله- عز وجل- يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَلَم يرخص فِيهِ القتال، ثُمّ قَالَ: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني دين الْإِسْلام وَكُفْرٌ بِهِ «5» أَي وكفر بالله وَصد عن الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ من عِنْد المسجد الحرام فذلك صدهم، وذلك أنهم أخرجوا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه من مكة أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ فهذا أكبر عِنْد اللَّه من القتل «6» والأسر وأخذ الأموال. ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَالْفِتْنَةُ يعني الإشراك الَّذِي أنتم فِيهِ أَكْبَرُ عِنْد اللَّه مِنَ الْقَتْلِ «7» . ثُمّ أخبر- عَزَّ وَجَلّ- عن رأي مشركي العرب فِي الْمُسْلِمِين، فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ يعنى مشركي مكة
__________
(1) فى أ: فوجدتم.
(2) فى أ: فكتب. [.....]
(3) فى أ: فسل.
(4) فى أ: لنا.
(5) فى أ: وكفر بالله.
(6) فى أ: الأسل. والمثبت من ل.
(7) فى أ، ل: فسر الآية التالية رقم 218 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا ... الآية فى هذا المكان. أى فى منتصف الآية 217 فأتممت تفسير الآية 217 ثم نقلت تفسير الآية 218.(1/186)
حَتَّى يَرُدُّوكُمْ يا معشر الْمُؤْمِنِين عَنْ دِينِكُمْ الْإِسْلام إِنِ اسْتَطاعُوا ثُمّ خوفهم، فَقَالَ: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ الْإِسْلام يَقُولُ، ومن ينقلب كافرا بعد إيمانه فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ يعني بطلت أَعْمالُهُمْ الخبيثة فلا ثواب لهم فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ- 217- يعنى لا يموتون «1» . فكتب عَبْد اللَّه بن جحش إلى مسلمي أَهْل مكة بهذه الآية وكتب إليهم إن عيروكم فعيروهم بما صنعوا. وقَالَ «2» عَبْد اللَّه ابن جحش وأصحابه أصبنا القوم فِي رجب فنرجو أن يَكُون لنا أجر المجاهدين فِي سبيل اللَّه فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ- 218- الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا إلى المدينة وَجاهَدُوا المشركين فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ يعني جنة اللَّه نظيرها فِي آل عِمْرَان قوله- سُبْحَانَهُ-: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ «3» يعني فَفِي جنة اللَّه لقولهم للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَلْ لنا أجر المجاهدين فى سبيل الله وَاللَّهُ غَفُورٌ لاستحلالهم القتل والأسر والأموال فِي الشهر الحرام. فكانت هَذِهِ أول سرية، وأول غنيمة، وأول خمس، وأول قتيل، وأول أسر كان فِي الإسلام «4» . فأما نوفل بن عَبْد اللَّه الَّذِي أفلت يومئذ فَإنَّهُ يوم الخندق ضرب بطن فرسه ليدخل الخندق عَلَى الْمُسْلِمِين فِي غزوة الأحزاب فوقع فِي الخندق فتحطم هُوَ وفرسه فقتله الله- تعالى «5» .
وطلب المشركون
__________
(1) فى أ: لا يموتون يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ- 219- وقد نقلت تفسير الآية 218 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا حيث ترتيبها فى المصحف.
(2) فى أ: فقال.
(3) سورة آل عمران: 107.
(4) أورد السيوطي فى أسباب النزول هذا السبب مختصرا. وأورده الواحدي من عدة طرق مسهبا
(5) فى أ: فقتله عبد الله. وفى أسباب النزول للواحدي: فقتله الله تعالى. وفى ل: فقتله الله.(1/187)
جيفته بثمن فَقَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: خذوه فإنه «1» خبيث الجيفة خبيث الدية «2» .
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ يعني القمار نزلت فِي عَبْد الرَّحْمَن بن عَوْف، وعمر بن الخَطَّاب، وعلي بن أَبِي طَالِب، ونفر من الأَنْصَار- رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ «3» - وذلك أن الرَّجُل كان يَقُولُ فِي الْجَاهِلِيَّة أَيْنَ أصحاب الجزور فيقوم نفر فيشترون الجزور فيجعلون لكل رَجُل منهم سهم «4» ، ثُمّ يقرعون فَمنْ خرج سهمه يبرأ من الثمن حَتَّى يبقى آخرهم رَجُلا فيكون ثمن الجزور كله عَلَيْه وحده، وَلا حق لَهُ فِي الجزور ويقتسم الجزور بقيتهم بينهم فذلك الميسر. قَالَ- سبحانه-: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ فِي ركوبهما لأن فيهما ترك الصَّلاة، وترك ذكر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-، وركوب المحارم، ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ يعني بالمنافع اللذة والتجارة فِي ركوبهما قبل التحريم فَلَمَّا حرمهما اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- قَالَ: وَإِثْمُهُما بعد التحريم أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما قبل التحريم، وأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- تحريمهما بعد هَذِهِ الآية بسنة.
والمنفعة فِي الميسر أن بعضهم ينتفع به، وبعضهم يخسر يعني المقامر، وإنما سمي الميسر لأنهم قَالُوا يسروا لنا ثمن الجزور يَقُولُ الرجل أفعل كذا وكذا «5» .
وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ- 219- فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى وذلك أن الله-
__________
(1) فى أ: فهو.
(2) فى أ، ل: بعد أن فسر الآية 218. أكمل تفسير الآية 217 وقد أصلحت ذلك.
(3) أورد الواحدي هذا السبب فى أسباب النزول: 38.
(4) فى أ: منهما سهما. [.....]
(5) فى ل زيادة: «حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بن ثَابِت قَالَ: حَدَّثَنِي أبى، قال: حدثني الهذيل عن مقاتل بن سليمان: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى ... وذلك أن الله....(1/188)
عَزَّ وَجَلّ- أنزل فِي أموال اليتامى إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً «1» فَلَمَّا نزلت هَذِهِ الآية أشفق المسلمون من خلطة «2» اليتامى فعزلوا بيت اليتيم وطعامه وخدامه عَلَى حدة مخافة العذر فشق ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِين، وعلى اليتامى اعتزالهم. فَقَالَ ثَابِت بن رفاعه للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ سمعنا ما أنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي اليتامى فعزلناهم، وَالَّذِي لهم، وعزلنا الَّذِي لنا فشق ذَلِكَ علينا وعليهم، وليس كلنا يجد سعة فِي عزل «3» اليتيم وطعامه وخادمه، فهل يصلح لنا خلطتهم فيكون البيت والطعام واحد والخدمة وركوب الدابة، وَلا نرزأهم شيئًا إِلَّا أن نعود عليهم بأفضل منه فانزل اللَّه- عز وجل-[36 ب] فى قول ثابت بن رفاعة الأنصارى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى «4» قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ يَقُولُ ما كان لليتيم فِيهِ صلاح، فهو خير أن تفعلوه.
ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فِي المسكن والطعام والخدمة وركوب الدابة «5» فَإِخْوانُكُمْ فهم إخوانكم وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ لمال اليتيم مِنَ الْمُصْلِحِ لماله وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ يَقُولُ لآثمكم فِي دينكم نظيرها «6» فِي براءة قوله- سبحانه- عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ «7» يَقُولُ ما أثمتم، فحرم عليكم خلطتهم فِي الَّذِي لهم، كتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير. فلم تنتفعوا بشيء منه إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ فى ملكه
__________
(1) سورة النساء: 10، وفى أ: الذين يأكلون.
(2) خلطة أى مخالطة.
(3) فى أ: قبل. وفى حاشية أ: عزل محمد. «ومحمد هو محمد بن أحمد بن عمر السنبلاوينى ناسخ المخطوطة» . والمثبت من ل.
(4) هذا السبب أورده الواحدي فى أسباب النزول: 38. والسيوطي: 34.
(5) فى أ: دابه، ل: الدابة.
(6) فى أ: نظيرها، ل: نظيرها.
(7) سورة التوبة: 128 وتمامها لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.(1/189)
حَكِيمٌ- 220- يعني ما حكم فِي أموال اليتامى وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ نزلت فِي أَبِي مَرْثَد «1» الغَنَويّ «2» واسمه أيمن، وَفِي عناق القرشية وذلك أن أبا مرثد كان رَجُلا صالحا وكان المشركون أسروا أناسا بمكة. وكان أَبُو مَرْثَد ينطلق إلى مكة مستخفيا فإذا كان الليل أَخَذَ الطريق، وإذا كان النهار تعسف الجبال لئلا «3» يراه أحد، حَتَّى يقدم مكة فيرصد «4» الْمُسْلِمِين ليلا، فإذا أخرجهم المشركون «5» للبراز تركوهم «6» عِنْد البراز والغائط. فينطلق أَبُو مَرْثَد فيجعل الرَّجُل منهم عَلَى عنقه حَتَّى إذا أَخْرَجَهُ من مكة كسر قيده بفهر ويلحقه بالمدينة. كان ذَلِكَ دأبه فانطلق يومًا حَتَّى انتهى إلى مكة، فلقيته عناق وكان يصيب منها فِي الْجَاهِلِيَّة. فقالت:
أبا مَرْثَد، مَالِك فِي حاجة. فَقَالَ: إن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- قَدْ حرم الزنا. فَلَمَّا أيست منه أنذرت به كفار مكة فخرجوا يطلبونه. فاستتر منهم بالشجر فلم يقدروا «7» عَلَيْه فَلَمَّا رجعوا احتمل بعض «8» الْمُسْلِمِين حَتَّى أخرجه من مكة فكسر «9» قيده.
ورجع إلى المدينة فأتى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَه بالخبر. فَقَالَ:
وَالَّذِي بعثك بالحق لو شئت أن آخذهم وأنا مستتر بالشجرة لفعلت، فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اشكر ربك أبا مَرْثَد إن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- حجزهم عنك. فَقَالَ أَبُو مَرْثَد: يا رَسُول اللَّه، إن عناق أحبها وكان بيني وبينها فِي الْجَاهِلِيَّة، أفتأذن لي فِي تزويجها فَإِنَّهَا «10» لتعجبني. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ
__________
(1) ورد هذا فى أسباب النزول للواحدي: 39. والسيوطي: 34.
(2) فى أ: الغونى، وهو تحريف. وفى ل: الغنوي، وكذلك فى الواحدي والسيوطي: الغنوي.
(3) فى أ: أن لا، ل: لئلا.
(4) فى أ: فرصد، ل: فيرصد.
(5) ساقطة من أ.
(6) فى ل: ينكرهم. [.....]
(7) فى أ: يقدر، ل: يقدروا.
(8) فى أ: يعنى، ل: بعض.
(9) فى ل: وكسر.
(10) فى أ: وأنها، ل: فانها.(1/190)
يصدقن بتوحيد اللَّه وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ يعني مصدقة بتوحيد اللَّه خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ لقوله إنها لتعجبني وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ «1» - 221-.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً يعني قذر نزلت فِي عمرو بن الدحداح الْأَنْصَارِيّ «2» من قضاعة فَلَمَّا نزلت هَذِهِ الآية «3» لَمْ يؤاكلوهن فِي إناء واحد وأخرجوهن «4» من البيوت والفرش كفعل العجم
فَقَالَ «5» ناس من العرب للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شق علينا اعتزال الحائض، والبرد شديد فَإِن آثرناهم بالثياب هلك سائر البيت [37 أ] وإن آثرنا أهل البيت، هلكت النّساء بردا. فقال النبي- صلى الله عليه
__________
(1) ما بين الأقواس «» ساقط من أ، ومكتوب فى حاشية ل. وفى الجلالين وَلا تَنْكِحُوا تزوجوا الْمُشْرِكِينَ أى الكفار بالمؤمنات حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ لماله وجماله «أولئك» أى أهل الشرك يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ بدعائهم إلى العمل الموجب لها فلا تليق مناكحتهم وَاللَّهُ يَدْعُوا على لسان رسله إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ أى العمل الموجب لهما بِإِذْنِهِ بإرادته فتجب إجابته بتزويج وأوليائه وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يتعظون.
(2) فى أسباب النزول للسيوطي: 35.. عن ابن عباس أن ثابت بن الدحداح سأل النبي (ص) عن الحيض فنزلت وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ الآية وأخرج ابن جرير عن السدى نحوه.
وفى أسباب النزول للواحدي: 40. أن أبا الدحداح سأل رسول الله (ص) فقال: يا رسول الله، ما نصنع بالنساء إذا حضن. فأنزل الله هذه الآية.
فمقاتل جعل السائل عمرو بن الدحداح. والسيوطي ذكر أنه ثابت بن الدحداح. والواحدي روى عن المفسرين أن السائل هو أبو الدحداح.
وفى أ: عمر، وفى ل: عمرو.
(3) فى أ، ل: فلم.
(4) فى أ: وأخرجوهم.
(5) فى أ: قال.(1/191)
وَسَلَّمَ-: إنكم لَمْ تؤمروا أن تعزلوهن من البيوت، إِنَّمَا أمرتم باعتزال الفرج إذا حضن، ويؤتين إذا طهرن، وقرأ عليهم فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ
يعني يغتسلن. فَإِذا تَطَهَّرْنَ يعني اغتسلن من المحيض فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أَي يؤتين غَيْر حيض فِي فروجهن التي نهى عَنْهَا فِي الحيض إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ من الذنوب وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ- 222- من الأحداث والجنابة والحيض نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ وذلك أن حيي بن أخطب ونفرا من اليهود قَالُوا للمسلمين: إنَّه لا يحل لَكُمْ جماع النّساء إِلَّا مستلقيات وإنا نجد فِي كتاب اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أن جماع المرأة غَيْر مستلقية ذنبا عِنْد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فَقَالَ المسلمون لرسول اللَّه (ص) : إنا كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّة وَفِي الْإِسْلام نأتي النّساء عَلَى كُلّ حال فزعمت اليهود أَنَّهُ ذنب عِنْد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إِلَّا مستلقيات فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- نِساؤُكُمْ حَرْثٌ «1» لَكُمْ يعني مزرعة للولد فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فِي الفروج وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ من الولد وَاتَّقُوا اللَّهَ يعظكم فلا «2» تقربوهن حيضا ثُمّ حذرهم فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ فيجزيكم بأعمالكم وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ- 223- يعني المصدقين بأمر اللَّه ونهيه بالجنة.
وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ نزلت فِي أَبِي بَكْر الصِّدِّيق- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- وَفِي ابنه عَبْد الرَّحْمَن. حلف أَبُو بَكْر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- ألا يصله حَتَّى يسلم.
وذلك أن الرَّجُل كان إذا حلف قَالَ: لا يحل إِلَّا إبرار القسم. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ يَقُولُ لا يحلف عَلَى ما هو فِي معصية:
__________
(1) روى هذا الحديث من عدة طرق صحيحة. اقرأ هذه الطرق ورواياتها فى أسباب النزول للواحدي:
40 وللسيوطي: 35، 36.
(2) فى أ: ولا.(1/192)
ألا يصل قرابته وذلك أن الرَّجُل يحلف أن لا يدخل عَلَى جاره، وَلا يكلمه، وَلا يصلح بين إخوانه، والرجل يريد الصلح بين الرجلين فيغضبه أَحَدهمَا أو يتهمه فيحلف المصلح أن لا يتكلم بَيْنَهُمَا. قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: لا تحلفوا ألّا تصلوا القرابة أَنْ «تَبَرُّوا» وَتَتَّقُوا «1» اللَّه وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ فهو خير لَكُمْ من وفاء باليمين فِي معصية اللَّه وَاللَّهُ سَمِيعٌ لليمين لقولهم حلفنا عَلَيْهَا عَلِيمٌ- 224- يَقُولُ عالم بها كان هَذَا قبل أن تنزل الكفارة فِي المائدة لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَهُوَ الرَّجُل يحلف «2» على أمر يرى أَنَّهُ فِيهِ صادق وَهُوَ مخطئ فلا يؤاخذه اللَّه بها ولا كفارة عليه فيها، فذلك اللغو. ثم قال- عَزَّ وَجَلّ-:
وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ يعني بما عقدت قلوبكم من المأثم يعني اليمين الكاذبة التي حلف عَلَيْهَا وَهُوَ يعلم أَنَّهُ فيها كاذب فهذه فيها كفارة «3» وَاللَّهُ غَفُورٌ يعني ذا تجاوز عن اليمين التي حلف عَلَيْهَا حَلِيمٌ- 225- حين لا يوجب فيها الكفارة. ثم نزلت الكفارة فى سورة المائدة «4» [37 ب] فبين
__________
(1) ساقطة من أ، ل.
(2) يحلف: ساقطة من أ، وفى حاشية أ: يحلف وفوقها محمد (أى الناسخ) وموجودة فى ل.
(3) فى أ: فهذه كفارة، ل: فهذه فيها كفارة. أقول والأيمان ثلاثة: يمين لغو. ويمين غموس. ويمين منعقدة.
واليمين الغموس (وتسمى اليمين الفاجرة) هي الحلف بالله كذبا مع تعمد الكذب. ولا كفارة لها إلا الاستغفار والتوبة. أما المنعقدة فهي أن يحلف على شيء أن يفعله أو لا يفعله ثم لا يبر فى يمينه. فهذه فيها الكفارة إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة. أما اللغو فهو أن يحلف الرجل بناء على ظنه الكاذب.
والمعنى لا يعاقبكم الله بما أخطأتم فيه من الأيمان ولكن يعاقبكم بما تعمدتم الكذب فيها. [.....]
(4) يشير الى الآية 89 من سورة المائدة وهي: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.(1/193)
فيها لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ يعني يقسمون مِنْ نِسائِهِمْ فهو الرَّجُل يحلف أن لا يقرب امرأته تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ يعنى فإن رجع فى يمينه فجامعها قبل أربعة أشهر فهي امرأته وعليه أن يكفر عن يمينه فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لهذه اليمين رَحِيمٌ- 226- به إذ جعل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الكفارة فيها لأنه لَمْ يَكُنْ أنزل الكفارة فِي المائدة. ثُمّ نزلت بعد ذَلِكَ الكفارة فِي المائدة. وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ يعني فَإِن حققوا «الطلاق» «1» يعني أنفذوا فِي السراح فلم يجامعها أربعة أشهر بانت منه بتطليقة فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ليمينه عَلِيمٌ- 227- يعني عالم بها وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ يعني ثلاث حيض إذا كَانَتْ مِمَّنْ تحيض وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ من الولد إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ يعني يصدقن بِاللَّه بأنه واحد لا شريك لَهُ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يصدقن بالبعث الَّذِي فِيهِ جزاء الأعمال بأنه كائن ثُمّ قَالَ- عَزَّ وجل-: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ يقول الزوج أحق برجعتها، وهي حبلى نزلت فِي إسماعيل الغفاري وَفِي امرأته لَمْ تشعر بحبلها، ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً يعني بالمراجعة فيما بَيْنَهُمَا، فعمد إسماعيل فراجعها وهي حبلى، فولدت منه، ثُمّ ماتت ومات ولدها، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ يَقُولُ لهن من الحق عَلَى أزواجهن مثل ما لأزواجهن عليهن. ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ يَقُولُ لأزواجهن عليهن فضيلة فِي الحق وبما ساق إليها من الحق وَاللَّهُ عَزِيزٌ فِي ملكه حَكِيمٌ- 228- يعني حكم الرحمة عليها فى الحبل «2» . ثُمّ نسختها الآية التي بعدها. فأنزل اللَّه بعد ذَلِكَ بأيام يسيرة فبين للرجل كيف يطلق المرأة، وكيف تعتد، فَقَالَ: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ يعنى بإحسان
__________
(1) ساقطة من أ.
(2) هكذا فى ل. وفى أ: حكم الرجعة عليهم فى الحبلى.(1/194)
أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ «1» يعني التطليقه الثالثة فِي غَيْر ضرار كَمَا أمر اللَّه- سُبْحَانَهُ- فِي وفاء المهر: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ إذا أردتم طلاقها أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً وذلك أن الرَّجُل كان إذا طلق امرأته، أخرجها من بيته فلا يعطيها شيئًا من المهر ثُمّ استثنى ورخص، فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ يعني أمر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- «فيما أمرهما وذلك أن تخاف المرأة» «2» الفتنة على نفسها فتعصي الله فيما أمرها زوجها أَوْ يخاف الزوج إن لم تطعه امرأته أن يعتدي عَلَيْهَا يَقُولُ- سُبْحَانَهُ-: فَإِنْ خِفْتُمْ يعني علمتم أَلَّا يُقِيما يعني الحاكم حُدُودَ اللَّهِ يعني أمر الله فى أنفسهما إن نشرت عَلَيْه فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يعني الزوج والزوجة فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ من شيء يَقُولُ لا حرج عليهما إذا رضيا أن تفتدي منه ويقبل منها الفدية ثُمّ يفترقا وكانت «3» نزلت [38 أ] فِي ثَابِت بن قَيْس بن شَمَّاس الْأَنْصَارِيّ من بني الْحَارِث بن الخزرج، وَفِي امرأته أم حبيبة بِنْت عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ رأس «4» المنافقين، وكان «5» أمهرها حديقة فردتها عَلَيْه، واختلعت منه، فهي أول خلعة كَانَتْ فِي الْإِسْلام. ثُمّ قَالَ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني أمر اللَّه فيهما فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ يَقُولُ ومن يخالف أمر اللَّه إلى غيره فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ- 229- لأنفسهم ثُمّ رجع إلى الآية الأولى فِي قوله: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِنْ طَلَّقَها بعد التطليقتين تطليقة أخرى سواء أكان بها حبل أم لا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فيجامعها فنسخت هَذِهِ الآية، الآية «6» التي قبلها، فى قوله- عز وجل-
__________
(1) أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ساقط من أ، ل.
(2) فى أ: فيما أمرها وذلك أنه يخاف من المرأة.
(3) فى أ: وكان.
(4) فى أزيادة: ملك.
(5) فى أ: كان.
(6) المراد أن آية فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ نسخت وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ. ولا أرى هنا وجها للقول بالنسخ فإن الزوج أحق برد زوجته ما دام الطلاق دون الثلاث. فإذا تم الطلاق ثلاثا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زوجا غيره.(1/195)
وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ ونزلت فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فِي تميمة بِنْت وَهْب بن عتيك النَّقْرِيّ وفى زوجها رفاعة بن عبد الرحمن ابن الزبير- وتزوجها عبد الرحمن بن الزُّبَيْر الْقُرَظِيّ، يَقُولُ: فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الأخير عَبْد الرَّحْمَن فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يعني الزوج الأول رِفَاعة وَلا عَلَى المرأة تميمة أَنْ يَتَراجَعا بمهر جديد ونكاح جديد إِنْ ظَنَّا يعني إن حسبا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ أمر اللَّه فيما أمرهما وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني أمر اللَّه فِي الطلاق يعني ما ذكر مِن أحكام الزوج والمرأة فِي الطلاق وَفِي «1» المراجعة. يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ- 230- وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ واحدة فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يعني انقضاء عدتهن من قبل أن تغتسل من قرئها الثالث فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ «2» يعني بإحسان من غَيْر ضرار فيوفيها المهر والمتعة، نزلت فِي ثَابِت بن ياسر الْأَنْصَارِيّ فِي الطعام والكسوة وغير ذَلِكَ. فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً وذلك أَنَّهُ طلق امرأته، فَلَمَّا أرادت أن تبين منه راجعها فَمَا زال يضارها بالطلاق ويراجعها يريد بِذَلِك أن يمنعها من الزواج لتفتدي منه. فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-:
لِتَعْتَدُوا وكان ذَلِكَ عدوانا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ «3» وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً يعني استهزاء فيما أمر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي كتابه من إمساك بمعروف أَوْ تسريح بإحسان، وَلا تتخذوها لعبا، وَاذْكُرُوا يعني واحفظوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالإسلام وَاحفظوا ما أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ يعني القرآن وَالْحِكْمَةِ والموعظة التي فِي القرآن من أمره ونهيه يقول: يَعِظُكُمْ بِهِ
__________
(1) فى أ: فى.
(2) ، (3) ما بين الأقواس « ... » ساقط من أ.(1/196)
يعني بالقرآن وَاتَّقُوا اللَّهَ يعظكم فلا تعصوه فيهن ثُمّ حذرهم فَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ من أعمالكم عَلِيمٌ- 231- فيجزيكم بها وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ تطليقة واحدة فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يَقُولُ انقضت عدتهن نزلت فِي أَبِي البداح بن عَاصِم ابن عَدِيّ الْأَنْصَارِيّ من بني العجلان الْأَنْصَارِيّ وَهُوَ حي من قضاعة، وَفِي امرأته جمل بِنْت يَسَار «1» المُزَني بانت منه بتطليقة، فأراد مراجعتها، فمنعها أخوها، وقَالَ:
لئن فعلت لا أكلمك أبدا. أنكحتك وأكرمتك وآثرتك عَلَى قومي فطلقتها «2» وأجحفت بها واللَّه لا أزوجكها أبدا «3» . فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يعني معقل فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ يعنى فلا تمنعوهن أن يراجعن أزواجهن إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ يعني بمهر جديد ونكاح جديد ذلِكَ الَّذِي ذُكِرَ مَن النهي ألا يمنعها من الزوج ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني يصدق بِاللَّه بأنه واحد لا شريك لَهُ، ويصدق بالبعث الَّذِي فِيه جزاء الأعمال، فليفعل ما أمره اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- من المراجعة ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ يعني خير لَكُمْ من الفرقة وَأَطْهَرُ لقلوبكم من الريبة وَاللَّهُ يَعْلَمُ حب كُلّ واحد منهما لصاحبه وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ- 232- ذَلِكَ منهما
فَلَمَّا نزلت هَذِهِ الآية قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يا معقل، إن كُنْت تؤمن بِاللَّه واليوم الآخر فلا تمنع أختك فلانا.
يعني أبا البداح. قَالَ: فَإِنِّي أنا أؤمن بِاللَّه واليوم الآخر وأشهدك أني قد أنكحته.
وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ يعني إذا طلقن حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ يعني يكمل الرضاعة وليس الحولان بالفريضة فَمنْ شاء أرضع فوق الحولين ومن شاء قصر عَنْهُمَا. ثُمّ قَالَ: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ إذا طلق امرأته وله ولد رضيع
__________
(1) فى ل: يسار، أ: كيسان أو يسار غير واضحة.
(2) فى أ: فطلقها.
(3) ورد ذلك أيضا فى أسباب النزول للسيوطي: 38، وفى أسباب النزول للواحدي: 40. [.....](1/197)
ترضعه أمه فعلى الأب رزق الأم والكسوة «رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ» «1» بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها يعني إِلَّا ما أطاقت من النفقة والكسوة. ثُمّ قَالَ سُبْحَانَهُ: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها يقول لا يجعل بالرجل إذا طلق امرأته أن يضارها فينزع منها ولدها وهي لا تريد ذَلِكَ فيقطعه عن أُمّه فيضارها بِذَلِك بعد أن ترضى بعطية الأب من النفقة والكسوة «2» ، ثُمّ ذكر الأم فقال: وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ يعني لا يجمل بالمرأة أن تضار زوجها «3» وتلقي إِلَيْهِ ولدها ثُمّ قَالَ فِي التقديم: وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ يَقُولُ وعلى من يرث اليتيم إذا مات الأب مثل ما عَلَى الأب من النفقة والكسوة لو كان حيا فلا يضار الوارث الأم. وهي بمنزلة الأب إذا لَمْ يَكُنْ لليتيم ماله فَإِنْ أَرادا فِصالًا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ يَقُولُ واتفقا فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يعني لا حرج ما لَمْ يضار أَحَدهمَا، صاحبه أن يفصلا الولد قبل الحولين والأم أحق بولدها من المرضع إذا رضيت [39 أ] من النفقة والكسوة بما يرضى به غيرها فَإِن لَمْ ترض الأم بما يرضى «4» به غيرها من النفقة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يَقُولُ- عَزَّ وَجَلّ- فلا جناح عَلَى الوالد أن يسترضع لولده، ويسلم للظئر أجرها، وَلا كسوة لها، وَلا رزق، وإنما هُوَ أجرها.
قوله- سُبْحَانَهُ-: وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ لأمر اللَّه فِي المراضع ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ يَقُولُ 0 ما أعطيتم الظئر من فضل عَلَى أجرها وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تعصوه فيما حذركم الله فى هذه الآية من أمر
__________
(1) ما بين الأقواس « ... » ساقط من أ.
(2) أى بعد أن وافقت على مقدار النفقة التي سيعطيها لها الوالد فلا يليق أن يأخذ منها وليدها ضرارا بها من غير حاجة لهذا الضرار.
(3) فى أ: تضار زوجها، فى ل: تضار بزوجها.
(4) فى أ: كما يرضى.(1/198)
المضارة والكسوة والنفقة للأم وأجر الظئر ثُمّ حذرهم فَقَالَ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ- 233- وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً من يوم يموت زوجها فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ يعني إذا مضى الأجل مما ذكر فِي هَذِهِ الآية فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي قراءة ابْن مَسْعُود «لا حرج عليهن» فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ يعني لا حرج عَلَى المرأة إذا انقضت عدتها أن تتشوف «1» وتتزين وتلتمس الأزواج وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ- 234- من أمر العدة وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ يعني لا حرج عَلَى الرَّجُل أن يَقُولُ للمرأة قبل أن تنقضي عدتها إنك لتعجبينني وما أجاوزك إلى غيرك فهذا التعريض أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ فلا جناح عليكم أن تسروا فِي قلوبكم تزويجهن فِي العدة عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا يعني الجماع في العدة ثم استثنى فقال: إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً عدة حسنة نظيرها فِي النّساء وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً «2» يعني عدة حسنة فتقول وهي فِي العدة إنَّه حبيب إليّ أن أكرمك وأن آتي ما أحببت وَلا أجاوزك إلى غيرك وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ يعني وَلا تحققوا عقدة النكاح يعني لا تواعدوهن «3» فِي العدة حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ يعني حَتَّى تنقضي عدتها ثُمّ خوفهم، فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ يعني ما فِي قلوبكم من أمورهن فَاحْذَرُوهُ أي فاحذروا أن ترتكبوا فِي العدة ما لا يحل وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يعني ذا تجاوز لَكُمْ حَلِيمٌ- 235- لا يعجل بالعقوبة لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً يَقُولُ وإن لَمْ تسموا لهن المهر فلا حرج فِي الطلاق فِي هَذِهِ الأحوال كلها،
__________
(1) فى أ، ل: تشوف.
(2) سورة النساء: 8.
(3) أ: لا ترجعوهن: والمذكور من ل.(1/199)
وَهُوَ الرَّجُل يطلق امرأته قبل أن يجامعها وَلَم يسم لها مهرا فلا مهر لها، وَلا عدة عَلَيْهَا، وَلا المتعة بالمعروف ويجبر الزوج عَلَى متعة هَذِهِ المرأة التي طلقها قبل أن يسمي لها مهرا وليس بمؤقت «1» [39 ب]
نزلت فِي رَجُل من الأَنْصَار تزوج امرأة من بني حنيفة وَلَم يسم لها مهرا، ثُمّ طلقها قبل أن يمسها فَقَالَ النبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَلْ متعتها بشيء؟ قَالَ: لا. قَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: متعها بقلنسوتك، أما إنها لا تساوي شيئًا وَلَكِن أحببت أن أحيي سنة.
فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ فِي المال وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ فِي المال مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ وليس بمؤقت وَهُوَ واجب حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ- 236- ثُمّ إن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كساه ثوبين بعد ذَلِكَ فتزوج امرأة فأمهرها أحد ثوبيه. ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-:
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ يعني من قبل الجماع وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ من المهر فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ عليكم من المهر. ثُمّ استثنى فَقَالَ: إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ يعني إِلَّا أن يتركن يعني المرأة تترك نصف مهرها فتقول المرأة أما إنَّه لَمْ يدخل بي وَلَم ينظر لي إلى عورة فتعفو عن نصف مهرها وتتركه لزوجها وهي بالخيار ثم قال: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ يعني الزوج فيوفيها المهر كله.
فيقول: كَانَتْ فِي حبالى ومنعتها من الأزواج فيعطيها المهر كله. وَهُوَ بالخيار ثُمّ قَالَ: وَأَنْ تَعْفُوا يعني ولأن تعفوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى يعني المرأة والزوج كلاهما أمرهما «2» أن يأخذا بالفضل فِي الترك ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَلا تَنْسَوُا يعني المرأة والزوج يَقُولُ لا تتركوا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ فِي الخير حين أمرها أن تترك
__________
(1) أى بمحدد فهو لكل امرأة بما يناسبها وما يعطى لأمثالها فليس هناك فى المتعة شيء محدد.
(2) فى أ: يعنى المرأة والزوج أمرهما كلاهما.(1/200)
نصف المهر للزوج، وأمر الزوج أن يوفيها المهر كله. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ- 237- يعني بصيرا أن ترك أَوْ وفاها.
حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ الخمس فِي مواقيتها وَالصَّلاةِ الْوُسْطى يعني صلاة العصر وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ- 238- فِي صلاتكم يعني مطيعين نظيرها وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ «1» يعني من المطيعين وكقوله- سُبْحَانَهُ-: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً «2» يعني مطيعا. وكقوله سُبْحَانَهُ قانِتاتٌ «3» يعني مطيعات وذلك أن أَهْل الأوثان «4» يقومون فِي صلاتهم عاصين «5» . قَالَ اللَّه قوموا «6» أنتم مطيعين فَإِنْ خِفْتُمْ العدو فصلوا فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً يَقُولُ عَلَى أرجلكم أَوْ عَلَى دوابكم فصلوا ركعتين حيث كان وجهه «7» إذا كان الخوف شديدا فَإِن لَمْ يستطع السجود فليومئ برأسه إيماء وليجعل السجود أخفض من الركوع وَلا يجعل جبهته عَلَى شيء ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-:
فَإِذا أَمِنْتُمْ العدو فَاذْكُرُوا اللَّهَ يَقُولُ فصلوا للَّه كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ- 239- وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ يعني بالمتاع أن ينفق عَلَيْهَا فِي الطعام والكسوة سنة [40 أ] ما لم تتزوج قَالَ: غَيْرَ إِخْراجٍ يَقُولُ لا تخرج من بيت زوجها سنة وهي كارهة: فَإِنْ خَرَجْنَ إلى أهلهن طائعة قبل الحول فلا نفقة لها فعدتها ثلاثة قروء. يَقُولُ:
فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي قراءة ابْن مَسْعُود فلا جناح عليهن فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ يعني بالمعروف يعني أن تتشوف «8» وتتزين وتلتمس الأزواج
__________
(1) سورة التحريم: 12.
(2) سورة النحل: 120.
(3) سورة النساء: 34.
(4) فى أ: الأديان. والمذكور من ل.
(5) فى أ: خاضعين. والمذكور من ل. [.....]
(6) فى أ: فقوموا. والمذكور من ل.
(7) هكذا فى أ، ل. ولعل المراد حيث ما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ.
(8) فى أ: تشوف.(1/201)
وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ- 240- عزيز فِي ملكه. حكيم فيما حكم من النفقة حولا، نزلت فِي حكيم بن الأشرف «1» قدِم الطائف ومات بالمدينة وَلَهُ أبوان وأولاد فأعطى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الميراث الوالدين وأعطى الأولاد بالمعروف وَلَم يعط امرأته شيئًا. غَيْر أن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بالنفقة عَلَيْهَا فِي الطعام والكسوة حولا، فَإِن كَانَت المرأة من أَهْل المدر التمست السكنى فيما بينها وبَيْنَ الحول وإن كَانَتْ من أَهْل الوبر نسجت ما تسكن فِيهِ إلى الحول فكان هَذَا قبل أن تنزل آية المواريث ثُمّ نزل وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً نسخت هَذِهِ الحول. ثُمّ أنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- آية المواريث، فجعل لهن الربع والثمن فنسخت نصيبها من الميراث نفقة سنة ثُمّ قَالَ: وَلِلْمُطَلَّقاتِ اللاتي دخل بهن مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ يعني عَلَى قدر مال الزوج وَلا يجبر الزوج عَلَى المتعة لأن لها المهر كامل «2» حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ- 241- أن يمتع الرَّجُل امرأته كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ يَقُولُ هكذا يبين اللَّه لَكُمْ أمره فِي المتعة لَعَلَّكُمْ يعني لكي تَعْقِلُونَ- 242- أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ من بني إِسْرَائِيل أُلُوفٌ ثمانية آلاف حَذَرَ الْمَوْتِ يعني حذر القتل وذلك أن نبيهم حزقيل بن دوم، وهو ذو الكفل ابن دوم، ندبهم إلى قتال عدوهم، فأبوا عَلَيْه جبنا عن عدوهم واعتلوا.
فقالوا: إن الأرض التي نبعث إليها لنقاتل عدونا هِيَ أرض يكون فيها الطاعون
__________
(1) قارن بأسباب النزول للسيوطي: 40، وللواحدي: 45. وقد ورد فيهما ما ذكر فى تفسير مقاتل، هذا غير أنهما ذكرا فى أسباب نزول الآية إن رجلا قدم الطائف ... إلخ. وأوضح مقاتل اسم الرجل بأنه حكيم بن الأشرف.
(2) فى أ، ل: على المتعة لها لأن المهر كامل.(1/202)
فأرسل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عليهم الموت فَلَمَّا رأوا أن الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فرارا من الموت. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ حزقيل قَالَ «1» : اللَّهُمَّ رب يَعْقُوب وإله مُوسَى قَدْ ترى معصية عبادك، فأرهم آية فِي أنفسهم حَتَّى يعلموا أنهم لن يستطيعوا فرارا منك. فأمهلهم «2» اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- حَتَّى خرجوا من ديارهم وهي قرية تسمى دامردان فَلَمَّا خرجوا قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لهم: فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا عبرة لهم فماتوا جميعًا وماتت «3» دوابهم كموت رَجُل واحد ثمانية أيام فخرج إليهم الناس فعجزوا عن دفنهم حَتَّى حظروا «4» عليهم وأروحت «5» أجسادهم. ثُمَّ إن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أَحْياهُمْ بعد ثمانية أيام «6» [40 ب] وبهن نتن شديد ثُمّ إن حزقيل بكى إلى ربه- عَزَّ وَجَلّ- فَقَالَ: اللَّهُمَّ رب إِبْرَاهِيم وإله مُوسَى لا تكن عَلَى عبادك الظلمة كأنفسهم، واذكر فيهم ميثاق الأولين فسمع اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فأمره أن يدعوهم بكلمة واحدة فقاموا كقيام رَجُل واحد كان وسنانا، فاستيقظ، فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ- إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ- 243- رب هذه النعمة حين أحياهم بعد ما أراهم عقوبته ثُمّ أمرهم- عَزَّ وَجَلّ- أن يرجعوا إلى عدوهم فيجاهدوا فذلك قوله مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أنه أحياهم بعد ما أماتهم وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ. وقوله- سُبْحَانَهُ-: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لقولهم إن الأرض التي نبعث إليها فيها الطاعون عَلِيمٌ- 244- بِذَلِك حَتَّى إنَّه ليوجد فِي ذَلِكَ السِّبْط من اليهود ريح كريح الموتى وكانوا ثمانية
__________
(1) فى أ: فقال حزقيل.
(2) فى أ: وأمهلهم.
(3) فى أ: ومات.
(4) حظروا عليهم: بنوا الحظائر.
(5) أروحت أجسامهم: صارت لها رائحة كريهة.
(6) فى أ: ثم إن الله- عز وجل-. بعد ثمانية أيام أحياهم.(1/203)
آلاف مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً طيبة بها «1» نفسه محتسبا فَيُضاعِفَهُ لَهُ بها أَضْعافاً كَثِيرَةً «2» نزلت فى أبى الدحداح اسمه عُمَر بن الدحداح الْأَنْصَارِيّ وذلك
أن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: من تصدق بصدقة فَلَه مثلها فِي الجنة. قَالَ أَبُو الدحداح: إن تصدقت بحديقتي فلي مثلها فِي الجنة. قَالَ: نعم.
قَالَ: وأم الدحداح معي. قَالَ: نعم. قَالَ: والصبية. قَالَ: نعم. وكان لَهُ حديقتان فتصدق «3» بأفضلهما واسمها الجنينة فضاعف اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- صدقته ألفي ألف ضعف «4» فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: أضعافا كثيرة
وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ يعني يقتر ويوسع وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ- 245- فيجزيكم بأعمالكم فرجع أَبُو الدحداح إلى حديقته فوجد أم الدحداح والصبية فِي الحديقة التي جعلها صدقة فقام عَلَى باب الحديقة وتحرج أن يدخلها وقَالَ «5» : يا أم الدحداح. قَالَتْ لَهُ:
لبيك يا أبا الدحداح. قَالَ: إني قَدْ جعلت حديقتي هَذِهِ صدقة واشترطت مثلها فِي الجنة، وأم الدحداح معي، والصبية معي، قَالَتْ: بارك اللَّه لك فيما اشتريت فخرجوا منها وسلم الحديقة إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: كم من نخلة مدلا عذوقها لأبي الدحداح فِي الجنة لو اجتمع عَلَى عذق منها أهل منى أن يقلوه ما أقلوه «6» . قوله- سُبْحَانَهُ-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى وذلك أن
__________
(1) فى أ، ل: بها والأنسب به. ولعله ضمن القرض معنى الصدقة فقال طيبة بها.
(2) فى أ: كبيرة.
(3) هكذا فى ل، وأما فى أ: فصدق أفضلهما. [.....]
(4) هكذا فى أ، ل.
(5) فى أ: قال.
(6) جاء هذا الأثر فى تفسير ابن كثير 1: 299 وسنده قال ابن أبى حاتم حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا خلف بن خليفة عن حميد الأعرج عن عبد الله بن الحارث عن عبد الله بن مسعود قال لما نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قال أبو الدحداح الأنصارى:.. إلخ الأثر قال: وقد رواه ابن مردويه من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر- رضى الله عنه- مرفوعا بنحوه.(1/204)
كفار بني إِسْرَائِيل قهروا مؤمنيهم فقتلوهم وسبوهم وأخرجوهم من ديارهم وأبنائهم فمكثوا زمانا لَيْسَ لهم ملك يقاتل عدوهم والعدو بين فلسطين ومصر [41 أ] إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ
«1» فقالوا لنَّبِيّ لهم- عَلَيْه السَّلام- اسمه اشماويل وَهُوَ بالعربية إسماعيل بن هلقابا واسم أُمّه حنة وَهُوَ من نسل هَارُون بن عِمْرَانَ أخو موسى ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ عدونا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ «2» لهم نبيهم هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ بعث اللَّه لَكُمْ ملكا وكُتِبَ يعني وفرض عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ أَي فَلَمَّا فرض كقوله- سُبْحَانَهُ-: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ يعني فرض عليكم عَلَيْهِمُ الْقِتالُ يعني عَلَى بنى إسرائيل تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ يعني كره القتال العصابة الَّذِين وقفوا «3» فِي النهر وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ- 246- يعنيهم لقولهم «4» لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ وكان القليل أصحاب الفرقة ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد أصحاب بدر.
وقال النبي- صلى الله عليه وسلم- يوم بدر: إنكم عَلَى عدد أصحاب طالوت
وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إسماعيل إِنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلّ- قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ يعني من أَيْنَ يَكُون لَهُ الملك عَلَيْنا وليس طالوت من سِبْط النُّبُوَّة وَلا من سِبْط الملوك وكان طالوت فيهم حقير الشأن دون وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ مِنَّا الْأَنْبِيَاء والملوك وكانت النُّبُوَّة فِي سِبْط لاوي بن يَعْقُوب والملوك فِي سِبْط يهوذا بن يَعْقُوب وَلَمْ يُؤْتَ طالوت سَعَةً مِنَ الْمالِ أن ينفق علينا قالَ لهم نبيهم إِسْمَاعِيل إِنَّ اللَّهَ- عَزَّ وَجَلّ- اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ يعني اختاره كقوله سُبْحَانَهُ- إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ يعني اختاره وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وكان أعلم
__________
(1) ما بين الأقواس « ... » ساقط من أ.
(2) فى أ: فقال.
(3) هكذا فى ل، وفى أ: وقعوا.
(4) فى أ، ل: لقوله.(1/205)
بني إِسْرَائِيل وكان طالوت من سِبْط بنيامين وكان جسيما عالما وكان اسمه شارل بن كيس وبالعربية طالوت بن قَيْس وسمي طالوت لطوله. وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ بعطية الملك عَلِيمٌ- 247- بمن يعطيه الملك فَلَمَّا أنكروا أن يَكُون طالوت عليهم ملكا وَقالَ «1» لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أنه من اللَّه أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ الَّذِي أخذ منكم فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ورأس كرأس الهرة ولها جناحان فإذا صوتت عرفوا أن النصر لهم فكانوا يقدمونها أمام الصف وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ يعنى بالبقية رضراضا «2» من الألواح وفقير «3» من فِي طست من ذهب وعصا مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- وعمامته وكان التابوت يَكُون مَعَ الأنبياء إذا حضروا القتال قدموه بين أيديهم يستفتحون به عَلَى عدوهم، فَلَمَّا تفرقت بنو إِسْرَائِيل وعصوا الْأَنْبِيَاء سلط اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عليهم عدوهم فقتلوهم وغلبوهم عَلَى التابوت فدفنوه فى مخرأة [41 ب] لهم فابتلاهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بالبواسير فكان الرَّجُل إذا تبرز عِنْد التابوت أخذه الباسور ففشى ذَلِكَ فيهم فهجروه فقالوا: ما ابتلينا بهذه إِلَّا بفعلنا بالتابوت فاستخرجوه ثُمّ وجهوه إلى بني إِسْرَائِيل عَلَى بقرة ذات لبن وبعث اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الملائكة فساقوا العجلة فإذا التابوت بين أظهرهم فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ يعني تسوقه الملائكة إِنَّ فِي ذلِكَ يعني فِي رد التابوت لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- 248- يعني مصدقين بأن طالوت ملكه من اللَّه- عز وجل- وكان التابوت من عود الشمشاد التي تتخذ منه الأمشاط الصفر مموه بالذهب فَلَمَّا رأوا التابوت أيقنوا بأن ملك طالوت من اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فسمعوا لَهُ وأطاعوا وكان موسى- عليه السلام
__________
(1) فى أ: قال.
(2) فى أ: رضراض، ل: رضراضا.
(3) من ل وفى أ: وفقير.(1/206)
- ترك التابوت فِي التيه قبل موته عِنْد يوشع بن نون، ثُمّ إن طالوت تجهز لقتال جالوت. وقَالَ النَّبِيّ إسماعيل «1» لطالوت إن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- سيبعث رَجُلا من أصحابك فيقتل جالوت، وأعطاه النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- درعا «2» فَقَالَ لطالوت: من صلحت هَذِهِ الدرع عَلَيْه، لَمْ تقصر عَلَيْه وَلَم تطل فَإنَّهُ قاتل جالوت فاجعل لقاتله نصف ملكك ونصف مَالِك فبلغ ذَلِكَ دَاوُد النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يرعى الغنم فِي الجبل، فاستودع غنمه ربه- جل وعز- فقال: آتي الناس وأطالع أخوتي وهم سبعة من طالوت وأنظر ما هَذَا الخبر فمر دَاوُد عَلَيْه السَّلام عَلَى حجر. فَقَالَ: يا دَاوُد خذني، فأنا حجر هَارُون الَّذِي قتل به كذا وكذا فارم بي «3» جالوت الجبار فأقع فِي بطنه فأنفذ من جانبه الآخر. فأخذه فألقاه في مخلاته.
«ثم مر بحجر آخر فَقَالَ له: يا داود، خذني فأنا حجر موسى الذي قتل بي كذا وكذا فارم بي جالوت فأقع في قلبه فأنفذ من الجانب الآخر فألقاه في مخلاته «4» » ثم مر بحجر آخر فقال: يا داود، خذني فأنا الَّذِي أقتل جالوت الجبار فأستعين بالريح فتلقى البيضة فأقع فِي دماغه فأقتله فأخذه فألقاه فِي مخلاته. ثُمّ انطلق «5» حَتَّى دخل عَلَى طالوت، فَقَالَ: أَنَا قاتل جالوت، بإذن اللَّه وكان دَاوُد- عَلَيْه السَّلام- رث المنظر هبير دوير فأنكر طالوت أن يقتله دَاوُد- عَلَيْه السَّلام- «6» فَقَالَ دَاوُد تجعل لي نصف ملكك ونصف مَالِك إن قتلت جالوت الجبار. قَالَ طالوت: لك ذلك
__________
(1) فى أ، ل: وقال النبي صلى الله عليه وسلم إسماعيل.
(2) من ل. وفى أ: وأعطاه النبي- عليه السلام-.
(3) من ل. وفى أ: فارم.
(4) ما بين القوسين «..» : ساقط من أ، ومنقول من ل. [.....]
(5) فى أ: فانطلق.
(6) المعنى أنكر طالوت أن يقتل داود جالوت.(1/207)
عندي وأزوجك ابنتي ولن يخفى «1» عليّ إن كُنْت أَنْت صاحبه قَدْ أتاني قومي كلهم يزعم أنه يقتله وَقَدْ أَخْبَرَنِي إسماعيل أن اللَّه يبعث لَهُ رَجُلا من أصحابي فيقتله فالبس هَذَا الدرع فلبسها دَاوُد- عَلَيْه السَّلام- فطالت عَلَيْه فانتفض فيها فتقلص منها وَجَعَل دَاوُد يدعو اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ثُمّ انتفض فيها فتقلص منها ثُمّ انتفض فيها الثالثة فاستوت عَلَيْه، فعلم طالوت أَنَّهُ يقتل جالوت فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ [42 أ] وهم مائة ألف إنسان فسار فِي حر شديد فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ- قالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلّ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ بين الأُرْدُنّ «2» وفلسطين فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي يَقُولُ لَيْسَ معي عَلَى عدوي، كقول إِبْرَاهِيم- عليه السلام- فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي يعني معي «3» وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي فَإنَّهُ معي عَلَى عدوي ثُمّ استثنى.
فَقَالَ: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ الغرفة يشرب منها الرَّجُل وخدمه ودابته ويملأ قربته، ووصلوا إلى النهر من مفازة وأصابهم العطش فَلَمَّا رَأَى الناس الماء ابتدروا فوقعوا فيه فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ والقليل ثلاثمائة وثلاثة عشر رَجُلا عدة أصحاب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم بدر فَلَمَّا جاوَزَهُ أَي جاوز النهر هُوَ يعني طالوت وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَكُلُّهُمْ مؤمنون فَقَالَ «4» العصاة الَّذِين وقعوا فِي النهر قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ فرد عليهم أصحاب الغرفة قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ يعني الَّذِين يعلمون، كقوله- سُبْحَانَهُ- وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ «5» يعني وعلم، وكقوله- عَزَّ وَجَلّ-: فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها «6» .
__________
(1) فى أ: وبر بحقي، وفى ل: ولن يخفى.
(2) فى أ: الأزد، ل: الأردن.
(3) سورة إبراهيم: 36.
(4) فى الأصل. فقالت.
(5) سورة القيامة: 28.
(6) سورة الكهف: 53 وتمامها (وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً) .(1/208)
وكقوله- عز وجل- أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ «1» أَي ألا يعلم أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ لأنهم قَدْ طابت أنفسهم بالموت كَمْ مِنْ فِئَةٍ يعني جند قَلِيلَةٍ عددهم غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً عددهم بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ- 249- يعني بني إِسْرَائِيل فِي النصر عَلَى عدوهم فرد طالوت العصاة وسار بأصحاب الغرفة حَتَّى عاينوا العدو وَلَمَّا بَرَزُوا لقتال لِجالُوتَ «2» وَجُنُودِهِ قَالَ أصحاب الغرفة قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً يعني ألق: أصبب علينا صبرا. كقوله- سُبْحَانَهُ-: أَفْرِغْ: يعني أصبب عَلَيْهِ قِطْراً «3» وَثَبِّتْ أَقْدامَنا عِنْد القتال حَتَّى لا تزول وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ- 250- يعني جالوت وجنوده وكانوا يعبدون الأوثان فاستجاب اللَّه لهم وكانوا مؤمنين- أصحاب الغرفة: فِي العصاة «4» - فَلَمَّا التقى الجمعان «5» وطالوت فِي قلة وجالوت فِي كثرة، عمد دَاوُد- عَلَيْه السَّلام- فقام بحيال جالوت لا يقوم ذَلِكَ المكان إِلَّا من يريد قتال جالوت فجعل الناس يسخرون من دَاوُد حين قام بحيال جالوت. وكان جالوت من قوم عاد عَلَيْه بيضة فيها ثلاثمائة رطل فَقَالَ جالوت: من أَيْنَ هَذَا الفتى؟ ارجع ويحك فَإِنِّي أراك ضعيفا وَلا أرى لك قوة وَلا أرى معك سلاحا ارجع فإني أرحمك فَقَالَ دَاوُد- عَلَيْه السَّلام-:
أَنَا أقتلك بإذن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-. فَقَالَ جالوت: بأي شيء تقتلني؟
وَقَدْ قمت مقام الأشقياء، وَلا أرى معك سلاحا إِلَّا عصاك هَذِهِ «6» هلم فاضربني بها ما شئت. وهي عصاه التي كان يرد بها غنمه. قَالَ دَاوُد: أقتلك بإذن الله، بما
__________
(1) سورة المطففّين: 4 وتمامها أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ.
(2) فى أ: جالوت.
(3) سورة الكهف: 96 وتمامها آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ نَارًا قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً.
(4) فى أ: والعصاة قوله سبحانه، والمعنى استجاب الله لأصحاب الفرقة فى العصاة.
(5) فى أ: زيادة الملكان. والمثبت من ل.
(6) فى أ: إلا عصى كهذه. والمثبت من ل. [.....](1/209)
شاء اللَّه. فتقدم جالوت ليأخذه بيده مقتدرا عَلَيْه فِي نفسه وَقَدْ صارت الحجارة الثلاثة حجرا واحدا [42 ب] فَلَمَّا دنا جالوت من دَاوُد أخرج الحجر من مخلاته وألقت الريح البيضة عن رأسه فرماه فوقع الحجر فِي دماغه حَتَّى خرج من أسفله «1» وانهزم الكفار وطالوت ومن معه وقوف ينظرون فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-:
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ «2» بحذافة فيها حجر واحد وقُتِل معه ثلاثون ألفا، وطلب دَاوُد نصف مال طالوت، ونصف ملكه فحسده طالوت عَلَى صنيعه وأخرجه. فذهب دَاوُد حَتَّى نزل قرية من قرى بني إِسْرَائِيل، وندم طالوت عَلَى صنيعه، فَقَالَ فِي نفسه: عمدت إلى خير أَهْل الأرض بعثه اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لقتل جالوت فطردته، وَلَم أفِ لَهُ وكان دَاوُد- عَلَيْه السَّلام- أحبّ إلى بني إِسْرَائِيل من طالوت فانطلق فِي طلب دَاوُد فطرق امرأة ليلا من قدماء بني إِسْرَائِيل تعلم اسم اللَّه الأعظم وهي تبكي عَلَى دَاوُد فضرب بابها فقالت:
من هَذَا؟ قَالَ «3» : أَنَا طالوت. فقالت: أَنْت أشقى الناس وأشرهم «4» ، هَلْ تعلم ما صنعت؟ طردت دَاوُد النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان أمره من اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وكانت لك آية فِيهِ من أمر الدرع وصفة أشماويل وظهوره عَلَى جالوت وقتل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-[به] أَهْل الأوثان فانهزموا. ثُمّ غدرت بداود وطردته هلكت يا شقي. فَقَالَ لها: إِنَّمَا أتيتك لأسالك ما توبتي. قَالَتْ توبتك أن تأتي مدينة بلقاء فتقاتل أهلها وحدك، فَإِن افتتحتها فهي توبتك فانطلق طالوت فقاتل أَهْل بلقاء وحده فقتل وعمدت بنو إِسْرَائِيل إلى دَاوُد- عَلَيْه السَّلام- فردوه وملكوه، وَلَم يجتمع بنو إسرائيل لملك قط غير داود
__________
(1، 2) فى أ: سفله. والمثبت من ل.
(3) فى أ: فقال.
(4) فى الأصل: أشره.(1/210)
عَلَيْه السَّلام فكانوا اثني عشر سبطا لكل سِبْط ملك بينهم «1» فذلك قوله- تبارك وتعالى-: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ يعني ملكه اثنا عشر سبطا وَالْحِكْمَةَ يعني الزبور وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ علمه صنعة الدروع، وكلام الدواب، والطير، وتسبيح الجبال، وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يَقُولُ اللَّه- سُبْحَانَهُ- لولا دفع اللَّه المشركين بالمسلمين لغلب المشركون عَلَى الأرض، فقتلوا الْمُسْلِمِين وخربوا المساجد والبيع والكنائس والصوامع، فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ يَقُولُ لهلكت الأرض نظيرها إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها «2» يعني أهلكوها وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ- 251- فِي الدفع عَنْهُمْ تِلْكَ آياتُ اللَّهِ يعني القرآن نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ- 252- تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَهُوَ مُوسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومنهم [43 أ] من اتخذه خليلا وَهُوَ إِبْرَاهِيم- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومنهم من أعطى الزبور وتسبيح الجبال والطير وَهُوَ دَاوُد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-، ومنهم من سخرت له الريح والشياطين وعلم منطق الطير وهو سليمان- صلى الله عليه وسلم-. ومنهم من يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين طيرا وَهُوَ عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فهذه الدرجات يعني الفضائل. قَالَ تَعَالَى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ «3» على بعض وَآتَيْنا
__________
(1) أخذ على مقاتل أنه أخذ علم الكتاب من اليهود والنصارى. وما أشبه هذه القصة بما أخذه مقاتل عن أهل الكتاب. فلم يرد ذلك عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. بل هو من إسرائيليات أهل الكتاب.
(2) سورة النمل: 34.
(3) وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ساقط من أ، ل.(1/211)
يقول وأعطينا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ يعني ما كان يصنع من العجائب وما كان يحيي من الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين ثُمّ قَالَ: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ يَقُولُ- سُبْحَانَهُ- وقويناه بجبريل- عَلَيْه السَّلام- ثُمّ قَالَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد عِيسَى ومُوسَى وبينهما ألف نبى أولهم موسى وآخرهم عِيسَى مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ يعني العجائب التي كان يصنعها «1» الْأَنْبِيَاء وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فصاروا فريقين فِي الدّين فذلك قوله سُبْحَانَهُ-: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ يعني صدق بتوحيد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ بتوحيد اللَّه وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ- 253- يعنى أراد ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ من الأموال فِي طاعة اللَّه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ يَقُولُ لا فداء فِيهِ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ فِيهِ ليعطيه بخلة «2» ما بَيْنَهُمَا وَلا شَفاعَةٌ فيه للكفار فِيهِ كفعل أَهْل الدُّنْيَا بعضهم فِي بعض فَلَيْس فِي الآخرة شيء من ذَلِكَ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ- 254- اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الَّذِي لا يموت الْقَيُّومُ القائم عَلَى كُلّ نفس لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ يعني ريح من قبل الرأس، فيغشى العينين، وَهُوَ وسنان بين النائم واليقظان. ثُمّ قَالَ- جلَّ ثناؤُهُ-: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الخلق عبيده وَفِي ملكه الملائكة وعزير وعيسى ابْن مريم وغيره مِمَّنْ يعبد مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ من الملائكة إِلَّا بِإِذْنِهِ يَقُولُ إِلَّا بأمره وذلك قوله- سُبْحَانَهُ- وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ يقول ما كان قبل خلق
__________
(1) فى أ: يصنعوها.
(2) فى أ: خلة، والمثبت من ل.(1/212)
الملائكة، وما كان بعد خلقهم. ثُمّ قَالَ: وَلا يُحِيطُونَ يعني الملائكة بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ الرب فيعلمهم ثم أخبر عن عظمة الرب- جل جلاله- فقال- سبحانه-: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كلها. كل قائمة للكرسي طولها مثل السموات السبع والأرضين السبع تحت الكرسي فى الصغر كحلقة بأرض فلاة. ثم أخبر عن قدرته فقال- عز وجل-: وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما يَقُولُ وَلا يثقل عَلَيْه وَلا يجهده حملهما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ- 255-[43 ب] الرفيع فوق كُلّ خلقه العظيم فلا أعظم منه شيء، يحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه، أقدامهم تحت الصَّخرة التي تحت الأرض السفلى، مسيرة خمس مائة عام، وما بين كُلّ أرض مسيرة مائة عام، ملك وجهه عَلَى صورة الإِنْسَان وَهُوَ سيد الصور، وَهُوَ يسأل الرزق للآدميين، وملك وجهه عَلَى صورة سيد الأنعام يسأل الرزق للبهائم وَهُوَ الثور، لَمْ يزل الملك الَّذِي عَلَى صورة الثور على وجهه كالغضاضة منذ عُبِدَ العجل من دون الرَّحْمَن- عَزَّ وَجَلّ-، وملك وجهه عَلَى صورة سيد الطير وَهُوَ يسأل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الرزق للطير وَهُوَ النسر. وملك عَلَى صورة سيد السباع وَهُوَ يسأل الرزق للسباع وَهُوَ الأسد. لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ لأحد بعد إسلام العرب إذا أقروا بالجزية، وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان لا يقبل الجزية إِلَّا من أَهْل الكتاب فَلَمَّا أسلمت العرب طوعا وكرها قبل الخراج، من غَيْر أَهْل الكتاب، فكتب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المنذر بن ساوى، وأهل هجر، يدعوهم إلى الْإِسْلام فكتب من محمد رسول الله إلى أَهْل هجر، سلام عَلَى من اتبع الهدى، أما بعد: إن من شهد شهادتنا، وأكل من ذبيحتنا، واستقبل قبلتنا،(1/213)
ودان «1» بديننا. فذلك المسلم الَّذِي لَهُ ذمة اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وذمة رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِن أسلمتم فلكم ما أسلمتم عليه، ولكم عشر الثمر، ولكم نصف عشر الحب فَمنْ أبى الْإِسْلام فعليه الجزية. فكتب المنذر إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إني قرأت كتابك إلى أهل هجر فمنهم من أسلم، ومنهم من أبى، فأما اليهود والمجوس فأقروا بالجزية، وكرهوا الْإِسْلام فقبل النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منهم بالجزية.
فقال منافقوا أَهْل المدينة:
زعم محمد أَنَّهُ لَمْ يؤمر أن يأخذ الجزية إِلَّا من أَهْل الكتاب فَمَا باله قبل من مجوس أَهْل هجر، وقد أبى ذَلِكَ عَلَى آبائنا وإخواننا حَتَّى قاتلهم عَلَيْه، فشق عَلَى الْمُسْلِمِين قولهم، فذكروه «2» للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأنزل اللَّه- عز وجل- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ ... آخر الآية «3» .
وأنزل الله- عز وجل- لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ بعد إسلام العرب قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ يَقُولُ قَدْ تبين الضلالة من الهدى فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ يعني الشَّيْطَان وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ بأنه واحد لا شريك لَهُ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى يَقُولُ أَخَذَ الثقة يعني الْإِسْلام التي لَا انْفِصامَ لَها يقول لا انقطاع له دون الجنة وَاللَّهُ سَمِيعٌ لقولهم عَلِيمٌ- 256- به اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يعني ولي الْمُؤْمِنِين بِاللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني من الشرك إلى الإيمان [44 أ] نظيرها فِي إِبْرَاهِيم أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «4» لأنه سبق لهم السعادة من اللَّه- تَعَالَى- فى علمه فلما بعث النبي-
__________
(1) فى أ: وأدان، وفى ل: ودان.
(2) فى أ: فذكر.
(3) سورة المائدة: 105 وتمامها يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
(4) سورة إبراهيم: 5.(1/214)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخرجهم اللَّه- سُبْحَانَهُ- من الشرك إلى الْإِيمَان ثُمّ قَالَ: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يعني اليهود أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يعني كَعْب ابن الأشرف يُخْرِجُونَهُمْ يعني يدعونهم مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ نظيرها فِي إِبْرَاهِيم قوله- سُبْحَانَهُ- أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ «1» ثُمّ قَالَ: يدعونهم من النور الَّذِي كانوا فِيهِ من إيمان بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل أن يبعث إلى كفر به بعد أن بعث وهي الظلمة أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ- 257- يعني لا يموتون أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ وَهُوَ نمروذ بن كنعان بن ريب بن نمروذ بن كوشى بن نوح وَهُوَ أول من ملك الأرض كلها وَهُوَ الَّذِي بنى الصرح ببابل أَنْ آتاهُ اللَّهُ يَقُولُ أن أَعْطَاه اللَّه الْمُلْكَ وذلك أن إِبْرَاهِيم- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين كسر الأصنام سجنه نمروذ ثُمّ أَخْرَجَهُ ليحرقه بالنار. فَقَالَ لإبراهيم- عَلَيْه السَّلام-:
من ربك إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وإياه أعبد ومنه أسأل الخير قالَ نمروذ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ «2» قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: أرني بيان الَّذِي تَقُولُ، فجاء برجلين فقتل أَحَدهمَا، واستحيا الآخر. وقَالَ «3» :
كان هَذَا حيا فأمته وأحييت هَذَا ولو شئت قتلته قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الجبار الَّذِي كَفَرَ بتوحيد الله- عَزَّ وَجَلّ- يَقُولُ بهت نمروذ الجبار فلم يدر ما يرد عَلَى إِبْرَاهِيم ثُمّ إن اللَّه- عَزَّ وجل- سلط على نمروذ بعوضة، بعد ما أنجا اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إبراهيم من النار، فعضت شفته فأهوى إليها فطارت فِي منخره فذهب ليأخذها
__________
(1) سورة إبراهيم: 5.
(2) فى أ: فقال. [.....]
(3) فى أ: قال.(1/215)
فدخلت خياشيمه، فذهب يستخرجها فدخلت دماغه فعذبه اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بها أربعين يومًا ثُمّ مات منها، وكان يضرب رأسه بالمطرقة، فإذا ضرب رأسه سكنت البعوضة وإذا «1» رفع عَنْهَا تحركت. فَقَالَ اللَّه- سُبْحَانَهُ-: وعزتي وجلالي لا تقوم الساعة حَتَّى آتي بها. يعني الشمس من قبل المغرب فيعلم من يرى ذَلِكَ أني أَنَا اللَّه قادر عَلَى أن أفعل ما شئت ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ- 258- إلى الحجَّة يعني نمروذ مثلها فِي براءة ... وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ «2» إلى الحجَّة أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها يعنى ساقطة على سقوفها، وذلك ان بخت نصر سبا أَهْل بابل، وفيهم عزير بن شرحيا «3» [44 ب] وكان من علماء بني إِسْرَائِيل وأنه ارتحل «ذات يوم عَلَى حمار أقمر، فمر عَلَى قرية تدعى سابور عَلَى شاطئ دجلة «4» » بين واسط والمدائن، وكان هذا بعد ما رفع عيسى بن مريم «5» ، فربط حماره فِي ظل شجرة، ثُمّ طاف فِي القرية فلم ير فيها ساكنا، وعامة شجرها حامل، فأصاب من الفاكهة والعنب والتين، ثُمّ رجع إلى حماره فجلس يأكل من الفاكهة، وعصر من العنب فشرب منه فجعل فضل الفاكهة فِي سلة، وفضل العصير فى الزق، فلما رأى
__________
(1) فى أ: فإذا.
(2) سورة التوبة: 19 وتمامها أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.
(3) فى أ: شرحيا. ل: سرحيا.
(4) فى ل: ذات يوم من قرية تدعى سابور إباذ على حمار أقمر على شاطى دجلة. وفى أ: ذات يوم فمر على قرية تدعى سابور على حمار أقمر فنزل دير هرقل قرية على شاطئ دجلة.
(5) فى أ: زيادة صلى الله عليه وسلم. والمثبت من ل.(1/216)
خراب القرية وهلاك أهلها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ يعني أَهْل هَذِهِ القرية بَعْدَ مَوْتِها بعد هلاكهم. لَمْ يشك فِي البعث ولكنه أحبّ أن يريه اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- كيف يبعث الموتى كَمَا سأل إِبْرَاهِيم- عَلَيْه السَّلام- ربه- عَزَّ وجل- أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى «1» فَلَمَّا تكلم بِذَلِك عزير أراد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أن يعلمه كيف يحييها بعد موتها فَأَماتَهُ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلّ- وأمات حماره مِائَةَ عامٍ فحيى والفاكهة والعصير مَوْضُوع عنده ثُمَّ بَعَثَهُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي آخر النهار بعد مائة عام. لَمْ يتغير طعامه وشرابه فنودي في السماء قالَ كَمْ لَبِثْتَ يا عزير ميتا قالَ لَبِثْتُ يَوْماً فالتفت فرأى الشمس فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ له بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ ميتا، ثُمّ أخبره ليعتبر، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ يعني الفاكهة فِي السلة وَشَرابِكَ يعني العصير لَمْ يَتَسَنَّهْ «يَقُولُ لَمْ يتغير طعمه بعد مائة عام، نظيرها فى سورة محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ «2» » فَقَالَ سبحان اللَّه، كيف لَمْ يتغير طعمه، ونظر إلى حماره، وَقَدْ «3» ابيضت عظامه، وبليت وتفرقت أوصاله، فنودي من السماء، أيتها العظام البالية اجتمعي فَإِن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- منزل عليك روحا، فسعت «4» العظام بعضها إلى بعض الذراع إلى العضد، والعضد إلى المنكبين والكتف، وسعت الساق إلى الركبتين والركبتان إلى الفخذين، والفخذان إلى الوركين والتصق «5» الوركان بالظهر، ثُمّ وقع الرأس على الجسد
__________
(1) سورة البقرة: 260.
(2) فى أ: يقول لم يتغير نظيرها فى سورة محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ بعد مائة عام والآية 15: سورة محمد.
(3) فى أ: قد.
(4) فى أ: فسعى، ل: فسعت.
(5) فى الأصل: التزق.(1/217)
وعزير ينظر ثُمّ ألقى عَلَى العظام العروق والعصب، ثُمّ رد عَلَيْه الشعر ثُمّ نفخ فِي منخره الروح. فقام الحمار ينهق عِنْد رأسه. فأعلم كيف يبعث أَهْل هَذِهِ القبور بعد هلاكهم وبعث حماره بعد مائة عام كَمَا لَمْ يتغير طعامه وشرابه، وبعث بعد طوال الدَّهْر ليعتبر بِذَلِك- فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ يعنى لم يتغير طعمه كقوله فى سورة محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ يعني عبرة لأنه بعثه شابا بعد مائة سنة وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ يعني عظام الحمار كَيْفَ نُنْشِزُها يعنى نحييها نظيرها [45 أ] أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ «1» يعني يبعثون الموتى ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ يعني لعزير كيف يحيي اللَّه الموتى، خر للَّه ساجدا قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- 259- يعني من البعث وغيره، فرجع عزير إِلَى أهله وَقَدْ هلكوا وبيعت داره وبنيت فردت عَلَيْه «2» وانتسب عزير إلى أولاده فعرفوه وعرفهم وأعطي عزير العلم «من بعد ما بعث بعد مائة عام» «3» وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى وذلك أَنَّهُ رَأَى جيفة حمار عَلَى شاطئ البحر تتوزعه دواب البر والبحر والطير فنظر إليها ساعة ثُمّ قَالَ: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ يا إِبْرَاهِيم، يعني قَالَ أَوَلَمْ تصدق بأني أحيي الموتى يا إِبْرَاهِيم قالَ بَلى صدقت وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ليسكن قلبي بأنك أريتني الَّذِي أردت قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ قَالَ خُذْ ديكا وبطة وغرابا وحمامة فاذبحهن يَقُولُ قطعهن ثُمّ خالف بين مفاصلهن وأجنحتهن فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ بلغة النبط صرهن «4» قطعهن، واخلط
__________
(1) سورة الأنبياء: 21.
(2) فى أ: فردها عليه.
(3) فى أ: بعد ما بعث مائة عام. والمثبت من ل. [.....]
(4) فى أ، ل: صربه.(1/218)
ريشهن ودماءهن ثُمّ خالف «1» بين الأعضاء والأجنحة واجعل مقدم الطير مؤخر طير آخر ثُمّ فرقهن عَلَى أربعة أجبال ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً فيها تقديم فدعاهن فتواصلت الأعضاء والأجنحة فأجابته جميعًا لَيْسَ معهن رءوسهن ثم وضع رءوسهن عَلَى أجسادهن ففقت «2» البطة، وصوت الديك، ونعق الغراب، وقرقر «3» الحمام يَقُولُ خذهن فصرهن وادعهن يسعين عَلَى أرجلهن عِنْد غروب الشمس وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «4» - 260- فَقَالَ عِنْد ذَلِكَ أعْلَم أن اللَّه عزيز فِي ملكه حكيم يعني حكم البعث يَقُولُ كَمَا بعث هَذِهِ الأطيار الأربعة من هَذِهِ الجبال «5» الأربعة فكذلك يبعث اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الناس من أرباع الأرض كلها ونواحيها وكان هَذَا بالشام وكان أمر الطير قبل أن يكون له ولد وقبل أن تنزل عليه الصحف وهو ابْن خمس وسبعين سنة مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني في طاعة الله- عَزَّ وَجَلّ- كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ يَقُولُ أخرجت سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ لتلك الأضعاف عَلِيمٌ- 261- بما تنفقون الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ- 262-[عند] الموت نزلت فى عثمان ابن عَفَّان- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- فِي نفقته فِي غزاة تبوك وَفِي شرائه «6» رومة ركية بالمدينة وتصدقه «7» بها عَلَى الْمُسْلِمِين، وَفِي عَبْد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- حين تصدق بأربعة آلاف دِرْهَم كُلّ دِرْهَم مثقال وكان نصف ماله.
__________
(1) فى أ، ل: يخالف.
(2) فى ل: فقت، أ: ففقمت.
(3) الأنسب وقرقرت الحمامة.
(4) ما بين الأقواس « ... » ساقط من أ، ل.
(5) فى أ: الأجبال.
(6) فى أ: شراء.
(7) فى أ: وتصدق.(1/219)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ يعني قول حسن يعني دعاء الرجل [45 ب] لأخيه المسلم إذا جاء وهُوَ فقير يسأله فلا يعطيه شيئًا يدعو بالخير لَهُ وَمَغْفِرَةٌ يعني وتجاوز عَنْهُ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يعطيه إياها يَتْبَعُها أَذىً يعني المن وَاللَّهُ غَنِيٌّ عما عندكم من الصدقة حَلِيمٌ- 263- حين لا يعجل بالعقوبة عَلَى من يمن بالصدقة ويؤذي فيها المعطى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى يَقُولُ يمن بها فَإِن ذَلِكَ أذى لصاحبها وكل صدقة يمن بها صاحبها عَلَى المعطى فَإِن المن يبطلها «1» فضرب اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- مثل لذلك: كَالَّذِي «2» يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ يَقُولُ وَلا يصدق بأنه واحد لا شريك لَهُ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَقُولُ وَلا يصدق بالبعث الَّذِي فِيهِ جزاء الأعمال أَنَّهُ كائن فمثله يعني مثل الَّذِي يمن «3» بصدقته كمثل مشرك أنفق ماله فِي غَيْر إيمان فأبطل شركه الصدقة كَمَا أبطل المن والأذى صدقة الْمُؤْمِن ثُمّ أخبر عمن مَنَّ بها عَلَى صاحبه فلم يعط عَلَيْهَا أجرا وَلا ثوابا ثُمّ ضرب اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لهما مثلا فَقَالَ فِي مثله: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ يعني الصفا عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ يعني المطر الشديد فَتَرَكَهُ صَلْداً يَقُولُ ترك المطر الصفا صلدا نقيا أجرد لَيْسَ عَلَيْه تراب فكذلك المشرك الَّذِي ينفق فِي غَيْر إيمان وينفق رئاء الناس وكذلك صدقة الْمُؤْمِن إذا منَّ بها، وذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا يقول لا يقدرون على ثواب شيء مما أنفقوا يَوْم الْقِيَامَة وذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ- مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى ثواب شَيْءٍ «4» يَوْم الْقِيَامَة كَمَا لَمْ يبق عَلَى الصفا شيء من التراب حين أصابه المطر
__________
(1) فى أ: فإنه يبطله المن.
(2) فى أ: الذي.
(3) فى أ: ينفق، ل: يمن.
(4) سورة إبراهيم: 18.(1/220)
الشديد وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ- 264- ثُمّ ذكر نفقة الْمُؤْمِن الذي يريد بنفقته وجه اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَلا يمن بها فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني وتصديقا من قلوبهم فهذا مثل نفقة الْمُؤْمِن التي «1» يريد بها وجه اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَلا يمن بها كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ يعني بستان فِي مكان مرتفع مستو «2» تجري من تحتها الأنهار أَصابَها «3» يعني أصاب الجنة وابِلٌ يعني المطر الكثير الشديد فَآتَتْ أُكُلَها يَقُولُ أضعفت ثمرتها فِي الحمل ضِعْفَيْنِ فكذلك الذي ينفق ماله للَّه- عَزَّ وَجَلّ- من غير من يضاعف لَهُ نفقته إن كثرت أَوْ قَلّت كَمَا أن المطر إذا اشتد أَوْ قل أضعف ثمرة الجنة حين أصابها وابل فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ أَي أصابها عطش من المطر وَهُوَ الرذاذ مثل الندى [46 أ] وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ يعني بما تنفقون بَصِيرٌ- 265- أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ هَذَا مثل ضربه- عَزَّ وَجَلّ- لعمل الكافر: جنة مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ يعني عجزة لا حيلة لهم فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ يعني ريح فيها نار يعني فيها سموم حارة فَاحْتَرَقَتْ يَقُولُ مثل الكافر كمثل شيخ كبير لَهُ بستان فِيهِ من كُلّ الثمرات وَلَهُ ذرِّيَّة أولاد صغار يعني عجزة لا حيلة لهم فمعيشته ومعيشة ذريته من بستانه فأرسل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عَلَى بستانه السموم الحارة فأحرقت بستانه فلم يَكُنْ لَهُ قوة من كبره أن يدفع عن جنته، وَلَم تستطع ذريته الصغار أن يدفعوا عن جنتهم التي كانت معيشتهم منها حين احترقت، وَلَم يكن للشيخ قوة أن يغرس
__________
(1) فى أ: الذي.
(2) فى أ: مستوى. [.....]
(3) ساقطة من أ، ل.(1/221)
مثل جنته وَلَم يَكُنْ عِنْد ذريته خير فيعودون به على أبيهم عند ما كان أحوج «1» إلى خير يصيبه، وَلا يجد خيرًا، وَلا يدفع عن نفسه عذابا كَمَا لَمْ يدفع الشَّيْخ الكبير وَلا ذريته عن جنتهم شيئًا حين احترقت وَلا يرد الكافر إلى الدُّنْيَا فيعتب كَمَا لا يرجع الشَّيْخ الكبير شابا فيغرس جنة مثل جنته وَلَم يقدم لنفسه خيرًا، فيعود عَلَيْه فِي الآخرة وَهُوَ أحوج ما يَكُون «2» إِلَيْهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ عِنْد ولده شيئًا فيعودون به عَلَى أبيهم، ويحرم الخير فِي الآخرة عِنْد شدة حاجته إليه كما حرم «3» جنته عند ما كان أحوج ما يَكُون إليها عِنْد كبر سنه وضعف ذريته كَذلِكَ يعني هكذا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ يعني يبين اللَّه أمره لَعَلَّكُمْ «4» يَقُولُ لكي تَتَفَكَّرُونَ- 266- فِي أمثال اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فتعتبروا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا كَسَبْتُمْ يَقُولُ أنفقوا من الحلال مما رزقناكم من الأموال الفضة والذهب وغيره وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وأنفقوا من طيبات الثمار والنبات.
وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم-: أمر الناس بالصدقة قبل أن تنزل آية الصدقات فجاء رَجُل بعزق «5» من تمر عامته حشف فوضعه فِي المسجد مَعَ التمر فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: من جاء بِهَذَا فقالوا لا ندري «فأمر النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يعلق العزق» «6»
فَمنْ نظر إِلَيْهِ قَالَ بئس ما صنع صاحب هَذَا «7» فَقَالَ الله- عز وجل-: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ يَقُولُ وَلا تعمدوا إلى الحشف من التمر الرديء من طعامكم للصدقات مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ
__________
(1) فى أ، ل: عند أحوج ما كان.
(2) فى أ، ل: كان.
(3) فى أ: أحرمه، ل: حرم.
(4) ساقطة من أ، ل.
(5) فى أ: بعذق، ل: بعرق.
(6) فى أ: فأمر النبي- صلى الله عليه فعلق.
(7) ورد ذلك فى أسباب النزول للسيوطي: 41. وفى أسباب النزول للواحدي: 48.(1/222)
يعني الرديء بسعر الطيب لأنفسكم يَقُولُ لو كان لبعضكم عَلَى بعض حق لَمْ يأخذ دون حقه، ثُمّ استثنى فَقَالَ. إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ يقول [46 ب] إِلَّا أن يهضم بعضكم عَلَى بعض حقه فيأخذ دون حقه وَهُوَ يعلم أَنَّهُ رديء فيأخذه «1» عَلَى علم وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عما عندكم من الأموال حَمِيدٌ- 267- عِنْد خلقه فى ملكه وسلطانه. ثم قال- سبحانه-: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ عِنْد الصدقة ويأمركم أن تمسكوا صدقتكم: فلا تنفقوا فلعلكم تفتقرون «2» وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ يعني المعاصي يعني بالإمساك عن الصدقة وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ عِنْد الصدقة مَغْفِرَةً مِنْهُ لذنوبكم ويعدكم وَفَضْلًا يعني الخلف من صدقتكم فيجعل لَكُم الخلف بالصدقة فِي الدُّنْيَا ويغفر لَكُم الذنوب فِي الآخرة وَاللَّهُ واسِعٌ لذلك الْفَضْل عَلِيمٌ- 268- بما تنفقون. وذلك قوله- سُبْحَانَهُ- فِي التغابن إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «3» يعني به الصدقة محتسبا طيبة بها نفسه يضاعفه لَكُمْ فِي الدُّنْيَا، ويغفر لَكُمْ بالصدقة فِي الآخرة يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ يَقُولُ ومن يعط الحكمة وهي علم القرآن «4» والفقه فيه فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً يَقُولُ فقد أعطى خيرًا كثيرًا وَما يَذَّكَّرُ فيما يسمع إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ- 269- يعني أَهْل اللب والعقل. ثُمّ قَالَ: وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ من خير من أموالكم فِي الصدقة أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فى حق فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ يَقُولُ فَإِن اللَّه يحصيه وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ- 270- يعنى للمشركين من مانع من النار. قوله- سبحانه-: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ يَقُولُ إن تعلنوها فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها
__________
(1) فى أ: فيأخذ.
(2) فى أ: فلا تنفقوا ولعلكم تتقون. والمثبت من ل.
(3) سورة التغابن: 17 وتمامها إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ.
(4) فى أ: على، ل: علم(1/223)
يعني تسروها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من العلانية وأعظم أجرا يضاعف سبعين ضعفا «1» وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ بصدقات السر والعلانية مِنْ سَيِّئاتِكُمْ من ذنوبكم يعنى ذنوبكم أجمع ومن هاهنا صلة: وكل مقبول: السر والعلانية وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ- 271- لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ نزلت فِي المشركين، لأنه يأمر بالصدقة عليهم من غَيْر زكاة، نزلت فِي أسماء بِنْت أَبِي بَكْر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- سَأَلت النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن صلة جدها أَبِي قحافة وعن صلة امرأته وهما كافران فكأنه شق عَلَيْه «2» صلتهما فنزلت «لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ» يعني أبا قحافة وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى دينه الْإِسْلام وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يعني المال فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يعني المال يُوَفَّ إِلَيْكُمْ يعني توفر لَكُمْ أعمالكم وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ- 272- فيها ثُمّ بين عَلَى من ينفق فَقَالَ:
النفقة لِلْفُقَراءِ «3» الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَقُولُ حبسوا نظيرها فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ «4» يعني حبستم. وأيضا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً «5» يعني محبسا. الَّذِينَ أُحْصِرُوا حبسوا أنفسهم بالمدينة [47 أ] فِي طاعة اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فهم أصحاب الصفة. قَالَ حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ عن أبيه عن هذيل بن حبيب عن مقاتل ابن سُلَيْمَان: منهم ابْن مَسْعُود وأَبُو هُرَيْرَة والموالي أربعمائة رجل لا أموال لهم
__________
(1) فى أ: زيادة يعنى.
(2) فى أ: عليها. وفى أسباب النزول للسيوطي: 42 هذه القصة وأضاف فيها المشقة إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم. [.....]
(3) فى أ: للفقراء المهاجرين.
(4) سورة البقرة: 196 وأولها وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ.
(5) سورة الإسراء: 8 وتمامها عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً.(1/224)
بالمدينة، فإذا كان الليل آووا إلى صفة المسجد فأمر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بالنفقة عليهم لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يعني سيرا كقوله- سُبْحَانَهُ- وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ «1» يعني إذا سرتم فِي الأرض يعني التجارة يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ بأمرهم وشأنهم أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ يعني بسيما الفقر عليهم لتركهم المسألة لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً فيلحفون فِي المسألة وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يعني من مال كقوله- عَزَّ وَجَلّ- إِنْ تَرَكَ خَيْراً «2» يعني مالا للفقراء أصحاب الصفة فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ- 273- يعني بما أنفقتم عليم. الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فى الصدقة بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً
نزلت في علي بن أبي طالب- رضي اللَّه عَنْهُ- لَمْ يَمْلك غَيْر أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا، وبدرهم نهارا وبدرهم سرا، وبدرهم علانية، فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما حملك عَلَى ذَلِكَ. قَالَ: حملني أن أستوجب من اللَّه الَّذِي وعدني. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-:
الآن لك ذَلِكَ قَالَ فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِيهِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً «3»
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ- 274- عند الموت الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا استحلالا
__________
(1) سورة النساء: 101.
(2) سورة البقرة: 180.
(3) ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي: 50.
وقال السيوطي فى أسباب النزول: 42 (أخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن أبى حاتم والطبراني بسند ضعيف عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في علي بن أبي طالب، كانت معه أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما وبالنهار درهما وسرا درهما وعلانية درهما.
وأخرج ابن المنذر عن ابن المسيب قال: الآية نزلت فى عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان فى نفقتهما فى جيش العسرة.
فإسناد الإنفاق إلى على سنده ضعيف. ومقاتل نفسه شيعى زيدي وفى تفسيره: يروى الآثار الواردة فى حق على ولو كان سندها ضعيفا) .(1/225)
لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ فِي الدُّنْيَا وذلك علامة أكل الربا ذلِكَ الَّذِي نزل بهم يوم الْقِيَامَة بِأَنَّهُمْ قالُوا «1» إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا فأكذبهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فَقَالَ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فكان الرَّجُل إذا حل ماله فطلبه فيقول المطلوب زدني فِي الأجل، وأزيدك عَلَى مَالِك، فيفعلان ذَلِكَ فإذا قِيلَ لهم إن هَذَا ربا، قالوا: سواء زدت فى أول البيع أَوْ فِي آخره عِنْد محل المال فهما سواء فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ يعني البيان فِي القراءة فَانْتَهى عن الربا فَلَهُ ما سَلَفَ يَقُولُ ما أكل من الربا قبل التحريم وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ بعد التحريم وبعد تركه. إن شاء عصمه من الربا وإن شاء لَمْ يعصمه قَالَ: وَمَنْ عادَ فأكله استحلالا، لقولهم إِنَّمَا الْبَيْعُ مثل الربا. يخوف أكلة الربا فِي الدُّنْيَا أن يستحلوا أكله فقال [47 ب] : فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ- 275- لا يموتون. ثم قال- سبحانه-:
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا فيضمحل وينقص وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ يعني ويضاعف الصدقات «2» وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ- 276- بربه- عَزَّ وَجَلّ- إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ المكتوبة فِي مواقيتها وَآتَوُا الزَّكاةَ يعني وأعطوا الزكاة من أموالهم لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ- 277- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلا تعصوه وَذَرُوا يعني واتقوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- 278-
__________
(1) فى أ: لأنهم. وفى حاشية أ: القراءة بأنهم.
(2) فى أ: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ فيضمحل وينقص وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ يعني ويضاعف الصدقات.(1/226)
نزلت فِي أربعة إخوة من ثقيف «1» مَسْعُود، وحبيب، وربيعة، وعبد ياليل، وهم بنو عمرو بن عُمَيْر بن عَوْف الثَّقَفيّ كانوا يداينون بني المُغِيرَة بن عَبْد اللَّه بن عُمَر ابن مَخْزُوم. وكانوا يربون «2» لثقيف فَلَمَّا أظهر اللَّه- عز وجل- النبي- صلى الله عليه وسلم- عَلَى الطائف اشترطت ثقيف أن كل ربا لهم عَلَى الناس فهو لهم وكل ربا للناس عليهم فهو مَوْضُوع عَنْهُمْ فطلبوا رباهم إلى بني المُغِيرَة فاختصموا إلى عتاب بن أسيد بن أَبِي العيص بن أمية-
كان النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استعمله عَلَى مكة. وقَالَ لَهُ: أستعملك عَلَى أَهْل اللَّه.
وقالت بنو المُغِيرَة: أجعلنا أشقى الناس بالربا، وَقَدْ وضعه عن الناس؟ فقالت ثقيف:
إنا صالحنا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن لنا ربانا فكتب عتاب إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي المدينة «3» . بقصة الفريقين. فأنزل الله- تبارك وتعالى- بالمدينة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني ثقيفا «اتَّقُوا اللَّهَ» «4» وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا الآية. لأنه لَمْ يبق غَيْر رباهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فأقروا بتحريمه فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وتقروا بتحريمه فَأْذَنُوا يعني فاستيقنوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يعني الكفر وَإِنْ تُبْتُمْ من استحلال الربا وأقررتم بتحريمه فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ التي أسلفتم لا تزدادوا لا تَظْلِمُونَ أحدا إذا لَمْ تزدادوا عَلَى أموالكم وَلا تُظْلَمُونَ- 279- فتنقصون من رءوس أموالكم. فبعث النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذه الآية إلى عتاب بن أُسَيْد بمكة فأرسل عتاب إلى بني عمرو بن عُمَيْر فقرأ عليهم الآية. فقالوا: بل نتوب إلى الله- عز وجل
__________
(1) ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي: 50، 51. وفى أسباب النزول للسيوطي: 42.
(2) فى أ: يدينون. وفى الواحدي: يربون.
(3) فى أ: إلى.
(4) ما بين الأقواس « ... » : ساقط من أ، ل.(1/227)
- ونذر ما بقي من الربا فَإنَّهُ لا يدان «1» لنا بحرب اللَّه ورسوله فطلبوا رءوس أموالهم إلى بني المُغِيرَة فاشتكوا العسرة. فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: وَإِنْ كانَ المطلوب ذُو عُسْرَةٍ من القوم يعني بني المُغِيرَة فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ يَقُولُ فأجله إلى غناه كقوله- سُبْحَانَهُ- أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ «2» يقول أجلنى وَأَنْ تَصَدَّقُوا [48 أ] به كله عَلَى بني المُغِيرَة وهم معسرون فلا تأخذونه فهو خَيْرٌ لَكُمْ من أخذه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ- 280- وَاتَّقُوا يَوْماً يخوفهم تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى يعني «3» تُوفى كُلُّ نَفْسٍ بر وفاجر ثواب ما كَسَبَتْ من خير وشر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ- 281- فِي أعمالهم وهذه آخر آية نزلت من القرآن، ثُمّ تُوُفّي النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- بعدها بتسع ليال، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ يعني اكتبوا الدّين والأجل وَلْيَكْتُبْ الكاتب بين البائع والمشترى بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ يعدل بَيْنَهُمَا فِي كتابه فلا يزداد عَلَى المطلوب وَلا ينقص من حق الطالب وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ الكتابة وذلك أن الكتاب كانوا قليلا عَلَى عهد رَسُول اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ فَلْيَكْتُبْ الكاتب وَلْيُمْلِلِ عَلَى الكاتب الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ يعني المطلوب ثُمّ خوف المطلوب فَقَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً يعني وَلا ينقص المطلوب من الحق شيئًا كقوله- عَزَّ وَجَلّ-:
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ «4» فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً يعني جاهلا بالإملاء أَوْ ضَعِيفاً يعني أَوْ عاجزا أَوْ به حمق أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ لا يعقل الإملاء لعيه أو لخرسه أَوْ لسفهه ثُمّ رجع إلى الَّذِي لَهُ الحق فقال
__________
(1) فى أ: لا يداين. وفى أسباب النزول للواحدي: لا يدان.
(2) سورة الأعراف: 14. [.....]
(3) هكذا فى أ.
(4) سورة الأعراف: 85.(1/228)
- سُبْحَانَهُ-: فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ يعني وَلِي الحق فليملل هُوَ بِالْعَدْلِ يعني بالحق وَلا يزداد شيئًا وَلا ينقص كَمَا قَالَ للمطلوب قبل ذَلِكَ وأمر كليهما بالعدل، ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَاسْتَشْهِدُوا عَلَى حقكم شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ يَقُولُ وَلا يشهد الرَّجُل عَلَى حقه إِلَّا مرضيا إن كان «1» الشاهد رَجُلا أَوْ امرأة. ثُمّ قَالَ: أَنْ تَضِلَّ المرأة يعني أن تنسى إِحْداهُما الشهادة فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الشهادة الْأُخْرى يَقُولُ تذكرها المرأة الأخرى التي حفظت شهادتهما ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-:
وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا يَقُولُ إذا ما دعي الرَّجُل ليستشهد عَلَى أَخِيهِ فلا يأب إن كان فارغا. ثُمّ قال: وَلا تَسْئَمُوا يَقُولُ ولا تملوا وكل شيء في القرآن تسأموا يعني تملوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً يعني قليل الحق وكثيره إِلى أَجَلِهِ لأن الكتاب أحصى للأجل وأحفظ للمال ذلِكُمْ يعني الكتاب أَقْسَطُ يعني أعدل عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ يعنى وأصوب لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا يعني وأجدر ألا تشكوا نظيرها «ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ» «2» أَيّ أجدر «3» .
ونظيرها فِي الأحزاب «ذلِكَ أَدْنى» [48 ب] يعنى أجدر أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ «4» فِي الحق والأجل وَالشَّهَادَةِ إذا كان مكتوبا ثُمّ رخص فِي الاستثناء فَقَالَ:
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ وليس فيها أجل فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ
__________
(1) فى حاشية أ: يحتمل أنه وامرأتين.
(2) سورة المائدة: 108.
(3) فى أ: ذلك أدنى- أجدر- أن يأتوا بالشهادة.
(4) سورة الأحزاب: 51 وتمامها تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً.(1/229)
يعني حرج أَلَّا تَكْتُبُوها يعني التجارة الحاضرة إذا كَانَتْ يدا بيد عَلَى كُلّ حال وَأَشْهِدُوا عَلَى حقكم إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ يَقُولُ لا يعمد أحدكم إلى الكاتب والشاهد فيدعوهما إلى الكتابة وَالشَّهَادَةِ ولهما حاجة: فيقول اكتب لي فَإِن اللَّه أمرك أن تكتب لي فيضاره بِذَلِك وهو يجد غيره، وَيَقُولُ للشاهد وَهُوَ يجد غيره اشهد لي عَلَى حقي، فَإِن الله قَدْ أمرك أن تشهد عَلَى حقي، وَهُوَ يجد غيره من يشهد لَهُ عَلَى حقه فيضاره بِذَلِك، فأمر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أن يتركا لحاجتهما ويلتمس غيرهما وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ يَقُولُ وإن تضاروا الكاتب والشاهد وما نهيتم عَنْهُ فَإنَّهُ إثم بكم، ثُمّ خوفهم فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تعصوه فيهما وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ- 282- من أعمالكم عليم. ثُمّ قَالَ: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ يَقُولُ إذا لَمْ يَكُن الكاتب والصحيفة حاضرين «1» فليرتهن الَّذِي عَلَيْه الحق من المطلوب فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي السَّفَر فَإِن كان الَّذِي عَلَيْه الحق أمينا عِنْد صاحب الحق فلم يرتهن منه لثقته به، وحسن ظنه [فَلْيُؤَدِّ ذَلِكَ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ يَقُولُ ليرد عَلَى صاحب الحق حقه حين ائتمنه وَلَم يرتهن منه. ثُمّ خوفه اللَّه- عز وجل- فقال: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ يعني الَّذِي عَلَيْه الحق «2» ] . ثُمّ رجع إلى الشهود فقال: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ عِنْد الحاكم يَقُولُ من أشهد عَلَى حق فليشهد بها عَلَى وجهها كَمَا كَانَتْ عِنْد الحاكم
__________
(1) فى أ، ل: حاضر.
(2) فى أ، ل: ما بين الأقواس [فخوفه الله- عز وجل- فقال: وَلْيَتَّقِ اللَّهَ يعنى الذي عليه الحق «فليؤد» ذلك الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ يَقُولُ ليرد عَلَى صاحب الحق حقه حين ائتمنه ولم يرتهن منه] وهو مخالف لترتيب القرآن. فعدلته.(1/230)
فلا تكتموا الشهادة، قال: (وَمَنْ يَكْتُمْها) ولا يشهد بها عند الحاكم فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من كتمان الشهادة وإقامتها عَلِيمٌ- 283- لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الخلق عبيده وَفِي ملكه يقضي فيهم ما يريد وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يقول إن تعلنوا بألسنتكم ما فِي قلوبكم من ولاية الكفار والنصيحة أَوْ تسروه يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من العذاب والمغفرة قَدِيرٌ- 284- فَلَمَّا نزلت هَذِهِ الآية قَالَ المسلمون: يا رَسُول اللَّه، إنا نحدث أنفسنا بالشرك والمعصية، أفيحاسبنا اللَّه بها وَلا نعملها؟ فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي قولهم فِي التقديم لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها يَقُولُ لا يكلفها من العمل إِلَّا ما أطاقت لَها ما كَسَبَتْ من الخير [49 أ] وما عملته وتكلمت به وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من الإثم. فنسخت هَذِهِ الآية قوله- سُبْحَانَهُ-: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ «1» قَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْد ذَلِكَ:
إن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- تجاوز عن أمتي ما حدثوا به أنفسهم ما لم يعملوه أو يتكلموا به. قوله- سُبْحَانَهُ-: آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ يَقُولُ صدق محمد بما أنزل إِلَيْهِ من ربه من القرآن، ثُمّ قَالَ: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ يَقُولُ كُلّ صدق بِاللَّه بأنه واحد لا شريك له وَصدق ب مَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ يَقُولُ لا يكفر بأحد من رسله فكل هَذِهِ الرسل صدق بهم المؤمنون لا نُفَرِّقُ «2» بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ كفعل أَهْل الكتاب آمنوا ببعض الكتب وببعض الرسل فذلك التفريق فأما اليهود فآمنوا بموسى وبالتوراة وكفروا بالإنجيل والقرآن، وأما النَّصارى فآمنوا بالتوراة والإنجيل وبعيسى- صلى الله
__________
(1) فى أ: يحاسبكم الله.
(2) فى أ: ثم لم يفرقوا.(1/231)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكفروا بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالقرآن وَقالُوا «1» فَقَالَ المؤمنون بعد ذَلِكَ: سَمِعْنا قول ربنا فِي القرآن وَأَطَعْنا أمره. ثم قال لهم بعد ما أقروا بالنَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والكتب: أن غُفْرانَكَ رَبَّنا يَقُولُ قولوا وأعطنا مغفرة منك يا ربنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ- 285- يَقُولُ المرجع إليك فى الآخرة. ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها يَقُولُ لا يكلفها من العمل إِلَّا ما أطاقت لَها ما كَسَبَتْ من الخير وما عملت أَوْ تظلمت به وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ من الإثم ثُمّ علم جبريل «2» النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يَقُولُ: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا يَقُولُ إن جهلنا عن شيء أَوْ أخطأنا، فتركنا أمرك قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: ذَلِكَ لك. ثُمّ قَالَ: رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً يعني عهدا كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا ما كان حرم عليهم من لحوم الإبل وشحوم الغنم ولحوم كُلّ ذِي ظفر يَقُولُ لا تفعل ذَلِكَ بأمتي بذنوبها كَمَا فعلته ببني إِسْرَائِيل فجعلتهم قردة وخنازير قَالَ اللَّه- تَعَالَى-: ذَلِكَ لك.
ثُمّ قَالَ: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا يَقُولُ واعف عنا من ذَلِكَ وَاغْفِرْ لَنا يَقُولُ وتجاوز عنا، عن ذنوبنا من ذَلِكَ كله واغفر وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا يَقُولُ أَنْت ولينا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ- 286- يعني كفار مكة وغيرها إلى يوم الْقِيَامَة قَالَ اللَّه- تَعَالَى-: ذَلِكَ لك. فاستجاب اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لَهُ ذَلِكَ فيما سَأَلَ وشفعه فِي أمته وتجاوز لها عن الخطايا والنسيان وما استكرهوا عَلَيْه. فَلَمَّا نزلت قرأهن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أمته وأعطاه الله- عز وجل-[49 ب] هَذِهِ الخصال كلها فِي الآخرة وَلَم يعطها أحدا من الأمم الخالية.
__________
(1) فى أ: فقال.
(2) فى أ: جبريل عليه السلام.(1/232)
قال: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بن ثابت، قال: حَدَّثَنِي الْهُذَيْلُ عن مُقَاتِلٍ، قَالَ:
بلغني أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- كتب كتابا قبل أن يخلق السموات والأرض بألفي عام فهو عنده على العرش فأنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة آمَنَ الرَّسُولُ ...
إلى آخرها. فَمنْ قرأها فِي بيته لَمْ يدخله الشَّيْطَان ثلاثة أيام ولياليهن.
قَالَ: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أبي عن الْهُذَيْلِ أَبِي صَالِح عن مُقَاتِلٍ بن سُلَيْمَان فِي قوله:
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ قَالَ: فَقَالَ أَبُو الدحداح:
يا رَسُول اللَّهِ إن تصدقت بصدقة أفلي مثلها فِي الجنة؟ قَالَ: نعم. قَالَ: والصبية معي؟ قَالَ: نعم. قَالَ: وأم الدحداح معي؟ قَالَ: نعم. قَالَ: وكان لَهُ حديقتان إحداهما تسمى الجنة، والأخرى الجنينة وكانت الجنينة أفضل من الجنة. قَالَ:
يا رَسُول اللَّهِ، أشهد بأني قَدْ تصدقت بها عَلَى الفقراء أَوْ بعتها من اللَّه ورسوله فَمنْ يقبضها (قَالَ وجاء إلى باب الحديقة فتحرج أن يدخلها إذ جعلها للَّه ورسوله فصاح «1» » :
«يا أم الدحداح هداك الهادي إلى سبيل القصد والرشاد بيني من الحائط الَّذِي بالوادي» «2» فقد مضى قرضا إلى التناد أقرضته اللَّه عَلَى اعتماد طوعا بلا من وَلا ارتداد إِلَّا رجاء الضعف فِي الميعاد «فودعي الحائط وداع العاد» «3»
__________
(1) فى ل: ... عن مقاتل بن سليمان قال: فوقف أبى (كذا) الدحداح على باب الحديقة ومعه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليستلمها منه فنادى يا أم الدحداح هداك الهادي ... والمثبت من أ.
(2) ما بين الأقواس « ... » : ساقط من أومثبت فى ل. [.....]
(3) ما بين الأقواس « ... » : ساقط من أومثبت فى ل.(1/233)
واستيقني وفقت للرشاد فارتحلي بالفضل والأولاد إن التقى والبر خير زاد قدمه المرء إلى المعاد «1» فأجابته: ربح بيعك واللَّه لولا شرطك ما كان لك منه إِلَّا مَالِك. وأنشأت تَقُولُ «2» مثلك أحيا ما لديه ونصح وأشهر الحق إذا الحق وضح قَدْ منح اللَّه عيالي ما صلح بالعجوة السوداء والزهر «3» البلح واللَّه أولى بالذي كان منح مَعَ واجب الحق ومع ما قد صرح والعبد يسعى وَلَهُ ما قَدْ كدح طول الليالي وعليه ما اجترح قَالَ: ثُمّ خرجت وجعلت تنفض ما فِي أكمام الصبيان، وتخرج ما فِي أفواههم، ثُمّ خرجوا وسلموا الحديقة إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كم من نخلة [150 أ] لأبي الدحداح مدلا عذوقها فِي الجنة لو اجتمع على عذق منها أهل منى أن يقلوه ما أقلوه «4» .
__________
(1) فى أ: للمعاد، والمثبت من ل.
(2) فى أ: وأنشأ، ل: وأنشأت.
(3) فى أ: الزهو، ل: الزهر.
(4) قصة أبى الدحداح أوردها ابن كثير ج 1: 229 عند تفسيره لقوله- تعالى-: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ.
سورة البقرة: 245.(1/234)
سورة آل عمران(1/235)
[سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 200]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54)
إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69)
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124)
بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144)
وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149)
بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَراكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)
أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)
إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ مَا قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا مَا وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)(1/237)
سورة آل عمران «1»
__________
(1) (مضمون السورة) ومضمون هذه السورة مناظرة وفد نجران (بلد فى اليمن من ناحية مكة) ، إلى نحو ثمانين آية من أولها، وبيان المحكم والمتشابه، وذم الكفار، ومذمة الدنيا وشرف العقبى، ومدح الصحابة وشهادة التوحيد، والرد على أهل الكتاب وحديث ولادة مريم، وحديث كفالة زكريا، ودعائه، وذكر ولادة عيسى ومعجزاته، وقصة الحواريين آية (52) وخبر المباهلة آية (61) والاحتجاج على النصارى، ثم أربعون آية فى ذكر المرتدين ثم خيانة علماء اليهود، وذكر الكعبة ووجوب الحج، واختيار هذه الأمة الفضلى والنهى عن موالاة الكفار، وأهل الكتاب ومخالفي الملة الإسلامية ثم خمس وخمسون آية فى قصة حرب أحد (من الآية 121) وفى الشكوى من أهل المركز، وعذر المنهزمين، ومنع الخوض فى باطل المنافقين. والطعن على علماء اليهود والشكوى منهم فى نقض العهد وترك بيانهم نعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المذكور فى التوراة ثم دعوات الصحابة، وجدهم فى حضور الغزوات واغتنامهم درجة الشهادة، وختم السورة بآيات الصبر والمصابرة والرباط (انظر: بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي تحقيق الأستاذ محمد على النجار ص 159، 160.) .(1/261)
سورة آل عمران مدنية كلها وهي مائتا آية باتفاق بسم الله الرحمن الرحيم قَالَ: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي أَبِي عن الْهُذَيْلِ عن مُقَاتِلٍ، أَنَّهُ «1» اجتمعت نصارى نجران، فمنهم السيد والعاقب، فقالوا: نشهد أن عِيسَى هُوَ اللَّه. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- تكذيبا لقولهم الم- 1- يخبره «2» أَنَّهُ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ- 2- يعني الحي الَّذِي لا يموت، القيوم يعني القائم عَلَى كُلّ نفس بما كسبت نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ يا محمد بِالْحَقِّ لَمْ ينزله باطلا يعني القرآن مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتاب يَقُولُ محمد- عَلَيْه السَّلام-:
مصدق للكتب التي كَانَتْ قبله وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ عَلَى موسى وَالْإِنْجِيلَ- 3- على عيسى مِنْ قَبْلُ هَذَا القرآن ثُمّ قَالَ: «التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ» هما:
هُدىً لِلنَّاسِ يعني لبني إسرائيل من الضلالة. قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ يعني القرآن بعد التوراة والإنجيل، والفرقان: يعني به المخرج فِي الدّين من الشبهة والضلالة، فِيهِ بيان كُلّ شيء يَكُون إلى يوم الْقِيَامَة نظيرها فِي الْأَنْبِيَاء وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ «3» يعنى المخرج من الشبهات وفى البقرة.
__________
(1) فى ل: وذلك حين اجتمعت ... بدون ذكر السند. والمثبت من أ.
(2) أى يخبر النبي- صلى الله عليه وسلم.
(3) سورة الأنبياء: 48 وتمامها وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ.(1/262)
وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ «1» . ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني القرآن وهم اليهود كفروا بالقرآن منهم حيى وجدي وأبو ياسر بنو أخطب. وكعب بن الأشرف، وكعب بن أُسَيْد، وزيد بن التابوه، وَغَيْرُهُمْ لَهُمْ عَذابٌ فِي الآخرة شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ- 4- يعنى عزيز فى ملكه منيع شديد الانتقام من أهل مكة هَذَا وعيد لمن خالف أمره إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ- 5- يعني شيء من أَهْل السماء، وَلا من أَهْل الأرض: كُلّ ذَلِكَ عنده هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ نزلت فِي عِيسَى ابْن مريم- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خلقه من غَيْر أب. ذكرا «2» وأنثى سويا وغير سوي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ فِي ملكه الْحَكِيمُ- 6- فِي أمره نزلت هَذِهِ الآية فِي قولهم وما قَالُوا من البهتان والزور لعيسى «3» - صلى الله عليه وسلم. ثم قال- سبحانه-: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ يعمل بهن وهن الآيات التي فِي الأنعام قوله- سُبْحَانَهُ- قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [50 ب] إلى ثلاث آيات آخرهن لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ «4» . يَقُولُ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ يعنى أصل
__________
(1) سورة البقرة: 185 وأولها شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ....
(2) فى أ: ولذكر. وفى ل: من غير أب ذكر وأنثى سويا وغير سوى.
(3) هكذا فى أ. ل، والأنسب عن عيسى.
(4) سورة الأنعام: 151، 152، 153 وهي: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) .(1/263)
الكتاب لأنهن فِي اللوح المحفوظ مكتوبات وهن محرمات عَلَى الأمم كلها فِي كتابهم. وإنما تسمين أم الكتاب لأنهن مكتوبات فِي جميع الكتب التي أنزلها اللَّه- تبارك وتعالى- عَلَى جميع الْأَنْبِيَاء، وليس من أَهْل دين إِلَّا وَهُوَ يوصي بهن. ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ آلم. المص. المر. الر.
شَبَّه عَلَى اليهود كم تملك هَذِهِ الأمة من السنين والمتشابهات هَؤُلاءِ الكلمات الأربع فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ يعني ميل عن الهدى وَهُوَ الشك فهم اليهود فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ يعني ابتغاء الكفر وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ يعني منتهى ما يَكُون وكم يَكُون يريد بِذَلِك الملك. يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ كم يملكون من السنين يعني أمة محمد يملكون إلى يوم الْقِيَامَة إِلَّا أياما يبتليهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بالدجال. ثُمّ استأنف فَقَالَ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يعني المتدارسون علم التوراة فهم عَبْد الله بن سلام، وأصحابه [من] مؤمني أَهْل التوراة يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا يعني قليله وكثيره من عِنْد ربنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ- 7- فما يسمع إلا أولو الألباب يعني من كان لَهُ لب وعقل يعني ابْن سلام وأصحابه: فيعلمون أن كُلّ شيء من هَذَا وغيره من عِنْد اللَّه، قَالَ ابْن سلام وأصحابه: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا لا تمل قلوبنا يعني لا تحول قلوبنا عن الهدى بعد ما هديتنا كَمَا أزغت اليهود عن الهدى وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً يعني من عندك رحمة إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ- 8- للرحمة.
ثُمّ قَالَ ابْن سلام وأصحابه، رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ يعني ليوم الْقِيَامَة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ- 9- فِي البعث بأنك تجمع «1» الناس فِي الآخرة
__________
(1) فى أ: جامع وعليها شطب. والمثبت من ل. [.....](1/264)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني اليهود خاصة نزلت فِي كَعْب بن الأشرف لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ يعني لا «1» أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ- 10- يعنى اليهود كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ يعني كأشباه آل فرعون فِي التكذيب وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الخالية قبل آل فرعون «2» والأمم الخالية «3» قبل آل فرعون قوم نوح، وعاد، وثمود وقوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم شعيب، كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني بأنهم كذبوا أيضا بالعذاب فِي الدُّنْيَا بأنه غَيْر نازل بهم فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ يعني فِي الدُّنْيَا فعاقبهم اللَّه وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ- 11- يعنى إذا عاقب قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا [51 أ] من أَهْل مكة يوم بدر سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ فِي الآخرة وَبِئْسَ الْمِهادُ- 12- يَقُولُ بئسما مهدوا لأنفسهم.
فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للكفار. يوم بدر: إن اللَّه غالبكم وسوف يحشركم إلى جَهَنَّم
فَقَالَ أَبُو جهل: يا ابْن أَبِي كبشة هَلْ هَذَا إِلَّا مثل ما كُنْت تحدثنا به، وقوله- سُبْحَانَهُ-: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ وذلك أن بني قينقاع من اليهود أتوا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد قتال بدر يوعدونه القتال كَمَا قُتِل كفار مكة يوم بدر فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ مَعْشَر اليهود يعني عبرة «فِي فِئَتَيْنِ» الْتَقَتا فئة المشركين وفئة الْمُؤْمِنِين يوم بدر التقتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه يوم بدر وَأُخْرى كافِرَةٌ أَبُو جهل والمشركين يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رأت اليهود أن الكفار مثل الْمُؤْمِنِين فِي الكثرة رَأْيَ الْعَيْنِ وكان الكفار يومئذ سبعمائة رجل عليهم
__________
(1) المراد: لا تغنى عنهم، وفى ل: يعنى اليهود.
(2) فى أ: قوم فرعون. والمثبت من ل.
(3) فى أ: فى الأمم الخالية. والمثبت من ل.(1/265)
أَبُو جهل وذلك أن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- وأصحابه كانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رَجُلا بين كُلّ أربعة بعير، ومعهم فرسان أَحَدهمَا مَعَ أبي مَرْثَد الغَنَويّ، «1» والآخر مَعَ المقداد بن الأسود الكِنْديّ، ومعهم ستة أدراع والمشركون ألف رجل سبعمائة دارع عليهم أَبُو جهل، وثلاثمائة حاسر ثُمّ حبس الأخنس بن شريق ثلاثمائة رَجُل من بني زهرة عن قتال النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبقي المشركون فِي سبعمائة رَجُل يَقُولُ اللَّه- تَعَالَى-: وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ يعني بنصره مَنْ يَشاءُ فينصره اللَّه- عَزَّ وجل- القليل على الكثير إِنَّ فِي ذلِكَ يعني يقوى فِي نصرهم:
نصر الْمُؤْمِنِين وهم قليل وهزيمة الكفار وهم كثير لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ- 13- يعني الناظرين فِي أمر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وطاعته لعبرة وتفكرا لأولي الأبصار حين أظهر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- القليل على الكثير (زُيِّنَ لِلنَّاسِ) يعني الكفار حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ يعنى المال الكثير مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فأما الذهب فهو ألف دينار ومائتا دينار والفضة ألف ومائتا مثقال وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ يعني السائمة وهي الراعية وَالْأَنْعامِ وهي الإبل والبقر والغنم وَالْحَرْثِ ذلِكَ الَّذِي ذكر فِي هَذِهِ الآية مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ- 14- يعنى حسن المرجع وهي الجنة قُلْ للكفار:
أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ يعني ما ذكره فِي هَذِهِ الآية «لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ» «2» جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وذلك أن العيون تجري من تحت البساتين خالِدِينَ فِيها لا يموتون وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ من الحيض والغائط والبول والبزاق والمخاط ومن [51 ب] القذر كله وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكبر يعني رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ- 15- يعنى بأعمالهم. ثم أخبر- سبحانه- عن فعلهم، فقال:
__________
(1) فى أ: العنوى.
(2) ما بين القوسين « ... » ساقط من أ، ل.(1/266)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ- 16- ثُمّ نعت أعمالهم فَقَالَ الجنة هِيَ ل الصَّابِرِينَ عَلَى أمر اللَّه وفرائضه وَالصَّادِقِينَ بكتاب اللَّه ورسله «1» وَالْقانِتِينَ يعني المطيعين للَّه وَالْمُنْفِقِينَ أموالهم فِي حق اللَّه وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ- 17- يَقُولُ المصلين للَّه بالأسحار يعني المصلين من آخر الليل قوله- سُبْحَانَهُ-: شَهِدَ اللَّهُ وذلك أن عَبْد اللَّه بن سلام وأصحابه مؤمني أَهْل التوراة قَالُوا لرءوس اليهود: إن محمدا رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودينه الحق، فاتبعوه. فقالت اليهود: ديننا أفضل من دينكم «2» . فَقَالَ اللَّه- تبارك وتعالى-: «شَهِدَ اللَّهُ» أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ يشهدون بها وَأُولُوا الْعِلْمِ بالتوراة ابْن سلام وأصحابه يشهدون أَنَّهُ لا إله إِلَّا هُوَ، ويشهدون أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- قائِماً بِالْقِسْطِ يعني: قائم عَلَى كُلّ شيء بالعدل لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- 18- فى أمره شهدوا إِنَّ الدِّينَ يعني التوحيد عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ ثُمّ قَالَ: وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى فِي هَذَا الدّين إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ يعني بيان أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنهم كانوا مؤمنين بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قبل أن يبعث رسولا فَلَمَّا بعث محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من ولد إسماعيل تفرقوا بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ يعني القرآن يعني اليهود ثُمّ خوفهم فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ- 19- كأنه قد جاء فَإِنْ حَاجُّوكَ يعني اليهود خاصموك يا محمد فى الدين فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ يَقُولُ أخلصت ديني للَّه وَمَنِ اتَّبَعَنِ عَلَى ديني فقد أخلص وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ يعنى أهل التوراة والإنجيل
__________
(1) استعمل الصادقين بمعنى المصدقين.
(2) أى قالت اليهود ذلك لمن دخل الإسلام من اليهود.(1/267)
اليهود والنصارى أَأَسْلَمْتُمْ والإسلام اسم مشتق من اسم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أمر اللَّه- تَعَالَى- النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يدعوهم إلى الْإِسْلام فَقَالَ: أسلمت يعني أخلصت يَقُولُ فَإِنْ أَسْلَمُوا يعني فَإِن أخلصوا لَهُ يعني للَّه- عَزَّ وَجَلّ- بالتوحيد فَقَدِ اهْتَدَوْا من الضلالة وَإِنْ تَوَلَّوْا يَقُولُ فَإِن أبوا أن يسلموا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ يعنى بلاغ الرسالة وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ- 20- بأعمال العباد إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني بالقرآن وهم ملوك بني إِسْرَائِيل من اليهود ممن «1» لا يقرأ الكتاب وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ يعني بالعدل بين الناس من مؤمني بني إِسْرَائِيل من بعد مُوسَى فَبَشِّرْهُمْ يا محمد بِعَذابٍ أَلِيمٍ- 21- يعني وجيع يعني اليهود لأن هؤلاء على دين أوائلهم [52 أ] الذين قتلوا الأنبياء والآمرين بالقسط ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: أُولئِكَ الَّذِينَ فعلوا ذَلِكَ حَبِطَتْ يعني بطلت أَعْمالُهُمْ فلا ثواب لهم فِي الدُّنْيا وَلا فى الْآخِرَةِ لأن أعمالهم كَانَتْ فِي غَيْر طاعة اللَّه- عز وجل- وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ- 22- يعني من مانعين يمنعونهم من النار أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني أعطوا حظا من التوراة يعني اليهود: كعب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك ابن الضيف، ويحيى بن عمرو، ونعمان بن أَوْفَى، وأبو ياسر بن أخطب، وأبو نَافِع بن قيس، وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وَسَلَّمَ- قَالَ لهم: أسلموا تهتدوا وَلا تكفروا. فقال للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: نَحْنُ أهدى وأحق بالهدى منكم، ما أرسل اللَّه نبيا بعد مُوسَى. فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
لَمْ تكذبون، وأنتم تعلمون أن الَّذِي أقول حق، فأخرجوا التوراة نتبع نحن،
__________
(1) فى أ: من، ل: ممن.(1/268)
وأنتم ما فيها، وهي بينكم فَإِنِّي مكتوب فيها أني نَبِيّ ورسول. فأبوا ذَلِكَ فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فيهم «1» أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ
يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ يعني التوراة لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ يعني ليقضي بينهم ثُمَّ يَتَوَلَّى يعنى بأبى فَرِيقٌ يعني طائفة مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ- 23- ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ بأن العذاب واجب عليهم فيها تقديم لقولهم إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ يعني الأربعين يومًا التي «2» عَبْد آباؤهم فيها العجل لأنهم قَالُوا: إنهم أبناء اللَّه وأحباؤه. يقول: وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ عفو الله ما كانُوا يَفْتَرُونَ- 24- يعني الَّذِين كذبوا لقولهم نَحْنُ أبناء اللَّه وأحباؤه. خوفهم اللَّه، فَقَالَ:
فَكَيْفَ بهم إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ يعني يوم الْقِيَامَة لا شك فِيهِ بأنه كائن «وَوُفِّيَتْ» كُلُّ نَفْسٍ بر وفاجر ما كَسَبَتْ من خير أَوْ شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ- 25- فِي أعمالهم قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- سَأَلَ ربه- عَزَّ وَجَلّ- أن يجعل لَهُ ملك فارس والروم فِي أمته فنزلت قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ
مَنْ تَشاءُ يعني محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمته وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ يعنى الروم وفارس وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ محمدا وأمته وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ يعني الروم وفارس بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الملك والعز والذل قَدِيرٌ- 26- تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يعني ما تنقص فِي الليل داخل فِي النهار حَتَّى يصير الليل تسع ساعات والنهار خمس عشرة ساعة. فذلك قوله- سُبْحَانَهُ- يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ يعنى يسلط النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ «3» وهما هكذا إلى أن تقوم الساعة. قوله- سبحانه-: وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ فهو
__________
(1) فى ل: فيهم، أ: فيهما.
(2) فى أ: الذين عبدوا، ل: الذي عبد.
(3) سورة الزمر: 5.(1/269)
الناس والدواب والطير خلقهم من نطفة وهي ميتة وخلق الطير من البيضة وهي ميتة [52 ب] وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ يعني يَخْرُج اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- هَذِهِ النطفة من الحي وهم الناس والدواب والطير وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ- 27- يَقُولُ- سُبْحَانَهُ- لَيْسَ فوقي ملك يحاسبني، أَنَا الملك أعطي من شئت بغير حساب، لا أخاف من أحد يحاسبني. قوله- سُبْحَانَهُ-: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ نزلت فِي حاطب بن أَبِي بلتعة وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار مكة فنهاهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عن ذَلِكَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فيتخذونهم أولياء من غَيْر قهر فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ ثُمّ استثنى- تَعَالَى- فَقَالَ: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً فيكون «1» بين أظهرهم فيرضيهم بلسانه من المخافة وَفِي قلبه غَيْر ذَلِكَ. ثُمّ خوفهم، فَقَالَ: وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ يعني عقوبته فِي ولاية الكفار وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ- 28- فى الآخرة فيجزيكم بأعمالكم قُلْ لهم يا محمد إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ يعني إن تسروا ما فِي قلوبكم من الولاية للكفار أَوْ تُبْدُوهُ يعني أَوْ تظهروا وَلايتهم يعني حاطب وأصحابه يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من المغفرة والعذاب قَدِيرٌ- 29- نظيرها فِي آخر البقرة. ثُمّ خوفهم ورغبهم، فَقَالَ: «2» يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً يعجل لها كُلّ خير عملته، وَلا يغادر منه شيء وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً يعني أجلا بعيدا بين المشرق والمغرب وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ يعنى عقوبته فى عمل السوء وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ- 30- يعني بربهم حين لا يعجل عليهم بالعقوبة لما دعا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كعبا وأصحابه إلى الإسلام قالوا: نحن
__________
(1) المراد: فيكون المسلم.
(2) فى أ: ثم قال.(1/270)
أبناء اللَّه وأحباؤه، ولنحن أشد حبا للَّه مما تدعونا إِلَيْهِ، فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لنبيه- صلى الله عليه وسلم- قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي عَلَى ديني يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ما كان فِي الشرك وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ- 31- ذو تجاوز لما كان فِي الشرك رحيم بهم فى الإسلام قُلْ لليهود أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني أعرضوا عن طاعتهما فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ- 32- يعني اليهود إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً يعني اختار من الناس «1» لرسالته آدم ونوحا وَآلَ إِبْراهِيمَ يعني إِبْرَاهِيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب والأسباط، ثُمّ قَالَ: وَآلَ عِمْرانَ يعني مُوسَى، وهارون، ذرِّيَّة آل عِمْرَانَ اختارهم للنبوة والرسالة عَلَى الْعالَمِينَ- 33- يعني عالمي ذَلِكَ الزمان وهي:
ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وكل هَؤُلاءِ من ذرِّيَّة آدم، ثُمّ من ذرية نوح، ثم من ذرِّيَّة إِبْرَاهِيم وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ- 34- لقولهم نَحْنُ أبناء الله وأحباؤه ونحن [53 أ] أشد حبا لله، عليم بما قالوا يعنى اليهود إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ بن ماثان اسمها «2» حنة بِنْت فاقوز وهي أم مريم وهي حبلى، لئن نجاني اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ووضعت ما فِي بطني، لأجعلنه محررا، وبنو ماثان من ملوك بني إِسْرَائِيل من نسل دَاوُد- عَلَيْه السَّلام- والمحرر الَّذِي لا يعمل للدنيا وَلا يتزوج، ويعمل للآخرة، «3» ويلزم المحراب فيعبد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِيهِ، وَلَم يَكُنْ يحرر «4» فى ذلك
__________
(1) فى أ: زيادة آدم. والمثبت من ل. [.....]
(2) فى أ: جنة.
(3) فى أ: الآخرة.
(4) فى أ: يجرد، ل: يحرن. وصوابها يحرر. أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن مجاهد فى قوله (محررا) قال: خادما للبيعة. وأخرج ابن أبى حاتم من وجه آخر فى قوله (محررا) قال: خالصا لا يخالطه شيء من أمر الدُّنْيَا. وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة فى الآية قال: كانت امرأة عمران حررت لله ما فى بطنها وكانوا إنما يحررون الذكور وكان المحرر إذا حرر جعل فى الكنيسة لا يبرحها يقوم عليها ويكنسها وكانت المرأة لا تستطيع أن تصنع بها ذلك لما يصيبها من الأذى فعند ذلك قالت وليس الذكر كالأنثى. الدر المنثور للسيوطي 2: 19.(1/271)
الزمان إِلَّا الغلمان فَقَالَ زوجها: أرأيت إن كان الَّذِي فِي بطنك أنثى؟ والأنثى عورة، كيف تصنعين؟ فاهتمت لذلك. فقالت حنة: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ- 35- لدعائهما العليم ببذرهما يعني بالتقبل والاستجابة لدعائهما فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى والأنثى عورة «فيها تقديم» «1» يَقُولُ اللَّه- تَعَالَى- لنبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ «2» ثم قالت حنة: وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وكذلك كان اسمها عِنْد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها يعني عِيسَى مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ- 36- يعني الملعون فاستجاب اللَّه لها فلم يقربها وَلا ذريتها شيطان وخشيت حنة ألا تقبل الأنثى محررة، فلفتها فِي خرق ووضعتها فِي بيت المَقْدِس عِنْد المحراب حيث يدرس «3» القراء، فتساهم «4» القوم عَلَيْهَا لأنها بِنْت إمامهم وسيدهم «5» ، وهم الأحبار من ولد هَارُون أيهم يأخذها. قَالَ زَكَرِيّا وَهُوَ رئيس الأحبار أَنَا آخذها، أَنَا أحقكم بها، لأن أختها أمَّ يحيى عندي. فَقَالَ القراء: وإن كان فِي القوم من هُوَ أقرب إليها منك؟ فلو تركت لأحق الناس بها لتركت لأمها، ولكنها محررة وَلَكِن هلم نتساهم عَلَيْهَا من خرج سهمه فهو أحق بها. فاقترعوا فقال الله- عز
__________
(1) ما بين الأقواس ساقط من ل. وفى أ: «فيها تقديم وتأخير» ثم شطب على كلمة تأخير.
(2) فى أ: وصفت، والمثبت من ل.
(3) فى أ، ل: يدرسون.
(4) تساهم القوم واستهموا: اقترعوا أى عملوا قرعة: كل يريد أن يأخذ مريم فى كفالته ورعايته.
وفى البخاري يقول رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لو يعلم الناس ما فى الآذان والصف الأول لاستهموا عليهما. أى لو علموا فضلهما وثوابهما ثم لم يجدوا وسيلة للحصول عليهما إلا أن يعملوا قرعة لاقترعوا واستهموا عليهما.
انظر مختار الصحاح مادة سهم.
(5) كان عمران يؤمهم فى الصلاة. الدر المنثور للسيوطي 2: 19(1/272)
وَجَلّ- لمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ» يعنى عندهم فتشهدهم «إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ» حين اقترعوا ثلاث مرات بأقلامهم التي كانوا يكتبون بها الوحي أيهم يكفلها؟ أيهم يضمها. فقرعهم زَكَرِيّا فقبضها، ثُمّ قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ «1» فِي مريم فذلك قوله وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً يَقُولُ رباها «2» تربية حسنة فِي عبادة وطاعة لربها فبنى لها زَكَرِيّا محرابا فِي بيت المَقْدِس، وَجَعَل بابه وسطه، لا يصعد إِلَيْهِ أحد إِلَّا بسلم واستأجر لها ظئرا ترضعها حتى تحركت فكان يغلق عليها [53 ب] الباب ومعه المفتاح لا يأمن عَلَيْهَا أحدا، يأتيها بطعامها ومصالحها وكانت إذا حاضت أخرجها إلى منزله فتكون مَعَ أختها أيليشفع بِنْت عِمْرَانَ- وهي مريم بِنْت عِمْرَانَ- أم يحيى «3» فإذا طهرت ردها إلى محراب بيت المَقْدِس، وكان زَكَرِيّا يرى عندها العنب فِي الشِّتَاء الشديد البرد فيأتيها به جبريل- عَلَيْه السَّلام- من السماء وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ لها زَكَرِيّا: يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا يعني من أَيْنَ هَذَا فِي غَيْر حينه قالَتْ هَذَا الرزق هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ- 37- فطمع عِنْد ذَلِكَ زَكَرِيّا فِي الولد فَقَالَ: إن الَّذِي يَأْتِي مريم بهذه الفاكهة فِي غَيْر حينها لقادر أن يصلح لي زوجتي ويهب لي منها ولدا. فذلك قوله: هُنالِكَ يعني عِنْد ذَلِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ «4» لِي مِنْ لَدُنْكَ يعني من عندك ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً تقيا زكيا كقوله وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا «5» إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ- 38-
__________
(1) سورة آل عمران: 44.
(2) فى أ: ورباها، ل: رباها.
(3) المراد أن أيليشفع هي أم يحيى.
(4) ساقطة من أ.
(5) سورة مريم: 6.(1/273)
فاستجاب اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وكانا قَدْ دخلا فِي السن فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ فبينما هُوَ يصلي فِي المحراب حيث يذبح القربان إذا «1» برجل عَلَيْه بياض حياله وَهُوَ جبريل- عَلَيْه السلام- فقال: أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى اشتق يحيى من أسماء اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ يعني من اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وكان يحيى أول من صدق بعيسى- عليهما السَّلام- وَهُوَ ابْن ثلاث سنين، قوله الأول وَهُوَ ابْن ستة أشهر «2» فَلَمَّا شهد يحيى أن عِيسَى من الله- عز وجل- عجبت بنو إِسْرَائِيل لصغره، فَلَمَّا سَمِع زَكَرِيّا شهادته قام إلى عِيسَى فضمه إِلَيْهِ، وَهُوَ فِي خرقة وكان يحيى أكبر من عِيسَى بثلاث سنين، يحيى وعيسى ابنا خالة. ثُمّ قَالَ اللَّه- سُبْحَانَهُ-: وَسَيِّداً
يعني حليما وَحَصُوراً لا ماء له «3» وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ- 39- والحصور الذي
__________
(1) أ: فإذا [.....]
(2) هكذا فى أ، ل. والمراد أن عيسى حين نطق فى المهد كان ابن ستة أشهر (أى أشهر الحمل) وقد صدقه يحيى وكان عمر يحيى حينئذ ثلاث سنوات.
(3) جاء فى تفسير ابن كثير 1: 361، 362.
قال القاضي عياض فى كتابه الشفاء: اعلم ان ثناء الله- تعالى- على يحيى أنه كان (حصورا) ليس كما قال بعضهم أنه كان هيوبا أو لا ذكر له. بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين ونقاد العلماء وقالوا:
هذه نقيصة وعيب ولا يليق بالأنبياء- عليهم السلام- وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب أى لا يأتيها كأنه حصور عنها. وقيل ليست له شهوة فى النساء وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص وإنما الفضل فى كونها موجودة ثم يمنعها إما بمجاهدة كعيسى أو بكفاية من الله- عز وجل- كيحيى- عليه السلام- ثم هي فى حق من قدر عليها وقام بالواجب فيها ولم تشغله عن ربه: درجة عليا وهي درجة نبينا- صلى الله عليه وسلم- الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن وقيامه عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن بل قد صرح أنها ليست من حظوظ دنياه هو وإن كانت من حظوظ دنيا غيره
فقال «حبب إلى من دنياكم»
هذا لفظه. والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتى النساء بل معناه كما قال هو وغيره: أنه معصوم من الفواحش والقاذورات ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن. بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً كأنه قال ولدا له ذرية ونسل وعقب. والله أعلم.(1/274)
لا حاجة له فى النساء فَلَمَّا بشر زَكَرِيّا بالولد. قَالَ لجبريل- عَلَيْه السلام- فى المخاطبة قالَ رَبِّ أَنَّى يعني من أَيْنَ يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ «1» يَقُولُ ذَلِكَ تعجبا، لأنه كان قَدْ «2» يبس جلده عَلَى عظمه من الكبر قالَ جبريل- عليه السلام- كَذلِكَ يعني هكذا قال ربك إنَّه يَكُون لك ولد اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ «3» - 40- أن يجعل ولدا من الكبير والعاقر لقوله قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً يعني علما للحبل قالَ آيَتُكَ إذا جامعتها عَلَى طهر فحبلت فإنك تصبح لا تستنكر من نفسك خرسا وَلا سقما، وَلَكِن تصبح لا تطيق الكلام أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً يعني إِلَّا إشارة يومئ بيده، أَوْ برأسه من غَيْر مرض وَلَم يحبس لسانه عن ذكر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ولا عن الصلاة [54 أ] فكذلك قوله- سُبْحَانَهُ-:
وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ- 41- يَقُولُ صل بالغداة والعشي، فأتى امرأته عَلَى طهرها فحملت وكان آية الحبل أَنَّهُ وضع يده عَلَى صدرها، فحملت فاستقر الحمل فِي رحمها فحبلت بيحيى»
. فأصبح لا يستطيع الكلام فعرف أن امرأته قَدْ حبلت فولدت يحيى- عَلَيْه السَّلام- فلم يعص اللَّه قطّ وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ جبريل- عَلَيْه السَّلام- وحده يا مَرْيَمُ وهي فى المحراب إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ يعني اختارك وَطَهَّرَكِ من الفاحشة والألم وَاصْطَفاكِ يعنى واختارك عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ- 42- بالولد من غير بشر
__________
(1) فى أ: وامرأتى عاقر وقد بلغني الكبر.
(2) فى أ: قد كان.
(3) فى أ: ويفعل ما يشاء.
(4) كان الحمل بيحيى بعد جماع زكريا لزوجته. أما أنه وضع يده على صدرها فحملت- فأمر تتوقف فى قبوله ولم أجده فى كتب التفسير الموثوق بها. أنظر ابن كثير والقرطبي.(1/275)
يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ يعنى لربك وَاسْجُدِي وَارْكَعِي «1» مَعَ الرَّاكِعِينَ- 43- يعني مَعَ المصلين فِي بيت المَقْدِس ذلِكَ أن الَّذِي ذكر فِي هَؤُلاءِ الآيات مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ يعني حديثًا من الغيب لَمْ تشهده يا محمد، فذلك قوله: نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ فى القرعة أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ يعني يضم مريم إلى نفسه وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ يا محمد إِذْ يَخْتَصِمُونَ- 44- فِي مريم يعني القراء أيهم يكفلها إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ وَهُوَ جبريل وحده- عَلَيْه السَّلام- إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً يعني مكينا عِنْد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فيها تقديم وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ- 45- عِنْد اللَّه فِي الآخرة وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ يعني حجر أُمّه فِي الخرق طفلا وَيكلمهم كَهْلًا يعني إذا اجتمع «2» قبل أن يرفع إلى السماء وَمِنَ الصَّالِحِينَ- 46- قالَتْ رَبِّ أَنَّى يعني من أَيْنَ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ يعني الزوج قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ ويخلق من يشاء، فشاء أن يخلق وَلَدا من غَيْر بشر. لقولها وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ إِذا قَضى أَمْراً كان فِي علمه أن يَكُون عِيسَى فِي بطن مريم من غَيْر بشر فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ- 47- لا يثنى وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ يعني خط الكتاب بيده بعد ما بلغ أشده، وَهُوَ ابْن ثماني عشرة سنة، والمرأة بعد ما تبلغ الحيض وَالْحِكْمَةَ يعني الحلال والحرام والسنة وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ- 48- ويجعله وَرَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني بعلامة ثُمّ بين الآية أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ يعني أجعل لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً فخلق الخفاش بِإِذْنِ اللَّهِ
__________
(1) فى أ: واركعى واسجدي.
(2) هكذا فى أ، ل، ولعل المراد إذا اجتمع بهم(1/276)
لأنه أشد الخلق إِنَّمَا هُوَ لحم وشيء يطير بغير ريش فطار بإذن اللَّه وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ الَّذِي ولدته أمه أعمى الَّذِي لَمْ ير «1» النور قط [54 ب] فيرد اللَّه بصره وَأبرئ الْأَبْرَصَ فيبرأ بإذن الله وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ فتعيش. ففعل ذلك وهم ينظرون وكان صنيعه هَذَا آية من اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بأنه نَبِيّ ورسول إلى بني إِسْرَائِيل «فأحيا سام بن نوح بن ملك من الموت بإذن اللَّه» «2» فقالوا لَهُ: إن هَذَا سحر فأرنا آية نعلم أنَّكَ صادق. وقَالَ عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
أرأيتم إن أَنَا أخبرتكم وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ فِي بيوتكم من الطعام فيها تقديم وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ يعني وما ترفعون فِي غد تعلمون أني صادق. قَالُوا: نعم قَالَ عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فُلان أكلت كذا وكذا، وشربت كذا وكذا، وأنت يا فُلان أكلت كذا وكذا، وأنت يا فُلان. فمنهم من آمن ومنهم من كفر.
يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً يعني لعلامة لَكُمْ فيما أخبرتكم به «3» إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- 49- يعني مصدقين بعيسى بأنه رسول وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ من اللحوم والشحوم وكل ذِي ظفر والسمك فهذا البعض الَّذِي أحل لهم غَيْر السبت فإنهم يقومون عَلَيْه فوضع عَنْهُمْ فِي الإنجيل ذلك وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ بعلامة من ربكم يعني العجائب التي كان يصنعها اللَّه «4» . فَاتَّقُوا اللَّهَ يعني فوحدوا اللَّه وَأَطِيعُونِ- 50- فيما آمركم به من النصيحة فَإنَّهُ لا شريك له. وقال لهم عيسى- صلى الله
__________
(1) فى أ: يدر.
(2) فى أ، ل: وكان صنيعه هَذَا آية من اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بأنه نبى. فأحيا سام بن نوح ابن ملك بإذن الله. ورسولا إلى بنى إسرائيل. فقالوا..
(3) فى أ: يعنى لعلامة نبى لكم فيما أخبركم به. والمثبت من ل.
(4) أى يصنعها عيسى بإذن الله.(1/277)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ يعنى فوحدوه هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ- 51- يعني هَذَا التوحيد دين مستقيم وَهُوَ الْإِسْلام فكفروا فَلَمَّا أَحَسَّ يعني فَلَمَّا رَأَى عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ يعني من بني إِسْرَائِيل كقوله- عَزَّ وَجَلّ- «هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ «1» » يعنى هل ترى منهم من أحد فمر عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الحواريين يعني عَلَى القصارين غسالى الثياب قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ يعني من يتبعني مَعَ اللَّه. كقوله فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ «2» يعني معي هَارُون وكقوله- سُبْحَانَهُ- وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ «3» يعني مَعَ أموالكم قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ يعني بتوحيد اللَّه وَاشْهَدْ يا عِيسَى بِأَنَّا مُسْلِمُونَ- 52- يعني مخلصين بتوحيد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ثم قالوا:
رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ يعني صدقنا بالإنجيل الَّذِي أنزلت عَلَى عِيسَى وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ يعني عِيسَى عَلَى دينه فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ- 53- يَقُولُ فاجعلنا مَعَ الصادقين نظيرها فِي المائدة. هذا قول الحواريين وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وذلك أن كفار بني إِسْرَائِيل عمدوا إلى رجل فجعلوه رقيبا على عيسى ليقتلوه [55 أ] فجعل اللَّه شَبه عِيسَى عَلَى الرقيب فأخذوا الرقيب فقتلوه وصلبوه، وظنوا أَنَّهُ عِيسَى، ورفع اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عِيسَى إلى سماء الدُّنْيَا من بيت المَقْدِس، ليلة القدر فِي رمضان، فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: وَمَكَرُوا بعيسى ليقتلوه يعني اليهود وَمَكَرَ اللَّهُ بهم حين قُتِل رقيبهم وصاحبهم وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ- 54- يعني أفضل مكرا منهم إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ
__________
(1) سورة مريم: 98.
(2) سورة الشعراء: 13. [.....]
(3) سورة النساء: 2 وتمامها وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً.(1/278)
فيها تقديم يَقُولُ رافعك إليّ من الدُّنْيَا ومتوفيك حين «1» تنزل من السماء عَلَى عهد الدجال «يَقُولُ إني رافعك إلي الآن ومتوفيك بعد قتل الدجال» «2» . يَقُولُ رافعك إليّ فِي السماء وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعنى اليهود وغيرهم [وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ عَلَى دينك يا عِيسَى وَهُوَ الْإِسْلام فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني اليهود وَغَيْرُهُمْ. وأهل «3» دين عِيسَى هُم المسلمون فوق الأديان كلها إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ «4» ] ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فِي الآخرة فَأَحْكُمُ يعني فأقضي بَيْنَكُمْ يعني بين الْمُسْلِمِين وأهل الأديان فِيما كُنْتُمْ فِيهِ من الدّين تَخْتَلِفُونَ- 55- وَهُوَ الْإِسْلام فأسلمت طائفة وكفرت طائفة ثُمّ أخبر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عن منزلة الفريقين فِي الآخرة، فَقَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا يعني كفار أَهْل الكتاب فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا يعني القتل أَو الجزية وَفى الْآخِرَةِ عذاب النار وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ- 56- يعني من مانعين يمنعونهم من النار وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
يعني أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ يعني فيوفوا أجورهم فِي الآخرة وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ- 57- ذلِكَ الَّذِي ذكره اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي هَذِهِ الآيات نَتْلُوهُ عَلَيْكَ يا محمد مِنَ الْآياتِ يعني من البيان وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ- 58- يعني المحكم من الباطل إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ وذلك
أن وفد نصارى نجران قدموا عَلَى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمدينة منهم السيد والعاقب،
__________
(1) فى أ: حيث، ل: حين.
(2) ما بين الأقواس « ... » ساقط من ل.
(3) فى أ، ل: وهم أهل.
(4) ما بين الأقواس [..] من ل. وهو مضطرب فى أ.(1/279)
والأسقف، والرأس، والحارث، وقيس، وابنيه وخالد، وخليد، وعَمْرو، «1» فَقَالَ السيد والعاقب وهما سيدا أَهْل نجران: يا محمد لَمْ تشتم صاحبنا وتعيبه؟ فَقَالَ النَّبِيُّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا صاحبكم؟ قَالُوا: عِيسَى ابْن مريم العذراء البتول. قال: أبو محمد عبيد الله بن ثَابِت. قَالَ: العذراء البتول. المنقطعة إلى اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لقوله- عَزَّ وَجَلّ- وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا «2» قَالُوا فأرنا فيما خلق اللَّه عبدا مثله [55 ب] يحيي الموتى ويبرئ الأكمه والأبرص ويخلق من الطين طيرا وَلَم يقولوا بإذن اللَّه. وكل آدمي لَهُ أب وعيسى لا أب لَهُ فتابعنا فِي أن عِيسَى ابن اللَّه ونتابعك. فإما أن تجعل عِيسَى ولدا وإما إلها، فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مُعَاذ اللَّه أن يَكُون لَهُ ولد، أَوْ يَكُون معه إله. فَقَالا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنْت أَحْمَد؟ فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنَا أحمد، وأنا محمد. فَقَالا: فيم «3» أَحْمَد؟ قَالَ: أَحْمَد الناس عن الشرك. قَالا: فإنا نسألك عن أشياء. قَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا أخبركم حَتَّى تسلموا فتتبعوني. قَالا: أسلمنا قبلك. قَالَ النَّبِيّ-
__________
(1) فى تفسير ابن كثير: 1/ 368. قال ابن إسحاق قدم على رسول الله (ص) وفد نصارى نجران ستون راكبا. فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم وهم: العاقب واسمه عبد المسيح والسيد وهو الأيهم وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، وأويس بن الحارث وزيد وقيس ويزيد وابناه وخويلد وعمرو وخالد وعبد الله ومحسن وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم وهم العاقب وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم والذي لا يصدرون إلا عن رأيه. والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم. وأبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم وصاحب مدارستهم ... وذكر حديثا طويلا موافقا فى جملته لما فى تفسير مقاتل.
وانظر أسباب النزول للواحدي: 58. والسيوطي: 45، 46.
(2) سورة المزمل: 8.
(3) فى أ: فيما.(1/280)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إنكما لَمْ تسلما حجزكما عن الْإِسْلام ثلاثة أكلكما الخنزير، وشربكما الخمر، وقولكما إن للَّه- عَزَّ وَجَلّ- ولدا، فغضبا عِنْد ذَلِكَ. فَقَالا: من أَبُو عِيسَى؟ ائتنا لَهُ بمثل فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ
- 59- هَذَا الذي قَالَ الله فِي عِيسَى هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ- 60- يا محمد يعني من الشاكين فِي عِيسَى أن مثله كمثل آدم. فقالوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَيْسَ كَمَا تَقُولُ، ما هذا له بمثل. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-:
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ يعني فَمنْ خاصمك فِي عِيسَى مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ يعني من البيان من أمر عِيسَى يعني ما ذكر فِي هَذِهِ الآيات فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ يعني نخلص الدعاء إلى اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ- 61- إِنَّ هَذَا الَّذِي ذكرته فِي عِيسَى لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَالَّذِي تقولون هُوَ الباطل وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ فِي ملكه الْحَكِيمُ- 62- فِي أمره حكم عِيسَى فِي بطن أُمّه فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني فَإِن أبوا إِلَّا أن يلاعنوا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ- 63- فى الأرض بالمعاصي. قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: قُلْ لهم يا محمد: يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ يعني كلمة العدل وهي الإخلاص بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً من خلقه وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ لأنهم اتخذوا عِيسَى ربا فَإِنْ تَوَلَّوْا يعني فإن أبوا التوحيد فَقُولُوا لهم أنتم اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ- 64- يعني مخلصين بالتوحيد فَقَالَ العاقب: ما نصنع بملاعنته شيئا، فو الله لئن كان كاذبا ما ملاعنته بشيء، ولئن كان صادقا(1/281)
لا يَأْتِي علينا الحول حَتَّى يهلك اللَّه الكاذبين.
قَالُوا: يا محمد نصالحك عَلَى ألا تغزونا وَلا تخيفنا وَلا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك ألف حلة [56 أ] فِي صَفَر، وألف حلة فِي رجب. وعلى ثلاثين درعا من حديد عادية. فصالحهم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ: وَالَّذِي نفس محمد بيده، لولا عنوني ما حال الحول، ويحضرني منهم أحد ولأهلك اللَّه الكاذبين. قَالَ عُمَر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ-: لو لاعنتهم بيد من كُنْت تأخذ. قَالَ: «آخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين- عليهم السلام- وحفصة وعائشة- رحمهما الله-» «1» .
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ يعني تخاصمون فِي إِبْراهِيمَ وذلك
أن رؤساء اليهود كَعْب بن الأشرف، وأبا ياسر، وأبا الحقيق وزيد بن التابوه، ونصارى نجران، يقولون: إِبْرَاهِيم أولى بنا والأنبياء مِنَّا كانوا عَلَى ديننا، وما تريد إِلَّا أن نتخذك ربا كَمَا اتخذت النَّصارى عيسى ربا، وقالت النَّصارى: ما تريد
__________
(1)
ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي: 58- 59. وسنده: أخبرنى عبد الرحمن ابن الحسن الحافظ فيما أذن لي فى روايته. حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد الواعظ، حدثنا عبد الرحمن بن سليمان الأشعث، حدثنا يحيى بن حاتم العسكري، حدثنا بشر بن مهران، حدثنا محمد بن دينار، عن داود بن أبى هند، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله قال: قدم وفد أهل نجران ... فغدا رسول الله (ص) فأخذ بيد على وفاطمة وبيد الحسن والحسين، ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا- ومقاتل بن سليمان شيعى زيدي وهذا يجعلنا نتحفظ فى آثاره المروية فى هذه الناحية ونقارنها بطرق أخرى.
وفى تفسير ابن كثير: 1/ 381، قال جابر ... وفيهم نزلت نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ قال جابر (أنفسنا وأنفسكم) رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلي بن أبي طالب (وأبناءنا) الحسن والحسين (ونساءنا) فاطمة وهكذا رواه الحاكم فى مستدركه عن على بن عيسى عن أحمد بن محمد الأزهرى عن على بن حجر عن على بن مسهر عن داود ابن أبى هندية بمعناه ثم قال صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه هكذا قال: وقد رواه أبو داود الطيالسي عن شعبة عن المغيرة عن الشعبي مرسلا، وهذا أصح. وقد روى عن ابن عباس والبراء نحو ذلك.(1/282)
بأمرك إِلَّا أن نتخذك ربا كَمَا اتخذت اليهود عزيرا ربا. قَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مُعَاذ اللَّه من ذَلِكَ، ولكني أدعوكم إلى أن تعبدوا اللَّه جميعًا، وَلا تشركوا به شيئًا،
فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ يعني تخاصمون «فِي إِبْرَاهِيم» فتزعمون أَنَّهُ كان عَلَى دينكم وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أى بعد موت إبراهيم أَفَلا تَعْقِلُونَ- 65- ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ يعنى خاصمتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ مما جاء فِي التوراة والإنجيل فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ بما لَيْسَ فِي التوراة والإنجيل وَاللَّهُ يَعْلَمُ أن إِبْرَاهِيم لَمْ يَكُنْ يهوديا وَلا نصرانيا وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ- 66- أَنَّهُ ما كان يهوديا وَلا نصرانيا، ثُمّ أخبر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فَقَالَ: مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً يعني حاجا مُسْلِماً يعني مخلصا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ- 67- يعنى من اليهود ولا من النصارى، ثم قال: إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لقولهم إنَّه كان عَلَى دينهم لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ عَلَى دينه واقتدوا به وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا يَقُولُ من اتبع محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- على دينه. ثم قال- عز وجل-: وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ- 68- الَّذِين يتبعونهما عَلَى دينهما وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ يعنى يستنزلونكم عن دينكم الْإِسْلام وَما يُضِلُّونَ يعني وما يستنزلون إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ- 69- إنما يضلون أنفسهم نزلت فِي عمار بن ياسر، وحُذَيْفة بن اليمان وذلك أن اليهود جادلوهما ودعوهما إلى دينهم. وقالوا: إن ديننا أفضل من دينكم ونحن أهدى منكم سبيلا فنزلت وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ... إلى آخر الآية.
ونزلت يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ [56 ب] يعني القرآن وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ- 70- أن محمدا رَسُول الله ونعته معكم فى التوراة يا أَهْلَ(1/283)
الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَ
يعني لَمْ تخلطون الحق بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وذلك أن اليهود أقروا ببعض أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكتموا «1» بعضا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ- 71- أن محمدا نَبِيّ ورسول- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- «2» .
وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ كَعْب بن الأشرف، ومالك بن الضيف اليهوديان لسفلة اليهود آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا يعني صدقوا بالقرآن وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ أول النهار يعني صلاة الغداة. وإذا كان العشي قولوا لهم نظرنا فِي التوراة فإذا النعت الَّذِي فِي التوراة لَيْسَ بنعت محمد- صلى الله عليه وسلم- فذلك قوله- سبحانه-: وَاكْفُرُوا آخِرَهُ يعني صلاة العصر فلبسوا عليهم دينهم لعلهم يشكون فِي دينهم. فذلك قوله: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ- 72- يعني لكي يرجعوا عن دينهم إلى دينكم وقالا لسفلة اليهود:
وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ فَإنَّهُ لن يؤتي أحد من الناس مثل ما أوتيتم من الْفَضْل والتوراة والمن والسلوى والغمام والحجر اثبتوا عَلَى دينكم. وقالوا لهم:
لا تخبروهم بأمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيحاجوكم يعني فيخاصموكم عِنْد ربكم. قَالُوا «3» : ذَلِكَ حسدا لمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن تكون النُّبُوَّة فِي غيرهم فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ «4» قُلْ يا محمد إِنَّ الْفَضْلَ يعني الْإِسْلام والنبوة
__________
(1) بعضا: ساقطة من أ، ومثبتة فى ل.
(2) فى أ، ل تفسير للآيات 99، 100، 101. بعد آية 71. فقد فسر آية قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ الآية 99 من آل عمران وآيتين بعدها. فسر الآيات الثلاث فى هذا المكان. ثم أعاد تفسيرها فى مكانها.
وقد أسقطت تفسير الآيات الثلاث من هنا اكتفاء بورودها فى مكانها حسب ترتيب المصحف.
(3) فى أ: قال و.
(4) ساقط من الأصل.(1/284)
بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ لذلك عَلِيمٌ- 73- بمن يؤتيه الْفَضْل يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ [57 أ] يعني بتوبته مَنْ يَشاءُ فاختص اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- به الْمُؤْمِنِين وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ يعني الْإِسْلام الْعَظِيمِ- 74- عَلَى الْمُؤْمِنِين وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني أَهْل التوراة مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ يعني عَبْد اللَّه بن سلام وأصحابه وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ
يعني كفار اليهود يعني كَعْب بن الأشرف وأصحابه، يَقُولُ منهم من يؤدي الأمانة ولو كثرت، ومنهم من لا يؤديها ولو ائتمنته عَلَى دينار لا يؤده إليك إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً عِنْد رأسه مواظبا عَلَيْه تطالبه بحقك ذلِكَ استحلالا للأمانة بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ يعنى فى العرب سَبِيلٌ وذلك أن الْمُسْلِمِين باعوا «1» اليهود فِي الْجَاهِلِيَّة «2» . فَلَمَّا تقاصهم المسلمون فِي الْإِسْلام، قَالُوا: لا حرج علينا فِي حبس أموالهم لأنهم ليسوا عَلَى ديننا يزعمون أن ذَلِكَ حلال لهم فِي التوراة، فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ- 75- أنهم كذبة وأن فِي التوراة تحريم الدماء والأموال إِلَّا بحقها، وَلكن أمرهم بالإسلام، وأداء الأمانة، وأخذ عَلَى ذَلِكَ ميثاقهم، فذلك قوله- سبحانه-: بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ الَّذِي أخذه اللَّه عَلَيْه فِي التوراة وأدى الأمانة وَاتَّقى محارمه فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ- 76- يَقُولُ الَّذِين يتقون استحلال المحارم إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا يعني عرضا من الدُّنْيَا يسيرا يعني رءوس اليهود أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ يعني لا نصيب لهم فِي الآخرة وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ بعد العرض والحساب
__________
(1) فى أ: بايعوا، ل: باعوا. [.....]
(2) أى باعوا لهم.(1/285)
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ- 77- يعني وجيع وَإِنَّ مِنْهُمْ يعني من اليهود لَفَرِيقاً يعني طائفة منهم يعنى كَعْب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وأَبُو ياسر، جدي ابن أخطب، وشعبة بن عمرو، يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ يعني باللَّيِّ التحريفَ بالألسن فِي أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ يعني التوراة يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ كتبوا يعنى من التوراة غَيْر نعت محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومحوا نعته وَيَقُولُونَ هُوَ هَذَا النعت مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ولكنهم كتبوه وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ- 78- أنهم كذبة وليس ذلك نعت محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا كانَ لِبَشَرٍ يعني عِيسَى ابن مريم- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ يعني أن يعطيه اللَّه الْكِتابَ يعني التوراة والإنجيل وَالْحُكْمَ يعني الفهم وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ يعني بني إِسْرَائِيل كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ يَقُولُ لهم كُونُوا رَبَّانِيِّينَ يعني متعبدين للَّه- عز وجل-[57 ب] بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ يعني التوراة والإنجيل وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ- 79- يعني تقرءون وَلا «1» يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً يعني عِيسَى وعزير ولو أمركم بِذَلِك لكان كفرا. فذلك قوله: أَيَأْمُرُكُمْ «2» بِالْكُفْرِ يعني بعبادة الملائكة والنبيين بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ «3» مُسْلِمُونَ- 80- يعني مخلصين لَهُ بالتوحيد فَقَالَ: الإصبغ بن زَيْد، وكردم بن قَيْس، أيأمرنا «4» بالكفر بعد الْإِيمَان فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ على أن يعبدوا الله،
__________
(1، 2) فى أ: وما كان. وفى الحاشية ولا.
(3) فى أ: بعد إذ كنتم، وفى الحاشية: أنتم.
(4) فى أ: أيأمركم أيأمركم: مرتين. وفى ل: أيأمرنا.(1/286)
ويبلغوا الرسالة إلى قومهم، ويدعوا الناس إلى دين اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فبعث اللَّه مُوسَى ومعه «1» التوراة إلى بني إِسْرَائِيل، فكان مُوسَى أول رسول بعث إلى بني إِسْرَائِيل وَفِي التوراة بيان أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأقروا به لَما يعني للذي آتَيْتُكُمْ يعني بني إِسْرَائِيل مِنْ كِتابٍ يعني التوراة وَحِكْمَةٍ يعني ما فيها من الحلال والحرام ثُمَّ جاءَكُمْ يعني بني إِسْرَائِيل رَسُولٌ يعني محمدا- صلى الله عليه وسلم- مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ يعني تصديق محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما معكم فِي التوراة لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ يعني لتصدقن به إن بعث وَلَتَنْصُرُنَّهُ إذا خرج يَقُولُ- عَزَّ وَجَلّ- لهم قالَ أَأَقْرَرْتُمْ بمحمد فِي التوراة بتصديقه ونصره وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي يَقُولُ وقبلتم عَلَى الْإِيمَان بمحمد عهدي، وميثاقي فِي التوراة قالُوا أَقْرَرْنا يَقُولُ اللَّه: قالَ فَاشْهَدُوا عَلَى أنفسكم بالإقرار. يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَأَنَا مَعَكُمْ أَي إقراركم بمحمد- صَلَّى الله عليه وسلم- مِنَ الشَّاهِدِينَ- 81- ثُمّ قَالَ: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ «2» يعني فَمنْ أعرض عن الْإِيمَان بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد إقراره فِي التوراة فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ- 82- يعني العاصين أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ يعني الملائكة وَالْأَرْضِ يعني الْمُؤْمِنِين طَوْعاً ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَكَرْهاً يعني أَهْل الأديان يقولون اللَّه هُوَ ربهم وَهُوَ خلقهم، فذلك إسلامهم وهم فى ذلك مشركون «3» وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ- 83- ثُمّ أنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي آل عمران «إن لم يؤمن
__________
(1) فى أ: معه.
(2) ساقطة من أ. وفى الحاشية: ذلكم.
(3) أى مشركون مع الله آلهة أخرى.(1/287)
أَهْل الكتاب» بهذه الآية التي فِي البقرة «1» . وأمر الْمُؤْمِنِين أن يقرءوها فنزل قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ»
يعني صدقنا بتوحيد اللَّه وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا يعني الإقرار بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى «3» يعني وما أعطى مُوسَى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ يَقُولُ لا نكفر ببعض ونؤمن ببعض وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ- 84- يعني مخلصين وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ- 85- نزلت فِي طعمة بن أبيرق الْأَنْصَارِيّ من الأوس من بني صقر، ارتد عن الْإِسْلام ولحق بكفار مكة كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ يعني البيان وَاللَّهُ لا يَهْدِي إلى دينه الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ- 86- أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَلعنة الْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ- 87- يعني والعالمين كلهم خالِدِينَ فِيها فِي اللعنة مقيمين فيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ- 88- يعني لا يناظر بهم العذاب نزلت فِي اثني عشر رَجُلا ارتدوا عن الْإِسْلام وخرجوا من المدينة كهيئة البداة «4» ثُمّ انصرفوا إلى طريق مكة، فلحقوا بكفار مكة منهم طعمة بن أبيرق الْأَنْصَارِيّ، ومقيس بن ضبابة الليثي، وعبد اللَّه بن أَنَس بن خطل من بنى ثيم ابن مرة الْقُرَشِيّ. ووجوج بن الأسلت الْأَنْصَارِيّ، وأَبُو عامر بن النعمان الراهب،
__________
(1) سورة البقرة: 136 وهي قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ.
(2) فى أ، ل: قولوا آمنا بالله. وفى حاشية أ: التي فى آل عمران هنا: قل.
(3) فى أ: ويحى. والمثبت من ل.
(4) فى أ: البد، ل: البداة.(1/288)
والحارث بن سُوَيْد بن الصَّامِت الْأَنْصَارِيّ من بني عمرو بن عَوْف، أخو الجلاس بن سُوَيْد بن الصَّامِت، ثُمّ أن الْحَارِث ندم فرجع تائبا من ضرار «1» ثُمّ أرسل إلى أَخِيهِ الجلاس إني قَدْ رجعت تائبا فسل النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هل لي من توبة وإلا لحقت بالشام فانطلق الجلاس إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَه فلم يرد عَلَيْه شيئًا فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي الْحَارِث فاستثنى إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فلا يعذبون مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني من بعد الكفر «2» وَأَصْلَحُوا فِي العمل فيما بقي فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لكفره رَحِيمٌ- 89- به فيما بقي «3» فبلغ أمر الْحَارِث الأحد عشر الَّذِين بمكة. فقالوا: نقيم بمكة ما أقمنا ونتربص بمحمد الموت، فإذا أردنا المدينة فسينزل فينا ما نزل فِي الْحَارِث ويقبل مِنَّا ما يقبل منه. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فيهم إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً قَالُوا: نقيم بمكة كفارا، فإذا أردنا المدينة فسينزل فينا كَمَا نزل فِي الْحَارِث لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ- 90- ثُمّ أخبرهم عَنْهُمْ وعن الكفار وما لهم فِي الآخرة. فَقَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فيود أحدهم أن يَكُون لَهُ ملء الأرض ذهبا، يقدر عَلَى أن يفتدى به نفسه من العذاب لافتدى به فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ ما قبل منه أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلَهُ عذاب وجميع نظيرها فِي المائدة «4» وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ- 91- يعني من مانعين يمنعونهم من العذاب. قوله- سبحانه-:
__________
(1) هكذا (ضرار) بفتح الراء فى الأصل.
(2) فى أ، ل: (إلّا الذين تابوا) فلا يعذبوا بعد الكفر يعنى (من بعد) الكفر.
(3) (غفور رحيم) لكفر فيما بقي، والمثبت من ل. [.....]
(4) يشير إلى الآية 36 من سورة المائدة وهي إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.(1/289)
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا يَقُولُ لن تستكملوا التقوى حَتَّى تنفقوا فِي الصدقة مِمَّا تُحِبُّونَ من الأموال وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ «1» يعني من صدقة فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ- 92- يعنى عالم به يعنى بنياتكم [58 ب] كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ «2» مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ وذلك أن يَعْقُوب بن إسحاق خرج ذات ليلة، ليرسل الماء فِي أرضه، فاستقبله ملك فظن أَنَّهُ لص يريد أن يقطع عَلَيْه الطريق فعالجه فِي المكان الَّذِي كان يقرب فِيهِ القربان يدعى شانير «3» فكان أوّل قربان قربه بأرض المَقْدِس. فَلَمَّا أراد الملك أن يفارقه، غمز فخذ يَعْقُوب برجليه ليريه أَنَّهُ لو شاء لصرعه، فهاج به عرق النساء، وصعد الملك إلى السماء، ويعقوب ينظر إِلَيْهِ فلقي منها البلاء، حَتَّى لَمْ ينم الليل من وجعه، وَلا يؤذيه بالنهار، فجعل يَعْقُوب للَّه- عَزَّ وَجَلّ- تحريم لحم الإبل وألبانها- وكان من أحبّ الطعام والشراب إِلَيْهِ- لئن شفاه اللَّه. قَالَت اليهود جاء هَذَا التحريم من اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- «فِي التوراة قَالُوا:
حرم اللَّه عَلَى يَعْقُوب وذريته» «4» لحوم الإبل وألبانها. قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لنبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْ لليهود فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها فاقرءوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- 93- بأن تحريم لحوم الإبل فِي التوراة فلم يفعلوا. يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يعيبهم فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ
بأن اللَّه حرمه فِي التوراة مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
البيان فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
- 94- قُلْ صَدَقَ اللَّهُ وذلك
__________
(1) فى أ: ومن، ل: وما.
(2) إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ: ساقط من أ، ومثبت فى ل.
(3) فى ل: شانين، أ: شانير.
(4) ما بين الأقواس « ... » ساقط من أ، ومثبت فى ل.(1/290)
حين قَالَ اللَّه- سُبْحَانَهُ- مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا ... إلى آخر الآية «1»
وقالت اليهود والنصارى: كان إِبْرَاهِيم والأنبياء عَلَى ديننا، فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقد كان إِبْرَاهِيم يحج البيت وأنتم تعلمون ذَلِكَ فلم تكفرون بآيات اللَّه يعني بالحج
فذلك قوله- سُبْحَانَهُ- «قُلْ صَدَقَ اللَّهُ» فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً يعنى حاجا وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ- 95- يَقُولُ لَمْ يَكُنْ يهوديا وَلا نصرانيا.
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ يعني أول مَسْجِد وُضِعَ لِلنَّاسِ يعني للمؤمنين لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وإنما سمي بكة لأنه يبك الناس بعضهم بعضا فِي الطواف. ومباركا فِيهِ البركة: مغفرة للذنوب وَهُدىً لِلْعالَمِينَ- 96- يعني الْمُؤْمِنِين من الضلالة لمن صلى فِيهِ. وضلالة لمن صلى قبل بيت المَقْدِس. وذلك أن الْمُسْلِمِين واليهود اختصموا فِي أمر القبلة. فَقَالَ المسلمون: القبلة الكعبة. وقالت اليهود:
القبلة بيت المَقْدِس. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أن الكعبة أول مَسْجِد كان فِي الأرض، والبيت قبلة لأهل المسجد الحرام، والحرم كله قبلة الأرض ثُمّ قَالَ- عَزَّ وجل- فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ يعني علامة واضحة أثر مقام إِبْرَاهِيم- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ دَخَلَهُ فِي الْجَاهِلِيَّة كانَ آمِناً حَتَّى يَخْرُج منه وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ يعني الْمُؤْمِنِين حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا يعنى [59 أ] بالاستطاعة الزاد والراحلة وَمَنْ كَفَرَ من أَهْل الأديان بالبيت وَلَم يحج واجبا، فقد كفر. فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: «وَمَنْ كَفَرَ» فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ- 97- قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعنى بالقرآن «2» وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ- 98- قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ يعنى
__________
(1) سورة آل عمران: 67 وتمامها مَا كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
(2) فى أ: يعنى القرآن.(1/291)
اليهود لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أهل الإيمان نزلت في حذيفة، وعمار بن ياسر حين دعوهما إلى دينهم. فقالوا لهما: ديننا أفضل من دينكم، ونحن أهدى منكم سبيلا. فقال- عز وجل-: «لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» عن دين الْإِسْلام مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً يعني بملة الْإِسْلام زيغا وَأَنْتُمْ شُهَداءُ «1» أن الدّين هُوَ الْإِسْلام وأن محمدا رَسُول اللَّهِ ونبى وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ- 99- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني طائفة من الَّذِين أوتوا الكتاب يعني أعطوا التوراة يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ- 100- وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ يعني القرآن وَفِيكُمْ رَسُولُهُ يعني محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين أظهرهم وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ يعنى يحترز بِاللَّه فيجعله ثقته فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ- 101- يعنى إلى دين الإسلام يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعنى الأنصار اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَهُوَ أن يطاع فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يكفر، نسختها «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» «2» وذلك أَنَّهُ «3» كان بين الأوس والخزرج عداوة فِي الْجَاهِلِيَّة فِي دم شمير وحاطب فقتل بعضهم بعضا حينا فَلَمَّا هاجر النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة أصلح بينهم فلما كان بعد ذلك افتخر منهم رجلان أَحَدهمَا ثَعْلَبَة بن غنيمة من الأوس، والآخر سعد بن زُرَارَة من بني الخزرج، من بني سَلَمَة بن جشم، فجرى الحديث بينهما فغضبا. فقال الخزرجي: أما واللَّه لو تأخر الْإِسْلام عنا وقدوم رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- علينا لقتلنا سادتكم، واستعبدنا أبناءكم، ونكحنا نساءكم، بغير مهر.
فَقَالَ الأوسي: قَدْ كان الْإِسْلام متأخرا زمانا طويلا فهلا فعلتم فقد ضربناكم بالمرهفات حَتَّى أدخلناكم الديار. وذكرا الأشعار والموتى، وافتخرا وانتسبا
__________
(1) فى الأصل تشهدون. نقلا عن حاشية أ.
(2) سورة التغابن: 16.
(3) فى أ: أن.(1/292)
حَتَّى كان بَيْنَهُمَا دفع وضرب بالأيدي والسعف «1» والنعال، فغضبا فناديا فجاءت الأوس إلى الأوس، والخزرج إلى الخزرج بالسلاح وأسرع بعضهم إلى بعض بالرماح فبلغ ذَلِكَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فركب حمارا، وأتاهم فَلَمَّا أن عاينهم ناداهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [59 ب]
وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ- 102- يعنى معتصمين بالتوحيد وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ يعنى بدين الله جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا يعني وَلا تختلفوا فِي الدّين كَمَا اختلف أهل الكتاب وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الإسلام إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فِي الْجَاهِلِيَّة يقتل بعضكم بعضا فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً يعني برحمته إخوانا فِي الْإِسْلام وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها يَقُولُ للمشركين الميت منكم فِي النار، والحي منكم عَلَى حرف النار. إن مات دخل النار. «فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها» يعني من الشرك إلى الْإِيمَان كَذلِكَ يعني هكذا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ يعني علاماته فِي هَذِهِ النعمة: أعداء فِي الْجَاهِلِيَّة إخوانا فِي الْإِسْلام لَعَلَّكُمْ لكي تَهْتَدُونَ- 103- فتعرفوا علاماته فِي هَذِهِ النعمة.
فَلَمَّا سَمِع القوم القرآن من النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تحاجزوا ثُمّ عانق بعضهم بعضا وتناول بخدود بعض بالتقبيل والالتزام. يَقُولُ جَابِر بن عَبْد اللَّه وَهُوَ فِي القوم: لقَد اطلع إلينا رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما أحد هُوَ أكره طلعة إلينا منه لما كنا هممنا به فَلَمَّا انتهى إليهم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: اتقوا اللَّه وأصلحوا ذات بينكم.
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يعني عصبة يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- 104- فوعظ الله المؤمنين لكي لا يتفرقوا، وَلا يختلفوا كفعل أَهْل الكتاب، فَقَالَ: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا فى الدين
__________
(1) فى أ: والسقف.(1/293)
بعد موسى فصاروا أديانا مِنْ بَعْدِ مَا جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ يعنى البيان وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ- 105- يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل أن يبعث فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ- 106- وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ يعني فِي جَنَّة اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ- 107- يعني لا يموتون تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ- 108- فيعذب عَلَى غَيْر ذنب وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ- 109- يعني تصير أمور العباد إِلَيْهِ فِي الآخرة. وافتخرت الأَنْصَار، فقالت الأوس «1» :
مِنَّا خُزَيْمة بن ثَابِت صاحب «2» الشهادتين، ومنا حَنْظَلة غسيل الملائكة، ومنا عَاصِم بن ثَابِت بن الأفلح الَّذِي حمت رأسه الدبر، يعنى الزنابير، ومنا سعد ابن مُعَاذ الَّذِي اهتز العرش لموته، ورضي اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بحكمه، والملائكة فِي أَهْل قريظة وقالت الخزرج: منا أربعة [60 أ] أحكموا القرآن، أبىّ ابن كعب ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثَابِت، وأَبُو زَيْد. ومنا سعد بن عبادة صاحب راية الأنصار وخطيبهم الَّذِي ناحت الجن عَلَيْه فقالوا:
نَحْنُ قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ... فرميناه بسهمين فلم تخط فؤاده «3»
__________
(1) فى أ: وافتخرت الأوس فقار فقالت الأوس. والمثبت من ل.
(2) فى أ: ذو، وفى ل: صاحب.
(3) فى ل: قتلنا، بدون نحن. أقول: وقد كان نزول الآيات السابقة ردا على افتخار الأوس والخزرج وهي قوله تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ...
وانظر أسباب النزول للسيوطي: 48. والواحدي: 66، 67. [.....](1/294)
قوله سُبْحَانَهُ: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ يعني خير الناس للناس وذلك أن مَالِك بن الضيف، ووهب بن يهوذا، قَالا لعبد اللَّه بن مَسْعُود، ومعاذ بن جبل، وسالم مَوْلَى أَبِي حُذَيْفة: إن ديننا خير مما تدعونا إِلَيْهِ فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فيهم كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ فِي زمانكم كَمَا فضل بني إِسْرَائِيل فِي زمانهم تَأْمُرُونَ الناس بِالْمَعْرُوفِ يعني بالإيمان وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بتوحيد الله وتنهوهم عن الظلم وأنتم خير الناس للناس وغيركم من أَهْل الأديان لا يأمرون أنفسهم وَلا غَيْرهم بالمعروف وَلا ينهونهم عن المنكر «1» ، ثُمّ قَالَ: وَلَوْ آمَنَ يعني ولو صدق أَهْلُ الْكِتابِ يعني اليهود بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وما جاء به من الحق لَكانَ خَيْراً لَهُمْ من الكفر. ثم قال: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ يعني عَبْد اللَّه بن سلام وأصحابه وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ- 110- يعني العاصين يعني اليهود لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً وذلك أن رؤساء اليهود كَعْب بن مَالِك، وشعبة «2» ، وبحري «3» ، ونعمان، وأبا ياسر، وأبا نَافِع، وكنانة بن أبي الحقيق، وابن صوريا. عمدوا إلى مؤمنيهم فآذوهم لإسلامهم وهم عَبْد اللَّه بن سلام وأصحابه. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- «لَنْ يَضُرُّوكُمْ» اليهود «إِلَّا أَذىً» باللسان «4» وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ- 111- ثُمّ أخبر عن اليهود، فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-:
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ يعنى المذلة أَيْنَ ما ثُقِفُوا يعني وجدوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ يَقُولُ لا يأمنوا حيث ما توجهوا إِلَّا بعهد من الله، وعهد من
__________
(1) روى الواحدي فى أسباب النزول: 67. رأى مقاتل هذا فى هذه الآية.
(2) فى أ: سفيه، ل: شعبة.
(3) فى أ، ل: بحرى، م: وتحرى.
(4) روى الواحدي قول مقاتل هذا فى أسباب نزول الآية: ص 68. أسباب النزول للواحدي.(1/295)
الناس يعني النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحده وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ يعني استوجبوا الغضب من اللَّه وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والْمَسْكَنَةُ يعني الذل والفقر ذلِكَ الَّذِي نزل بهم بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ الذي أصابهم بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ- 112- فى دينهم بما خبر عنهم، فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وذلك أن اليهود قَالُوا لِابْن سلام وأصحابه: لقَدْ خسرتم حين استبدلتم بدينكم «دينا غيره» «1» وَقَدْ «2» عاهدتم اللَّه بعهد ألا تدينوا إِلَّا بدينكم، فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- «لَيْسُوا سَواءً» يَقُولُ لَيْسَ كفار اليهود، والذين فِي الضلالة بمنزلة ابن سلام وأصحابه الذين هم [60 ب] عَلَى دين اللَّه منهم أُمَّةٌ عصابة قائِمَةٌ بالحق عَلَى دين اللَّه عادلة يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ يعني يقرءون كلام اللَّه آناءَ اللَّيْلِ يعني ساعات الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ- 113- يعني يصلون بالليل يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني يصدقون بتوحيد اللَّه والبعث الَّذِي فِيهِ جزاء الأعمال وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ يعني إيمانا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ يعني عن تكذيب بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يعنى شرائع الإسلام وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ- 114- وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ فلن يضل عَنْهُمْ بل يشكر ذَلِكَ لهم وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ- 115- يعنى ابن سلام وأصحابه، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ- 116- ثُمّ ذكر نفقة سفلة اليهود من الطعام والثمار عَلَى رءوس اليهود كَعْب بن الأشرف وأصحابه يريدون بها الآخرة فضرب
__________
(1) الزيادة من أسباب النزول للواحدي حيث أورد قول ابن عباس ومقاتل فى الآية ص 68.
(2) فى أ: ولقد وقد، ل: وقد.(1/296)
الله- عز وجل- مثلا لنفقاتهم، فقال: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا
وهم كفار يعنى سفلة اليهودمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ
يعنى بردا شديداصابَتْ
الريح الباردةرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ
فلم يبق منه شيئًا كَمَا أهلكت الريح الباردة حرث الظلمة فلم ينفعهم حرثهم، فكذلك أهلك اللَّه «نفقات» سفلة اليهود ومنهم كفار مكة التي أرادوا بها الآخرة فلم تنفعهم نفقاتهم، فذلك قوله- عز وجل-: ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ
حين أهلك نفقاتهم فلم تتقبل منهم لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
- 117- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني المنافقين عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ، ومالك بن دخشم الْأَنْصَارِيّ، وأصحابه دعاهم اليهود إلى دينهم منهم إصبغ ورافع ابني حَرْمَلَة وهما رءوس اليهود فزينوا لهما ترك الْإِسْلام حَتَّى أرادوا أن يظهروا الكفر فأنزل اللَّه- عَزَّ وجل- يحذرهما ولاية اليهود «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً «1» يعني اليهود مِنْ دُونِكُمْ يعني من دون المؤمنين لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا يعنى غيا وَدُّوا ما عَنِتُّمْ يعني ما أثمتم لدينكم فِي دينكم قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ يعني ظهرت البغضاء مِنْ أَفْواهِهِمْ يعني قَدْ ظهرت العداوة بألسنتهم وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ يعنى ما تسر قلوبهم من الغش
__________
(1) جاء فى الدر المنثور للسيوطي 2/ 22 أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود لما كان بينهم من الجوار والحلف فى الجاهلية فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم منهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ... الآية.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبى حاتم عن مجاهد فى الآية قال نزلت فى المنافقين من أهل المدينة نهى المؤمنين أن يتولوهم. وقيل هم الخوارج.
وفى أسباب النزول للواحدي: 68 نزلت هذه الآية فى قوم من المؤمنين كانوا يصادقون المنافقين ويواصلون رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع فأنزل الله- تعالى- هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم. وهو قول ابن عباس ومجاهد.(1/297)
أَكْبَرُ مما بدت بألسنتهم قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ يَقُولُ فَفِي هَذَا بيان لَكُمْ منهم إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ- 118- ثم قال- سبحانه-: ها أَنْتُمْ مَعْشَر الْمُؤْمِنِين أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ تحبون هَؤُلاءِ اليهود- فِي التقديم- لما أظهروا من الْإِيمَان بمحمد- صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به وَلا يُحِبُّونَكُمْ [61 أ] لأنهم ليسوا عَلَى دينكم وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ كتاب محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والكتب كلها التي كَانَتْ قبله وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا يعني صدقنا بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبما جاء به، وهم كذبة يعني اليهود مثلها فى المائدة- وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ ... إلى آخر الآية «1» ثُمّ قَالَ: وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ يعني أطراف الأصابع مِنَ الْغَيْظِ الَّذِي فِي قلوبهم ودوا لو وجدوا ريحا يركبونكم بالعداوة قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ يعني اليهود إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ- 119- يعني يعلم ما فِي قلوبهم من العداوة والغش للمؤمنين ثُمّ أخبر عن اليهود. فَقَالَ- سبحانه-: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ يعني الفتح والغنيمة يوْم بدر تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ القتل والهزيمة يوْم أحد يَفْرَحُوا بِها ثُمّ قَالَ للمؤمنين: وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى أمر اللَّه وَتَتَّقُوا معاصيه لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً يعني قولهم إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ- 120- أحاط علمه بأعمالهم وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ عَلَى راحلتك يا محمد يوْم الأحزاب تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ يعني «2» توطن لهم مَقاعِدَ لِلْقِتالِ فِي الخندق قبل أن يستبقوا إِلَيْهِ ويستعدوا للقتال وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ- 121- إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا
__________
(1) سورة المائدة: 61 وهي: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ.
(2) فى حاشية أ: توطئ، محمد، وفى أ، ل: توطن.(1/298)
يعني ترك المركز: منهم بنو حارثة بن الْحَارِث، ومنهم أَوْس بن قيظي، وأَبُو عربة بن أَوْس بن يامين، وبنو سَلَمَة بن جشم، وهما حيان من الأَنْصَار وَاللَّهُ وَلِيُّهُما حين عصمها فلم يتركا المركز وقالوا: ما يسرنا أَنَا لَمْ نهم بالذي هممنا إذا كان اللَّه ولينا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ- 122- يعني فليثق المؤمنون به وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ وأنتم قليل يذكرهم النعم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تعصوه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ- 123- ربكم فِي النعم إِذْ تَقُولُ يا محمد لِلْمُؤْمِنِينَ يوم أحد أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ- 124- عليكم من السماء وذلك حين سألوا المدد فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-:
بَلى يمددكم ربكم بالملائكة إِنْ تَصْبِرُوا لعدوكم وَتَتَّقُوا معاصيه وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يعني من وجههم هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ فزادهم ألفين مُسَوِّمِينَ- 125- يعني معلمين بالصوف الأبيض فِي نواصي الخيل، وأذنابها عَلَيْهَا البياض معتمين بالبياض وَقَدْ أرخوا أطراف العمائم بين أكتافهم. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ يَقُولُ وما جعل المدد من الملائكة إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ يعني ولكي تسكن قُلُوبُكُمْ «1» بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَقُولُ النصر لَيْسَ بقلة العدد وَلا بكثرته وَلَكِن النصر من عِنْد اللَّه الْعَزِيزِ يعني المنيع في ملكه الْحَكِيمِ- 126- في أمره [61 ب] حكم النصر للمؤمنين، نظيرها فِي الأنفال «2» ، لِيَقْطَعَ لكي يقطع طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أَهْل مكة أَوْ يَكْبِتَهُمْ يعني يخزيهم فَيَنْقَلِبُوا إلى مكة خائِبِينَ- 127- لم يصيبوا
__________
(1) فى أ: (قلوبكم) إليه وفى الحاشية (قلوبكم به) إليه.
(2) سورة الأنفال: 10 وهي وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.(1/299)
ظفرا، ولا خيرا فلم يصبر المؤمنون وتركوا المركز، وعصوا فرفع عَنْهُم المدد، وأصابتهم الهزيمة بمعصيتهم، فيها تقديم لَيْسَ لَكَ يا محمد مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ وذلك أن سبعين رَجُلا من أصحاب الصفة فقراء، كانوا إذا أصابوا طعاما فشبعوا منه تصدقوا «1» بفضله، ثُمّ إنهم خرجوا إلى الغزو محتسبين إلى قتال قبيلتين من بني سُلَيْم: عصبة وذكوان، فقاتلوهم فقتل السبعون جميعًا فشق عَلَى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه قتلهم. فدعا عليهم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أربعين يومًا فِي صلاة الغداة فأنزل اللَّه- تَعَالَى- «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ» «2» أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فيهديهم لدينه أَوْ يُعَذِّبَهُمْ على كفرهم فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ- 128- ثُمّ عظم نفسه تَعَالَى فَقَالَ: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الخلق عبيده وفى ملكه
__________
(1) فى أ: فتصدقوا.
(2)
جاء فى أسباب النزول للسيوطي: 50. روى أحمد ومسلم عن أنس: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كسرت رباعيته يوم أحد وشج فى وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال: كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم فأنزل الله «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ» .
وروى أحمد والبخاري عن ابن عمر سمعت رَسُول اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: اللهم العن فلانا، اللهم، العن الحارث بن هشام، اللهم العن سهيل بن عمرو، اللهم العن صفوان بن أمية. فنزلت هذه الآية «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ» إلى آخرها فتيب عليهم كلهم.
وروى البخاري عن أبى هريرة نحوه قال الحافظ بن حجر. طريق الجمع بين الحديثين أنه- صلى الله عليه وسلم- دعا على المذكورين فى صلاته بعد ما وقع له من الأمر المذكور يوم أحد فنزلت الآية فى الأمرين معا. لكن يشكل على ذلك ما وقع فى مسلم من
حديث أبى هريرة أنه- صلى الله عليه وسلم- كان يقول فى الفجر اللهم العن رعلا وذكوان وعصية حتى أنزل الله عليه «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ»
ووجه الإشكال أن الآية نزلت فى قصة أحد وقصة رعل وذكوان بعدها، ثم ظهرت لي علة الخبر وأن فيه إدراجا فإن قوله حتى أنزل الله منقطع من رواية الزهري عمن بلغه. بين ذلك مسلم وهذا البلاغ لا يصح فيما ذكرته قال: ويحتمل أن يقال أن قصتهم كانت عقب ذلك. وتأخر نزول الآية عن سببها قليلا ثم نزلت فى جميع ذلك.(1/300)
يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ- 129- فِي تأخير العذاب عن «1» هذين الحيين من بنى سليم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وذلك أن الرَّجُل كان إذا حل ماله طلبه من صاحبه، فيقول المطلوب أخر عني وأزيدك عَلَى مَالِك، فيفعلون ذَلِكَ، فوعظهم اللَّه- تَعَالَى- وقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ فِي الربا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ- 130- ثُمّ خوفهم، فَقَالَ: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ- 131- وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ- 132- يعني لكي ترحموا فلا تعذبوا ثُمّ رغبهم فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَسارِعُوا بالأعمال الصالحة إِلى مَغْفِرَةٍ لذنوبكم مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ يقول عرض الجنة كعرض سبع سماوات وسبع أرضين جميعًا لو ألصق بعضها إلى بعض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ- 133- ثُمّ نعتهم، فَقَالَ: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ يعني فِي «اليسر» «2» والعسر «3» وَفِي الرخاء والشدة وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَهُوَ الرَّجُل يغضب فِي أمر فإذا فعله وقع فِي معصية، فيكظم الغيظ ويغفر. فذلك قوله:
وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ ومن يفعل هَذَا فقد أحسن فذلك قوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ- 134-
فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إني أرى هَؤُلاءِ فِي أمتي قليلا «4» ، وكانوا أكثر فِي الأمم الخالية
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً وذلك
أن رَجُلا خرج غازيا وخلف رَجُلا فِي أهله وولده، فعرض لَهُ الشَّيْطَان فِي أهله، فهوى المرأة فكان منه ما ندم، فأتى أبا بَكْر الصِّدِّيق- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- فقال:
هلكت. قال: وما هلاك. قال: ما من شيء يناله الرجل [62 أ] من المرأة إلا وَقَدْ نلته غَيْر الجماع فَقَالَ أَبُو بَكْر- رضى الله عنه-: ويحك أما علمت
__________
(1) فى أ: على. [.....]
(2) ليست فى النسخ.
(3) فى أ: العيش، وفى ل: والعسر.
(4) فى أ: قليل، ل: قليلا.(1/301)
أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يغار للغازي ما لا يغار للقاعد، ثُمّ لقي عُمَر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- فَأَخْبَرَه. فَقَالَ لَهُ مثل مقالة أَبِي بَكْر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- ثُمّ أتى النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال له، مثل مقالتهما فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِيهِ «وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» يعنى الزنا أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ما كان نال منها «1» دون الزنا ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا يقيموا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ- 135- أنها معصية فَمنْ استغفر ف أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها يعني مقيمين فِي الجنان لا يموتون وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ- 136- يعني التائبين من الذنوب. فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
ظلمت نفسك، فاستغفر الله، وتب إِلَيْهِ. فاستغفر الرَّجُل، واستغفر لَهُ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
نزلت هَذِهِ الآية فِي عُمَر بن قَيْس «2» ويكنى أبا مقبل.
وذلك حين أقبل إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ صدمه حائط، وإذا الدم يسيل عَلَى وجهه عقوبة لما فعل. فانتهى إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأذن بلال بالصلاة: صلاة الأولى. فسأل أَبُو مقبل النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما توبته فلم يجبه ودخل المسجد وصلى الأولى، ودخل
__________
(1) فى أ: منهم، ل: منها.
(2)
جاء فى أسباب النزول للواحدي: 70 قوله تعالى وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الآية قال ابن عباس فى رواية عطاء: نزلت فى نبهان التمار أتته امرأة حسناء باع منها تمرا فضمها إلى نفسه وقبلها، ثم ندم على ذلك، فأتى النبي- صلى الله عليه وسلم- وذكر ذلك له فنزلت هذه الآية.
وقال فى رواية الكلبي: إن رجلين: أنصاريا وثقفيا آخى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- بينهما، فكانا لا يفترقان. فخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بعض مغازيه، وخرج معه الثقفي وخلف الأنصارى فى أهله وحاجته وكان يتعاهد أهل الثقفي.. وأتم القصة بما يوافق كلام مقاتل المذكور آنفا.(1/302)
أَبُو مقبل، وصلى معه، فنزل جبريل- عَلَيْه السَّلام- بتوبته وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يعني الصلوات الخمس يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «1» يعني الذنوب التي لَمْ تختم «2» بالنار وليس عَلَيْه حد فِي الزنا «3» وما بين الحدين فهو اللمم والصلوات الخمس تكفر هَذِهِ الذنوب وكان ذنب أَبِي «4» مقبل من هَذِهِ الذنوب فَلَمَّا صلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لأبي مقبل: أما توضأت قبل أن تأتينا. قَالَ: بلى. قَالَ: أما شهدت معنا الصَّلاة. قَالَ: بلى. قَالَ فَإِن الصَّلاة قَدْ كفرت ذنبك، وقرأ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذِهِ الآية «5» .
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ يعني عذاب الأمم الخالية فخوف هَذِهِ الأمم بعذاب الأمم ليعتبروا فيوحدوه قوله- سُبْحَانَهُ-: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ- 137- للرسل بالعذاب كان عاقبتهم الهلاك ثُمّ وعظهم فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: هَذَا القرآن بَيانٌ لِلنَّاسِ من العمى وَهُدىً من الضلالة وَمَوْعِظَةٌ من الجهل لِلْمُتَّقِينَ- 138- وَلا تَهِنُوا وَلا تضعفوا عن عدوكم وَلا تَحْزَنُوا عَلَى ما أصابكم من القتل والهزيمة يوم أحد وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ يعني العالين إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- 139-[62 ب] يعنى إن كنتم مصدقين ثُمّ عزاهم فَقَالَ: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ يعني إن تصبكم «6» جراحات يوم أحد فقد مس القوم يعني كفار قريش قرح مثله يَقُولُ قَدْ أصاب المشركين جراحات مثله يوم بدر «7» وذلك قوله- سبحانه-:
__________
(1) سورة هود: 114
(2) فى أ: تحتم، فى ل: تختم.
(3) فى أ: الدنيا، ل: الزنا.
(4) فى أ: أبو وهو مضاف إليه وصوابه: أبى.
(5) أى الآية المذكورة قريبا وهي أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ....
(6) فى الأصل: يصيبكم.
(7) فى أسباب النزول للواحدي: 71 ما يوافق ذلك.(1/303)
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ يوم لَكُمْ ببدر ويوم عليكم بأحد مرة للمؤمنين ومرة للكافرين. بديل للكافرين من الْمُؤْمِنِين ويبتلى الْمُؤْمِنِين بالكافرين وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ يعني وليرى إيمان الَّذِينَ آمَنُوا منكم عِنْد البلاء فيتبين إيمانهم أيشكوا فِي دينهم أم لا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ- 140- يعنى المنافقين وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالبلاء ليرى صبرهم وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ- 141- يعني ويذهب دعوة الكافرين الشرك يعني المنافقين فيبين «1» نفاقهم وكفرهم ثُمّ بين للمؤمنين أَنَّهُ نازل بهم الشدة والبلاء فِي ذات اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فَقَالَ: أَمْ حَسِبْتُمْ يعني أحسبتم وذلك أن المنافقين قَالُوا للمؤمنين يوم أحد بعد الهزيمة: لم تقتلون أنفسكم، وتهلكون أموالكم، فَإِن محمدا لو كان نبيا لَمْ يسلط عَلَيْه القتل. قَالَ المؤمنون: بلى من قُتِل مِنَّا دخل الجنة. فَقَالَ المنافقون: لَمْ تمنون أنفسكم الباطل، فأنزل اللَّه- تَعَالَى- أَمْ حَسِبْتُمْ مَعْشَر الْمُؤْمِنِين أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ يعني ولما يرى اللَّه الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ فى سبيل الله وَلما يَعْلَمِ يعني يرى الصَّابِرِينَ- 142- عِنْد البلاء. وليمحص أَيّ يَقُولُ إذا جاهدوا وصبروا رَأَى ذَلِكَ منهم، وإذا لَمْ يفعلوا لَمْ ير ذَلِكَ منهم وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ وذلك حين أخبر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عن قتلى بدر وما هُمْ فِيهِ من الخير. قَالُوا: يا نَبِيّ اللَّه أرنا يومًا كيوم بدر. فأراهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يوم أحد فانهزموا فعاتبهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ يعني القتال من قبل أن تلقوه فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ- 143- وقالوا يومئذ إن محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قُتِل. فَقَالَ بشر بن النَّضْر الْأَنْصَارِيّ- وَهُوَ عم أنس بن مَالِك-: إن كان محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قتل فإن رب
__________
(1) فى أ: فتبين.(1/304)
محمد حي، أفلا تقاتلون عَلَى ما قاتل عَلَيْه رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى تلقوا اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-. ثُمّ قَالَ النَّضْر: اللَّهُمَّ إني أعتذر إليك مما يَقُولُ هَؤُلاءِ، وأبرأ إليك مما جاء به هَؤُلاءِ ثُمّ شد عليهم بسيفه فقتل منهم من قتل. وقَالَ المنافقون يومئذ: ارجعوا إلى إخوانكم فاستأمنوهم، فارجعوا إلى دينكم الأول. فَقَالَ النَّضْر عند قول المنافقين تلك المقالة «1» [63 أ] فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ يَقُولُ وهل محمد- عَلَيْه السَّلام- لو قُتِل إِلَّا كَمَن قُتِل قبله من الْأَنْبِيَاء أَفَإِنْ ماتَ محمد أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ يعني رجعتم إلى دينكم الأول الشرك. ثُمّ قال: وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ يَقُولُ ومن يرجع إِلَى الشرك بعد الْإِيمَان فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً بارتداده من الْإِيمَان إلى الشرك إِنَّمَا يضر بذلك نفسه وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ- 144- يعني الموحدين للَّه فِي الآخرة وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ يعنى أن تقتل إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ حتى يأذن الله فى موته كِتاباً مُؤَجَّلًا فِي اللوح المحفوظ وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها يعني الَّذِين تركوا المركز يوم أحد وطلبوا الغنيمة. وقَالَ- سُبْحَانَهُ-:
وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها الَّذِين ثبتوا مَعَ أميرهم عَبْد اللَّه بن جُبَيْر الْأَنْصَارِيّ من بني عمرو حَتَّى قتلوا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ- 145- يعني الموحدين فِي الآخرة ثُمّ أخبر بما لقيت الْأَنْبِيَاء والمؤمنون قبلهم يعزيهم ليصبروا، فقال- سبحانه-:
وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ وكم من نَبِيّ «قاتَلَ مَعَهُ قبل محمد» «2» رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ يعني الجمع الكثير فَما وَهَنُوا يعني فَمَا عجزوا لما نزل بهم من قبل أنبيائهم وأنفسهم
__________
(1) أى قال: اللَّهُمَّ، إني أعتذر إليك مما يَقُولُ هَؤُلاءِ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء.. والحديث فى البخاري فى باب الجهاد. وانظر أسباب النزول للواحدي: 71، 72 [.....]
(2) فى أ: قاتل معه قتل معه قبل محمد. والمثبت من ل.(1/305)
لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا يعني خضعوا لعدوهم وَمَا اسْتَكانُوا يعني وما استسلموا يعني الخضوع لعدوهم بعد قَتْل نبيهم فصبروا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ- 146- وَما كانَ قَوْلَهُمْ عِنْد قَتْل أنبيائهم إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا يعني الخطايا الكبار فِي أعمالنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا عِنْد اللقاء حَتَّى لا تزل وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ
- 147- أفلا تقولون كَمَا قَالُوا، وتقاتلون كَمَا قاتلوا، فتدركون من الثواب فِي الدُّنْيَا والآخرة مثل ما أدركوا، فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ- فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا يَقُولُ أعطاهم النصر والغنيمة فِي الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ جنة اللَّه ورضوانه فَمنْ فعل ذَلِكَ فقد أحسن. فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ- 148- وأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي قول المنافقين للمؤمنين، عِنْد الهزيمة:
ارجعوا إلى إخوانكم فادخلوا فى دينهم. فقال- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يعني المنافقين فِي الرجوع إلى أَبِي سُفْيَان يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ كفارا بعد الإيمان فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ- 149-[63 ب] إلى دينكم الأول بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ «1» يعني يَقُولُ فأطيعوا اللَّه مولاكم يعني وليكم وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ- 150- من أبي سُفْيَان وأصحابه ومن معه من كفار العرب يوم أحد سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فانهزموا إلى مكة من غَيْر شيء بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً يعني ما لَمْ ينزل به كتابا فِيهِ حجة لهم بالشرك وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ- 151- يعني مأوى المشركين النار وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ يعني تقتلونهم بإذنه يوم أحد ولكم النصر عليهم حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ يعنى ضعفتم عن ترك المركز
__________
(1) ما بين الأقواس « ... » ساقط من أ.(1/306)
وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ كان تنازعهم أنه قال بعضهم: ننطلق فتصيب الغنائم، وقَالَ بعضهم: لا نبرح المركز كَمَا أمرنا رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ من النصر عَلَى عدوكم فقتل أصحاب الألوية من المشركين مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا الَّذِين طلبوا الغنيمة وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ الَّذِين ثبتوا فِي المركز حَتَّى قتلوا ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ من بعد أن أظفركم عليهم لِيَبْتَلِيَكُمْ بالقتل والهزيمة وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ حيث لَمْ تقتلوا جميعًا عقوبة بمعصيتكم وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ فِي عقوبته عَلَى الْمُؤْمِنِينَ- 152- حيث لَمْ يقتلوا جميعًا إِذْ تُصْعِدُونَ من الوادي إلى أحد وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ يعني بأحد النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ يعني يناديكم من ورائكم يا مَعْشَر الْمُؤْمِنِين أَنَا رَسُول اللَّه. ثُمّ قَالَ: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ وذلك أنهم كانوا يذكرون فيما بينهم بعد الهزيمة ما فاتهم من الفتح والغنيمة، وما أصابهم بعد ذَلِكَ من المشركين، وقتل إخوانهم فهذا الغم الأول والغم الآخر إشراف خَالِد بن الْوَلِيد عليهم من الشعب فِي الخيل، فَلَمَّا أن عاينوه ذعرهم «1» ذَلِكَ وأنساهم ما كانوا فِيهِ من الغم الأول والحزن. فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ من الفتح والغنيمة وَلا ما أَصابَكُمْ من القتل والهزيمة وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ- 153- ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يعني من بعد غم الهزيمة أمنة نعاسا، وذلك أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ألقى عَلَى بعضهم النعاس فذهب غمهم، فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: يَغْشى النعاس طائِفَةً مِنْكُمْ نزلت فِي سبعة نفر، فى أبى بكر [64 أ] الصِّدِّيق، وعمر بن الخَطَّاب، وعلي بن أَبِي طَالِب، والحارث بن الصمة، وسهل بن ضيف ورجلين من الأنصار- رضى الله عنهم-
__________
(1) فى أ: وغرهم، ل: ذعرهم.(1/307)
ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يعني الَّذِين لَمْ يلق عليهم النعاس يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ كذبا يَقُولُ المؤمنون إن محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ قُتِل ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُ كظن جهال المشركين أَبُو سُفْيَان «1» وأصحابه وذلك أنهم قَالُوا إن محمدا قَدْ قُتِل يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ هَذَا قول معتب بن قشير يعني بالأمر النصر يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لنبيه- صَلَّى الله عليه وسلم- قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ يعني النصر كُلَّهُ لِلَّهِ ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ «يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا» «2» يقول يسرون فى قلوبهم ما لا يظهرون لك بألسنتهم وَالَّذِي أخفوا فِي أنفسهم أنهم قَالُوا: لو كُنَّا فِي بيوتنا ما قتلناها هنا، قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لنبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْ لهم يا محمد: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ كَمَا تقولون لخرج من البيوت الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ فَمنْ كتب عَلَيْه القتل لا يموت أبدا ومن كتب عَلَيْه الموت لا يقتل أبدا. وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ- 154- يَقُولُ اللَّه عليم بما فِي القلوب من الْإِيمَان والنفاق والذين أخفوا فِي أنفسهم قولهم إن محمدا قَدْ قُتِل، وقولهم لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا «3» هاهنا، يعني هَذَا المكان فهذا الَّذِي قَالَ اللَّه- سُبْحَانَهُ- لهم: قل لهم يا محمد لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا تقولون لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ قوله- سبحانه-: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يعني انهزموا عن عدوهم مدبرين منهزمين يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع الْمُؤْمِنِين وجمع المشركين يوم أحد إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ يعنى استفزهم الشيطان بِبَعْضِ ما كَسَبُوا
__________
(1) فى أ: أبو سفين.
(2) ما بين القوسين « ... » ساقط من الأصل.
(3) فى حاشية أو فى الأصل: حرجنا.(1/308)
من الذنوب يعني بمعصيتهم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتركهم المركز منهم عُثْمَان بن عَفَّان، ورافع بن المعلى، وخارجة بن زَيْد، وحذيفة ابن عُبَيْد بن رَبِيعَة، وعثمان بن عُقْبة وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ حين لَمْ يقتلوا جميعًا عقوبة بمعصيتهم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنوبهم حَلِيمٌ- 155- عَنْهُمْ فِي هزيمتهم فلم يعاقبهم ثُمّ وعظ اللَّه الْمُؤْمِنِين ألا يشكوا كشك المنافقين. فقال سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا فِي القول كَالَّذِينَ كَفَرُوا يعني المنافقين وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ يعني عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ، وذلك أَنَّهُ قَالَ يوم أحد لعبد اللَّه بن رباب «1» الْأَنْصَارِيّ وأصحابه: إِذا ضَرَبُوا يعني ساروا فِي الْأَرْضِ [64 ب] تجارا أَوْ كانُوا غُزًّى جمع غاز «2» لَوْ كانُوا عِنْدَنا مَا ماتُوا يعني التجار وَما قُتِلُوا يعني الغزاة قَالَ عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ ذَلِكَ حين انهزم المؤمنون وقتلوا. يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ القتل حَسْرَةً يعني حزنا فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي الموتى وَيُمِيتُ الأحياء لا يملكهما غيره، وليس ذلك بأيديهم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ- 156- وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ فى غير قتل لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ لذنوبكم وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ «3» - 157- من الأموال ثُمّ حذرهم الْقِيَامَة فَقَالَ: وَلَئِنْ مُتُّمْ فِي غير قتل أَوْ قُتِلْتُمْ فِي سبيله لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ- 158- فيجزيكم بأعمالكم فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ فبرحمة اللَّه كان «4» إذ لنت لهم فِي القول، وَلَم تسرع إليهم بما كان منهم يوم أحد
__________
(1) فى أ: دياب، ل: رباب.
(2) جمع غاز. هكذا كتب فى حاشية أ. ولا أدرى هل سقط من الأصل فتداركه الناسخ أم هي زيادة للشرح والتوضيح. والمرجح أنه سقط سهوا ثم تداركه الناسخ. لأنه لم يكتب بجواره محمد كعادته فيما يزيده من نفسه.
(3) فى أ: تجمعون.
(4) فى أ: إذا:، فى ل: إذ.(1/309)
يعنى المنافقين وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا باللسان غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لتفرقوا عنك يعني المنافقين فَاعْفُ عَنْهُمْ يَقُولُ اتركهم وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ لما كان منهم يوم أحد وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ وذلك أن العرب فِي الْجَاهِلِيَّة كان إذا أراد سيدهم أن يقطع أمرا دونهم وَلَم «1» يشاورهم شق ذَلِكَ عليهم. فأمر اللَّه- عَزَّ وجل- النبي- صلى الله عليه وسلم- أن يشاورهم فِي الأمر إذا أراد فَإِن ذَلِكَ أعطف لقلوبهم عَلَيْه، وأذهب لضغائنهم فَإِذا عَزَمْتَ يَقُولُ فإذا فرق اللَّه «2» لك الأمر بعد المشاورة فامض لأمرك فَتَوَكَّلْ «3» عَلَى اللَّهِ يَقُولُ فثق بِاللَّه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ- 159- عَلَيْه يعني الَّذِين يثقون به إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ يعنى يمنعكم فَلا غالِبَ لَكُمْ يعني لا يهزمكم أحد وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ يعني يمنعكم من بعد الله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ- 160- وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ يعني أن يخون فِي الغنيمة يوم أحد وَلا يجور فِي قسمته فِي الغنيمة
نزلت فِي الَّذِين طلبوا الغنيمة يوم أحد، وتركوا المركز، وقالوا: إنا نخشى أن يَقُولُ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أَخَذَ شيئًا فهو له ونحن هاهنا وقوف فَلَمَّا رآهم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ألم أعهد إليكم ألا تبرحوا من المركز حَتَّى يأتيكم أمري. قَالُوا: تركنا بَقِيَّة إخواننا وقوفا فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ظننتم أَنَا نغل فنزلت وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ
ثُمّ خوف اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- من يغل فَقَالَ: وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ بر وفاجر ما كَسَبَتْ من خير أَوْ شر وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ- 161- فى أعمالهم. ثُمّ قال- سُبْحَانَهُ-: أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ
__________
(1) فى أ، ل: لم.
(2) لفظ الجلالة ليس فى ل ومثبت من أ.
(3) فى أ: وتوكل.(1/310)
يعنى رضى ربه- عَزَّ وَجَلّ- وَلَم يغلل كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ [65 أ] يعني استوجب السخط من اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي الغلول «ليسوا سواء ثُمّ بين مستقرهما «1» فَقَالَ: وَمَأْواهُ يعني ومأوى من غل جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ- 162- يعني أَهْل الغلول» «2» .
ثُمّ ذكر- سُبْحَانَهُ- من لا يغل فَقَالَ: هُمْ يعني لهم دَرَجاتٌ يعني لهم فضائل عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ- 163- من غل منكم ومن لَمْ يغل فهو بصير بعمله لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ يعني القرآن وَيُزَكِّيهِمْ يعني ويصلحهم وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ يعني القرآن وَالْحِكْمَةَ يعني المواعظ التي فِي القرآن من الحلال والحرام والسنة وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ أن يبعث محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ- 164- يعني بين مثلها فِي الجمعة «3» أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ وذلك أن سبعين رَجُلا من الْمُسْلِمِين قتلوا يوم أحد يوم السبت فِي شوال لإحدى عشرة ليلة خلت منه، وقُتِل من المشركين قبل ذَلِكَ بسنة فِي سبع عشرة ليلة خلت من رمضان ببدر سبعين رجلا، وأسروا سبعين رَجُلا من المشركين. فذلك قوله- سُبْحَانَهُ: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها من المشركين يوم بدر بمعصيتكم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وترككم المركز «قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ» «4» إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- 165- من النصرة والهزيمة قدير وَما أَصابَكُمْ من القتل والهزيمة بأحد
__________
(1) أى من يغل ومن لا يغل. [.....]
(2) ما بين الأقواس « ... » ساقط من ل، من الغلول إلى الغلول. ولعله سبق نظر من الناسخ.
(3) يشير إلى الآية الثانية من سورة الجمعة وهي هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ.
(4) ساقط من أ، ل.(1/311)
الَّذِين قتلوا ببدر فأنزل اللَّه- تَعَالَى- وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني قتلى بدر أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ- 169- الثمار فِي الجنة وذلك أن اللَّه- تَعَالَى- جعل أرواح الشهداء طيرا خضرا ترعى فِي الجنة لها قناديل معلقة بالعرش تأوي إلى قناديلها فاطلع اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عليهم فَقَالَ- سبحانه-: هل تستزيدونى شيئا فأزيدكم؟ قالوا: أو لسنا نسرح فِي الجنة حيث نشاء ثُمّ اطلع عليهم أخرى فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: هَلْ تستزيدوني شيئًا فأزيدكم؟ ثُمّ اطلع الثالثة فَقَالَ- سُبْحَانَهُ- هَلْ تستزيدوني شيئًا فأزيدكم؟
قَالُوا: ربنا نريد أن ترد أرواحنا فِي أجسادنا فنقاتل فِي سبيلك مرة أخرى، لما نرى من كرامتك إيانا ثُمّ قَالُوا فيما بينهم: ليت إخواننا الَّذِين فِي دار الدُّنْيَا يعلمون ما نَحْنُ فِيهِ من الكرامة والخير والرزق فَإِن شهدوا قتالا سارعوا بأنفسهم إلى الشهادة: فسمع اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- كلامهم [66 أ] فأوحى إليهم أني منزل عَلَى نبيكم ومخبر إخوانكم بما أنتم فِيهِ فاستبشروا بِذَلِك فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يحبب الشهادة إلى الْمُؤْمِنِين وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ من الثمار. ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ- فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ يعني راضين بما أعطاهم اللَّه مِنْ فَضْلِهِ يعني الرزق وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ يعني من بعدهم من إخوانهم فِي الدُّنْيَا أنهم لو رأوا قتالا لاستشهدوا ليلحقوا بهم. ثم قال- سبحانه-: أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ- 170- عند الموت يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ يعني رحمة من اللَّه وَفَضْلٍ «1» ورزق وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ- 171- يعنى أجر المصدقين بتوحيد الله
__________
(1) ساقط من أ. وفى حاشية أعلامه على كلمة ورزق وتحت العلامة: التلاوة وفضل.(1/314)
- عز وجل- الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وذلك
أن المشركين انصرفوا يوم أحد ولهم الظفر فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إني سائر فِي أثر القوم.
وكان النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم أحد عَلَى بغلة شهباء فدب المنافقون إلى الْمُؤْمِنِين. فقالوا: أتوكم فِي دياركم فوطئوكم قتلا، وكان لَكُم النصر يوم بدر، فكيف تطلبونهم وهم اليوم عليكم أجرأ، وأنتم اليوم أرعب. فوقع فِي أنفس الْمُؤْمِنِين قول المنافقين، فاشتكوا ما بهم من الجراحات فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ... إلى آخر الآية «1» . وأنزل اللَّه- تَعَالَى- إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ ... - يعني تتوجعون من الجراحات إلى آخر الآية «2» . فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأطلبنهم ولو بنفسي. فانتدب مَعَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سبعون رَجُلا من المهاجرين والأنصار حَتَّى بلغوا صفراء بدر الصغرى «3» فبلغ أبا سُفْيَان «4» أن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يطلبه فأمعن عائدا «5» إلى مكة مرعوبا ولقي أَبُو سُفْيَان «6» نُعَيْم بن مَسْعُود الأشْجَعيّ، وَهُوَ يريد المدينة. فَقَالَ: يا نُعَيْم: بلغنا أن محمدا فِي الأثر فَأَخْبَرَه أن أَهْل مكة قَدْ جمعوا جمعا كثيرًا من قبائل العرب لقتالكم، وأنهم لقوا أبا سُفْيَان فلاموه بكفه عنكم، بعد الهزيمة حَتَّى هموا به، فردوه فَإِن رددت عنا محمدا فلك عشر ذود من الإبل إذا رجعت إلى مكة فسار نُعَيْم فلقي النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فى الصفراء.
__________
(1) سورة آل عمران: 140 وتمامها إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ.
(2) سورة النساء: 104 وتمامها وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.
(3) فى أ: الصفراء، ل: الصغرى.
(4) فى أ: أبا سفين.
(5) فى أ، ل: عوادا.
(6) فى أ: أبا سفين.(1/315)
فَقَالَ: ما وراءك يا نُعَيْم؟ فَأَخْبَرَه بِقَوْلِ أَبِي سُفْيَان. ثُمّ قَالَ: أتاكم الناس. فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ نعم الملتجأ ونعم الحرز فأنزل اللَّه- سُبْحَانَهُ-: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ [مِنْ بَعْدِ مَا أَصابَهُمُ الْقَرْحُ
يعنى الجراحات لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ الفعل وَاتَّقَوْا معاصيه أَجْرٌ عَظِيمٌ- 172- وَهُوَ الجنة «1» ] الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعنى نعيم بن مسعود وحده [66 ب] إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ الجموع لقتالكم فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً يعني تصديقا وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ- 173- يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه- رضي الله عنهم- فأصابوا فَانْقَلَبُوا يعني فرجعوا إلى المدينة بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ يعني الرزق وذلك أنهم أصابوا سرية فِي الصفراء، وذلك فِي ذِي القعدة لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ من عدوهم فِي وجوههم وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ يعنى رضى اللَّه فِي الاستجابة للَّه- عَزَّ وَجَلّ- وللرسول- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي طلب المشركين يَقُولُ اللَّه- سُبْحَانَهُ-:
[وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ- 174- على أهل طاعته] . «2»
__________
(1) ما بين الأقواس [ ... ] ساقط من أ، ل. وهو تمام الآية التي يفسرها. وقد نقلته من مكان آخر فى صحيفة (66 ب) وكان مكانه (66 أ) : إن المذكور ختام الآية 172 آل عمران، ولكنه مذكور فى الأصل فى ختام الآية 174 آل عمران.
(2) ما بين الأقواس [ ... ] من الجلالين.
وما فى أهو: يقول الله- سبحانه-: مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ يعنى الجراحات لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ الفعل وَاتَّقَوْا معاصيه أَجْرٌ عَظِيمٌ وَهُوَ الجنة. والآية التي يفسرها هي الآية 174 من آل عمران وخاتمتها وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ. وقد ترك هذه الخاتمة وأتى بخاتمة آية أخرى مشابهة وهي: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ وهي تمام الآية 172 آل عمران أى تمام الآية قبل السابقة. فلم يذكرها فى ختام آية 172 بل ذكرها فى غير مكانها فى ختام هذه الآية 174.(1/316)
قال: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بن ثابت، قال: حَدَّثَنِي أبي، قال: حدثنا هُذَيْل:
قَالَ مُقَاتِلٌ: فنزلت هَذِهِ الآيات فِي ذِي القعدة بذي الحليفة حين انصرفوا عن طلب أَبِي سُفْيَان وأصحابه بعد قتال أحد إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- ندب الناس يوم أحد فِي طلب المشركين فَقَالَ المنافقون للمسلمين: قَدْ رأيتم ما لقيتم لَمْ ينقلب إِلَّا شريد، وأنتم فِي دياركم تصحرون «1» وأنتم أكلة رأس، واللَّه لا ينقلب منكم أحد، فأوقع الشَّيْطَان قول المنافقين فِي قلوب الْمُؤْمِنِين. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ يعني يخوفهم بكثرة أوليائه من المشركين فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ فى ترك أمرى إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- 175- يعني إذ كنتم يَقُولُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فلا تخافوهم. ثُمّ قَالَ: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يعني المشركين يوم أحد إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يقول لن ينقصوا اللَّه شيئًا من ملكه وسلطانه لمسارعتهم «2» فِي الكفر، إنما يضرون أنفسهم بِذَلِك يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ يعني نصيبا فِي الجنة وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ- 176- ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ- يعنيهم: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ يعني باعوا الْإِيمَان بالكفر لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ يعني لن ينقصوا اللَّه من ملكه وسلطانه شَيْئاً حين باعوا الْإِيمَان بالكفر إِنَّمَا ضروا أنفسهم بذلك وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ- 177- يعنى وجيع وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أبا سُفْيَان وأصحابه يوم أحد أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ حين ظفروا خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ فِي الكفر لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ- 178- يعني الهوان مَا كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ يا مَعْشَر الكفار عَلى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ
__________
(1) فى ل: تصحرون لكم، أ: تصحرون. ولعل معناه تنفرقون فى الصحراء.
(2) فى أ: لسارعتم. [.....](1/317)
من الكفر حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ فِي علمه حَتَّى يميز أَهْل الكفر من أهل الإيمان [67 أ] نظيرها فِي الأنفال «1» . ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-:
وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وذلك أن الكفار قَالُوا: إن كان محمد صادقا فليخبرنا بمن يؤمن مِنَّا، ومن يكفر. فأنزل الله- عز وجل-: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ يعني ليطلعكم عَلَى غيب ذَلِكَ إِنَّمَا الوحي إلى الْأَنْبِيَاء بِذَلِك.
فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي يستخلص مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فيجعله رسولا فيوحي إِلَيْهِ ذَلِكَ لَيْسَ الوحي إلا إلى الأنبياء فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني صدقوا بتوحيد اللَّه- تَعَالَى- وبرسالة محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنْ تُؤْمِنُوا يعني تصدقوا بتوحيد اللَّه- تَعَالَى- وَتَتَّقُوا الشرك فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ- 179- وَلا يَحْسَبَنَّ «2» الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني بما أعطاهم اللَّه من فضله يعني من الرزق وبخلوا بالزكاة أن ذَلِكَ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ البخل هُوَ «3» شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وذلك أن كنز أحدهم يتحول شجاعا أقرع ذكر، ولفيه زبيبتان كَأَنَّهما جبلان فيطوق به فِي عنقه فينهشه فيتقيه بذراعيه فيلتقمهما «4» حَتَّى يقضى بين الناس فلا يزال معه حَتَّى يساق إلى النار ويغل، وذلك قوله- سُبْحَانَهُ-
__________
(1) يشير إلى قوله- تعالى-: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ سورة الأنفال: 37.
(2) فى أ: تحسبن.
(3) هو: ساقطة من أ، ل.
(4) فى أ: فيلتقعهما.(1/318)
سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ «1» » ، ثم قال- سبحانه-: وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَقُولُ إن بخلوا بالزكاة فالله يرثهم ويرث أَهْل السموات وأهل الأرضين فيهلكون ويبقى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ «2» خَبِيرٌ- 180- يعني فِي ترك الصدقة يعني اليهود لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كتب مَعَ أَبِي بَكْر الصِّدِّيق- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- إلى يهود قينقاع يدعوهم إلى إقامة الصَّلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا اللَّه قرضا حسنا. قَالَ فنحاص اليهودي:
إن اللَّه فقير حين يسألنا القروض ونحن أغنياء. وَيَقُولُ اللَّه- عز وجل- سَنَكْتُبُ ما قالُوا فأمر الحفظة أن تكتب «3» كُلّ ما قَالُوا وَتكتب قَتْلَهُمُ «4» الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ «5» أَي تَقُولُ لهم خزنة جَهَنَّم فِي الآخرة ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ- 181- ذلِكَ العذاب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من الكفر والتكذيب وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ- 182- فيعذب على غير ذنب، ثُمّ أخبر عن اليهود حين دعوا إلى الْإِيمَان فَقَالَ- تبارك وتعالى-: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ فَقَالَ- عَزَّ وَجَلّ- لنبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-[67 ب] قُلْ لهم
__________
(1) قارن بأسباب النزول للسيوطي 76، 57.
وفى أسباب النزول للواحدي ص: 276 علق على هذه الآية بقوله: جمهور المفسرين على أنها نزلت فى مانعي الزكاة. وروى عطية عن ابن عباس أن الآية نزلت فى أحبار اليهود كتموا صفة محمد- صلى الله عليه وسلم- ونبو. وأراد بالبخل كتمان العلم الذي أتاهم الله.
(2) فى أ: (والله بما يعملون خبير) .
(3) فى أ: يكتبوا، ل: تكتب.
(4) فى أ: قتل.
(5) وتقول. وفى القرطبي: 98 (وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أى وننتقم منهم بأن نقول لهم ذوقوا العذاب المحرق وفيه مبالغات فى الوعيد. ولم يذكر سوى هذا الوجه.(1/319)
قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ يعني التبيين بالآيات وَبِالَّذِي قُلْتُمْ من أمر القربان فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ فلم قتلتم «1» أنبياء اللَّه من قبل محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- 183- بما تقولون فَإِنْ كَذَّبُوكَ يا محمد يعزي نبيه- صلى الله عليه وسلم- ليصبر على تكذيبهم فلست بأول رسول كذب. فذلك قوله- سبحانه-: فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ يعني بالآيات وَالزُّبُرِ يعني بحديث ما كان قبلهم والمواعظ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ- 184- يعني المضيء البين الذي فيه أمره ونهيه، ثُمّ خوفهم فَقَالَ: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يعني جزاء أعمالكم يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ يعني صرف عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ يعني فقد نجى. ثُمّ وعظهم فَقَالَ: وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ- 185- يعني الفاني الَّذِي لَيْسَ بشيء لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ نزلت في النبي- صلى الله عليه وسلم- وأبي بَكْر الصِّدِّيق- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- يعني بالبلاء والمصيبات وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ حين قَالُوا: إن اللَّه فقير. ثُمّ قَالَ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني مشركي العرب أَذىً كَثِيراً باللسان والفعل وَإِنْ تَصْبِرُوا عَلَى ذَلِكَ الأذى وَتَتَّقُوا معصيته فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ- 186- يعني ذَلِكَ الصَّبْر والتقوى من خير الأمور التي أمر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بها وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعنى أعطوا التوراة وَلا تَكْتُمُونَهُ «2» أَي أمره وأن تتبعوه فَنَبَذُوهُ يعني فجعلوه وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ بكتمان أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَمَناً قَلِيلًا وذلك أن
__________
(1) فى أ: تقتلون. فى الأصل تقديم لكلمة (فلم قتلتموهم) على كلمة وبالذي قلتم. فأصلحت ذلك.
(2) كتب فى أ: (ولا تكتموا) أمره.(1/320)
سفلة اليهود كانوا يعطون رءوس اليهود من ثمارهم وطعامهم عِنْد الحصاد. ولو تابعوا محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لذهب عَنْهُمْ ذَلِكَ المأكل. يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ- 187- لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وذلك أن اليهود قالوا للنبي- صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين دخلوا عَلَيْه: نعرفك نصدقك وليس ذَلِكَ فِي قلوبهم. فَلَمَّا خرجوا من عِنْد النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لهم المسلمون: ما صنعتم؟ قَالُوا: عرفناه وصدقناه. فَقَالَ المسلمون: أحسنتم بارك اللَّه فيكم. وحمدهم المسلمون عَلَى ما أظهروا من الْإِيمَان بالنَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم-[68 أ] فذلك قوله- سُبْحَانَهُ- وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا يا محمد فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ- 188- يعنى وجيع ثُمّ عظم اللَّه نفسه فَقَالَ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وما بَيْنَهُمَا من الخلق عبيده وَفِي ملكه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- 189- إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ خلقين عظيمين وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ- 190- يعني أهل اللب والعقل ثُمّ نعتهم فَقَالَ- سبحانه-:
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا يَقُولُ عبثا لغير شيء لقَدْ خلقتهما لأمر قد كان سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ- 191- رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ يعني من خلدته فِي النار فقد أهنته وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ- 192- يعني وما للمشركين من مانع يمنعهم من النار. قَالُوا: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ فهو محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- داعيا يدعو إلى التصديق أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ يعني صدقوا بتوحيد ربكم فَآمَنَّا أَي فأجابه المؤمنون فقالوا: ربنا آمنا «1» يعنى
__________
(1) فى أ: آمنا. وفى حاشية أ: التلاوة فآمنا.(1/321)
صدقنا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا يعني امح عنا خطايانا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ- 193- يعني المطيعين قَالُوا: رَبَّنا وَآتِنا يعني وأعطنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ يَقُولُ أعطنا من الجنة ما وعدتنا عَلَى ألسنة رسلك وَلا تُخْزِنا يعني وَلا تعذبنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ- 194- فأخبر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بفعلهم وبما أجابهم. وأنجز اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لهم موعوده فذلك قوله- سبحانه- فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ فَقَالَ: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ فِي الخير مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا إلى المدينة وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وذلك أن كفار مكة أخرجوا مؤمنيهم من مكة ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي يعني فِي سبيل دين الْإِسْلام وَقاتَلُوا المشركين وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ يعني لأمحون عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يعني خطاياهم وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني بجنات البساتين، ذَلِكَ الَّذِي ذكر كان ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ- 195- يعني الجنة نزلت فِي أم سَلَمَة- أم الْمُؤْمِنِين رَضِيَ اللَّه عَنْهَا- ابنة أبي أمية المخزومي حين قالت:
مالنا مَعْشَر النساء عِنْد اللَّه خير وما يذكرنا بشيء ففيها «1» نزلت
__________
(1) أى أن كلام أم سلمة كان سببا فى نزول آية إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ..
الآية: سورة الأحزاب 35. ونزول الآية التي معنا فى آل عمران وهي: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ سورة آل عمران: 195.
وفى علم أسباب النزول، يذكرون: أن السبب قد يكون واحدا ويتعدد ما ينزل من القرآن بسببه، ويستشهدون لذلك بكلام أم سلمة حين قالت: مالنا معشر النساء عند الله خير هو وما يذكرنا بشيء فنزل بسبب ذلك ثلاث آيات:
أ- إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ... سورة الأحزاب: 35.
ب- فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى ... سورة آل عمران: 195.
ج- مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ سورة النحل: 97.(1/322)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ فى الأحزاب إلى آخر الآية «1» [68 ب] فأشرك اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الرجال مَعَ النّساء فِي الثواب كَمَا شاركن الرجال فِي الأعمال الصالحة فى الدنيا لا يَغُرَّنَّكَ يا محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ- 196- نزلت فِي مشركي العرب وذلك أن كفار مكة كانوا فِي رخاء ولين عيش حسن فَقَالَ بعض الْمُؤْمِنِين: أعداء اللَّه فيما ترون من الخير وَقَدْ أهلكنا الجهد. فأخبر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بمنزلة الكفار فِي الآخرة، وبمنزلة الْمُؤْمِنِين فِي الآخرة، فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: لا يَغُرَّنَّكَ يا محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما فِيهِ الكفار من الخير والسعة فَإِنَّمَا هُوَ مَتاعٌ قَلِيلٌ يمتعون بها إلى آجالهم ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ- 197- فبين الله- تعالى- مصيرهم ثُمّ بين منازل الْمُؤْمِنِين فِي الآخرة، فَقَالَ- سبحانه-: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ وحدوا ربهم لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها لا يموتون كان ذَلِكَ نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ- 198- يعنى المطيعين وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعنى ابن سلام لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ «2» يعنى يصدق بالله وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ يعني أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- من القرآن وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من التوراة، ثُمّ نعتهم فَقَالَ: خاشِعِينَ لِلَّهِ يعني متواضعين للَّه لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يعني بالقرآن ثَمَناً قَلِيلًا يعني عرضا يسيرا من الدُّنْيَا كفعل اليهود بما أصابوا من سفلتهم من المأكل من الطعام والثمار عِنْد الحصاد ثُمّ قَالَ يعني»
مؤمني أَهْل التوراة
__________
(1) سورة الأحزاب: 35 وتمامها. إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً. [.....]
(2) فى أ: ليؤمن بالله.
(3) يعنى: بمعنى يقصد.(1/323)
ابن سلام وأصحابه أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ يعني جزاؤهم فِي الآخرة عِنْدَ رَبِّهِمْ وهي الجنة إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ- 199- يقول كأنه قد جاء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا على أمر اللَّه- عز وجل- وفرائضه وَصابِرُوا مَعَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي المواطن وَرابِطُوا العدو فِي سبيل اللَّه حَتَّى يدعوا دينهم لدينكم وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تعصوا ومن يفعل ذَلِكَ فقد أفلح فذلك قوله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ- 200-.
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ ثَابِتٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْهُذَيْلُ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا يُوسُفَ يُحَدِّثُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَهْلِ نَجْرَانَ. هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمَّدٌ لأَهْلِ نَجْرَانَ فِي كُلِّ ثَمَرَةٍ، وَكُلِّ صَفْرَاءَ وَبَيْضَاءَ وَسَوْدَاءَ وَرَقِيقٍ فَأَفْضَلَ عَلَيْهِمْ وَتَرَكَ ذلك كله على ألفى حلة كل حُلَلِ الأَلْوَانِ «1» فِي كُلِّ صَفَرٍ أَلْفُ حُلَّةٍ كُلُّ حُلَّةٍ أُوقِيَّةٌ «وَفِي كُلِّ رَجَبٍ أَلْفُ حُلَّةٍ كُلُّ حُلَّةٍ أُوقِيَّةٌ» «2» فَمَا زَادَ مِنْ حلل الخراج [69 أ] عَلَى الأَوَاقِ فَبِحِسَابِهِ، وَمَا قَصُرَ مِنْ دِرْعٍ أَوْ حُلَّةٍ أَوْ خَيْلٍ «3» أَوْ رِكَابٍ أَوْ عِرْضٍ أُخِذَ مِنْهُمْ بِحِسَابِهِ، وَعَلَى نَجْرَانَ مَثُوبَةُ رُسُلِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِشْرِينَ لَيْلَةً وَلا تَحْبِسُ رَسُولِي فَوْقَ شَهْرٍ وَعَلَيْهِمْ عَارِيَةُ ثَلاثِينَ دِرْعًا وَثَلاثِينَ فَرَسًا وَثَلاثِينَ بَعِيرًا إِذَا كَانَ «كُبِّدَ «4» بِالْيَمَنِ» ذُو مَعْذِرَةٍ وَلِنَجْرَانَ وَحَاشِيَتِهَا جِوَارُ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- وَذِمَّةُ محمد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «5» علي أنفسهم
__________
(1) فى أ: الأواق، ل: الألوان.
(2) ما بين الأقواس « ... » ساقط من أومثبت فى ل.
(3) فى ل: زيادة أو حلى.
(4) فى ل: كيد بالتمرد.
(5) فى أ: وذمة محمد رسوله- صلى الله عليه وسلم. وفى ل: وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.(1/324)
وما لهم وأرضهم وأمولهم وَغَائِبِهِمْ وَشَاهِدِهِمْ وَتَابِعِهِمْ ولا يُغَيَّرُ مَا كَانُوا عَلَيْه وَلا يُغَيَّرُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِهِمْ، وَلا مِلَّةٌ مِنْ مِلَلِهِمْ، وَلا يُغَيَّرُ أُسْقُفُّ عَنْ أُسْقُفُيَّتِهِ، وَلا رَاهِبٌ عَنْ رَهْبَانِيَّتِهِ، وَعَلَى «1» مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ. وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ رِبًا وَلا دَمُ جَاهِلِيَّةٍ وَلَا يُحَسَّرُونَ وَلا يُعَشَّرُونَ وَلا يَطَأُ أَرْضَهُمْ حَاشِرٌ وَمَنْ سَأَلَ فِيهِمْ حَقًّا أُنْصِفَ غَيْرَ ظَالِمِينَ وَلا مَظْلُومِينَ وَمَنْ أَكَلَ رِبًا مِنْ ذِي قَبْلُ فَذِمَّتِي مِنْهُ بَرِيئَةٌ وَلا يُؤْخَذُ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِطَلَبِ آخَرَ، وَكُلُّ مَا كَانَ فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ جِوَارُ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلَّ- وَذِمَّةُ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ مَا نَصُحوا وَأَصْلَحُوا فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ غَيْرَ مُتَغَلِّبِينَ بِظُلْمٍ. شَهِدَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وغيلان ابن عَمْرٍو، وَمَالِكُ بْنُ عَوْفٍ النَّضْرِيُّ، وَالأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، وَالْمُغِيرَةُ. وَكَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام. وَزَعَمَ «2» أَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا مِنْ كِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الله، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا الهذيل: سَمِعْتُ الْمُسَيِّبَ وَالضَّرِيرَ يُحَدِّثَانِ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: لَوْ كَانَ عَلِيًّا طَاعِنًا عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- لَطَعَنَ عَلَيْهِ حِينَ جَاءَ «3» أَهْلُ نَجْرَانَ وَمَعَهُمْ قِطْعَةُ أَدِيمٍ فِيهِ كِتَابٌ عَلَيْه خَاتَمُ النَّبِيِّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالُوا لِعَلِيٍّ- عَلَيْه السَّلامُ-: نَنْشُدُكَ اللَّهَ كِتَابُكَ بِيَدِكَ وَشَفَاعَتُكَ بِلِسَانِكَ أَلا مَا رَدَدْتَنَا إِلَى نَجْرَانَ.
فَقَالَ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: دَعُونِي فَإِنَّ عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ رَشِيدَ الأَمْرِ.
قَالَ الأَعْمَشُ: فَسَأَلْتُ «4» سَالِمًا كَيْفَ كَانَ إِخْرَاجُ عمر- رضى الله
__________
(1) أى وذمة الله ورسوله على ما تحت أيديهم.
(2) أى زعم على (رضى الله عنه) أن أبا بكر كتب لهم كتابا آخر يشبه كتاب رسول الله.
(3) فى أ: جاءوا.
(4) فى ل: فسألته يعنى سالما والمثبت من أ.(1/325)
عَنْهُ- إِيَّاهُمْ قَالَ كَثُرُوا حَتَّى صَارُوا أَرْبَعِينَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ فَخَافَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَمِيلُوا عَلَيْهِمْ فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ شَرٌّ فَجَاءُوا إِلَى عُمَرَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فَقَالُوا: قَدْ فَسَدَ الَّذِي بَيْنَنَا فَذَهَبُوا فَاغْتَنَمَهَا عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ثُمَّ جاءوا [69 ب] إليه فَقَالُوا:
قَدِ اصْطَلَحْنَا فَأَقِلْنَا. فَقَالَ: لا وَاللَّهِ لا أُقِيلُكُمْ أَبَدًا فَأَخْرَجَ فِرْقَةً إِلَى الشَّامِ وَفِرْقَةً إِلَى الْعِرَاقِ وَفِرْقَةً إِلَى أَرْضٍ أُخْرَى.
قال: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بن ثابت، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حدثنا الْهُذَيْلُ فِي قوله- عَزَّ وَجَلّ-: [لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ «وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ» «1» ] فيها تقديم «2» ولم أسمع مقاتل.
__________
(1) ما بين الأقواس « ... » هكذا فى أ: أذى كثيرا بعضكم من بعض.
(2) فيها تقديم أى تقديم تفسيرها فى أول هذا الربع الأخير من السورة- ولم أسمع مقاتل:
أى أن هذيلا لم يسمع هذه الرواية من مقاتل بل رواها عن غيره. وفى هذا دليل على أن هذا التفسير لمقاتل وأنه برواية هذيل بن حبيب. وأن هذيلا كان يضيف زيادات قليلة إلى التفسير وما زاده على تفسير مقاتل كان ينص على أنه لم يسمعه من مقاتل.(1/326)
سورة النساء(1/327)
[سورة النساء (4) : الآيات 1 الى 176]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)
وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64)
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69)
ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)
وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)
مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89)
إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)
لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)
إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)
وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119)
يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126) وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129)
وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144)
إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)
فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164)
رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)(1/329)
بسم الله الرحمن الرحيم [سورة النساء] «1» مدنية وهي مائة وستة وسبعون آية كوفية
__________
(1) مجمل ما اشتملت عليه السورة اشتملت سورة النساء إجمالا على الآتي:
بيان خلقة آدم وحواء، والأمر بصلة الرحم، والنهى عن أكل مال اليتيم وما يترتب عليه من عظم الإثم والعذاب لآكليه، وبيان المناكحات، وعدد النساء وحكم الصداق، وحفظ المال من السفهاء، وتجربة اليتيم قبل دفع المال إليه، والرفق بالأقارب وقت قسمة الميراث، وحكم ميراث أصحاب الفروض وذكر ذوات المحارم وبيان طول الحرة، وجواز التزوّج بالأمة واجتناب الكبائر، وفضل الرجال على النساء، وبيان الحقوق، وحكم السكران وقت الصلاة. وآية التيمم، وذم اليهود وتحريفهم التوراة، ورد الأمانات إلى أهلها (آية 58) وصفة المنافقين فى امتناعهم عن قبول أوامر القرآن الآيات (60- 68) والأمر بالقتال الآيات (71- 85) ، ووجوب رد السلام والنهى عن موالاة المشركين.
وتفصيل قتل العمد والخطأ (الآيات 92، 93) .
وفضل الهجرة ووزر المتأخرين عنها، والإشارة إلى صلاة الخوف حال القتال (آية 102) . [.....](1/353)
والنهى عن حماية الخائنين، وإيقاع الصلح بين الأزواج والزوجات وإقامة الشهادات، ومدح العدل (آية 135) .
وذم المنافقين. وذم اليهود، وذكر قصدهم من قتل عيسى- عليه السلام- فى الآيات (141- 161) .
وفضل الراسخين فى العلم وإظهار فساد اعتقاد النصارى وافتخار الملائكة والمسيح بمقام العبودية، وذكر ميراث الكلالة.
(بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي، مع كتب التفسير وعلوم القرآن، وينبغي الإمساك بالمصحف عند قراءة المقصد الإجمالى للسورة) .(1/354)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ يخوفهم يقول اخشوا ربكم الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعنى آدم وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها «1» يعني من نفس آدم من ضلعه حواء، وإنما سميت حواء لأنها خلقت من حي آدم. قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً «2» يَقُولُ وخلق من آدم وحواء رجالا كثيرًا ونساء، هُمْ ألف أمة وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ يَقُولُ تسألون بِاللَّه بعضكم ببعض الحقوق والحوائج واتقوا الأرحام أن تقطعوها وصلوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً 1- يعنى حفيظا لأعمالكم وَآتُوا الْيَتامى يعني الأوصياء يعني أعطوا اليتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ يَقُولُ وَلا تتبدلوا الحرام من أموال اليتامى بالحلال من أموالكم، ولا تذرو الحلال وتأكلوا الحرام وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ يعني مع أموالكم، كقوله- سُبْحَانَهُ-: فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ «3»
__________
(1) ورد فى تفسير الدر المنثور للسيوطي: 2/ 116. ما يأتى:
أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس فى قوله خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ قال آدم وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها قال حواء من قصيراء آدم وهو نائم. وأخرج ابن أبى حاتم عن الضحاك وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها قال:
خلق حواء من ضلع الخلف وهو أسفل الأضلاع.
وأخرج ابن المنذر وابن أبى حاتم والبيهقي فى الشعب عن ابن عباس قال: خلقت المرأة من الرجل فجعلت نهمتها فى الرجال فاحبسوا نساءكم، وخلق الرجل من الأرض فجعل نهمته فى الأرض.
(2) أخرج إسحاق بن بشر وابن عساكر عن ابن عباس قال: ولد لآدم أربعون ولدا عشرون غلاما وعشرون جارية. المرجع السابق.
(3) الآية 13 من سورة الشعراء وتمامها: وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ.(1/355)
يعني معي «1» هَارُون إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً 2- يعني إثما كبيرا بلغة الحبش، وَقَدْ كان أَهْل الْجَاهِلِيَّة يسمون الحوب الإثم.
نزلت فِي رَجُل من غطفان، يُقَالُ لَهُ المنذر بن رِفَاعة، كان معه مال كبير ليتيم وَهُوَ ابْن أَخِيهِ، فَلَمَّا بلغ طلب ماله، فمنعه فخاصمه إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأمر، أن يرد عَلَيْه ماله، وقرأ عَلَيْه الآية. فَلَمَّا سمعها قَالَ: أطعنا اللَّه وأطعنا الرَّسُول، ونعوذ بِاللَّه من الحوب الكبير. فدفع إِلَيْهِ ماله فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «هكذا من يطع ربه- عَزَّ وَجَلّ- ويوق شح نفسه فَإنَّهُ يحل داره» يعني جنته. فلما قبض الفتن ماله أنفقه فى سبيل الله [70 أ] قَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «ثبت الأجر وبقي الوزر» .
فقالوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «قَدْ عرفنا ثبت الأجر فكيف بقي الوزر، وَهُوَ ينفق فِي سبيل اللَّه؟ فَقَالَ: الأجر للغلام والوزر عَلَى والده
وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى نزلت فِي خميصة «2» بن الشمردل وذلك أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-:
أنزل إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً يعني بغير حق إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً «3» فخاف المؤمنون الحرج فعزلوا كُلّ شيء لليتيم من طعام أَوْ لبن أَوْ خادم أَوْ ركوب فلم يخالطوهم فِي شيء منه فشق ذَلِكَ عليهم وعلى اليتامى فرخص اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- من أموالهم فِي الخلطة «4» ، فَقَالَ: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فنسخ من ذَلِكَ الخلطة «5» فسألوا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عما لَيْسَ به بأس وتركوا أن يسألوه عما هُوَ أعظم منه، وذلك أنه كان يكون عند
__________
(1) فى أ: مع، ل: معى.
(2) فى أ: حميضه، ل خميصة.
(3) سورة النساء: 10.
(4) هكذا فى أ، ل.
(5) أى أن مخالطة اليتامى كان منهيا عنها ثم نسخ النهى عن الخلطة بقوله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ سورة البقرة: 220.(1/356)
الرَّجُل سبع نسوة أو ثمان أَوْ عشر حرائر لا يعدل بينهن، فَقَالَ- سُبْحَانَهُ- وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى يَقُولُ ألا تعدلوا فِي أمر اليتامى فخافوا الإثم فِي أمر النّساء، واعدلوا بينهن فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ يعني ما يحل لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ وَلَم يطب «1» فوق الأربع. ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: فَإِنْ خِفْتُمْ الإثم أَلَّا تَعْدِلُوا فى الاثنتين والثلاث والأربع فِي القسمة والنفقة فَواحِدَةً يَقُولُ فتزوج واحدة، وَلا تأثم فَإِن خفت أن لا تحسن إلى تِلْكَ الواحدة أَوْ مَا «2» مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الولائد فاتخذ منهن ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا- 3- يَقُولُ ذَلِكَ أجدر ألا تميلوا عن الحق فِي الواحدة وَفِي إتيان الولائد بعضهم عَلَى بعض، ولما نزلت مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ
كان يومئذ تحت قَيْس بن الْحَارِث ثمان نسوة، فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: خل سبيل أربعة منهن، وأمسك أربعة. فَقَالَ للتي يريد إمساكها: أقبلي. وللتي لا يريد إمساكها: أدبري فأمسك أربعة وطلق أربعة
وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً وذلك أن الرَّجُل كان يتزوج بغير مهر. فيقول: أرثك وترثيني وتقول المرأة: نعم فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَآتُوا النِّساءَ يعني أعطوا الأزواج «3» النّساء صَدُقاتِهِنَّ يعني مهورهن نِحلة يعني فريضة فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ يعني أحللن لَكُمْ يعني الأزواج عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ [70 ب] يعنى المهر نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً- 4- يعني حلالا مريئا يعني طيبا وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ يعني الجهال بموضع الحق فِي الأموال يعني لا تعطوا نساءكم وأولادكم أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً يعني قواما لمعاشكم «4» فإنهن سفهاء يعني جهالا بالحق نظيرها فى البقرة
__________
(1) فى أ: ولم يطيب.
(2) فى أ: فما. وفى الحاشية التلاوة «أومأ» .
(3) فى أ: يعنى الأزواج.
(4) فى الأصل: لمعايشكم.(1/357)
سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً «1» وَلا يدري الصغير ما عَلَيْه من الحق فِي ماله وَلَكِن وَارْزُقُوهُمْ فِيها يَقُولُ أعطوهم منها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً- 5- يعني العدة الحسنة «2» أني سأفعل، وكنت أَنْت القائم على مالك «3» . وَابْتَلُوا الْيَتامى يَقُولُ اختبروا عقولهم حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ يعنى الحلم فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً معشر الأولياء والأوصياء صلاحا فِي دينهم وحفظا لأموالهم فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ التي معكم وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً يعني بغير حق وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا يَقُولُ يبادر أكلها خشية أن يبلغ اليتيم الحلم فيأخذ منه ماله، ثُمّ رخص للذي معه مال اليتيم، فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ عن أموالهم وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ يعنى بالفرض فَإِن أيسر رد عَلَيْه، وإلا فلا إثم عَلَيْه فَإِذا دَفَعْتُمْ يعني الأولياء والأوصياء إِلَيْهِمْ يعني إلى اليتامى أَمْوالَهُمْ إذا احتلموا فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ بالدفع إليهم وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً- 6- يعني شهيدا فلا شاهد أفضل من اللَّه بينكم وبينهم، نزلت فِي ثَابِت بن رِفَاعة وعمه وذلك أن رِفَاعة تُوُفّي وترك ابنه ثَابِت فولي ميراثه، فنزلت فيه وَابْتَلُوا الْيَتامى يقول واختبروا يعني به عم ثابت بن رفاعة «اليتامى» يعني ثَابِت بن رِفَاعة. الآية كلها حَتَّى قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً وقوله- سُبْحَانَهُ-: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ نزلت فِي أوس بن مَالِك الْأَنْصَارِيّ وذلك أن أوس بن مالك الأنصاري تُوُفّي وترك امرأته أم كحة الأنصارية، وترك ابنتين إحداهن صفية «4» وترك ابني عمّه عرفطة وسويد ابني الحارث «فلم يعطياها
__________
(1) سورة البقرة: 282.
(2) أخرج ابن جرير عن ابن زيد فى قوله تعالى وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً أى قل له عافانا الله وإياك. وبارك الله فيك. [.....]
(3) هكذا فى أ، ل.
(4) فى أ، ل: صفيه.(1/358)
وَلا ولداها شيئًا «1» » من الميراث. وكان أهل الْجَاهِلِيَّة لا يورثون النّساء وَلا الولدان الصغار شيئًا ويجعلون الميراث لذوي الأسنان منهم، فانطلقت أم كحة وبناتها إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: إن أباهن تُوُفّي، وإن سُوَيْد بن الْحَارِث، وعرفطة منعاهن حقهن من الميراث. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي أم كحة وبناتها لِلرِّجالِ نَصِيبٌ يعنى حظا [71 أ] وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ يعنى حظا مِمَّا قَلَّ مِنْهُ يعني من الميراث أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً- 7- يعني حظا مفروضا يعني معلوما فأخذت أم كحة الثمن وبناتها الثلثين وبقيته لسويد وعرفطة وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ يعني قسمة المواريث فيها تقديم «2» .
وإذا حضر أُولُوا الْقُرْبى يعني قرابة الميت وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ قسمة المواريث فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ يعني فأعطوهم من الميراث وإن قل وليس بموقت «3» هَذِهِ قبل قسمة المواريث وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً- 8- يَقُولُ- سُبْحَانَهُ- إن كَانَت الورثة صغارا فليقل أولياء الورثة لأهل هَذِهِ القسمة: إن بلغوا أمرناهم أن يدفعوا حقكم ويتبعوا وصية ربهم- عز وجل- وإن ماتوا وورثناهم وأعطيناكم حقكم فهذا القول المعروف يعني العدة الحسنة، ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-:
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً فهو الرَّجُل يحضر الميت فيقول لَهُ قدِم لنفسك أوص لفلان وفلان حَتَّى يوصي بعامة ماله فيزيد عَلَى الثلث فنهى اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عن ذَلِكَ فَقَالَ: وليخش الَّذِين يأمرون الميت بالوصية بأكثر من الثلث، فليخش عَلَى ورثة الميت الفاقة والضيعة، كَمَا يخشى عَلَى ذريته الضعيفة
__________
(1) فى أ: فلم يعطيا هؤلاء لها شيئا.
(2) أى تقدم الكلام عن المواريث.
(3) أى ليس هناك توفيت للإعطاء قبل القسمة أو بعدها فيجوز إعطاء الأقارب قبل تقسيم التركة أو بعده.(1/359)
من بعده، فكذلك لا يأمر الميت بما يؤثمه فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً يعني عجزة لا حيلة لهم نظيرها فِي البقرة «1» .
خافُوا عَلَيْهِمْ الضيعة فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا إذا جلسوا إلى الميت قَوْلًا سَدِيداً- 9- يعني عدلا فليأمره بالعدل فِي الوصية فلا يحرفها وَلا يجر فيها إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً بغير حق إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً- 10- وذلك أن خازن النار يأخذ شفتيه وهما أطول من مشفري البعير وطول شفتيه أربعون ذراعا إحداهما بالغة عَلَى منخره، والأخرى عَلَى بطنه فيلقمه جمر جَهَنَّم ثُمّ يقول كُل بأكلك أموال اليتامى ظلما. فنسخت هَذِهِ الآية وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
«2» ، وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ «3» فرخص فِي المخالطة وَلَم يرخص فِي أكل أموال اليتامى ظلما. ثُمّ بين قسمة المواريث بين الورثة. فَقَالَ- عَزَّ وَجَلّ- يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يعني بنات أم كحة فَلَهُنَّ ثُلُثا مَا تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ ابنة واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ [71 ب] الميت إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ
__________
(1) يقصد الآية 266- من سورة البقرة وهي: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ.
(2) سورة الأنعام: 152.
(3) الآية 220 من سورة البقرة وتمامها: فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.
يقصد أن آية البقرة نسخت آيتي النساء. فأباحت المخالطة بالمعروف. وليس هنا نسخ ولكنه تخصيص للعام فآية النساء نهت عن المخالطة عامة وآية البقرة أباحت المخالطة بالمعروف. وظل النهى قائما عن كل مخالطة بغير التي هي أحسن.(1/360)
وبقية المال للأب فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ وما بقي فللأب مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ يعني إلى الثلث أَوْ دين عَلَيْه فَإنَّهُ يبدأ بالدين من ميراث الميت بعد الكفن ثُمّ الوصية بعد ذَلِكَ ثُمّ الميراث.
آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً «1» يعني فِي الآخرة فيكون معه فِي درجته، وذلك أن الرَّجُل يَكُون عمله دون عمل ولده أَوْ يَكُون عمله دون عمل والده، فيرفعه اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي درجته لتقر أعينهم. ثُمّ قَالَ فِي التقديم لهذه القسمة فَرِيضَةً ثابتة مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً- 11- فِي الميراث «حَكِيماً» حكم قسمته. وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إذا متن إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ عليهم. ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ بعد الموت من الميراث إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من المال مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ فيها تقديم يُورَثُ كَلالَةً والكلالة الميت يموت، وليس لَهُ وَلَد وَلا والد وَلا جد وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ فهم الإخوة لأم والذكر والأنثى فِي الثلث سواء وَلا يوصي لوارث وَلا يقر بحق لَيْسَ عَلَيْه مضارة للورثة فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ يعني هَذِهِ القسمة فريضة من اللَّه وَاللَّهُ عَلِيمٌ بالضرار يعني من يضار فِي أمر الميراث حَلِيمٌ- 12- حين لا يعجل عليهم بالعقوبة تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يعني هَذِهِ القسمة فريضة من اللَّه وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فى قسمة
__________
(1) فى أ: فسر هذا الجزء فى آخر الآية 11 فوضعته فى مكانه.(1/361)
المواريث يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها لا يموتون وَذلِكَ الثواب الْفَوْزُ الْعَظِيمُ- 13- وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِي قسمة المواريث فلم يقسمها وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يعني يخالف أمره وقسمته إلى غيرها يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ- 14- يعني الهوان. فَلَمَّا فرض اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لأم كحة وبناتها انطلق سُوَيْد وعرفطة وعيينة بن حصن إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم [72 أ] ، فقالوا: إن المرأة لا تركب فرسا وَلا تجاهد، وليس عِنْد الصبيان الصغار منفعة فِي شيء. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي ذَلِكَ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ يعني ما بين فِي قسمة المواريث فِي أول السورة ويفتيكم فِي بنات أم كحة فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ (مَا كُتِبَ لَهُنَّ) «1» وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ... إلى قوله- سُبْحَانَهُ-: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً «2» .
قوله- سُبْحَانَهُ-: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ يعني المعصية وهي الزنا وهي المرأة الثيب تزني ولها زوج فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ عدولا فَإِنْ شَهِدُوا عليهن بالزنا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ وإن كان لها زوج وَقَدْ زنت أَخَذَ الزوج المهر منها من غَيْر طلاق وَلا حد وَلا جماع وتحبس فِي السجن حَتَّى تموت أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا- 15- يعني مخرجا من الحبس وَهُوَ الرجم يعني الحد فنسخ الحد فى سورة النور الحبس
__________
(1) ما بين الأقواس ( ... ) ساقط من أ.
(2) الآية 127 سورة النساء وتمامها. وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً.(1/362)
فِي البيوت. ثُمّ ذكر البكرين اللذين لَمْ يحصنا فقال- عز وجل-:
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ يعني الفاحشة وَهُوَ الزنا منكم فَآذُوهُما باللسان يعني بالتعيير والكلام القبيح، بما عملا وَلا حبس عليهما لأنهما بكران فيعيران ليندما ويتوبا يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: فَإِنْ تابا من الفاحشة وَأَصْلَحا العمل فيما بقي فَأَعْرِضُوا عَنْهُما يعني فلا تسمعوهما الأذى بعد التوبة إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً- 16- ثُمّ أنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي البكرين فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ «1» فنسخت هَذِهِ الآية «2» التي فِي النور الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ «3»
فَلَمَّا أمر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بالجلد قَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللَّه أكبر، جاء اللَّه بالسبيل البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة ورجم «4» بالحجارة، فأخرجوا من البيوت فجلدوا مائة، وحدوا فلم يحبسوا «5» .
فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ- أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا يعنى مخرجا من الحبس «يجلد البكر ورجم المحصن» «6» إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ يعني التجاوز عَلَى اللَّه لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ فكل ذنب يعمله الْمُؤْمِن فهو جهل منه ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ يعني قبل الموت فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني يتجاوز عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً- 17- وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يعني الشرك حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ
__________
(1) سورة النور: 2.
(2) فى أ: الآية، ل الآية:
(3) ما بين الأقواس « ... » من ل. وليس فى أ. [.....]
(4) فى أ: ورجما
(5) أى أن آية النور الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ... الآية. نسخت آيتي النساء 15- 16 الداعيتين إلى الحبس والإيذاء لمن ارتكب الفاحشة.
(6) ما بين الأقواس « ... » ليس فى ل.
وفى أ: مخرجا من الحبس ورجم المحصن وقد زدت ما اقتضاه المقام.(1/363)
فلا توبة له عند الموت وَلَا توبة الَّذِينَ «1» يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً- 18- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً [72 ب]
نزلت في محصن بن أبي قيس بن الأسلت الْأَنْصَارِيّ من بني الْحَارِث بن الخزرج، وَفِي امرأته هند بِنْت صبرة، وَفِي الأسود ابن خلف الجزاعى، وَفِي امرأته حبيبة بِنْت أَبِي طَلْحَة، وَفِي منظور بن يسار الفزاري وفى امرأته ملكة بِنْت خَارِجَة بن يَسَار المري، تزوجوا نساء آبائهم بعد الموت وكان الرَّجُل من الأَنْصَار «إذا مات لَهُ حميم» «2» عمد الَّذِي يرث الميت وألقى عَلَى امرأة الميت ثوبا فيرث تزويجها رضيت أَوْ كرهت عَلَى مثل مهر الميت فأن ذهب المرأة إلى أهلها قبل أن يلقي عَلَيْهَا ثوبا فهي أحق بنفسها فأتين النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلن: يا رَسُول اللَّهِ، ما يدخل بنا، وَلا ينفق علينا، لا نترك أن نتزوج. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي هَؤُلاءِ النفر لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً
يعنى وهن كارهات، ولكن تزوجوهن برضى منهن، وكان أحدهم يَقُولُ: أنا أرثك لأني ولي زوجك، فأنا أحق بك. ثُمّ انقطع الكلام.
ثُمّ قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ كان الرَّجُل يفر بامرأته لتفتدى منه، وَلا حاجة لَهُ فيها يَقُولُ لا تحبسوهن لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ يَقُولُ ببعض ما أعطيتموهن من المهر ثُمّ رخص واستثنى إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يعني العصيان البين وَهُوَ النشوز فقد حلت الفدية إذا جاء العصيان من قبل المرأة. ثُمّ قَالَ- تبارك وتعالى-: وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ يَقُولُ صاحبوهن بإحسان فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ وأردتم فراقهن فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً- 19- يعنى فى الكره خيرا كثيرا
__________
(1) فى أ: للّذين.
(2) فى أ: إذا مات حميم له.(1/364)
يَقُولُ عسى الرَّجُل يكره المرأة فيمسكها عَلَى كراهية فلعل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يرزقه منها ولدا ويعطفه عَلَيْهَا، وعسى أن يكرهها فيطلقها فيتزوجها غيره فيجعل اللَّه للذي يتزوجها فيها خيرا كثيرا، فيرزقه منها لطفا وولدا. ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-:
وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ يَقُولُ وإن أراد الرَّجُل طلاق امرأته ويتزوج «1» أخرى غيرها وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً يَقُولُ وآتيتم إحداهن من المهر قنطارا من ذهب، والقنطار «2» ألف ومائتا دينار فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً إذا أردتم طلاقها يَقُولُ فَلَيْس لَهُ أن يضربها حَتَّى تفتدى منه يَقُولُ:
أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً- 20- يعنى بينا وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ تعظيما له [73 أ] يعني المهر وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ يعني به الجماع وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً- 21- يعني بالميثاق الغليظ ما أمروا به من قوله- تبارك وتعالى- فيهن: فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ «3» والغلظ يعني الشديد وكل غليظ فِي القرآن يعني به الشديد.
وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ نزلت في محصن بن أبي قيس ابن الأسلت بن الأفلح الْأَنْصَارِيّ. وَفِي امرأته كبشة بنت معن بن معبد ابن عَدِيّ بن عَاصِم الأنصاري من الأوس من بنى خطمة ابن الأوس إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ لأن العرب كَانَتْ تفعل ذَلِكَ قبل التحريم، وذلك أن مِحْصَن مات أبوه فشد عَلَى امرأته فتزوجها، وَهُوَ مِحْصَن بن أبي قَيْس بن الأسلت الْأَنْصَارِيّ من بني الْحَارِث بن الخزرج وكبشة بِنْت معن بن مَعْبَد، وَفِي شريك
__________
(1) الأنسب وتزوج ليكون عطف المصدر على المصدر.
(2) فى حاشية أ: فى الأصل ت: أى قنتارا، بالتاء بدل الطاء.
(3) سورة البقرة: 231.(1/365)
وفى امرأته كحة إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً يعني معصية وَمَقْتاً يعني وبغضا وَساءَ سَبِيلًا- 22- يعني وبئس المسلك وقَالَ- سُبْحَانَهُ-: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ لأن العرب كانوا ينكحون نساء الآباء، ثُمّ حرم النسب والصهر وَلَم يقل إِلا مَا قد سلف لأن العرب كَانَتْ لا تنكح النسب والصهر. وقال- عَزَّ وَجَلّ- فِي الأختين: إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ «1» لأنهم كانوا يجمعون بينهما ثُمّ بين ما حرم فَقَالَ- تَعَالَى ذكره- حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ فهذا النسب، ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-:
وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يعني جامعتم أمهاتهن فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ يَقُولُ إن لَمْ تكونوا جامعتم أمهاتهن فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يقول فلا حرج عليكم فى تزويج البنات وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ يَقُولُ وحرم ما تزوج الابن الَّذِي خرج من صلب الرَّجُل- وَلَم يتبناه «2» - فهذا الصهر وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فحرم جمعهما إِلَّا أن يَكُون إحداهما بملك فزوجها غيره فلا بأس إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ قبل التحريم إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً- 23- لما كان من جماع الأختين قبل التحريم وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ يعني وكل امرأة أيضا فنكاحها حرام مَعَ ما حرم من النسب والصهر ثُمّ استثنى من المحصنات. فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الحرائر مثنى وثلاث ورباع كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني فريضة اللَّه لَكُمْ بتحليل أربع وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ
__________
(1) سورة النساء: 23.
(2) أى ولا تحرم زوجة الابن الذي تبناه الرجل- وهو الابن المتبنى- قال- تعالى-:
(وما جعل أدعياءكم أبناءكم) سورة الأحزاب: 4.(1/366)
يعني ما وراء الأربع أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ لفروجهن غَيْرَ مُسافِحِينَ بالزنا علانية ثُمّ ذكر المتعة فقال: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ إلى أجل مسمى [73 ب] فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً يعني أعطوهن مهورهن وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ يَقُولُ لا حرج عليكم فيما زدتم من المهر وازددتم فِي الأجل بعد الأمر الأول إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بخلقه حَكِيماً- 24- فِي أمره نسختها آية الطلاق وآية المواريث ثُمّ إن رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهى عن المتعة بعد نزول هَذِهِ الآية مرارا، واللَّه- تَعَالَى- يَقُولُ: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «1» ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-:
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا يَقُولُ من لَمْ يجد منكم سعة من المال أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ يعني الحرائر فليتزوج من الإماء فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يعنى الولائد «2» فتزوجوا مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ يعني الولائد «3» . ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ من غيره فيكره للعبد المسلم أن يتزوج وليدة من أَهْل الكتاب لأن ولده يصير عبدا فَإِن تزوجها وولدت لَهُ فَإنَّهُ يشتري من سيده رَضِيَ أَوْ كره، ويسعى فِي ثمنه بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ يتزوج هَذَا وليدة هَذَا، وهذا وليدة هَذَا. ثم قال- سبحانه-: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ يَقُولُ تزوجوا الولائد بإذن أربابهن وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يَقُولُ وأعطوهن مهورهن بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ عفائف لفروجهن غَيْرَ مُسافِحاتٍ غَيْر معلنات بالزنا وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ يعني أخلاء فِي السر فيزني بها سرا فَإِذا أُحْصِنَّ يعني أسلمن فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ يَقُولُ فَإِن جئن بالزنا فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ يعنى خمسين جلدة نصف
__________
(1) سورة الحشر: 7.
(2) ، (3) فى أ: الولائد.(1/367)
ما عَلَى الحرة إذا زنت «1» ذلِكَ التزويج للولائد لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ يعني الإثم فِي دينه وَهُوَ الزنا وَأَنْ يعني ولئن تَصْبِرُوا عن تزويج الأمة خَيْرٌ لَكُمْ من تزويجهن وَاللَّهُ غَفُورٌ لتزويجه الأمة رَحِيمٌ- 25- به حين رخص لَهُ فِي تزويجها إذا لَمْ يجد طولا يعني سعة فِي تزويج الحرة يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ يعني أن يبين لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
يعني شرائع هدى من كان قبلكم من الْمُؤْمِنِين من تحريم النسب والصهر وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ يعنى ويتجاوز عنكم من نكاحكم يعنى من تزويجكم إياهن من قبل التحريم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ- 26- وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ يعني به الزنا وذلك أن اليهود زعموا أن نكاح ابنة «2» الأخت من الأب حلال فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: أَنْ تَمِيلُوا عن الحق مَيْلًا عَظِيماً- 27- فِي استحلال نكاح ابنة «3» الأخت من الأب يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إذ رخص فى تزويج [74 أ] الأمة لمن لَمْ يجد طولا لحرة، وذلك قوله- سبحانه-: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً- 28- لا يصبر عن النكاح ويضعف عن تركه فلذلك أحل لهم تزويج الولائد لئلا يزنوا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ يَقُولُ لا تأكلوها إلا بحقها وَهُوَ الرَّجُل يجحد حق أَخِيهِ المسلم أَوْ يقتطعه بيمينه ثُمّ استثنى ما استفضل «4» الرَّجُل من مال أَخِيهِ من التجارة فلا بأس. فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-:
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يَقُولُ لا يقتل بعضكم بعضا لأنكم أَهْل دين واحد إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً- 29- إذ نهى عن ذلك
__________
(1) فى أ: زينت.
(2) ، (3) فى ل: بنت، أ: أبنة. [.....]
(4) هكذا فى أ، ل. والمراد باستفضل: أى ما أخذه الرجل فاضلا أى زائدا من مال أخيه بسبب التجارة.(1/368)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يعني الدماء والأموال جميعًا عُدْواناً وَظُلْماً يعني اعتداء بغير حق وظلما لأخيه فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً- 30- يقول كان عذابه على الله هينا. ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ من أول هذه السورة إلى هذه الآية نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يعني ذنوب ما بين الحدين وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً- 31- يعني حسنا وهي الجنة لما نزلت لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ قالت «1» النساء: لَم هَذَا؟ نَحْنُ أحق أن يَكُون لنا سهمان ولهم سهم لأنا ضعاف الكسب والرجال أقوى عَلَى التجارة والطلب والمعيشة مِنَّا، فإذا لَمْ يفعل اللَّه ذَلِكَ بنا فإنا نرجو أن يَكُون الوزر عَلَى نحو ذَلِكَ علينا وعليهم فأنزل اللَّه فِي قولهم كنا نحن أحوج إلى سهمين، قول- سُبْحَانَهُ-:
وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ «2» يَقُولُ فضل الرجال عَلَى النّساء فِي الميراث، ونزل فِي قولهن نرجو أن يَكُون الوزر عَلَى نحو ذَلِكَ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ يعني حظا مِمَّا اكْتَسَبُوا من الإثم وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ يعني حظا مِمَّا اكْتَسَبْنَ من الإثم وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ يعني الرجال والنساء إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ من قسمة الميراث عَلِيماً- 32- به وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ يعني العصبة:
بني العم «3» والقربى مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ كان الرَّجُل يرغب فِي الرَّجُل فيحالفه ويعاقده عَلَى أن يَكُون معه وَلَهُ من ميراثه كبعض ولده. فَلَمَّا نزلت هَذِهِ الآية آية المواريث وَلَم يذكر أَهْل العقد فأنزل اللَّه- عز وجل- وَالَّذِينَ عَقَدَتْ «4» أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ يقول أعطوهم
__________
(1) فى أ، ل: فلن.
(2) بنى العم: ساقطة من أ، ومثبتة فى ل.
(3) ورد ذلك فى أسباب النزول للسيوطي: 61- 62.
وفى أسباب النزول للواحدي: 85- 86.
(4) فى أ: عاقدت.(1/369)
الَّذِي سميتم لهم من الميراث إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أعمالكم شَهِيداً- 33- إن أعطيتم نصيبهم أَوْ لَمْ تعطوهم فلم يأخذ هَذَا الرَّجُل شيئًا حتى نزلت وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «1» فنسخت هذه الآية وَالَّذِينَ عَقَدَتْ «2» أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ قوله- عَزَّ وَجَلّ-: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ [74 ب]
نزلت فِي سعد بن الرَّبِيع بن عمرو من النقباء وَفِي امرأته حبيبة بِنْت «3» زَيْد بن أَبِي زهير وهما من الأَنْصَار من بني الْحَارِث بن الخزرج وذلك أَنَّهُ لطم امرأته فأتت أهلها فانطلق أبوها معها إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ:
أنكحته وأفرشته كريمتي فلطمها. فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لتقتص من زوجها فأتت مَعَ زوجها لتقتص منه. ثُمّ قَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
ارجعوا هَذَا جبريل- عَلَيْه السَّلام- قَدْ أتاني
وَقَدْ أنزل اللَّه- عَزَّ وجل-:
الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ. يَقُولُ مسلطون عَلَى النّساء «4» بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وذلك أن الرَّجُل لَهُ الْفَضْل عَلَى امرأته فى الحق وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ يعني وفضلوا بما ساق إليها من المهر فهم مسلطون فِي الأدب والأخذ عَلَى أيديهن فَلَيْس بين الرَّجُل وَبَيْنَ امرأته قصاص إِلَّا فِي النَّفْس والجراحة.
فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْد ذَلِكَ: أردنا أمرا وأراد اللَّه أمرا وَالَّذِي أراد اللَّه خيرًا.
ثُمّ نعتهن فقال- سبحانه-: فَالصَّالِحاتُ
__________
(1) سورة الأنفال: 75.
(2) فى أ: عاقدت.
(3) فى أ: ابنت. وفى الواحدي: بنت، وهو الصواب.
(4) أورد السيوطي فى أسباب النزول: 62، عدة شواهد- يقوى بعضها بعضا- فى أن سبب نزول الآية كما ذكره مقاتل.
أما الواحدي فى أسباب النزول ص: 86. فقد روى ما قاله مقاتل فى الآية بعد أن نسبه إليه.
ثم روى عدة شواهد من عدة طرق تؤيد ما ذهب إليه مقاتل.(1/370)
فِي الدّين قانِتاتٌ يعني مطيعات لَهُ ولأزواجهن حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ لغيبة أزواجهن فِي فروجهن وأموالهم بِما حَفِظَ اللَّهُ يعني بحفظ اللَّه لهن، ثُمّ قَالَ: وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ يعني تعلمون عصيانهن من نسائكم يعني سعدا «1» . يَقُولُ تعلمون معصيتهن لأزواجهن فَعِظُوهُنَّ بِاللَّه فَإِن لم يقبلن العظة وَاهْجُرُوهُنَّ «2» فِي الْمَضاجِعِ يَقُولُ لا تقربها للجماع، فَإِن رجعت إلى طاعة زوجها بالعظة والهجران وإلا وَاضْرِبُوهُنَّ «3» ضربا غَيْر مبرح يعني غَيْر شائن فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا يعنى عللا «4» . يقول لا تكلفها من الحب لك ما لا تطيق إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا يعني رفيعا فوق خلقه كَبِيراً- 34- وَإِنْ خِفْتُمْ يعني علمتم شِقاقَ بَيْنِهِما يعني خلاف بَيْنَهُمَا بين سعد وامرأته، وَلَم يتفقا، وَلَم يدر من قبل من منهما النشوز من قبل الرَّجُل أَوْ من قبل المرأة؟
فَابْعَثُوا يعني الحاكم يَقُولُ للحاكم فابعثوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها فينظرون فِي أمرهما فِي النصيحة لهما. إن كان من قبل النفقة أَوْ إضرار «5» وعظا الرَّجُل. وإن كان من قبلها وعظاها لعل اللَّه أن يصلح عَلَى أيديهما فذلك قوله- عز وجل-: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يعنى الحكمين يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما للصلح فَإِن لَمْ يتفقا وظنا أن الفرقة خير لهما فِي دينهما فرق الحكمان بَيْنَهُمَا برضاهما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بحكمهما خَبِيراً- 35- بنصيحتهما فِي دينهما وَاعْبُدُوا اللَّهَ يعني وحدوا اللَّه وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً لأن أهل الكتاب [75 أ] يعبدون اللَّه فِي غَيْر إخلاص فلذلك قَالَ الله: وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً
__________
(1) فى أ: شهدا، ل: سعدا.
(2) فى أ: فاهجروهن.
(3) فى أ: فاضربوهن.
(4) هكذا فى أ، ل.
(5) المراد أومن قبل إضرار. [.....](1/371)
من خلقه وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً يعني برا بهما وَبِذِي الْقُرْبى والإحسان إلى ذِي القربى: يعني صلته (و) الإحسان إلى الْيَتامى وَالْمَساكِينِ أن تتصدقوا عليهم والإحسان إلى وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى يعني جارا بينك وبينه قرابة وَالْجارِ الْجُنُبِ يعني من قوم آخرين وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ يَقُولُ الرفيق فِي السَّفَر والحضر وَابْنِ السَّبِيلِ يعني الضيف ينزل عليك أن تحسن إليه (و) إلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الخدم وغيره وعن علي وعبد الله قالا: الصاحب بالجنب المرأة. فأمر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بالإحسان إلى هَؤُلاءِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا يعني بطرا مرحا فَخُوراً- 36- فِي نعم اللَّه لا يأخذ ما أعطاه اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فيشكر «1» الَّذِينَ يَبْخَلُونَ يعني رءوس اليهود وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وذلك أن رءوس اليهود كَعْب بن الأشرف وغيره كانوا يأمرون سفلة اليهود بكتمان أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خشية «أن يظهروه ويبينوه. ومحوه من التوراة» «2» وَيَكْتُمُونَ مَا آتاهُمُ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلّ- يعني ما أعطاهم مِنْ فَضْلِهِ فِي التوراة من أمرُ محمدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونعتُه «3» ثُمّ أخبر عما لهم فِي الآخرة.
فَقَالَ «4» : وَأَعْتَدْنا يا محمد لِلْكافِرِينَ يعني لليهود عَذاباً مُهِيناً- 37- يعني الهوان. ثُمّ أخبر عَنْهُمْ، فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ يعني اليهود وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ يَقُولُ لا يصدقون بِاللَّه أَنَّهُ واحد لا شريك لَهُ، وَلا يصدقون بالبعث الَّذِي فِيهِ جزاء الأعمال، بأنه كائن
__________
(1) أى لا يشكر الله على ما أعطاه.
(2) ما بين الأقواس « ... » ساقط من ل ومثبت فى أ.
(3) فى أسباب النزول للواحدي: 87، والسيوطي: 62- 63 تأييد ذلك.
(4) فى أ: ثم قال.(1/372)
وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً يعني صاحبا فَساءَ قَرِيناً- 38- يعني فبئس الصاحب. ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَماذا عَلَيْهِمْ يعني وما كان عليهم لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعنى بالبعث وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ من الأموال فِي الْإِيمَان ومعرفته وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً- 39- أنهم لن يؤمنوا إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ يعني لا ينقص وزن أصغر من الذرة «1» من أموالهم وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً واحدة يُضاعِفْها حسنات كثيرة فلا أحد أشكر من اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً- 40- يَقُولُ ويعطي من عنده فِي الآخرة جزاء كثيرًا وهي الجنة ثُمّ خوفهم، فَقَالَ- تَعَالَى-: فَكَيْفَ بهم إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يعني نبيهم وَهُوَ شاهد عليهم بتبليغ الرسالة إليهم من ربهم وَجِئْنا بِكَ يا محمد عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً- 41- يعني كفار أمة محمد- صلى الله عليه وسلم- بتبليغ الرسالة، ثُمّ أخبر عن كفار أمة محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» - فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وذلك بأنهم قَالُوا فِي الآخرة: وَاللَّهِ رَبِّنَا [75 ب] ما كنا مشركين، فشهدت «3» عليهم الجوارح بما كتمت ألسنتهم من الشرك، فودوا عِنْد ذَلِكَ أن الأرض انشقت فدخلوا فيها فاستوت عليهم وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً- 42- يعنى الجوارح حين شهدت عليهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى
لما نزلت هَذِهِ الآية قَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قَدْ قَدَّم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- تحريم الخمر إلينا. وذلك أن عَبْد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ صنع طعاما، فدعا أبا بكر وعمر وعثمان وعلى وسعد بن أبى وقاص
__________
(1) فى أ: الذر، ل: الذرة.
(2) هكذا فى أ، ل.
(3) فى أ: شهدت.(1/373)
- رحمهم اللَّه جميعًا- فأكلوا وسقاهم خمرا فحضرت صلاة المغرب فأمهم عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب- رضي الله عنه- فقرأ: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ «1» . فَقَالَ فِي قراءته نَحْنُ عابدون ما عبدتم فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- وأصحابه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى
حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ فِي صلاتكم. فتركوا شربها إِلَّا من بعد صلاة الفجر إلى الضحى الأكبر فيصلون الأولى وهم أصحياء «2» ثُمّ إن رَجُلا من الأنصار يسمى عتبان ابن مَالِك دعا سعد بن أبي وَقَّاص إِلَى رأس بعير مشوي فأكلا ثُمّ شربا فسكرا فغضب الْأَنْصَارِيّ فرفع لحي البعير فكسر أنف سعد، فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- تحريم الخمر فِي المائدة «3» بعد غزوة الأحزاب «4» ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ «5» وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ثُمّ استثنى المسافر الَّذِي لا يجد الماء فقال- سبحانه-: إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ نزلت فِي عَبْد الرَّحْمَن بن عَوْف أصابته جنابة وَهُوَ جريح فشق عَلَيْه الغسل وخاف منه شرًا. أو يَكُون به قرح أَوْ جدري فهو بهذه المنزلة
__________
(1) سورة الكافرون.
(2) ورد هذا أيضا فى أسباب النزول للواحدي: 78، وفى أسباب النزول للسيوطي: 63.
(3) يشير إلى آية 90، 91، من سورة المائدة وهما: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
(4) وقعت غزوة الأحزاب فى السنة الخامسة للهجرة.
(5) يوهم الكلام أن آية النساء هذه نزلت بعد آية المائدة وليس كذلك فقد نزلت آية النساء من باب التدرج فى التشريع. فقد بين الله أن فى الخمر والميسر منافع ومضار وإثمهما أكبر من نفعهما (البقرة آية 219) ثم حرم السكر عند الصلاة فى هذه الآية (النساء آية 43) ثم حرم الخمر تحريما قطعيا فى المائدة (آية 90- 91) .(1/374)
«فذاك «1» قوله» سبحانه: «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى» يعني به جرحا فوجدتم الماء فعليكم التيمم وإن كنتم عَلى سَفَرٍ وأنتم أصحاء نزلت فِي عَائِشَة أم الْمُؤْمِنِين «2» - رَضِيَ اللَّه عَنْهَا- أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ يعنى الخلاء أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ يعني جامعتم فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا يَقُولُ الصحيح الَّذِي لا يجد الماء والمريض الَّذِي يجد الماء يتيمموا «3» صَعِيداً طَيِّباً يعني حلالا طيبا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إلى الكرسوع إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا عنكم غَفُوراً- 43- لما كان منكم قبل النهي عن السكر والصلاة والتيمم «بغير وضوء» «4» وَقَدْ نزلت آية التيمم فِي أمر عَائِشَة- رَضِيَ اللَّه عَنْهَا- بين الصلاتين أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً يعني حظا ألم تر إِلَى فعل الَّذِين أعطوا نصيبا يعني حظا مِنَ الْكِتابِ يعني التوراة يَشْتَرُونَ
__________
(1) ما بين الأقواس « ... » ساقط من أو هو من ل.
(2) ورد فى أسباب النزول للسيوطي: 63- 64. عدة آثار فى سبب إباحة التيمم للمسافر والمريض.
وذكر الواحدي حديث البخاري، عن عائشة أنها قالت: خرجنا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي، فأقام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علي التماسه، وأقام الناس معه وليسوا على ماء، وليس معهم ماء فأتى الناس إلى أبى بكر، فقالوا: ألا ترى ما صنعت عائشة، أقامت برسول الله- صلى الله عليه وسلم- وبالناس معه وليس معهم ماء، فجاء أبو بكر ورسول الله- صلى الله عليه وسلم- واضع رأسه على فخذي قد نام، فقال: أجلست رسول الله والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء، قالت: فعاتبنى أبو بكر، وقال: ما شاء الله أن يقول، فجعل يطعن بيده فى خاصرتي فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علي فخذي، فنام رسول الله- صلى الله وسلم- حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله- تعالى آية التيمم فتيمموا، فقال أسيد بن حضير وهو أحد النقباء: ما هي بأول بركتكم يا آل أبى بكر، قالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته. رواه البخاري عن إسماعيل بن أويس، ورواه مسلم عن يحيى كلاهما عن مالك (وانظر أسباب النزول للواحدي: 87- 88) .
[.....] (3) فى أ: فتيمموا.
(4) ما بين الأقواس « ... » من ل وليس فى أ.(1/375)
[76 أ] يعنى يختارون وهم اليهود منهم إصبع «1» ، ورافع ابنا حريملة، وهما من أحبار اليهود يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يعني باعوا إيمانا بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل أن يبعث، بتكذيب بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد بعثته وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ- 44- يعني أن تخطئوا قصد طريق الهدى كَمَا أخطأوا الهدى نزلت فِي عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ، ومالك بن دخشم حين دعوهما إلى دين اليهودية وعيروهما بالإسلام وزهدوهما فِيهِ وفيهما نزلت وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ يعني بعداوتهم إياكم يعني اليهود وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا فلا ولي أفضل من اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً- 45- فلا ناصر أفضل من اللَّه- جلَّ ذكره- وفيهما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ ... إلى آخر الآيتين «2» - نزلت فى عبد الله ابن أُبَيٍّ ومالك بن دخشم وَفِي بني حريملة مِنَ الَّذِينَ هادُوا يعنى اليهود يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يعنى بالتحريف: نعت محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن مواضعه: عن بيانه فِي التوراة، ليا بألسنتهم- وَيَقُولُونَ للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمِعْنا قولك وَعَصَيْنا أمرك فلا نطيعك وَاسْمَعْ مِنَّا يا محمد نحدثك غَيْرَ مُسْمَعٍ منك قولك يا محمد. غَيْر مقبول ما تقول وَراعِنا يعني ارعنا سمعك لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ يعني دين الْإِسْلام يقولون «3» إن دين محمد لَيْسَ بشيء وَلَكِن الَّذِي نَحْنُ عَلَيْه هُوَ الدين. يقول الله- عز وجل-:
__________
(1) فى أ: اصبغ، ل: إصبع.
(2) سورة آل عمران: 118، 119 وهما: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
(3) فى أ: يقول.(1/376)
وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا قولك وَأَطَعْنا أمرك وَاسْمَعْ مِنَّا وَانْظُرْنا حَتَّى نحدثك يا محمد لَكانَ خَيْراً لَهُمْ من التحريف والطعن فِي الدّين ومن راعنا وَأَقْوَمَ يعني وأصوب من قولهم الَّذِي قَالُوا: وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا- 46- والقليل الَّذِي آمنوا به: إذ يعلمون أن اللَّه ربهم، وَهُوَ خالقهم ورازقهم، ويكفرون بمحمد- صلى الله عليه وسلم- وبما جاء به نزلت فِي رفاعة بن زَيْد بن السّائب، ومالك بن الضيف، وكعب بن أُسَيْد، كلهم يهود مثلها فى آخر السورة. ثم خوفهم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني كَعْب بن الأشرف يعني الَّذِين أعطوا التوراة آمِنُوا بِما نَزَّلْنا يعني بما أنزل اللَّه من القرآن عَلَى محمد مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ يَقُولُ تصديق محمد معكم فِي التوراة أَنَّهُ نَبِيّ رسول مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً يَقُولُ نحول الملة عن الهدى والبصيرة التي- كانوا عَلَيْهَا من إيمان بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل أن يبعث فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها بعد الهدى الَّذِي كانوا عَلَيْه «1» كفارا ضلالا أَوْ نَلْعَنَهُمْ يعني نعذبهم كَما لَعَنَّا يعني كما عذبنا أَصْحابَ السَّبْتِ يقول فنمسخهم [76 ب] قردة كَمَا فعلنا بأوائلهم وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا- 47- يَقُولُ أمره كائن لا بد. هَذَا وعيد إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فيموت عَلَيْه يعني اليهود وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ الشرك لِمَنْ يَشاءُ لمن مات موحدا فمشيئته- تبارك وتعالى- لأهل التوحيد.
قَالَ: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بن ثَابِت، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي «عن» «2» الهذيل عن مقاتل ابن سُلَيْمَان عن رَجُل عن مُجَاهِد أن الاستثناء لأهل التوحيد وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ
__________
(1) فى أ، ل: عليها.
(2) عن: ساقطة من أومثبتة فى ل.(1/377)
معه غيره فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً «1» - 48- يَقُولُ فقد قَالَ ذنبا عظيما أَلَمْ تَرَ يعني ألم تنظر إِلَى يعني فعل الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ يعنى اليهود
منهم بحرى ابن عمرو، ومرحب بن زَيْد دخلوا بأولادهم إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: أَهْل «2» لهؤلاء ذنوب؟ فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا. فقالوا:
وَالَّذِي تحلف به ما نَحْنُ إِلَّا كهيئتهم نَحْنُ أبناء اللَّه وأحباؤه، وما من ذنب نعمله بالنهار إِلَّا غفر لنا بالليل، وما من ذنب نعمله بالليل إِلَّا غفر لنا بالنهار، فزكوا أنفسهم،
يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ يعني يصلح من يشاء من عباده وَلا يُظْلَمُونَ يعني وَلا ينقصون من أعمالهم»
فَتِيلًا- 49- يعني الأبيض الَّذِي يَكُون فِي شق النواة من الفتيل يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: يا محمد انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لقولهم نَحْنُ أبناء اللَّه وأحباؤه، وَكَفى بِهِ يعني بما قَالُوا إِثْماً مُبِيناً- 50- يعني بينا أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ وذلك أن كَعْب بن الأشرف اليهودي وكان عربيا من طيئ، وحيى ابن أخطب انطلقا فِي ثلاثين من اليهود إلى مكة «4» بعد قتال أحد، فَقَالَ أَبُو سُفْيَان ابن حرب: إن أحبّ الناس إلينا من يعيننا عَلَى قتال هَذَا الرَّجُل حَتَّى نفنى أَوْ يفنوا، فنزل كَعْب عَلَى أَبِي سُفْيَان فأحسن مثواه، ونزلت اليهود فِي دور قريش. فَقَالَ كعب لأبى سفيان: ليجيء منكم ثلاثون رَجُلا ومنا ثلاثون رَجُلا، فنلصق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب هَذَا البيت لنجتهدن عَلَى قتال محمد، ففعلوا ذلك. قَالَ أَبُو سفيان
__________
(1) «عظيما» : ساقطة من أ.
(2) فى أ: هل، ل: أهل.
(3) وفى أ: ولا ينقصون فى أعمالهم ... أكمل.
وفى ل: ولا ينقصون فى أعمالهم.
(4) ورد ذلك أيضا فى أسباب النزول للواحدي: 88- 89. وأسباب النزول للسيوطي:
65- 66.(1/378)
لكعب بن الأشرف: أَنْت امرؤ من أَهْل الكتاب تقرأ الكتاب فنحن أهدى أم ما عَلَيْه محمد. فَقَالَ: إلى ما يدعوكم محمد؟ قَالَ: إِلَى أن نعبد اللَّه وَلا نشرك به شيئًا. قَالَ: فأخبروني ما أمركم؟ وَهُوَ يعلم ما أمرهم. قَالُوا: ننحر الكوماء «1» ، ونقري الضيف، ونفك العاني- يعني الأسير، ونسقي الحجيج الماء، ونعمر بيت ربنا، ونصل أرحامنا، ونعبد إلهنا ونحن أهل الحرم. فقال كعب: أنتم واللَّه أهدى مما عَلَيْه محمد فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَقُولُ أعطوا حظا من التوراة يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ يعنى حيى بن أخطب القرظي وَالطَّاغُوتِ [77 أ] وكعب بن الأشرف وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من أَهْل مكة هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا- 51- يعنى طريقا. يقول الله أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ يعني كعبا وأصحابه وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً- 52- فَلَمَّا رجع كَعْب إلى المدينة بعث النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى نفر من أصحابه بقتله فقتله محمد بن مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيّ من بنى حارثة بن الحاراث تِلْكَ الليلة فَلَمَّا أصبح النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سار فِي الْمُسْلِمِين فحاصر أَهْل النضير حَتَّى أجلاهم من المدينة إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام أَمْ لَهُمْ تَقُولُ ألهم والميم هاهنا صلة فلو كان لهم- يعنى اليهود- نَصِيبٌ «2» يعنى حظ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً- 53- يعني لا يعطون الناس من بخلهم وحسدهم وقلة خيرهم نقيرا يعني بالنقير النقرة التي فِي ظهر النواة التي ينبت منها النخلة أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ يعني النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحده عَلى مَا آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني ما أعطاهم من فضله، وذلك أن اليهود قَالُوا انظروا إلى هَذَا الَّذِي لا يشبع من الطعام ماله هم إلا النساء
__________
(1) الناقة العظيمة.
(2) فى أ: نصيبا يعنى حظا.(1/379)
يعنون النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فحسدوه عَلَى النُّبُوَّة وعلى كثرة النّساء، ولو كان نبيا ما رغب فِي النّساء يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ يعنى النبوة وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً- 54- وكان يُوسُف منهم عَلَى مصر وداود وسليمان منهم، وكان لداود تسعة وتسعون امرأة وكان لسليمان ثلاثمائة امرأة حرة وسبعمائة سرية فكيف تذكرون محمدا فِي تسع نسوة وَلا تذكرون دَاوُد وسليمان- عليهما السَّلام- فكان هَؤُلاءِ أكثر نساء، وأكثر ملكا من محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» . ومُحَمَّد أيضا من آل إبراهيم وكان إبراهيم ولوطا، وإسحاق، وإسماعيل، ويعقوب- عليهم السَّلام- يعملون بما فِي صحف إِبْرَاهِيم فَمِنْهُمْ يعني من آل إبراهيم مَنْ آمَنَ بِهِ يَقُولُ صدق بالكتاب الَّذِي جاء به وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ يعني أعرض عن الْإِيمَان بالكتاب وَلَم يصدق به وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً- 55- يَقُولُ وكفى بوقودها وعذابها وقودا لمن كفر بكتاب إِبْرَاهِيم فلا وقود أحر من جَهَنَّم لأهل الكفر ثُمّ أخبر بمستقر الكفار. فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني اليهود بِآياتِنا يعني القرآن سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ يعنى احترقت جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها جددنا «2» لهم جلودا غيرها وذلك أن النار إذا أكلت جلودهم بدلت كُلّ يوم سبع مرات عَلَى مقدار كُلّ يوم من أيام الدُّنْيَا (لِيَذُوقُوا الْعَذابَ) عذاب النار جديدا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً [77 ب] فى نقمته حَكِيماً- 56- حكم لهم النار ثم
__________
(1) ورد ذلك فى أسباب النزول للسيوطي: 66، قال: أخرج ابن أبى حاتم من طريق العوني عن ابن عباس قال أهل الكتاب: زعم محمد أنه أوتى ما أوتى فى تواضع، وله تسع نسوة وليس همه إلّا النكاح فأى ملك أفضل من هذا؟ فأنزل الله أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ الآية. وأخرج ابن سعد عن عمر مولى عفرة نحوه أبسط منه- قلت أى أطول منه. [.....]
(2) فى أ: جدلنا. وأصلحته إلى جددنا، وفى ل: بدلنا.(1/380)
أخبر بمستقر الْمُؤْمِنِين، فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ يعني البساتين تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يموتون، لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ يعني النّساء مُطَهَّرَةٌ يعني المطهرات من الحيض والغائط والبول والقذر كله وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا يعني أكنان القصور ظَلِيلًا- 57- يعني لا خلل فيها إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها نزلت فى عثمان ابن طَلْحَة بن عَبْد اللَّه الْقُرَشِيّ «1» ، صاحب الكعبة فِي أمر مفاتيح الكعبة وذلك
أن الْعَبَّاس بن عَبْد الْمُطَّلِب- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- قَالَ للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
اجعل فينا السقاية والحجابة، لنسود بها الناس، وَقَدْ كان أَخَذَ المفتاح من عُثْمَان حين افتتح مكة. فَقَالَ عُثْمَان بن طَلْحَة للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إن كُنْت تؤمن بِاللَّه واليوم الآخر فادفع إليّ المفتاح» . فدفع النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المفتاح ثُمّ أخذه ثلاث مرات ثُمّ إن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طاف بالبيت فأنزل اللَّه- تبارك وتعالى- إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعثمان: خذه بأمانة اللَّه حين دفع إِلَيْهِ المفتاح.
فَقَالَ الْعَبَّاس- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: جعلت السقاية فينا والحجابة لغيرنا. فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أما ترضون
__________
(1) هذا الأثر ورد فى الدر المنثور للسيوطي، 2/ 174: أخرج ابن مردويه من طريق الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.. إلى آخر الأثر المذكور. وفى أسباب النزول للواحدي 90:
أخبرنا أبو حسان المزكى، قال: أخبرنا هارون بن محمد الأسترابادي، قال: حدثنا أبو محمد الخزاعي، قال:
حدثنا أبو الوليد الأزرقى، قال: حدثني جدي عن سفيان عن سعيد بن سالم عن ابن جريج عن مجاهد فى قول الله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها قال: نزلت فى ابن طلحة ... وساق الأثر المذكور. وفى أسباب النزول للسيوطي ص 66: أثر عن ابن عباس وثان عن ابن جريج يوافقان ما ذكره مقاتل.(1/381)
أني جعلت لَكُمْ ما تدرون، ونحيت عنكم ما لا تدرون، ولكم أجر ذَلِكَ. قَالَ الْعَبَّاس: بلى. قَالَ: بشرفهم بذَلِكَ أَيّ تفضلون عَلَى الناس، وَلا يفضل الناس عليكم.
ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً- 58- فلا أحد أسمع منه «بصيرا» فلا أحد أبصر منه فكان من العدل أن دفع السقاية إلى الْعَبَّاس بن عَبْد الْمُطَّلِب والحجابة إلى عُثْمَان بن طَلْحَة لأنهما كانا أهلها فى الجاهلية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- بعث خَالِد بن الْوَلِيد عَلَى سرية فيهم عمار بن ياسر فساروا حَتَّى دنوا من الماء فعرسوا قريبا وبلغ العدو أمرهم فهربوا، وبقي منهم رَجُل فجمع متاعه، وجاء ليلا فلقي عمارا، فَقَالَ: يا أبا اليقظان، إن القوم سمعوا بكم، فهربوا وَلَم يبق غيري، وَقَدْ أسلمت، وشهدت ألا إله إِلَّا اللَّه وأن محمدا عبده ورسوله فهل الْإِسْلام نافعي.
فَقَالَ عمار: ينفعك فأقم فَلَمَّا أصبح خَالِد غار بخيله، فلم يجد إلا هذا الرجل وما له.
فَقَالَ عمار: خل عن هَذَا الرَّجُل وماله فقد أسلم وَهُوَ فِي أماني. قَالَ خَالِد: فيم أَنْت تجير دوني وأنا أمير عليك «1» . فاستبا فلما رجعا إلى المدينة أجاز [78 أ] النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمان عمار ونهاه أن يجير الثانية عَلَى أمير، فَقَالَ خَالِد:
يا نَبِيّ اللَّه يسبني هَذَا العبد الأجدع وشتم خَالِد عمارا. فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لخالد لا تسب عمارا فَمنْ سب عمارا سب اللَّه، ومن أبغض عمارا أبغضه اللَّه، ومن لعن عمارا لعنه اللَّه، فغضب عمار، فقام فذهب. فَقَالَ النبي- صلى الله
__________
(1) القصة بطولها فى أسباب النزول للواحدي: 91. ولفظ هذه الجملة، فقال خالد: أنت تجير على وأنا الأمير؟
وذكر السيوطي فى أسباب النزول ص 67: أن ابن جرير قد أخرجها.(1/382)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لخالد: قم فاعتذر إِلَيْهِ. فأتاه خَالِد فأخذ بثوبه، فاعتذر إِلَيْهِ، فأعرض عَنْهُ، فأنزل الله- عز وجل- فى عمار يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يعني خَالِد بن الْوَلِيد
لأن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان ولاه أمرهم فأمر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بطاعة أمراء سرايا رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ من الحلال والحرام يعني خالدا وعمارا فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ يعنى إلى القرآن وإلى الرَّسُولَ يعني سنة النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: نظيرها فِي النور «1» ثُمّ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ يعني تصدقون بِاللَّه بأنه واحد لا شريك لَهُ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني باليوم الَّذِي فِيهِ جزاء الأعمال فليفعل ما أمر اللَّه ذلِكَ الرد إليهما خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا- 59- يعني وأحسن عاقبة أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا يعني صدقوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَصدقوا ب ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتاب «2» على الأنبياء وذلك
أن بشر المنافق إلى كَعْب، ثُمّ إنهما اختصما إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقضى لليهودي عَلَى المنافق «3» . فَقَالَ المنافق لليهودي: انطلق أخاصمك إلى عُمَر بن الخَطَّاب- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. فَقَالَ اليهودي لعمر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إني خاصمته إلى محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقضى لي فلم يرض بقضائه فزعم أَنَّهُ مخاصمني إليك. فَقَالَ عُمَر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- للمنافق: أكذلك. قَالَ: نعم أحببت أن أفترق
__________
(1) يشير إلى آيتي 51- 52 من سورة النور وهما: إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ.
(2) فى أ: الكتاب.
(3) فى أ: لليهود على المنافقين.(1/383)
عن حكمك. فَقَالَ عُمَر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ-: مكانك حَتَّى أخرج إليكما. فدخل عُمَر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- فأخذ السيف، واشتمل عَلَيْه، ثُمّ خرج إلى المنافق فضربه حَتَّى برد. فَقَالَ عُمَر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ-: هكذا أقضي عَلَى من لَمْ يرض بقضاء اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وقضاء رسوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأتى جبريل- عَلَيْه السَّلام- إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يا محمد قَدْ قتل عمر الرجل «1» وفرق
__________
(1) كيف يقتل عمر رجلا بدون حق،
وقد قال- عليه الصلاة والسلام-: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: زنى بعد إحصان، أو النفس بالنفس، ومن بدل دينه فاقتلوه.
فإن قيل إنه كان منافقا كان الجواب ما الذي أعلم عمر بنفاقه.
حقا إن عدم رضاه بحكم الرسول جريمة يستحق أن يعذر بسببها وهذا هو ما
ورد فى كتب علوم القرآن وأسباب النزول: جاء فى أسباب النزول للواحدي ص 92: وقال الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نزلت فى رجل من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فقال اليهودي:
انطلق بنا إلى محمد. وقال المنافق: بل نأتى كعب بن الأشرف وهو الذي سماه الله- تعالى- الطاغوت، فأبى اليهودي إلا أن يخاصمه إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاختصما إليه، فقضى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- لليهودي، فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال: ننطلق إلى عمر بن الخطاب فأقبلا إلى عمر، فقال اليهودي: اختصمنا أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه، وزعم أنه مخاصم إليك وتعلق بى فجئت إليك معه، فقال عمر للمنافق: أكذلك؟
قال: نعم. فقال لهما: رويدا حتى أخرج إليكما، فدخل عمر وأخذ السيف فاشتمل عليه ثم خرج إليهما وضرب به المنافق حتى برد. وقال: هكذا أقضى لمن لم يرض بقضاء الله وقضاء رسوله، وهرب اليهودي ونزلت هذه الآية. وقال جبريل- عليه السلام-: إن عمر فرق بين الحق والباطل، فسمى الفاروق.
وأورد الواحدي عدة روايات فى أسباب نزول الآية.. والذي أراه- إن صح سبب النزول الذي أورده الكلبي ومقاتل- أن عمر ضرب المنافق حتى يرد كما روى الكلبي ولم يقتله. وفى لهجات العراق يطلقون كلمة قتله بمعنى أوجعه ضربا. وفى لهجات صعيد مصر يطلقون كلمة قتله بمعنى ضربه ضربا شديدا. بينما فى لهجة الدلتا فى مصر كلمة قتله بمعنى أزهق روحه وهو الموافق لما فى العربية الفصحى قال- تعالى-: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً سورة النساء: 93.
ومقاتل بن سليمان رحل إلى العراق وأقام به فلعله روى الأثر بالمعنى فأطلق: قتل عمر الرجل بمعنى أوجعه ضربا.(1/384)
اللَّه بين الحق والباطل فسمي عُمَر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- الفاروق فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي بشر المنافق أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ
يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ يعني كَعْب بن الأشرف وكان يتكهن وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [78 ب] يعنى أن يتبرأوا من الكهنة وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ عن الهدى ضَلالًا بَعِيداً- 60- يعني طويلا وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فى كتابه وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يعنى بشرا يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً- 61- يعني يعرضون عنك يا محمد إعراضا إلى غيرك مخافة أن تحيف عليهم فَكَيْفَ بهم يعنى المنافقين: إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ فى أنفسهم بالقتل بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من المعاصي فِي التقديم، ثُمّ انقطع الكلام، ثُمّ ذكر الكلام، فَقَالَ- عَزَّ ذكره-: ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ نظيرها «1» فى سورة براءة. إِنْ أَرَدْنا ببناء مسجد القرار إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً- 62- يعني إِلَّا الخير والصواب وفيهم نزلت وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى يعني إِلَّا الخير وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فِي قولهم الَّذِي حلفوا به أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من النفاق فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ بلسانك
__________
(1) نظيرها: ساقطة من أ، ل. وهي زيادة اقتضاها السياق. وهو يشير إلى الآية 107 فى سورة التوبة وهي: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ.
وفى سورة التوبة عدة آيات تندد بحلف المنافقين كذبا لإرضاء رسول الله والمسلمين منها:
وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ سورة التوبة: 42. وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ سورة التوبة 56. يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ
سورة التوبة: 62. يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ سورة التوبة: 74. سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ سورة التوبة: 95. يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ سورة التوبة: 96.(1/385)
وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً- 63- نسختها آية السيف وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ يعني إِلَّا لكي يطاع بِإِذْنِ اللَّهِ يَقُولُ لا يطيعه أحد حَتَّى يأذن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لَهُ فِي طاعة رسوله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ بالذنوب يعني حين لَمْ يرضوا بقضائك جاءوك فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ من ذنوبهم وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً- 64- فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وذلك
أن الزُّبَير بن الْعَوَّام- رَضِيَ اللَّه عنه- «وهو» «1» من بنى أسد ابن عَبْد العزى، وحاطب بن أَبِي بلتعة العنسي «2» من مذحج وهو حليف لبنى أسد ابن عَبْد الْعُزَّى، اختصما إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الماء وكانت أرض الزُّبَير فوق أرض حاطب، وجاء السيل. فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للزبير: «اسق، ثُمّ أرسل الماء إلى جارك» «3» . فغضب حاطب وقَالَ للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أما إنَّه ابْن عمتك. فتغير وجه النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومر حاطب عَلَى المقداد بن الأسود الكِنْديّ، فَقَالَ: يا أبا بلتعة لمن كان القضاء، فَقَالَ: قضى لِابْن عمته، ولوي شدقه فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فأقسم «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ» حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ يعني اختلفوا بينهم يَقُولُ لا يستحقون الْإِيمَان حَتَّى يرضوا بحكمك فيما اختلفوا فِيهِ من شيء ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ يَقُولُ لا يجدون فِي قلوبهم شكا مما قضيت أَنَّهُ الحق وَيُسَلِّمُوا لقضائك لهم وعليهم تَسْلِيماً- 65-.
فقالت اليهود: قاتل اللَّه هَؤُلاءِ، ما أسفههم! يشهدون أن محمدا رسول اللَّه ويبذلون لَهُ دماءهم وأموالهم، ووطئوا عقبه، ثُمّ يتهمونه فى القضاء، فوالله لقد
__________
(1) فى أ: يعنى، فأبدلتها: وهو.
(2) فى أ: غير معجمة تحتمل أن تكون: العبسي والعنسي، وفى ل: العنسي.
(3) ورد بذلك فى أسباب النزول للواحدي: 94. كما ورد أيضا فى أسباب النزول للسيوطي: 68.(1/386)
أمرنا موسى- عليه السلام-[79 أ] فِي ذنب واحد أتيناه فقتل بعضنا بعضا فبلغت القتلى سبعين ألفا حَتَّى رضي اللَّه عنا، وما كان يفعل ذَلِكَ غيرنا، فَقَالَ:
عِنْد ذَلِكَ ثَابِت بن قَيْس بن شَمَّاس الْأَنْصَارِيّ: فوالله، إن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ليعلم أَنَّهُ لو أمرنا أن نقتل أنفسنا لقتلناها. فانزل الله- عز وجل- في قول ثابت:
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا يَقُولُ لو أَنَا فرضنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ فكان من ذَلِكَ القليل عمار بن ياسر وعبد اللَّه بن مَسْعُود وثابت بن قَيْس، فقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه-: واللَّه لو فعل ربنا لفعلنا.
فالحمد للَّه الذيّ لَمْ يفعل بنا ذَلِكَ.
فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَالَّذِي نفسي بيده للإيمان أثبت فِي قلوب الْمُؤْمِنِين من الجبال الرواسي.
ثُمّ قال: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ من القرآن لَكانَ خَيْراً لَهُمْ فِي دينهم وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً- 66- يعني تصديقا فِي أمر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا يعني من عندنا أَجْراً عَظِيماً- 67- يعني الجنة وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً- 68-
فَلَمَّا نزلت «إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ» قَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-: «لعمار بن ياسر، وعبد اللَّه بن مَسْعُود، وثابت بن الشماس من أولئك القليل» وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ نزلت فِي رَجُل من الأَنْصَار يسمى عَبْد اللَّه بن زَيْد بن عَبْد ربه الْأَنْصَارِيّ قَالَ للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَهُوَ الَّذِي رَأَى الأذان فِي المنام مَعَ عُمَر بن الخَطَّاب- رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا» «1» : إذا خَرَجْنَا من عندك إلى أهالينا اشتقنا إليك فلم ينفعنا شيء حَتَّى نرجع إليك، فَذَكَرَتْ درجاتك فِي الجنة، فكيف لنا برؤيتك إن دخلنا الجنة «2» . فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ «3»
__________
(1) ما بين القوسين « ... » جملة اعتراضية للتعريف بعبد الله بن زيد الأنصارى.
(2) فى أ: الخلة، فى حاشية أ: الجنة: محمد.
(3) ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي، وفى لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطي. [.....](1/387)
فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ بالنبوة وَالصِّدِّيقِينَ بالتصديق وهم أول من صدق بالأنبياء- عليهم السَّلام- حين عاينوهم وَالشُّهَداءِ يعني القتلى فِي سبيل اللَّه بالشهادة وَالصَّالِحِينَ يعني المؤمنين أهل الجنة وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً- 69- ذلِكَ يعني هَذَا الثواب هُوَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً- 70- فَلَمَّا تُوُفّي النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتاه ابنه وَهُوَ فِي حديقة لَهُ فَأَخْبَرَه بموت النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ عِنْد ذَلِكَ: اللَّهُمَّ اعمني فلا أرى شيئًا بعد حبيبي أبدا. فعمي مكانه وكان يحب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حبا شديدا فجعله اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- مَعَ النَّبِيّ- صَلَّى الله عليه وسلم- فى الجنة «1» .
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ يعني عدتكم من السلاح فَانْفِرُوا ثُباتٍ عصبا سرايا «جماعة» «2» إلى عدوكم أَوِ انْفِرُوا إليهم جَمِيعاً- 71- مَعَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا نفر [79 ب] وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ يعني ليتخلفن النفر. نزلت فِي عَبْد اللَّه بن أُبَيّ بن ملك بن أَبِي عَوْف بن الخزرج رأس المنافقين فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يعني بلاء من العدو أَوْ شدة من العيش قالَ المنافق قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً- 72- يعني شاهدا فيصيبني من البلاء ما أصابهم. وَلَئِنْ أَصابَكُمْ «3» فَضْلٌ يعني رزق مِنَ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلّ- يعني الغنيمة لَيَقُولَنَّ ندامة فِي التخلف كَأَنْ لَمْ تَكُنْ «4» بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ فى الدين
__________
(1) انظر قصة نزول (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ..) الآية فى أسباب النزول للسيوطي: 69- 70.
وأسباب النزول للواحدي: 94. وقد ورد فيهما ما رواه مقاتل. وهناك روايات أخرى فى الآية.
(2) «جماعة» من حاشية ل، كتبت أسفل كلمة عصبا.
(3) فى أ: تفسير عجز هذه الآية قبل صدرها.
(4) فى أ: يكن.(1/388)
والولاية يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً- 73- فألحق من الغنيمة نصيبا وافرا. فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فيقتل فِي سبيله أَوْ يغلب عدوه فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً- 74- فِي الجنة
لقولهم للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن نقاتل فنقتل وَلا نقتل؟
فنزلت هَذِهِ الآية
فأشركهم جميعًا فِي الأجر وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وتقاتلون عن وَالْمُسْتَضْعَفِينَ «1» يعني المقهورين مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ المقهورين بمكة حَتَّى يتسع الأمر ويأتي إِلَى الْإِسْلام من أراد منهم ثُمّ أخبر عَنْهُمْ فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعني مكة الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يعني من عندك وليا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً- 75- عَلَى أَهْل مكة والمستضعفين من الرجال يعني الْمُؤْمِنِين قَالَ ابْن عَبَّاس- رحِمَه اللَّه: كُنْت أنا وأمي من المستضعفين من النّساء والولدان.
ثُمّ قَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني طاعة اللَّه وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ يعني فِي طاعة الشَّيْطَان ثُمّ حرض اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الْمُؤْمِنِين فَقَالَ: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ يعني المشركين بمكة إِنَّ كَيْدَ يعني إن مكر الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً- 76- يعني واهنا كقوله- سُبْحَانَهُ-:
مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ «2» يعني مضعف كيد الكافرين. فسار النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى مكة ففتحها وَجَعَل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- للمستضعفين مخرجا أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ عن القتال. نزلت فِي عَبْد الرَّحْمَن بن عَوْف وسعد بن أَبِي وَقَّاص- رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا- وهما من بني زهرة وقدامة بن مظعون
__________
(1) فى أ: المستضعفين. بدون الواو.
(2) سورة الأنفال الآية: 18 وتمامها ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ.(1/389)
الْجُمَحِيّ والمقداد بن الأسود الكِنْديّ- رَضِيَ اللَّه عَنْهُم- وذلك
أنهم استأذنوا فِي قتال كفار مكة سرا، مما كانوا يلقون منهم من الأذى فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مهلا كفوا أيديكم عن قتالهم
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَإِنِّي لَمْ أومر بقتالهم، فَلَمَّا [80 أ] هاجر النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى المدينة أمر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بالقتال فكره بعضهم «1» فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ يعني فرض القتال بالمدينة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ نزلت فِي طَلْحَة بن عُبَيْدُ اللَّهِ- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- يَخْشَوْنَ النَّاسَ يعني كفار مكة كَخَشْيَةِ اللَّهِ فلا يقاتلونهم أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا وَهُوَ الَّذِي قَالَ: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ «2» يعني لَم فرضت علينا القتال لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ هلا تركتنا حَتَّى نموت موتا وعافيتنا من القتل قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ تتمتعون فيها يسيرا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ من الدُّنْيَا يعني الجنة أفضل من الدُّنْيَا لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ من أعمالكم «3» الحسنة فَتِيلًا- 77- يعني الأبيض الَّذِي يَكُون فِي وسط النواة حَتَّى يجازوا بها ثُمّ أخبر عن كراهيتهم للقتال ذاكرا لهم أن الموت فِي أعناقكم، فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: أَيْنَما تَكُونُوا من الأرض يُدْرِكْكُمُ يعني يأتيكم الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ يعني القصور الطوال المشيدة إلى السماء فِي الحصانة حين»
لا يخلص إِلَيْهِ ابْن آدم يخلص إليه الموت حين يفر منه. وقَالَ «5» عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ- لما قتلت الأَنْصَار يوم أحد-
__________
(1) هكذا فى أ، ل. والمراد فكره بعضهم القتال.
(2) ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي: 95.
(3) فى أ: (ولا يظلمون) من أعمالهم.
(4) فى أ: حين. وفى حاشية أ: حيث محمد.
(5) فى أ: فقال.(1/390)
قَالَ «1» : لو أطاعونا ما قتلوا. فنزلت أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ يعني القصور ثُمّ أخبر- سُبْحَانَهُ- عن المنافقين- عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ وأصحابه- فَقَالَ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ببدر يعني نعمة وهي الفتح والغنيمة يَقُولُ هَذِهِ الحسنة من عِنْد اللَّه وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يعني بلية وهي القتل والهزيمة يوم أحد يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ يا محمد أَنْت حملتنا عَلَى هَذَا، وَفِي سببك كان هَذَا. فَقَالَ- عَزَّ وَجَلّ- لنبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْ كُلٌّ يعني الرخاء والشدة مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ يعنى المنافقين لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً- 78- أن الشدة والرخاء والسيئة والحسنة من اللَّه ألا يسمعون ما يحذرهم ربهم فِي القرآن؟ يعنى عبد الله بن أبى. فقال الله- عز وجل- لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ يعني الفتح والغنيمة يوم بدر فَمِنَ اللَّهِ كان وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ يعني البلاء من العدو، والشدة من العيش يوم أحد فَمِنْ نَفْسِكَ يعني فبذنبك، يعني ترك المركز، وَفِي مصحف عَبْد اللَّه بن مَسْعُود وأبي بن كَعْب «فبذنبك وأنا كتبتها عليك» وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً- 79- يعني فلا شاهد أفضل من اللَّه بأنك رسوله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «2» وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال [80 ب] فِي المدينة «من أحبني فقد أحبّ اللَّه، ومن أطاعنى
__________
(1) فى أ: قالوا.
(2) لم يرد سبب لنزول هذه الآية فى كتاب أسباب النزول للواحدي. وكذلك لم يرد لها ذكر فى كتاب لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطي.
لكن
جاء فى تفسير ابن كثير 1: 528. عند تفسير هذه الآية: أن أورد حديثا فى الصحيحين: عن الأعمش عن أبى صالح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-: «من أطاعنى فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعنى، ومن عصى الأمير فقد عصاني» .(1/391)
فقد أطاع اللَّه» . فَقَالَ المنافقون: ألا تسمعون إلى هَذَا الرَّجُل وما يقُولُ؟ لقَدْ قارب الشرك وَهُوَ ينهي ألا يعبد إِلَّا اللَّه، فَمَا حمله عَلَى الَّذِي قَالَ إِلَّا أن نتخذه حنانا- يعنون ربا- كَمَا اتخذت النَّصارى عِيسَى ابْن مريم حنانا. فأنزل اللَّه- عَزَّ وجل- تصديقا لقوله نبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى عرض عن طاعتهما فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً- 80- يعني رقيبا ثُمّ أخبر عن المنافقين فَقَالَ- سُبْحَانَهُ- وَيَقُولُونَ طاعَةٌ للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين أمرهم بالجهاد، وذلك أنهم دخلوا على النبي- صلى الله عليه وسلم- فقالوا: مرنا بما شئت، فأمرك طاعة. فإذا خرجوا من عنده «1» خالفوا. وقالوا غَيْر الَّذِي قال لهم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَيَقُولُونَ طاعَةٌ للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ يعني خرجوا من عندك يا محمد بَيَّتَ طائِفَةٌ يَقُولُ «2» ألفت طائفة مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ يعني الحفظة فيكتبون ما يقولون من الكذب فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يعني الجلاس بن سُوَيْد، وعَمْرو بن زَيْد فلا تعاتبهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ يعني وثق بِاللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا- 81- يعني وكفى به منيعا فلا أحد أمنع من اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ويُقَالُ وكيلا يعني شهيدا لما يكتمون، ثُمّ وعظهم فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ يعني أفلا يسمعون الْقُرْآنَ فيعلمون أَنَّهُ وَلَوْ «3» كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً- 82- يعني كذبا كبيرا لأن الِاخْتِلاف فِي قول الناس،
__________
(1) فى أ، ل: عندك. [.....]
(2) فى أ، ل: ألقت. وهي محرفة عن ألفت فى البيضاوي (بيت طائفة منهم غير الذي تقول) أى زورت خلاف ما قلت لها وما قالت لك من القبول وضمان الطاعة.
(3) فى أ: لو، فى الحاشية: ولو.(1/392)
وقول اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لا اخْتِلاف فِيهِ وَإِذا جاءَهُمْ يعني المنافقين أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ يعنى شيئا من الأمر يسر الْمُؤْمِنِين من الفتح والخير، قصروا عما جاءهم من الخير «1» . ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: أَوِ الْخَوْفِ يعني فَإِن جاءهم بلاء أو شدة نزلت بالمؤمنين أَذاعُوا بِهِ يعني أفشوه فإذا سَمِع ذَلِكَ المسلمون كاد أن يدخلهم الشك «2» وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ حَتَّى يخبر الرَّسُول- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما كان من الأمر أوردوه وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ «3» يَقُولُ أمراء السرايا فيكونون هُم الَّذِين يخبرون ويكتبون به لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يعنى الذين يتبينونه منهم يعني الخير عَلَى وجهه ويحبوا أن يعلموا ذَلِكَ فيعلمونه. ثُمّ قَالَ- سبحانه- وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ يعني ونعمته فعصمكم من قول المنافقين لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا- 83-[81 أ] نزلت فِي أناس كانوا يحدثون أنفسهم بالشرك ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فأمره أن يقاتل بنفسه لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ يعني لَيْسَ عليك ذنب غيرك وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ يعنى وحضض عَلَى القتال يعني عَلَى قتال العدو عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ يعني قتال الَّذِينَ كَفَرُوا «4» وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً يعني أخذا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا- 84- يعني نكالا يعني عقوبة من الكفار ولو
__________
(1) هكذا فى أوفى ل.
وفى البيضاوي «وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ» مما يوجب الأمن أو الخوف «أَذاعُوا بِهِ» أفشوه كان يفعله قوم من ضعفة المسلمين إذا بلغهم خير عن سرايا رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو أخبرهم الرسول بما أوحى إليه من وعد بالظفر أو تخويف من الكفرة أذاعوا به لعدم جزمهم فكانت إذاعته مفسدة.
(2) فى أزيادة: ثم استثنى فى التقديم فقال «إلا قليلا منهم» لا يذيعون الخبر فلو سكتوا أوردوا الخبر.
(3) فى أ: إلى، وفى المصحف: وإلى» .
(4) فى أ: الذين كفروا من العذاب. والمثبت من ل.(1/393)
لَمْ يطع النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحدا من الكفار لكفاه اللَّه- عَزَّ وَجَلّ.
وقوله- سبحانه-: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً لأخيه المسلم بخير يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها يعني حظا من الأجر من أجل شفاعته وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً وَهُوَ الرَّجُل يذكر أخاه بسوء عِنْد رَجُل فيصيبه عنت منه، فيأثم المبلغ فذلك قوله- سبحانه-:
يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها يعني إثما من شفاعته وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً- 85- من الحيوان، عَلَيْه قوت كُلّ دابة لمدة رزقها وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها نزلت فِي نفر بخلوا بالسلام «1» . فحيوا بأحسن منها أَوْ رُدُّوها يَقُولُ فردوا عَلَيْه أحسن مما قَالَ، قَالَ: فيقول وعليك ورحمة اللَّه وبركاته، أو يرد عَلَيْه مثل ما سلم عَلَيْه «2» . إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من أمر التحية إن رددت عَلَيْهَا أحسن منها أَوْ مثلها حَسِيباً- 86- يعني شهيدا. اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ نزلت في قوم شكوا في البعث فأقسم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بنفسه ليبعثهم إلى يوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ يعني لا شك فِي البعث وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً- 87- يَقُولُ فلا أحد أصدق من اللَّه حديثًا إذا حدَّث يعني فِي أمر البعث فَما لَكُمْ صرتم فِي الْمُنافِقِينَ نزلت فِي تسعة نفر- منهم- مَخْرَمَة بن زَيْد الْقُرَشِيّ- هاجروا من مكة إلى المدينة فقدموا وأرادوا الرجعة، فَقَالَ بعضهم: نخرج كهيئة البداة فإذا غفل عنا مضينا إلى مكة فجعلوا يتحولون منقلة منقلة حَتَّى تباعدوا من المدينة ثُمّ إنهم أدلجوا حَتَّى أصبحوا قَدْ قطعوا أرضا بعيدة فلحقوا بمكة فكتبوا إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- إنا على ما فرقناك عليه، ولكنا اشتقنا إلى بلادنا وإخواننا بمكة،
__________
(1) فى أ، م: بالسلم. وفى ل: بالسلام. والمثبت من ل.
(2) فى أ: عليك. والمراد: أن من ألقى عليه السلام يجب أن يرد التحية بأحسن منها. فيقول وعليك ورحمة اللَّه وبركاته. أو يرد عليه بمثلها. أى بمثل ما سلم عليه.(1/394)
ثُمّ إنهم خرجوا تجارا إلى الشام واستبضعهم أَهْل مكة بضائعهم، فقالوا لهم: أنتم عَلَى دين محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه فلا بأس عليكم فساروا وبلغ الْمُسْلِمِين «أمرهم» «1» ، فَقَالَ بعضهم لبعض: اخرجوا إلى هَؤُلاءِ فنقاتلهم، ونأخذ ما معهم فإنهم تركوا دار الهجرة وظاهروا عدونا. وقال آخرون [81 ب] :
ما حلت دماؤهم وَلا أموالهم ولكنهم فتنوا، ولعلهم يرجعوا للتوبة والنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ساكت، فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يخبر عن التسعة رهط ويعظ الْمُؤْمِنِين ليكون أمرهم جميعًا عليهم. فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: «فَما لَكُمْ» صرتم «فِي الْمُنافِقِينَ» فِئَتَيْنِ تختصمون وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ «2» يعني أضلهم فردهم إلى الكفر بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن الهدى فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا- 88- ثُمّ أخبر عن التسعة فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-:
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً أنتم وهم عَلَى الكفر فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني حَتَّى يهاجروا إلى دار الهجرة بالمدينة فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِن أبوا الهجرة فَخُذُوهُمْ يعني فأسروهم وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ يعني أَيْنَ وَجَدْتُمُوهُمْ من الأرض فِي الحل والحرم وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً- 89- يعني وَلا ناصرا. ثُمّ استثنى فَقَالَ: إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ يعني التسعة المرتدين إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ يعني عهد خزاعة وبني خُزَيْمة وفيهم نزلت إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «3» إن وصل هَؤُلاءِ التسعة إلى أهل عهدكم وهم خزاعة منهم: هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جشم
__________
(1) أورد الواحدي فى أسباب النزول: 96- 97 عدة آثار فى أسباب نزول الآية، من بينها ما أورده مقاتل وعزاه الواحدي إلى مجاهد.
(2) فى حاشية أ: مأخوذ من الركس، وهو رجيع: أى روث الحيوان فكأنهم رجعوا إلى حالة شنبعة.
(3) سورة التوبة: 4.(1/395)
وبنو مدلج وبنو جذيمة «1» وهما حيان من كنانة. فلا تقتلوا التسعة لأن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَالَح هَؤُلاءِ عَلَى أن من يأتيهم من الْمُسْلِمِين فهو آمن. يَقُولُ:
إن وصل هَؤُلاءِ وغيرهم إلى أهل عهدكم فإن لهم مثل الَّذِي لحلفائهم. ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ- أَوْ جاؤُكُمْ يعني بني جذيمة حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ يعني ضيقة قلوبهم أَنْ يُقاتِلُوكُمْ يعني ضاقت قلوبهم أن يقاتلوكم أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ من التسعة ثُمّ قَالَ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ يخوف الْمُؤْمِنِين ثُمّ قَالَ:
فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ يعني الصلح يعني هلالا وقومه خزاعة فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا- 90- فِي قتالهم سَتَجِدُونَ آخَرِينَ
منهم أسد غطفان أتوا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لهم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أجئتم مهاجرين؟ قَالُوا: بل جئنا مسلمين- فإذا رجعوا إلى قومهم قَالُوا آمنا بالعقرب والخنفساء إذ تعود، فَقَالَ: «سَتَجِدُونَ آخَرِينَ» يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ
يعني يأمنوا فيكم مَعْشَر الْمُؤْمِنِين بأنهم مقرون بالتوحيد وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ المشركين لأنهم عَلَى دينهم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ يعني كلما دعوا إلى الشرك أُرْكِسُوا فِيها يَقُولُ عادوا فِي الشرك فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ فى القتال وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ يعني الصلح وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عن قتالكم فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ [82 أ] يعنى: أأسروهم واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ يعني أدركتموهم من الأرض فِي الحل والحرم وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً- 91- يعنى حجة بيّنة ثم صارت منسوخة وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ يعني عَيَّاش بن أَبِي رَبِيعَة بن المغيرة المخزومي يقول ما كان
__________
(1) هكذا فى أ، وفى ل بدون إعجام هكذا حديمة فتحتمل خذيمة وجذيمة.
وفى لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطي ص 72: أن الآية نزلت فى بنى جذيمة بن عبد مناف وفى هلال بن عويمر الأصلى وسراقة بن مالك المدلجي.(1/396)
ينبغي لمؤمن أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً يعني الْحَارِث بن يزيد بن أَبِي أنيسة من بنى عامر ابن لؤي إِلَّا خَطَأً وذلك أن الْحَارِث أسلم فِي موادعة أَهْل مكة فقتله عَيَّاش خطأ وكان عَيَّاش قَدْ حلف عَلَى الْحَارِث بن يَزِيد ليقتلنه وكان الْحَارِث يومئذ مشرك فأسلم الْحَارِث وَلَم يعلم به عَيَّاش فقتله بالمدينة «1» وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي التي قَدْ صلت للَّه ووحدت اللَّه وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ أى المقتول إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا يَقُولُ إِلَّا أن يصدق أولياء المقتول بالدية عَلَى القاتل فهو خير لَهمْ فَإِنْ كانَ هذا المقتول مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ من أَهْل الحرب وَهُوَ يعني المقتول مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ نزلت فى مرداس بن عُمَر القَيْسيّ «2» وَلا دية لَهُ [وَإِنْ كانَ هَذَا المقتول وكان ورثته مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ يعنى عهد فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ «3» ] أَيّ إلى أهل المقتول يعني إلى ورثته بمكة وكان بين النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبَيْنَ أَهْل مكة يومئذ عهد. وَعليه تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ الدية فعليه فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ تِلْكَ الكفارة تجاوز من اللَّه فِي قتل الخطأ لهذه الأمة لأن الْمُؤْمِن كان يقتل بالخطأ فِي التوراة عَلَى عهد مُوسَى- عَلَيْه السلام- وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً- 92- حكم الكفارة والرقبة وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً نزلت فِي مقيس بن ضبابة الكناني، ثُمّ الليثي قتل رَجُلا من قريش يُقَالُ لَهُ عمر ومكان أَخِيهِ هِشَام بن ضبابة، وذلك
أن مقيس بن ضبابة وجد أخاه قتيلا فِي الأَنْصَار فِي بني النَّجّار، فانطلق إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَه بِذَلِك فأرسل النَّبِيّ- صلى الله
__________
(1) ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي: 97، والسيوطي: 72.
(2) فى ل: القرشي. [.....]
(3) ما بين الأقواس [ ... ] من ل، وهو مضطرب فى أ.(1/397)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الأنصار رَجُلا من بني فهر مَعَ مقيس فَقَالَ: ادفعوا إلى مقيس قاتل أَخِيهِ، إن علمتم ذَلِكَ، وإلا فادفعوا إِلَيْهِ ديته. فَلَمَّا جاءهم الرَّسُول، قَالُوا:
السمع والطاعة للَّه ولرسوله واللَّه ما نعلم لَهُ قاتلا، ولكنا نؤدي ديته، ودفعوا «1» إلى مقيس مائة من الإبل دية أخيه، فَلَمَّا انصرف مقيس عمد إلى رسول رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقتله وفر «2» وارتد عن الْإِسْلام «ورحل من المدينة» «3»
وساق معه الدية ورجع «4» إلى مكة كافرا، وَهُوَ يَقُولُ فِي شعره [82 ب] :
قتلت به فهرا وحملت عقله ... سراة بني النَّجّار أرباب فارع
وأدركت ثأري واضطجعت موسدا ... وكنت إلى الأوثان أوّل راجع
فنزلت فِيهِ بعد ما قتل النَّفْس وارتد عن الْإِسْلام وساق معه الدية إلى مكة نزلت فِيهِ الآية «5» وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً يعني الفهري مُتَعَمِّداً لقتله فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً- 93- وافر الانقطاع لَهُ بقتله النَّفْس، وبأخذه الدية «6» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- بعث سرية، وبعث عَلَيْهَا غالب بن عَبْد اللَّه الليثي أخا ثميلة بن عَبْد اللَّه. فَلَمَّا أصبحوا رأوا رَجُلا يسمى مِرْداس بن عمرو «7» بن نهيك العنسي من بني تيم بن مرة من أَهْل فدك معه غنيمة لَهُ، فَلَمَّا رَأَى الخيل ساق غنيمته حَتَّى أحرزها فِي الجبل- وكان قَدْ أسلم من الليل وأخبر أهله بِذَلِك- فَلَمَّا دنوا منه كبروا فسمع التكبير فعرفهم فنزل إليهم. فَقَالَ: سلام عليكم، إنى مؤمن.
__________
(1) فى أ: فدفعوا.
(2) فى أ: ففر.
(3) فى أ: ورحل منها.
(4) فى أ: فرجع.
(5) فى أ: بالمدينة.
(6) وقد أمر النبي بقتل مقيس فى الحل والحرم فقتل يوم فتح مكة. وقد ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي: 98.
(7) فى أ: عمر، ل: عمرو.(1/398)
فحمل عَلَيْه أُسَامَة بن زَيْد بن حارثة الكلبي من بنى عبدود، فَقَالَ مِرْداس: إني منكم أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله.
فطعنه أُسَامَة برمحه فقتله وسلبه وساق غنمه.
فَلَمَّا قدِم المدينة أخبر أُسَامَة النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فلامه النَّبِيّ ملامة شديدة. فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى الله عليه وسلم- قتلته وَهُوَ يَقُولُ لا إله إِلَّا اللَّه؟ قَالَ: إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ أراد أن يحرز نفسه وغنمه؟ فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أفلا شققت عن قلبه فتنظر صدق أم لا؟ قال يا رسول الله: كيف يتبين لي؟ وإنما قلبه بضعة من جسده فَقَالَ: فلا صدقته بلسانه وَلا أنت شققت عن قلبه فيبين لك. فَقَالَ: استغفر لي يا رسول الله. قَالَ: فكيف لك بلا إله إِلَّا اللَّه يَقُولُ ذَلِكَ ثلاث مرات.
فاستغفر لَهُ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرابعة.
قَالَ أُسَامَة فِي نفسه: وددت أني لَمْ أسلم حَتَّى كان يومئذ فأمره النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم- أن يعتق رقبة. قَالَ مُقَاتِلٌ- رحِمَه اللَّه-: فعاش أُسَامَة زمن أَبِي بَكْر وعمر وعثمان- رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- حَتَّى أدرك عَلِيّ بْن أبي طَالِب- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- فدعاه علي- رحِمَه اللَّه- إلى القتال. فَقَالَ أُسَامَة: ما أحد أعز علي منك، وَلَكِن لا أقاتل مسلما بعد قول النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
كيف لك بلا إله إِلَّا اللَّه؟
«فَإِن أتيت بسيف إذا ضربت به مسلما، قَالَ السيف: هَذَا مُسْلِم. وإن ضربت به كافرا، قَالَ لي: هَذَا كافر، قاتلت معك. فَقَالَ لَهُ علي» «1» : اذهب حيث شئت. فانزل الله- عز وجل-: «2» يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
__________
(1) ما بين الأقواس « ... » من ل وهو ناقص فى أ.
(2) أى فى قتل أسامة مرداس.(1/399)
«1»
: يعني سرتم غزاة فِي سبيل اللَّه. فَتَبَيَّنُوا من تقتلوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ يعني مِرْداس وذلك أَنَّهُ قَالَ لهم: السَّلام عليكم إني مؤمن لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا يعني غَنْم مِرْداس فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ فِي الآخرة والجنة كَذلِكَ يعني هكذا كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ الهجرة بمنزلة مِرْداس تأمنون فِي قومكم بالتوحيد من أصحاب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا لقوكم.
فلا تخيفون أحدا بأمر كان فيكم تأمنون بِمِثْلِهِ قبل هجرتكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالهجرة فهاجرتم فَتَبَيَّنُوا إذا خرجتم فلا تقتلوا مسلما إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً- 94- فَقَالَ أسامة واللَّه لا أقتل رَجُلا بعد هذا يقول لا إله إلّا الله. وقوله- سبحانه-: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ عن الغزو مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ يعني عَبْد اللَّه بن جحش الأَسَديّ، وابن أم مَكْتُوم من أَهْل العذر «2» .
قَالَ أَبُو محمد «3» : هُمْ ثلاثة منهم عَبْد اللَّه بن جحش، عقد لَهُ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعُبَيْدُ اللَّهِ مات نصرانيا، وعبد اللَّه بن جحش هُوَ الضرير الَّذِي نزل فِيهِ قوله- عز وجل-: «غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ» «4» .
__________
(1) فى أ، ل: فى الأرض.
(2)
ورد فى تفسير ابن كثير: 1/ 540 قال البخاري: وقال عبد الرزاق عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: أكتب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فجاء عبد الله بن أم مكتوم، فقال: يا رسول الله إنى أحب الجهاد فى سبيل الله، ولكن بى من الزمانة ما قد ترى، قد ذهب بصرى. قال زيد: فثقلت فخذ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- علي فخذي حتى خشيت أن ترضها، ثم سرى عنه. ثم قال: أكتب لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ رواه ابن أبى حاتم وابن جرير بمعناه ورد فى صحيح البخاري.
وقال ابن عباس لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ عن بدر والخارجين إلى بدر.
(3) هو عبد الله بن ثابت.
(4) ما بين الأقواس « ... » ساقط من أ، ل. [.....](1/400)
يَقُولُ «1» -: عَزَّ وَجَلّ-: لا يَسْتَوِي فِي الْفَضْل القاعد الَّذِي لا عذر لَهُ، والمجاهد بنفسه وماله فِي سبيل اللَّه. وهي غزوة تبوك قَالَ-: عَزَّ وَجَلّ-:
فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ من أَهْل العذر دَرَجَةً يعني فضيلة عَلَى القاعدين وَكُلًّا يعني المجاهد والقاعد المعذور وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى يعني الجنة، ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ الَّذِين لا عذر لهم أَجْراً عَظِيماً- 95- دَرَجاتٍ مِنْهُ يعني فضائل من اللَّه فِي الجنة سبعين درجة بين كُلّ درجتين مسيرة سبعين سنة وَمَغْفِرَةً لذنوبهم وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً- 96- يعني أبا لبابة، وأوس بن حزام، ووداعة بن ثعلب، وكعب بن مَالِك، وهلال بن أُمَيَّة، ومرارة بن رَبِيعَة من بني عمرو ابن عَوْف كلهم من الأَنْصَار إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يعني ملك الموت وحده ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ وذلك أنه كان نفر أسلموا بمكة مَعَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والوليد بن عُقْبة بن رَبِيعَة بن عبد شمس، وعمرو بن أمية ابن سُفْيَان بن أُمَيَّة بن عَبْد شمس، والعلاء «2» بن أُمَيَّة بن خلف الْجُمَحِيّ ثُمّ إنهم أقاموا عن «3» الهجرة وخرجوا مَعَ المشركين إلى قتال بدر، فَلَمَّا رأوا قلة الْمُؤْمِنِين شكوا فى النبي- صلى الله عليه وسلم-[83 ب] وقالوا: غر هَؤُلاءِ دينهم، وكان بعضهم نافق بمكة فَلَمَّا قُتِل هَؤُلاءِ ببدر قالُوا أَي قَالَت الملائكة لهم وَهُوَ ملك الموت وحده: فِيمَ كُنْتُمْ؟ يَقُولُ فِي أَيّ شيء كنتم قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ يعني كُنَّا مقهورين بأرض مكة لا نطيق أن نظهر الإيمان،
__________
(1) فى أ: فقال.
(2) فى أ: وعمرو العلا، ل: والعلاء.
(3) فى أ: على، ل: عن.(1/401)
قالُوا أَي قَالَت الملائكة لهم: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً من الضيق يعني أرض اللَّه المدينة فَتُهاجِرُوا فِيها؟ يعني إليها ثُمّ انقطع الكلام فَقَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً- 97- يعني وبئس المصير صاروا، ثُمّ استثنى أَهْل العذر فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ فليس مأواهم جهنم لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً يَقُولُ لَيْسَ لهم سعة للخروج إلى المدينة وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا- 98- يعني وَلا يعرفون طريقا إلى المدينة فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ والعسى من اللَّه واجب وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا عَنْهُمْ غَفُوراً- 99- فلا يعاقبهم لإقامتهم عن الهجرة فِي عذر. فَقَالَ ابْن عَبَّاس- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: أَنَا يومئذ من الولدان، وأمي من النّساء.
فبعث النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذه الآية إلى مسلمي مكة. فَقَالَ جُنْدُب ابن حمزة الليثي ثُمّ الجندعي لبنيه: احملوني فَإِنِّي لست من المستضعفين وإني لهاد بالطريق ولو مت لنزلت فِي الآية «1» . وكان شيخا كبيرا «2» فحمله بنوه عَلَى سريره متوجها إلى المدينة فمات بالتنعيم فبلغ أصحاب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موته، فقالوا: لو لحق بنا لأتم اللَّه أجره فأراد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أن يعلمهم أَنَّهُ لا يخيب من التمس رضاه فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ «3» يعني في طاعة الله إِلَى المدينة يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً يعنى
__________
(1) فى أ: لنزلت الآية، ل: لنزلت فى الآية، والمراد انطبق على وعيد هذه الآية.
(2) فى أ، ل: وكان شيخا كبيرا ولو مت لنزلت فى الآية، فاضطررت إلى تعديلها ليستقيم الكلام.
(3) فى أ، ل: فسر عجز هذه الآية قبل صدرها، أى فسرها هكذا: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً، وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً.(1/402)
متحولا عن الكفر وَسَعَةً فِي الرزق وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً- 100- ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَإِذا ضَرَبْتُمْ يعني سرتم فِي الْأَرْضِ يعني غزوة بني أنمار ببطن مكة فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أن يقتلكم. كقوله: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ «1» يعني أن يقتلكم الَّذِين «2» كفروا من أَهْل مكة فيصيبوا منكم طائفة إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً- 101- وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ يعني النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حذرهم من عدوهم وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ [84 أ] يعنى تذرون عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ يعني فيحملون عَلَيْكُمْ جميعًا مَيْلَةً واحِدَةً يعني حملة واحدة يعني كرجل واحد عِنْد غفلتكم ثُمّ رخص لهم فِي وضع السلاح عِنْد المطر أَو المرض «3» فَقَالَ: وَلا جُناحَ يعني لا حرج عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ
من عدوكم عِنْد وضع السلاح إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً- 102- يعنى الهوان. وكان «4» تقصير الصَّلاة بعسفان «5» - بين مكة والمدينة- والنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بإزاء الَّذِين خافوه وهم غطفان فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ يعني صلاة الخوف فَاذْكُرُوا اللَّهَ باللسان قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ
__________
(1) سورة يونس الآية: 83.
(2) فى أ: يقتلهم.
(3) فى أ: أو مرض.
(4) فى أ: فكان.
(5) فى أ: زيادة- وهو الأولى.(1/403)
إذا أقمتم فِي بلادكم فأقيموا الصَّلاة يعني فأتموا الصَّلاة كاملة وَلا تقصروا إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً- 103- يعني فريضة معلومة كقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ «1» يعني فرض عليكم القتال.
وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ يَقُولُ وَلا تعجزوا: كقوله: فَما وَهَنُوا «2» يعني فَمَا عجزوا فِي طلب أَبِي سُفْيَان وأصحابه يوم أحد بعد القتل بأيام فاشتكوا إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الجراحات فأنزل الله- عز وجل- إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ يعنى تتوجعون فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ يعني يتوجعون كَمَا تتوجعون وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ من الثواب والأجر ما لا يَرْجُونَ يعني أبا سُفْيَان وأصحابه وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بخلقه حَكِيماً- 104- فِي أمره. إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وذلك أن يهوديا يسمى زَيْد بن السمين، كان استودع طعمة بن أبيرق الْأَنْصَارِيّ- من الأوس من بني ظفر بن الْحَارِث- درعا «3» من حديد ثُمّ إن زَيْدا اليهودي طلب درعه فجحده طعمة، فَقَالَ زَيْد لقومه:
قَدْ ذكر لي أن الدرع عنده فانطلقوا حَتَّى نلتمس داره فاجتمعوا ليلا فأتوا داره، فَلَمَّا سَمِع جلبة القوم أحس «4» قلبه أن القوم إِنَّمَا جاءوا من أجل الدرع فرمى به فِي دار أَبِي مليك فدخل القوم داره فلم يجدوا الدرع فاجتمع الناس، ثُمّ إن طعمة اطلع فِي دار أَبِي مليك «5» ، فَقَالَ: هَذَا درع فِي دار أَبِي مليك، فلا أدري: هِيَ لَكُمْ أم لا؟ فأخذوا الدرع ثُمّ إن قوم طعمة- قَتَادَة بن النُّعْمَان وأصحابه- قَالُوا:
انطلقوا بنا إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلنبرئ صاحبنا، ونقول إنهم أتونا
__________
(1) سورة البقرة: 216.
(2) سورة آل عمران: 146.
(3) فى أ: درع. [.....]
(4) فى أ: حس، ل: أحس.
(5) فى أزيادة: فدخل القوم داره.(1/404)
ليلا ففضحونا، وَلَم يَكُنْ معهم رسول من قبلك ونأمرهم [84 ب] أن يبرءوا صاحبنا لتنقطع ألسنة الناس عنا بما قذفونا به، ونخبره أنها وجدت فِي دار أبي مليك.
فأتوا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبروه فصدق النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طعمة وأبرأه من ذَلِكَ، وَهُوَ يرى أنهم قَدْ صدقوا فأنزل الله- تعالى- إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ يعني القرآن «بِالْحَقِّ» لَمْ ننزله باطلا عبثا لغير شيء لِتَحْكُمَ يعني لكي تحكم بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ يعني بما علمك اللَّه فِي كتابه كقوله- سبحانه-: وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ «1» وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً- 105- يعني طعمة، ثُمّ قَالَ: وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ يا محمد عن جدالك عن طعمة حين كذبت عَنْهُ فأبرأته من السرقة إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً- 106- فاستغفر النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْد ذَلِكَ وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
يعني طعمة إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً
- 107- فِي دينه أثيما بربه يَسْتَخْفُونَ
يعني يستترون بالخيانة مِنَ النَّاسِ
يعني طعمة وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
وَلا يستترون بالخيانة من اللَّه وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ
يعني إذ يؤلفون مَا لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
لقولهم إنا نأتي النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنقول لَهُ كذا وكذا، فألقوا قولهم بينهم يعني قَتَادَة وأصحابه ليدفعوا عن صاحبهم ما لا يرضي اللَّه من القول وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً
- 108- يعني أحاط علمه بأعمالهم يعني قوم الخائن قَتَادَة بن النُّعْمَان وأصحابه ثُمّ قَالَ يعنيهم: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
قوم الخائن جادَلْتُمْ عَنْهُمْ
نبيكم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
عن طعمة فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
- 109- يعني به قومه يَقُولُ أم من يَكُون لطعمة مانعا فِي الآخرة، ثُمّ عرض عَلَى طعمة التوبة فقال:
__________
(1) سورة سبأ: 6.(1/405)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يعنى إثما أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
يعني قذف البريء أبا مليك ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
- 110- وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً
يعني طعمة فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
- 111- فِي أمره وَمَنْ يَكْسِبْ
لنفسه خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً
يعني قذف البريء ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
يعني أَنَّهُ رمى به فِي دار أَبِي مليك الأنصارى «1» فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً
يعني قذفه البريء بما لَمْ يَكُنْ وَإِثْماً مُبِيناً
- 112- يعني بينا، ثُمّ قَالَ لنبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
يعني ونعمته بالقرآن حين بين لك أمر طعمة فحولك عن تصديق الخائنين بالقرآن لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ
يقول لكادت طائفة من قوم الخائنين [85 أ] أن يستنزلوك عن الحق وَما يُضِلُّونَ
يعني وما يستنزلون إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
يعنى وما ينقصونك من شيء لَيْسَ ذَلِكَ بأيديهم، إِنَّمَا ينقصون «2» أنفسهم، ثُمّ قَالَ:
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
يعني الحلال والحرام وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
من أمر الكتاب وأمر الدّين وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
- 113- يعنى النبوة والكتاب ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ يعني قوم طعمة قَيْس بن زَيْد، وكنانة بن أبي الحقيق، وأبو رافع، وكُلُّهُمْ يهود حين تناجوا فِي أمر طعمة. ثُمّ استثنى فَقَالَ: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ يعني القرض أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً- 114- يعني جزاء عظيما فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فى قولهم:
__________
(1) وردت قصة نزول هذه الآيات بطولها فى أسباب النزول للسيوطي: 78- 79. كما وردت فى أسباب النزول للواحدي: 103. وكلاهما يوافق ما ذكره مقاتل فى تفسير هذه الآيات.
(2) فى أ: ثم ينقضون.(1/406)
وَمَنْ يُشاقِقِ يعني يخالف الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ يعني غَيْر دين الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى من الآلهة وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً- 115- يعني وبئس المصير فَلَمَّا قدِم طعمة مكة نزل عَلَى الحَجَّاج بن علاط السُّلَمِيّ «1» فأحسن نزله فبلغه أن فِي بيته ذهبا فَلَمَّا كان من الليل خرج فنقب حائط البيت وأراد «2» أن يأخذ الذهب وَفِي البيت مسوك يابسة مسوك الشاء «3» قَدْ أصابها حر الشمس «4» وَلَم تدبغ فَلَمَّا دخل البيت من النقب وطئ المسوك، فسمعوا قعقعة المسوك فِي صدره عِنْد النقب، وأحاطوا بالبيت، ونادوه اخرج فإنا قَدْ أحطنا بالبيت، فَلَمَّا خرج إذا هُمْ بضيفهم «5» طعمة، فأراد أَهْل مكة أن يرجموه فاستحيا الحَجَّاج لضيفه، وكانوا يكرمون الضيف فأهزوه وشتموه، فخرج من مكة فلحق بحرة بني سُلَيْم يعبد صنمهم، ويصنع ما يصنعون حَتَّى مات عَلَى الشرك فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ يعني يعدل به فيموت عَلَيْه وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ يعني مادون الشرك لمن يشاء فمشيئته لأهل التوحيد وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ عن الهدى ضَلالًا بَعِيداً- 116- ثُمّ إن أبا مليك عاش حَتَّى استخلف عُمَر بن الخَطَّاب- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- فحلف بِاللَّه لعمر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- لا يولي راجعا، فَلَمَّا كان يوم القادسية انهزم المشركون إلى الفرات وجاءت أساورة كسرى فهزموا الْمُسْلِمِين إلى قريب من الجيش فثبت أَبُو مليك حَتَّى قُتِل فبلغ ذَلِكَ عُمَر بن الخَطَّاب- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- فَقَالَ أَبُو مليك:
صدق اللَّه وعده إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً يعنى أوثانا يعنى أمواتا: اللات
__________
(1) فى ل: الأسلمى. أ: السلمى.
(2) فى أ: فأراد.
(3) فى ل: الشاة. أ: الشاء.
(4) فى ل: ولم. أ: لم.
(5) فى أ: بضيفه، ل: بضيفهم.(1/407)
[85 ب] والعزى وهي الأوثان لا تحرك وَلا تضر وَلا تنفع فهي ميتة وَإِنْ يَدْعُونَ يعني وما يعبدون من دونه إِلَّا شَيْطاناً يعني إبليس، زين لهم إبليس طاعته فِي عبادة الأوثان مَرِيداً- 117- يعني عاتيا تمرد عَلَى ربه- عَزَّ وَجَلّ- فِي المعصية لَعَنَهُ اللَّهُ حين كره السجود لآدم- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقالَ إبليس لربه- جلَّ جلاله- لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً- 118- يعني حظا معلوما من كُلّ ألف إنسان، واحد فِي الجنة وسائرهم فِي النار فهذا النصيب المفروض وَقال إبليس لَأُضِلَّنَّهُمْ عن الهدى وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ بالباطل ولأخبرنهم ألّا بعث وَلا جنة وَلا نار وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ يعني ليقطعن آذانَ الْأَنْعامِ وهي البحيرة للأوثان وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ يعني ليبدلن دين اللَّه وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ يعني إبليس وَلِيًّا يعني ربا مِنْ دُونِ اللَّهِ- عَزَّ وَجَلّ- فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً- 119- يَقُولُ فقد ضل ضلالا بينا يَعِدُهُمْ إبليس الغرور: ألا بعث وَيُمَنِّيهِمْ إبليس الباطل وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً- 120- يعني إِلَّا باطلا: الَّذِي لَيْسَ بشيء، وقَالَ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا أُولئِكَ «1» مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً- 121- يعنى مقرا يلجئون إليه يعنى القرار ثُمّ أخبر بمستقر من لا يتولى الشَّيْطَان فَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا
يعني صدقا أَنَّهُ منجز لهم ما وعدهم وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا- 122- فَلَيْس أحد أصدق قولا منه- عَزَّ وَجَلّ- فى أمر الجنة والنار والبعث وغيره لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ نزلت فى المؤمنين واليهود والنصارى، «2»
__________
(1) فى أ: فأولئك.
(2) ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي: 103- 104. وفى أسباب النزول للسيوطي: 80.(1/408)
قَالَت اليهود: كتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، فنحن أهدى وأولى بِاللَّه منكم.
وقالت النَّصارى: نبينا كلمة اللَّه وروح اللَّه، وكلمته، وكان يحيى الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وَفِي كتابنا العفو وليس فِيه قصاص، فنحن أولى بِاللَّه منكم مَعْشَر اليهود ومعشر الْمُسْلِمِين.
فَقَالَ المسلمون: كذبتم كتابنا نسخ كُلّ كتاب، ونبينا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خاتم الأنبياء، وآمنا بنبيكم وكتابكم، وكذبتم نبينا وكتابنا وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم، ونعمل بكتابنا، فنحن أهدى منكم وأولى بِاللَّه منكم. فأنزل- عَزَّ وَجَلّ- لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ مَعْشَر الْمُؤْمِنِين وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً- 123- وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً- 124- مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ نزلت فِي الْمُؤْمِنِين مجازات الدُّنْيَا تصيبهم فِي النكبة بحجر، والضربة واختلاج عرق أَوْ خدش عود «أو عثرة قدم فيديمه» «1» أَوْ غيره فبذنب قدم وما يعفو اللَّه عَنْهُ أكبر، فذلك قوله سُبْحَانَهُ وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «2» ثُمّ قَالَ: وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يعني قريبا ينفعه «وَلا نَصِيراً» يعني وَلا مانعا يمنعه من اللَّه- عَزَّ وَجَلّ. فَلَمَّا افتخرت اليهود على المؤمنين بالمدنية بين اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أمر الْمُؤْمِنِين- فَقَالَ سُبْحَانَهُ-: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ بتوحيد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً يعني وَلا ينقصون من أعمالهم الحسنة نقيرا حَتَّى يجازوا بها يعني النقير الَّذِي فِي ظهر النواة التي تنبت منه النخلة «3» .
__________
(1) من ل وليس فى أ.
(2) سورة الشورى: 30. [.....]
(3) فسر الآيتين: 123، 124 فى غير مكانهما فأعدتهما إلى مكانهما.(1/409)
ثُمّ اختار من الأديان دين الْإِسْلام- فَقَالَ عَزَّ وَجَلّ-: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ يعني أخلص دينه للَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ فِي عمله وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [86 أ] يعنى مخلصا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا- 125- يعني محبا وأنزل اللَّه «1» - عَزَّ وَجَلّ- فيهم «هذانِ خَصْمانِ» يعني كفار أَهْل الكتاب.
«اخْتَصَمُوا» يعني ثلاثتهم: الْمُسْلِمِين واليهود والنصارى «فِي رَبِّهِمْ» أنهُمْ أولياء اللَّه ثُمّ أخبر بمستقر الكافر فَقَالَ: «فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ» يعني جعلت لهم ثياب من نار إلى آخر الآية «2» . ثُمّ أخبر- سُبْحَانَهُ- بمستقر الْمُؤْمِنِين «3» فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ... إلى آخر الآية «4» .
قوله «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» والخليل «الحبيب» لأن اللَّه أحبه فِي كسره الأصنام، وجداله قومه، واتخذ اللَّه إِبْرَاهِيم خليلا قبل ذبح ابنه فَلَمَّا رأته الملائكة حين أمر بذبح ابنه أراد المضي عَلَى ذَلِكَ- قَالَت الملائكة: لو أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- اتخذ عبدا خليلا لاتخذ هَذَا خليلا محبا، وَلا يعلمون أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- اتخذه خليلا. وذلك
أن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لأصحابه- رَضِيَ اللَّه عَنْهُم-: إن صاحبكم خليل الرَّحْمَن. يعني نفسه. فَقَالَ المنافقون لليهود: ألا تنظرون إلى محمد يزعم أَنَّهُ خليل الله لقد اجتزأ. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا»
وإنما إِبْرَاهِيم عَبْد من عباده مثل محمد واتخذ
__________
(1) فى أ: فأنزل، ل: وأنزل.
(2) سورة الحج الآية 19.
(3) فى أ: المؤمنين المسلمين.
(4) سورة الحج: 23.(1/410)
إِبْرَاهِيم خليلا: حين ألقي فِي النار فذهب حر النيران يومئذ من الأرض كلها «1» .
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الخلق [86 ب] عبيده وَفِي ملكه وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً- 126- يعنى أحاط علمه وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ نزلت فِي سُوَيْد وعرفطة ابني الْحَارِث وعيينة بن حصن الفزاري ذلك أَنَّهُ لما فرض اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لأم كحة وبناتها الميراث انطلق سُوَيْد وعرفطة وعيينة بن حصن الفَزَاريّ إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن المرأة لا تركب فرسا وَلا تجاهد وليس عِنْد الولدان الصغار منفعة فِي شيء- فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فيهم «وَيَسْتَفْتُونَكَ» يعني يسألونك عن النّساء يعني سويدا وصاحبيه قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ يعني ما بين من القسمة فِي أوّل هذه السورة قال: ويفتيكم فِي يَتامَى النِّساءِ يعني بنات أمَّ كحة اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ يعني ما فرض لهن من أنصبائهن من الميراث فى أول السورة «2» . ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ يعني بنات أم كحة وكان الرَّجُل يَكُون فِي حجره اليتيمة ولها مال، ويكون فيها «3» موق فيرغب عن تزويجها، ويمنعها من الأزواج من أجل مالها رجاء أن تموت، فيرثها، فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: «وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ» «4»
__________
(1) ذهاب حر النيران من الأرض كلها غيب لا يعلم إلا من الكتاب أو السنة الصحيحة، وما دام لم يرد فى الكتاب إلا أن النار صارت بردا وسلاما على إبراهيم فيجب أن نقتصر عليه ولا يجوز أن نضيف إليه حكايات إسرائيلية أو غير إسرائيلية. (المحقق)
(2) ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي: 105. وفى لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطي.
(3) موق: أى محب.
(4) قال النسفي فى تفسيره: 1/ 197 «وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ» أى فى أن تنكحوهن لجمالهن أو عن أن تنكحوهن لدمامتهن. وقد ورد فى التفسير المأثور ما يؤيده.(1/411)
لدمامتهن وَيفتيكم فى الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ أن تعطوهم حقوقهم وكانوا لا يورثونهم وَيفتيكم أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى فِي الميراث بِالْقِسْطِ يعني بالعدل وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ مما أمرتم به من قسمة المواريث فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً- 127- فيجزيكم به وَإِنِ امْرَأَةٌ واسمها خويلة بِنْت «1» محمد بن مَسْلَمَةَ خافَتْ يعني علمت مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً يعني زوجها أَوْ إِعْراضاً عَنْهَا لما بها من؟؟؟
إلى الأخرى نزلت فِي رافع بن خَدِيج الْأَنْصَارِيّ وَفِي امرأته خويلة بِنْت محمد بن مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيّ وذلك أن رافعا طلقها ثُمّ راجعها وتزوج عَلَيْهَا أشب منها، وكان يأتي الشابة ما لا يأتي الكبيرة «2» يقول فَلا جُناحَ عَلَيْهِما الزوج والمرأة الكبيرة أَنْ يُصْلِحا «3» بَيْنَهُما صُلْحاً أن ترضى المرأة الكبيرة بِمَالِهِ، عَلَى أن يأتي الشابة ما لا يأتي الكبيرة، يقول فلا بأس بِذَلِك فِي القسمة فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ من المفارقة وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ يعني الحرص على المال: يعني الكبيرة، يرضيها الزوج من بعض ماله، فتحرص عَلَى المال، وتدع نصيبها من زوجها «4» وَإِنْ تُحْسِنُوا الفعل فلا تفارقها وَتَتَّقُوا الميل والجور فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً- 128- فِي أمرهن من الإحسان والجور، ثُمّ قَالَ- عز وجل-: [87 أ] . وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ فِي الحب: أن يستوي حبهن فِي قلوبكم «5» وَلَوْ حَرَصْتُمْ فلا تقدرون عَلَى ذَلِكَ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ إلى التي تحب وهي الشابة فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أى فتأتيها وتذر الأخرى
__________
(1) فى أ: ابنت، ل، بنت.
(2) ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي: 105، برواية البخاري عن محمد بن مقاتل عن ابن المبارك، ورواه مسلم عن كريب وأبى أسامة كلاهما عن هشام، كما ورد فى السيوطي: 81.
(3) فى أ: يصالحا.
(4) فى أ: مالها، ل: زوجها.
(5) فى أ: القلوب، ل: قلوبكم. [.....](1/412)
يعني الكبيرة كالمعلقة لا أيم وَلا ذات بعل وَلَكِن اعدلوا فِي القسمة «1» وَإِنْ تُصْلِحُوا أمرهن وَتَتَّقُوا الميل والجور فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً حين ملت إِلَى الشابة برضى الكبيرة رَحِيماً- 129- بك حين رخص لك فِي الصلح فَإِن أبت الكبيرة الصلح إِلَّا أن تسوي بينها وبين الشابة أَوْ تطلقها كان ذَلِكَ لها. ثُمّ إنَّه طلقها فنزلت وَإِنْ يَتَفَرَّقا يعني رافع وخويلة المرأة الكبيرة يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا يعني الزوج والكبيرة مِنْ سَعَتِهِ يعني من فضله الواسع وَكانَ اللَّهُ واسِعاً لهما فِي الرزق جميعًا حَكِيماً- 130- حين حكم فرقتهما وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الخلق عبيده وَفِي ملكه «وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ» «2» وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا عن عباده وخلقه حَمِيداً- 131- عِنْد خلقه فِي سلطانه وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا- 132- يعني شهيدا فلا شاهد أفضل من اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أن من فيهما عباده وَفِي ملكه ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ- إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ بالموت أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ يعني بخلق غيركم أطوع منكم وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً- 133- أن يذهبكم ويأت بغيركم إذا عصيتموه مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا بعمله فليعمل لآخرته فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا يعني الرزق فِي الدُّنْيَا وثواب وَالْآخِرَةِ يعني الجنة وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً- 134- بأعمالكم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ يعنى قوالين بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ يَقُولُ- سُبْحَانَهُ- أقيموا الشهادة للَّه بالعدل وَلَوْ كانت الشهادة عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ على الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ أَحَدهمَا غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما بالغني والفقير من غيره فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى
__________
(1) السطور السابقة مضطربة فى أ، ل فاضطررت لإصلاحها.
(2) ما بين القوسين « ... » ساقط من الأصل.(1/413)
فِي الشهادة والقرابة واتقوا أَنْ تَعْدِلُوا عن الحق إلى الهوى ثُمّ قَالَ:
وَإِنْ تَلْوُوا يعني التحريف بالشهادة: يلجلج بها لسانه فلا يقيمها ليبطل بها شهادته أَوْ تُعْرِضُوا عَنْهَا فلا تشهدوا بها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من كتمان الشهادة وإقامتها خَبِيراً- 135- نزلت فِي رجل كانت عنده شهادته عَلَى أَبِيهِ فأمره اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أن يقيمها لله «1» [87 ب]- عَزَّ وَجَلّ- وَلا يَقُولُ «2» إني إن شهدت عَلَيْه أجحفت بماله، وإن كان فقيرا هلك وازداد فقره، ويُقَالُ إنَّه أَبُو بكر الصِّدِّيق- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- الشاهد عَلَى أَبِيهِ أَبِي قحافة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نزلت فِي مؤمني أَهْل الكتاب كان بينهم وبَيْنَ اليهود كلام لَما أسلموا قَالُوا نؤمن بكتاب محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونكفر بما سواه فَقَالَ- تَعَالَى-: آمِنُوا بِاللَّهِ وصدقوا بتوحيد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَرَسُولِهِ أَيّ وصدقوا برسوله محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ يعني محمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ نزول كتاب محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمّ ذكر كفار أَهْل الكتاب فحذرهم الآخرة يعني البعث فَقَالَ اللَّه- تَعَالَى ذكره-: وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ يعني بتوحيد اللَّه وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يعني البعث الَّذِي فِيهِ جزاء الأعمال فَقَدْ ضَلَّ عن الهدى ضَلالًا بَعِيداً- 136- وبما أعد الله- عز وجل- من الثواب والعقاب. ثُمّ ذكر أَهْل الكتاب فَقَالَ:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بالتوراة وبموسى ثُمَّ كَفَرُوا من بعد مُوسَى ثُمَّ آمَنُوا بعيسى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالإنجيل ثُمَّ كَفَرُوا من بعده ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالقرآن لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ على ذلك
__________
(1) ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي: 106. كما ورد فى لباب النقول للسيوطي: 81.
(2) فى أ: لا يقول، ل: ولا يقول.(1/414)
وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا- 137- إلى الهدى منهم عمرو بن زَيْد وأوس بن قَيْس، وقيس بن زَيْد.
ولما نزلت المغفرة للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وللمؤمنين فى سورة الفتح قَالَ عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ ونفر معه، فَمَا لنا؟ فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ يعني عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ، ومالك بن دخشم، وجد بن قَيْس بِأَنَّ لَهُمْ فِي الآخرة عَذاباً أَلِيماً- 138- يعني وجيعا، ثم نعتهم فقال:
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ من اليهود أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ. وذلك أن المنافقين قَالُوا لا يتم أمر محمد، فتابعوا اليهود وتولوهم فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-:
أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ يعني المنعة، وذلك أن اليهود أعانوا مشركي العرب عَلَى قتال النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليتعززوا «1» بِذَلِك فَقَالَ- سُبْحَانَهُ- «أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ» يَقُولُ أيبتغي المنافقون عِنْد اليهود المنعة فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً- 139- يَقُولُ جميع من يتعزز فَإِنَّمَا هُوَ بإذن الله وكان المنافقون يستهزءون بالقرآن فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بالمدينة وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ يعنى فى سورة الأنعام بمكة «2» أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ يقول حتى يكون حديثهم يعنى المنافقين [88 أ] فِي غَيْر ذكر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فنهى اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عن مجالسة كفار مكة ومنافقي المدينة عِنْد الاستهزاء بالقرآن ثُمّ خوفهم: إن جالستموهم ورضيتم باستهزائهم إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ فى الكفر إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ يعني عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ، ومالك بن دخشم،
__________
(1) فى أ: فتعززوا.
(2) يشير للآية 68 من سورة الأنعام وهي: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.(1/415)
وجد بن قَيْس من أَهْل المدينة وَالْكافِرِينَ من أهل مكة فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً- 140- ثُمّ أخبر- سُبْحَانَهُ- عن المنافقين فَقَالَ- عَزَّ وجل-: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ الدوائر فَإِنْ كانَ لَكُمْ معشر المؤمنين فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ يعني النصر عَلَى العدو يوم بدر قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ عَلَى عدوكم فأعطونا من الغنيمة فلستم أحق بها، فذلك قوله- سُبْحَانَهُ- فِي العنكبوت وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ على عدوكم «1» وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ يعني دولة عَلَى الْمُؤْمِنِين يوم أحد قالُوا أى المنافقون للكفار أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ يعني ألم نحط بكم من ورائكم وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ونجادل الْمُؤْمِنِين عنكم فنحبسهم عنكم ونخبرهم أَنَّا معكم، قَالُوا ذَلِكَ جبنا وفرقا منهم. قَالَ اللَّه- تَعَالَى-: فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا- 141- يعني حجة أبدا نزلت فِي عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ وأصحابه إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ
حين أظهروا الْإِيمَان وأسروا التكذيب «2» وَهُوَ خادعهم عَلَى الصراط فِي الآخرة حين يُقَالُ لهم:
ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً «3» فبقوا فِي الظلمة فهذه خدعة اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لهم فِي الآخرة ثُمّ أخبر عن المنافقين فَقَالَ- سُبْحَانَهُ- وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى
يعني المنافقين متثاقلين لا يروا أنها حق «4» عليهم نظيرها فى براءة «5» .
__________
(1) سورة العنكبوت: 10.
(2) فى أ: وأسروا الكفر التكذيب، ل: التكذيب.
(3) سورة الحديد: 13.
(4) فى أ: حقا.
(5) عله يشير إلى الآيات 75، 76، 77 من سورة التوبة وهي فى بعض المنافقين الذين منعوا الزكاة وجحدوا وجوبها عليهم. قال- تعالى-: وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ. فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ. فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ فالمنافق لا يرى أن الصلاة حق عليه ولا يعتقد أن الزكاة واجبة عليه.(1/416)
يُراؤُنَ النَّاسَ
بالقيام بالنهار وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
يعني فِي الصَّلاة إِلَّا قَلِيلًا
- 142- يعني بالقليل، الرياء وَلا يصلون فِي السر مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ يَقُولُ إن المنافقين ليسوا مَعَ اليهود فيظهرون ولايتهم وَلا مَعَ الْمُؤْمِنِين فِي الولاية لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ عن الهدى فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا- 143- إليه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يرغبهم، نزلت فِي المنافقين منهم عَبْد اللَّه ابن أُبَيٍّ، ومالك بن دخشم وذلك أن مواليهما من اليهود: أصبع ورافع عيروهما «1» بالإسلام وزينوا لهما ترك دينهما وتوليهما اليهود فصانعا اليهود. فَقَالَ اللَّه:
لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ من اليهود أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً [88 ب]- 144- يعني حجة بينة يحتج بها عليكم «2» حين توليتم اليهود ونصحتموهم إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ يعنى الهاوية وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً- 145- يعني مانعا من العذاب ولما أخبر بمستقر المنافقين قَالَ ناس للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فقد كان فُلان وفلان منافقين فتابوا منه، فكيف يفعل اللَّه بهم؟ «3» فأنزل اللَّه- جل ذكره- إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من المنافقين وَأَصْلَحُوا العمل وَاعْتَصَمُوا يعني احترزوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ الإسلام بِاللَّهِ- عَزَّ وَجَلّ- وَلَم يخلطوا بشرك فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الولاية وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً- 146- يعني جزاء وافرا مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ نعمته وَآمَنْتُمْ يعني صدقتم فَإنَّهُ لا يعذب شاكرا وَلا مؤمنا وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً- 147- بهم لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ لأحد من الناس إِلَّا مَنْ ظُلِمَ يعني اعتدى عَلَيْه فينتصر من القول مثل ما ظلم
__________
(1) فى أ: عيروهم.
(2) فى أ: عليه.
(3) فى أ: فكيف الله فيهم. ل: فكيف يفعل الله بهم. [.....](1/417)
وَلا حرج عَلَيْه أن ينتصر بمثل مقالته
نزلت فِي أَبِي بَكْر- «1» رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- شتمه رَجُل والنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جالس فسكت عَنْهُ مرارا ثُمّ رد عَلَيْه أَبُو بَكْر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- فقام النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْد ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو بكر- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ-: يا رَسُول الله، شتمني وأنا ساكت، فلم تقل لَهُ شيئًا حَتَّى إذا رددت عَلَيْه قمت. قَالَ: إن ملكا كان يجيب عنك، فَلَمَّا أن رددت عَلَيْه ذهب الملك وجاء الشَّيْطَان، فلم أكن لأجلس عِنْد مجيء الشَّيْطَان
وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بجهر السوء عَلِيماً- 148- به ثُمّ أخبر أن العفو والتجاوز خير عِنْد اللَّه من الانتصار فقال- سبحانه-: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً يعني تعلنوه أَوْ تُخْفُوهُ يعني تسروه أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فعل بك فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً- 149- يَقُولُ فَإِن اللَّه أقدر عَلَى عفو ذنوبك منك عَلَى العفو عن صاحبك «2» .
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ يعني اليهود منهم عامر بن مَخْلَد، ويزيد ابن زَيْد كفروا بعيسى وبمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ الرسل يعني مُوسَى وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ الرسل يعني عِيسَى ومحمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا- 150- يعنى دينا يعنى إيمانا ببعض الرسل وكفرا ببعض الرسل أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا حين كفروا ببعض الرسل لا ينفعهم إيمان ببعض وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ فِي الآخرة عَذاباً مُهِيناً- 151- يعنى الهوان ثُمّ ذكر الْمُؤْمِنِين فَقَالَ- سُبْحَانَهُ- وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ يعني بين الرسل وصدقوا بالرسل جميعًا أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ [89 أ] يعني جزاء أعمالهم وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً
__________
(1) أورد السيوطي فى لباب النقول: 81، سببا آخر غير الذي ذكره مقاتل.
(2) فى أ: على عفو صاحبك.(1/418)
- 152- يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ نزلت فِي اليهود وذلك أن كَعْب بن الأشرف، وفنحاص اليهودي قَالُوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن كُنْت صادقا بأنك رسول فأتنا بكتاب غَيْر هَذَا، مكتوب فِي السماء جملة واحدة كَمَا جاء به مُوسَى، فذلك قوله: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ ... إلى قوله- سُبْحَانَهُ «1» -: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً يعني معاينة «2» فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ يعني الموت بِظُلْمِهِمْ لقولهم أرنا اللَّه جهرة: معاينة ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ يعنى الآيات التسع فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ فلم نستأصلهم جميعًا عقوبة باتخاذهم العجل وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً- 153- يعني حجة بينة يعني اليد والعصى وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ يعني الجبل فوق رءوسهم رفعه جبريل- عَلَيْه السَّلام- وكانوا فِي أصل الجبل فرفع الطور فوق رءوسهم بِمِيثاقِهِمْ لأن يقروا بما فِي التوراة وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً يعني باب حطة وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ أَيّ لا تعدوا فِي أَخَذَ الحيتان يوم السبت وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً- 154- يعني شديدا والميثاق إقرارهم بما عهد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي التوراة فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ يعني فبنقضهم إقرارهم بما فِي التوراة وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ يعني الإنجيل والقرآن وهم اليهود وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ وذلك حين سمعوا من النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ عرفوا أن الَّذِي قال لهم النبي- صلى الله عليه وسلم- حق وقالوا قُلُوبُنا غُلْفٌ يعني فِي أكنة عَلَيْهَا الغطاء فلا تَفْقَه وَلا تفهم ما تَقُولُ يا محمد، كراهية ما سمعوا من
__________
(1) هكذا فى أ، وفى ل: إلى ما بعد ذلك من قوله سبحانه: (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى..) إلخ.
(2) فى أزيادة: وهم السبعون.(1/419)
النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من كفرهم بالإنجيل والفرقان يَقُولُ اللَّه- تَعَالَى-:
بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ يعني ختم عَلَى قلوبهم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا- 155- يَقُولُ ما أقل ما يؤمنون فإنهم لا يؤمنون البتة وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً- 156- وذلك أن اليهود قذفوا مريم- عَلَيْهَا السَّلام- بيوسف بن ماثان بالزنا وكان ابْن عمها وكان قَدْ خطبها، ومريم ابنة عِمْرَانَ بن ماثان وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ وَلَم يقولوا رَسُول اللَّه وَلَكِن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- قَالَ:
رَسُولَ اللَّهِ ثُمّ قَالَ- تَعَالَى-: وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ بصاحبهم الذي قتلوه [89 ب] . وكان اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- قَدْ جعله «1» عَلَى صورة عِيسَى فقتلوه، وكان المقتول لطم عِيسَى، وقَالَ لعيسى حين لطمه: أتكذب عَلَى اللَّه حين تزعم أنك رسوله. فَلَمَّا أخذه «2» اليهود ليقتلوه قَالَ لليهود: لست بعيسى أنا فُلان، واسمه يهوذا فكذبوه، وقالوا لَهُ: أَنْت عِيسَى، وكانت اليهود جعلت المقتول رقيبا عَلَى عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فألقى اللَّه- تَعَالَى ذكره- شبهه عَلَى الرقيب فقتلوه، ثُمّ قَالَ سبحانه: وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني فِي عِيسَى وهم النَّصارى، فَقَالَ بعضهم قتله اليهود، وقَالَ بعضهم لَمْ يقتل لَفِي شَكٍّ مِنْهُ فِي شك من قتله مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً- 157- يَقُولُ وما قتلوا ظنهم يقينا «3» يَقُولُ لَمْ يستيقنوا قتله كقول الرَّجُل قتلته علما «4» ، فأكذب الله- عز وجل-
__________
(1) فى أ: وكان قد جعله الله- عز وجل. فى ل: وكان الله- عز وجل- قد جعله.
(2) فى أ، ل: أخذوه.
(3) فى أ: وما قتلوه ما ظنهم يقينا، فى ل: وما قتلوا ظنهم يقينا.
(4) فى حاشية أما يأتى: فى الكشاف والقرطبي وغيرهما فى أحد الأوجه: وما قتلوه يعنى العلم.(1/420)
اليهود في قتل عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ- عَزَّ وَجَلّ- بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ إلى السماء حيا فِي شهر رمضان فِي ليلة القدر «وَهُوَ ابْن ثلاث وثلاثين سنة رفع إلى السماء من جبل بيت المَقْدِس» «1» فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً- 158- يعني عزيزا منيعا حين منع عِيسَى من القتل، حكيما حين حكم رفعه. قَالَ وترك عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد رفعه خفين ومدرعة وحذافة يحذف بها الطير. وقالت عَائِشَة- رَضِيَ اللَّه عَنْهَا-:
وترك رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد موته إزارا غليظا وكساء ووسادة أدم حشوها ليف وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ يعني وما من أَهْل الكتاب يعني اليهود إِلَّا ليؤمنن بِهِ يعني بعيسى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ مَوْتِهِ أَنَّهُ نَبِيّ رسول قبل موت اليهودي يعني عِنْد موته لأن الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم وتقول: يا عدو اللَّه إن المسيح الَّذِي كذبتم به هُوَ عَبْد اللَّه ورسوله حقا، فيؤمن به وَلا ينفعه، ويؤمن به من كان منهم حيا إذا نزل عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فينزل عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى ثنية يُقَالُ لها أفيق «2» دهين الرأس عَلَيْه ممصرتان ومعه حربة يقتل بها الدجال. فَقِيل لِابْن عَبَّاس- رحِمَه اللَّه-: فَمنْ غرق من اليهود أَوْ أحرق بالنار أَوْ أكله السبع. قَالَ: لا تخرج روحه حَتَّى يؤمن بعيسى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمّ قَالَ- تَعَالَى-: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً- 159- أنه قد بلغهم الرسالة. قوله- سبحانه-: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا يعني اليهود حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ يعني فِي الأنعام: يعني اللحوم والشحوم وكل ذِي ظفر لهم حلال فحرمها اللَّه- عَزَّ وجل- عليهم بعد موسى.
__________
(1) فى ل: فصعد به الملك إلى السماء وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة إلى السماء الدنيا من جبل بيت المقدس. والمثبت من أ.
(2) فى أ: فتق، ل: أفيق.(1/421)
وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً- 160- فيها إضمار يقول [90 أ] وبصدهم عن سبيل الله كثيرا يعني دين الْإِسْلام وعن محمد- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَهُوَ محرم بغير حق وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ يعني اليهود عَذاباً أَلِيماً- 161- يعني وجيعا فهذا الظلم الَّذِي ذكره فِي هَذِهِ الآية. ثُمّ ذكر مؤمني أَهْل التوراة، فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-:
لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وذلك أن عَبْد اللَّه بن سلام وأصحابه قالوا للنبي- صلى الله عليه وسلم-: إن اليهود لتعلم أن الَّذِي جئت به حق، وإنك لمكتوب عندهم فِي التوراة. فقالت اليهود: لَيْسَ كَمَا تقولون: وإنهم لا يعلمون شيئًا وإنهم ليغرونك ويحدثونك بالباطل «1» .
فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وجل-: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ يعني المتدارسين علم التوراة يعني ابْن سلام وأصحابه «مِنْهُمْ» يعني من اليهود وَالْمُؤْمِنُونَ يعني أصحاب محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من غَيْر أَهْل الكتاب يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتاب عَلَى الْأَنْبِيَاء: التوراة والإنجيل. ثُمّ نعتهم فَقَالَ- سبحانه- وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ يعني المعطون الزكاة وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنَّهُ واحد لا شريك لَهُ والبعث الَّذِي فيه جزاء الأعمال أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً يعنى جزاء عَظِيماً- 162- إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وذلك أن عَدِيّ بن زَيْد وصاحبيه اليهود قَالُوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واللَّه ما أوحى اللَّه إليك، وَلا إلى أحد من بعد موسى فكذبهم الله
__________
(1) أسلوب العبارة ركيك ومضمونها: أن اليهود كذبت عبد الله بن سلام وأصحابه وأخبرت النبي أنهم جهلة لا يعلمون شيئا وأنهم يغرون النبي ويحدثونه بالباطل.(1/422)
- عَزَّ وَجَلّ- فَقَالَ: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ «1» كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ يعني من بعد نوح هود وصالح وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ يعني بني يَعْقُوب يُوسُف وإخوته وأوحينا إليهم فِي صحف إِبْرَاهِيم ثُمّ قَالَ وَأوحينا إلى عِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً- 163- لَيْسَ فِيهِ حد وَلا حكم وَلا فريضة ولا حلال ولا حرام خمسين ومائة سورة فَأَخْبَرَه اللَّه بهن ليعلموا أنه نَبِيّ فقالت اليهود: ذكر محمد النبيين وَلَم يبين لنا أمر مُوسَى أكلمه اللَّه أم لَمْ «2» يكلمه؟ فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي قول اليهود وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ هَؤُلاءِ بمكة فِي الأنعام «3» وَفِي غيرها لأن هَذِهِ مدنية وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً- 164- يعني مشافهة وَهُوَ ابن أربعين سنة ليلة النار ومرة أخرى حين أعطي التوراة رُسُلًا مُبَشِّرِينَ بالجنة وَمُنْذِرِينَ من النار [90 ب] لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فيقولوا «4» : يوم الْقِيَامَة لَمْ يَأتِنا لك رسول وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً- 165- حكم إرسال الْأَنْبِيَاء إلى الناس
فَقَالَ لهم النبي- صلى الله عليه وسلم-: إنكم لتعلمون حق ما أقول، وإنه لفي التوراة فَإِن تتوبوا وترجعوا «5» يغفر لَكُمْ ذنوبكم. قَالُوا: لو كان ما تقول فى التوراة لتابعناك. فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: واللَّه إنكم لتشهدون بما أقول.
قَالُوا: ما عندنا بِذَلِك شهادة قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فَإِن لم يشهد لك أحد منهم
__________
(1) ورد ذلك فى كتاب لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطي: 82. ولم يرد فى أسباب النزول للواحدي.
(2) فى أ: أو.
(3) يشير إلى الآيات (83- 87) من سورة الأنعام وبدايتها وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ.. الآيات. [.....]
(4) فى أ: فيقولون.
(5) فى أ: وتراجعوا.(1/423)
فَإِن اللَّه وملائكته يشهدون بِذَلِك «1» فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ- لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ من القرآن أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ بذلك وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً- 166- يَقُولُ فلا شاهد أفضل من اللَّه بأنه أنزل عليك القرآن «ثُمّ قَالَ يعنيهم» «2» إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني اليهود كفروا بمحمد والقرآن وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني عن دين الْإِسْلام قَدْ ضَلُّوا عن الهدى ضَلالًا بَعِيداً- 167- يعني طويلا ثُمّ قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني اليهود كفروا بمحمد والقرآن وَظَلَمُوا يعني وأشركوا بِاللَّه لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً- 168- إلى الهدى ثُمّ استثنى إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها يعني طريق الكفر، فهو يقود إلى جَهَنَّم خالدين فيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً
- 169- يعنى عذابهم على الله هينا يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ يعنى محمدا بِالْحَقِّ يعنى بالقرآن مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ يعني صدقوا بالقرآن فهو خير لَكُمْ من الكفر وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الخلق وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً- 170- يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني النَّصارى لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ يعني الْإِسْلام فالغلو فِي الدّين أن تقولوا عَلَى اللَّه غَيْر الحق فِي أمر عِيسَى ابْن مريم- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وليس للَّه- تبارك وتعالى- ولدا وَكَلِمَتُهُ يعني بالكلمة قَالَ كن فكان أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ يعني بالروح أَنَّهُ كان من غَيْر بشر نزلت فِي نصارى نجران فِي السيد والعاقب ومن معهما ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: فَآمِنُوا يعني صدقوا بِاللَّهِ- عَزَّ وَجَلّ- بأنه واحد لا شريك لَهُ وَرُسُلِهِ يعني محمدا- صَلَّى اللَّهُ عليه
__________
(1) ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي: 106. كما ورد فى لباب النقول للسيوطي: 82.
(2) هذه من ل. وليست فى أ.(1/424)
وَسَلَّمَ- بأنه نَبِيّ ورسول وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يعني لا تقولوا إن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ثالث ثلاثة انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ يعني عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ من الخلق عبيده وَفِي ملكه عِيسَى وغيره وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا- 171- يعنى شهيدا بذلك ثم قال- عز وجل-: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
يعنى لن يأنف نْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا
[91 أ] يستنكفْ مَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
أن يكونوا عَبِيدا للَّه ليعتبروا بكون الملائكة «1» أقرب إلى- اللَّه عَزَّ وَجَلّ- منزلة من عِيسَى ابْن مريم «2» وغيره فَإِن عِيسَى عَبْد من عباده ثُمّ أوعد النَّصارى فَقَالَ: مَنْ يَسْتَنْكِفْ
يعنى ومن يأنف نْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ
يعني ومن يأنف عن عبادة اللَّه يعني التوحيد ويستكبر يعنى ويتكبر عن العبادةسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً
- 172- فلم يستنكف ويستكبر غير إبليس وأخبر الْمُؤْمِنِين بمنزلتهم فِي الآخرة ومنزلة المستنكفين فَقَالَ: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ يعني فيوفي لهم جزاءهم وَيَزِيدُهُمْ عَلَى أعمالهم مِنْ فَضْلِهِ الجنة.
وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا يعنى أنفوا وَاسْتَكْبَرُوا عن عبادة اللَّه بالتوحيد «3» فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني وجيعًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يعني قريبا ينفعهم وَلا نَصِيراً- 173- يعني مانعا يمنعهم من الله- عز وجل- يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني بيان وَهُوَ القرآن وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً- 174- يعني ضياء بينا من العمى وَهُوَ القرآن فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ
__________
(1) فى أ: أن يكون الملائكة، ل: أن الملائكة.
(2) فى أ: زيادة «صلى الله عليه وسلم» ، ل: ليس فيها هذه الزيادة.
(3) فى أ: التوحيد.(1/425)
يعني صدقوا بِاللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بأنه واحد لا شريك لَهُ وَاعْتَصَمُوا بِهِ يعني احترزوا به يعني بالله- عز وجل- فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ يعني الجنة وَفَضْلٍ يعني الرزق فِي الجنة وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً- 175- يَسْتَفْتُونَكَ نزلت فِي جَابِر بن عَبْد اللَّه الأنصاري من بني سلمة بن جشم بن سعد ابن عَلِيّ بن شاردة «1» بن يَزِيد بن جشم بن الخزرج وَفِي أخواته قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ يعني به الميت الَّذِي يموت وليس لَهُ وَلَد وَلا والد فهو الكلالة، وذلك أن جَابِر بن عَبْد اللَّه الْأَنْصَارِيّ- رحِمَه اللَّه- مرض بالمدينة فعاده رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يا رَسُول اللَّهِ، إني كلالة لا أب لي وَلا وَلَد فكيف أصنع فِي مالي فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ يعني مات لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ الميت من الميراث وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ إذا ماتت قبله فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ يعني أختين فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالًا وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا يَقُولُ لئلا تخطئوا قسمة المواريث وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ من قسمة المواريث عَلِيمٌ- 176- نظيرها فِي الأنفال.
__________
(1) فى أ: ساردة.(1/426)
سورة المائدة(1/427)
[سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 120]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)
يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ مَا يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يَا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49)
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54)
إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59)
قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كانُوا يَفْعَلُونَ (79)
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84)
فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99)
قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)
إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)
قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)(1/429)
بسم الله الرحمن الرحيم سورة المائدة مدنية، نهارية كلها، عشرون ومائة آية كوفية إِلَّا قوله تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ الآية «1» فإنها نزلت بعرفة.
__________
(1) وتمام الآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ سورة المائدة: 3.
أ- تاريخ نزول سورة المائدة:
نزلت سورة المائدة بعد سورة الفتح، وكان نزول سورة الفتح بعد صلح الحديبية فى السنة السادسة من الهجرة. فيكون نزول سورة المائدة فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك. وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم لأنه ذكر فيها حديث المائدة التي أنزلت من السماء على حواريي عيسى- عليه السلام.
ب- الغرض منها:
نزلت سورة المائدة بعد صلح الحديبية. فاستهلت بالأمر بوفاء العقود ثم بيان ما أحله الله- تعالى- من البهائم، وذكر تحريم المحرمات، وبيان إكمال الدين، وذكر الصيد، والجوارح وحل طعام الكتاب، وجواز نكاح المحصنات منهن. وتفصيل الغسل والطهارة والصلاة وحكم الشهادات والبينات وخيانة أهل الكتاب القرآن، ومن أنزل عليه، وذكر المنكرات من مقالات النصارى، وقصة بنى إسرائيل مع العمالقة، وحبس الله- تعالى- إياهم فى التيه بدعاء بلعام، وحديث قتل قابيل أخاه هابيل، وحكم قطاع الطريق وحكم السرقة، وحد السراق، وذم أهل الكتاب، وبيان نفاقهم وتجسسهم وبيان الحكم بينهم، وبيان القصاص فى الجراحات، وغيرها، والنهى عن موالاة اليهود والنصارى، والرد على أهل الردة، وفضل الجهاد، وإثبات ولاية الله ورسوله للمؤمنين، وذم اليهود فى قبائح أقوالهم.
وذم النصارى بفاسد اعتقادهم، وبيان كمال عداوة الطائفتين للمسلمين، ومدح أهل الكتاب الذين قدموا من الحبشة وحكم اليمين، وكفارتها، وتحريم الخمر، وتحريم الصيد على المحرم، والنهى عن الأسئلة الفاسدة. وحكم شهادات أهل الكتاب وفصل الخصومات، ومحاورة الأمم رسلهم فى القيامة، وذكر معجزات عيسى ونزول المائدة، وسؤال الحق- تعالى- إياه فى القيامة تقريعا للنصارى، وبيان نفع الصدق يوم القيامة للصادقين.
انظر: «بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي، تحقيق النجار: 178» .(1/447)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قال مقاتل: قوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يعني بالعهود التي بينكم وبَيْنَ المشركين أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ يعني أحل لَكُمْ أكل لحوم الأنعام الإبل والبقر والغنم والصيد كله إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ يعني غَيْر ما نهى اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عن أكله مما حرم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- من الميتة والدم ولحم الخنزير والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، ثُمّ قَالَ: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ يَقُولُ من غَيْر أن تستحلوا الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يَقُولُ إذا كُنْت محرما بحج أو عُمْرَة فالصيد عليك حرام كله غَيْر صيد البحر فَإنَّهُ حلال لك إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ- 1- فحكم أن جعل ما شاء من الحلال حراما، وَجَعَل ما شاء مما حرم فِي الإحرام من الصيد حلالا قال- تعالى- ذكره: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ يعنى مناسك الحج والعمرة. وذلك أن الخمس قريشا وخزاعة وكنانة وعامر بن صَعْصَعَة كانوا يستحلون أن يغير بعضهم عَلَى بعض فِي الأشهر الحرم وغيرها وكانوا لا يسعون بين الصفا والمروة وكانوا لا يرون الوقوف بعرفات من شعائر اللَّه. فَلَمَّا أسلموا أخبرهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بأنها من شعائر اللَّه، فَقَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ «1» وأمر- سبحانه- أن يسعى بينهما وأنزل «2» الله- عز وجل- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ يَقُولُ لا تستحلوا القتل فِي الشهر الحرام وذلك أن أبا ثمامة جنادة بن عَوْف بن أميَّة من بني كنانة كان يقوم كُلّ سنة فِي سوق عكاظ، فيقول: ألا إني قَدْ أحللت المحرم وحرمت صفرا وأحللت كذا وحرمت كذا ما شاء. وكانت العرب
__________
(1) سورة البقرة: 158.
(2) فى أ: فأنزل.(1/448)
تأخذ به فأنزل اللَّه- تَعَالَى- «إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا» يعني جنادة بن عَوْف «يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ» يعني خلافا عَلَى اللَّه جلَّ اسمه- وعلى ما حرم فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ «1» من الأشهر الحرم. ثُمّ رجع إلى الآية الأولى فِي التقديم فَقَالَ تَعَالَى: «وَلَا الْقَلائِدَ» كفعل أَهْل الْجَاهِلِيَّة وذلك أنهم كانوا يصيبون من الطريق قَالَ: وكان فِي الْجَاهِلِيَّة من «2» أراد الحج من غَيْر أَهْل الحرم يقلد نفسه من الشعر والوبر فيأمن به إلى مكة، وإن كان من أَهْل الحرم قلد نفسه وبعيره من لحيا شجر الحرم فيأمن به حيث يذهب فهذا فِي غَيْر أشهر الحرم فإذا كان أشهر الحرم [92 أ] لَمْ يقلدوا أنفسهم وَلا أباعرهم وهم يأمنون حيث ما ذهبوا قَالَ- عَزَّ وَجَلّ- وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يعني متوجهين نحو البيت، نزلت فِي الخطيم «3» يَقُولُ لا تتعرضوا «4» لِحُجَّاج بيت اللَّه يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ يعني الرزق فِي التجارة فِي مواسم الحج وَرِضْواناً يعني رضوان اللَّه بحجهم فلا يرضى اللَّه عَنْهُمْ حَتَّى يسلموا فنسخت آية السيف هَذِهِ الآية كلها «5» ، قوله- سُبْحَانَهُ- وَإِذا حَلَلْتُمْ من الإحرام فَاصْطادُوا يَقُولُ إذا حللتم من إحرامكم فاصطادوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ يَقُولُ وَلا يحملنكم عداوة المشركين من أَهْل مكة أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعنى منعوكم من «6»
__________
(1) سورة التوبة: 37.
(2) فى أ: إذا، ل: من.
(3) فى أ: الخطيم، ل: الحطيم. وفى أسباب النزول للواحدي: 107. نزلت فى الخطيم واسمه شريح بن ضبيع الكندي. [.....]
(4) فى أ: تعرضوا.
(5) وكم نسخوا بآية السيف هذه؟، والواقع أنه لا نسخ هنا ولا تعارض.
(6) فى أ: عن.(1/449)
دخول البيت الحرام أن تطوفوا «1» به عام الحديبية. أَنْ تَعْتَدُوا يعني أن ترتكبوا «2» معاصيه فتستحلوا أَخَذَ الهدي والقلائد والقتل فِي الشهر الحرام من حجاج بكر ابن وائل من أَهْل اليمامة، نزلت فِي الخطيم واسمه شريح بن ضبيعة بن شرحبيل ابن عُمَر بن جرثوم البكري من بني قَيْس بن ثَعْلَبَة وَفِي حُجّاج المشركين وذلك
أن شُرَيْح بن ضبيعة جاء إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: يا محمد، اعرض عَلَيّ دينك. فعرض عَلَيْه وأخبره بما لَهُ وبما عَلَيْه، فَقَالَ لَهُ شُرَيْح: إن فِي دينك هَذَا غلظا، فأرجع إلى قومي فأعرض عليهم ما قُلْتُ فَإِن قبلوه كُنْت معهم، وإن لَمْ يقبلوه كُنْت معهم. فخرج من عِنْد النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لقَدْ دخل بقلب كافر وخرج بوجه غادر وما أرى الرجل بمسلم. ثم مر على سرح المدينة فاستاقها فطلبوه فسبقهم إلى المدينة وأنشأ يَقُولُ:
قَدْ لفها الليل بسواق حطم لَيْسَ براعي إبل وَلا غَنْم وَلا بجزار عَلَى ظهر وضم خدلج الساق وَلا رعش القدم
قال أبو محمد «عبد الله بن ثابت: سَمِعْتُ أبي يَقُولُ: قَالَ أَبُو صَالِح» «3» :
قتله رجل من قومه عَلَى الكفر وقدم الرَّجُل الَّذِي قتله مسلما «4» . فَلَمَّا سار رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- معتمرا عام الحديبية فِي العام الَّذِي صده المشركون جاء شُرَيْح إلى مكة معتمرا معه تجارة عظيمة فِي حجاج بَكْر بن وائل فَلَمَّا سَمِع أصحاب رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقدوم شُرَيْح وأصحابه وعرفوا بنبئهم فأراد
__________
(1) فى أ: يطوفوا.
(2) فى الأصل: تركبوا.
(3) ما بين الأقواس « ... » مختصر فى أ، ومثبت فى ل.
(4) كان ذلك فى آخر حياته.(1/450)
أَهْل السرح أن يغيروا عَلَيْه كَمَا أغار عليهم من قبل شُرَيْح وأصحابه فقالوا: نستأمر النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاستأمروه فنزلت الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ يعني أمر المناسك وَلا تستحلوا فِي الشهر الحرام أخذ الهدى [92 ب] وَلا القلائد يَقُولُ وَلا تخيفوا من قلد بعيره وَلا تستحلوا القتل آمِّين البيت الحرام يعني متوجهين قبل البيت الحرام من حُجّاج المشركين يعنى شريح ابن ضبيعة وأصحابه يبتغون بتجاراتهم فضلا من اللَّه يعني الرزق والتجارة ورضوانه بحجهم، فنهى اللَّه- عز وجل- نبيه- صلى الله عليه وسلم- عن قتالهم ثُمّ لَمْ يرض منهم حَتَّى يسلموا فنسخت هَذِهِ الآية آية السيف «1» ، فَقَالَ- عز وجل- فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «2» ثُمّ قَالَ- تَعَالَى- «وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» «3» - 2- قوله- سبحانه-: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ يعني أكل الميتة وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ يعني الَّذِي ذبح لأصنام المشركين ولغيرهم هَذَا حرام البتة إن أدركت ذكاته أَوْ لَمْ تدرك ذكاته فَإنَّهُ حرام البتة لأنهم جعلوه لغير اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-. ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ- وَالْمُنْخَنِقَةُ يعني وحرم المنخنقة:
الشاة والإبل والبقر التي تنخنق أَوْ غيره حَتَّى تموت وَالْمَوْقُوذَةُ يعني التي تضرب بالخشب حَتَّى تموت وَالْمُتَرَدِّيَةُ يعني التي تردى من الجبل فتقع منه أَوْ تقع فِي بئر فتموت وَالنَّطِيحَةُ يعني الشاة تنطح صاحبتها فتموت وَما أَكَلَ السَّبُعُ من الأنعام والصيد يعني فريسة السبع ثُمّ استثنى فقال- سبحانه-:
__________
(1) أى أن آية السيف هي الناسخة وهذه الآية منسوخة.
(2) سورة التوبة: 5.
(3) ما بين الأقواس « ... » ساقط من أ، ل.(1/451)
إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ يعني إِلَّا ما أدركتم ذكاته من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع فما أدركتم ذكاته من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع مِما «1» أدركتم ذكاته يعني «بطرف أو بعرق يضرب أو بذنب» «2» بتحرك «ويذكي فهو» «3» حلال وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ يعني وحرم ما ذبح عَلَى النصب وهي الحجارة التي كانوا ينصبونها فِي الْجَاهِلِيَّة فيعبدونها فهو حرام البتة وكان «4» خزان الكعبة يذبحون لها وإن شاءوا بدلوا تِلْكَ الحجارة بحجارة أخرى وألقوا الأولى ثُمّ قَالَ- تَعَالَى ذكره-: وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ يعنى وأن تستقسموا الأمور بالأزلام والأزلام قد حان فِي بيت أصنامهم، فإذا أرادوا أن يركبوا أمرا أتوا بيت أصنامهم فضربوا بالقدحين، فَمَا خرج من شيء عملوا به، وكان كتب على أحدهما أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني ربي، فإذا أرادوا سفرا أتوا ذَلِكَ البيت فغطوا عَلَيْه ثوبا ثُمّ يضربون بالقدحين فَإِن خرج السهم الَّذِي فِيهِ أمرني ربي خرج فِي سفره، وإن خرج السهم الَّذِي فِيهِ نهاني ربي لَمْ يسافر فهذه الأزلام ذلِكُمْ فِسْقٌ يعني معصية حراما الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ يعني لا تخشوا الكفار وَاخْشَوْنِ فِي ترك أمري، ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يعنى يوم عرفة فلم ينزل بعدها حلال وَلا حرام وَلا حكم [93 أ] وَلا حد وَلا فريضة غَيْر آيتين من آخر سورة النساء:
يَسْتَفْتُونَكَ ... «5» . الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يعنى شرائع دينكم: أمر
__________
(1) فى أ: فما، ل: مما.
(2) فى أ: يطرق يعرق يضرب بذنب، والمثبت من ل.
(3) فى أ: فتذكى فهو، ل: ويذكى وهو.
(4) فى أ: وكانت. [.....]
(5) سورة النساء الآية: 176 وهي آية واحدة فى آخر السورة.(1/452)
الحلال والحرام وذلك أن اللَّه- جلَّ ذكره- كان فرض عَلَى الْمُؤْمِنِين شهادة أن لا إله إِلَّا اللَّه وأن محمدا رَسُول اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والإيمان بالبعث والجنة والنار والصلاة ركعتين غدوة وركعتين بالعشي شيئًا غَيْر مؤقت والكف عن القتال قبل أن يهاجر «1» النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفرضت الصلوات «2» الخمس ليلة «المعراج» «3» وَهُوَ بعد بمكة، والزكاة المفروضة بالمدينة، ورمضان والغسل من الجنابة، وحج البيت، وكل فريضة «4» فَلَمَّا حج حجة الوداع نزلت هَذِهِ الآية يوم عرفة فبركت ناقة النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لنزول الوحي بجمع «5» وعاش النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعدها إحدى وثمانين ليلة ثُمّ مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، وهي آخر آية نزلت فِي الحلال والحرام: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يعني شرائع دينكم: أمر حلالكم وحرامكم وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي يعني الْإِسْلام إذ «6» حججتم وليس معكم مشرك وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً يعني واخترت لَكُم الْإِسْلام دينا فَلَيْس دين أرضى عِنْد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- من الْإِسْلام قَالَ سُبْحَانَهُ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ «7» ثُمّ قَالَ:
- عَزَّ وَجَلّ- فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ يعني مجاعة وجهد شديد أصابه من الجوع غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ غَيْر متعمد لمعصية فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ- 3-
__________
(1) فى أ: فلما هاجر.
(2) فى الأصل: الصلاة.
(3) المعراج: ساقطة من أ، ومثبتة فى ل.
(4) المقصود أن الزكاة المفروضة فرضت بالمدينة، كما فرض بالمدينة صوم رمضان، والغسل من الجنابة، وحج البيت، وكل فريضة: فرضت بالمدينة.
(5) ضبطت فى كتب الفقه والحديث بجمع. انظر فقه السنة (صلاة الجمعة) .
(6) فى أ: إذا، ل: إذ.
(7) سورة آل عمران: 85.(1/453)
إذ رخص لَهُ فِي أكل الميتة ولحم الخنزير حين أصابه الجوع الشديد والجهد، وَهُوَ عَلَى غير المضطر حرام يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ من الصيد. وذلك أن زَيْد الخير وَهُوَ من بني المهلهل «1» وعدي بن حاتم الطائيان سألا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالا: يا رَسُول اللَّه، كِلاب آل درع وآل حورية «2» يصدن الظباء والبقر والحمر، فمنها ما تدرك ذكاته فيموت وَقَدْ حرم اللَّه- عَزَّ وجل- الميتة فماذا يحل لنا فنزلت يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ من الصيد [قُلْ «3» أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ يعني الحلال وذبح ما أحل اللَّه لهم من الصيد مما أدركت ذكاته، ثُمّ قَالَ: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ يعني الكلاب معلمين للصيد تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ يَقُولُ تؤدبوهن كَمَا أدبكم اللَّه فيعرفون الخير والشر، وكذا الكاتم أيضًا فأدبوا كلابكم فِي أمر الصيد فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ يَقُولُ فكلوا مما أمسكن يعني حبسن عليكم الكلاب المعلمة «4» وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ إذا أرسلتم بعد أن أمسك عليكم وَاتَّقُوا اللَّهَ فلا تستحلوا أكل الصيد من الميتة إِلَّا ما ذكي من صيد الكلب المعلم، ثُمّ خوفهم فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ «5» - 4- لمن يستحل أكل الميتة من الصيد إلا من اضطر، قوله: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ يعنى الحلال أى الذبائح من الصيد «6» ] .
__________
(1) فى ل: وهو ابن المهلهل.
(2) فى أ: ... كلاب آل ذريح، وآل أبى حذاقة. والمثبت مما ورد فى أسباب النزول للواحدي ص 109: وقد أورد ما فى تفسير مقاتل وعزاه إلى سعيد بن جبير.
(3) تفسير الآية 4 من ل.
(4) فى ل: زيادة وإن قتلن.
(5) فى ل: إن الله شديد العقاب.
(6) الآية 4 من سورة المائدة ساقطة من تفسيرا. ترك تفسير ما بعد الطيبات فى الآية 4 إلى الطيبات فى الآية 5. وذلك بسبب سبق النظر. فنقلت ذلك من ل. [.....](1/454)
وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ يعني بالطعام ذبائح الَّذِين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى: ذبائحهم ونسائهم حلال للمسلمين وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ يعني ذبائح الْمُسْلِمِين وذبائح نسائهم حلال لليهود والنصارى ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ يعنى وأحل لكم تزويج [93 ب] العفائف من المؤمنات وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني وأحل تزويج العفائف من حرائر نساء اليهود والنصارى نكاحهن حلال للمسلمين إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يعني إذا أعطيتموهن مهورهن مُحْصِنِينَ لفروجهن من الزنا غَيْرَ مُسافِحِينَ يعني غَيْر معلنات بالزنا علانية وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ يعني لا تتخذ الخليل فِي السر فيأتيها فَلَمَّا أحل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- نساء أَهْل الكتاب، قَالَ المسلمون: كيف تتزوجوهن وهن عَلَى غَيْر ديننا وقالت نساء أَهْل الكتاب:
ما أحل اللَّه تزويجنا للمسلمين إِلَّا وَقَدْ رضي أعمالنا فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ يعني من نساء أَهْل الكتاب بتوحيد اللَّه فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ- 5- يعنى من الكافرين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً يعني إن أصابتكم جنابة فَاطَّهَّرُوا يعني فاغتسلوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى نزلت فِي عَبْد الرَّحْمَن بن عَوْف- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- «1» أَوْ أصابكم جراحة أَوْ جدري أو كان بكم قروح وأنتم مقيمون فِي الأهل فخشيتم الضرر والهلاك فتيمموا الصعيد ضربة للوجه وضربة للكفين أَوْ إن كنتم عَلى سَفَرٍ.
نزلت فِي عَائِشَة- رَضِيَ اللَّه عَنْهَا- حين أسقطت قلادتها وهي مع النبي
__________
(1) قارن بالواحدى فى أسباب النزول، وبالسيوطى فى لباب النقول. حيث أوردا ما ذكره مقاتل هنا، وعلق السيوطي عليه.(1/455)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غزاة بني أنمار وهم حي من قَيْس عيلان أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ فى السفر أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ يعني جامعتم النّساء فِي السَّفَر فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ يعني من الصعيد ضربتين ضربة للوجه وضربه لليدين إلى الكرسوع وَلَم يؤمروا بمسح الرأس فِي التيمم «1» مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ يعني ضيق فِي أمر دينكم إذ رخص لكم فى التيمم وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ فِي أمر دينكم من الأحداث والجنابة وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ يعني إذ رخص لَكُمْ فِي التيمم: فِي السَّفَر والجراح فِي الحضر لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ- 6- رب هَذِهِ النعم فتوحدونه. فَلَمَّا نزلت الرخصة قَالَ أَبُو بَكْر الصِّدِّيق- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- لعائشة- رضوان اللَّه عليها-: والله ما علمتك إِلَّا مباركة. قوله- سُبْحَانَهُ- وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ يعني بالإسلام يوم أَخَذَ ميثاقكم عَلَى المعرفة بِاللَّه- عَزَّ وَجَلّ- والربوبية إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا ذلك أن الله- عز وجل-[94 أ] أَخَذَ الميثاق الأول عَلَى العباد حين خلقهم من صلب آدم- عَلَيْه السَّلام- فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا «2» عَلَى أنفسنا فَمنْ بلغ منهم العمل وأقر للَّه- عَزَّ وَجَلّ- بالإيمان به وبآياته وكتبه ورسله والكتاب والملائكة والجنة والنار والحلال والحرام والأمر والنهي أن يعمل بما أمر وينتهي عما نهى. فإذا أوفى الله: «تعالى بهذا» «3» أوفى الله له بالجنة.
__________
(1) فى أ: زيادة: منه.
(2) سورة الأعراف: 172 وتمامها ... أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ.
(3) ما بين القوسين « ... » ساقط من أ، ومثبت من ل.(1/456)
فهذان ميثاقان: ميثاق بالإيمان بِاللَّه وميثاق بالعمل. فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: فِي البقرة: سَمِعْنا وَأَطَعْنا «1» سمعنا بالقرآن الَّذِي جاء من عِنْد اللَّه وأطعنا اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِيهِ.
وذلك قوله- سُبْحَانَهُ- فِي التغابن: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا «2» يَقُولُ اسمعوا القرآن الَّذِي جاء به محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من عِنْد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وأطيعوا اللَّه فيما أمركم فَمنْ بلغ الحلم والعمل وَلَم يؤمن بِاللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَلا بالرسول والكتاب فقد نقض الميثاق الأول بالإيمان بِاللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وبما أَخَذَ اللَّه- تَعَالَى- عَلَيْه حين خلقه وصار من الكافرين.
ومن أَخَذَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عَلَيْه الميثاق الأول وَلَم يبلغ الحلم فَإنَّ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أَعْلَم به.
قَالَ: وسئل عَبْد اللَّه بن عَبَّاس عن أطفال المشركين فَقَالَ: لقَدْ أَخَذَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الميثاق الأول عليهم فلم يدركوا أجلا وَلَم يأخذوا رزقا ولم يعملوا سيئة وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «3» وماتوا عَلَى الميثاق الأول فالله أَعْلَم بهم.
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تنقضوا ذَلِكَ الميثاق إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ- 7- يعني بما فِي قلوبهم من الْإِيمَان والشك، قوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ يعني قوالين بالعدل شهداء للَّه وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ يَقُولُ لا تحملنكم عداوة المشركين يعني كفار مكة عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا عَلَى حُجّاج رَبِيعَة وتستحلوا منهم محرما اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ
__________
(1) سورة البقرة: 285.
(2) سورة التغابن: 16.
(3) سورة الإسراء: 15.(1/457)
فاعدلوا فَإِن العدل أقرب للتقوى يعني لخوف اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ- 8- يعظهم ويحذرهم. ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني وأدوا الفرائض لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَأَجْرٌ عَظِيمٌ- 9- يعني جزاء حسنا وَهُوَ الجنة وَالَّذِينَ كَفَرُوا من أَهْل مكة وَكَذَّبُوا بِآياتِنا يعني القرآن أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ- 10- يعنى ما عظم من النار قوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ... [94 ب] الآية نزلت هَذِهِ الآية
لأن رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان قَدْ بعث المنذر بن عمرو الأنصاري فِي أناس من أصحابه إلى بئر معوتة وَهُوَ ماء بني عامر فساروا حَتَّى أشرفوا عَلَى الأرض فأدركهم الماء فنزلوا فَلَمَّا كان المساء أضل أربعة منهم بعيرا لهم فاستأذنوا أن يقيموا فأذن لهم الْمُنْذِر، ثُمّ سار الْمُنْذِر بمن معه وأصبح القوم وَقَدْ جمعوا لهم على الماء وكانت بنو سُلَيْم هُم الَّذِين آذنوا بني عامر بهم فالتقوا فاقتتلوا قتالا شديدا فقتل الْمُنْذِر بن عمرو ومن معه وأصاب الأربعة بعيرهم من الغد فأقبلوا فِي طَلِب أصحابهم فلقيتهم وليدة لبني عامر فِي غنيمة ترعاها، فقالت لهم: أمن أصحاب محمد أنتم؟ قَالُوا: نعم، رجاء أن تسلم «1» . فقالت: النجاء فَإِن إخوانكم قَدْ قتلوا حول الماء قتلهم عامر بن الطُّفَيْل بن مَالِك بن جَعْفَر. فَقَالَ أحد الأربعة: ما ترون؟
قَالُوا: نرى أن نرحل إلى رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنخبره بالذي كان.
قَالَ: لكني، واللَّه، لا أرجع حَتَّى أنتقم من أعداء أصحابي اليوم فامضوا راشدين واقرأوا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- منى السلام كثيرا فأشرف على الخيل
__________
(1) فى حاشية أ: الأصل يسلموا.(1/458)
فنظر إلى أصحابه مقتلين عِنْد الماء فأخذ سيفه فضرب به حَتَّى قُتِل- رحِمَه اللَّه-.
ورجع الثلاثة إلى المدينة فأتوها حين أمسوا فلقوا رجلين من بني سليم وهما خارجان من المدينة فقالوا لهما: من أنتما؟ قالا: نحن من بني عامر. فقالوا: أنتما مِمَّنْ قتل إخواننا فأقبلوا عليهما فقتلوهما. ثُمّ دخلوا إِلَى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبروه الخبر فوجدوا الخبر قَدْ سبق إِلَيْهِ فقالوا: يا رَسُول اللَّهِ غشينا المدينة ممسين فوجدنا رجلين من بني عامر فقتلناهما وهذا سلبهما «1» . فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: بئس ما صنعتما فإنهما كانا من بني سُلَيْم. قَالَ: وكان بين بني سُلَيْم وبَيْنَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موادعة وعهد فنزلت- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَقُولُ «2» لا تعجلوا بأمر وَلا بفعل حَتَّى يأمركم رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «وَاتَّقُوا اللَّهَ» وَلا تخالفوا عَلَى نبيكم- «إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ» لما تقولون «عَلِيمٌ» «3» بما تفعلون. وجاء أَهْل السليميين فقالوا:
يا محمد، إن صاحبينا أتياك فقتلا عندك. فَقَالَ رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
إن صاحبيكما اعتزيا إلى عدونا حَتَّى قتلا ولكنا سنعقل صاحبيكم، فانطلق رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أهل عهده فبدأ ببني النضير [95 أ] فَقَالَ: أنتم جيراننا وحلفاؤنا والأيام دول وَقَدْ رأيتم الَّذِي أصابنا فاتخذوا عندنا يدا نجزكم بها غدا إن شاء اللَّه. فقالوا: مرحبا بك وأهلا، إخواننا بنو قريظة لا نحب أن نسبقهم بأمر وَلَكِن ائتنا يوم كذا وكذا وَقَدْ جمعنا لك الَّذِي تريد أن نعطيك. فرجع رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من عندهم فأرسلوا إلى بني قريظة أن محمدا مغرور «4»
__________
(1) أورد السيوطي فى لباب النقول ما ذكره مقاتل، انظر: 86- 87.
(2) فى أ: يقولوا.
(3) سورة الحجرات الآية الأولى.
(4) فى أ: معذور، ل: مغرور.(1/459)
يأتينا فِي الرَّجُل والرجلين فاجتمعوا لَهُ فاقتلوه. فأتاهم رَسُول اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لميعادهم ومعه ثلاثة نفر أَبُو بَكْر وعمر وعلي- رَضِيَ اللَّه عَنْهُم- وَهُوَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رابعهم فأجلسوه فِي صفة لهم ثُمّ خرجوا يجمعون السلاح لَهُ، وكان كَعْب بن الأشرف عِنْد ذَلِكَ بالمدينة، فهم ينتظرونه حَتَّى يأتيهم فأوحى اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إلى نبيه فأتاه جبريل- عَلَيْه السَّلام- فأخبره بما يراد به وبأصحابه فقام نَبِيّ اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَم يؤذن أصحابه مخافة أن يثوروا «1» بهم، فأتى باب الدار، فقام به فَلَمَّا أبطأ عَلَى أصحابه، خرج علي لينظر ما فعل رَسُول اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإذا هُوَ عَلَى الباب، فَقَالَ: يا رَسُول اللَّه، احتبست علينا حَتَّى خفنا عليك أن يَكُون قَدْ اغتالك أحد. قَالَ: فَإِن أعداء اللَّه قَدْ أرادوا ذَلِكَ فقم مكانك بالباب حتى يخرج إليك بعض أصحابك فأقمه مكانك واخبره بالذي أخبرتك ثُمّ الحقني، ومضى رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقام الآخر بالباب حَتَّى خرج إِلَيْهِ صاحبه «2» . فَقَالَ: احتبست أَنْت ورسول اللَّه حَتَّى خفنا عليكما، فَأَخْبَرَه الخبر فمكث مكانه ولحق الآخر، برسول اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم «3» - فلما أبطأوا عَلَى صاحبهم خرج، فاتبعوا رَسُول اللَّهِ- صَلَّى الله عليه وسلم-
فذلك قوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ وهم اليهود «أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ» بالسوء «فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ» وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ- 11-. قوله- سُبْحَانَهُ-: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً يعني شاهدا عَلَى قومهم من كُلّ سِبْط رجلا ليأخذ هذا
__________
(1) فى أ: يوتروا، ل: يثوروا.
(2) فى أ: صاحبيه. [.....]
(3) أورد الواحدي ذلك فى أسباب النزول: 11. كما أورده السيوطي فى لباب النقول: 86.(1/460)
الرَّجُل عَلَى سبطه الميثاق وشهداء «1» عَلَى قومهم وكانوا اثني عشر سبطا عَلَى كُلّ سِبْط منهم رَجُلا فأطاع اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- منهم خمسة فكان منهم طالوت، مِمَّنْ أطاع اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وعصى منهم سبعة، فنقبوا عَلَى أن يعبدوا اللَّه وَلا يشركوا به شيئًا وَقالَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلّ- للنقباء الاثني عشر إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي [95 ب] يعني الَّذِين بعثتهم إليكم وفيهم عِيسَى ومحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكفروا بعيسى ومُحَمَّد- صلى الله عليهما وَسَلَّمَ- قَالَ اللَّه- تَعَالَى-: ولقد أَخَذَ اللَّه ميثاقكم عَلَى أن تعملوا بما فِي التوراة فكان الْإِيمَان بالنبيين من عمل التوراة، ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَعَزَّرْتُمُوهُمْ يعني وأعنتموهم حَتَّى يبلغوا الرسالة وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يعني طيبة بها أنفسكم «2» وَهُوَ التطوع لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يقول أغفر لكم خطاياكم الذي كان منكم فيما بينكم وبيني وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يعني البساتين فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ- 12- يعني فقد أخطأ قصد الطريق طريق الهدى فنقضوا العهد والميثاق. فذلك قوله- سُبْحَانَهُ- فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ فبنقضهم ميثاقهم لعناهم بالمسخ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يعني قست قلوبهم عن الْإِيمَان بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ والكلم صفة محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وذلك أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أَخَذَ ميثاق بني إِسْرَائِيل فِي التوراة أن يؤمنوا بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويصدقوا به وَهُوَ مكتوب عندهم فِي التوراة. فَلَمَّا بعثه اللَّه- عز وجل- كفروا وحسدوه وقَالُوا إن هَذَا لَيْسَ من وَلَد إسحاق وَهُوَ من وَلَد إسماعيل فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ وهو الغش للنبىّ
__________
(1) فى أ: شهدوا، ل: شهداء.
(2) فى أ: نفسه، ل: أنفسكم.(1/461)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ والقليل مؤمنيهم عَبْد اللَّه بن سلام وأصحابه. يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ حتى يأتي اللَّه بأمره فِي أمر بني قريظة والنضير فكان أمر اللَّه فِيهم القتل والسبي والجلاء يَقُولُ فاعف عَنْهُمْ حَتَّى يَأْتِي يعني يجئ ذَلِكَ الأمر «1» فبلغوه فسبوا وأجلوا فصارت [آية] العفو والصفح منسوخة نسختها آية السيف فِي براءة «2» فَلَمَّا جاء ذَلِكَ الأمر قتلهم اللَّه- تَعَالَى- وسباهم وأجلاهم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ «3» - 13- ثُمّ ذكر أَهْل الإنجيل فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى إِنَّمَا سموا نصارى لأنهم كانوا من قرية يُقَالُ لها ناصرة كان نزلها عِيسَى ابْن مريم- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ وذلك أن اللَّه كان أخذ عليهم الميثاق فِي الإنجيل بالإيمان بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كَمَا أَخَذَ عَلَى أَهْل التوراة أن يؤمنوا بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويتبعوه ويصدقوه وَهُوَ مكتوب عندهم فِي الإنجيل يَقُولُ اللَّه- تَعَالَى-: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ يعنى فتركوا حظا [96 أ] مما أمروا به من إيمان بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتصديق به «4» ولو آمنوا لكان خيرًا لهم وكان لهم حظا، يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ يعني بين النصارى الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ النسطورية والمار يعقوبية وعبادة الملك فهم أعداء بعضهم لبعض إلى يوم القيامة وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ فى الآخرة بِما كانُوا يَصْنَعُونَ- 14- يعني بما يقولون من الجحود والتكذيب وذلك أن النسطورية
__________
(1) الآية التي فى المائدة ليس فيها «حتى يأتى الله بأمره» وإنما منطوقها «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» سورة المائدة: 13.
(2) لا مجال للقول بالنسخ هنا.
(3) ما بين الأقواس « ... » ساقط من أ، ل.
(4) فى أ: له.(1/462)
قالوا: إن عيسى ابن الله. وقالت: المار يعقوبية إن اللَّه هُوَ المسيح ابْن مريم.
وقالت عبادة الملك: إن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ثالث ثلاثة- هو إله وعِيسَى إله، ومريم إله، افتراء عَلَى اللَّه- تبارك وتعالى- وإنما اللَّه إله واحد وعيسى عَبْد اللَّه ونبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا وصف اللَّه- سُبْحَانَهُ- نفسه «أَحَدٌ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» «1» يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد- صلى الله عليه وسلم- يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ «2» مِنَ الْكِتابِ يعنى التوراة اخفوا أمر الرجم وأمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ يعني ويتجاوز عن كثير مما كتمتم فلا يخبركم بكتمانه. قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ يعني ضياء من الظلمة وَكِتابٌ مُبِينٌ- 15- يعني بين يَهْدِي بِهِ اللَّهُ يعني بكتاب محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ يعنى من اتبع دين محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودين الإسلام يهديه اللَّه إلى طريق الجنة وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ يعني من الشرك إلى الْإِيمَان بِإِذْنِهِ يعني بعلمه وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ- 16- قوله- سُبْحَانَهُ-: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ نزلت فى نصارى نجران المار يعقوبيين منهم السيد والعاقب وغيرهما قُلْ لهم يا محمد فَمَنْ يَمْلِكُ فَمنْ يقدر أن يمتنع مِنَ اللَّهِ شَيْئاً من شيء من عذابه إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً بعذاب أَوْ بموت فَمن الَّذِي يحول بينه وبَيْنَ ذَلِكَ ثُمّ عظم الرب- جلَّ جلاله- نفسه عن قولهم حين قَالُوا إن اللَّه هُوَ المسيح ابْن مريم فَقَالَ- سبحانه-: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَقُولُ إِلَيْهِ سلطان السموات والأرض وَما بَيْنَهُما من الخلق يَخْلُقُ ما يَشاءُ يعني عِيسَى شاء أن يخلقه من غَيْر بشر وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
__________
(1) سورة الإخلاص.
(2) فى أ: تخفونه.(1/463)
- 17- من خلق عِيسَى من غَيْر بشر وغيره من الخلق قدير مثلها فى آخر السورة «1» . وَقالَتِ الْيَهُودُ يهود المدينة منهم كَعْب بن الأشرف، ومالك بن الضيف وكعب بن أسيد، وبحري بن عمرو، وشماس بن عمرو، وَغَيْرُهُمْ وَالنَّصارى من نصارى نجران السيد والعاقب ومن معهما، قَالُوا جميعًا: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وافتخروا على المسلمين وقالوا [96 ب] ما أحد من الناس أعظم عِنْد اللَّه منزلة مِنَّا فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْ للمسلمين يردوا عليهم فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ حين زعمتم وقلتم لن تمسنا النار إِلَّا أياما معدودة يعني عدة ما عبدوا فيها العجل، إن كنتم أبناء اللَّه وأحباؤه. أفتطيب «2» نفس رَجُل أن يعذب ولده بالنار؟ واللَّه أرحم من جميع خلقه، فَقَالَ اللَّه- عَزَّ وجل- لنبيه- صلى الله عليه وسلم- قل لهم: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ من العباد ولستم بأبناء اللَّه وأحبائه يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ يعني يتجاوز عمن يشاء فيهديه لدينه وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ فيميته عَلَى الكفر ثُمّ عظم الرب نفسه- عَزَّ وَجَلّ- عن قولهم: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما من الخلق يحكم فيهما ما يشاء هُمْ عبيده وَفِي ملكه وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ- 18- فِي الآخرة فيجزيكم بأعمالكم يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني اليهود منهم رافع بن أَبِي حريملة ووهب ابن يهوذا قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد- صلى الله عليه وسلم- يُبَيِّنُ لَكُمْ الدين عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ «3» فيها تقديم: وكان بين محمد وعيسى- صَلَّى الله عليهما وسلم- ستمائة سنة أَنْ تَقُولُوا يعني لئلا تقولوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ بالجنة وَلا نَذِيرٍ من
__________
(1) يشير إلى آخر آية فى سورة المائدة وهي: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ سورة المائدة: 120.
(2) فى أ: فتطيب.
(3) فى أ: (على فترة من الرسل) ... (يبين لكم) فقدم المتأخر.(1/464)
النار، يقول فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- 19- إذ بعث محمدا رسولا وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ وهم بنو إسرائيل يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعنى بالنعمة إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ السبعين الذين جعلهم الله أنبياء بعد موسى وهارون وبعد ما أتاهم اللَّه بالصاعقة وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً يعني أغنياء أغنى بعضكم عن بعض فلا يدخل عَلَيْه أحد إِلَّا بإذنه بمنزلة الملوك فِي الدُّنْيَا ثُمّ قَالَ وَآتاكُمْ يعني وأعطاكم ما لَمْ يُؤْتِ يعني ما لم يعط أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ- 20- يعني الخير والتوراة وما أعطاكم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فِي التيه من المن والسلوى وما ظلل عليهم من الغمام وأشباه ذَلِكَ مما فضلوا به عَلَى غيرهم فَقَالَ مُوسَى: يا قَوْمِ بنى إسرائيل ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ يعنى المطهرة الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ يعني التي أمركم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أن تدخلوها وهي أريحا أرض الأُرْدُنّ وفلسطين وهما من الأرض المقدسة «1» وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ يعنى ولا ترجعوا وراءكم بترككم الدخول فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ- 21- يعني فترجعوا خاسرين وذلك أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- قَالَ لإِبْرَاهِيم- عَلَيْه السَّلام- وَهُوَ بالأرض المقدسة: إن هَذِهِ الأرض التي أنَتْ بها اليوم هِيَ ميراث لولدك من بعدك فَلَمَّا أخرج اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- من مصر مَعَ بنى [97 أ] إِسْرَائِيل وقطعوا البحر وأعطوا التوراة أمرهم مُوسَى أن يدخلوا الأرض المقدسة فساروا حَتَّى نزلوا عَلَى نهر الأُرْدُنّ فِي جبل أريحا وكان فِي أريحا ألف قرية فِي كُلّ قرية ألف بستان وجبنوا أن يدخلوها، فبعث مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- اثني عشر رَجُلا من كُلّ سِبْط رَجُلا يأتونه بخبر الجبارين وأمرهم أن يأتوه منها بالثمرة، فَلَمَّا أتوها خرج إليهم عوج بن عناق بِنْت آدم فاحتملهم ومتاعهم بيده حتى وضعهم بين
__________
(1) فى أ: من أرضه المقدسة.(1/465)
يدي الملك بانوس بن سشرون «1» فنظر إليهم فأمر بقتلهم فقالت امرأته: أيها الملك، أنعم عَلَى هَؤُلاءِ المساكين فدعهم فليرجعوا وليأخذوا طريقا غَيْر الَّذِي جاءوا فِيهِ فأرسلهم لها فأخذوا عنقودا من كرومهم وحملوه عَلَى عمودين بين رجلين وعجزوا عن حمله، وحملوا رمانتين عَلَى بعض دوابهم فعجزت الدابة عن حملهما حَتَّى أتوا به أصحابهم وهم بواد يُقَالُ لَهُ جبلان فسموا ذَلِكَ المنزل وادي العنقود.
قالُوا يا مُوسى وجدناها أرضا مباركة تفيض لبنا وعسلا كَمَا عهد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إليك ولكن إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ يعني قتالين أشداء يقتل الرَّجُل منهم العصابة مِنَّا فَإِن كان اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أراد أن يجعلها لنا منزلا وسكنا فليسلطك عليهم فتقتلهم وإلا فَلَيْس لنا بهم قوة. وحصنهم منيع فتتابع «2» عَلَى ذَلِكَ منهم عشرة فقالوا لموسى: «إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ» طول كُلّ رَجُل منهم سبعة أذرع ونصف من بقايا قوم عاد وكان عوج بن عناق بِنْت آدم فيهم وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها وهي أريحا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ- 22- قَالَ يوشع بن نون- وَهُوَ من سِبْط بنيامين- وكالب بن يوقنا «3» وَهُوَ من سِبْط يهوذا قالَ رَجُلانِ وهما الرجلان من القوم مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ من العدو وقد أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإسلام قَالا لَيْسَ كَمَا يَقُولُ العشرة سيروا حَتَّى تحيطوا بالمدينة وبأبوابها فَإِن القوم إذا رأوا كثرتكم بالباب وكبرتم رعبوا منكم فانكسرت قلوبهم وانقطعت ظهورهم
__________
(1) فى أ: بانوس بن سفشرون، ل: سشرون. [.....]
(2) فى أ: فتبايع، ل: فتتابع.
(3) فى نسخة أمانة: وكالب بن يوها. وهو خطأ وفى مكان آخر ذكر اسمه: كالب بن مؤقنا. وهو خطأ أيضا، ونسخة أمانة ناقلة عن غيرها وكثيرة التحريف فلا يعتمد عليها، وفى ل: يوقبا، وفى أ:
يوقنا.(1/466)
وذهبت قوتهم ف ادْخُلُوا «1» عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا يقول وبالله فلتتقوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- 23- يقتلهم بأيديكم وينفيهم من أرض هِيَ ميراثهم قالُوا يا مُوسى أتصدق رجلين وتكذب عشرة- يا مُوسَى- إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً مَا دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ ينصرك عليهم فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ- 24- يعني مكاننا «2» فإننا لا نستطيع قتال الجبابرة فغضب موسى عليهم وقالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ [97 ب] من الطاعة إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي هَارُون فَافْرُقْ بَيْنَنا يعني فاقض بيننا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ- 25- يعني العاصين الَّذِين عصوا أن يقاتلوا عدوهم، وهم كلهم مؤمنون فأوحى اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إلى موسى- عليه السلام- أما إذ سميتهم فاسقين فالحق أقول لا يدخلونها «3» أبدا، وذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ- قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ «4» دخولها البتة أبدا. أَرْبَعِينَ سَنَةً فيها تقديم يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فِي البرية فأعمى «5» اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عليهم السبيل فحبسهم بالنهار وسيرهم بالليل يسهرون ليلهم فيصبحون حيث أمسوا «6» فإذا بلغ أجلهم وَهُوَ أربعون سنة أرسلت عليهم الموت فلا يدخلها إلا خلوفهم إلا يوشع ابن نون وكالب بن يوقنا فهما يسوقان بني إِسْرَائِيل إلى تِلْكَ الأرض، فتاه القوم فِي تسع فراسخ عرض وثلاثين فرسخا طول، وقالوا أيضا ستة فراسخ عرض «7» فِي اثني عشر فرسخا طول فَقَالَ القوم لموسى- عَلَيْه السَّلام-: ما صنعت بنا دعوت
__________
(1) فى أ: (فادخلوا) ، والآية (ادخلوا) .
(2) كتبت فى حاشية أوعليها علامة ص.
(3) فى أ: لا يدخلوها، ل: لا يدخلونها.
(4) فى حاشية أ: الأصل دخلوها.
(5) فى أ: (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) (أَرْبَعِينَ سَنَةً) فأخر المتقدم وقدم المتأخر.
(6) فى أ: فيصبحوا حيث أمسوا، ل: فيصبحون حيث أمسوا.
(7) عرض: ساقطة من ل، ومثبتة فى أ.(1/467)
علينا حَتَّى بقينا فِي التيه وندم مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- عَلَى ما دعا عليهم وشق عَلَيْه حين تاهوا فأوحى اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إليه فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ- 26- يعني لا تحزن عَلَى قوم أنت سميتهم فاسقين أن تاهوا ثُمّ مات هَارُون- عَلَيْه السَّلام- فِي التيه ومات مُوسَى من بعده بستة أشهر، فماتا جميعًا فِي التيه، ثُمّ إن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أخرج ذرياتهم بعد أربعين سنة وَقَدْ هلكت الأمة العصاة كلها وخرجوا مع يوشع ابن نون ابْن أخت مُوسَى وكالب بن يوقنا بعد وفاة مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- بشهرين فأتوا أريحا فقاتلوا أهلها ففتحوها وقتلوا مقاتلتهم وسبوا ذراريهم وقتلوا ثلاثة من الجبارين وكان قاتلهم يوشع بن نون فغابت الشمس فدعا يوشع بن نون فرد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عَلَيْه الشمس فأطلعت ثانية وغابت الشمس الثانية ودار الفلك فاختلط عَلَى الحساب حسابهم منذ يومئذ فيما بلغنا ومات فِي التيه كُلّ ابْن عشرين سنة فصاعدا وموضع التيه «1» بين فلسطين وإيلة ومصر، فتاه القوم بعصيانهم ربهم- عَزَّ وَجَلّ- وخلافهم عَلَى نبيهم مَعَ دعاء بلعام بن باعور ابن ماث عليهم فيما بين ستة فراسخ إلى اثني عشر فرسخا لا يستطيعون الخروج منها أربعين سنة ومات هَارُون حين أتم ثمانية وثمانين سنة وتوفي مُوسَى بعده بستة «2» أشهر واستخلف عليهم يوشع بن نون، وحين ماتوا كلهم أخرج «3» ذراريهم يوشع بن نون وكالب بن يوقنا.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ يَقُولُ اتل يا محمد عَلَى أَهْل مكة نبأ ابني آدم بِالْحَقِّ ليعرفوا نبوتك [98 أ] يَقُولُ اتل عليهم حديث ابني آدم هابيل وقابيل
__________
(1) التيه: ساقطة من أ، ومثبتة فى ل.
(2) فى أ: بستة وهو تصحيف لأنه ذكر من قبل أن وفاة موسى بعد هارون بستة أشهر، فلا بد أن كلمة أشهر سقطت فنطق ستة، سنة.
(3) فى أ: حين ماتوا كلهم فأخرج.(1/468)
وذلك أن حواء ولدت فِي بطن واحد غلاما وجارية قابيل وإقليما، ثُمّ ولدت فِي البطن الآخر غلاما وجارية، هابيل وليوذا، وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل، فَلَمَّا أدركا قَالَ آدم- عَلَيْه السَّلام- ليتزوج كُلّ واحد منهما أخت الآخر قَالَ قابيل لكن يتزوج كُلّ واحد منهما أخته التي ولدت معه، قَالَ آدم- عَلَيْه السَّلام-: قربا قربانا فأيما تقبل قربانه كان أحق بهذه الجارية وخرج آدم- عَلَيْه السَّلام- إلى مكة فعمد قابيل وكان صاحب زرع فقرب أخبث زرعه البر المأكول فِيهِ الزوان، وكان هابيل صاحب ماشية فعمد فقرب خير غنمه مَعَ زبد ولبن ثُمّ وضعا القربان عَلَى الجبل وقاما يدعوان اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل، فحسده قابيل، فَقَالَ لهابيل: لأقتلنك. قَالَ هابيل: يا أخي «1» لا تلطخ يدك بدم بريء فترتكب أمرا عظيما، إِنَّمَا طلبت رضا والدي ورضاك فلا تفعل فإنك إن فعلت أخزاك اللَّه بقتلك إياي بغير ذنب وَلا جرم فتعيش فِي الدُّنْيَا أيام حياتك فِي شقوة ومخافة فِي الأرض حَتَّى تكون من الخوف والحزن أدق من شعر رأسك ويجعلك إلهي ملعونا. فلم يزل يحاوره حَتَّى انتصف النهار، وكان فِي آخر مقالة هابيل لقابيل: إن أنت قتلتني كُنْت أول من كتب عَلَيْه الشقاء، وأول من يساق إلى النار من ذرِّيَّة والدي، وكنت أنا أوّل شهيد يدخل الجنة.
«فغضب قابيل فَقَالَ: لا عشت فِي الدُّنْيَا. ويُقَالُ قَدْ تقبل قربانه وَلَم يتقبل قرباني، فَقَالَ لَهُ هابيل: فتشقى آخر الأبد» «2» .
__________
(1) فى أ: أخى، ل: يا أخى.
(2) ما بين الأقواس « ... » ساقط من ل ومثبت فى أ. [.....](1/469)
فغضب عِنْد ذَلِكَ قابيل «1» فقتله بحجر دق رأسه وذلك بأرض الهند عشية وآدم- عَلَيْه السَّلام- بمكة، فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ، قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ
- 27- لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ- 28- إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ- 29- فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ يَقُولُ فزينت لَهُ نفسه قَتْل أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ- 30- قَالَ وكان هابيل قَالَ لأخيه قابيل: «لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ ... » إلى قوله:
«بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ» يعني أن ترجع بإثمي بقتلك إياي وإثمك الَّذِي عملته قبل قتلي «فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ» يعني جزاء من قَتَل نفسا بغير جرم فَلَمَّا قتله عشية من آخر النهار لَمْ يدر ما يصنع وندم وَلَم يَكُنْ يومئذ عَلَى الأرض بناء «2» وَلا قبر فحمله عَلَى عاتقه فإذا أعيى وضعه بين يديه ثُمّ ينظر إليه ويبكي ساعة ثُمّ يحمله ففعل ذَلِكَ ثلاثة أيام فَلَمَّا كان فِي الليلة الثالثة بعث اللَّه غرابين يقتتلان فقتل أحدهما صاحبه وهو ينظر [98 ب] ثُمّ حفر بمنقاره فِي الأرض فَلَمَّا فرغ منه أَخَذَ بمنقاره رِجْل الغراب الميت حَتَّى قذفه فِي الحفيرة ثُمّ سوى الحفيرة بالأرض وقابيل ينظر، فذلك قوله- تَعَالَى-: فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ قابيل يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ يَقُولُ أعجزت أن أَعْلَم من العلم مثل ما علم هذا الغراب فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي يقول فأغطى عورة أخى كما وارى هذا الغراب صاحبه فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ- 31-
__________
(1) فى أ: قابين، ل: قابيل.
(2) فى أ: بغير نفس حرم، ل: بغير جرم.(1/470)
بقتله أخاه. فعمد عِنْد ذَلِكَ قابيل فحفر فِي الأرض بيده ثُمّ قذف أخاه فِي الحفيرة فسوى عَلَيْه تراب الحفيرة كَمَا فعل الغراب بصاحبه فَلَمَّا دفنه ألقى اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عَلَيْه الخوف يعني عَلَى قابيل لأنه أول من أخاف فانطلق هاربا، فنودي من السماء:
يا قابيل، أين أخوك هابيل؟ قَالَ: أَوَ رقيبا كُنْت عَلَيْه؟ ليذهب حيث شاء قَالَ المنادي: أما تدري أين هُوَ؟ قَالَ: لا. قَالَ المنادي: إن لسانك وقلبك ويديك ورجليك وجميع جسدك يشهدون عليك أنَّكَ قتلته ظلما، فَلَمَّا أنكر شهدت عَلَيْه جوارحه. فَقَالَ المنادي: أَيْنَ تنجو من ربك؟ إن إلهي يَقُولُ: إنك ملعون بكل أرض وخائف مِمَّنْ يستقبلك وَلا خير فيك، وَلا فِي ذريتك، فانطلق جائعا حَتَّى أتى ساحل البحر فجعل يأخذ الطير فيضرب بها الجبل فيقتلها ويأكلها، فَمنْ أجل ذَلِكَ حرم اللَّه الموقوذة. وكانت الدواب والطير والسباع لا يخاف بعضها من بعض حَتَّى قَتَل قابيل هابيل فلحقت الطير بالسماء والوحش بالبرية والجبال، ولحقت السباع بالغياض، وكانت قبل ذَلِكَ تستأنس إلى آدم- عَلَيْه السَّلام- وتأتيه، وغضبت الأرض عَلَى الكفار من يومئذ، فَمنْ ثُمّ يضغط الكافر فِي الأرض حَتَّى تختلف أضلاعه ويتسع عَلَى الْمُؤْمِن قبره حتى ما يرى «1» طرفاه وتزوج شيت ابن آدم ليوذا «2» التي ولدت مَعَ هابيل، وبعث اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ملكا إلى قابيل فعلق رجله وَجَعَل عَلَيْه ثلاث سرادقات من نار كلما دار دارت السرادقات معه فمكث بِذَلِك حينا ثُمّ حل عَنْهُ. مِنْ أَجْلِ ذلِكَ يعنى من أجل ابني آدم تعظيما للدم كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي التوراة أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ عمدا
__________
(1) فى أ: حتى يرى، ل: حتى ما يرى.
(2) فى ل: إقليما وهو خطأ، وفى أ: ليوذا وهو صواب لموافقته لما ذكر أولا.(1/471)
أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أَوْ عمل فيها بالشرك وجبت لَهُ النار وَلا يعفى عَنْهُ حَتَّى يقتل فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً أَي كَمَا يجزي النار لقتله الناس جميعًا لو قتلهم.
ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً [99 أ] وذلك أَنَّهُ مكتوب فِي التوراة أَنَّهُ من قتل رَجُلا خطأ فَإنَّهُ يقاد به إِلَّا أن يشاء وَلِي المقتول أن يعفو عَنْهُ فإن عفا عَنْهُ وجبت لَهُ الجنة كَمَا تجب لَهُ الجنة لو عفا عن الناس جميعًا، فشدد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عليهم القتل ليحجز بِذَلِك بعضهم عن بعض، ثُمّ قَالَ- سبحانه-: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ يعني بالبيان فِي أمره ونهيه ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ البيان فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ- 32- يعني إسرافا فِي سفك الدماء واستحلال المعاصي قوله- سُبْحَانَهُ-:
إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يعني بالمحاربة الشرك نظيرها فِي براءة وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ «1» وذلك
أن تسعة نفر من عرينه وهم من بجيلة أتوا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمدينة فأسلموا فأصابهم وجع شديد ووقع الماء الأصفر فِي بطونهم فأمرهم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يخرجوا إلى إبل الصدقة ليشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا ذَلِكَ فَلَمَّا صحوا عمدوا إِلَى الراعي فقتلوه وأغاروا عَلَى الإبل فاستاقوها وارتدوا عن الْإِسْلام فبعث النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- فِي نفر فأخذوهم، فَلَمَّا أتوا بهم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسملت أعينهم فأنزل الله- عَزَّ وَجَلّ- فيهم إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
يعني الكفر بعد الْإِسْلام وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً
__________
(1) سورة التوبة: 107.(1/472)
القتل وأخذ الأموال أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى فالإمام فِي ذَلِكَ بالخيار فِي القتل والصلب وقطع الأيدي والأرجل أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ يقول يخرجوا «1» من الأرض- أرض المسلمين- فينفوا بالطرد ذلِكَ جزاءهم الخزي لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا قطع اليد والرجل والقتل والصلب فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ- 33- يعني كثيرًا وافرا لا انقطاع لَهُ ثُمّ استثنى فَقَالَ- عَزَّ وَجَلّ-:
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا من الشرك مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فتقيموا عليهم الحد فلا سبيل لَكُمْ عليهم يَقُولُ من جاء منهم مسلما قبل أن يؤخذ فَإِن الْإِسْلام يهدم ما أصاب فِي كفره من قتل أَوْ أخذ مال فذلك قوله- سبحانه-: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما كان منه فِي كفره رَحِيمٌ- 34- به حين تاب ورجع إلى الْإِسْلام، فأمّا من قُتِل وَهُوَ مُسْلِم فارتد عن الْإِسْلام ثُمّ رجع مسلما فإنه يؤخذ بالقصاص. وقوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [99 ب] يعني فِي طاعته بالعمل الصالح وَجاهِدُوا العدو فِي سَبِيلِهِ يعني فِي طاعته لَعَلَّكُمْ يعني لكي تُفْلِحُونَ- 35- يعني تسعدون ويُقَالُ تفوزون. وقوله- سبحانه-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من أَهْل مكة لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ أَي فقدروا أن يفتدوا به مِنْ عَذابِ جَهَنَّم يَوْمِ الْقِيامَةِ يَقُولُ لو كان ذَلِكَ لهم وفعلوه مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ- 36- يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ بالفداء وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها أبدا وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ- 37- يعنى دائم. وقوله- سبحانه-: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما يعنى
__________
(1) فى أ: يهربوا.(1/473)
أيمانهما من الكرسوع يَقُولُ القطع جَزاءً بِما كَسَبا يعنى سرقا نَكالًا مِنَ اللَّهِ يعنى عقوبة من الله قطع اليد وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ- 38- فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ يَقُولُ من تاب من بعد سرقته وَأَصْلَحَ العمل فيما بقي فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لذنبه رَحِيمٌ- 39- به، وأما المال فلا بد أن يرده إلى صاحبه. وقوله- سُبْحَانَهُ-: أَلَمْ تَعْلَمْ يا محمد أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يحكم فيهما بما يشاء «1» يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ من أهل معصيته وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ يعني به الْمُؤْمِنِين وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من العذاب والمغفرة قَدِيرٌ- 40-. وقوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ يعنى صدقنا بألسنتهم وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ فِي السر. نزلت فِي أَبِي لبابة: اسمه مروان بن عبد المنذر الأنصاري من بني عمرو بن عوف. وذلك أَنَّهُ أشار إلى أهل قريظة إلى حلقه «2» أن محمدا جاء يحكم فيكم بالموت فلا تنزلوا عَلَى حكم سعد بن مُعَاذ وكان حليفا لهم ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا أَيّ وَلا يحزنك الَّذِين هادوا يعني يهود المدينة سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ يعني قوالون للكذب منهم كَعْب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، وأبو لبابة، وسعيد بن مَالِك، وابن صوريا، وكنانة ابن أَبِي الحقيق، وشاس بن قَيْس، وأبو رافع بن حريملة، ويوسف بن عازر ابن أَبِي عازب، وسلول بن أبي سلول، والبخام بن عمرو، وهم سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يعني يهود خيبر لَمْ يَأْتُوكَ يا محمد يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ يعنى أمر الرجم
__________
(1) فى أ: ما يشاء.
(2) وكانت هذه الإشارة معناها أن محمدا سيحكم فيكم بالقتل والذبح.(1/474)
مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ عن بيانه في التوراة. وذلك أن رَجُلا من اليهود يسمى يهوذا وامرأة «1» تسمى بسرة من أهل خيبر من أشراف اليهود زنيا وكانا قَدْ أحصنا «2» فكرهت اليهود رجمهما من أجل شرفهما وموضعهما فقالت يهود خيبر: نبعث بهذين «3» إلى محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِن فِي دينه الضرب وليس فِي دينه الرجم ونوليه الْحُكْم فيهما فإن [100 أ] أمركم «4» فيهما بالضرب فخذوه وإن أمركم فيهما بالرجم فاحذروه فكتب يهود خيبر إلى يهود المدينة، إلى كعب بن الأشرف، وكعب ابن أُسَيْد، ومالك بن الضيف، وأبي لبابة، وبعثوا نفرا منهم، فقالوا: سلوا لنا محمدا- عَلَيْه السَّلام- عن الزانيين إذا أحصنا ما عليهما؟ فَإِن أمركم بالجلد فخذوا به والجلد: الضرب «5» بحبل من ليف مطلي بالقار وتسود وجوههما ويحملان عَلَى حمار وتجعل وجوههما مما يلي ذنب الحمار فذلك التجبية «6» يَقُولُونَ أَي اليهود إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا أَي إن أمركم بالرجم فاحذروه عَلَى ما فِي أيديكم أن يسلبكموه.
قَالَ: فجاء كَعْب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد، وأَبُو لبابه إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: أخبرنا عن الزانيين إذا أحصنا ما عليهما، فأتاه جبريل- عليه
__________
(1) فى أ: وامرأته، ل: وامرأة.
(2) فى أ: اختصما، ل: أحصنا. وقد أورد هذه القصة ابن جرير ونقلها عنه السيوطي فى كتابه لباب النقول فى أسباب النزول: 87. كما أوردها الواحدي فى أسباب النزول: 112.
(3) فى أ: بهذا، ل: بهاذين.
(4) فى أ: فإن أمركم.
(5) الضرب: ساقطة من أ، ومثبتة فى ل.
(6) التجبية: أن يحمل الزانيان على الحمار، ويقابل أقفيهما ويطاف بهما. انظر هذه القصة فى أسباب النزول للواحدي: 112.
وسواء أكانت وجوههما مما يلي ذنب الحمار أو تقابلت أقفيهما فإن المقصود الإهانة فى كل. [.....](1/475)
السَّلام- فَأَخْبَرَه بالرجم، ثُمّ قَالَ جبريل- عَلَيْه السَّلام- اجعل بينك وبينهم ابن صوريا وسلهم عَنْهُ، فمشى رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- حتى أتى أحبارهم فى بيت المدراس فَقَالَ: يا مَعْشَر اليهود، أخرجوا إلي علماءكم فأخرجوا إِلَيْهِ عَبْد اللَّه بن صوريا، وأبا ياسر بن أخطب، ووهب بن يهوذا، فقالوا: هَؤُلاءِ علماؤنا «ثُمّ حصر أمرهم» «1» إلى أن قَالُوا لعبد اللَّه بن صوريا:
هَذَا أعلم من بَقِي بالتوراة فجاء به رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وكان ابْن صوريا غلاما شابا ومع رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَبْد اللَّه بن سلام، فَقَالَ رسول اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أنشدك بِاللَّه الَّذِي لا إله إِلَّا هُوَ إله بني إِسْرَائِيل، الَّذِي أخرجكم من مصر، وفلق لَكُم البحر وأنجاكم، وأغرق آل فرعون، وأنزل عليكم كتابه يبين لَكُمْ حلاله وحرامه، وظلل عليكم المن والسلوى، هَلْ وجدتم فِي كتابكم أن الرجم عَلَى من أحصن؟ قَالَ ابْن صوريا:
اللَّهُمَّ نعم «2» ، ولولا أني خفت أن أحترق بالنار أَوْ أهلك بالعذاب لكتمتك حين سألتني وَلَم أعترف لك. قَالَ رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللَّه أكبر فأنا أول من أحيا سنة من سنن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ثُمّ أمر بهما فرجما عِنْد باب
__________
(1) فى أ، ثم أحضره وأمره، ل: ثم حصل أمرهم.
(2) ورد فى القانون الموسوي (أن عقوبة الموت للزانيين المحصنين وسوى القانون بين الرجل الذي يواقع امرأة متزوجة، والمرأة التي تعبث بالأمانة الزوجية) . وفى سفر تثنية الاشتراع ف 22- 32 وإن وجد رجل مضاجعا امرأة ذات بعل فليقتلا جميعا، الرجل المضاجع لها والمرأة واقع الشر من إسرائيل» .
وفى سفر الأحبار ف 10- 10 «وأى رجل زنى بامرأة إن زنى بامرأة قريبة فليقتل الزاني والزانية) .
عن كتاب (مركز المرأة فى قانون حمر رابى وفى القانون الموسوي) لجمان أمل ريك: 52.(1/476)
مسجده فِي بني غَنْم بن مَالِك بن النَّجّار، فَقَالَ عَبْد اللَّه بن صوريا: واللَّه يا محمد، إن اليهود لتعلم أنَّكَ نَبِيّ حق، ولكنهم يحسدونك. ثُمّ كفر ابْن صوريا بعد ذلك فأنزل الله- عز وجل- يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ- يعنى مما فى التوراة [100 ب] من أمر الرجم ونعت محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمّ قَالَ: وَيَعْفُو عن كَثِيرٍ فلا يخبر به. فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لليهود إن شئتم أخبرتكم بالكثير.
قَالَ ابْن صوريا: أنشدك بِاللَّه أن تخبرنا بالكثير مما أمرت أن تعفو عَنْهُ. ثُمّ قَالَ ابْن صوريا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَخْبَرَنِي عن ثلاث خصال لا يعلمهن إِلَّا نَبِيّ. فَقَالَ رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هات، سل عما شئت.
قَالَ: أَخْبَرَنِي عن نومك. قَالَ: تنام عيني وقلبي يقظان «1» . قَالَ ابْن صوريا:
صدقت. قَالَ: فأخبرني عن شَبَه الولد: من أَيْنَ يُشَبِه «2» الأب أو الأم «3» ؟ قَالَ:
أَيُّهُمَا سبقت الشهوة لَهُ «كان الشبه له» . قال «4» : صدقت. قال: فأخبرنى ما للرجل وما للمرأة من الولد ومن أَيُّهُمَا يَكُون؟ قَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللحم والدم والظفر والشعر للمرأة، والعظم والعصب والعروق للرجل.
قَالَ: صدقت. قَالَ: فَمنْ وزيرك من الملائكة ومن يجيئك بالوحي؟ قَالَ: جبريل- عَلَيْه السَّلام- قَالَ: صدقت يا محمد وأسلم عِنْد ذَلِكَ. «5»
قوله- سُبْحَانَهُ-: «إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ» - يَقُولُ ذَلِكَ يهود خيبر ليهود المدينة: كَعْب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد،
__________
(1) فى أ: يقظان.
(2) فى أ: من، ل: أى ما.
(3) فى أ: والأم، ل: أو الأم.
(4) كان الشبه له ساقطة من أ، ومثبتة فى ل.
(5) كانت إجابة النبي على أسئلة ابن صوريا سببا فى إسلامه.(1/477)
وأبي لبابة: إن أمركم محمد بالجلد فاقبلوه «وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ» يعني الجلد، وإن أمركم بالرجم «فَاحْذَرُوا» فَإنَّهُ نَبِيّ. قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ يعني اليهود لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من الكفر حين كتموا أمر الرجم ونعت محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ يعني به اليهود وهم أَهْل قريظة: أما الخزي الَّذِي نزل بهم فهو القتل والسبي وأما خزي أَهْل النضير فهو الخروج من ديارهم وأموالهم وجناتهم فأجلوا إلى الشام: إلى أذرعات وأريحا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ- 41- يعني ما عظم من النار. ثُمّ قَالَ: سَمَّاعُونَ يعني قوالون لِلْكَذِبِ للزور منهم كَعْب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، ووهب بن يهوذا أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ يعني الرشوة فِي الْحُكْم كَانَت اليهود قَدْ جعلت لهم جعلا فِي كُلّ سنة عَلَى أن يقضوا لهم بالجور، يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: فَإِنْ جاؤُكَ يا محمد فِي الرجم فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ يعنى بالعدل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ- 42- يعني الَّذِين يعدلون فِي الْحُكْم، ثُمّ نسختها الآية التي جاءت بعد «1» وهي قوله: «وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [101 أ] إليك» فِي الكتاب أن الرجم عَلَى المحصن والمحصنة وَلا ترد الْحَكَم «وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ» يعني كَعْب بن الأشرف، وكعب بن أُسَيْد، ومالك بن الضيف.
__________
(1) فى أ: نسختها الآية التي بعدها. مع أن هناك ست آيات بينهما. فالآية المذكورة رقم 42، والآية المشار إليها رقم 49.(1/478)
قَالَ تَعَالَى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ يعني الرجم عَلَى المحصن والمحصنة والقصاص فِي الدماء سواء ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني يعرضون من بعد البيان فِي التوراة وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ- 43- يعني وما أولئك بمصدقين حين حرفوا ما فى التوراة ثُمّ أخبر اللَّه عن التوراة فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-:
إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ وضياء من الظلمة يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ من لدن مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- إلى عِيسَى ابْن مريم- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
ألف نَبِيّ الَّذِينَ أَسْلَمُوا يعني أنهم مسلمون «أَوْ أسلموا وجوههم للَّه» «1» لِلَّذِينَ هادُوا يعني اليهود يحكمون بما لهم وما عليهم وَيحكم بها الرَّبَّانِيُّونَ وهم المتعبدون من أَهْل التوراة من وَلَدِ هَارُون: يحكمون بالتوراة وَالْأَحْبارُ يعني القراء والعلماء منهم بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ- عز وجل- من الرحم وبعث محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي كتابهم ثُمّ قَالَ يهود المدينة:
كَعْب بن الأشرف، وكعب بن أسيد، ومالك بن الضيف، وأصحابهم وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ يَقُولُ لا تخشوا يهود خيبر أن تخبروهم بالرجم ونعت محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاخْشَوْنِ إن كتمتموه وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا عرضا يسيرا مما كانوا يصيبون من سفلة اليهود من الطعام والثمار وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التوراة: بالرجم ونعت محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويشهد به «2» فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ- 44-
ولما أرادوا القيام «3» قَالَتْ بنو قريظة، أَبُو لبابة، وشعبة بن عمرو، ورافع بن حريملة، وشاس بن عمرو
__________
(1) هذه الزيادة لتوضيح المعنى وهي منقولة من المنار: 6/ 398 ط 1.
(2) فى أ: وشهد به، ل: ويشهد به.
(3) فى أ، ل: القيام به.(1/479)
للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إخواننا- بني النضير، كَعْب بن الأشرف وكعب بن أُسَيْد، ومالك بن الضيف، وَغَيْرُهُمْ، أبونا واحد وديننا واحد إذا قَتَل أَهْل النضير مِنَّا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر، وإن قتلنا منهم قتيلا أخذوا مِنَّا مائة وأربعين وسقا من تمر «1» وجراحاتنا عَلَى أنصاف جراحاتهم فاقض بيننا وبينهم يا محمد. فَقَالَ رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن دم الْقُرَظِيّ وفاء من دم النضيري وليس للنضيري عَلَى الْقُرَظِيّ فضل فِي الدم وَلا فِي العقل.
قَالَ كَعْب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أُسَيْد، وأصحابهم:
لا نرضى بقضائك، وَلا نطيع أمرك، ولنأخذن بالأمر الأول، فإنك عدونا، وما تألو أن تضعنا وتضرنا «2» .
وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ اللَّه- تعالى- «أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ» [101 ب] يعني حكمهم الأول «وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً» يَقُولُ فلا أحد أحسن من اللَّه حكما «لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ» وعد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ووعيده «3» ثُمّ أخبر عن التوراة فَقَالَ- سُبْحَانَهُ- وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها يعني وفرضنا عليهم فِي التوراة نظيرها فِي المجادلة «كتب اللَّه» «4» يعني قضى، أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ «5» لَهُ
__________
(1) فى أ: وسق تمر، ل: وسقا من تمر.
(2) فى ل: تصغرنا وتضعنا، أ: تضعنا وتضرنا.
(3) فى أ، ل ذكر آية (أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ... ) بين الآية 43، 45 حتى يهيأ للقارئ أنها بعد آية 44 ترتيبا، ولذلك لم أضعها بين قوسين هكذا ( ... ) بل وضعتها بين « ... » لأنها آية رقم 50 من نفس السورة وسيأتى مكان تفسيرها قريبا. [.....]
(4) سورة المجادلة: 21 وهي كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ.
(5) والأذن بالأذن: ساقطة من أ.(1/480)
يَقُولُ فَمنْ تصدق بالقتل والجراحات فهو كفارة لذنبه يَقُولُ إن عفى المجروح عن الجارح فهو كفارة للجارح من الجرح: لَيْسَ عَلَيْه قود وَلا دية وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِي التوراة من أمر الرجم والقتل والجراحات فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ- 45- ثُمّ أخبر عن أَهْل الإنجيل فَقَالَ: وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ يعني وبعثنا من بعدهم يعني من بعد أَهْل التوراة بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ يَقُولُ عِيسَى يصدق بالتوراة وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ يعني أعطينا عِيسَى الإنجيل فِيهِ هُدىً من الضلالة وَنُورٌ من الظلمة وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ يقول الإنجيل يصدق التوراة وَالإنجيل هُدىً من الضلالة وَمَوْعِظَةً من الجهل لِلْمُتَّقِينَ- 46- الشرك ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ- وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ
من الأحبار والرهبان بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ يعني فِي الإنجيل من العفو عن القاتل أَو الجارح والضارب وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِي الإنجيل من العفو واقتص من القاتل والجارح والضارب فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ- 47- يعنى العاصين لله- عز وجل-. قوله سبحانه:
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ يا محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحَقِّ يعني القرآن بالحق لَمْ ننزله عبثا وَلا باطلا لغير شيء مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ يَقُولُ وشاهدًا عَلَيْه وذلك إن قرآن محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شاهد بأن الكتب التي أنزلت قبله «1» أنها من اللَّه- عَزَّ وجل- فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إليك فى القرآن وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ يعني أهواء اليهود عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ وهو القرآن لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً يعنى من المسلمين وأهل
__________
(1) فى أ، ل: الذي نزلت قبله.(1/481)
الكتاب «شِرْعَةً» يعني سنة وَمِنْهاجاً يعني طريقا وسبيلا فشريعة أَهْل التوراة فِي قَتْل العمد القصاص لَيْسَ لهم عقل «1» وَلا دية، والرجم عَلَى المحصن والمحصنة إذا زنيا. وشريعة الإنجيل في القتل العمد العفو لَيْسَ لهم قصاص وَلا دية، وشريعتهم فِي الزنا الجلد بلا رجم. وشريعة أمة محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- في قتل العمد القصاص والدية والعفو، وشريعتهم فِي الزنا: إذا لَمْ يحصن الجلد، فإذا أحصن فالرجم وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ [102 أ] يا أمة محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأهل الكتاب «2» أُمَّةً واحِدَةً عَلَى دين الْإِسْلام وحدها وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ يعني يبتليكم فِي مَا آتاكُمْ يعني فيما أعطاكم من الكتاب والسنة من يطع اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فيما أمر ونهى ومن يعصه فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ يَقُولُ سارعوا فِي الأعمال الصالحة «يا أمة محمد» «3» فيما ذُكِرَ مَن السبيل والسنة «4» إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فِي الآخرة أنتم وأهل الكتاب فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ- 48- من الدّين قوله- سُبْحَانَهُ-: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ إليك فِي الكتاب يعني بين اليهود وذلك أن قوما من رءوس اليهود من أَهْل النضير اختلفوا فَقَالَ بعضهم: لبعض انطلقوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه ونرده عما هُوَ عَلَيْه، فَإِنَّمَا هُوَ بشر إذن فيستمع، فأتوه فقالوا لَهُ: هَلْ لك أن تحكم لنا عَلَى أصحابنا أَهْل قريظة فِي أمر الدماء كَمَا كُنَّا عَلَيْه من قبل، فَإِن فعلت فإنا نبايعك ونطيعك، وإنا إذا بايعناك تابعك أَهْل الكتاب كلهم لأنا سادتهم «5» وأحبارهم فنحن نفتنهم ونزّلهم
__________
(1) العقل: هو أن تشترك أسرة القاتل فى سداد دية المقتول وتسمى الأسرة عاقلة لأنها تعقل عن الجاني جناية وتؤديها عنه.
(2) فى أزيادة: لجعلهم.
(3) من ل.
(4) فى أزيادة: فى الآخرة.
(5) فى أ: نقاوتهم، وفى تفسير ابن كثير: 2/ 67، سادتهم والقصة بتمامها فى تفسير ابن كثير.
وأسباب النزول للواحدي: 113. ولباب النقول فى أسباب النزول للسيوطي: 90.(1/482)
عما هُمْ عَلَيْه حَتَّى يدخلوا فِي دينك. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يحذر نبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ فى أمر الدماء وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ يعني أن يصدوك عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ من أمر الدماء بالسوية فَإِنْ تَوَلَّوْا يَقُولُ فَإِن أبوا حكمك فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ يعني أن يعذبهم فِي الدُّنْيَا بالقتل والجلاء من المدينة إلى الشام بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ يعني ببعض الدماء التي كَانَتْ بينهم من قبل أن يبعث محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ يعني رءوس اليهود لَفاسِقُونَ- 49- يعني لعاصون حين كرهوا حكم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أمر الدماء بالحق. فَقَالَ كَعْب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، وكعب بن أسيد للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا نرضى بحكمك. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ الَّذِي كانوا عَلَيْه «1» من الجور من قبل أن يبعث محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً يَقُولُ فلا أحد أحسن من اللَّه حكما لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ- 50- بالله- عز وجل-.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا نزلت فِي رجلين من الْمُسْلِمِين لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ قَالَ لما كَانَتْ وقعة أحد خاف ناس من الْمُسْلِمِين أن يدال الكفار عليهم فَقَالَ رَجُل منهم: أنا آتي فلانا «2» اليهودي فأتهود فإني أخشى أن يدال الكفار علينا، قَالَ الآخر: أما أنا فَإِنِّي آتي الشام فأتنصر فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ
__________
(1) فى أ: الذين كانوا عليها، ل: الذين كانوا عليه.
(2) فى أ: فلان.(1/483)
«1» [102 ب] وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ يعني من الْمُؤْمِنِين فَإِنَّهُ مِنْهُمْ يعني يلحق بهم ويكون معهم، لأن الْمُؤْمِنِين لا يتولون الكفار إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ- 51-.
ثُمّ ذكر أَنَّهُ «2» : إِنَّمَا يتولاهم المنافقون لأنهم وافقوهم عَلَى ما يقولون قَالَ- سُبْحَانَهُ-: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وهو الشك فهم المنافقون يُسارِعُونَ فِيهِمْ يعني فِي ولاية اليهود بالمدينة يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ يعني دولة اليهود عَلَى الْمُسْلِمِين وذلك أن نفرا من المنافقين: أربعة وثمانين رَجُلا منهم عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ، وأبو نَافِع، وأَبُو لبابة، قَالُوا: نتخذ عِنْد اليهود عهدا ونواليهم فيما بيننا وبينهم، فإنا لا ندري ما يَكُون فِي غد ونخشى ألّا ينصر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فينقطع الَّذِي بيننا وبينهم وَلا نصيب منهم قرضا وَلا ميرة فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ يعني بنصر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي يئسوا منه أَوْ يَأْتِيَ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ: قَتْل قريظة وجلاء النضير إلى أذرعات، فَلَمَّا رَأَى المنافقون ما لقي أَهْل قريظة والنضير ندموا عَلَى قولهم، قَالَ: فَيُصْبِحُوا عَلى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ- 52- فَلَمَّا أخبر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- نبيه- صَلَّى الله عليه وسلم- عن المنافقين أنزل «3»
__________
(1) أورد الواحدي فى أسباب النزول سببا آخر غير ما ذكره مقاتل، وقد سار السيوطي على طريق الواحدي، فذكر أنها نزلت فى عبد الله بن أبى سلول حين تشبث بحلف بنى قينقاع وقام دونهم بينما تبرأ عبادة بن الصامت إلى رسول الله من حلفهم. ففيه وفى عبد الله بن أبى نزلت الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ.
وأخرج هذا الأثر ابن إسحاق وابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي عن عبادة بن الصامت. انظر لباب النقول للسيوطي: 90.
(2) فى أ: ثم ذكر فقال.
(3) فى أ: نزلت.(1/484)
هذه الآية وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بعضهم لبعض أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ يعني المنافقين جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إذ حلفوا بِاللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فهو جهد «1» اليمين إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ عَلَى دينكم يعني المنافقين حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ يعني بطلت أعمالهم لأنها كَانَتْ فِي غَيْر اللَّه- عز وجل- فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ- 53- فى الدنيا قوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ وذلك حين هزموا يوم أحد شك أناس «2» من الْمُسْلِمِين فقالوا ما قَالُوا فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فارتد بعد وفاة رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بنو تميم وبنو حنيفة وبنو أسد وغطفان وأناس من كندة منهم الْأَشْعَث بن قَيْس فجاء اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بخير من الَّذِين ارتدوا: بوهب «3» بطن من كندة وبأحمس بجيلة وحضرموت «وطائفة من حِمْيَر» «4» وهمذان، أبدلهم مكان الكافرين ثُمّ نعتهم فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بالرحمة واللين أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يعني عليهم بالغلظة والشدة فسدد اللَّه «5» - عَزَّ وَجَلّ- بهم الدّين يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ العدو يعني فِي طاعة اللَّه وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ يَقُولُ وَلا يبالون غضب من غضب عليهم ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يعني دين الْإِسْلام يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ لذلك الفضل عَلِيمٌ- 54- لمن يؤتى الإسلام، وفيهم نزلت وَفِي الإبدال: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [103 أ] «6» . وقوله: - سُبْحَانَهُ- إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ- 55- وذلك
أن عَبْد اللَّه بن سلام وأصحابه قالوا للنبي-
__________
(1) فى أ: بجهد، ل: جهد. [.....]
(2) فى ل: ناس، أ: أناس.
(3) فى أ، ل: موهوب.
(4) من ل.
(5) فى أ: فشد، ل: فسدد.
(6) سورة محمد: 38.(1/485)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْد صلاة الأولى: إن اليهود أظهروا لنا العداوة من أجل الْإِسْلام وَلا يكلموننا وَلا يخالطوننا فِي شيء ومنازلنا فيهم وَلا نجد متحدثا دون هَذَا المسجد. فنزلت هَذِهِ الآية فقرأها النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا:
قَدْ رضينا بِاللَّه ورسوله وبالمؤمنين أولياء، وَجَعَل الناس يصلون تطوعا بعد المكتوبة. وذلك فِي صلاة الأولى «1» وخرج النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى باب المسجد فإذا هُوَ بمسكين قَدْ خرج من المسجد وَهُوَ يَحْمَد اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فدعاه النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: هَلْ أعطاك أحد شيئًا؟ قَالَ: نعم يا نَبِيّ اللَّه. قَالَ: من أعطاك؟ قَالَ: الرَّجُل القائم أعطانى خاتمه: يعنى على ابن أَبِي طَالِب- رضوان اللَّه عَلَيْه- فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَلَى أَيّ حال أعطاكه؟ قَالَ: أعطاني وَهُوَ راكع. فكبر النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقَالَ: الحمد للَّه الَّذِي خص عليا بهذه الكرامة. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَالَّذِينَ آمَنُوا، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ
وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا يعني عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب- رَضِيَ اللَّه عنه- فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ- 56- يعني شيعة اللَّه ورسوله والذين آمنوا هُم الغالبون فبدأ بعلي بن أبي طَالِب- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- قبل الْمُسْلِمِين ثُمّ جعل الْمُسْلِمِين
__________
(1) لا تطوع قبل الصبح بأكثر من سنته ولا تطوع فى الصبح إلى أن تطلع الشمس. وقد كان مقاتل شيعى زيدي فيؤخذ كلامه فى مدح على بتحفظ.
وفى تفسير المنار يذهب الشيخ محمد عبده إلى أن الآية عامة فى جميع المؤمنين يقصد قوله- تعالى-: وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ وقصرها على على يحتاج إلى سند صحيح.
لكن ورد فى أسباب النزول للواحدي: 114، روايات تؤيد ما ذهب إليه مقاتل وفى سندها ضعف. وأورد السيوطي فى الدر المنثور: 90، 91، روايات صحيحة عن عبد الرزاق وغيره تؤيد أن الآية نزلت في علي بن أبي طالب- رضي الله عنه.(1/486)
وأهل الكتاب الْمُؤْمِنِين: فيهم عَبْد اللَّه بن سلام وغيره هُم الغالبون لليهود، حين قتلوهم وأجلوهم «من المدينة» «1» إلى الشام: وأذرعات وأريحا، قوله- سبحانه-:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني المنافقين الَّذِين أقروا باللسان وليس الْإِيمَان فِي قلوبهم لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ الْإِسْلام هُزُواً وَلَعِباً يعني استهزاء وباطلا، وذلك أن المنافقين كانوا يوالون اليهود: فيتخذونهم أولياء، قال: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود مِنْ قَبْلِكُمْ لأنهم أعطوا التوراة قبل أمة محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: لا تتخذوهم أولياء وَلا تتخذوا الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ يعني كفار اليهود ومشركي العرب، ثُمّ حذرهم فَقَالَ: وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- 57- يعني إن كنتم مصدقين فلا تتخذوهم أولياء يعني كفار العرب حين، قَالَ عَبْد اللَّه بن أُبَيٍّ، وعبد اللَّه بن نتيل وأبو لبابة وَغَيْرُهُمْ من اليهود: لئن أخرجتم لنخرجن معكم، حين كتبوا إليهم، ثُمّ أخبر عن اليهود فَقَالَ- سُبْحَانَهُ- وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً يعنى [103 ب] استهزاء وباطلا وذلك أن اليهود كانوا إذا سمعوا الأذان ورأوا الْمُسْلِمِين قاموا إلى صلاتهم يقولون قَدْ قاموا لا قاموا، وإذا رأوهم ركعوا قَالُوا لا ركعوا وإذا رأوهم سجدوا ضحكوا وقالوا لا سجدوا واستهزءوا، يَقُولُ اللَّه- تعالى-: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ- 58- يَقُولُ لو عقلوا ما قَالُوا هَذِهِ المقالة قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ- 59-
قَالَ: أتى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أبو ياسر، وحيى ابن أخطب، ونافع بن أَبِي نَافِع وعازر بن أَبِي عازر، وخالد وزيد ابنا عمرو، وأزر بن أبى أزر، وأشبع، فسألوه عن من يؤمن به من الرسل؟ فقال رسول الله
__________
(1) زيادة من ل.(1/487)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «نؤمن بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بين أحد منهم ونحن له مسلمون» «1»
فَلَمَّا ذكر عِيسَى ابْن مريم جحدوا نبوته- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالوا: لا نؤمن بعيسى وَلا بمن آمن به. فأنزل اللَّه- عز وجل- هذه الآية: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ يعني صدقنا بِاللَّه بأنه واحد لا شريك له «وَ» صدقنا ب «ما أُنْزِلَ إِلَيْنا» يعني قرآن محمد- صلى الله عليه وسلم- «وَ» صدقنا ب «ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ» قرآن محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكتب التي أنزلها الله- عز وجل- على الأنبياء عليهم السلام «وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ» يعني عصاة، قَالَت اليهود للمؤمنين: ما نعلم أحدا من أَهْل هَذِهِ الأديان أقل حظا فِي الدُّنْيَا والآخرة منكم. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ يعنى المؤمنين مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ يعني ثوابا من عند اللَّه، قَالَت اليهود: من هُمْ يا محمد؟ فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى الله عليه وسلم-: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وهم اليهود وَغَضِبَ عَلَيْهِ فَإِن لَمْ يقتل أقر بالخراج وغضب عَلَيْه وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ القردة فِي شأن الحيتان «2» والخنازير «3» فِي شأن المائدة.
__________
(1) فى أ: نؤمن بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إلى إبراهيم ... إلى قوله ... مسلمون وهو يشير إلى الآية 136 من سورة البقرة وتمامها قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ. والمثبت من ل.
(2) الحيتان هي: الأسماك التي نهوا عن صيدها يوم السبت فاصطادوها بالحيلة فقال لهم الله:
كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ.
(3) وأما المائدة فقد طلبها عيسى من السماء واشترط عليهم الإيمان بالله وألا يرفعوا شيئا منها فأكلوا منها ثم كفروا ورفعوا من المائدة فدعا عليهم عيسى: أن يلعنهم الله كما لعن أصحاب السبت، فمسخهم الله خنازير.(1/488)
وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فيها تقديم وعبد الطاغوت يعني ومن عَبْد الطاغوت وَهُوَ الشَّيْطَان أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً فِي الدُّنْيَا يعني شر منزلة وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ- 60- يعني وأخطأ عن قصد الطريق من الْمُؤْمِنِين فَلَمَّا نزلت هَذِهِ الآية عيرت اليهود فقالوا لهم: يا إخوان القردة والخنازير. فنكسوا رءوسهم وفضحهم اللَّه- تَعَالَى- وجاء أَبُو ياسر بن أخطب، وكعب بن الأشرف «1» ، وعازر بن أَبِي عازر ونافع بن أَبِي نَافِع، ورافع بن ابى حريملة، هم رؤساء اليهود حَتَّى دخلوا عَلَى رسول اللَّه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: قَدْ صدقنا بك يا محمد لأنا نعرفك «2» ونصدقك ونؤمن بك. ثُمّ خرجوا من عنده بالكفر غَيْر أنهم أظهروا الْإِيمَان فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فيهم وَإِذا جاؤُكُمْ اليهود قالُوا آمَنَّا يعني صدقنا بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأنهم دخلوا عَلَيْه وهم يسرون الكفر [104 أ] وخرجوا من عنده بالكفر، فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ
يعني بالكفر مقيمين عَلَيْه وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ- 61- يعني بما يسرون فِي قلوبهم من الكفر بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نظيرها فِي آل عِمْرَانَ «3» ثُمّ أخبر عَنْهُمْ فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ يعني المعصية وَالْعُدْوانِ يعني الظلم وَهُوَ الشرك وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ يعني كَعْب بن الأشرف لأنه كان يرشي فِي الْحُكْم ويقضي بالجور لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ- 62- ثُمّ عاتب اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الربانيين والأحبار
__________
(1) فى أ: أشرف.
(2) فى أ: لا نعرفك، ل: نعرفك.
(3) تشير الآيتين 118، 119 فى سورة آل عمران وهما: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.(1/489)
فَقَالَ: لَوْلا يعني فهلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ يعني بالربانيين المتعبدين والأحبار يعني القراء الفقهاء أصحاب القربان من وَلَدِ هَارُون- عَلَيْه السَّلام- وكانوا رءوس اليهود عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ يعني الشرك وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ يعني الرشوة فِي الحكم لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ- 63- حين لَمْ ينهوهم فعاب من أكل السحت: الرشوة فِي الْحَكَم، وعاب الربانيين الَّذِين لَمْ ينهوهم عن أكله.
وَقالَتِ الْيَهُودُ يعني ابْن صوريا وفنحاص اليهوديين وعازر بن أَبِي عازر يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ يعني ممسكة أمسك اللَّه يده عنا فلا يبسطها علينا بخير وليس بجواد وذلك أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بسط «1» عليهم فِي الرزق فَلَمَّا عصوا واستحلوا ما حرم عليهم أمسك عَنْهُم الرزق، فقالوا عِنْد ذَلِكَ يد اللَّه محبوسة عن البسط يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ يعني أمسكت أيديهم عن الخير وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ بالخير يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ إن شاء وسع فِي الرزق وإن شاء قتر، هُمْ خلقه وعبيده فِي قبضته، ثُمّ قال: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ يعني اليهود من بني النضير مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني أمر الرجم والدماء ونعت محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طُغْياناً وَكُفْراً بالقرآن يعني جحودا به «2» وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ يعني اليهود والنصارى، شر ألقاه- عَزَّ وَجَلّ- بينهم الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ يعني يبغض بعضهم بعضا ويشتم بعضا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فلا يحب اليهودي النَّصْرانُّي وَلا النَّصْرانُّي اليهودي كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ يعني كلما أجمعوا أمرهم عَلَى مكر بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أمر الحرب فرقه اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وأطفأ نار مكرهم فلا يظفرون بشيء أبدا وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يعني يعملون فيها بالمعاصي وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ- 64- يعنى العاملين
__________
(1) فى أ: يبسط. [.....]
(2) فى أ: جحدوا به، ل: جحودا به.(1/490)
بالمعاصي. وقوله- سبحانه-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ) يعني اليهود والنصارى آمَنُوا يعني صدقوا بتوحيد الله وَاتَّقَوْا الشرك لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يعني لمحونا عَنْهُمْ ذنوبهم وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ- 65-[104 ب] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ فعملوا بما فيهما من أمر الرجم والزنا «1» وغيره وَلَم يحرفوه عن مواضعه فِي التوراة التي أنزلها اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فأما فِي الإنجيل فنعت محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «وأما فِي التوراة فنعت محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» «2» - والرجم والدماء وغيرها، وَلَم يحرفوها عن مواضعها، وَأقاموا ب ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ فِي التوراة والإنجيل من نعت محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن إيمان بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَم يحرفوا نعته لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ يعنى المطر وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ يعني من الأرض: النبات ثُمّ قَالَ- عَزَّ وجل- مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ يعني عصبة عادلة فِي قولها من مؤمني أَهْل التوراة والإنجيل، فأمّا أَهْل التوراة فعبد اللَّه بن سلام وأصحابه وأمّا أَهْل الإنجيل فالذين كانوا عَلَى دين عِيسَى ابن مريم- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم اثنان وثلاثون رَجُلا، ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يعني من أَهْل الكتاب يعني كفارهم ساءَ مَا يَعْمَلُونَ- 66- يعنى بئس ما كانوا يعملون. قوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ يعنى محمدا- صلي اللَّه عَلَيْه وسلم- مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وذلك
أن النبي- صلى الله عليه وسلم- دعا اليهود إلى الإسلام فأكثر الدعاء فجعلوا يستهزئون ويقولون «أتريد يا محمد أن نتخذك حنانا، كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم حنانا» «3» فَلَمَّا رَأَى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
__________
(1) فى ل: والدماء، وفى أ: والزنا.
(2) ما بين الأقواس « ... » زيادة من ل
(3) فى أ: تريد يا محمد أن نتخذك حنانا، والمثبت من ل.(1/491)
«ذلك» «1» سكت عَنْهُمْ فحرض اللَّه يعني فحضض الله- عز وجل- النبي- صلى الله عليه وَسَلَّمَ- عَلَى الدعاء إلى اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وألا يمنعه «2» ذَلِكَ تكذيبهم إياه واستهزاؤهم فَقَالَ: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «3» وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
يعني من اليهود فلا تُقتل إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ- 67- يعني اليهود، فَلَمَّا نزلت هَذِهِ الآية أمن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من القتل والخوف فَقَالَ: لا أبالي من خذلني ومن نصرني «4» . وذلك أنه كان خشي أن تغتاله اليهود فتقتله، ثُمّ أخبره ماذا يبلغ؟ فقال- تعالى-: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ يعنى اليهود والنصارى لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ من أمر الدّين حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يَقُولُ حَتَّى تتلوهما حق تلاوتهما كَمَا أنزلهما الله- عز وجل- وَتقيموا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ «5» من أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلا تحرفوه عن مواضعه، فهذا الَّذِي أمر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أن يبلغ «6» أَهْل الكتاب.
وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني ما فِي القرآن من أمر الرجم والدماء طُغْياناً وَكُفْراً يعني وجحودا بالقرآن فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ يعنى
__________
(1) ذلك: زيادة من ل.
(2) فى أ: ولا يمتعه، ل: وألا يمنعه.
(3) فى أ: إلى قوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وقد نقلت الآية حتى يتم نقلها كما هي فى المصحف.
(4) ورد ذلك فى لباب النقول للسيوطي: 92- 93، وبه عدة روايات أخرى فى أسباب نزول الآية.
كذلك أورد الواحدي فى أسباب النزول: 115، ما أورده مقاتل فى التفسير، وزاد الواحدي روايات أخرى على ما ذكره مقاتل.
(5) فى أ: «ما أنزله الله إليكم» .
(6) فى أ: يتبع، ل: يبلغ.(1/492)
فلا تحزن يا محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى القوم الْكافِرِينَ- 68- يعني أَهْل الكتاب إذ كذبوك بما تقول. قوله- سُبْحَانَهُ-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا يعني الَّذِين صدقوا وَالَّذِينَ هادُوا يعني اليهود وَالصَّابِئُونَ هُمْ قوم من النصارى صبأوا إلى دين نوح وفارقوا هَذِهِ الفرق الثلاث وزعموا أنهم عَلَى دين نوح- عَلَيْه السَّلام- وأخطأوا لأن دين نوح- عَلَيْه السَّلام- كان عَلَى دين الْإِسْلام «1» .
وَالنَّصارى إِنَّمَا سموا نصارى لأنهم ابتدعوا هَذَا الدّين بقرية تسمى ناصرة، قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: مَنْ آمَنَ من هؤلاء بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً وأدى الفرائض من قبل أن يبعث محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَه الجنة ومن بقي منهم إلى أن يبعث محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا إيمان لَهُ إِلَّا أن يصدق بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمنْ صدق بِاللَّه- عَزَّ وَجَلّ- أَنَّهُ واحد لا شريك لَهُ وبما جاء به محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالبعث الَّذِي فِيهِ جزاء الأعمال فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب
__________
(1) الصابئة قوم من أصحاب الديانات القديمة غلب عليهم الحياء والكتمان وقد تعرفت بعدد منهم فى العراق، ورأيت فيهم حبا للتأله والتدين، وقد انقرضت هذه الطائفة تدريجيا، وقد اختلف العلماء والمؤرخون فى حقيقة أمرهم:
ففريق ردهم إلى ديانة بابل وآشور، وهي من أقدم الديانات الوثنية لأن أساسها عبادة النجوم.
وفريق آخر قال إنهم فرقة من المجوس والنصارى. والحق أنهم ليسوا من المسيحية فى شيء، لأن المسيحي من آمن بألوهية السيد المسيح والصابئى لا يؤمن بذلك. وهم قوم يؤلهون الكواكب ويعبدون النجوم.
قال الإمام فخر الدين الرازي: «الصابئة قوم يقولون إن مدبر هذا العالم وخالقه هذه الكواكب السبعة فهم عبدة النجوم» . أما الزمخشري فقد ذهب فى تفسيره الكشاف إلى أنهم قوم عدلوا عن دين النصارى واليهود وعبدوا الملائكة.(1/493)
وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ- 69- من الموت. قوله- سُبْحَانَهُ-: لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ فِي التوراة عَلَى أن يعملوا بما فيها وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا يعني وأرسل اللَّه- تَعَالَى- إليهم رسلا كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ يعني اليهود فَرِيقاً كَذَّبُوا يعني اليهود فريقا كذبوا عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومحمدا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ- 70- يعني اليهود كذبوا بطائفة من الرسل وقتلوا طائفة من الرسل يعني زَكَرِيّا ويحيى فِي بني إِسْرَائِيل.
قوله- عَزَّ وَجَلّ-: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ يعني اليهود حسبوا ألا يكون شرك وَلا يبتلوا وَلا يعاقبوا بتكذيبهم الرسل وبقتلهم الْأَنْبِيَاء: أن لا يبتلوا بالبلاء والشدة من قحط المطر فَعَمُوا عن الحق فلم يبصروه وَصَمُّوا عن الحق فلم يسمعوه ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يَقُولُ تجاوز عَنْهُمْ فرفع عَنْهُم البلاء فلم يتوبوا بعد رفع البلاء ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ- 71- من قتلهم الْأَنْبِيَاء وتكذيبهم الرسل. قوله- عَزَّ وَجَلّ-: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ «1» نزلت فى نصارى نجران المار يعقوبيين منهم السيد والعاقب وغيرهما قَالُوا إن اللَّه هو المسيح ابن مريم وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ يعني وحدوا اللَّه ربي وربكم إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فيقول إن اللَّه هُوَ المسيح ابْن مريم فيموت عَلَى الشرك فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ يعني وما للمشركين مِنْ أَنْصارٍ- 72- يعني من مانع يمنعهم من النار لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ يعنى الملكانيين قالوا: الله
__________
(1) فى أ، ل: هو الله المسيح ابن مريم.(1/494)
والمسيح ومريم «1» يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- تكذيبا لقولهم وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ من الشرك لَيَمَسَّنَّ يعني ليصيبن الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ- 73- يعني وجيع والقتل بالسيف والجزية عَلَى من بقي منهم عقوبة، ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ- يعيبهم: أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ يعني أفهلا يتوبون إلى اللَّه وَيَسْتَغْفِرُونَهُ من الشرك فَإِن فعلوا «غفر لهم» «2» وَاللَّهُ غَفُورٌ لذنوبهم رَحِيمٌ- 74- بهم. ثُمّ أخبر عن عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- فقال- سبحانه-[105 ب] : مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ يعني مؤمنة كقوله- سُبْحَانَهُ-: إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا «3» يعني مؤمنا نبيا. وذلك حين قَالَ لها جبريل- عليه السلام- إِنَّما أَنَا
«4» سُولُ رَبِّكِ «5» وَفِي بطنك المسيح فآمنت بجبريل- عَلَيْه السَّلام- وصدقت بالمسيح ابْن مريم- عَلَيْه السَّلام- ثُمّ سميت الصديقة وهي يومئذ فِي محراب بيت المقدس كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ فلو كانا إلهين ما أكلا الطعام انْظُرْ يا محمد كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ يعني العلامات فِي أمر عِيسَى ومريم أنهم كانا يأكلان الطعام والآلهة لا تأكل الطعام «6» ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ- 75- يعني من أَيْنَ يكذبون فأعلمهم أني واحد قُلْ لنصارى نجران أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني عِيسَى مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا فِي الدُّنْيَا وَلا نَفْعاً فِي الآخرة وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لقولهم إن اللَّه هُوَ المسيح ابن مريم
__________
(1) فى ل: الله المسيح ومريم، أ: الله والمسيح ومريم.
(2) زيادة اقتضاها السياق. [.....]
(3) سورة مريم: 56.
(4) فى أ: إنى أنا.
(5) سورة مريم: 19.
(6) فى أ: وألا يأكل الطعام. وفى حاشية أ: والإله لا يأكل الطعام.. محمد. وفى ل:
والآلهة لا تأكل الطعام.(1/495)
وثالث ثلاثة الْعَلِيمُ- 76- بمقالتهم. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني نصارى نجران لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ عن دين الْإِسْلام فتقولوا غَيْرَ الْحَقِّ فِي عِيسَى ابن مريم وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا عن الهدى مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا عن الهدى كَثِيراً من الناس وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ- 77- يعني وأخطأوا عن قصد سبل الهدى نزلت فى برصيصا. لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اليهود مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ يعني من سِبْط بني إِسْرَائِيل عَلى لِسانِ داوُدَ ابن أنيشا «1» وذلك أنهم صادوا الحيتان يوم السبت، وكانوا قَدْ نهوا عن صيد الحيتان يوم السبت، قَالَ دَاوُد: اللَّهُمَّ إن عبادك قَدْ خالفوا أمرك وتركوا أمرك فاجعلهم آية ومثلا لخلقك. فمسخهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- قردة، فهذه لعنة داود- عليه السلام- وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وأما لعنة عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنهم أكلوا المائدة ثُمّ كفروا ورفعوا من المائدة، فَقَالَ عِيسَى: اللَّهُمَّ إنك وعدتني أن من كفر منهم بعد ما يأكل من المائدة أن تعذبه عذابا لا تعذبه أحدا من العالمين، اللَّهُمَّ العنهم كَمَا لعنت أصحاب السبت.
فكانوا خمسة آلاف فمسخهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- خنازير لَيْسَ فيهم امرأة ولا صبي ذلِكَ بِما عَصَوْا فِي ترك أمره وَكانُوا يَعْتَدُونَ- 78- فِي دينهم كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ- 79- حين لَمْ ينهوهم عن المنكر ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ «يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» «2» يعني من قريش «3» لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ لأنهم ليسوا بأصحاب كتاب أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ- 80- وَلَوْ كانُوا يعنى
__________
(1) فى ل: أنسا، فى أ: غير معجمة النون والباء وعلى الشين ثلاث نقط.
(2) ما بين الأقواس « ... » ساقط من أ، ل.
(3) المراد أن اليهود يتولون كفار قريش.(1/496)
والمقداد بن الأسود، وأَبُو ذر الغفاري، وسلمان الفارسي، وحذيفة ابن اليمان، وسالم مَوْلَى أَبِي حُذَيْفة ورجل آخر «1» اجتمعوا فِي بيت عُثْمَان بن مَظْعُون- رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ- ثُمّ قَالُوا: تعالوا حَتَّى نحرم عَلَى أنفسنا الطعام واللباس والنساء، وأن يقطع بعضهم مذاكيره ويلبس المسرح ويبنوا الصوامع فيترهبوا فيها فتفرقوا وهذا رأيهم.
فجاء جبريل- عَلَيْه السَّلام- فأخبر النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِك فأتى منزل عُثْمَان بن مَظْعُون- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- فلم يجدهم فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لامرأة عُثْمَان: أحق ما بلغني عن عُثْمَان وأصحابه؟ قَالَتْ: وما هُوَ يا رَسُول اللَّهِ؟ فأخبرها النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي بلغه، فكرهت أن تكذب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ تفشي سر زوجها. فقالت: يا رَسُول اللَّهِ، إن كان عُثْمَان أخبرك بشيء فقد صدقك أَوْ أخبرك اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- بشيء فهو كَمَا أخبرك ربك- تَعَالَى ذكره. فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قولي لزوجك إذا جاء: إنَّه لَيْسَ مني من لَمْ يستن بسنتي ويهتد بهدينا ويأكل من ذبائحنا فَإِن من سنتنا: اللباس والطعام والنساء، فأعلمي زوجك، وقولي لَهُ: من رغب عن سنتي فَلَيْس مني، فَلَمَّا رجع عُثْمَان وأصحابه أخبرته امرأته بقول النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَمَا أعجبه فذروا الَّذِي ذكره النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله- عز وجل-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ
وَلا تَعْتَدُوا فتحرموا حلاله إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ- 87- من يحرم حلاله ويعتدى
__________
(1) ورد فى أسباب النزول للواحدي: 117، هذه القصة وذكر العشرة وهم: أبو بكر الصديق وعلى بن أبى طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمر، وأبو ذر الغفاري، وسالم مولى أبى حذيفة، والمقداد بن الأسود، وسلمان الفارسي، ومعقل بن مضر.
كما وردت هذه القصة فى لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطي.(1/499)
فِي أمره- عَزَّ وَجَلّ- وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً اللباس والنساء والطعام وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تحرموا ما أحل اللَّه لَكُمْ واتقوا اللَّه الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ- 88- يقول الذي أنتم به مصدقون. قوله- سُبْحَانَهُ-:
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَهُوَ الرَّجُل يحلف عَلَى أمر وَهُوَ يرى أَنَّهُ فِيهِ صادق وَهُوَ كاذب فلا إثم عَلَيْه وَلا كفارة وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ يَقُولُ بما عقد عَلَيْه قلبك فتحلف وتعلم أنك كاذب فَكَفَّارَتُهُ يعنى فكفارة هَذَا اليمين الَّذِي عقد عَلَيْهَا قلبه وَهُوَ كاذب إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ لكل مسكين نصف صاع حنطة مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ يعني من أعدل ما تطعمون أَهْلِيكُمْ من الشبع نظيرها فِي البقرة جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «1» يعني عدلا قَالَ- سُبْحَانَهُ- فِي ن: قالَ أَوْسَطُهُمْ «2» يعني أعدلهم يَقُولُ لَيْسَ بأدنى ما تأكلون وَلا بأفضله، «3» ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: أَوْ كِسْوَتُهُمْ [107 أ] يعنى كسوة عشرة مساكين لكل مسكين عبادة أو ثوب أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ما «سواء أكان المحرر» «4» يهوديا أَوْ نصرانيا أَوْ مجوسيا أَوْ صابئيا فهو جائز وَهُوَ بالخيار فِي الرقبة أَو الطعام أَو الكسوة فَمَنْ لَمْ يَجِدْ من هَذِهِ الخصال الثلاث شيئًا فَصِيامُ «5» ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وهي فِي قراءة ابْن مَسْعُود متتابعات ذلِكَ الَّذِي ذكر اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ فلا تتعمدوا اليمين الكاذبة كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ- 89- ربكم فِي هَذِهِ النعم إذ جعل لَكُمْ مخرجا فِي أيمانكم فيما ذكر فِي الكفارة قوله- سبحانه-:
__________
(1) سورة البقرة: 143.
(2) سورة القلم: 28.
(3) أى من وسط ما تأكلون.
(4) زيادة اقتضاها الكلام.
(5) فى أ: فليصم، وفى حاشية أ: التلاوة فصيام.(1/500)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ نزلت فِي سعد بن أَبِي وَقَّاص- رَضِيَ اللَّه عَنْهُ- وَفِي رَجُل من الأنصار يُقَالُ لَهُ عتبان بن مَالِك الأنصاري، وذلك أن الْأَنْصَارِيّ صنع طعاما وشوى رأس بعير ودعا سعد بن أبي وَقَّاص إلى الطعام وهذا قبل التحريم فأكلوا وشربوا حَتَّى انتشوا وقالوا الشعر، فقام الْأَنْصَارِيّ إلى سعد فأخذ إحدى لحيي البعير فضرب به وجهه فشجه فانطلق سعد مستعديا إلى رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنزل تحريم الخمر، فَقَالَ- سُبْحَانَهُ- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ «1» يعني به القمار كله وَالْأَنْصابُ يعني الحجارة التي كانوا ينصبونها ويذبحون لها وَالْأَزْلامُ يعني القدحين الَّذِين كانوا يعملون بهما رِجْسٌ يعني إثم مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ يعني من تزيين الشَّيْطَان ومثله فِي القصص قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ «2» فَاجْتَنِبُوهُ فهذا النهي للتحريم «3» ، كَمَا قَالَ- سُبْحَانَهُ-: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «4» فَإنَّهُ حرام:
كذلك فاجتنبوا الخمر فَإِنَّهَا حرام لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ- 90- يعني لكي إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ يعني أن يغري بينكم العداوة وَالْبَغْضاءَ الَّذِي كان بين سعد وَبَيْنَ الْأَنْصَارِيّ حَتَّى كسر أنف سعد فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ورث ذَلِكَ العداوة والبغضاء وَيريد الشَّيْطَان أن يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ يَقُولُ إذا سكرتم لَمْ تذكروا اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَعَنِ الصَّلاةِ يَقُولُ إذا سكرتم لَمْ تصلوا فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ- 91- فهذا وعيد بعد النهي والتحريم قَالُوا انتهينا يا ربنا.
فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-: «يا أيها الذين آمنوا إن الله حرم عليكم
__________
(1) ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي: 118، وساق رواية أخرى طويلة فى سبب نزول الآية، وأورد السيوطي فى لباب النقول: 96 عدة روايات فى أسباب نزول هذه الآية وما بعدها. [.....]
(2) سورة القصص: 15.
(3) فى أ: والتحريم.
(4) سورة الحج: 30.(1/501)
الخمر فَمنْ كان عنده منها شيء فلا يشربها وَلا يبيعها وَلا يسقيها غيره» .
قَالَ «1» : وقَالَ أَنَس بن مَالِك لَقَدْ نزل تحريم الخمر وما بالمدينة يومئذ خمر إِنَّمَا كانوا يشربون الفصيح «2» . وأما الميسر فهو القمار وذلك أن الرَّجُل فِي الْجَاهِلِيَّة كان يَقُولُ أَيْنَ أصحاب الجزور فيقوم نفر فيشترون بينهم جزورا فيجعلون لكل رَجُل منهم سهم ثُمّ يقرعون فمن خرج سهمه [107 ب] برىء من الثمن وَلَهُ نصيب فِي اللحم حَتَّى يبقى آخرهم فيكون عَلَيْه الثمن كله وليس لَهُ نصيب فِي اللحم وتقسم الجزور بين البقية بالسوية. وأمّا الأزلام فهي القداح التي كانوا يقتسمون الأمور بها:
قد حين مكتوب عَلَى أحدهما: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي فإذا أرادوا أمرا أتوا بيت الأصنام فغطوا عَلَيْه ثوبا ثُمّ ضربوا بالقداح فَإِن خرج أمرني ربي مضى عَلَى وجهه الَّذِي يريد، وإن خرج نهاني ربي لَمْ يَخْرُج فِي سفره، وكذلك كانوا يفعلون إذا شكوا فِي نسبة رَجُل، وأمّا الأنصاب فهي الحجارة التي كانوا ينصبونها حول الكعبة وكانوا يذبحون لها، ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-:
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فِي تحريم الخمر والميسر والأنصاب والأزلام إلى آخر الآية وَاحْذَرُوا معاصيهما فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ يعني أعرضتم عن طاعتهما فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْبَلاغُ الْمُبِينُ- 92- فِي تحريم ذَلِكَ. فَلَمَّا نزلت هَذِهِ الآية فِي تحريم الخمر قَالَ حيي بن أخطب وأَبُو ياسر وكعب بن الأشرف للمسلمين: فَمَا حال من مات منكم وهم يشربون الخمر؟ فذكروا «3» ذَلِكَ للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقالوا: إن إخواننا ماتوا وقتلوا وَقَدْ كانوا
__________
(1) أى قال مقاتل.
(2) فى أ: الفضيخ.
(3) فى أ: فذكر.(1/502)
يشربونها فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ يعني حرج فِيما طَعِمُوا يعني شربوا من الخمر قبل التحريم «1» إِذا مَا اتَّقَوْا المعاصي وَآمَنُوا بالتوحيد وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «يعني أقاموا الفرائض» «2» قبل التحريم ثُمَّ اتَّقَوْا المعاصي وَآمَنُوا بما يجيء من الناسخ والمنسوخ «ثُمَّ اتَّقَوْا» المعاصي بعد تحريمها «وَآمَنُوا» يعني وصدقوا ثُمَّ اتَّقَوْا الشرك وَأَحْسَنُوا العمل بعد تحريمها فَمنْ فعل ذَلِكَ فهو محسن وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ- 93-
فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للذي سأله: قيل لي إنك من المحسنين.
وقوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ يعني ببعض الصيد فخص صيد البر خاصة ولم يعم الصيد كله لأن للبحر صيدا «3» تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ يَقُولُ تأخذون صغار الصيد بأيديكم أخذا بغير سلاح ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَرِماحُكُمْ يعني وسلاحكم النبل والرماح بها يصيبون كبار الصيد وَهُوَ عام حبس النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن مكة عام الحديبية وأقام بالتنعيم فصالحهم عَلَى أن يرجع عامه ذَلِكَ وَلا يدخل مكة فإذا كان العام المقبل أخلوا لَهُ مكة فدخلها فِي أصحابه- رَضِيَ اللَّه عَنْهم- وأقام بها ثلاثا «4» ورضي النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِك فنحر البدن مائة بدنة فجاءت السباع والطير تأكل منها فنهى اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عن قَتْل الصيد فِي الحرم لِيَعْلَمَ اللَّهُ لكي يرى اللَّه مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ [108 أ] يقول من يخاف الله-
__________
(1) فى أ: زيادة: إذا ماتوا، ثم وضع فوقها خطا.
(2) ما بين القوسين « ... » ساقط من الأصل.
(3) فى أ: لأن التحريم صيدا، ل: لأن للبحر صيدا.
(4) فى أ: ثلثا.(1/503)
عَزَّ وَجَلّ- وَلَم يره فلم يتناول الصيد وهو محرم فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ يَقُولُ فَمنْ أخذ الصيد عمدا بعد النهي، فقتل الصيد وَهُوَ محرم فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ- 94- يعني ضربا وجيعا ويسلب ثيابه ويغرم الجزاء، وحكم ذَلِكَ إلى الْإِمَام، فهذا العذاب الأليم قوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وذلك أن أبا بشر واسمه: عمرو بن مَالِك الْأَنْصَارِيّ كان محرما فِي عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت فِيهِ لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً لقتله ناسيا لإحرامه»
فَجَزاءٌ يعني جزاء الصيد مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يعني من الأزواج الثمانية إن كان قَتَل عمدا أَوْ خطأ أَوْ أشار إلى الصيد فأصيب فعليه الجزاء يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ يعنى يحكم بالكفارة رجلان من الْمُسْلِمِين عدلين فقيهين يحكمان فِي قاتل الصيد جزاء مثل ما قَتَل من النعم إن قَتَل حمار وحش أَوْ نعامة ففيها بعيرا بنحره بمكة: يطعم المساكين وَلا يأكل هُوَ وَلا أحد من أصحابه وإن كان من ذوات القرون: الأيل «2» والوعل ونحوهما فجزاؤه أن يذبح بقرة
__________
(1) جاء فى حاشية أما يأتى:
قال الهذيل: حدثني من سمع عطاء يقول: العمد والخطأ فيه سواء ثم قال- عز وجل-:
«ومن قتله منكم متعمدا» أهـ.
أقول: فيكون قوله- سبحانه-: «وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً» حكاية للواة؟؟؟ الذي حصل من عمرو ابن مالك. لا تخصيصا له.
كما فى قوله- سبحانه- وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً فالإكراه على البغاء محرم سواء أرادت الأمة إحصان نفسها وحفظ فرجها أو لم ترد.
فالآية كانت تحكى واقعا عند العرب وهو أن يكره السيد أمته على البغاء طمعا فى كسبها، بينما الأمة راغبة فى العفة والبعد عن الخبيث كما أن هذا أبلغ فى التنفير من الإكراه على البغاء.
(2) فى أ: الإبل.(1/504)
للمساكين وفى الطير ونحوها جزاؤه أن يذبح شاة مسنة «1» وَفِي الحمام شاة وَفِي بيض الحمام إذا كان فِيهِ فرخ دِرْهَم وإن لَمْ يَكُنْ فِيهِ فرخ فنصف دِرْهَم وَفِي وَلَد الحمار الوحش وَلَد بعير مثله، وَفِي وَلَد النعامة وَلَد بعير مثله، وَفِي وَلَد الأيل والوعل ونحو وَلَد بقرة مثله وفى فرخ الحمام ونحوه وَلَد شاة مثله وَفِي وَلَد الظبي «وَلَد» «2» شاة مثله هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ يعني ينحر بمكة كقوله- سُبْحَانَهُ- فِي الحج «ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ» «3» تذبح بأرض الحرم فتطعم مساكين مكة أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ لكل مسكين نصف صاع حنطة أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً يَقُولُ إن لَمْ يقدر عَلَى الهدي وَلا عَلَى ثمنه «وَلا عَلَى إطعام المساكين» «4» فليصم مكان كُلّ مسكين يومًا ينظر ثمن الهدي فيجعله دراهم. ثم ينظركم يبلغ الطعام بتلك الدراهم بسعر مكة فيصوم مكان كُلّ مسكين يومًا وبكل مسكين نصف صاع حنطة «5» . لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ
__________
(1) المسنة «من البقر» هي التي أكملت سنة ودخلت فى الثانية وقالت المالكية: المسنة ما أوفت ثلاث سنين ودخلت فى الرابعة. الفقه على المذاهب الخمسة: 216. ط 2- بيروت.
وفى الاختيار للحنفية المسنة من البقر هي التي طعنت فوق الثالثة: 1/ 107، ويجزئ فى الأضحية الثنى من الكل وهو من الغنم ما له سنة ومن البقر ما له سنتان ومن الإبل خمس سنين: 5/ 18، (فالشاة المسنة هي التي طعنت فى الثانية) .
(2) ولد: ساقط من أ، ومثبت فى ل. [.....]
(3) سورة الحج: 33.
(4) فى أ: أن يطعم المساكين، فى ل: أو يطعم المساكين.
(5) يمكن تقريب المسألة على هذا النحو.
الشاة ثمنها: 300 قرشا (فرضا أو 3000 فلسا) .
ثمن كيلوا الأرز: 10 قروش أو 100 فلس) .
(الصاع 3 كيلو) ثمن الصاع من الأرز: 30 قرشا.
ثمن نصف الصاع: 15 قرشا.
عدد أنصاف الأصوع المشتراة بثمن الشاة هو:
300 قرش 15 20 نصف صاع.
عدل ثمن الشاة صباها؟؟؟ هو 20 يوما.(1/505)
يعني جزاء ذنبه يعني الكفارة عقوبة لَهُ بقتله «الصيد» «1» عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ يَقُولُ عفا اللَّه عما كان منه قبل التحريم يَقُولُ تجاوز اللَّه عما صنع فِي قتله الصيد متعمدا قبل نزول هَذِهِ الآية وَمَنْ عادَ بعد النهي إلى قتل الصيد فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ بالضرب والفدية وينزع ثيابه وَاللَّهُ عَزِيزٌ يعني منيع فِي ملكه ذُو انْتِقامٍ- 95- من أَهْل معصيته فيمن قَتَل الصيد.
نزلت هَذِهِ الآية «قبل الآية» «2» الأولى: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ «3» [108 ب] ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ-: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ يعني السمك الطري وشيء يفرخ فِي الماء لا يفرخ فِي غيره فهو للمحرم حلال، ثُمّ قَالَ: وَطَعامُهُ يعني مليح «4» السمك مَتاعاً لَكُمْ يعني منافع لَكُمْ يعني للمقيم وَلِلسَّيَّارَةِ يعني للمسافر وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً يعني ما دمتم محرمين وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تستحلوا الصيد فِي الإحرام ثُمّ حذرهم قَتْل الصيد، فقال- سبحانه-: الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ «5» - 96- فى الآخرة فيجزيكم بأعمالكم. قوله- سبحانه-:
__________
(1) ساقطة من أ، ومثبتة فى ل.
(2) زيادة من ل.
(3) أى أن الآية: 95 من سورة المائدة نزلت قبل الآية 94 من سورة المائدة والآية (94) (الأولى) هي التي ذكر فيها «فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ» .
وبرغم أن (95) نزلت قبل (94) إلا أنها فى ترتيب المصحف كتبت (94) أولا وبعدها (95) .
وما أكثر الآيات التي تقدمت نزولا وتأخرت ترتيبا فترتيب المصحف توقيفى تلقاه النبي (ص) عن جبريل عن رب العزة.
وكانت إذا نزلت آية جديدة يقول النبي (ص) اكتبوها فى سورة كذا فى مكان كذا.
وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى.
(4) فى ل: ملح، أ: قليح.
(5) فى حاشية أ، فى الأصل واعلموا أنكم إليه تحشرون.(1/506)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ أنها سميت الكعبة لأنها منفردة من البنيان وكل منفرد من البنيان فهو فِي كَلام العرب الكعبة. قَالَ أَبُو محمد: قَالَ ثعلب: العرب تسمى كُلّ بيت مربع الكعبة قِياماً لِلنَّاسِ يعني أرض الحرم أمنا لهم وحياة لهم فِي الْجَاهِلِيَّة.
قَالَ: كان أحدهم إذا أصاب ذنبا أَوْ أحدث حدثا يخاف عَلَى نفسه دخل الحرم فأمن فِيهِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ قال: كان الرجل إذا أراد سفرا نظر فِي أمره فَإِن كان السَّفَر الَّذِي يريده يعلم أنه يذهب ويرجع قبل أن يمضي الشهر الحرام توجه آمنا، وَلَم يقلد نفسه وَلا راحلته، وإن كان يعلم أنه لا يقدر عَلَى الرجوع حَتَّى يمضي الشهر الحرام قلد نفسه وبعيره من لحا شجر الحرم فيأمن به حيث ما توجه من البلاد، فَمنْ ثُمّ قَالَ- سُبْحَانَهُ-: وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ كُلّ ذَلِكَ كان قواما لهم وأمنا في الجاهلية نظيرها فى أول السورة. ذلِكَ يَقُولُ هَذَا لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ قبل أن يكونا ويعلم أَنَّهُ سيكون من أمركم الَّذِي كان وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ من أعمال العباد عَلِيمٌ- 97- ثُمّ خوفهم ألا يستحلوا الغارة فِي حُجّاج اليمامة يعني شريحا وأصحابه فَقَالَ: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ إذا عاقب وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ- 98- لمن أطاعه بعد النهي ثُمّ قَالَ- عَزَّ وجل-: ما عَلَى الرَّسُولِ محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَّا الْبَلاغُ فِي أمر حُجّاج اليمامة شُرَيْح بن ضبيعة وأصحابه وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ يعني ما تعلنون بألسنتكم وَما تَكْتُمُونَ- 99- من أمر حجاج اليمامة والغارة عليهم قُلْ لهم يا محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ يعني بالخبيث الحرام والطيب الحلال نزلت فِي حُجّاج اليمامة حين أراد المؤمنون الغارة عليهم وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ يعني الحرام، ثُمّ حذرهم فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تستحلوا منهم محرما يَا أُولِي الْأَلْبابِ يعنى يا أهل اللب والعقل لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(1/507)
- 100- قوله- سبحانه-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [109 أ] نزلت فِي عَبْد اللَّه بن جحش بن رباب الأسدى من بنى غنم ابن دودان وَفِي عَبْد اللَّه بن حذافة الْقُرَشِيّ ثُمّ السهمي وذلك
أن رَسُول اللَّهِ- صَلَّى الله عليه وسلم- قال: يا أيها الناس إن اللَّه كتب عليكم الحج «1» . فَقَالَ عَبْد اللَّه بن جحش: أفي كُلّ عام فسكت عَنْهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمّ أعاد قوله، فسكت النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمّ عاد، فغضب النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونخسه بقضيب كان معه، ثُمّ قَالَ: ويحك، لو قُلْتُ نعم لوجبت فاتركوني ما تركتكم فإذا أمرتكم بأمر فافعلوه وإذا نهيتكم عن أمر فانتهوا عَنْهُ.
وقَالَ رَسُول الله- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أيها الناس، إنَّه قَدْ رفعت لي الدُّنْيَا فأنا أنظر إلى ما يَكُون فِي أمتي من الأحداث إلى يوم الْقِيَامَة، ورفعت لي أنساب العرب فأنا أعرف أنسابهم رجلا رجلا. فقام رجل، فقال: يا رسول الله: أَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: أَنْت فِي الجنة. ثُمّ قام آخر فَقَالَ: أَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: فِي الجنة، ثم قام الثالث فَقَالَ: أَيْنَ أَنَا؟ فَقَالَ: أَنْت فِي النار. فرجع الرَّجُل حزينا، وقام عَبْد اللَّه بن حذافة وكان يُطعن فِيهِ فَقَالَ: يا رَسُول اللَّهِ من أَبِي؟ قَالَ: أبوك حُذَافة. وقام رَجُل من بني عَبْد الدار، فَقَالَ: يا رَسُول اللَّهِ من أبي؟ قال: أبوك سعد، نسبه إلى غير أبيه، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله استر علينا يستر اللَّه عليك إنا قوم قريبو عهد بالشرك. فَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: خيرا. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ
يعني إن تبين لَكُمْ فلعلكم «2» إن تسألوا عما لَمْ ينزل به قرآنا فينزل به قرآنا
__________
(1) ورد ذلك فى أسباب النزول للسيوطي: 96- 97. كما ورد فى أسباب النزول للواحدي: 121 برواية عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه ... إلى علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- برفعه.
(2) فى أ: فعلكم.(1/508)
مغلظا لا تطيقوه، قوله- سبحانه-: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ يعني عن الأشياء حين ينزل بها قرآنا تُبْدَ لَكُمْ تبين لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها يَقُولُ عفا اللَّه عن تِلْكَ الأشياء حين لم يوجبها عليكم وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ- 101- يعني ذو تجاوز حين لا يعجل بالعقوبة، ثُمّ قَالَ- عَزَّ وَجَلّ- قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ يَقُولُ قَدْ سَأَلَ عن تِلْكَ الأشياء مِنْ قَبْلِكُمْ، يعني من بني إِسْرَائِيل فبينت لهم ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ- 102- وذلك أن بني إِسْرَائِيل سألوا المائدة قبل أن تنزل فَلَمَّا نزلت كفروا بها. فقالوا: ليست المائدة من اللَّه. وكانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء فإذا أخبروهم بها تركوا قولهم وَلَم يصدقوهم فأصبحوا بتلك الأشياء كافرين.
قوله- سبحانه-: ما جَعَلَ اللَّهُ حراما مِنْ بَحِيرَةٍ لقولهم إن اللَّه أمرنا بها نزلت فِي مشركي العرب منهم قريش، وكنانة، عامر بن صَعْصَعَة، وبنو مدلج والحارث وعامر ابني عَبْد مناة، وخزاعة وثقيف، أمرهم بِذَلِك فِي الجاهلية عمرو بن ربيعة بن لحى [109 ب] بن قمعة بن خندف «1» الخُزَاعيّ،
فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: رَأَيْت عمرو بن رَبِيعَة الخُزَاعيّ رَجُلا قصيرا أشقر لَهُ وفرة يجر قصبه فِي النار يعني أمعاءه، وَهُوَ أول من سيب السائبة، واتخذ الوصيلة، وحمى الحامي، ونصب الأوثان حول الكعبة، وغير دين الحنيفية فأشبه الناس به أكثم بن لجون الخُزَاعيّ فَقَالَ أكثم: أيضرني شبهه يا رَسُول اللَّهِ؟
قَالَ: لا، أَنْت مؤمن وَهُوَ كافر. والبحيرة الناقة إذا ولدت خمسة أبطن فإذا كان الخامس سقيا وَهُوَ الذكر ذبحوه للآلهة فكان لحمه للرجال دون النّساء، وإن كان الخامس ربعة يعني أنثى شقوا أذنيها. فهي البحيرة، وكذلك من البقر لا يجز لها وبر وَلا يذكر اسم اللَّه عَلَيْهَا إن ركبت أَوْ حمل عَلَيْهَا ولبنها للرجال
__________
(1) فى أ: خندف، ل: جندف.(1/509)
دون النّساء «1» .
وأما السائبة فهي الأنثى من الأنعام كلها كان الرَّجُل يسيب للآلهة ما شاء من إبله وبقره وغنمه، «وَلا يسيب إِلَّا الأنثى» «2» وظهورها «3» وأولادها وأصوافها وأوبارها وأشعارها وألبانها للآلهة ومنافعها للرجال دون النّساء، وأمّا الوصيلة فهي الشاة من الغنم إذا ولدت سبعة أبطن عمدوا إلى السابع فَإِن كان جديا ذبحوه للآلهة وكان لحمه للرجال دون النّساء، وإن كَانَتْ عتاقا استحيوها فكانت من عرض الغنم.
قَالَ عَبْد اللَّه بن ثَابِت: قَالَ أَبِي: قَالَ أَبُو صَالِح: قَالَ مُقَاتِل: وإن وضعته ميتا أشرك فِي أكله الرجال والنساء، فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ-: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ «4» بأن ولدت البطن السابع جديا وعتاقا، قَالُوا: إن الأخت قَدْ وصلت أخاها فحرمته علينا فحرما جميعًا فكانت المنفعة للرجال دون النّساء، وأما الحام فهو الفحل من الإبل إذا ركب أولاد أولاده فبلغ ذَلِكَ عشرة أَوْ أقل من ذَلِكَ. قَالُوا: قَدْ حمى هَذَا ظهره فأحرز نفسه فيهل للآلهة وَلا يحمل عَلَيْه وَلا يركب وَلا يمنع من مرعى وَلا ماء وَلا حمى وَلا ينحر أبدا حَتَّى يموت موتا. فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ-: «ما جَعَلَ اللَّهُ» حراما «مِنْ بَحِيرَةٍ» وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من قريش وخزاعة من مشركي العرب يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لقولهم إن اللَّه أمرنا بتحريمه حين قَالُوا فى الأعراف «وَاللَّهُ أَمَرَنا «5» بِها» يعني بتحريمها، ثُمّ قَالَ: وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ- 103- أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- لَمْ يحرمه. قوله- سبحانه- وَإِذا قِيلَ لَهُمْ يعنى مشركي
__________
(1) هكذا فى أ، ل.
(2) فى أ: ولا يسيب الأنثى.
(3) أى السائبة. [.....]
(4) سورة الأنعام: 139.
(5) سورة الأعراف: 28.(1/510)
العرب تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ فِي كتابه من تحليل ما حرم «1» من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وَإِلَى الرَّسُولِ محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من أمر الدّين فإنا أمرنا أن نعبد ما عبدوا يقول الله [110 أ] عز وجل: أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ يعني فَإِن كان آباؤهم لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الدين وَلا يَهْتَدُونَ- 104- له، أفتتبعونهم؟ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان لا يقبل الجزية إِلَّا من أَهْل الكتاب فَلَمَّا أسلم العرب طوعا وكرها قبل الجزية من مجوس هجر فطعن المنافقون فِي ذلك فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ «2» يَقُولُ أقبلوا عَلَى أنفسكم فانظروا ما ينفعكم فِي أمر آخرتكم فاعملوا به لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ من أَهْل هجر نزلت فِي رَجُل من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ- عَزَّ وَجَلّ- مَرْجِعُكُمْ فِي الآخرة جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ- 105- يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ نزلت فِي بديل بن أَبِي مارية مَوْلَى العاص بن وائل السهمي كان خرج مسافرا فِي البحر إلى أرض النجاشي ومعه رجلان نصرانيان أَحَدهمَا يسمى تميم بن أَوْس الداري وكان من لخم، وعدي بن بندا «3» ، فمات بديل وَهُمْ فِي البحر فرمى به فِي البحر، قَالَ: حِينَ الْوَصِيَّةِ وذلك أَنَّهُ كتب وصيته ثُمّ جعلها فِي متاعه ثُمّ دفعه إلى تميم وصاحبه وقَالَ لهما: أبلغا هَذَا المتاع إلى أهلي فجاءا ببعض المتاع وحبسا جاما من فضة مموها بالذهب فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ
__________
(1) هكذا فى أ، ل. والمراد وما حرم باطلا وافتراء.
(2) ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي: 121.
(3) فى ل: زيد، أ: بندا.(1/511)
يَقُولُ عِنْد الوصية يشهدون وصيته اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ من الْمُسْلِمِين فِي دينهما أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ يعني من غَيْر أَهْل دينكم: النصرانيين تميم الداري وعدي بن بندا إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ يا مَعْشَر الْمُسْلِمِين للتجارة فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ يعنى بديل ابن أَبِي مارية حين انطلق تاجرا فِي البحر وانطلق معه تميم وعدي صاحباه، فحضره الموت فكتب وصيته ثُمّ جعلها فِي المتاع فَقَالَ: أبلغا هَذَا المتاع إلى أهلي فَلَمَّا مات بديل قبضا المتاع، فأخذا منه ما أعجبهما، وكان فيما أخذا إناء من فضة فِيهِ ثلاثمائة مثقال منقوش مموه بالذهب فَلَمَّا رجعا من تجارتهما دفعا بَقِيَّة المال إلى ورثته ففقدوا بعض متاعه فنظروا إلى الوصية فوجدوا المال فِيهِ تاما لَمْ يبع منه وَلَم يهب فكلموا تميما وصاحبه فسألوهما: هَلْ باع صاحبنا شيئًا أَوْ اشترى شيئًا فخسر فِيهِ أَوْ طال مرضه فأنفق عَلَى نفسه؟ فَقَالا: لا قَالُوا، فإنا قَدْ فقدنا بعض ما أبدى به صاحبنا فَقَالا: ما لنا بما أبدى، وَلا بما كان فِي وصيته علم ولكنه دفع إلينا هَذَا المال فبلغناكم إياه فرفعوا أمرهم إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [110 ب] شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يعنى بديل بن أبي مارية اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ يعني من الْمُسْلِمِين: عَبْد اللَّه بن عمرو ابن العاص والمطلب بن أَبِي وَدَاعة السهميان. أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ من غَيْر أهل دينكم يعني النصرانيين إِنْ أَنْتُمْ معشر المسلمين ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ تجارا فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ يعني بديل بن أَبِي مارية مَوْلَى العاص ابن وائل السهمي تَحْبِسُونَهُما يعني النصرانيين: تقيمونهما «1» مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ
__________
(1) هكذا فى أ، ل.(1/512)
صلاة العصر فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ فيحلفان بِاللَّه إِنِ ارْتَبْتُمْ يعني إن شككتم- نظيرها فِي النّساء القصرى «1» - أن المال كان أكثر من هَذَا الَّذِي أتيناكم به لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً يَقُولُ لا نشتري بأيماننا عرضا من الدُّنْيَا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى يَقُولُ ولو كان الميت ذا قرابة مِنَّا وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً إن كتمنا شيئًا من المال لَمِنَ الْآثِمِينَ- 106- بِاللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فحلفهما النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْد المنبر بعد صلاة العصر فحلفا أَنَّهُما لَمْ يخونا شيئًا من المال فخلى سبيلهما، فَلَمَّا كان بعد ذَلِكَ وجدوا الإناء الَّذِي فقدوه عِنْد تميم الداري، قَالُوا: هَذَا من آنية صاحبنا الَّذِي كان أبدى بها وَقَدْ زعمتما أَنَّهُ لَمْ يبع وَلَم يشتر وَلَم ينفق عَلَى نفسه.
فَقَالا: قَدْ كُنَّا اشتريناه منه فنسينا أن نخبركم به. فرفعوهما إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الثانية. فقالوا: يا رَسُول اللَّهِ، إنا وجدنا مَعَ هذين إناء من فضة من متاع صاحبنا، فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً يَقُولُ فَإِن اطلع عَلَى أَنَّهُما يعني النصرانيين كتما شيئًا من المال أَوْ خانا فَآخَرانِ من أولياء الميت يعني عَبْد اللَّه بن عمرو بن العاص والمطلب بن أبي وداعة السهميان يَقُومانِ مَقامَهُما يعني مقام النصرانيين مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ الإثم عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ يعني فيحلفان بِاللَّه فِي دبر صلاة العصر أن الَّذِي فِي وصية صاحبنا حق وأن المال كان أكثر مما أتيتمانا به، وأن هَذَا الإناء لمن متاع صاحبنا الَّذِي خرج به معه وكتبه فِي وصيته وأنكما خنتما، فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-:
لَشَهادَتُنا يعني عَبْد اللَّه بن عمرو بن العاص والمطلب أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما
__________
(1) يشير إلى الآية 4 من سورة الطلاق وهي: وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً.(1/513)
يعني النصرانيين وَمَا اعْتَدَيْنا بشهادة الْمُسْلِمِين من أولياء الميت إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ- 107- ذلِكَ أَدْنى يعني أجدر نظيرها فِي النّساء «1» أَنْ يَأْتُوا يعني النصرانيين بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها كَمَا كَانَتْ وَلا يكتمان شيئًا أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ يَقُولُ أَوْ يخافوا أن يطلع عَلَى خيانتهم فيرد شهادتهما بشهادة الرجلين الْمُسْلِمَيْن من أولياء الميت فحلف عَبْد اللَّه والمطلب كلاهما أن الَّذِي فِي وصية الميت حق وأن هَذَا الإناء من متاع صاحبنا فأخذوا تميم بن «أوس» «2» الداري وعدى بن بندا النصرانيين [111 أ] بتمام ما وجدا فِي وصية الميت حين اطلع اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- عَلَى خيانتهما فِي الإناء، «3» ثُمّ وعظ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- الْمُؤْمِنِين ألا يفعلوا مثل هَذَا وألا يشهدوا بما لَمْ يعاينوا ويروا، فَقَالَ- سُبْحَانَهُ-:
يحذرهم نقمته: وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا مواعظه وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ- 108-
وأن تميم بن أَوْس الداري اعترف بالخيانة فقال له النبي- صلى الله عليه وسلم- ويحك يا تميم، أسلم يتجاوز اللَّه عنك ما كان فِي شركك، فأسلم تميم الداري وحسن إسلامه ومات عَدِيّ بن بندا نصرانيا.
قوله- سبحانه-: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ يعني الْأَنْبِيَاء- عليهم السَّلام- فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ فى التوحيد قالُوا لا عِلْمَ لَنا وذلك أول ما بعثوا عِنْد زفرة جَهَنَّم لأن الناس إذا خرجوا من قبورهم تاهت عقولهم، فجالوا فِي الدُّنْيَا ثلاثين سنة ويُقَالُ أربعين سنة، ثُمّ ينادي مناد «4» عِنْد صخرة بيت المقدس: يا أهل الدنيا، هاهنا موضع الحساب فيسمع النداء
__________
(1) يشير إلى الآية 3 من سورة النساء وفيها «ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا» .
(2) أوس: ساقط من أ، ل.
(3) وردت هذه القصة فى أسباب النزول للواحدي: 121 وفى لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطي: 97.
(4) فى أ: منادى.(1/514)
جميع الناس فيقبلون نحو الصوت فإذا اجتمعوا ببيت المَقْدِس زفرت جَهَنَّم زفرة لا يبقى ملك مقرب وَلا نَبِيّ مرسل إِلَّا ظن أنه لو جاء بعمل سبعين نبيا ما نجا «1» فعند ذَلِكَ تاهت عقولهم فيقول لهم عِنْد ذَلِكَ- يعني المرسلين- «ماذا أُجِبْتُمْ فِي التوحيد قالُوا لا عِلْمَ لَنا» إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ- 109- ثُمّ رجعت عقولهم بعد ذَلِكَ إليهم فشهدوا عَلَى قومهم أنهم قَدْ بلغوا الرسالة عن ربهم فذلك قوله- سُبْحَانَهُ-: «وَيَقُولُ الْأَشْهادُ» : يعني الأنبياء هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ «2» .
قوله- سُبْحَانَهُ-: إِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ فِي الآخرة اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ يعني مريم- عليهما السَّلام- «إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ» «3» :
فالنعمة عَلَى عِيسَى حين أيده بروح القدس يعني جبريل- عَلَيْه السَّلام- تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ صبيا وَتكلمهم كَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ يعني خط الكتاب بيده وَالْحِكْمَةَ يعني الفهم والعلم وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يعني علم التوراة والإنجيل وجعله نبيا ورسولا إلى بني إِسْرَائِيل وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ «4» يعنى الخفاش بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها يعني فِي الهيئة فَتَكُونُ طَيْراً «5» بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ «6» يعني الأعمى الَّذِي يَخْرُج من بطن أمه أعمى وَيبرئ الْأَبْرَصَ يمسحهما بيده فيبرئهما بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي أحياء
__________
(1) فى أ: نجا، وفى حاشية أ: ما نجا ومحمد.
(2) سورة هود: 18.
(3) ما بين الأقواس « ... » . ساقط من أ، ل. [.....]
(4) فى أ: اضطراب فسر آخر هذه الآية قبل أولها ثم أعاد تفسيرها. وكذلك فى ل: خلط بينها وبين آيات أخرى فى معناها من سور أخرى. وقد حققت الخطأ وأعدت ترتيب الآية حسب وورودها فى المصحف.
(5) فى أ: طائرا.
(6) خلط فى الكلام فى أ، ل.(1/515)
وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ أى عن قتلك إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ «وهي إحياء سام ابن نوح بإذن اللَّه» «1» .
فيقوم عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم الْقِيَامَة بهؤلاء الكلمات خطيبا عَلَى رءوس الخلائق، ويخطب إبليس لعنه اللَّه عَلَى أَهْل النار بهذه الآية إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ ... [111 ب] إلى قوله «بِمُصْرِخِكُمْ» يعني بمانعكم من العذاب «وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ» يعنى بمانعي من العذاب «إِنِّي كَفَرْتُ» يعني تبرأت بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ «2» أى فى دار الدُّنْيَا. وأمّا النعمة عَلَى مريم- عَلَيْهَا السَّلام- فهي أَنَّهُ اصطفاها يعني اختارها وطهرها من الإثم واختارها عَلَى نساء العالمين وجعلها زَوْجَة محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الجنة.
قوله- سبحانه-: «تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ» «3» يعني تكلم بني إسرائيل صبيا فِي المهد حين جاءت به أمه تحمله، «وَيكلمهم كَهْلًا» حين اجتمع واستوت لحيته «وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ» يعني خط الكتاب بيده «وَالْحِكْمَةَ» يعني الفهم والعلم «وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ» يعني الخفاش «فَتَنْفُخُ فِيها» يعني فِي الهيئة «فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ» الَّذِي يَخْرُج من بطن أُمّه أعمى فكان عِيسَى- عَلَيْه السَّلام «4» - يرد إِلَيْهِ بصره بإذن اللَّه- تَعَالَى-: «فيمسح بيده عَلَيْه فإذا هُوَ صحيح بإذن الله» «5» وأحيا سام
__________
(1) هذه الجملة متصيدة من كلام المفسر بعد إصلاحه ونصها «عنك القتل فى أمر سام بن نوح» .
(2) سورة إبراهيم: 22.
(3) أعاد تفسيره لجزء الآية 110 فكرر تفسير هذا الجزء بأسلوب آخر فيه تفسير وتعليق.
(4) فى أ: صلى الله عليه وسلم.
(5) ما بين الأقواس زيادة من ل.(1/516)
ابن نوح بإذن اللَّه حيث كلمه الناس ثُمّ مات فعاد كَمَا كان «وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ» يعني عن قتلك حين رفعه اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- إِلَيْهِ «وَقُتِلَ» «1» شبيهه وَهُوَ الرقيب الَّذِي كان عليه «إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ» يعني بالعجائب التي كان يصنعها من إبراء الأكمه والأبرص والموتى والطائر ونحوه «2» .
فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ يعني من اليهود من بني إِسْرَائِيل إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ- 110- يعني ما هَذَا الَّذِي يصنع عِيسَى من الأعاجيب إِلَّا سحر مبين يعني بين، نظيرها فى الصف وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ وهم القصارون مبيضو الثياب وكانوا اثني عشر رَجُلا والوحي إليهم من اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- هُوَ إلهام قذف فِي قلوبهم التصديق بِاللَّه- عز وجل- بأنه واحد لا شريك له فذلك قوله- عَزَّ وَجَلّ- أَنْ آمِنُوا بِي أن صدقوا بأني واحد لَيْسَ معي شريك وَبِرَسُولِي عِيسَى ابْن مريم أنه نَبِيّ رسول قالُوا آمَنَّا يعني صدقنا بما جاء به من عِنْد اللَّه ونشهد أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- واحد لا شريك لَهُ، وأنك رسوله وَاشْهَدْ يا عِيسَى بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ- 111- يعني مخلصون بالتوحيد إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ يَقُولُ هَلْ يقدر عَلَى أن يعطيك ربك إن سَأَلْتُهُ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ فلا تسألوه البلاء إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- 112- فَإِنَّهَا إن نزلت ثُمّ كذبتم عوقبتم قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها فقد جعنا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا يعني وتسكن قلوبنا إلى ما تدعونا إِلَيْهِ وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا بأنك نبى [112 أ] رسول وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ- 113- يعني عَلَى المائدة عِنْد بني إِسْرَائِيل إذا رجعنا إليهم وكان القوم الذين
__________
(1) ما بين القوسين « ... » زيادة من ل.
(2) الجزء السابق من الآية تفسيره مكرر مرتين فى أ، ل.(1/517)
خرجوا وسألوا المائدة خمسة آلاف بطريق وهم الَّذِين سألوا المائدة مَعَ الحواريين قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْد ذَلِكَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا يَقُولُ تكون عيدا لمن كان فِي زماننا عِنْد نزول المائدة وتكون عيدا لمن بعدنا وَتكون المائدة آيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا يعنى المائدة وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ- 114- من غيرك يَقُولُ فإنك خير من يرزق قالَ اللَّهُ- عَزَّ وَجَلّ- إِنِّي مُنَزِّلُها يعني المائدة عَلَيْكُمْ فنزلها يوم الأحد فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ نزول المائدة مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ- 115- فنزلت من السماء عَلَيْهَا سمك طري وخبز رقاق وتمر، وذكروا أن عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لأصحابه، وهم جلوس فِي روضة، هَلْ مَعَ أحد منكم شيء؟ فجاء شمعون بسمكتين صغيرتين وخمسة أرغفة، وجاء آخر بشيء من سويق فعمد عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقطعهما صغارا وكسر «الخبز فوضعها» «1» فلقا فلقا ووضع السويق فتوضأ ثُمّ صلى ركعتين ودعا ربه- عز وجل- فألقى الله- عَزَّ وَجَلّ- عَلَى أصحابه شبه السبات ففتح القوم أعينهم فزاد الطعام حَتَّى بلغ الركب «2» ، فَقَالَ عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للقوم كلوا وسموا اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَلا ترفعوا، وأمرهم أن يجلسوا حلقا حلقا فجلسوا فأكلوا حَتَّى شبعوا وهم خمسة آلاف رَجُل، وهذا ليلة الأحد ويوم الأحد، فنادى عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أكلتم؟ قَالُوا:
نعم. قَالَ: لا ترفعوا. قَالُوا: لا نرفع، فرفعوا فبلغ ما رفعوا من الْفَضْل أربعة
__________
(1) هكذا فى ل، وفى أ: المرفق ووضعها.
(2) فى أ، ل: بدون إعجام ولا شكل، وتحتمل بلغ الرّكب، أى وصل الطعام إليهم وعمهم جميعا، أو بلغ الرّكب أى ارتفع حتى صار فى مستوى ركبة الإنسان.(1/518)
وعشرين مكتلا «1» فآمنوا عِنْد ذَلِكَ بعيسى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصدقوا به، ثُمّ رجعوا إلى قومهم اليهود من بني إِسْرَائِيل ومعهم فضل المائدة فلم يزالوا بهم حَتَّى ارتدوا عن الإسلام فكفروا بِاللَّه، وجحدوا بنزول المائدة فمسخهم اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وهم نيام خنازير وليس فيهم صبي وَلا امرأة وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ يعني بني إِسْرَائِيل فِي الدُّنْيَا اتَّخِذُونِي وَأُمِّي مريم إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ فنزه الرب- عَزَّ وَجَلّ- أن يَكُون أمرهم بذلك فقال: ما يَكُونُ لِي يعني ما ينبغي لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ يعني بعدل أن يعبدوا غيرك إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ لهم فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي يعني ما كان مني وما يَكُون وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ يقول ولا أطلع على [112 ب] غيبك. وقَالَ أيضًا: وَلا أَعْلَم ما فِي علمك، ما كان منك وما يَكُون إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ- 116- يعني غيب ما كان وغيب ما يَكُون ما قُلْتُ لَهُمْ وأنت تعلم إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ فى الدنيا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني وحدوا اللَّه رَبِّي وَرَبَّكُمْ قَالَ لهم عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَلِكَ فِي هذه السورة، وَفِي كهيعص «2» ، وَفِي الزخرف «3» وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يعني عَلَى بني إِسْرَائِيل بأن قَدْ بلغتهم الرسالة ما دُمْتُ فِيهِمْ يقول ما كُنْت بين أظهرهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي يَقُولُ فَلَمَّا بلغ بي أجل الموت فمت كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ يعنى
__________
(1) فى أ: مكبلا بدون إعجام.
(2) يشير إلى الآيات 30- 36 من سورة مريم من قوله- تعالى- قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا ... الآيات. [.....]
(3) يشير إلى الآية 64 من سورة الزخرف وهي قوله تعالى- على لسان عيسى إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ.(1/519)
الحفيظ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ- 117- يعني شاهدا بما أمرتهم من التوحيد وشهيد عليهم بما قَالُوا من البهتان وإنما قَالَ اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- «وَإِذْ قالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ» وَلَم يقل «وإذ يَقُولُ يا عِيسَى ابن مريم» لأنه قَالَ- سُبْحَانَهُ- قبل ذكر عِيسَى يوم يجمع الله الرسل فيقول: ماذا أجبتم؟ قَالُوا:
يومئذ- وَهُوَ يوم الْقِيَامَة- حين يفرغ من مخاصمة الرسل، «فينادي» «1» أَيْنَ عِيسَى ابْن مريم فيقوم عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شفق فرق يرعد رعدة حَتَّى يقف بين يدي اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- يا عِيسَى، أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وكما قال- سبحانه-: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «2» فَلَمَّا دخلوا الجنة قَالَ: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ «3» فنسق بالماضي عَلَى الماضي والمعنى مستقبل ولو لَمْ يذكر الجنة قبل بدئهم بالكلام الأول لقال فى الكلام الأول وينادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ «4» . وكل شيء فى القرآن على
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) سورة الأعراف: 43 ... وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وتمامها: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.
(3) من سورة الأعراف: 50، وتمامها: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ.
(4) سورة الأعراف: 44، وتمامها: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ.(1/520)
هَذَا النحو «1» .
ثُمّ قَالَ عِيسَى- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لربه- عَزَّ وَجَلّ- فِي الآخرة يا رب غبت عَنْهُمْ وتركتهم عَلَى الحق الَّذِي أمرتني به فلم أدر ما أحدثوا بعدي ف إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فتميتهم عَلَى ما قَالُوا من البهتان والكفر فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وأنت خلقتهم وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فتتوب عليهم وتهديهم إلى الْإِيمَان والمغفرة بعد الهداية إلى الْإِيمَان فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ- 118- فِي ملكك، الحكيم فِي أمرك وَفِي قراءة ابْن مَسْعُود «فإنك أنت الغفور الرحيم» نظيرها فى سورة إِبْرَاهِيم- عَلَيْه السَّلام- فِي مخاطبة إِبْرَاهِيم «وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» «2» وهي كذلك أيضا فِي قراءة عَبْد اللَّه بن مَسْعُود، قالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ يعني النبيين بما قَالُوا فِي الدُّنْيَا، فكان عِيسَى صادقا فيما قَالَ لربه فِي الآخرة «مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ» فصدقه اللَّه بقوله فِي الدُّنْيَا، وصدقه فِي الآخرة
__________
(1) فجميع النداء كان بالماضي: فى آية 44 من سورة الأعراف، وما بعدها لأن آية (43) ذكرت دخول المؤمنين الجنة بقولها: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فتحدثت الآيات التالية عن نداء أهل الجنة لأهل النار ونداء أهل النار لأهل الجنة بصيغة الماضي: ولو لم يذكر دخولهم الجنة قبل بدئهم بالكلام الأول لقال: «وينادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ» فى الآية (44) سورة الأعراف، ولقال: «وينادي أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ» .
فى الآية (50) الأعراف فمن شأن القرآن أن ينسق بالماضي مع الماضي والمعنى مستقبل كما ذكر هنا فى سورة المائدة. فالرسل لما سئلوا فى الآية (109) المائدة أجابوا بالماضي: «يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا» فكلمة قالوا فعل ماض. وفى الآية (116) المائدة قال- تعالى-: «وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ» وكلمة قال فعل ماض فنسق بالماضي مع الماضي والمعنى مستقبل أى معناه سيقول الله.
وانظر البرهان للزركشى المجلد الثالث، الالتفات: الحديث عن الماضي بالمستقبل وعكسه.
(2) سورة إبراهيم: 36.(1/521)
حين خطب عَلَى الناس ثُمّ قَالَ: لَهُمْ يعني للصادقين «1» جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يموتون رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بالطاعة وَرَضُوا عَنْهُ بالثواب ذلِكَ الثواب الْفَوْزُ الْعَظِيمُ- 119- يعني النجاء العظيم. ثُمّ عظم الرب- جلَّ جلاله- نفسه عما قَالَت النصارى من البهتان والزور أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا زعمت وأنه واحد لا شريك له فقال- سبحانه-: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ من الخلق عِيسَى ابْن مريم وغيره من الملائكة والخلق عباده وَفِي ملكه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من خلق عِيسَى من غَيْر أب وغيره قَدِيرٌ- 120-
__________
(1) فى أ: الصادقين.(1/522)
سورة الأنعام(1/523)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 165]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ مَا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)
قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19)
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يَا حَسْرَتَنا عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44)
فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)
قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)
قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74)
وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89)
أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104)
وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109)
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134)
قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)
قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154)
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)
مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)(1/525)
بسم الله الرحمن الرحيم [سورة الأنعام] «1»
__________
(1) الأهداف والمقاصد التي اشتملت عليها سورة الأنعام من أهداف سورة الأنعام: بيان خلق السموات والأرض، وتقدير النور والظلمة، وقضاء آجال الخلق والرد على منكري النبوة وذكر إنكار الكفار فى القيامة وتمنيهم الرجوع إلى الدنيا، وذكر تسلية الرسول- صلى الله عليه وسلم- عن تكذيب المكذبين، وإلزام الحجة على الكفار، والنهى عن إيذاء الفقراء، واستعجال الكفار بالعذاب واختصاص الحق- تعالى- بالعلم المغيب، وقهره، وغلبته على المخلوقات، وإثبات البعث والقيامة، وولادة الخليل- عليه السلام- وعرض الملكوت عليه، واستدلاله حال خروجه من الغار، ووقوع نظره على الكواكب والشمس والقمر ومناظرة قومه، وشكاية أهل الكتاب، وإظهار برهان التوحيد ببيان البدائع والصنائع والأمر بالإعراض عن المشركين والنهى عن سب الأصنام وعبادها ومبالغة الكفار فى الطغيان، والنهى عن أكل ذبائح الكفار ومناظرة الكفار، ومحاورتهم فى القيامة.
وبيان شرع عمرو بن لحى فى الأنعام بالحلال والحرام، وتفصيل محرمات الشريعة الإسلامية، ومحكمات آيات القرآن والأوامر والنواهي من قوله- تعالى-: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.. إلى آخر ثلاث آيات.(1/545)
__________
وظهور أمارات القيامة وعلاماتها فى الزمن الأخير. وذكر جزاء الحسنة بعشر أمثالها، وتبرؤ الرسول من الشرك والمشركين، ورجوعه إلى الحق فى محياه ومماته وذكر خلافة الخلائق وتفاوت درجاتهم وختم السورة بذكر سرعة عقوبة الله لمستحقيها، ورحمته ومغفرته لمستوجبيها بقوله: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ.
[وعدد كلمات سورة الأنعام 3052 ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة] .
[وفواصل آياتها: (ل م ن ظ ر) يجمعها (لم نظر) ] .
(انظر بصائر ذوى التمييز للفيروزآبادي ص 186) .(1/546)
بسم الله الرحمن الرحيم [سورة الأنعام] مكية كلها إِلَّا هَذِهِ الآيات. نزلت بالمدينة ونزلت ليلا، وهي خمس وستون ومائة آية كوفي.
والآيات المدنية هِيَ: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ... إلى قوله « ... لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» .
وهي الآيات المحكمات «1» .
وقوله: «وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... » إلى آخر الآية «2» .
__________
(1) يشير إلى الآيات 151، 152، 153 من سورة الأنعام، وتمامها: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ- 151- وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
- 152- وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ- 153-.
وفى كتاب تاريخ القرآن لأبى عبد الله الزنجاني: سورة الأنعام مكية إلا الآيات: 20، 23، 91، 93، 114، 141، 151، 152، 153 فمدنية. وهو موافق لما فى رأس المصحف الشريف.
فالزنجاني يرى أن الآيتين: 22، 141 مدنيتان ومقاتل يذكر أنهما مكيتان وفى كتاب بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي سورة الأنعام مكية سوى ست آيات منها:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ... إلى آخر ثلاث آيات (91، 92، 93) قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ ... إلى آخر ثلاث آيات (وهي 151، 152، 153) .
(2) سورة الأنعام: 91، وتمامها: وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ.(1/547)
وقوله: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ ... «1» نزلت فِي مسيلمة، وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ ... نزلت فى عهد عبد الله ابن سعد بن أَبِي سرح.
وقوله: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ ... «2» .
وقوله: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ... «3» ،
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ ... «4» .
هَذِهِ الآيات مدنيات، وسائرها مكّيّ.
نزل بها جبريل- عَلَيْه السَّلام- ومعه سبعون ألف ملك طبقوا ما بين السماء والأرض لهم زجل بالتسبيح والتمجيد والتحميد حَتَّى كادت الأرض أن ترتج فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: سبحان الله العظيم وبحمده وخر النبي ساجدا، فيها خصومة مشركي العرب وأهل الكتاب، وذلك أن قريشا قَالُوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: من ربك! فَقَالَ: «ربي الأحد الصَّمد الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَم يُولَدْ وَلَم يَكُنْ لَهُ كفوا أحد» فقالوا: أَنْت كَذَّاب ما اختصك اللَّه بشيء وما أنت عَلَيْه بأكرم منا فأنزل الله- عز وجل.
__________
(1) سورة الأنعام: 93 وتمامها: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ.
(2) جزء من الآية 93 سورة الأنعام وقد تقدم ذكرها فى الهامش السابق. [.....]
(3) جزء من الآية 114، سورة الأنعام وتمامها أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ.
(4) سورة الأنعام: 20 وتمامها الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ.(1/548)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فحمد نفسه ودل بصنعه عَلَى توحيده الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَمْ يخلقهما باطلا خلقهما لأمر هُوَ كائن وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ يعني الليل والنهار ثُمّ رجع إلى أَهْل مكة فقال: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من أَهْل مكة بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ- 1- يعني يشركون هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ يعني آدم- عَلَيْه السَّلام- لأنكم من ذريته ثُمَّ قَضى أَجَلًا يعني أجل ابْن آدم من يوم [113 ب] وُلِد إلى أن يموت وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ يعني البرزخ منذ يوم وُلِد إلى يوم يموت، إلى يوم الْقِيَامَة ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ- 2- يعني تشكون فِي البعث يعني كفار مكة وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ أَنَّهُ واحد وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ يعني سر أعمالكم وجهرها وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ- 3- يعنى ما تعملون من الخير والشر وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ يعني انشقاق القمر إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ- 4- فلم لا يتفكرون فيها فيعتبروا فِي توحيد اللَّه فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ يعني القرآن حين جاءهم به محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استهزءوا بالقرآن بأنه لَيْسَ من اللَّه، يعني كفار مكة منهم أَبُو جهل بن هِشَام، والوليد بن المُغِيرَة، ومنبه ونبيه ابنا الحَجَّاج والعاص بن وائل السهمي، وأبى بن خلف، وعقبة(1/549)
ابن أَبِي معيط، وعبد اللَّه بن أَبِي أُمَيَّة، وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وأبو البختري ابن هِشَام بن أسد، والحارث بن عامر بن نوفل، ومخرمة بن نوفل وهشام بن عمرو ابن رَبِيعَة، وأَبُو سُفْيَان بن حرب، وسهل بن عمرو، وعمير بن وَهْب بن خلف، والحارث بن قَيْس، وعدى بن قيس، وعامر بن خَالِد الْجُمَحِيّ، والنضر بن الْحَارِث، وزمعة بن الأسود، ومطعم بن عَدِيّ، وقرط بن عَبْد عمرو بن نوفل، والأخنس ابن شريق، وحويطب بن عَبْد العزي، وأمية بن خلف كلهم من قريش، يَقُولُ اللَّه- عَزَّ وجل-: فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ يعنى حديث ما كانُوا بِهِ بالعذاب يَسْتَهْزِؤُنَ- 5- بأنه غَيْر نازل بهم ونظيرها فِي الشعراء، فنزل بهم العذاب ببدر، ثُمّ وعظهم ليخافوا فَقَالَ: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ كفار مكة مِنْ قَرْنٍ من أمة مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ يَقُولُ أعطيناهم من الخير والتمكين فِي البلاد ما لَمْ نعطكم يأَهْل مكة وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً بالمطر يعني متتابعا وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ يعني فعذبناهم بِذُنُوبِهِمْ يعني بتكذيبهم رسلهم وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ- 6- يَقُولُ وخلقنا من بعد هلاكهم قوما آخرين وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ما صدقوا به ولَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أَهْل مكة إِنْ هَذَا يَقُولُ ما هَذَا القرآن إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ- 7- يعني بين وَقالُوا لَوْلا يعني هلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ يعينه ويصدقه بما أرسل به نظيرها فِي الفرقان «1» نزلت فِي النَّضْر بن الْحَارِث وعبد الله ابن أُمَيَّة بن المُغِيرَة، ونوفل بن خويلد، كلهم من قريش يَقُولُ اللَّه: وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً
__________
(1) يشير إلى الآية 7 من سورة الفرقان وهي:
وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً.(1/550)
فعاينوه لَقُضِيَ الْأَمْرُ يعني «لنزل العذاب بهم» «1» ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ- 8- يعني ثُمّ لا يناظر بهم حَتَّى يعذبوا لأن الرسل إذا كُذبت جاءت الملائكة بالعذاب يقول الله: وَلَوْ جَعَلْناهُ هذا الرسول مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا يعني فِي صورة رَجُل حَتَّى يطيقوا النظر إليه لأن الناس لا يطيقون النظر [114 أ] إلى صورة الملائكة، ثُمّ قَالَ: وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ يعني ولشبهنا عليهم ما يَلْبِسُونَ- 9- يعني ما يشبهون عَلَى أنفسهم بأن يقولوا ما هَذَا إِلَّا بشر مثلكم «2» وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ وذلك أن مكذبي الأمم الخالية، أخبرتهم رسلهم بالعذاب فكذبوهم، بأن العذاب لَيْسَ بنازل بهم. فَلَمَّا كذب كفار مكة النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالعذاب حين أوعدهم استهزءوا منه، فأنزل الله يعزي نبيه- صلى الله عليه وَسَلَّمَ- ليصبر عَلَى تكذيبهم إياه بالعذاب فَقَالَ: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ يا محمد كَمَا استهزئ بك فِي أمر العذاب فَحاقَ يعني فدار بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ يعنى من الرسل ما كانُوا بِهِ يعنى بالعذاب يَسْتَهْزِؤُنَ- 10- بأنه غَيْر نازل بهم، ثُمّ وعظهم ليخافوا، فَقَالَ: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ- 11- بالعذاب كان عاقبتهم الهلاك يحذر كفار مكة بمثل عذاب الأمم الخالية قُلْ لكفار مكة: لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الخلق، فردوا عَلَيْه فِي الرعد «3» قَالُوا: «اللَّه» «4» فِي قراءة أَبِي بن كَعْب وابن مَسْعُود فِي تكذيبهم بالبعث قَالُوا اللَّه. قُلْ «5» لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فى تأخير
__________
(1) من ل، وفى أ: لنزل الأمر: العذاب بهم.
(2) ما بين القوسين « ... » زيادة من الجلالين لتوضيح الكلام.
(3) فى أ: فى الوعد، ل: فى الرعد.
(4) الله: ساقط من أ، ومثبت فى ل.
(5) فى أ، ل: قالوا.
وقد أشار إلى الآية 16 من سورة الرعد وبدايتها قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ....(1/551)
العذاب عَنْهُمْ فأنزل اللَّه فِي تكذيبهم بالبعث لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أنتم والأمم الخالية لا رَيْبَ فِيهِ يعني لا شك فيه يعني فِي البعث بأنه كائن، ثُمّ نعتهم فَقَالَ: الَّذِينَ خَسِرُوا يعني غبنوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ- 12- يعنى لا يصدقون بالبعث بأنه كائن، ثُمّ عظم نفسه لكي يوحد، فَقَالَ: وَلَهُ ما سَكَنَ يعنى ما استقر فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ من الدواب والطير فِي البر والبحر فمنها ما يستقر بالنهار وينتشر ليلا، ومنها ما يستقر بالليل وينتشر نهارا، ثُمّ قَالَ: وَهُوَ السَّمِيعُ لما سألوا من العذاب الْعَلِيمُ- 13- به قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ وذلك أن كفار قريش قَالُوا: يا محمد، ما يحملك عَلَى ما أتيتنا به، ألا تنظر إلى مَلَّة أبيك عَبْد اللَّه وملة جدك عَبْد الْمُطَّلِب وإلى سادات قومك يعبدون اللات والعزى ومناة، فتأخذ به، وتدع ما أنت عَلَيْه، وما يحملك عَلَى ذَلِكَ إلا الحاجة فنحن نجمع لك من أموالنا.
وأمروه «1» بترك عبادة اللَّه، فأنزل اللَّه «قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ» أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فعظم نفسه ليعرف توحيده بصنعه وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ وَهُوَ يرزق وَلا يرزق لقولهم نجمع لك من أموالنا ما يغنيك قُلْ لهم إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ يعني أوّل من أخلص من أَهْل مكة بالتوحيد ثُمّ أوحى «2» إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ- 14- لقولهم للنبي- عَلَيْه السَّلام- ارجع إلى مَلَّة آبائك قُلْ لهم يا محمد: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي إن رجعت إلى ملة آبائي [114 ب] عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ- 15-
__________
(1) فى أ: فأمروه، ل: وأمروه.
(2) فى ل: أوحى، أ: أعز. ولعلها محرفة عن أوعز.(1/552)
يعني بالعظيم الشديد يوم الْقِيَامَة وَقَدْ نسخت- «إِنَّا فَتَحْنا» : «إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ» يعني الشديد يوم الْقِيَامَة «1» .
مَنْ يُصْرَفْ اللَّه عَنْهُ العذاب يَوْمَئِذٍ يوم الْقِيَامَة فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الصرف يعني صرف العذاب الْفَوْزُ الْمُبِينُ- 16- يعني النجاة العظيمة المبينة ثُمّ خوف النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليتمسك بدين اللَّه- تعالى- فقال:
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ يعني يصبك اللَّه بضر يعني بلاء وشدة فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ يَقُولُ لا يقدر أحد من الآلهة وَلا غَيْرهُمْ كشف الضر إِلَّا اللَّه وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ يعني يصبك بفضل وعافية فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ- 17- من ضر وخير وأنزل اللَّه فِي قولهم «قُلْ» يا محمد «إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» يعني يعبدون من دون اللَّه من الآلهة «قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ» فِي ترك دين اللَّه «قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً» إن اتبعت دينكم «وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» يعنى من المرشدين. و «قُلْ» لهم «إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي» «2» يعني عَلَى بيان من ربي. وأنزل اللَّه فى ذلك: «قُلْ لهم أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا ... » إلى آخر السورة وَهُوَ الْقاهِرُ «3» لخلقه فَوْقَ عِبادِهِ قد علاهم وقهرهم وَهُوَ الْحَكِيمُ فِي أمره الْخَبِيرُ- 18- بخلقه.
قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي- صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أما وجد اللَّه رسولا غيرك ما نرى أحدا يصدقك بما تَقُولُ وقد
__________
(1) كان النبي لا يدرى ما يفعل به فى الآخرة أعذاب أم نعيم، فلما نزلت: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» . نسخت جميع الآيات التي تتحدث عن خوف النبي من عذاب الآخرة.
هذا رأى مقاتل. وفيه مبالغة فى التقول بالنسخ فلا تعارض بين الآيتين. فهناك مقام الخوف ومقام الرجاء وكلاهما جناحان لا زمان لسير العبد فى الدنيا آملا فى رحمة الله خائفا من عقابه.
وقريب من هذا ما ورد فى كتاب الخوف والرجاء، الوارد فى كتاب إحياء علوم الدين للغزالى.
(2) سورة الأنعام: 56- 57.
(3) سورة الأنعام: 164- 165.(1/553)
سألنا عنك أَهْل الكتاب، فزعموا أَنَّهُ لَيْسَ لك عندهم ذكر فَمنْ يشهد لك أن اللَّه هُوَ الَّذِي أرسلك؟ فَقَالَ اللَّه للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «قُلْ» لهم «أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً» قَالُوا: اللَّه أكبر شهادة من غيره. فَقَالَ اللَّه: قُلْ لهم يا محمد:
اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ بأنى رسول وَأنه أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ من عِنْد اللَّه لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ يعني لكي أنذركم بالقرآن يأهل مكة «1» وَمَنْ بَلَغَ القرآن من الجن والإنس فهو نذير لهم يعني القرآن إلى يوم القيامة، ثم قال: أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى؟ قَالُوا: نعم نشهد. قَالَ اللَّه للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
قُلْ لهم لا أَشْهَدُ بما شهدتم، وَلَكِن أشهد قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ قل لهم: وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ- 19- به غيره. وأنزل فِي قولهم لَقَدْ سألنا عنك أَهْل الكتاب فزعموا أَنَّهُ لَيْسَ لك عندهم ذكر، فَقَالَ: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ أَي صفة محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فى كتبهم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ.
حدثنا عبيد الله، قال: حدثني أبي، قال: حَدَّثَنَا الْهُذَيْلُ عَنْ مُقَاتِلٍ، قَالَ: إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلامٍ قَالَ: لأَنَا أَعْرَفُ بِمُحَمَّدٍ- عَلَيْه السَّلامُ- مِنِّي بِابْنِي، لأَنِّي لا أَعْلَمُ مَا أَحْدَثَتْ فِيهِ أُمُّهُ، ثُمّ نعتهم فَقَالَ: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يعنى غبنوا أنفسهم فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ- 20- يعني لا يصدقون بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- بأنه رسول الله [115 أ] وأنزل اللَّه فِي قولهم أيضًا «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ» يعني القرآن «مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» «2» يعني من الشاكين بأن القرآن جاء من اللَّه نظيرها فِي يُونُس. وَمَنْ أَظْلَمُ يَقُولُ فلا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن معه شريكا لقولهم إن مَعَ اللَّه آلهة أخرى، ثم
__________
(1) فى أ: أهل مكة. [.....]
(2) سورة الأنعام: 114.(1/554)
ثم قال: أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ يعني بالقرآن أَنَّهُ لَيْسَ من اللَّه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ- 21- يعني المشركين فِي الآخرة يعيبهم نظيرها فِي يُونُس «1» وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا وذلك أن المشركين في الآخرة لما رأوا كيف يتجاوز الله عن أهل التوحيد فقال بعضهم لبعض إذا سئلنا قولوا: كنا موحدين فلما جمعهم الله وشركاءهم: قال لهم: أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ- 22- في الدنيا بأن مع الله شريكا ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا يعني معذرتهم إلا الكذب حين سئلوا فتبرءوا من ذلك، فقالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ- 23- قال الله:
انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ في الآخرة مَا كانُوا يَفْتَرُونَ- 24- من الشرك في الدنيا فختم على ألسنتهم وشهدت الجوارح بالكذب عليهم والشرك وَمِنْهُمْ يعني كفار مكة مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وأنت تتلو القرآن يعنى يعني النضر بن الحارث إلى آخر الآية وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ يعني الغطاء عن القلب لئلا يفقهوا القرآن وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً يعني ثقلا فلا يسمعوا يعني النضر، ثم قال: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها يعني انشقاق القمر، والدخان فلا يصدقوا بأنها من الله- عز وجل- حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ في القرآن بأنه ليس من الله، يَقُولُ الله قال: الَّذِينَ كَفَرُوا يعني النضر إِنْ هذا القرآن إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ- 25- يعنى أحاديث الأولين حديث رستم وإسفنديار وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان عند أبي طالب بن عبد المطلب يدعوه إلى الإسلام فاجتمعت قريش إلى أبي طالب ليريدوا بالنبي- عليه السلام- سوءًا، فسألوا أبا طالب
__________
(1) يشير إلى الآية 17 من سورة يونس وهي: «فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ» .(1/555)
أن يدفعه إليهم فيقتلوه، فقال أبو طالب: ما لي عنه صبر. قالوا: ندفع إليك من سبايانا من شئت مكان ابن أخيك، فقال أبو طالب: حين تروح الإبل فإن جاءت ناقة إلى غير فصيلها دفعته إليكم، وإن كانت الناقة لا تحن إلا إلى فصيلها فأنا أحق من الناقة، فلما أبى عليهم اجتمع منهم سبعة عشر رجلا من أشرافهم ورؤسائهم فكتبوا بينهم كتابًا ألا يبايعوا بني عبد المطلب ولا يناكحوهم ولا يخالطوهم ولا يؤاكلوهم حتى يدفعوا إليهم محمدًا- صلى الله عليه وسلم- فيقتلوه فاجتمعوا في دار شيبة بن عثمان صاحب الكعبة وكان هو أشد الناس على النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال أبو طالب: [115 ب]
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أغيب في التراب دفينا
فانفذ لأمرك ما عليك غضاضة «1» ... أبشر وقر بذاك منك عيونا
ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ... فلقد صدقت وكنت قدمًا «2» أمينًا
وعرضت دينًا قد علمت بأنه ... من خير أديان البرية دينًا
لولا الدمامة أو أخادن سبة «3» ... لوجدتني سمحًا بذاك مبينا
فأنزل الله في أبي طالب واسمه: عبد مناف بن شيبة وهو عبد المطلب- «وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ» كان ينهى قريش عن أذى النبي- صلى الله عليه وسلم- وبتباعد هو عن النبي- صلى الله عليه وسلم- ولا يتبعه على دينه وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ- 26- يعني أبا طالب وَلَوْ تَرى يا محمد إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ
__________
(1) ل: فامضه بنى فما عليك غضاضة.
(2) روى: ثم.
(3) كما وردت هذه الشطرة: لولا الملامة أو حذار مسبة.(1/556)
يعني كفار قريش هؤلاء الرؤساء تمنوا فَقالُوا يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا يعني القرآن بأنه من الله وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- 27- يعني المصدقين بالقرآن في قولهم بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وذلك أنهم حين قالوا: وَاللَّهِ رَبِّنا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ أوحى الله إلى الجوارح فشهدت عليهم بما كتموا من الشرك فذلك قوله: «بَلْ بَدا لَهُمْ» يعني ظهر لهم من الجوارح «مَا كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ» بألسنتهم من قبل أن تنطق الجوارح بالشرك فتمنوا عند ذلك الرجعة إلى الدنيا «فَقالُوا: يَا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ... » إلى آخر الآية، فأخبر الله عنهم فقال: وَلَوْ رُدُّوا إلى الدنيا كما تمنوا وعمروا فيها لَعادُوا لِما يعني «لرجعوا لما» «1» نُهُوا عَنْهُ من الشرك والتكذيب وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ
- 28- في قولهم حين قالوا «وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» بالقرآن. لما أخبر النبي- صلى الله عليه وسلم- كفار مكة بالبعث كذبوه وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ- 29- بعد الموت، فأخبر الله بمنزلتهم في الآخرة فقال: وَلَوْ تَرى يا محمد إِذْ وُقِفُوا يعني عرضوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا إنه الحق قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ- 30- بالعذاب بأنه غير كائن نظيرها في الأحقاف «2» .
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ يعني بالبعث حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً يعني يوم القيامة بغتة يعني فجأة قالُوا يا حَسْرَتَنا يعني كفار قريش عَلى مَا فَرَّطْنا فِيها يقولون «3» يا ندامتنا على ما ضيعنا في الدنيا من ذكر الله، ثم قال: وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ- 31- وذلك أن الكافر إذا بعث
__________
(1) ما بين القوسين « ... » زيادة اقتضاها السياق لتوضيح المعنى.
(2) يشير إلى الآية 34 من سورة الأحقاف وهي: وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ.
(3) فى أ: يقول.(1/557)
في الآخرة أتاه عمله الخبيث في صورة حبشي أشوه منتن الريح كريه المنظر فيقول له الكافر: من أنت؟ فيقول: أنا عملك الخبيث قد كنت أحملك في الدنيا بالشهوات واللذات! فاحملني اليوم. فيقول: وكيف أطيق حملك؟ فيقول: كما حملتك، فيركب ظهره، فذلك قوله وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ يعني ألا بئس ما يحملون وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ يعني إلا باطل وَلَهْوٌ يكون في الدنيا وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ يثني على الجنة يقول: ولدار الجنة أفضل من الدنيا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الشرك أَفَلا يعني فهلا تَعْقِلُونَ- 32- أن الدار الآخرة أفضل من الدنيا لأنها بعد دار الدنيا وإنما سميت الدنيا لأنها أدنى إلينا من دار الآخرة قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ نزلت فى الحارث بن عامر ابن نوفل بن عبد مناف بن قصي. كان الحارث يكذب النبي- صلى الله عليه وسلم- في العلانية فإذا خلا مع أهل ثقته، قال: ما محمد من أهل الكذب، وإني لأحسبه صادقًا وكان إذا لقي النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: إنا لنعلم أن هذا الذي تقول حق وإنه لا يمنعنا «1» أن نتبع الهدى معك إلا مخافة أن يتخطفنا الناس يعني العرب من أرضنا إن خرجنا فإنما نحن أكلة رأس ولا طاقة لنا بهم [نظيرها في القصص «وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا» «2» فأنزل الله: قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ- في العلانية بأنك كذاب مفتر] «3» . فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في السر بما تقول بأنك نبي رسول، بل يعلمون أنك صادق وقد جربوا منك الصدق فيما مضى «4» وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ- 33- يعني بالقرآن بعد المعرفة وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ
__________
(1) فى أ: ليعمنا. ل: لا يمنعنا.
(2) سورة القصص: 57
(3) ما بين الأقواس [ ... ] من ل، وهي فى أمع تقديم المتأخر وتأخير المتقدم.
(4) فى أزيادة: بأنك نبى رسول، وليست فى ل.(1/558)
وذلك قبل كفار مكة لأن كفار مكة قالوا: يا محمد ما يمنعك أن تأتينا بآية كما كانت الأنبياء تجيء بها إلى قومهم، فإن فعلت صدقناك وإلا فأنت كاذب. فأنزل الله يعزي نبيه- صلى الله عليه وسلم- ليصبر على تكذيبهم إياه وأن يقتدي بالرسل قبله «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» «1» فَصَبَرُوا عَلى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا في هلاك قومهم، وأهل مكة بمنزلتهم فذلك قوله:
وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ يعني لا تبديل لقول الله بأنه ناصر محمد- صلى الله عليه وسلم-، ألا وقوله حق كما نصر الأنبياء قبله وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ يعني من حديث الْمُرْسَلِينَ- 34- حين كذبوا وأوذوا ثم نصروا وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ يعني ثقل عليك إِعْراضُهُمْ عن الهدى ولم تصبر على تكذيبهم إياك فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ يعنى سربا أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ أي فإن لم تستطع فأت بسلم ترقى فيه إلى السماء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ فافعل إن استطعت «2» .
ثم عزى نبيه- صلى الله عليه وسلم- ليصبر على تكذيبهم فقال: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ- 35- فإن الله لو شاء لجعلهم مهتدين، ثم ذكر إيمان المؤمنين فقال: إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ الهدى يعني القرآن، ثم قال: وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ يعني كفار مكة يبعثهم الله في الآخرة ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ- 36- يعني يردون فيجزيهم وَقالُوا لَوْلا يعني هلا نُزِّلَ عَلَيْهِ محمد كما أنزل على الأنبياء آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ للكفار إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ- 37- بأن الله قادر على أن ينزلها
__________
(1) فى أ: ولقد أرسلنا رسلا من قبلك إلى قوله «أَتاهُمْ نَصْرُنا» . والمثبت من ل.
(2) المعنى: أنك لا تستطيع ذلك فاصبر حتى يحكم الله. الجلالين. [.....](1/559)
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ ولا في بر ولا في بحر «1» وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ يعني خلقًا أصنافًا مصنفة تعرف بأسمائهم مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ يعنى ما ضيعتنا في اللوح المحفوظ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ- 38- في الآخرة ثم يصيرون من بعد ما يقتص بعضهم من بعض ترابًا: يقال لهم كونوا ترابا وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني القرآن صُمٌّ لا يسمعون الهدى وَبُكْمٌ لا يتكلمون به فِي الظُّلُماتِ يعني الشرك مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ عن الهدى نزلت في بني عبد الدار ابن قصي وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ- 39- يعني على دين الإسلام منهم علي بن أبي طالب، والعباس، وحمزة، وجعفر ثم خوفهم فقال للنبي- صلى الله عليه وسلم- قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ في الدنيا كما أتى الأمم الخالية أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ ثم رجع إلى عذاب الدنيا فقال أَغَيْرَ اللَّهِ من الآلهة تَدْعُونَ أن يكشف عنكم العذاب فى الدنيا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- 40- بأن معه آلهة، ثم رجع إلى نفسه فقال: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ يعني وتتركون مَا تُشْرِكُونَ- 41- بالله من الآلهة فلا تدعونهم أن يكشفوا عنكم ولكنكم تدعون الله وَلَقَدْ أَرْسَلْنا الرسل إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فكذب بهم قومهم كما كذب بك «2» كفار مكة فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ لكي يَتَضَرَّعُونَ- 42- إلى ربهم فيتوبون إليه، يقول فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا يعني الشدة والبلاء تَضَرَّعُوا إلى الله وتابوا إليه «3» لكشف ما نزل بهم من البلاء وَلكِنْ قَسَتْ يعني جفت قُلُوبُهُمْ فلم تلن وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ- 43-
__________
(1) فى أ: ولا بر ولا بحر. والمثبت من ل.
(2) فى أ: فكذبوهم قومهم بما كذبوا بك كفار مكة. والمثبت من ل.
(3) فى أزيادة: وتابوا، وليست فى ل.(1/560)
من الشرك والتكذيب فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ يعني فلما تركوا ما أمروا به يعني وعظوا به يعني الأمم الخالية مما دعاهم الرسل فكذبوهم ف فَتَحْنا عَلَيْهِمْ يعني أرسلنا عليهم أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ يعني أنواع الخير من كل شيء بعد الضر الذي كان نزل بهم، نظيرها في الأعراف «1» حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا يعني بما أعطوا من أنواع الخير وأعجبهم ما هم فيه [117 أ] أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً يعني أصبناهم بالعذاب بغتة يعني فجأة أعز ما كانوا فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ- 44- يعني فإذا هم مرتهنون آيسون من كل خير. فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ يعني أصل القوم الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني أشركوا فلم يبق منهم أحد وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ- 45- في هلاك أعدائه يخوف كفار مكة.
قُلْ لكفار مكة يا محمد: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ فلم تسمعوا شيئًا وَخَتَمَ يعني وطبع عَلى قُلُوبِكُمْ فلم تعقلوا شيئًا مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ يعني هل أحد يرده إليكم دون الله انْظُرْ يا محمد كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ يعني العلامات في أمور شتى فيما ذكر من تخويفهم من أخذ السمع والأبصار والقلوب وما صنع بالأمم الخالية ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ- 46- يعني يعرضون فلا يعتبرون، ثم قال يعنيهم: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً يعني فجأة لا تشعرون حتى ينزل بكم أَوْ جَهْرَةً أو معاينة ترونه حين ينزل بكم: القتل ببدر هَلْ يُهْلَكُ بذلك العذاب إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ- 47- يعني المشركون وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ بالجنة وَمُنْذِرِينَ من النار فَمَنْ آمَنَ يعني فمن صدق وَأَصْلَحَ العمل فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ- 48- نظيرها فى الأعراف «2» ،
__________
(1) يشير إلى الآية 96 من سورة الأعراف وهي وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
(2) لعله يشير إلى الآيات 94، 95، 96 من سورة الأعراف.(1/561)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني بالقرآن يعني كفار مكة يَمَسُّهُمُ يعني يصيبهم الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ- 49- يعني يعصون فلما خوفهم النبي- صلى الله عليه وسلم- بالعذاب سألوه العذاب استهزاء وتكذيبًا إلى متى يكون هذا العذاب الذي تعدنا به إن كنت من الصادقين؟ فقال الله للنبي- صلى الله عليه وسلم-: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ يعني مفاتيح الله بنزول العذاب وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ يعني غيب نزول العذاب متى ينزل بكم وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ لقولهم في حم السجدة: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً «1» رسلا فنؤمن بهم، فأما أنت يا محمد فلا نصدقك فيما تقول، إِنْ أَتَّبِعُ يقول ما أتبع إِلَّا مَا يُوحى إِلَيَّ من القرآن قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى بالهدى فلا يبصره وهو الكافر وَالْبَصِيرُ بالهدى وهو المؤمن أَفَلا يعنى فهلا يتفكّرون- 50- فتعلمون أنهما لا يستويان. ثم قال: وَأَنْذِرْ بِهِ يعني بالقرآن الَّذِينَ يَخافُونَ يعني يعلمون «أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ» «2» يعني الموالي وفقراء العرب ويعلمون أنه لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ يعني من دون الله وَلِيٌّ يعني قريب ينفعهم وَلا شَفِيعٌ في الآخرة يشفع لهم إن عصوا الله لَعَلَّهُمْ يعني لكي يَتَّقُونَ- 51- المعاصي: نزلت في الموالي عمارة، وأبي ذر الغفاري، وسالم، ومهجع، والنمر بن قاسط وعامر بن فهيرة، وابن مسعود، وأبي هريرة، ونحوهم، وذلك أن أبا جهل وأصحابه قالوا: انظروا إلى هؤلاء الذين اتبعوا محمدًا من موالينا وأعرابنا رذالة كل حي وسفلتهم، يعنون الموالي، ولو كان لا يقبل إلا سادات
__________
(1) سورة «حم السجدة» (فصلت) : 14.
وفى أ: لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً، وفى ل: «لو شاء ربنا» . وفى حاشية أ: التلاوة «لو شاء ربنا» .
(2) فى أ: «أن» هم «يحشروا إلى ربهم» .(1/562)
الحي وسراة «1» الموالي تابعناه [117 ب] وذكروا ذلك لأبي طالب، فقالوا: قل لابن أخيك أن يطرد هؤلاء الغرباء «2» والسفلة حتى يجيبه سادات قومه وأشرافهم قال أبو طالب للنبي- صلى الله عليه وسلم-: لو طردت هؤلاء عنك لعل سراة قومك يتبعونك، فأنزل الله وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ يعني الصلاة له بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ طرفي النهار يُرِيدُونَ وَجْهَهُ يعني يبتغون بصلاتهم وجه ربهم مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ- 52- قال: وكانت الصلاة يومئذ ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي ثم فرضت الصلوات «3» الخمس بعد ذلك وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يقول وهكذا ابتلينا فقراء المسلمين من العرب والموالي بالعرب من المشركين: أبي جهل، والوليد، وعتبة، وأمية، وسهل بن عمرو، ونحوهم «لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ» «4» يعني أنعم الله عليهم بالإسلام مِنْ بَيْنِنا يقول الله أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ- 53- يعني بالموحدين منكم من غيره، وفيهم نزلت فى الفرقان «وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً ... » إلى آخر الآية «5» ، ثم قال يعنيهم: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا يعني يصدقون بالقرآن أنه من الله فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يقول مغفرة الله عليكم،
كان النبي- صلى الله عليه وسلم- إذا رآهم بدأهم بالسلام، وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرت أن أصبر معهم وأسلم عليهم،
وقال:
__________
(1) فى ل: سرات، أ: سراة
(2) فى أ: الفقراء، ل: الغرباء
(3) فى أ: الصلاة.
(4) فى أ: «أهؤلاء الله من الله عليهم» .
(5) يشير إلى الآية 20 من سورة الفرقان وتمامها: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً.(1/563)
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ نزلت في عمر بن الخطاب تاب من بعد السوء يعني الشرك وَأَصْلَحَ العمل فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ- 54- وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ يعني نبين الآيات يعني هكذا نبين أمر الدين وَلِتَسْتَبِينَ يعني وليتبين لكم سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ- 55- يعني طريق الكافرين من المؤمنين حتى يعرفهم يعني هؤلاء النفر أبا جهل وأصحابه قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الآلهة قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ- 56- إن اتبعت أهواءكم وذلك حين دعي إلى دين آبائه، قوله: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي يعني بيان من ربي بما أمرني من عبادته وترك عبادة الأصنام، حين قالوا له ائتنا بالعذاب إن كنت من الصادقين وَكَذَّبْتُمْ بِهِ يعني بالعذاب فقال لهم- عليه السلام-: ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب يعني كفار مكة إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يعني ما القضاء إلا لله في نزول العذاب بكم في الدنيا يَقُصُّ الْحَقَّ يعني يقول الحق ومن قرأها «يقضي الحق» يعني يأتي بالعذاب ولا يؤخره إذا جاء وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ- 57- بيني وبينكم يعني خير الحاكمين في نزول العذاب بهم [118 أ] قُلْ لهم لَوْ أَنَّ عِنْدِي يعنى بيدي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ يعني أمر العذاب بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وليس ذلك بيدي وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ- 58- وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ يعني وعند الله خزائن العذاب. متى ينزله بكم لا يَعْلَمُها أحد إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ من شجرة إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ كلها وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ- 59- يقول هو بين في اللوح المحفوظ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ يعني يميتكم بالليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ يعني ما كسبتم من خير أو شر بالنهار(1/564)
ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ يقول يبعثكم من منامكم بالنهار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى يعنى منتهيا إليه ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ في الآخرة ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ- 60- في الدنيا من خير أو شر، هذا وعيد قوله: وَهُوَ الْقاهِرُ لخلقه فَوْقَ عِبادِهِ قد علاهم وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً من الملائكة يعني الكرام الكاتبين يحفظون أعمال بني آدم حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ عند منتهى الأجل تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا يعني ملك الموت وحده- عليه السلام- وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ- 61- يعني لا يضيعون ما أمروا به، يعني ملك الموت وحده ثم قال: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ ثم ردوا من الموت إلى الله في الآخرة فيها تقديم أَلا لَهُ الْحُكْمُ يعنى القضاء وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ- 62- يقول هو أسرع حسابًا من غيره وذلك قوله: «وَكَفى بِنا حاسِبِينَ» «1» قُلْ يا محمد لكفار مكة: مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ يعني الظلل والظلمة والموج تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً يعني مستكينين «2» وَخُفْيَةً يعني في خفض وسكون لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ الأهوال لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ- 63- لله في هذه النعم فيوحدوه قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ يعني من أهوال كل كرب يعني من كل شدة ثُمَّ أَنْتُمْ «3» تُشْرِكُونَ- 64- في الرخاء قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ يعني الحصب بالحجارة كما فعل بقوم لوط فلا يبقى منكم أحد، أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ يعني الخسف كما فعل بقارون ومن معه، ثم قال: أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً يعني فرقًا أحزابًا أهواء مختلفة كفعله بالأمم الخالية، وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ يقول يقتل بعضكم بعضًا فلا يبقى منكم أحد إلا قليل
فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يجر
__________
(1) سورة الأنبياء: 47.
(2) فى أ: مسكس، وهي غير معجمة فى أ. [.....]
(3) فى أ: ثم أنتم، ثم أنتم: كررها مرتين.(1/565)
رداءه، وذلك بالليل وهو يقول لئن أرسل الله على أمتي عذابًا من فوقهم ليهلكنهم أو من تحت أرجلهم فلا يبقى منهم أحد فقام- صلى الله عليه وسلم- فصلى ودعا ربه أن يكشف ذلك عنهم فأعطاه الله اثنتين الحصب والخسف كشفهما عن أمته «1» ، ومنعه اثنتين الفرقة والقتل، فقال: أعوذ بعفوك من عقابك، وأعوذ بمعافاتك من غضبك، وأعوذ بك منك جل وجهك لا أبلغ مدحتك [118 ب] والثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك. قال فجاءه جبريل- عليه السلام- فقال: إن الله قد استجاب لك وكشف عن أمتك اثنتين ومنعوا اثنتين «2» .
انْظُرْ يا محمد كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ يعني العلامات في أمور شتى من ألوان العذاب لَعَلَّهُمْ يقول لكي يَفْقَهُونَ- 65- عن الله فيخافوه ويوحدوه وَكَذَّبَ بِهِ بالقرآن قَوْمُكَ خاصة وَهُوَ الْحَقُّ جاء من الله قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ- 66- يقول بمسيطر نسختها آية السيف «3» لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ يقول لكل حديث حقيقة ومنتهى يعنى
__________
(1) فى ل: فكشفه عن أمته، أ: وكشف عن أمته.
(2) ورد فى أسباب النزول للسيوطي: 100، ما يتعلق بسبب نزول الآية وفيه طرف مما ذكره مقاتل. وملخص ما ذكره مقاتل: أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أكثر الدعاء لله أن يكشف عن أمته العذاب بألوانه الأربعة الحصب، والخسف، والفرقة، والقتل، وأن الله استجاب فى اثنتين فكشف عن أمته عذاب الحصب والخسف، ولم يستجب له فى اثنتين هما الفرقة والقتل. فالله لا يعذب أمة محمد بالحصب ولا بالخسف. ولكن يعذبها بالفرقة والقتل. نسأل الله السلامة والعناية لنا وللمسلمين آمين.
(3) لا نسخ هنا، وإنما هو تدرج فى التشريع فأمر المسلمون بالصبر والاحتمال والمسألة فى أول الدعوة ثم أمروا بالدفاع عن أنفسهم ثم بقتال المشركين كافة لأنهم وقفوا بقوتهم وجبروتهم فى سبيل تبليغ الدعوة فكان قتالهم، ردا للعدوان، وإزالة للعقبات من وجه تبليغ الدعوة وتمكينا لدين الله أن يسمعه كل فرد دون ضغط عليه.
وكان تشريع الله لكل مرحلة بما يناسبها، مرحلة الصبر والمسألة فى حالة الضعف ثم مرحلة رد العدوان وإزالة قوى الشر فى حالة القوة.(1/566)
العذاب منه في الدنيا وهو القتل ببدر، ومنه في الآخرة نار جهنم، وذلك قوله:
وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ- 67- أوعدهم العذاب مثلها في «اقتربت» وَإِذا رَأَيْتَ يعني سمعت يا محمد الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا يعنى يستهزءون بالقرآن وقالوا ما لا يصلح قال الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ يعني فقم عنهم لا تجالسهم حتى يكون حديثهم في غير أمر الله وذكره وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ يقول فإن أنساك الشيطان فجالستهم بعد النهي فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى يقول إذا ذكرت فلا تقعد مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ- 68- يعني المشركين، فقال المؤمنون عند ذلك، لو قمنا عنهم إذا خاضوا واستهزءوا فإنا نخشى الإثم في مجالستهم يعني حين لا نغير عليهم «1» فأنزل الله وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ يعني يوحدون الرب مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني من مجازاة عقوبة خوضهم واستهزائهم من شيء، ثم قال: وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ- 69- إذا قمتم عنهم منعهم من الخوض والاستهزاء الحياء منكم والرغبة في مجالستكم فيذكرون قيامكم عنهم ويتركون الخوض والاستهزاء ثم نسختها الآية التي في النساء «2» وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ... الآية «3» .
__________
(1) فى أ: إنا تخشى فى مجالستهم الإثم يعنى حين لا نغير عليهم.
وفى تفسير القرطبي ص 179: روى أن المسلمين قالوا: لئن كنا نقوم كلما استهزءوا بالقرآن لم نستطيع أن نجلس فى المسجد الحرام ونطوف فنزلت:
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا.. سورة الأنعام: 70.
(2) وهذه أيضا لأنسخ فيها وإنما هو تقييد المطلق فسماه مقاتل نسخا على مقتضى مدلول النسخ عنده فإنه يطلق النسخ على تقييد المطلق أو تخصيص العام أو تفسير المجمل. كما يطلق على التدرج فى التشريع نسخا.
(3) سورة النساء: 140 وتمامها:.. إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً.(1/567)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الإسلام لَعِباً يعني باطلا وَلَهْواً يعني لهوًا عنه وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا عن دينهم الإسلام وَذَكِّرْ بِهِ يعني وعظ بالقرآن أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ يعني لئلا تبسل نفس بِما كَسَبَتْ يعني بما عملت من الشرك والتكذيب فترتهن بعملها في النار لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ يعني قريبًا ينفعهم وَلا شَفِيعٌ في الآخرة يشفع لهم وَإِنْ تَعْدِلْ يعني فتفتدي هذه النفس المرتهنة بعملها كُلَّ عَدْلٍ فتعطى كل فداء: ملء الأرض ذهبًا لا يُؤْخَذْ مِنْها يعني لا يقبل منها أُولئِكَ يعنيهم الَّذِينَ أُبْسِلُوا يعني حبسوا في النار بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ يعني النار التي قد انتهى حرها وَعَذابٌ أَلِيمٌ يعنى وجيع بِما كانُوا يَكْفُرُونَ- 70- قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا [119 أ] وذلك أن كفار مكة عذبوا نفرًا من المسلمين على الإسلام وأرادوهم على الكفر يقول الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم- قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من آلهة يعني الأوثان مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً «1» في الآخرة ولا يملك لنا ضرًا في الدنيا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا يعني ونرجع إلى الشرك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ إلى دينه الإسلام فهذا قول المسلمين للكفار حين قالوا لهم اتركوا دين محمد- صلى الله عليه وسلم- واتبعوا ديننا. يقول الله للمؤمنين ردوا عليهم فإن مثلنا إن اتبعناكم وتركنا ديننا كان مثلنا كَالَّذِي «2» اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ وأصحابه على الطريق يدعونه إلى الهدى أن ائتنا فإنا على الطريق فأبى ذلك الرجل أن يأتيهم فذلك مثلنا أن تركنا دين محمد- صلى الله عليه وسلم- ونحن على طريق الإسلام وأما الذي استهوته الشياطين يعنى أضلته فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لا يدري أين يتوجه فإنه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أضلته الشياطين عن الهدى فهو حيران لَهُ أَصْحابٌ
__________
(1) سورة المائدة: 76.
(2) فى أ: كمثل الذي.(1/568)
مهتدون يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى يعني أبويه قالا له: ائْتِنا فإنا على الهدى وفيه نزلت وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ «أُفٍّ لكما» «1» فذلك قوله: قُلْ «2» إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى يعني الإسلام هو الهدى، والضلال الذي تدعونا «3» الشياطين إليه هو الذي أنتم عليه، قل لهم: وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ يعني لنخلص لِرَبِّ الْعالَمِينَ- 71- فقد فعلنا ثُمّ أمرهم بالعمل فَقَالَ لنبيه- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم-: وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ لمواقيتها يخبرهم أَنَّهُ «4» لا تنفعهم الصَّلاة إلا مَعَ الإخلاص «5» وَاتَّقُوهُ يعني وحدوه وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ- 72- ثم خوفهم فقال: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يعني بأنه لَمْ يخلقهما باطلا لغير شيء وَلَكِن خلقهما لأمر هُوَ كائن وَيَوْمَ يَقُولُ اللَّه للبعث مرة واحدة كُنْ فَيَكُونُ لا يثني الرب القول مرتين قَوْلُهُ فِي البعث بِالْحَقِّ يعني الصدق وأنه كائن وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ أَي ينفخ إسرافيل فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ يعلم غيب ما كان وما يَكُون، ثُمّ قَالَ:
وَالشَّهادَةِ يعني شاهد كُلّ نجوى وكل شيء وَهُوَ الْحَكِيمُ يعني حكم البعث الْخَبِيرُ- 73- بالبعث مَتَى يبعثهم وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ اسمه بكلام قومه تارح «أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ» «6» - 74- وولد إِبْرَاهِيم بكوتى، وذلك أن الكهنة قَالُوا لنمروذ الجبار: إنَّه يولد فِي هَذِهِ السنة
__________
(1) سورة الأنبياء: 67. وقد هدى الله عبد الرحمن بن أبى بكر إلى الإسلام بعد ذلك وصار من سادات المسلمين.
(2) قل: ساقطة من أ، ل.
(3) هكذا فى أ، ل والأنسب تدعو.
(4) فى أ: أنهم، ل: أنه.
(5) أى أن إقامة الصلاة كاملة يستلزم الإخلاص فيها لأنه روحها الذي تقوم عليه. [.....]
(6) ما بين القوسين « ... » ساقطة من أ، ل.(1/569)
غُلام يفسد آلهة أَهْل الأرض ويدعو إلى غَيْر آلهتكم ويكون هلاك ملكك وهلاك أَهْل بيتك بسببه، فَقَالَ نمروذ: إن دواء هَذَا لهين نعزل الرجال عن النّساء، ونعمد إلى كُلّ غُلام يولد فِي هَذِهِ السنة فنقتله إلى أن تنقضي السنة. فقالوا:
إن فعلت ذَلِكَ وإلا كان الَّذِي قُلْنَا لك. فعمد نمروذ [119 ب] فجعل عَلَى كُلّ عشرة رجال رَجُلا، وقَالَ لهم: إذا طهرت المرأة فحولوا بينها وبَيْنَ زوجها إلى أن تحيض ثُمّ يرجع إلى امرأته إلى أن تطهر ثُمّ يحال بَيْنَهُمَا فرجع آزر إلى امرأته فجامعها عَلَى طهر فحملت، قَالَت الكهنة: قَدْ حمل به الليلة. قَالَ نمروذ:
انظروا إلى كُلّ امرأة استبان حملها فخلوا سبيلها، وانظروا بقيتهن. فَلَمَّا دنا مخاض أم إِبْرَاهِيم- عَلَيْه السَّلام- دنت إلى نهر يابس «1» فولدت فِيهِ ثُمّ لفته فِي خرقة فوضعته فِي حلفا ثُمّ رجعت إلى بيتها، فأخبرت زوجها بمكانه، فعمد أبوه فحفر لَهُ سربا فِي الأرض ثُمّ جعله فِيهِ وسد عَلَيْه بصخرة مخافة السباع فكانت أُمّه تختلف إِلَيْهِ وترضعه حَتَّى فطمته «2» وعقل، وكان ينبت فِي اليوم نبات شهر، وَفِي الشهر نبات سنة، وَفِي السنة نبات سنتين، فَقَالَ لأمه: من ربي؟ قَالَتْ: أَنَا. قَالَ: من ربك؟ قَالَتْ: أبوك؟ قَالَ: فَمنْ رب أَبِي؟ فضربته، وقالت لَهُ: اسكت فسكت الصبي، ورجعت إلى زوجها، فقالت: أرأيت الغلام الَّذِي كُنَّا نخبر أَنَّهُ يغير دين أَهْل الأرض؟ فهو ابْنَك وأخبرته الخبر فأتاه أبوه وهو فِي السرب، فَقَالَ:
يا أبت، من ربي؟ قَالَ: أمك. قَالَ: فَمنْ رب أمي؟ قَالَ: أَنَا. قَالَ فَمنْ ربك؟
فضربه، وقَالَ لَهُ: اسكت وَكَذلِكَ يعنى هكذا نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ يعنى خلق السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وما بَيْنَهُمَا من الآيات وَلِيَكُونَ إِبْرَاهِيم مِنَ الْمُوقِنِينَ
__________
(1) فى م: بإنس، وبدون إعجام فى أ، ل.
(2) هذا من الإسرائيليات التي وضعها مقاتل فى تفسيره ولا سند لها من كتاب أو سنة.(1/570)
- 75- بالرب أنه واحد [120 أ] «1» لا شريك لَهُ وذلك أن إِبْرَاهِيم سَأَلَ ربه أن يريه ملكوت السموات والأرض فأمر اللَّه جبريل- عَلَيْه السَّلام- فرفعه إلى الملكوت ينظر إلى أعمال العباد فرأى رَجُلا عَلَى معصية، فَقَالَ: يا رب، ما أقبح ما يأتي هَذَا العبد اللَّهُمَّ اخسف به. ورأى آخر فأعاد الكلام قَالَ: فأمر اللَّه جبريل- عَلَيْه السَّلام- أن يرده إلى الأرض فأوحى الله إليه: مهلا بإبراهيم فلا تدع عَلَى عبادي فَإِنِّي من عبادي عَلَى إحدى خصلتين: إما أن يتوب إليّ قبل موته فأتوب عَلَيْه، وإما أن يموت فيدع خلفا صالحا فيستغفر لأبيه فأغفر لهما بدعائه.
فَلَمَّا»
جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ دنا من باب السرب وذلك فِي آخر الشهر فرأى الزهرة أوّل الليل من خلال «3» السرب ومن وراء الصخرة، والزهرة من أحسن الكواكب «رَأى كَوْكَباً» «4» قالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ يعني غاب قالَ إِبْرَاهِيم لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ- 76- يعني الغائبين الذاهبين وربي لا يذهب وَلا يغيب فَلَمَّا كان آخر الليل رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً يعني طالعا أعظم وأضوأ من الكواكب قالَ هذا رَبِّي وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ فَلَمَّا أَفَلَ يعني غاب قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لدينه لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ- 77- عن الهدى فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً يعني طالعة فِي أول ما رآها ملأت كُلّ شيء ضوءا قالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ
__________
(1) فى أ: اضطراب وتقديم آيات متأخرة. فاضطررت إلى إصلاحها حسب ترتيب المصحف.
فبعد أن أنقل جزءا من ورقة (120 أ) سأعود لأنقل جزءا من (119 ب) تمشيا مع ترتيب الآيات فى المصحف الشريف.
(2) عود إلى ورقة (119 ب) مراعاة لترتيب الآيات كما وردت فى المصحف.
(3) فى الأصل: خلل.
(4) ما بين القوسين « ... » ساقط من أ، ل.(1/571)
يعني أعظم من الزهرة والقمر فَلَمَّا أَفَلَتْ يعني غابت عرف أن الَّذِي خلق هَذِهِ الأشياء دائم باق. ورفع الصَّخرة، ثُمّ خرج فرأى قومه يعبدون الأصنام، فَقَالَ لهم: ما تعبدون؟ قَالُوا: نعبد ما ترى قالَ: يَا قَوْمِ عبادة رب واحد خير من عبادة أرباب كثيرة وإِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ- 78- بالله من الآلهة قالوا فمن تعبد يإبراهيم؟ قَالَ: أعبد اللَّه الَّذِي خلق السموات والأرض حنيفا يعني مخلصا لعبادته وما أَنَا من المشركين. وذلك قوله: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ «يعنى ديني لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً يعنى مخلصا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ- 79-» «1» .
ثُمّ إن نمروذ بن كنعان الجبار خاصم إِبْرَاهِيم، فَقَالَ: من ربك؟ قَالَ إِبْرَاهِيم:
ربي الَّذِي يحيي ويميت، وَهُوَ قوله «وَحاجَّهُ قَوْمُهُ» فعمد نمروذ إلى إنسان فقتله وجاء بآخر فتركه، فَقَالَ: أنا أحييت هَذَا وأمت ذَلِكَ، قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ. فَبُهِتَ الَّذِي كفر «2» يعني نمروذ قوله وَحاجَّهُ قَوْمُهُ وذلك أنهم لما سمعوا إِبْرَاهِيم- عَلَيْه السَّلام- عاب آلهتهم وبرىء منها، قَالُوا لإِبْرَاهِيم: إن لَمْ تؤمن بآلهتنا فإنا نخاف أن تخبلك وتفسدك فتهلك. فذلك قوله «وَحاجَّهُ قَوْمُهُ» يعني وخاصمه قومه قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ لدينه وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ يعني بِاللَّه من الآلهة وهي لا تسمع وَلا تبصر شيئًا وَلا تنفع وَلا تضر وتنحتونها بأيديكم إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً فيضلنى عن
__________
(1) ما بين القوسين « ... » زيادة من ل وليست فى أ.
(2) فى أ: قال إبراهيم فإن الله يأتى بالشمس ... إلى قوله فبهت الذي كفر، وهي الآية 258 من سورة البقرة وتمامها:
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.(1/572)
الهدى فأخاف آلهتكم أن تصيبني بسوء وَسِعَ يعنى ملأ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فعلمه أَفَلا يعني فهلا تَتَذَكَّرُونَ- 80- فتعتبرون. ثُمّ قال لهم: وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ بِاللَّه من الآلهة وَلا تَخافُونَ أنتم ب أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ غيره مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً يعني كتابا فِيهِ حجتكم بأن معه شريكا، ثُمّ قَالَ لَهُم: فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ أنا أو أنتم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ
- 81- من عَبْد إلها واحدًا أحق بالأمن أم من عَبْد أربابا شتى يعني آلهة صغارا وكبارا ذكورا وإناثا فكيف لا يخاف من الكبير إذا سوى بالصغير؟ وكيف لا يخاف من الذكر إذا سوى بالأنثى؟ أخبروني أَيّ الفريقين أحق بالأمن من الشر، إن كنتم تعلمون فرد عَلَيْه قومه. فَقَالَ: الَّذِينَ آمَنُوا برب واحد وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ يعني وَلَم يخلطوا تصديقهم بشرك فلم يعبدوا غيره أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ- 82- من الضلالة فأقروا بقول إِبْرَاهِيم وفلح «1» عليهم، فذلك قوله: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فِي أمره عَلِيمٌ- 83- بخلقه، ثُمّ قَالَ: وَوَهَبْنا لَهُ يعنى لإبراهيم إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا للإيمان وَنُوحاً هَدَيْنا إلى الْإِسْلام مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ يعني من ذرِّيَّة نوح [120 ب] داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ يعني هكذا نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ- 84- يعني هَؤُلاءِ الَّذِين ذكرهم اللَّه وَزَكَرِيَّا «2» وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ- 85- وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا بالنبوة «3» من الجن والإنس عَلَى الْعالَمِينَ- 86-
__________
(1) فى أ: وفلج، ل: وفلح.
(2) فى أ: إلى قوله « ... وكلا فضلنا» ، وفى ل نص الآية.
(3) هكذا فى أ: ل.(1/573)
وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ يعني واستخلصناهم بالنبوة وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ- 87- يعني الْإِسْلام ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ يعني ثمانية عشر نبيا مِنْ عِبادِهِ فيعطيه النُّبُوَّة وَلَوْ أَشْرَكُوا بِاللَّه لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ- 88- ثُمّ ذكر ما أعطى النبيين فَقَالَ:
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني أعطيناهم الكتاب يعني كتاب إِبْرَاهِيم والتوراة والزبور والإنجيل وَالْحُكْمَ يعني العلم والفهم وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ من أَهْل مكة بما أعطى اللَّه النبيين من الكتب فَقَدْ وَكَّلْنا بِها يعنى بالكتب قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ- 89- يعني أهل المدينة من الأَنْصَار ثُمّ ذكر النبيين الثمانية عشر فَقَالَ: أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ لدينه فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ يَقُولُ للنبي- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- فبسنتهم اقتد قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ يعني عَلَى الْإِيمَان بالقرآن أَجْراً يعني جميلا إِنْ هُوَ يعني ما القرآن إِلَّا ذِكْرى يعني تذكرة لِلْعالَمِينَ- 90- وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يعني ما عظموا اللَّه حق عظمته إِذْ قالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ يَقُولُ عَلَى رسول من كتاب فَمَا عظموه حين كذبوا بأنه لَمْ ينزل كتابا عَلَى الرسل نزلت فِي مَالِك بن الضيف اليهودي حين خاصمه عُمَر بن الخَطَّاب فِي النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ مكتوب فِي التوراة، فغضب مَالِك فَقَالَ: ما أنزل اللَّه على أحد كتابا وكان ربانيا فِي اليهود فعزلته اليهود عن الربانية «1» . فَقَالَ النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً يعني ضياء من الظلمة وَهُدىً لِلنَّاسِ من الضلالة تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ يعنى صحفا
__________
(1) ورد ذلك فى: أسباب النزول للواحدي: 126. وفى كتاب لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطي: 101.(1/574)
لَيْسَ فيها شيء تُبْدُونَها تعلنونها وَتُخْفُونَ يعني وتسرون كَثِيراً فكان مما أخفوا أمر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمر الرجم فِي التوراة وَعُلِّمْتُمْ فِي التوراة ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا وَلَم يعلمه آباؤُكُمْ ثُمّ قَالَ فِي التقديم: قُلِ اللَّهُ أنزل عَلَى مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- ثُمَّ ذَرْهُمْ يعني خل عَنْهُمْ إن لَمْ يصدقوك فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ- 91- فِي باطلهم يلهون يعني اليهود نزلت هَذِهِ الآية بالمدينة ثُمّ إن مَالِك بن الضيف تاب من قوله فلم يقبلوا منه وجعلوا مكانه رَجُلا فِي الربانية.
وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ عَلَى محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُبارَكٌ لمن عمل به وَهُوَ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يَقُولُ يصدق لما قبله من الكتب التي أنزلها الله- عز وجل- على الأنبياء [121 أ] وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى يعني لكي تنذر بالقرآن أصل القرى يعني مكة وإنما سميت أمَّ القرى لأن الأرض كلها دحيت من تحت الكعبة وَتنذر بالقرآن مَنْ حَوْلَها يعنى حول مكة يعني قرى الأرض كلها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني يصدقون بالبعث الَّذِي فِيهِ جزاء الأعمال يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني يصدقون بالقرآن أنه جاء من اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ثُمّ نعتهم فَقَالَ: وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ- 92- عَلَيْهَا فِي مواقيتها لا يتركونها وَمَنْ أَظْلَمُ هَذِهِ الآية مدنية، فلا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ نزلت فِي مسيلمة بن حبيب الكذاب الحنفي حيث زعم أن اللَّه أوحى إِلَيْهِ النُّبُوَّة «1» .
وكان مسيلمة أرسل إلى النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- رسولين فقال
__________
(1) ورد ذلك فى كتاب لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطي: 101. كما ورد فى كتاب أسباب النزول للواحدي: 126. [.....](1/575)
النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهما أتشهدان أن مسيلمة نبى؟ قال: نعم. فقال النبي- صلى الله عليه وسلم-: لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما. ثُمّ قَالَ:
وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فلا أحد أيضا أظلم منه نزلت فِي عبد الله بن سعد بن أبي سرح الْقُرَشِيّ من بني عامر بن لؤي وكان أخا عثمان ابن عفان من الرضاعة، كان يتكلم بالإسلام وكتب للنبي- صَلَّى الله عليه وسلم- يوما سورة النّساء فإذا أملى عَلَيْه النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- «غفورا رحيما» كتب «عليما حكما» وإذا أملى عَلَيْه «سميعا بصيرا» كتب «سميعا عليما» فَقَالَ لقوم من المنافقين: كتبت غَيْر الَّذِي أملى عليّ وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ فلم يغيره فشك عَبْد اللَّه بن سعد فِي إيمانه فلحق بمكة كافرا فَقَالَ لهم: لئن كان محمد صادقا فيما يَقُولُ لقَدْ أنزل عليّ كَمَا أنزل عَلَيْه ولئن كان كاذبا لقَدْ قُلْتُ كَمَا قَالَ. وإنما شك لسكوت النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ فلم يغير ذَلِكَ، وذلك أن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان أميا لا يكتب «1» . ثُمّ قَالَ. وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ يعنى مشركي
__________
(1) ورد ذلك فى أسباب النزول للواحدي: 126. كما ورد فى لباب لنقول للسيوطي: 101.
وهذا الأثر سنده مطعون فيه. فأسانيده فى السيوطي: أخرج ابن جرير عن عكرمة وأخرج عن السدى وأسانيده فى الواحدي كما يأتى:
1- رواية الكلبي عن ابن عباس.
2- أخبرنا عبد الرحمن بن عبدان قال: حدثنا محمد بن عبد الله، قال: حدثني محمد بن يعقوب الأموى، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني شرحبيل بن سعد، قال: نزلت فى عبد الله بن سعد.(1/576)
مكة فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ يعني فِي سكرات الموت إذ قتلوا ببدر وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ عِنْد الموت تضرب الوجوه والأدبار يعني ملك الموت وحده
__________
وقد جرح رجال الحديث: عكرمة صاحب الإسناد الأول للسيوطي كما جرحوا السدى صاحب الإسناد الثاني.
كما جرحوا الكلبي صاحب الإسناد الأول للواحدي. وجرحوا محمد بن إسحاق وغيره فى سلسلة الإسناد الثاني للواحدي.
هذا من ناحية السند.
أما من ناحية المتن فهو غير صحيح.
فإن الحديث الصحيح يشترط فى متنه: أن يكون خاليا من الشذوذ والعلة القادحة، فضلا عن سلامة سنده.
وهذا الأثر يخالف المقطوع به من أن القرآن ثبت بطريق التواتر بكلماته وحروفه.
قال السيوطي: «والأمة كما هي متعبدة بفهم معاني القرآن وأحكامه متعبدة بتصحيح ألفاظه، وإقامة حروفه على الصفة المتلقاة من أئمة القراء، وهي الصفة المتصلة بالحضرة النبوية» أى أنه لا يكفى الأخذ من المصاحف وحدها ولا بد من التلقي والمشافهة عن المتقنين للتلاوة، يدل على ذلك ما رواه الطبراني وغيره عن مسعود بن زيد الكندي قال: كان عبد الله بن مسعود يقرئ رجلا، فقرأ الرجل الآية: «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها..» سورة التوبة: 60، قراءة مرسلة خطف فيها الممدود فلم يشبعها كما ينبغي، فقال عبد الله بن مسعود: ما هكذا أقرأنيها «محمد- صلى الله عليه وسلم» : وقرأ ابن مسعود «إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ... » ومد الفقراء المد اللازم المعروف.
لقد كانت هناك جيوش من القراء تهدر بالقرآن فى جوف الليل وفى الصلوات وفى الزحف وفى شهر رمضان، وفى غزوة القراء: استشهد سبعون حافظا لكتاب الله.
فالقرآن كان محفوظا فى الصدور متلوا على الألسنة متواترا على الأسماع.
فإن خالف قارئ أدنى مخالفة فإن سامعه يرشده أو يحتكمان إلى رسول الله أو غيره من الصحابة والحفاظ.(1/577)
وهو يقول لهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ يعني أرواحكم منهم أَبُو جهل وعتبة بن رَبِيعَة وشيبة والوليد بن عُتْبَة وأمية بن خلف وعقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث
__________
وقد تمسك المستشرقون بهذه الروايات التي ذكرها مقاتل وأمثاله وحرصوا على التعليق عليها «كما فى كتاب المصاحف لأبى داود» وغيره ليشككوا فى ثبوت القرآن ومدى حجية كل حرف فيه. وهي دعوة مغرضة يجب أن نتنبه لها ونفند مغالطتها فليس فى العالم كله كتاب هيئ له من وسائل الحفظ والصون لكل كلمة من كلماته ولكل حرف من حروفه ما هيئ للقرآن الكريم. وصدق الله العظيم: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ سورة الحجر: 9.
وأخيرا فإن أحسن روايات الحديث هي الرواية الثانية للواحدي وتمامها: «نزلت فى عبد الله بن سعد ابن أبى سرح قال: سأنزل مثل ما نزل الله، وارتد عن الإسلام فلما دخل رسول الله (ص) مكة أتى به عثمان رسول الله (ص) فاستأمن له» وهذه الرواية ليس فيها طعن فى ثبوت آيات القرآن ولا ذكر لتحريفه.
وفى هذا المقام يجب التنبيه إلى أن هناك مرويات فى كتب السنة تؤكد ما رواه مقاتل. ولكن إذا علمنا أن شرط الحديث الصحيح سلامة سنده وسلامة متنه من الشذوذ والعلة القادحة فهذه الأحاديث وإن قبلت شكلا لسلامة سندها رفضت موضوعا لمخالفتها ما ثبت بالتواتر واليقين.
فقد ذكر السيوطي فى كتابه الإتقان «فى صدر الحروف السبع التي نزل بها القرآن» قال: روى أبو داود عن أبى بن كعب، قلت: سميعا عليما، عزيزا حكيما ما لم تخلط آية عذاب برحمة، أو رحمة بعذاب.
وعند أحمد من حديث أبى هريرة أنزل القرآن على سبعة أحرف: عليما حكيما، غفورا رحيما.
وعنده أيضا من حديث عمر بأن كله صواب ما لم تجعل مغفرة عذابا، وعذابا مغفرة. قال وأسانيدها جياد.
إن المستشرقين قد تلقفوا هذه الأحاديث وبنوا عليها ركاما هائلا من تشكيك المسلمين فى حجية كتابهم وتواتره.
مع أن هذه الروايات تخالف المقطوع به من الأمة سلفا عن خلف. وتراثنا العلمى فى حاجة إلى يقظة وتحقيق وتنقية.(1/578)
وأَبُو قَيْس بن الفاكه والوليد بن المُغِيرَة وقريبا من سبعين قتيلا فَلَمَّا بعثوا فِي الآخرة وصاروا فِي النار، قَالَتْ لهم خزنة جهنم: «1» الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ يعني الهوان بغير رأفة وَلا رحمة، نظيرها فِي الأنفال، بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ فِي الدُّنْيَا غَيْرَ الْحَقِّ بأن معه شريكا وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ- 93- يعني وكنتم «2» تتكبرون عن الْإِيمَان بالقرآن وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فِي الآخرة فُرادى لَيْسَ معكم من الدنيا شيء [121 ب] كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ حين ولدوا وليس لهم شيء وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ فِي الدُّنْيَا وَراءَ ظُهُورِكُمْ يعني ما أعطيناكم من الخير من بعدكم فِي الدُّنْيَا وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ من الملائكة الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ يعني أنهم لَكُمْ شفعاء عِنْد اللَّه لقولهم فى يونس: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «3» يعني الملائكة، ثُمّ قَالَ:
لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وبين شركاءكم يعني من الملائكة من المودة والتواصل وَضَلَّ عَنْكُمْ فى الآخرة ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ- 94- فِي الدُّنْيَا بأن مَعَ اللَّه شريكا.
إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ يعني خالق الحب يعني البر والشعير والذرة والحبوب كلها، ثُمّ قَالَ: وَالنَّوى يعني كُلّ ثمرة لها نوى: الخوج والنبق والمشمش والعنب «4» والإجاص وكل ما كان من الثمار لَهُ نوى.
ثُمّ قَالَ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ يَقُولُ أخرج الناس والدواب من النطف وهي ميتة ويخرج الطير كلها من البيضة وهي ميتة، ثُمّ قَالَ: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ
__________
(1) جهنم: ساقطة من أ، ومثبتة فى ل.
(2) وكنتم: ساقطة من أ، ومثبتة ل فى.
(3) سورة يونس: 18.
(4) فى أ: السين. ومن الجائز أن المراد به التين. وفى ل: العنب.(1/579)
يعني النطف والبيض من الحي يعني الحيوانات «1» كلها ذلِكُمُ اللَّهُ الَّذِي ذكر فِي هَذِهِ الآية من صنعه وحده يدل عَلَى توحيده بصنعه، ثُمّ قَالَ:
فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ- 95- يَقُولُ أنى يكذبون بأن اللَّه وحده لا شريك لَهُ، ثُمّ ذكر أيضا فِي هَذِهِ من صنعه ليدل عَلَى توحيده بصنعه، فَقَالَ: فالِقُ الْإِصْباحِ يعنى خالق النهار من حين يبدو أوله وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً لخلقه يسكنون فيه لراحة أجسادهم وَجعل الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً يَقُولُ جعلهما فِي مسيرهما كالحسبان فِي الفلك يَقُولُ لتعلموا عدد السنين والحساب وذلك أن اللَّه قدر لهما منازلهما فِي السماء الدُّنْيَا، فذلك قوله: ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ فِي ملكه يصنع ما أراد الْعَلِيمِ- 96- بما قدر من خلقه نظيرها فِي يُونُس «2» .
ثُمّ قال: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ نورا لِتَهْتَدُوا بِها بالكواكب ليلا يَقُولُ لتعرفوا الطريق إذا سرتم فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ- 97- بأن اللَّه واحد لا شريك لَهُ، ثُمّ أخبر عن صنعه فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ يعني خلقكم من نفس واحدة يعني آدم وحده فَمُسْتَقَرٌّ فِي أرحام النّساء وَمُسْتَوْدَعٌ فِي أصلاب الرجال مما لَمْ يخلقه وَهُوَ خالقه قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ يعني قَدْ بينا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ- 98- عن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- ثُمّ أخبر عن صنعه ليعرف توحيده فَقَالَ: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً
__________
(1) فى الأصل: الحيوان.
(2) يشير إلى الآية الثالثة من سورة يونس إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ... الآية.(1/580)
يعنى المطر فَأَخْرَجْنا بِهِ يعني بالمطر «1» نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ يعني الثمار والحبوب وألوان النبات فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً يعني أول النبات نُخْرِجُ مِنْهُ يعني من الماء حَبًّا مُتَراكِباً يعني السنبل قَدْ ركب بعضه بعضا وَأخرجنا بالماء مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها يعنى من ثمرها قِنْوانٌ يعنى [122 أ] قصار النخل دانِيَةٌ يعني ملتصقة «2» بالأرض تجنى «3» باليد وَأخرجنا بالماء جَنَّاتٍ يعني البساتين، ثُمّ نعت البساتين فَقَالَ: مِنَ نخيل وأَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً ورقها فِي المنظر يشبه ورق الزيتون وورق الرمان، ثُمّ قَالَ:
وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ فِي اللون مختلف فِي الطعم انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ حين يبدو غضا أوله صيصا وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ يعني إن فِي هَذَا الَّذِي ذكرَ من صنعه وعجائبه لعبرة لَآياتٍ «4» لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ- 99- يعنى يصدقون بالتوحيد وَجَعَلُوا يعني وصفوا لِلَّهِ الَّذِي خلقهم فِي التقديم شُرَكاءَ الْجِنَّ من الملائكة وذلك أن جهينة وبني سَلَمَة وخزاعة وَغَيْرُهُمْ، قَالُوا أن حيا من الملائكة يُقَالُ لهم الجن بنات الرحمن. فقال الله: وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ يعني وتخرصوا يعني يخلقوا للَّه بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ يعلمونه أن لَهُ بنين وبنات وذلك أن اليهود قالوا عزير ابن الله. وقالت النصارى المسيح ابْن اللَّه. وقالت العرب الملائكة بنات اللَّه يَقُولُ اللَّه سُبْحانَهُ نزه نفسه عما قَالُوا من البهتان، ثُمّ عظم نفسه فَقَالَ: وَتَعالى يعني وارتفع عَمَّا يَصِفُونَ- 100- يعني، يقولون من الكذب، فعظم نفسه وأخبر عن قدرته فقال: بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَمْ يكونا فابتدع خلقهما، ثُمّ قَالَ أَنَّى يعني من أَيْنَ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ يعنى
__________
(1) فى أ: المطر.
(2) فى الأصل: ملزقة.
(3) فى الأصل: تجتنى.
(4) فى أ: وآيات، وفى حاشية أ: التلاوة لآيات.(1/581)
زوجة وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ يعني من الملائكة وعزير وعيسى وَغَيْرُهُمْ فهم «خلقه وعباده وَفِي ملكه» «1» ، ثُمّ قَالَ: وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ- 101- ثُمّ دل عَلَى نفسه بصنعه ليوحدوه فَقَالَ: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ الَّذِي ابتدع خلقهما «2» وخلق كُلّ شيء وَلَم يَكُنْ لَهُ صاحبه وَلا ولد ثُمّ وحد نفسه إذ لَمْ يوحده كفار مكة فَقَالَ: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ يعني فوحدوه وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ- 102- وهو رب كل شيء ذكر من بنين وبنات وغيرهم، ثُمّ عظم نفسه فَقَالَ: لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يَقُولُ لا يراه الخلق فِي الدُّنْيَا وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ يرى الخلق فِي الدُّنْيَا وَهُوَ اللَّطِيفُ لطف علمه وقدرته حين يراهم فِي السموات والأرض الْخَبِيرُ- 103- بمكانهم قَدْ جاءَكُمْ يا أهل مكة بَصائِرُ يعني بيان مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن نظيرها فِي الأعراف «3» فَمَنْ أَبْصَرَ إيمانا بالقرآن فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ عن إيمان بالقرآن فَعَلَيْها يعني فعلى نفسه وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ- 104- يعني برقيب يعني محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَذلِكَ يعني وهكذا نُصَرِّفُ الْآياتِ فِي أمور شتى يعني ما ذكر وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ يعني قابلت ودرست يعني تعلمت من غيرك يا محمد فأنزل اللَّه «وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ» [122 ب] لئلا يقولوا درست وقرأت من غيرك وَلِنُبَيِّنَهُ يعنى القرآن لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ- 105- اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وذلك حين دعى النبي- صلى الله عليه وَسَلَّمَ- إلى مَلَّة آبائه فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- «اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ- 106-
__________
(1) فى الأصل ما بين القوسين: «خلقي وعبادي وفى ملكي» . [.....]
(2) الضمير عائد إلى السماوات والأرض فى قوله- سبحانه- «بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ» .
(3) يشير إلى الآية 201 من سورة الأعراف وهي: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ.(1/582)
يقول الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم- أعرض عنهم إذا أشركوا، ثم قال: «1» وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا يَقُولُ ولو شاء اللَّه لمنعهم من الشرك وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً يعني رقيبا إن لَمْ يوحدوا وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ- 107- يعني بمسيطر فنسختها آية السيف «2» وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وذلك أن النبي- صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كانوا يذكرون أوثان أَهْل مكة بسوء فقالوا: لينتهين محمد عن شتم آلهتنا أَوْ لنسبن ربه فنهى اللَّه الْمُؤْمِنِين عن شتم آلهتهم فيسبوا ربهم لأنهم جهلة بِاللَّه. وأنزل اللَّه «وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» يعني يعبدون من دون اللَّه من الآلهة فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ يعلمونه أنهم يسبون اللَّه يعني أَهْل مكة كَذلِكَ يعني هكذا زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ يعنى ضلالتهم ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فى الآخرة فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ- 108- فلما نزلت هذه الآية قال النبي- صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأصحابه: لا تسبوا ربكم فأمسك المسلمون عِنْد ذَلِكَ عن شتم آلهتهم وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ فَمنْ حلف بِاللَّه فقد اجتهد فِي اليمين وذلك أن كفار مكة حلفوا للنبي- صَلَّى الله عليه وسلم- لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ كما كانت الأنبياء تجيء بها إلى قومهم لَيُؤْمِنُنَّ بِها: ليؤمنن بالآية «3» ، قَالَ اللَّه لنبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ إن شاء أرسلها وليست بيدي وَما يُشْعِرُكُمْ وما يدريكم
__________
(1) فى أ: فقال.
(2) ليس هنا نسخ وإنما هو تدرّج فى التشريع، فأمر هنا بالصبر والمسالمة فى حالة ضعف المسلمين ثم أمر بالسيف عند قوتهم والعدوان عليهم.
(3) فى أ: يعنى بالله، ل: ليؤمن بالآية.(1/583)
أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ- 109- يعني لا يصدقون، لما سبق فِي علم اللَّه من الشقاء وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ يعني قلوبهم وَأَبْصارَهُمْ عن الْإِيمَان كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ يَقُولُ كَمَا لَمْ يؤمن بها أوائلهم من الأمم الخالية بما سألوا من الآيات قبلها فكذلك كفار أَهْل مكة لا يصدقون بها إن جاءتهم آية، ثُمّ قَالَ: وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ- 110- يعني فِي ضلالتهم يترددون لا نخرجهم منها أبدا، ثُمّ أخبر عما علمه فيهم فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وأخبروهم أن محمدا رسول كَمَا سألوا، لقولهم «1» فى الفرقان لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ «2» يعني المستهزئين من قريش أبا جهل وأصحابه ثُمّ قَالَ: وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى لقولهم «3» ابعث لنا رجلين أو ثلاثة من آبائنا فنسألهم عما أمامهم مما تحدثنا «4» أَنَّهُ يَكُون بعد الموت أحق هُوَ؟ ثُمّ قَالَ: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا [123 أ] يعني عيانا «قَالَ أَبُو محمد «5» ومن قرأه «قبلا» أراد قبيلا قبيلا رواه عن ثعلب» «6» فعاينوه كله، فلو فعلت هَذَا كله فأخبروهم بأن الَّذِي يَقُولُ محمد حق مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا يعنى ليصدقوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ لهم الْإِيمَان وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أكثر أَهْل مكة يَجْهَلُونَ- 111- ثُمّ قَالَ: وَكَذلِكَ يعني وهكذا جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا من قومه يعني أبا جهل عدوا للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كقولهم فِي الفرقان: «وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ ... » إلى آخر الآية «7» - قوله: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ وذلك أن إبليس
__________
(1) فى ل: لقولهم، أ: لقولهم.
(2) سورة الفرقان: 21.
(3) فى الأصل زيادة: فى الرعد.
(4) عن إمامهم ما تحدثنا.
(5) أبو محمد: هو عبد الله بن ثابت.
(6) ما بين الأقواس « ... » ساقط من ل.
(7) يشير إلى الآية 7 من سورة الفرقان وتمامها: وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً.(1/584)
وكَّل شياطين بالإنس يضلونهم، ووكل شياطين بالجن يضلونهم فإذا التقى شيطان الإنس مَعَ شيطان الجن قَالَ أَحَدهمَا لصاحبه: إني أضللت صاحبي بكذا وكذا، فاضلل أَنْت صاحبك بكذا وكذا فذلك قوله: «يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ» يقول يزين بعضهم زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً يَقُولُ ذَلِكَ التزيين بالقول بَاطِل يغرون به الإنس والجن، ثُمّ قَالَ «1» : وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ يَقُولُ لو شاء اللَّه لمنعهم عن ذَلِكَ. ثم قال للنبي- صلى الله عليه وسلم- فَذَرْهُمْ يعني خل عَنْهُمْ يعني كفار مكة وَما يَفْتَرُونَ- 112- من الكذب وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني ولتميل إلى ذَلِكَ الزخرف والغرور قلوب الَّذِين لا يؤمنون بالآخرة- يعني الَّذِين لا يصدقون بالبعث الَّذِي فِيهِ جزاء الأعمال وَلِيَرْضَوْهُ يعنى وليحبوه وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ- 113- يعني ليعملوا من المعاصي ما هُمْ عاملون أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً فَلَيْس أحد أحسن قضاء من اللَّه فِي نزول العذاب ببدر وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلًا يعني القرآن حلاله وحرامه وكل شيء مفصلا يعنى مبينا فيه أمره ونهيه «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» «2» - 114-.
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ بأنه ناصر محمد- صلى الله عليه وسلم- ببدر ومعذب قومه ببدر فحكمه عدل فِي ذَلِكَ، فذلك قوله: صِدْقاً فيما وعد وَعَدْلًا فيما حكم لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ يعني لا تبديل لقوله فِي نصر محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأن قوله حق وَهُوَ السَّمِيعُ بما سألوا من العذاب الْعَلِيمُ- 115- به حين سألوا: «فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ» «3» يعني جانبا من السماء وَإِنْ تُطِعْ يا محمد
__________
(1) فى أ: فقال.
(2) ما بين الأقواس « ... » ساقط من ل. ومكتوب فى حاشية أ. [.....]
(3) سورة الشعراء: 187.(1/585)
أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يعني أهل مكة حين دعوه إلى مِلَّة آبائه يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني يستنزلوك عن دين الْإِسْلام إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ يعني وما هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ- 116- الكذب إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ يعني عن دينه الْإِسْلام وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ- 117- فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ- 118- يعنى بالقرآن مصدقين وذلك [123 ب] أن كفار مكة حين سمعوا أن اللَّه حرم الميتة قَالُوا للمسلمين: أتزعمون أنكم تتبعون مرضاة ربكم؟ ألا تحدثونا عما قتلتم أنتم بأيديكم أهو أفضل؟ أَوْ ما قَتَل اللَّه؟ فَقَالَ المسلمون: بل اللَّه أفضل صنعا فقالوا لهم: فَمَا لَكُمْ تأكلون مما ذبحتم بأيديكم، وما ذبح اللَّه فلا تأكلونه وَهُوَ عندكم ميتة فأنزل اللَّه وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ يعني وَقَدْ بين لَكُمْ ما حرم عليكم: يعني الميتة والدم ولحم الخنزير، ثُمّ استثنى فقال: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ مما نهيتم عن أكله وَإِنَّ كَثِيراً من الناس يعني سادة قريش لَيُضِلُّونَ أَهْل مكة بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ يعلمونه فى أمر الذبائح إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ- 119- وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ يعني واتركوا ظاهر الإثم وَباطِنَهُ يعني الزنا فِي السر والعلانية. وذلك أن قريشا كانوا ينكرون الزنا فِي العلانية وَلا يرون به بأسا سرا إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ يعني الشرك سَيُجْزَوْنَ فِي الآخرة بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ- 120- يعني يكسبون وأنزل اللَّه فِي قولهم، ما قَتَل اللَّه فلا تأكلوه وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ يعني إن أكل الميتة لمعصية وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ من المشركين لِيُجادِلُوكُمْ فِي أمر الذبائح «1» وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ باستحلالكم الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ- 121-
__________
(1) ورد ذلك فى: لباب النقول فى أسباب النزول للسيوطي: 103 كما ورد فى أسباب النزول للواحدي: 128.(1/586)
مثلهم وفيهم نزلت لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ «1» يعني أمر الذبائح أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ يعني أَوْ من كان ضالا فهديناه.
نزلت فِي النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يعني إيمانا يَمْشِي بِهِ يعني يهتدي به فِي النَّاسِ أهو كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ يعني كشبه من هُوَ فِي الشرك يعني أبا جهل لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها يعني من الشرك يعني لَيْسَ بمهتد هُوَ فيها: متحير لا يجد منفذا، ليسا بسواء كَذلِكَ يعني هكذا زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ يعني للمشركين ما كانُوا يَعْمَلُونَ- 122- يعني أبا جهل وذلك أَنَّهُ قَالَ زحمتنا بنو عَبْد مَنَاف فِي الشرف حَتَّى «إذا» «2» صرنا كفرسي رهان، قَالُوا مِنَّا نَبِيّ «3» يوحى إِلَيْهِ فَمنْ يدرك هَذَا واللَّه لا نؤمن به وَلا نتبعه أبدا أو يأتينا وحي كَمَا يأتيه فأنزل اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ... إلى آخر الآية «4» .
وَكَذلِكَ يعني وهكذا جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ خلت يعني عصت أَكابِرَ مُجْرِمِيها يعني جبابرتها وكبراءها جعلنا بمكة المستهزئين من قريش لِيَمْكُرُوا فِيها يعني فِي القرية بالمعاصي حين أجلسوا فِي كُلّ طريق أربعة منهم، يَقُولُ اللَّه وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وما معصيتهم إِلَّا عَلَى أنفسهم وَما يَشْعُرُونَ- 123- وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ يعنى انشقاق القمر والدخان [124 أ] قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ يعنى النبي- صلى الله عليه وسلم-
__________
(1) سورة الحج: 67.
(2) «إذا» : من ل، وليست فى أ.
(3) فى ل: من، أ: نبى.
(4) الآية 124 من سورة الأنعام وتمامها وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ.(1/587)
وحده، يَقُولُ اللَّه اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ اللَّه أَعْلَم حيث يختص بنبوته من يشاء سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ يعني مذلة وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ- 124- يعني يقولون لقولهم لو كان هَذَا القرآن حقا «لنزل عَلَى الْوَلِيد بن المُغِيرَة أَوْ عَلَى أَبِي مَسْعُود الثَّقَفيّ، وذلك قولهم» «1» : لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «2» فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ لدينه يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ نزلت في النبي- صلى الله عليه وسلم- يعني يوسع قلبه وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ عن دينه يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً بالتوحيد يعني أبا جهل حَتَّى لا يجد التوحيد من الضيق مجازا، ثُمّ قَالَ: حَرَجاً شاكا كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ يَقُولُ هُوَ بمنزلة المتكلف الصعود إلى السماء لا يقدر عَلَيْه كَذلِكَ يعني هكذا يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ يقول الشر عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ- 125- بالتوحيد وَهذا التوحيد صِراطُ رَبِّكَ يعني دين ربك مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ يعني قَدْ بينا الآيات فِي أمر القلوب فِي الهدى والضلالة يعني الَّذِي يشرح صدره للإسلام وَالَّذِي جعله ضيقا حرجا لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ- 126- بتوحيد اللَّه.
ثُمّ ذكر ما أعد للموحدين فقال: لَهُمْ دارُ السَّلامِ يعني جنة اللَّه عِنْدَ رَبِّهِمْ فِي الآخرة وَهُوَ وَلِيُّهُمْ يَقُولُ اللَّه وليهم فِي الآخرة بِما كانُوا يَعْمَلُونَ- 127- لَهُ في الدُّنْيَا يعني يوحدون ربهم وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ يعني كفار الإنس والشياطين والجن يَقُولُ ويوم نجمعهم جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ ثُمّ يَقُولُ للشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ يعني من ضلال الإنس فيما أضللتم منهم وذلك أن كفار الإنس كانوا تولوا الجن وأعاذوا بهم وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ يعنى
__________
(1) فى أ: لنزل على أو على أبى مسعود الثقفي يقول الوليد بن المغيرة لنزل على وذلك قوله.
(2) سورة الزخرف: 31.(1/588)
أولياء الجن من كفار الإنس رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ كاستمتاع الإنس بالجن، وذلك أن الرَّجُل كان إذا سافر فأدركه الليل بأرض القفر خاف فيقول أعوذ بسيد هَذَا الوادي من سفهاء قومه فيبيت فِي جواره آمنا، وكان استمتاع الجن بالإنس: أن يقولوا لقَدْ سودتنا الإنس حين فزعوا إلينا فيزدادوا بِذَلِك شرفا وَقالت بَلَغْنا أَجَلَنَا الموت الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا فِي الدُّنْيَا فرد اللَّه عليهم: قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ ومثوى الكافرين خالِدِينَ فِيها أبدا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ واستثنى أَهْل التوحيد أنهم لا يخلدون فيها إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ يعني حكم النار لمن عصاه عَلِيمٌ- 128- يَقُولُ عالم بمن لا يعصيه قوله: وَكَذلِكَ يعنى وهكذا نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً فولى اللَّه ظلمة الإنس ظلمة الجن، وولى ظلمة الجن ظلمة الإنس بأعمالهم الخبيثة، فذلك قوله: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ- 129- يعني يعملون من الشرك، ثُمّ قَالَ لهم عند ذلك: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
[124 ب] يعني كفار الجن وكفار الإنس، وَلا يعني به الشياطين لأن الشياطين هُمْ أغروا كفار الجن وكفار الإنس وبعث اللَّه رسولا من الجن إلى الجن، ومن الإنس الإنس يقصون، فذلك قوله: لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يعني من أنفسكم الجن إلى الجن والإنس إلى الإنس قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
يعنى آيات القرآن يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
يعنى يوم القيامةالُوا
يعنى قالت الإنس والجن: هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
بِذَلِك أنا كفرنا بما قَالَت الرسل فِي الدُّنْيَا، قَالَ اللَّه للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
عن دينهم الْإِسْلام، وَيَقُولُ اللَّه للنبي- صَلَّى الله عليه وسلم-: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ
فى الآخرةنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
- 130- فِي الدُّنْيَا، وذلك حين شهدت عليهم الجوارح بالشرك والكفر فِي الدُّنْيَا، ثُمّ قَالَ الخازن- فى التقديم-: «النَّارُ مَثْواكُمْ» يعني مأواكم «خالِدِينَ(1/589)
فِيها»
لا يموتون ثُمّ استثنى فَقَالَ «إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ» حكم عليهم حقا بِذَلِك الهلاك كفعله بالأمم الخالية- فى سورة أخرى «1» .
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى يعني معذب أَهْل القرى بِظُلْمٍ بغير ذنب فِي الدُّنْيَا وَأَهْلُها غافِلُونَ- 131- عن العذاب حَتَّى يبعث فِي أمها رسولا ينذرهم بالعذاب حجة عليهم وَلِكُلٍّ يعني كفار الجن والإنس دَرَجاتٌ يعني فضائل «2» من العذاب فِي الآخرة مِمَّا عَمِلُوا فِي الدُّنْيَا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ- 132- هَذَا وعيد نظيرها فِي الأحقاف «3» ، وقوله: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عن عبادة خلقه ذُو الرَّحْمَةِ يعني النعمة فلا تعجل عليهم بالعذاب يعني كفار مكة إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ بهلاك وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ خلقا من غيركم بعد هلاككم ما يَشاءُ إن شاء مثلكم وإن شاء أمثل وأطوع للَّه منكم كَما أَنْشَأَكُمْ يعني كَمَا خلقكم مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ- 133- يعني ذرِّيَّة أَهْل سفينة نوح إِنَّ مَا تُوعَدُونَ من العذاب فِي الدُّنْيَا لَآتٍ يعني لكائن وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ- 134- يعني بسابقي الله بأعمالكم الخبيثة حتى يجزيكم بها، قوله: قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ يعني جديلتكم يعني كفار مكة إِنِّي عامِلٌ عَلَى جديلتي التي أمرني بها ربي فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ يعنى الجنة
__________
(1) أى أن ما أصاب الأمم الخالية مذكور فى سورة أخرى أما الآية المذكورة فقد تقدمت قريبا، وهذا معنى قوله: قال الخازن فى التقديم «فالنار مثواكم..» وهي الآية 128 من سورة الأنعام.
(2) فى م: فضائل، أ: فضائل المراد منازل جراء عملهم.
(3) يشير إلى الآية 19 من سورة الأحقاف وهي: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ.(1/590)
أنحن أم انتم، ثُمّ قَالَ للنبي- صَلَّى الله عليه وسلم-: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ يعني لا يسعد الظَّالِمُونَ- 135- فِي الآخرة يعني المشركين نظيرها فِي القصص «1» وَجَعَلُوا لِلَّهِ يعني وصفوا للَّه مِمَّا ذَرَأَ يعني مما خلق مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا يعني النصيب لآلهتهم، مثل ذَلِكَ فَمَا أخرج اللَّه من بطون الأنعام وظهورها من الحرث، قَالُوا: هَذَا للَّه فيتصدقون به عَلَى المساكين وما أخرج الله من نصيب الآلهة [125 أ] أنفقوه عَلَيْها فَإِن زكا نصيب الآلهة وَلَم يَزك نصيب اللَّه تركوه للآلهة، وقالوا: لو شاء اللَّه لأزكى نصيبه، وإن زكا نصيب اللَّه وَلَم يَزْك نصيب الآلهة: خدجت أنعامهم وأجدبت أرضهم، وقالوا: لَيْسَ لآلهتنا بد من نفقة فأخذوا نصيب اللَّه فقسموه بين المساكين والآلهة نصفين، فذلك قوله: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ يعني لآلهتهم مما خرج من الحرث والأنعام فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ يعني إلى المساكين وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ يعني آلهتهم يَقُولُ اللَّه: ساءَ يعني بئس ما يَحْكُمُونَ- 136- يَقُولُ لو كان معي شريك كَمَا يقولون ما عدلوا فِي القسمة أن يأخذوا مني وَلا يعطوني، ثُمّ انقطع الكلام فَقَالَ: وَكَذلِكَ يعني وهكذا زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ «شُرَكاؤُهُمْ» «2» كَمَا زينوا لهم تحريم الحرث والأنعام يعني دَفْن البنات وهن أحياء لِيُرْدُوهُمْ يعني ليهلكوهم وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ يعني وليخلطوا عليهم دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ يَقُولُ لو شاء اللَّه لمنعهم من ذَلِكَ فَذَرْهُمْ يعني فخل عَنْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ- 137- من الكذب لقولهم
__________
(1) يشير إلى الآية 83 من سورة القصص وهي: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.
(2) شركاؤهم: ساقطة من أ، ل.(1/591)
فى الأعراف «وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها» «1» وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ يعني حرام لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ يعني الرجال دون النّساء وكانت «2» مشيئتهم أنهم جعلوا للحوم والألبان للرجال دون النّساء وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها يعني الحام وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا يعني البحيرة إن نتجوها أَوْ نحروها لَمْ يذكروا اسم اللَّه عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ عَلَى اللَّه يعني كذبا عَلَى اللَّه سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ- 138- حين زعموا أن اللَّه أمرهم بتحريمه:
حين قالوا فى الأعراف وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها «3» ، ثُمّ أخبر عَنْهُمْ فَقَالَ: وَقالُوا مَا فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا يعني من الولد والألبان وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا يعني البحيرة والسائبة والوصيلة فكانوا إذا أنتجوه «4» حيا ذبحوه فأكله الرجال دون النّساء وكذلك الألبان وإن وضعته ميتا اشترك فِي أكله الرجال والنساء، فذلك قوله: وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ اللَّه العذاب فِي الآخرة [وَصْفَهُمْ ذَلِكَ بالتحليل والتحريم أَيّ جزاءه «5» ] إِنَّهُ حَكِيمٌ حكم عليهم العذاب عَلِيمٌ- 139- به ثم عليهم بقتل أولادهم وتحريم الحرث والأنعام فقال: قَدْ خَسِرَ فى الآخرة الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ يعني دَفْن البنات أحياء «6» سَفَهاً يعني جهلا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ
__________
(1) يشير إلى الآية 28 من سورة الأعراف، وهي: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ. [.....]
(2) فى أ: وكان.
(3) سورة الأعراف: 28.
(4) فى أ: أنتجوها.
(5) ما بين القوسين [ ... ] زيادة من الجلالين. وهي ساقطة من أ، ل.
(6) فى أ: حيا. وهو خطأ لأن البنات جمع مؤنث، وحيا: حال، وصف لمذكر مفرد، ولعله تحريف من الناسخ.(1/592)
من الحرث والأنعام افْتِراءً عَلَى اللَّهِ الكذب حين زعموا أن اللَّه أمرهم بِهَذَا يعني بتحريمه، يَقُولُ اللَّه: قَدْ ضَلُّوا عن الهدى وَما كانُوا مُهْتَدِينَ- 140- وكانت رَبِيعَة ومضر يدفنون البنات وهن أحياء غَيْر بني كنانة كانوا لا يفعلون ذَلِكَ، قوله [125 ب] : وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ يعني الكروم وما يعرش وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ يعني قائمة عَلَى أصولها وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ يعني طعمه منه الجيد ومنه الدون، ثُمّ قال: وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً ورقها فِي النظير يشبه ورق الزيتون ورق الرمان وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ثمرها وطعمها وهما متشابهان فِي اللون مختلفان فِي الطعم، يَقُولُ اللَّه: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ حين يَكُون غضا، ثُمّ قَالَ:
وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ- 141- يَقُولُ وَلا تشركوا الآلهة فِي تحريم الحرث والأنعام وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً يعني الإبل والبقر وَفَرْشاً والفرش الغنم الصغار مما لا يحمل عَلَيْهَا «1» كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من الأنعام والحرث حلالا طيبا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ يعني تزيين الشَّيْطَان فتحرمونه إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ- 142- كلم النبي- صلى الله عليه وسلم- في ذلك عوف بن مالك الجشمي يكن أبا الأحْوَص «2» . ثُمّ قَالَ أنزل ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ قبل خلق آدم- عَلَيْه السَّلام- مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ يعنى ذكرا وأنثى وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ذكرا وأنثى.
__________
(1) سميت فرشا لأنها كالفرش للأرض لدنوها منها- الجلالين. وفى حاشية أ: أظنه النعم الصغار، وليس ظنه صوابا.
(2) فى أ: بالأحوص، ل: أبا الأحوص.
والكنية ما صدرت بأب أو بأم. فلا بد أن الأصل الذي نقلت عنه نسخة أ: أبا الأحوص وجاء التحريف من الناسخ.(1/593)
[قُلْ يا محمد لمن حرم ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى ونسب ذَلِكَ إلى اللَّه: آلذَّكَرَيْنِ من الضأن والمعز حَرَّمَ اللَّه عليكم؟ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ منهما؟
أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ؟ ذكرا كان أَوْ أنثى نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ عن كيفية تحريم ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- 143- فِيهِ.
المعنى من أَيْنَ جاء التحريم فَإِن كان من قبل الذكورة فجميع الذكور حرام، أَو الأنوثة فجميع الإناث أَوْ اشتمال الرحم فالزوجان فمن أين التخصيص والاستفهام للاستنكار «1» ] .
وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ ذكر وأنثى وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ذكر وأنثى قُلْ يا محمد «آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ» «2» يعني من أَيْنَ تحريم الأنعام من قبل الذكرين أم قبل الأنثيين أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ يَقُولُ عَلَى ما اشتمل، ما يشتمل الرحم إِلَّا ذكرا أَوْ أنثى فأين هَذَا الَّذِي جاء التحريم من قبله، وما اشتمل الرحم إِلَّا عَلَى مثلها.
يَقُولُ ما تلد الغنم إِلَّا الغنم وما تلد الناقة إِلَّا مثلها يعني أن الغنم لا تلد البقر وَلا البقر تلد الغنم فَإِن قَالُوا حرم الأنثيين خصوا وَلَم يجز لهم أن يأكلوا الإناث من الأنعام وإن قَالُوا الذكرين لَمْ يجز لهم أن يأكلوا ذكور الأنعام فسكتوا. يَقُولُ الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم- قل لهم نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «3» بأن اللَّه حرم هَذَا، ثُمّ قَالَ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا التحريم فسكتوا فلم يجيبوه إِلَّا أنهم قَالُوا: حرمها آباؤنا فَقَالَ لهم النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَمنْ أَيْنَ حرمه آباؤكم؟ قَالُوا: اللَّه أمرهم بتحريمه فأنزل اللَّه: فَمَنْ أَظْلَمُ يقول فلا
__________
(1) ما بين الأقواس [ ... ] ساقط من أ، ل ومنقول من الجلالين.
(2) ما بين القوسين « ... » ساقط من أ، ل.
(3) هذا المقطع ختام الآية السابقة 143 سورة الأنعام. وقد ورد فى غير مكانه.(1/594)
أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ- 144- قَالُوا: يا محمد فَمنْ أين حرمه آباؤنا فأوحى اللَّه إلى نبيه- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ يعني عَلَى آكل يأكله إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً يعني يسيل أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ يعني إثما أَوْ فِسْقاً يعني معصية أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ يعني ذبح لغير اللَّه فَمَنِ اضْطُرَّ إلى شيء مما حرمت عَلَيْه غَيْرَ باغٍ ليستحله فِي دينه وَلا عادٍ يعني وَلا معتديا لَمْ يضطر إِلَيْهِ فأكله فَإِنَّ رَبَّكَ «1» غَفُورٌ [126 أ] لأكله الحرام رَحِيمٌ- 145- به إذا رخص لَهُ فِي الحرام فِي الاضطرار ثُمّ بين ما حرم على اليهود فَقَالَ: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ يعنى الإبل والنعامة والوزر والبط وكل شيء لَهُ خف وظفر من الدواب والطير فهو عليهم حرام وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما وحرم عليهم الشحوم من البقر والغنم، ثُمّ استثنى ما أحل لهم من الشحوم فَقَالَ: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما يعني ظهور البقر والغنم والأكتاف والإلية أَوِ الْحَوايا يعنى المعى «2» أَوْ مَا اخْتَلَطَ من الشحم بِعَظْمٍ فكل هَذَا حلال لهم، وحرم عليهم شحوم الكليتين والثروب «3» ذلِكَ التحريم جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ يعني عقوبة بقتلهم الْأَنْبِيَاء وبصدهم عن سبيل اللَّه وبأكلهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل فهذا البغي وَإِنَّا لَصادِقُونَ- 146- بِذَلِك وهذا ما أوحى اللَّه إلى نبيه- صَلَّى الله عليه وسلم-
__________
(1) فى أ: فإن الله. وفى حاشية أ: الآية ربك.
(2) فى أ، ل: المعز. وهو تحريف عن المعى. وفى الجلالين الحوايا: الأمعاء جمع حاويا أو حاوية.
(3) فى الجلالين: حرم عليهم الثروب وشحوم الكلى.(1/595)
أَنَّهُ محرم، منه عَلَى الْمُسْلِمِين ومنه عَلَى اليهود فَقَالَ كفار العرب للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فإنك لَمْ تصب. يَقُولُ اللَّه: فَإِنْ كَذَّبُوكَ بما تَقُولُ من التحريم فَقُلْ لكفار مكة رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ ملأت رحمته كُلّ شيء لا يعجل عليكم بالعقوبة وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ يَقُولُ عذابه إذا جاء الوقت عَلَى من كذب بما يقول عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ- 147- يعنى كفار العرب سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مَعَ اللَّه آلهة يعني مشركي العرب لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا أشرك آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ يعني الحرث والأنعام وَلَكِن اللَّه أمر بتحريمه كَذلِكَ يعني هكذا كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الخالية رسلهم كَمَا كذب كفار مكة بمحمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا يعني عذابنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا يعني بيانا من اللَّه بتحريمه فتبينوه لنا، يَقُولُ اللَّه: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ- 148- الكذب قُلْ لهم: يا محمد فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ- 149- لدينه قُلْ هَلُمَّ «1» شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا الحرث والأنعام فَإِنْ شَهِدُوا أن اللَّه حرمه فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ يأمر نبيه- صلى الله عليه وسلم- أن لا يصدق قولهم وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني القرآن الَّذِي فِيهِ تحليل ما حرموا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني لا يصدقون بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال وَالذين هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ- 150- يعني يشركون قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ يَقُولُ تعالوا حَتَّى أقرأ ما حرم عليكم أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً من خلقه وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً يعني برا بهما وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ
__________
(1) فى أ: هل. [.....](1/596)
يعني دفن البنات وهن أحياء مِنْ إِمْلاقٍ يعني خشية الفقر نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ يعنى الزنا ما ظَهَرَ مِنْها يعني السفاح علانية وَما بَطَنَ يعني الزنا «1» فى السر [126 ب] تتخذ الخليل فيأتيها فِي السر وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ يعني بالقصاص والثيب الزاني بالرجم والمرتد عن الْإِسْلام فهذا الحق ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ يعني لكي تَعْقِلُونَ- 151- أَنَّهُ لَمْ يحرم إِلَّا ما ذكر فِي هَذِهِ الآيات الثلاث وَلَم يحرم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
إِلَّا ليثمر لليتيم ماله بالأرباح حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
يعنى ثماني عشرة سنة وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
يعني بالعدل لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
يَقُولُ لا نكلفها من العمل إِلَّا طاقتها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى
يعني أولي قربى إذا تكلمتم فقولوا الحق، وإن كان ذو قرابتك فقل فِيهِ الحق وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
فيما بينكم وبَيْنَ الناس ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ
يعني لكي تَذَكَّرُونَ
- 152- فِي أمره ونهيه وَأَنَّ هَذَا الَّذِي ذكر فِي هَذِهِ الآيات من أمر اللَّه ونهيه صِراطِي مُسْتَقِيماً يعني دينا مستقيما فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ يعني طرق الضلالة فيما حرموا فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ يعني فيضلكم عن دينه ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ يعني لكي تَتَّقُونَ- 153- فهذه الآيات المحكمات لَمْ ينسخهن شيء من جميع الكتب وهن محكمات عَلَى بني آدم كلهم ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعنى أعطيته التوراة تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ يَقُولُ تمت الكرامة عَلَى من أحسن منهم فِي الدُّنْيَا والآخرة فتمم اللَّه لبني إِسْرَائِيل ما وعدهم من قوله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ... إلى آيتين «2» .
__________
(1) الزنا: ساقطة من أ، ومثبتة فى ل.
(2) يشير إلى الآيتين 5، 6 من سورة القصص.(1/597)
ثم قال: وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَالتوراة هُدىً «1» من الضلالة وَرَحْمَةً من العذاب لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ- 154- يعني بالبعث الَّذِي فِيهِ جزاء الأعمال وَهذا القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فهو بركة لمن آمن به فَاتَّبِعُوهُ فاقتدوا به وَاتَّقُوا اللَّه لَعَلَّكُمْ يعني لكي تُرْحَمُونَ- 155- فلا تعذبوا أَنْ تَقُولُوا يعنى لئلا تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا يعني اليهود والنصارى وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ- 156- وذلك أن كفار مكة قَالُوا قاتل اللَّه اليهود والنصارى كيف كذبوا أنبياءهم فواللَّهِ لو جاءنا نذير وكتاب لكنا أهدى منهم فنزلت هَذِهِ الآية فيهم أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ يعني اليهود والنصارى يَقُولُ اللَّه لكفار مكة، فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ
يعنى بيان من ربكم القرآن أَوْ هو أَهْدى من الضلالة وَرَحْمَةٌ من العذاب لقوم يؤمنون فكذبوا به، فنزلت فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ يعني بالقرآن وَصَدَفَ عَنْها يعني وأعرض عن آيات القرآن فلم يؤمن بها، ثُمّ أوعدهم اللَّه فَقَالَ: سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا يعني يعرضون عن إيمان بالقرآن سُوءَ الْعَذابِ يعنى شدة العذاب بِما كانُوا يَصْدِفُونَ [127 أ]- 157- يعني بما كانوا يعرضون عن إيمان بالقرآن ثُمّ وعدهم فَقَالَ هَلْ يَنْظُرُونَ يعني ما ينتظر كفار مكة بالإيمان إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ يعني ملك الموت وحده بالموت أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ يوم الْقِيَامَة فِي ظلل من الغمام أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعني طلوع الشمس من مغربها، ثم قال يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعني طلوع الشمس من المغرب لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها يعني نفسا كافرة حين لَمْ تؤمن قبل أن تجيء هذه الآية
__________
(1) فى أ: هدى.(1/598)
لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ يَقُولُ لَمْ تكن صدقت من قبل طلوع الشمس من مغربها أَوْ لَمْ تكن كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً يَقُولُ لَمْ تكن هَذِهِ النَّفْس عملت قبل طلوع الشمس من مغربها وَلَم يقبل منها «1» بعد طلوعها. ومن كان يقبل منه عمله قبل طلوع الشمس من مغربها فَإنَّهُ يتقبل منه بعد طلوعها، ثُمّ أوعدهم، العذاب فَقَالَ الله لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: قُلِ انْتَظِرُوا العذاب إِنَّا مُنْتَظِرُونَ- 158- بكم العذاب إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ الْإِسْلام الَّذِي أمروا به ودخلوا فِي غيره يعني اليهود والنصارى قبل أن يبعث محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكانُوا شِيَعاً يعني أحزابا يهود ونصارى وصابئين وَغَيْرُهُمْ لَسْتَ مِنْهُمْ يا محمد فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ- 159- فنسختها آية براءة «قاتِلُوا الَّذِينَ ... » إلى قوله: «صاغِرُونَ» «2» .
مَنْ جاءَ فِي الآخرة بِالْحَسَنَةِ بالتوحيد والعمل الصالح فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها فِي الأضعاف وَمَنْ جاءَ فِي الآخرة بِالسَّيِّئَةِ يعنى الشرك فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها فِي العظم فجزاء الشرك أعظم الذنوب والنار أعظم العقوبة
__________
(1) فى أ: منه.
(2) يشير إلى الآية 29 من سورة براءة (التوبة) وتمامها:
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ.
وإذا عرفنا أن مدلول النسخ عند الأصوليين هو رفع الشارع حكما شرعيا سابقا بحكم شرعي لاحق.
رأينا أن مدلول النسخ غير متحقق هنا. لأن اللاحق لا يأبى السابق ولا يتناقض معه. فذلك مقام وذاك مقام. أو هو من باب التدرج فى التشريع.(1/599)
وذلك قوله: جَزاءً وِفاقاً «1» وافق الجزاء العمل وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ- 160- كلا «2» الفريقين جميعًا. قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يعني الْإِسْلام دِيناً قِيَماً مستقيما لا عوج فيه مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً يعني مخلصا وَما كانَ إِبْرَاهِيم مِنَ الْمُشْرِكِينَ- 161- من اليهود والنصارى قُلْ: يا محمد إِنَّ صَلاتِي الخمس وَنُسُكِي يعني وذبحي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ- 162- لا شَرِيكَ لَهُ يَقُولُ لَيْسَ معه شريك وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ- 163- يعني المخلصين من أَهْل مكة، قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وذلك أن كفار قريش قالوا للنبي- صلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «ارجع» «3» عن هَذَا الأمر فنحن لك كفلاء بما أصابك من تبعة، فأنزل اللَّه «قُلْ» لهم «أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا» يعني أتخذ ربا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ فِي السموات والأرض وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها يعني إِلَّا عَلَى نفسها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى يعني لا تحمل نفس خطيئة نفس أخرى لقولهم للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: نَحْنُ لك الكفلاء بما أصابك من تبعة ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ فِي الآخرة مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ فِي الدّين أنتم وكل قبيلة فِي الدّين تَخْتَلِفُونَ- 164- أنتم وكفار مكة نظيرها [127 ب] فِي الروم.
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ يعني من بعد هلاك الأمم الخالية وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ يعنى بالدرجات الفضائل
__________
(1) سورة النبأ: 26.
(2) فى أ: كل.
(3) ارجع: ساقطة من أ، ومثبتة من ل.(1/600)
والرزق
لقولهم للنبي- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ما يحملك عَلَى الَّذِي أتيتنا به إِلَّا الحاجة فنحن نجمع لك من أموالنا فنزلت وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ
يعني ليبتليكم فيما أعطاكم يَقُولُ يبتلي بعض الْمُؤْمِنِين الموسر بالغني، ويبتلي بعض الْمُؤْمِنِين المعسر بالفاقة إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لمن عصاه فِي فاقة أَوْ غنى يخوفهم كأَنَّه قَدْ جاء ذَلِكَ اليوم وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ- 165- بعد التوبة.
قوله من الضأن اثنين يعنى كبشا ونعجة ومن المعز اثنين يعنى تيسا وشاة ومن الإبل اثنين يعنى جملا وناقة ومن البقر اثنين يعنى ثورا وبقرة «1»
__________
(1) الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
تم الجزء الأول من تفسير مقاتل بن سليمان- ويليه إن شاء الله- الجزء الثاني منه ويبدأ بسورة الأعراف.(1/601)
[الجزء الثاني]
سورة الأعراف(2/3)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 206]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4)
فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)
قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24)
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)
فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يَا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104)
حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134)
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (139)
قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194)
أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199)
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)(2/5)
سورة الأعراف «1» مكية إلا قوله- تعالى-:
__________
(1) أهداف سورة الأعراف اشتملت سورة الأعراف مجملا على: تسلية النبي- صلى الله عليه وسلم- فى تكذيب الكفار إياه وذكر وزن الأعمال يوم القيامة، وذكر خلق آدم وإباء إبليس من السجدة لآدم، ووسوسته لهما للأكل من الشجرة، وتحذير بنى آدم من قبول وسوسته، والأمر باتخاذ الزينة، وستر العورة وقت الصلاة والرد على المكذبين، وتحريم الفواحش ظاهرا وباطنا وبيان منزلة الكفار فى النار ومناظرة بعضهم بعضا ويأسهم من دخول الجنة وذكر المنادى بين الجنة والنار، ونداء أصحاب الأعراف لكلا الفريقين وتمنيهم الرجوع إلى الدنيا وحجة التوحيد والبرهان على ذات الله- تعالى- وصفاته. وقصة نوح والطوفان، وذكر هود وهلاك عاد وحديث صالح وقهر ثمود، وخبر لوط وقومه، وخبر شعيب وأهل مدين وتخويف الآمنين من مكر الله وتفصيل أحوال موسى وفرعون واستغاثة بنى إسرائيل، وذكر الآيات المفصلات وحديث خلافة هارون، وميقات موسى وقصة عجل السامري فى غيبة موسى ورجوع موسى إلى قومه ومخاطبته لأخيه هارون وذكر النبي الأمى العربي- صلى الله عليه وسلم- والإشارة إلى ذكر الأسباط وقصة أصحاب السبت، وأهل أيلة وذم علماء أهل الكتاب، وحديث الميثاق، ومعاهدة الله- تعالى- الذرية وطرد بلعام بسبب ميله إلى الدنيا.
وتخويف العباد بقرب القيامة، وذم الأصنام وعبادها، وأمر الرسول بمكارم الأخلاق وأمر الخلائق بالإنصات والاستماع لقراءة القرآن وخطبة الخطباء يوم الجمعة، والإخبار عن خضوع الملائكة فى الملكوت وانقيادهم بحضرة الجلال فى قوله: وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ الآية 206.
وكلماتها 3325 ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة.
ومجموع فواصل آياتها (م ن د ل) .
(انظر بصائر ذوى التمييز فى لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي: 203) .(2/27)
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ ... «1» إلى قوله «2» : ... وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «3» ، هَذِهِ الآيات «4» مدنيات، وهي مائتان وست آيات «5» .
__________
(1) الآية: 163.
(2) فى أ: فى قوله، ل: إلى قوله.
وفى كتاب تاريخ القرآن لأبى عبد الله الزنجاني: سورة الأعراف مكية إلا من آية 163 إلى آية 170 فمدنية، وهو موافق لما فى رأس السورة فى المصحف.
(3) الآية: 173.
(4) أى أن بها إحدى عشر آية مدنية من آية 163 إلى آية 173، وفى كتاب بصائر ذوى التمييز للفيروزآبادي: هذه السورة نزلت بمكة إجماعا. [.....]
(5) هذا العدد موافق لما فى كتاب تاريخ القرآن لأبى عبد الله الزنجاني ولما فى رأس السورة فى المصحف الشريف.(2/28)
المص- 1- كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعنى القرآن فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ يعني النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَجٌ مِنْهُ يَقُولُ فلا يَكُنْ فِي قلبك شك من القرآن بأنه من اللَّه لِتُنْذِرَ بِهِ «1» بما فِي القرآن من الوعيد وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ- 2- يعني تذكرة للمصدقين بالقرآن بأنه مِنَ اللَّه- عز وجل- ثُمّ قَالَ لأهل مكة: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعني القرآن وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يعني أربابا، ثُمّ أخبر عَنْهُمْ فَقَالَ: قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ- 3- يعني بالقليل أنهم لا يعقلون فيعتبرون، ثُمّ وعظهم فقال: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها بالعذاب فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً وهم نائمون يعني ليلا أَوْ جاءهم العذاب هُمْ قائِلُونَ- 4- يعني بالنهار فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا يَقُولُ فَمَا كان قولهم عِنْد نزول العذاب بهم إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ- 5- لقولهم فِي حم الْمُؤْمِن «آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ» «2» . ثم قال: فَلَنَسْئَلَنَّ فى الآخرة الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يعني الأمم الخالية الَّذِين أهلكوا فِي الدُّنْيَا: ما «3» أجابوا الرسل فى التوحيد؟ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ- 6-ماذا أجيبوا فى التوحيد؟
__________
(1) به: ساقطة من أ.
(2) يشير إلى الآية 84 من سورة غافر وهي فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ.
(3) هكذا فى: أ، ل. والمراد: بم.(2/29)
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أعمالهم بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ- 7- عن أعمالهم يعني عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ «يَقُولُ وزن الأعمال يومئذ العدل فِي الآخرة «1» » فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ من الْمُؤْمِنِين وزن ذرة عَلَى سيئاته فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ- 8- وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ يعنى الكفار فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ [128 أ] يعني غبنوا أنفسهم فصاروا إلى النار بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ- 9- يعني بالقرآن يجحدون بأنه لَيْسَ من اللَّه وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ يقول ولقد أعطيناكم يا أهل مكة من الخير والتمكين فِي الأرض وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ من الرزق لتشكروه فتوحدوه «2» فلم تفعلوا، فأخبر عنهم فقال: قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ- 10- يعني بالقليل أنهم لا يشكرون رب هَذِهِ النعم فيوحدونه وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ يعني آدم- عَلَيْه السَّلام ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ يعني ذرِّيَّة آدم ذكرا وأنثى وأبيض وأسود سويا وغير سوى ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ الَّذِين هُمْ فِي الأرض ومنهم إبليس عدو الله اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا لَهُ، ثُمّ استثنى فَقَالَ: إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ- 11- لآدم مَعَ الملائكة قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ- 12- والنار تغلب الطين قالَ فَاهْبِطْ مِنْها قَالَ: اخرج من صورة الملائكة إلى صورة الدمامة. فاخرج من الجنة يا إبليس فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَمَا ينبغي لك أن تتعظم فيها يعني فِي الجنة فَاخْرُجْ منها إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ- 13- يعني من المذلين قالَ إبليس لربه أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ
__________
(1) ما بين الأقواس « ... » من ل، وفى أ: «يقول العدل وزن أعمال يومئذ فى الآخرة» .
(2) فى أ: فتوحده.(2/30)
- 14- يعني النفخة الآخرة يوم يبعث آدم- عَلَيْه السَّلام- وذريته قالَ اللَّه: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ- 15- فلا تموت إلى يوم الوقت المعلوم يعني أجلا معلوما وهي النفخة الأولى قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي قَالَ أما إذ أضللتني لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ- 16- يعني لأصدنهم عن دينك المستقيم يعني الْإِسْلام ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قبل الآخرة فأزين لهم التكذيب بالبعث وبالجنة وبالنار وَمِنْ خَلْفِهِمْ يعني من قبل الدُّنْيَا فأزينها فِي أعينهم وأرغبهم فيها وَلا يعطون فيها حقا وَعَنْ أَيْمانِهِمْ يعنى من قبل دينهم فَإِن كانوا عَلَى هدى شبهته عليهم حَتَّى يشكوا فيها «1» وإن كانوا عَلَى ضلالة زينتها لهم وَعَنْ شَمائِلِهِمْ يعني من قبل الشهوات واللذات من المعاصي وأشهاها إليهم وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ- 17- لنعمتك فلا يوحدونك قالَ لَهُ اخْرُجْ مِنْها يعنى من الجنة مَذْؤُماً منفيا مَدْحُوراً يعني مطرودا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ على دينك لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ- 18- يعني إبليس وذريته وكفار ذرِّيَّة آدم، منهم جميعًا.
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فِي التقديم فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ وهي السنبلة الحنطة، وقالوا هِيَ الشجرة التي تحتك «2» بها الملائكة للخلود فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ- 19- لأنفسكم فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ يعني إبليس وحده لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما يعنى ما غطى عنهما مِنْ سَوْآتِهِما [128 ب] يعني ليظهر لهما عورتهما وَقالَ إبليس لهما: إنى
__________
(1) الأنسب فيه: أى فى الهدى. ولكنه أعاد الضمير على الإيمان.
(2) فى أ: تحتل، وفى حاشية أ: فى الأصل تحتك. وهي غير واضحة فى ل. وفى م: تحتل.
وهو دليل على أن «م» ناقلة «عن أ» .(2/31)
خلقت قبلكما وإنى أعلم منكما فأطيعاني ترشدا، وقَالَ لهما: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ- 20- يَقُولُ إن لَمْ تكونا ملكين كنتما من الخالدين لا تموتان وَقاسَمَهُما يعني حلف بِاللَّه لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ- 21- إنها شجرة الخلد من أكل منها لَمْ يمت فكان إبليس أول من يحلف بِاللَّه كاذبا فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ يعنى زين لهما الباطل لقوله تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين وحلف عَلَى قوله فغرهما بهذه اليمين فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما يعني ظهرت لهما عوراتهما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما يَقُولُ أخذا يغطيان عوراتهما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ يعني ورق التين الَّذِي فِي الجنة وَناداهُما رَبُّهُما يَقُولُ: وقَالَ لهما ربهما يوحي إليهما: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما يعني آدم وحواء إِنَّ الشَّيْطانَ يعني إبليس لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ- 22- قَالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا ذنوبنا وَتَرْحَمْنا وتتجاوز عنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ- 23- فِي العقوبة فتاب آدم- عَلَيْه السَّلام- يوم عاشوراء يوم الجمعة فتاب اللَّه عَلَيْه، وأوحى إليهما: قالَ اهْبِطُوا من الجنة آدم وحواء وإبليس والحية بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ يَقُولُ إبليس لهما عدو وهما لإبليس عدو وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ- 24- يعني إلى منتهى آجالكم وإبليس فِي النفخة الأولى قالَ فِيها تَحْيَوْنَ يعني فِي الأرض وَفِيها تَمُوتُونَ عِنْد منتهى آجالكم وَمِنْها تُخْرَجُونَ- 25- يوم الْقِيَامَة.
يَا بَنِي آدَمَ نزلت فِي ثقيف، وبني عامر بن صَعْصَعَة، وخزاعة، وبني مدلج، وعامر والحارث ابني عَبْد مناة، قَالُوا: لا نطوف بالبيت الحرام فِي الثياب التي نقارف فيها الذنوب. وَلا يضربون عَلَى أنفسهم خباء من وبر وَلا صوف وَلا شعر وَلا أدم، فكانوا يطوفون بالبيت عراة، ونساءهم يطفن بالليل فأنزل اللَّه(2/32)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يَقُولُ من أمري كان اللباس فِي الأرض يُوارِي سَوْآتِكُمْ يعني يغطي عوراتكم وَرِيشاً يعني المال وَلِباسُ التَّقْوى يعني من العمل الصالح ذلِكَ خَيْرٌ يَقُولُ العمل الصالح خير من الثياب والمال ثُمّ قَالَ: ذلِكَ الثياب والمال مِنْ آياتِ اللَّهِ ومن صنعه لَعَلَّهُمْ يعنى لكي يَذَّكَّرُونَ- 26- فيعتبروا فِي صنعه فيوحدوه، ثُمّ قَالَ: يَا بَنِي آدَمَ يعنيهم لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ فِي دينكم أمر الثياب فيدعها عنكم فتبدي عوراتكم كَما «أَخْرَجَ «1» » أَبَوَيْكُمْ يعني كَمَا فعل بأبويكم آدم وحواء فأخرجهما مِنَ الْجَنَّةِ وبدت عورتهما، فذلك قوله: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما يعنى ثيابهما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما يعني عوراتهما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يقول يراكم إبليس وجنوده [129 أ] من الشياطين من حيث لا ترونهم إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ- 27- يعني لا يصدقون، ثُمّ قَالَ: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً يعني معصية فيما حرموا من الحرث، والأنعام، والثياب، والألبان، فنهوا عن تحريم ذَلِكَ قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها يعني بتحريم ذَلِكَ، ثُمّ قَالَ: قُلْ يا محمد: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ يعني بالمعاصي فيحرم ذَلِكَ، وقل لهم: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ربكم إنَّه حرم عليكم مَا لا تَعْلَمُونَ- 28- أنَّه حرمه وقُلْ لهم: أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ يعني بالعدل وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ يعني وأمر ربي أن تقيموا وجوهكم يعني إلى القبلة عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فِي بيعة أَوْ كنيسة، أَوْ غيرها فصلوا قبل الكعبة وأمرهم بالصلاة والتوحيد فذلك قوله: وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ يعنى
__________
(1) أخرج: ساقطة من أ، ومن حاشية أ، التلاوة «أخرج» .(2/33)
موحدين لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ- 29- يعني كَمَا خلقكم سعداء وأشقياء كذلك تعودون فَرِيقاً هَدى لدينه وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ يعني أربابا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ- 30- أنهم على الهدى، ثُمّ قَالَ يعنيهم: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ فِي كنيسة، أَوْ بيعة، أَوْ غيرها وَكُلُوا من الحرث والأنعام وَاشْرَبُوا من الألبان وَلا تُسْرِفُوا يَقُولُ: وَلا تشركوا الآلهة فِي تحريم الحرث، والأنعام، والثياب، والألبان، مما «1» هُوَ حل لكم إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ- 31- يعني المشركين قُلْ لهم: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ يعنى الثياب الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ يعني الحلال مِنَ الرِّزْقِ يعني الحرث، والأنعام والألبان، قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ يَقُولُ أشرك فِي الطيبات فِي الدُّنْيَا الْمُؤْمِن، والكافر، وهي خالصة للمؤمنين يوم الْقِيَامَة كَذلِكَ نُفَصِّلُ يَقُولُ هكذا نبين الْآياتِ يعني أمور ما ذكر فِي هَذِهِ الآية لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ- 32- بتوحيد اللَّه، ثُمّ أخبرهم بما حرم اللَّه فَقَالَ: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ يعنى الزنا ما ظَهَرَ مِنْها يعني العلانية وَما بَطَنَ فِي السر وكانوا يتكرمون «عن الزنا فِي «2» » العلانية ويفعلوه فِي السر، وحرم شرب الخمر وَالْإِثْمَ والمعاصي وَالْبَغْيَ يعني ظلم الناس بِغَيْرِ الْحَقِّ إِلَّا أن يقتص منه بحق وَحرم أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً يعني كتابا فِيهِ حجتكم بأن معه شريكا وَحرم أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ بأنه حرم الحرث والأنعام والألبان والثياب مَا لا تَعْلَمُونَ
__________
(1) فى أ: ما.
(2) ما بين الأقواس « ... » ساقط من: أ، والمثبت فى: ل.(2/34)
- 33- أَنَّهُ حرمه ثُمّ خوفهم بالعذاب فَقَالَ: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ العذاب فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ- 34- يَقُولُ لا يتأخرون وَلا يتقدمون حَتَّى يعذبوا وذلك حين سألوا النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن العذاب، ثُمّ قَالَ: يَا بَنِي آدَمَ يعني مشركي العرب إِمَّا فَإِن يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وحده يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي [129 ب] يعني يتلون عليكم القرآن فَمَنِ اتَّقى الشرك وَأَصْلَحَ العمل وآمن بِاللَّه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ- 35- من الموت وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني بالقرآن أَنَّهُ لَيْسَ من اللَّه وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها وتكبروا عن الْإِيمَان «1» بآيات القرآن أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ- 36- فَمَنْ أَظْلَمُ يعني فلا أحد أظلم مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن معه شريكا وأنه أمر بتحريم الحرث، والأنعام، والألبان، والثياب، أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ يعنى بآيات القرآن أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ يعنى حظهم مِنَ الْكِتابِ وذلك أن اللَّه قَالَ فِي الكتب كلها: إنَّه من افترى عَلَى اللَّه كذبا فَإنَّهُ يسود وجهه، فهذا ينالهم فِي الآخرة- نظيرها فِي الزمر- تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ «2» وقال: حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ يعني ملك الموت وحده، ثُمّ قَالَتْ لهم خزنة جَهَنَّم قبل دخول النار فِي الآخرة: قالُوا «3» أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ يعنى تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ من الآلهة هل يمنعونكم «4»
__________
(1) فى الأصل: إيمان.
(2) سورة الزمر آية 60 وتمامها: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ.
(3) قالوا: ساقطة من أ. [.....]
(4) فى أ: يمنعوا.(2/35)
من النار قالُوا ضَلُّوا عَنَّا يعني ضلت الآلهة عنا يَقُولُ اللَّه: وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ- 37- وذلك حين قالوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ فشهدت عليهم الجوارح بما كتمت الألسن من الشرك والكفر- نظيرها فِي الأنعام «1» قالَ أَي قَالَت الخزنة «2» : ادْخُلُوا النار فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ النار لَعَنَتْ أُخْتَها لعنت أَهْل ملتهم يلعن المشركون المشركين، ويلعن اليهود اليهود، ويلعن النَّصارى النَّصارى، ويلعن المجوس المجوس، ويلعن الصابئون الصابئين، ويلعن الأتباع القادة يقولون:
لعنكم اللَّه أنتم ألقيتمونا فِي هَذَا «3» الملقى حين أطعناكم يقولون: حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها يعني حَتَّى إذا اجتمعوا فِي النار جَمِيعاً القادة، والأتباع وَقَدْ دخلت القادة والأتباع قالَتْ أُخْراهُمْ دخولا النار وهم الأتباع لِأُولاهُمْ دخولا النار وهم القادة رَبَّنا هؤُلاءِ القادة أَضَلُّونا عن الهدى فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً يعني أعطهم عذابا مضاعفا مِنَ النَّارِ «4» قالَ يَقُولُ اللَّه: لِكُلٍّ يعني الأتباع والقادة ضِعْفٌ يضاعف العذاب وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ- 38- وَقالَتْ أُولاهُمْ دخولا النار وهم القادة لِأُخْراهُمْ دخولا النار وهم الأتباع فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فِي شيء فقد ضللتم كَمَا ضللنا فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ- 39- يعنى تقولون من الشرك والتكذيب
__________
(1) يشير إلى الآية 23 من سورة الأنعام وهي: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ.
(2) فى أ: (وقالت) الخزنة.
(3) فى أ: هذه، ل: هذا.
(4) فى أ: فى النار.(2/36)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني القرآن وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها يعني وتكبروا عن الإيمان بآيات القرآن لا تُفَتَّحُ لَهُمْ يعني لأرواحهم وَلا لأعمالهم أَبْوابُ السَّماءِ كَمَا تفتح أبواب السماء لأرواح الْمُؤْمِنِين ولأعمالهم إذا ماتوا، ثُمّ قَالَ: وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ يقول [130 أ] حَتَّى يدخل البعير فِي خرق الإبرة وَكَذلِكَ يعني وهكذا نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ- 40- لا يدخلون الجنة، ثُمّ ذكر ما أعد لهم فِي النار فقال: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ يعني فراش من نار وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ يعني لحفا يعني ظللا من النار، وذلك قوله فِي الزمر: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ «1» يقول وَكَذلِكَ يعني وهكذا نَجْزِي الظَّالِمِينَ- 41- جَهَنَّم «2» «وما «3» فيها من العذاب، ثُمّ ذكر الْمُؤْمِنِين فَقَالَ: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها يَقُولُ لا نكلفها من العمل إِلَّا ما تطيق أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ- 42- لا يموتون. ثُمّ أخبر «4» عَنْهُمْ فَقَالَ: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ يعني ما كان فِي الدُّنْيَا فِي قلوبهم من غش، يعني بعضهم لبعض وذلك أن أَهْل الجنة، إذا هُمْ بشجرة ينبع من ساقها عينان فيميلون إلى أَحَدهمَا فيشربون منها فيخرج اللَّه ما كان فِي أجوافهم من غل أو قذار
__________
(1) سورة الزمر: 16.
(2) فى أ: سقط من الأصل ورقة، وفى حاشية أ: كتب فى الجانب: سقط من الأصل ورقة وقد أحضرت نسخة من مكتبة كوبريلى بتركيا المرموز لها به (ل) ، وسأنقل منها الورقة الساقطة من أ. أى من الآية 42 من سورة الأعراف إلى منتصف الآية 54 من سورة الأعراف.
(3) هذا أول الورقة الساقطة من أ، وسأنقلها من ل إن شاء الله.
(4) فى ل: خبر.(2/37)
فيطهر اللَّه أجوافهم «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» «1» ثُمّ يميلون إلى العين الأخرى فيغتسلون فيها فيطيب اللَّه أجسادهم من كُلّ درن وجرت عليهم النظرة فلا تشعث رءوسهم، وَلا تغبر وجوههم، وَلا تشحب أجسادهم، ثُمّ تتلقاهم خزنة الجنة قبل أن يدخلوا الجنة فينادونهم يعني قَالُوا لهم: «أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها» يَقُولُ: هاكم الجنة: أورثتموها «بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» فَلَمَّا استقروا فِي منازلهم:
«تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ «2» » وَقالُوا «3» الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أَي للإسلام ولهذا الخير وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لدينه ما كُنَّا لنهتدي فِي التقديم لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ بأن هَذَا اليوم حق فصدقناهم «وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» «4» - 43- وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا مَا وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا من الخير والثواب فِي الدُّنْيَا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا فِي الدُّنْيَا من العذاب قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ وهو ملك ينادى أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ- 44- يعني عذاب اللَّه عَلَى المشركين، ثُمّ نعت أعمالهم الخبيثة فقال: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني دين الإسلام وَيَبْغُونَها عِوَجاً ويريدون بملة الإسلام زيفا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ يعني بالبعث الذي فِيهِ جزاء الأعمال كافِرُونَ- 45- ثُمّ قَالَ: وَبَيْنَهُما حِجابٌ يَقُولُ بين الجنة والنار سور وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ
__________
(1) سورة الإنسان: 21.
(2) ساقطة من الأصل: ل.
(3) فى ل: قالوا.
(4) ما بين القوسين « ... » ساقط من ل. وقد فسرها سابقا فى غير مكانها واكتفى بذلك.(2/38)
يعنى على السور رجال يَعْرِفُونَ كُلًّا «من «1» » الفريقين بِسِيماهُمْ يعرفون أَهْل الجنة ببياض في الوجوه، وأهل النار بسواد الوجوه وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يسلم أصحاب الأعراف على أهل الجنة يَقُولُ اللَّه: لَمْ يَدْخُلُوها يعني أصحاب الأعراف لَمْ يدخلوا الجنة وَهُمْ يَطْمَعُونَ- 46- فِي دخولها وإنما طمعوا فِي دخول الجنة من أجل النور الَّذِي بين أيديهم وعلى أقدامهم مثل السراج ثُمّ قَالَ: وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ يعنى قلبت وجوههم تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ يَقُولُ وإذا نظر أصحاب الأعراف قبل أَهْل النار قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ- 47- يعني مَعَ المشركين فِي النار وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا هُمْ فِي النار يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ يعني بسواد الوجوه من القادة والكبراء قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ فى الدنيا وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ «2» - 48- يعني وما أغنى عنكم ما كنتم تستكبرون عن الْإِيمَان، فأقسم أَهْل النار أن أَهْل الأعراف سيدخلون «3» النار معهم قَالَت الملائكة الَّذِين حبسوا أصحاب الأعراف عَلَى الصراط أَهؤُلاءِ يعني أصحاب الأعراف الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ يا أهل النار أنهم لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، ثُمّ قَالَت الملائكة: يا أصحاب الأعراف ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ من العذاب وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ- 49- من الموت. فَقَالَ مُقَاتِلٌ: إن أصحاب الأعراف من أمة محمد- صلى الله عليه
__________
(1) فى ل: ( «يَعْرِفُونَ كُلًّا» الفريقين) ، والتلاوة «كلا» ، فزدت «من» لتصير (يَعْرِفُونَ كُلًّا) من الفريقين. [.....]
(2) أول الصفحة الثانية فى ل، وهي ورقة 569 للصورة.
(3) فى ل: داخلون.(2/39)
وَسَلَّمَ- خاصة، وهم الَّذِين استوت حسناتهم وسيئاتهم فحبسوا عَلَى الصراط من أجل ذنوبهم ثُمّ دخلوا الجنة بعد ذَلِكَ بشفاعة محمد- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ يَقُولُ:
اسقونا من الماء نشرب أَوْ أطعمونا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من الطعام نأكل فَإِن فينا معارفكم وفيكم معارفنا، فرد عليهم أَهْل الجنة قالُوا «إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما» يعني الطعام والشراب «عَلَى الْكافِرِينَ» وذلك أن اللَّه- عَزَّ وَجَلّ- رفع أَهْل الجنة لأهل النار فرأوا ما فيهما من الخير والرزق فنادوا عِنْد ذَلِكَ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله من الشراب والطعام، قَالَ لهم أَهْل الجنة:
إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ- 50- ثم نعتهم فقال: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ الْإِسْلام لَهْواً وَلَعِباً يعني لهوا عَنْهُ ولعبا يعني باطلا ودخلوا فِي غَيْر دين الْإِسْلام وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
عن دينهم الْإِسْلام فَالْيَوْمَ فِي الآخرة نَنْساهُمْ كَما نَسُوا يَقُولُ: فاليوم فِي الآخرة نتركهم فِي النار كما تركوا الإيمان لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا يعنى بالبعث وَما كانُوا بِآياتِنا يعني بالقرآن يَجْحَدُونَ- 51- بأنه لَيْسَ من اللَّه وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ يعني بيناه عَلى عِلْمٍ وَهُوَ القرآن هُدىً من الضلالة وَرَحْمَةً من العذاب لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ- 52- يعني يصدقون. بالقرآن بأنه من اللَّه، ثُمّ رجع فِي التقديم إلى الَّذِين جحدوا بالقرآن فَقَالَ: هَلْ يَنْظُرُونَ يخوفهم إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يعني العاقبة: ما وعد اللَّه فِي القرآن من الوعد والوعيد، والخير والشر، عَلَى ألسنة الرسل يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ يعني يَقُولُ فِي الآخرة: الَّذِين تركوا الْإِيمَان فِي الدُّنْيَا بالبعث، فإذا ذكروه وعاينوا قول الرسل قَالُوا: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ بأن هَذَا اليوم كائن وَهُوَ حق فَهَلْ(2/40)
لَنا مِنْ شُفَعاءَ
من الملائكة والنبيين وغيرها فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ إلى الدُّنْيَا فَنَعْمَلَ من الخير غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ من الشر يعني الشرك والتكذيب يَقُولُ اللَّه: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ يَقُولُ قَدْ غبنوا أنفسهم فساروا إلى النار وَضَلَّ عَنْهُمْ في الآخرة مَا كانُوا يَفْتَرُونَ- 53- فِي الدُّنْيَا من التكذيب إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ قبل ذلك «1» » .
[131 أ «2» ] يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَقُولُ يغشى ظلمة الليل ضوء النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً يعني سريعا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ لبنى آدم أَلا لَهُ الْخَلْقُ يعني كُلّ شيء خلق وَالْأَمْرُ يعني قضاءه فِي الخلق الَّذِي فِي اللوح المحفوظ فَلَه المشيئة فِي الخلق والأمر تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ- 54- فيخبر بعظمته وقدرته ثُمّ بين كيف يدعونه؟
فقال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً يعني مستكينين وَخُفْيَةً يعني في خفض وسكون كقوله: «وَلا تُخافِتْ بِها» «3» يعني تسر بها فادعوه فِي حاجتكم وَلا تدعوه فيما لا يحل لَكُمْ عَلَى مُؤْمِن أَوْ مؤمنة: تَقُولُ اللَّهُمَّ اخزه والعنه اللَّهُمَّ أهلكه أَوْ افعل به كذا وكذا فذلك عدوان إِنَّهُ الله «4» لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ- 55-
__________
(1) هذه نهاية الورقة التي نقلتها من ل، (نسخة كوبريلى) لأنها ساقطة من أ: (نسخة أحمد الثالث) .
(2) ليست هذه أول الورقة تماما إلا أن هذه الورقة ساقط منها أربعة أسطر من أولها، وهي السطور المكملة للورقة الساقطة.
(3) سورة الإسراء: 110.
(4) فى أ: والله، وفى حاشية أ: إنه.(2/41)
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وذلك أن اللَّه إذا بعث نبيا إلى الناس فأطاعوه صلحت الأرض وصلح أهلها وأن المعاصي فساد المعيشة وهلاك أهلها يَقُولُ لا تعملوا فِي الأرض بالمعاصي بعد الطاعة وَادْعُوهُ خَوْفاً من عذابه وَطَمَعاً فِي رحمته فَمنْ فعل ذَلِكَ وَهُوَ محسن فذلك قوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ- 56- يعني بالرحمة المطر، يَقُولُ الرحمة لهم وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً «1» بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يَقُولُ الرياح نشرا للسحاب كقوله: يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً «2» يسير السحاب قدام الرياح حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ يعني إذا حملت الريح سَحاباً ثِقالًا من الماء سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ لَيْسَ فِيهِ نبات فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ بالماء من الأرض مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ يعني هكذا نُخْرِجُ يُخْرِج اللَّه الْمَوْتى من الأرض بالماء كَمَا أخرج النبات من الأرض بالماء لَعَلَّكُمْ يعني لكي تَذَكَّرُونَ- 57- فتعتبروا فِي البعث أَنَّهُ كائن- نظيرها فِي الروم «3» والملائكة «4» -.
__________
(1) فى أ: نشرا. وقراءة حفص وعاصم بشرا وهو تخفيف بشر جمع بشير وقد قرئ به. وبشرا بفتح الباء مصدر بشره بمعنى باشرات والبشارة وبشرى.
أما نشرا فهو جمع نشور بمعنى ناشر وقرأ ابن عامر نشرا بالتخفيف حيث وقع وحمزة والكسائي نشرا بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر فى موضع الحال بمعنى ناشرات أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان (انظر البيضاوي) .
(2) سورة الروم: 48.
(3) يشير إلى الآية 24 من سورة الروم وهي: وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ.
(4) الآية 9 من سورة فاطر وهي: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ.(2/42)
ثُمّ ضرب مثلا للمؤمنين والكفار فَقَالَ: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يعني الأرض العذبة إذا مطرت يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ فينتفع به كَمَا ينفع المطر البلد الطيب فينبت، ثم ذكر مثل الكافر فَقَالَ: وَالَّذِي خَبُثَ من البلد يعني من الأرض السبخة أصابها المطر فلم ينبت لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً يعني إلا عسرا رقيقا يبس مكانه فلم ينتفع به- فهكذا الكافر يسمع الْإِيمَان وَلا ينطق به ولا ينفعه [131 ب] .
كَمَا لا «1» ينفع هَذَا النبات الَّذِي يَخْرُج رقيقا فييبس مكانه كَذلِكَ يعني هكذا نُصَرِّفُ الْآياتِ فِي أمور شتى لما ذكره فِي هاتين الآيتين لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ- 58- يعني يوحدون ربهم لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني وحدوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يقول ليس لكم رب غيره فَإِن لم تعبدوه إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ فى الدنيا عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ- 59- لشدته قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ وهم القادة والكبراء لنوح إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ- 60- قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ- 61- إليكم أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي فِي نزول العذاب بكم فِي الدُّنْيَا وَأَنْصَحُ لَكُمْ فيها وأحذركم من عذابه فِي الدُّنْيَا وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ فِي نزول العذاب بكم مَا لا تَعْلَمُونَ- 62- أنتم وذلك أن قوم نوح لَمْ يسمعوا بقوم قطّ عذبوا وَقَدْ سَمِعَت الأمم بعدهم بنزول العذاب عَلَى قوم نوح.
ألا ترى أن هودا قَالَ لقومه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ «2»
__________
(1) فى ل: لم.
(2) سورة الأعراف: 69.(2/43)
وقَالَ صَالِح لقومه: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ هلاك عادٍ «1» ، وحذر شُعَيْب قومه فَقَالَ: أَنْ يُصِيبَكُمْ من العذاب مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ «2» . فَمنْ ثُمّ قَالَ نوح لقومه: أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ فَقَالَ بعضهم لبعض الكبراء للضعفاء: ما هذا إلا بشر مثلكم أفتتبعونه «3» ؟ فرد عليهم نوح أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني بيان من ربكم عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ يعني نفسه لِيُنْذِرَكُمْ العذاب فِي الدُّنْيَا وَلِتَتَّقُوا الشرك وتوحدوا ربكم وَلَعَلَّكُمْ يعنى ولكي تُرْحَمُونَ- 63- فلا تعذبوا «4» فَكَذَّبُوهُ فِي العذاب أَنَّهُ لَيْسَ بنازل بنا يَقُولُ اللَّه: فَأَنْجَيْناهُ يعني نوحا وَالَّذِينَ مَعَهُ من الْمُؤْمِنِين فِي الْفُلْكِ يعني السفينة من الغرق برحمة مِنَّا وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعني نزول العذاب إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ- 64- عموا عن نزول العذاب بهم وَهُوَ الغرق وَأرسلنا إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً لَيْسَ بأخيهم فِي الدين وَلَكِن أخوهم فِي النسب قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني وحدوا الله ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يَقُولُ ما لَكُمْ رب غيره أَفَلا تَتَّقُونَ- 65- يعني الشرك أفلا توحدون ربكم قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وهم الكبراء لهود
__________
(1) سورة الأعراف: 74.
(2) الآية 89 من سورة هود وهي وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ. [.....]
(3) فى أ: فنتبعونه.
(4) فى أ: أفلا تعذبوا.(2/44)
والقادة: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ يعني في حمق وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ يعني لنحسبك مِنَ الْكاذِبِينَ- 66- فيما تَقُولُ فِي نزول العذاب بنا قالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ يعني حمق وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ- 67- إليكم أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي فِي نزول العذاب بكم فِي الدُّنْيَا وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ فيما أحذركم من عذابه أَمِينٌ- 68- فيما بيني وبينكم، فَقَالَ الكبراء: للضعفاء ما هَذَا إلا بشر مثلكم أفتتبعونه «1» ؟ فرد عليهم هود أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ [132 أ] يعني بيان من ربكم عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ يعني نفسه لِيُنْذِرَكُمْ العذاب فِي الدُّنْيَا وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ فِي الأرض «2» مِنْ بَعْدِ هلاك قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً عَلَى غيركم: كان طول كُلّ رَجُل منهم «3» اثنى عشر ذراعا ونصفا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ يعني نعم اللَّه فوحدوه لَعَلَّكُمْ يعني لكي تُفْلِحُونَ- 69- وَلا تعبدوا غيره قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ عبادة مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ- 70- إن العذاب نازل بنا قالَ هود: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ يعني إثم وعذاب أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أنها آلهة مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ يعني من كتاب لَكُمْ فِيهِ حجة بأن معه شريكا فَانْتَظِرُوا العذاب إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ- 71- بكم العذاب فَأَنْجَيْناهُ يعني هودا وَالَّذِينَ مَعَهُ من المؤمنين بِرَحْمَةٍ مِنَّا
__________
(1) فى أ: فتتبعونه.
(2) فى أ: الأرض، ل: فى الأرض.
(3) فى أ: منكم، ل: منهم.(2/45)
يعني بنعمة مِنَّا من العذاب وَقَطَعْنا دابِرَ يعنى أصل القوم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعنى بنزول العذاب وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ- 72- يعني مصدقين بالعذاب أَنَّهُ نازل بهم وهي الريح.
ثُمّ ذكر اللَّه ثمود قوم صَالِح فَقَالَ: وَأرسلنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً لَيْسَ بأخيهم فِي الدين وَلَكِن أخوهم فِي النسب قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني وحدوا الله ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يَقُولُ لَيْسَ لَكُمْ رب غيره قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني بالبينة الناقة فَقَالَ: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً لتعتبروا فتوحدوا ربكم وكانت «1» من غَيْر نسل وكان الفصيل من نسل فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ يَقُولُ خلوا عَنْهَا فلتأكل حيث شاءت وَلا تكلفكم مؤونة وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ لا تصيبوها بعقر فَيَأْخُذَكُمْ يعني فيصيبكم عَذابٌ أَلِيمٌ- 73- يعني وجيع فِي الدُّنْيَا وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ هلاك عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً يعني تبنون فِي «2» الجبال من الحجارة بيوتا فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ يعني نعم اللَّه فِي القصور والبيوت فتوحدوه وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ- 74- يعني وَلا تسعوا فيها بالمعاصي قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا يعني الَّذِين تكبروا عن الْإِيمَان وهم الكبراء مِنْ قَوْمِهِ أَي من قوم صَالِح «3» لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ يعني لمن صدق منهم بالتوحيد أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ
__________
(1) وكانت: ساقطة من ل. ومثبتة فى أ.
(2) فى: ساقطة من أومثبته فى ل.
(3) فى أ: (مِنْ قَوْمِهِ) صالح، ل: (من قوم) صالح.(2/46)
- 75- قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ يعني صدقتم به من العذاب والتوحيد كافِرُونَ- 76- فَعَقَرُوا النَّاقَةَ ليلة الأربعاء وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ يعني التوحيد وَقالُوا يَا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ- 77- الصادقين بأن العذاب نازل بنا فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ يعنى فأصابهم العذاب بكرة يوم السبت من صيحة جبريل [132 ب]- عليه السلام- فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ- 78- يعني فِي منازلهم خامدين أمواتا فَتَوَلَّى عَنْهُمْ يعني فأعرض عَنْهُمْ حين كذبوا بالعذاب وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي فِي نزول العذاب بكم فِي الدُّنْيَا وَنَصَحْتُ لَكُمْ فيما حذرتكم من عذابه وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ- 79- يعنى نفسه.
وَأرسلنا لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ «1» أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ يعني المعصية يعني إتيان الرجال وأنتم تبصرون أنها فاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ- 80- فيما مضى قبلكم إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ- 81- يعني الذنب العظيم «2» وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ أَي قوم لوط «3» حين نهاهم عن الفاحشة إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ- 82- يعني لوطا وحده يعني يتنزهون عن إتيان الرجال فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ من العذاب
__________
(1) فى أ: (و) أرسلنا (لوطا) إلى (قومه) فقال لقومه. وفى حاشية أ: إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ.
(2) هكذا فى أ، ل: والمراد أن الإسراف هو الذنب العظيم أى مسرفون فى اقتراف الذنب العظيم وهو اللوط.
(3) فى أ: (فما كان جواب قوم) لوط.(2/47)
إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ- 83- يعني من الباقين فِي العذاب وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ الحجارة من فوقهم مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ «1» يعني فبئس مطر الَّذِين أنذروا العذاب فَانْظُرْ يا محمد كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ- 84- يعني قوم لوط كان عاقبتهم الخسف والحصب بالحجارة وَأرسلنا إِلى مَدْيَنَ ابْن إِبْرَاهِيم لصلبه. وأرسلنا إلى مدين أَخاهُمْ شُعَيْباً لَيْسَ بأخيهم فِي الدين وَلَكِن أخوهم فِي النسب قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني وحدوا الله مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ لَيْسَ لَكُمْ رب غيره قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يعني بيان من ربكم فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ يعني لا تنقصوا الناس حقوقهم فِي نقصان الكيل والميزان وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها بعد الطاعة فِي نقصان الكيل والميزان «2» فَإِن المعاصي فساد المعيشة وهلاك أهلها ذلِكُمْ يقول وفاء الكيل والميزان خير لَكُمْ من النقصان إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ- 85- يقول إن كنتم آمنتم كان فِي الآخرة خير لَكُمْ من نقصان الكيل والميزان فِي الدُّنْيَا- نظيرها فِي هود- «3» .
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ يعني وَلا ترصدوا بكل طريق توعدون أَهْل الإيمان بالقتل وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني عن دين الإسلام مَنْ آمَنَ بِهِ يعني من صدق بِاللَّه وحده لا شريك لَهُ وَتَبْغُونَها عِوَجاً يعني تريدون بملة الْإِسْلام زيفا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا «4» عددكم بعد عذاب
__________
(1) سورة الشعراء: 173. وسورة النمل: 58.
(2) أى بعد أن أطعتم فلم تنقصوا المكيال والميزان.
(3) يشير إلى الآية 85 من سورة هود وهي: وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. [.....]
(4) يشير إلى الآية: 89 من سورة هود.(2/48)
الأمم الخالية، ثُمّ ذكرهم النعم فَقَالَ: فَكَثَّرَكُمْ يعني فكثر عددكم ثُمّ وعظهم وخوفهم بمثل عذاب الأمم الخالية فَقَالَ: وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ- 86- فِي الأرض بالمعاصي بعد عذاب قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، [133 أ] فِي الدُّنْيَا، نظيرها فِي هود «1» ، وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ من العذاب وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا يعني لَمْ يصدقوا بالعذاب فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ حَتَّى يقضي اللَّه بَيْنَنا فِي أمر العذاب وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ- 87- يعني وَهُوَ خير الفاصلين فكان قضاؤه نزول العذاب بهم قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ يعني الَّذِين تكبروا عن الْإِيمَان وهم الكبراء لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا يعنون الشرك: أَوْ لتدخلن فِي ملتنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ- 88- ثُمّ قَالَ لهم شُعَيْب: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ الشرك يعني إن دخلنا فِي دينكم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها يَقُولُ بعد إذ لَمْ يجعلنا اللَّه من أَهْل ملتكم الشرك وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها وما ينبغي لنا أن ندخل فِي ملتكم الشرك إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا فيدخلنا فِي ملتكم وَسِعَ يعني ملأ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فعلمه عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا لقولهم لشعيب: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا ثُمّ قَالَ شُعَيْب: رَبَّنَا افْتَحْ يعني اقض بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ يعني بالعدل فِي نزول العذاب بهم وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ- 89- يعنى القاضين.
__________
(1) يشير إلى الآية 89 من سورة هود: وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ.(2/49)
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا بالله مِنْ قَوْمِهِ وهم الكبراء للضعفاء لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً على دينه إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ- 90- يعني لعجزة، نظيرها فِي يُوسُف لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ «1» يعني لعجزة ظالمون فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ يعني العذاب فَأَصْبَحُوا من صيحة جبريل- عَلَيْه السَّلام فِي دارِهِمْ يعني قريتهم جاثِمِينَ- 91- يعني أمواتا خامدين الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا يعني كَأَنّ لَمْ يكونوا فيها قطّ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ- 92- فَتَوَلَّى عَنْهُمْ يعني فأعرض عَنْهُمْ حين كذبوا بالعذاب، نظيرها في هود «2» ، وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي فِي نزول العذاب بكم فِي الدُّنْيَا وَنَصَحْتُ لَكُمْ فيما حذرتكم من عذابه فَكَيْفَ آسى يَقُولُ فكيف أحزن بعد الصيحة عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ- 93- إذا عذبوا وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ فكذبوه إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ يعني قحط المطر فأصابهم البؤس وَهُوَ الشدة والضر يعني البلاء لَعَلَّهُمْ يعني لكي يَضَّرَّعُونَ- 94- إلى ربهم فيوحدونه فيرحمهم ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ يَقُولُ حولنا مكان «3» الشدة الرخاء حَتَّى عَفَوْا يَقُولُ حموا «4» وسمتوا فلم يشكروا ربهم فقالوا من غيرتهم وجهلهم وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا يعنى
__________
(1) سورة يوسف: 14.
(2) يشير إلى الآيتين 94، 95 من سورة هود وهما: وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ.
(3) فى أ: من.
(4) فى أ، ل، م: حموا، وفى البيضاوي: حَتَّى عَفَوْا حتى كثروا عددا وعددا يقال عفا النبات إذا كثر ومنه أعفاء اللحية.(2/50)
أصاب آباءنا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ يعني الشدة والرخاء مثل ما أصابنا فلم يك شيئًا يَقُولُ: فَأَخَذْناهُمْ بالعذاب بَغْتَةً [133 ب] فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ- 95- أعز ما كانوا حتى «1» نزل بهم وَقَدْ أنذرتهم رسلهم العذاب من قبل أن ينزل بهم فذلك قوله: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ بالشرك وَأَهْلُها غافِلُونَ «2» ثُمّ أخبر عَنْهُمْ فَقَالَ: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى التي عذبت آمَنُوا بتوحيد اللَّه وَاتَّقَوْا الشرك ما قحط عليهم المطر ولَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ يعني المطر وَالْأَرْضِ يعني النبات وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بالعذاب بِما كانُوا يَكْسِبُونَ- 96- من الشرك والتكذيب أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً يعنى عذابنا ليلا «3» وَهُمْ نائِمُونَ- 97- أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى يعني عذابنا نهارا وَهُمْ يَلْعَبُونَ- 98- يعني لاهون عَنْهُ، نظيرها فِي طه وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى «4» يعني نهارا أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ يعنى عذاب اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ- 99- أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ يعني ورثوا الأرض مِنْ بَعْدِ هلاك أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بعذاب بِذُنُوبِهِمْ يخوف كفار مكة وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ بالكفر فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ- 100- بالإيمان. ثُمّ رجع إلى القرى الخالية التي عذبت، فَقَالَ: تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها يعنى حديثها
__________
(1) فى أ، ل: حتى. ولعل أصلها حين.
(2) سورة الأنعام: 131.
(3) فى أ: يعنى عذاب البلاء، ل: يعنى عذابنا ليلا.
(4) سورة طه الآية 59 وهي: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى.(2/51)
وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يعني بيان العذاب فَإنَّهُ نازل بهم فِي الدُّنْيَا وذلك أن النَّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- أخبر كفار مكة بأن العذاب نازل بهم فكذبوه بالعذاب فأنزل اللَّه: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ يَقُولُ فَمَا كان كفار مكة ليؤمنوا يعني ليصدقوا أن العذاب نازل بهم فِي الدُّنْيَا بما كذبت به أوائلهم من الأمم الخالية من قبل كفار مكة حين أنذرتهم رسلهم العذاب يقول الله: كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ يعني هكذا يختم اللَّه بالكفر عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ- 101- وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وذلك أن اللَّه أَخَذَ ميثاق ذرِّيَّة آدم عَلَى المعرفة فأقروا بِذَلِك فَلَمَّا بلغوا العمل نقضوا العهد وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ- 102- ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ يعني من بعد الرسل «1» مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ
يعني اليد والعصا فَظَلَمُوا بِها يعني فجحدوا بالآيات وقالوا ليست من اللَّه فَإِنَّهَا سحر فَانْظُرْ يا محمد كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ- 103- فِي الأرض بالمعاصي فكان عاقبتهم الغرق وَقالَ مُوسى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ- 104- حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ فَإنَّهُ بعثني رسولا «2» قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ يعني اليد والعصا بأني رَسُول اللَّهِ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ- 105- إلى فلسطين قالَ فرعون: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ- 106- بأنك رسول رب العالمين وَفِي يد مُوسَى عصا فزعم ابْن عَبَّاس أن ملكا من الملائكة دفعها «3» إِلَيْهِ حين توجه إلى مدين فقال
__________
(1) فى أ: يعنى بعد الرسل، ل: يعنى من بعد الرسل.
(2) فى أ: بأنه يعنى رسولا، ل: فإنه بعثني رسولا.
(3) فى أ: أنها ملك من الملائكة دفعها إليه، ل: أن ملكا من الملائكة دفعها إليه.(2/52)
مُوسَى لفرعون: ما هَذِهِ بيدي؟ قَالَ فرعون عصا: فَأَلْقى مُوسَى عَصاهُ من يده «1» فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ- 107- يعني حية بينة فَقَالَ فرعون: فهل من آية غيرها. قَالَ: نعم. فأخرج يده، وقَالَ لفرعون «2» : ما هَذِهِ؟ قَالَ: هَذِهِ يدك «3» . فأدخل مُوسَى يده فِي جيبه وعليه مدرعة من صوف مضرية، ثُمّ أخرجها، فذلك قوله: وَنَزَعَ يَدَهُ يعني أخرج يده من جيبه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ- 108- لها شعاع كشعاع الشمس يغشي البصر من شدة بياضها قالَ الْمَلَأُ وهم الكبراء مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا يعني مُوسَى لَساحِرٌ عَلِيمٌ- 109- يعني عالم بالسحر وذلك أن فرعون بدأ بهذه المقالة فصدقه قومه، نظيرها فِي الشعراء «4» ، ثُمّ قَالَ لهم فرعون: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ وهي مصر فَماذا تَأْمُرُونَ- 110- يعني تشيرون فرد عليه كبراء قومه: قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ يَقُولُ أرجئ «5» أمرهم يَقُولُ أوقف أمرهم حَتَّى ننظر فِي أمرهما وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ- 111- يَأْتُوكَ يحشرون عليك بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ- 112- يعنون عالم بالسحر وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً يعنى جعلا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ- 113- لموسى قالَ فرعون: نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ
__________
(1) فى أ: «فَأَلْقى مُوسى» العصا من يده. وفى حاشية أ: الآية «عَصاهُ» . [.....]
(2) فى أ: قال فرعون، ل: قال لفرعون.
(3) فى أ: يدي، ل: يدك.
(4) يشير إلى الآية 34 من سورة الشعراء وهي قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَساحِرٌ عَلِيمٌ.
(5) فى أ: أرج.(2/53)
- 114- فِي المنزلة «1» سوى العظمة، «كان» هَذَا «2» يوم السبت فِي المحرم، والسحرة اثنان وسبعون رَجُلا «قالُوا يا مُوسى» «3» فقالت السحرة لموسى: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ ما فِي يدك يعني عصاه وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ- 115- ما فِي أيدينا من الحبال والعصي قالَ لَهُمْ مُوسَى:
أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا الحبال والعصي سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ يعنى وخوفوهم وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ- 116- وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فصارت حية فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ يعني تلقم ما يَأْفِكُونَ- 117- يعني ما جاءوا به من الكذب فَوَقَعَ الْحَقُّ يعني فظهر الحق بأنه لَيْسَ بسحر وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ- 118- يعني بطل ما كانوا يعملون من السحر فَغُلِبُوا هُنالِكَ يعني عِنْد ذَلِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ- 119- يعني فرجعوا إلى منازلهم مذلين وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ- 120- لله قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ- 121- قَالَ السحرة: آمنا ب رَبِّ مُوسى وَهارُونَ- 122- فبهت فرعون لردهم عَلَيْه «4» وقالَ فِرْعَوْنُ للسحرة آمَنْتُمْ بِهِ يعني صدقتم بموسى قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ يَقُولُ إن هَذَا الْإِيمَان لقول قلتموه فِي المدينة، يعني فِي أَهْل مصر فِي متابعتكم إياه، وذلك أن مُوسَى قَالَ للساحر الأكبر واسمه شمعون: أتؤمن لي إن غلبتك؟ قَالَ: لآتين بسحر لا يغلبه سحرك، ولئن
__________
(1) فى أ: المنزلة، ل: فى المنزلة.
(2) فى أ، ل: فهذا يوم السبت فى المحرم.
(3) «قالُوا يا مُوسى» : ساقطة من أ، ومكتوبة فى حاشيتها.
(4) فى أ: لربدهم عليه، ل: لردهم عليه.(2/54)
غلبتني لأؤمن لك وفرعون ينظر. فَمنْ ثُمّ قال فرعون: لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها من أرض مصر يعني مُوسَى، وهارون، وشمعون، رئيس السحرة: فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ- 123- فأوعدهم لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ [134 ب] يعني اليد اليمنى والرجل اليسرى، أَو الرَّجُل اليمنى واليد اليسرى ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ- 124- فرد السحرة عَلَى فرعون قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ- 125- يعني راجعين وَما تَنْقِمُ يعني وما نقمت مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا يعني صدقنا باليد والعصا آيتان من ربنا لَمَّا جاءَتْنا ثُمّ قَالُوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا يعنى ألق علينا صَبْراً عِنْد القطع والصلب وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ- 126- يعني مخلصين للَّه حَتَّى لا يردنا البلاء عن ديننا فصلبهم فرعون من يومه فكانوا أول النهار سحرة كفارا وآخر النهار شهداء مسلمين لما آمنت السحرة لموسى وَقالَ الْمَلَأُ يعني الأشراف مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ بني إِسْرَائِيل قَدْ آمنوا بموسى لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ يعني مصر يعني بالفساد: أن يقتل أبناءكم ويستحيى نساءكم، يعني ويترك بناتكم كَمَا فعلتم بقومه يفعله بكم، نظيرها فِي حم الْمُؤْمِن، وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ يعني ويترك عبادتك قالَ فرعون عِنْد ذلك سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ يعنى بناتهم وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ- 127- ثُمّ أمرهم أن يقتلوا أبناء الَّذِين معه ويستحيوا «1» نساءهم فمنعهم اللَّه من قتل الأبناء حين أغرقهم «2» فِي البحر «وكان فرعون قَدْ «3» » كلفهم من العمل
__________
(1) فى أ: واستحيوا.
(2) فى أ: غرقهم.
(3) زيادة لتصحيح الكلام.(2/55)
ما لَمْ يطيقوا فمر بهم مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- ف قالَ «1» لهم: مُوسى لِقَوْمِهِ فِي التقديم: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ عَلَى فرعون وقومه وَاصْبِرُوا عَلَى البلاء إِنَّ الْأَرْضَ أرض مصر لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ يعني الجنة لِلْمُتَّقِينَ- 128- يعني للموحدين. ف قالُوا أُوذِينا فِي سببك مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة يعنون الأذى قتل الأبناء وترك البنات وَأوذينا مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا بالرسالة يعنون حين كلفهم فرعون من العمل ما لَمْ يطيقوا مضارة باتباعهم مُوسَى- عَلَيْه السلام.
قال موسى: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ يعني فرعون وقومه وَيَسْتَخْلِفَكُمْ من بعد هلاكهم فِي الْأَرْضِ يعني أرض مصر فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ- 129- فَإِنَّمَا قَالَ لهم مُوسَى- عَلَيْه السلام- ذَلِكَ من قول اللَّه- تَعَالَى- فِي القصص: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ ...
إلى آيتين «2» ففعل اللَّه ذَلِكَ بهم فأهلك عدوهم واستخلفهم فِي الأرض فاتخذوا العجل وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ يعني أَهْل مصر بِالسِّنِينَ يعني قحط المطر وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ فأصابهم الجوع لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ- 130- يعني لعلهم يتذكرون فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ يعنى الخير والخصب قالُوا لَنا هذِهِ
__________
(1) فى أ: فسر جزآ من الآية 129 الأعراف قبل الآية 128 ففسر قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا ... الآية (129) قبل قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ...
الآية 128.
وقد أصلحت ذلك: حسب ترتيب المصحف الشريف.
(2) يشير إلى الآيتين 5، 6 من سورة القصص وهما: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ.(2/56)
يعنون نحن أحق بهذا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يعني الجوع والبلاء وقحط المطر، وهلاك الثمار، والمواشي، يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ على دينه تسألوا أصابنا هَذَا الشر من سحر مُوسَى يَقُولُ الله: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ يَقُولُ إن الَّذِي أصابهم هُوَ من اللَّه وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ [135 أ] يعني أَهْل مصر لا يَعْلَمُونَ- 131- أَنَّهُ من اللَّه الَّذِي أصابهم «1» وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها يعني الآيات التسع فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ- 132- يعنى بمصدقين يعنى بأنك رسول من رب العالمين. فَأَرْسَلْنا فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ أرسل اللَّه عَلَيْهِمُ السنين، ونقص من الثمرات، والنبات والطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ يعني باينات «2» بعضها من بعض بين كُلّ آيتين ثلاثين يومًا فَاسْتَكْبَرُوا يعني فتكبروا عن الإيمان وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ- 133- فأما الطوفان فهو الماء طغى فوق حروثهم وزروعهم مطردا ثمانية أيام فِي ظلمة شديدة لا يرون فيها شمسا وَلا قمرا وَلا يَخْرُج منهم أحد إلى صنعته فخافوا الغرق فصرخوا إلى فرعون فأرسل إلى مُوسَى فَقَالَ: يا أيها الساحر، ادع لنا ربك أن يكشف عنا هَذَا المطر فَإِن يكشفه لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إِسْرَائِيل. فَقَالَ:
لا أفعل ما زعمتم أني ساحر. فقالوا: يا مُوسَى، ادع لنا ربك. فدعا ربه فكشف عَنْهُم المطر، فنبت من الزرع والعشب ما لَمْ ير مثله قطّ. فقالوا:
لقَدْ جزعنا من أمر كان خيرًا لنا. فنكثوا العهد فأرسل اللَّه عليهم الجراد ثمانية أيام، وملئت الأرض حَتَّى كانوا لا يرون الأرض من كثرته، قدر ذراع فأكل
__________
(1) الأنسب: أن الذي أصابهم من الله. [.....]
(2) باينات: من البين وهو البعد أى كل آية بعيدة عن الثانية، بمقدار ثلاثين يوما.(2/57)
النبات حَتَّى خافوا ألا يبقى لهم شيء. فَقَالَ فرعون: يا مُوسَى، ادع لنا ربك أن يكشف عنا، فنؤمن لك. فدعا مُوسَى ربه، فبعث اللَّه ريحا فاحتملت الجراد فألقته فِي البحر. قَالُوا: قَدْ بقي لنا ما نتبلغ به حَتَّى يدركنا الغيث فنكثوا فأرسل اللَّه عليهم القمل، وَهُوَ الدبَى، فغشي كُلّ شيء منهم، فلم يبق عودا أخضر من الزرع والنبات إِلَّا أكله. قَالَ فرعون لموسى: ادع لنا ربك أن يكشفه عنا، ونؤمن لك. فدعا ربه فأمات القمل وبقي لهم ما يتبلغون. فنكثوا، قَالُوا:
يا مُوسَى، هَلْ يستطيع ربك أن يفعل بنا أشد من هَذَا؟ فأرسل اللَّه عليهم الضفادع فدبت فِي بيوتهم وعلى ظهورهم فكان يستيقظ الرَّجُل من نومه وعليه منهم كثرة. فَقَالَ فرعون لموسى: ادع لنا ربك فيهلكه، فَإنَّهُ لَمْ يعذب أحد قطّ بالضفادع. فدعا مُوسَى ربه فأمات الضفادع، فأرسل اللَّه مطرا جوادا فجرى بهم الماء حَتَّى قذفهم فِي البحر. فقالوا: إِنَّمَا كان هَذَا الضفادع من المطر الَّذِي كان أصابنا فلن يعود إلينا أبدا، فنكثوا فأرسل اللَّه عليهم الدم حَتَّى صارت أنهارهم وركاباهم دما، وأنهار بني إِسْرَائِيل ماء عذبا، فإذا دخل القبطي ليستقي من ماء بني إِسْرَائِيل صار دما ما بين يديه وما خلفه صاف، إذا تحول ليأخذ من الصافي صار دما وخلفه صاف، فمكثوا ثلاثة أيام لا يذوقون ماء صافيا، فقالوا لفرعون: هلكنا، وهلكت مواشينا [135 ب] وذرارينا من العطش. فَقَالَ لموسى: ادع لنا ربك ليكشف عنا، ونعطيك ميثاقا لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إِسْرَائِيل، فدعا مُوسَى ربه فكشفه عَنْهُمْ، ولما شربوا الماء نكثوا العهد فذلك قوله: وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ يعني العذاب الَّذِي كان نزل بهم قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ يعني هَذَا العذاب كله لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ- 134-(2/58)
إلى فلسطين، يَقُولُ اللَّه «1» : فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ يعنى الغرق إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ- 135- العهد الَّذِي عاهدوا عَلَيْه مُوسَى- عَلَيْه السَّلام- لقولهم لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إِسْرَائِيل إلى فلسطين، يَقُولُ الله: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بلسان العبرانية يعني به البحر وَهُوَ نهر بمصر بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا يعنى الآيات التسع قالوا: يا أيها الساحر، أَنْت الَّذِي تعمل هَذِهِ الآيات، وإنها سحر، وليست من اللَّه. وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ- 136- يعني معرضين فلم يتفكروا فيها فيعتبرون. قَالَ فرعون لموسى فى حم الزخرف: يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ «2» فَقَالَ: لا أدعو وأنتم تزعمون أني ساحر، فَقَالَ فِي الأعراف يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ «3» يعنى سل لنا ربك. ثُمّ قَالَ: وَأَوْرَثْنَا الأرض الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ يعني بني إِسْرَائِيل يعني بالاستضعاف قتل الأبناء واستحياء النّساء بأرض مصر، وورثهم مَشارِقَ الْأَرْضِ المقدسة وَمَغارِبَهَا وهي الأُرْدُنّ، وفلسطين الَّتِي بارَكْنا فِيها يعني بالبركة الماء، والثمار الكثيرة وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى وهي النعمة عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا حين كلفوا بأرض مصر ما لا يطيقون من استعبادهم إياهم يعني بالكلمة التي فِي القصص من قوله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ ... إلى آيتين «4» .
__________
(1) فى أ: بقول الله لموسى- عليه السلام.
(2) سورة الزخرف: 49.
(3) يشير إلى الآية السابقة وهي الآية: 134 سورة الأعراف.
(4) يشير إلى الآيتين 5، 6 من سورة القصص.(2/59)
وأهلك اللَّه عدوهم ومكن لهم فِي الأرض فهي الكلمة وهي النعمة التي تمت عَلَى بني إِسْرَائِيل.
وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ يعني وأهلكنا عمل فرعون وقومه القبط فِي مصر وأهلكنا ما كانُوا يَعْرِشُونَ- 137- يعني يبنون من البيوت والمنازل وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ يعني النيل: نهر مصر فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ يعني فمروا عَلَى العمالقة يقيمون عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ يعبدونها فقالت بنو إِسْرَائِيل: قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ- 138- إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ يعني مدمر مَا هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ- 139- قالَ لهم مُوسَى: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً يعنى ربا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ- 140- يعني عالمي أَهْل مصر حين أنجاكم وأهلكهم وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يعنى بنى إسرائيل يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يعني يعذبونكم أشد العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ [136 أ] يعني قتل الأبناء وترك البنات وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ- 141- يعني بالعظم شدة ما نزل بهم من البلاء وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً من ذِي القعدة «واعدناه» الجبل «1» وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ من ذى الحجة فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ يعني ربه أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وكان مُوسَى ومن معه قَدْ قطعوا البحر فِي عشر «2» من المحرم يوم عاشوراء ثُمّ أعطي التوراة يوم النحر بينهما أحد عشر شهرا وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي
__________
(1) أى كان مكان الميعاد الجبل، وقد زدت كلمة «واعدناه» لتوضيح الكلام.
(2) فى أ: وعشر، ل: فى عشر.(2/60)
بني إِسْرَائِيل بخير حين خرج إلى الجبل وَأَصْلِحْ يعني وأرفق بهم- نظيرها فِي القصص وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ «1» يعني الرافقين بك وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ- 142- منهم وَلَمَّا جاءَ مُوسى الجبل لِمِيقاتِنا يعني لميعادنا لتمام الأربعين يومًا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ فَلَمَّا سَمِع كلام ربه استحلاه واشتاق إلى رؤية ربه قالَ: يا رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ له ربه إنك لَنْ تَرانِي وَلكِنِ اجعل بيني وبينك علما هُوَ أقوى منك يعني الجبل انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي وإن لَمْ يستقر الجبل مكانه فإنك لن تطيق رؤيتي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا يعني قطعا فصار الجبل دكا «يعني قطعا على» «2» ستة فرق فوقع ثلاثة بأجبل مكة: بثير، وغار ثَوْر، وحزن. ووقع بالمدينة:
رضوى، وورقان، وجبل أحد، فذلك قوله جَعَلَهُ دَكًّا «3» وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً
__________
(1) سورة القصص: 27.
(2) زيادة من: ل.
(3) ليس فى نص الآية ما يفيد أن الجبل صار قطعا وأنه كون ستة جبال.
وخلاصة الآية: أن الله لما تجلى بعظمته وجلاله للجبل صار ترابا وصعق موسى من هول ما رأى، قال فى تفسير المنار: (وأحسن ما ورد فى التفسير المأثور لهذه الآية مطابقا لمتن اللغة ما رواه ابن جرير وابن أبى حاتم وأبو الشيخ والبيهقي فى الرؤية عن ابن عباس فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا قال ترابا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً قال مغشيا عليه ... وقد ورد فى بعض الآثار والأحاديث المرفوعة أيضا أن الجبل ساخ أى غاص فى الأرض، وهو يتفق مع المعنى الأول، أى أنه رج بالتجلى رجا، وبست حجارته بسا، وساخ فى الأرض كله أو بعضه فى أثناء ذلك حتى صار كما قال بعضهم ربوة دكاء كالرمل المتلبد.
والمعنى فلما تجلى ربه للجبل أقل التجلي وأدناه انهد وهبط من شدته وعظمته وصار كالأرض المدكوكة أو الناقة الدكاء (وهي التي لا سنام لها) .
قال فى الأساس: دككته دققته، ودك الركبة كبسها، وجمل أدك وناقة دكاء: لا سنام لهما، واندك السنام: افترش على الظهر ونزلنا بدكداك: رمل متلبد بالأرض.(2/61)