|
المؤلف: نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري (المتوفى: 850هـ)
المحقق: الشيخ زكريا عميرات
الناشر: دار الكتب العلميه - بيروت
الطبعة: الأولى - 1416 هـ
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير]
القراآت:
عِنْدِي أَوَلَمْ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن فليح وأبو عمرو وخزاعي عن أصحابه وابن مجاهد وأبو عون والسرندي عن قنبل. الباقون بالإسكان وَيْكَأَنَّ وَيْكَأَنَّهُ الوقف على الياء: أبو عمرو ويعقوب ويك الوقف على الكاف ووَيْكَأَنَّهُ موصولة: روى السوسي عن السرندي وهو مذهب حمزة. الباقون كلاهما موصولان لَخَسَفَ على البناء للفاعل: سهل ويعقوب وحفص رَبِّي أَعْلَمُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو.
الوقوف:
بِضِياءٍ ط تَسْمَعُونَ هـ فِيهِ ط تُبْصِرُونَ هـ تَشْكُرُونَ هـ تَزْعُمُونَ هـ يَفْتَرُونَ هـ عَلَيْهِمْ ص لأن الواو للحال أي وقد آتيناه مع طول الكلام الْقُوَّةِ ط بناء على أن التقدير و «أذكر» إذ قال: وقال في الكشاف: إنه متعلق ب لَتَنُوأُ فلا وقف الْفَرِحِينَ هـ فِي الْأَرْضِ ط الْمُفْسِدِينَ هـ عِنْدِي ط جَمْعاً ط الْمُجْرِمُونَ هـ فِي زِينَتِهِ ط لعدم العاطف واختلاف القائل. قارُونُ لا لأن ما بعده تعليل التمني ولو ابتدأنا لحكمنا بأنه ذو حظ عَظِيمٍ هـ صالِحاً ج لأن ما بعده احتمل أن يكون ابتداء إخبار من الله، واحتمل أن يكون من قول أهل العلم الصَّابِرُونَ هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ ق قد قيل: لتفصيل الاعتبار المُنْتَصِرِينَ هـ وَيَقْدِرُ ج للابتداء بلولا مع اتحاد المقول لَخَسَفَ بِنا ط الْكافِرُونَ هـ وَلا فَساداً ط لِلْمُتَّقِينَ هـ مِنْها ج لعطف جملة الشرط يَعْمَلُونَ هـ مَعادٍ ط مُبِينٍ هـ لِلْكافِرِينَ هـ ز للآية مع العطف الْمُشْرِكِينَ هـ للآية وخلو المعطوف عن نون التأكيد التي دخلت المعطوف عليه مع اتفاق الجملتين آخرا احترازا من إيهام كون ما بعده صفة آخَرَ هـ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ط وَجْهَهُ ط تُرْجَعُونَ هـ.
التفسير:
لما بين سبحانه حقيقة آلهيته واستحقاقه للحمد المطلق وأن مرجع الكل إلى حكمته وقضائه، أتبعه بعض ما يجب أن يحمد عليه مما لا يقدر عليه أحد سواه وهو تبديل ظلام الليل بضياء النهار وبالعكس. والمعنى: أخبروني من يقدر على هذا؟ والسرمد الدائم المتصل من السرد، والميم زائدة، وانتصابه على أنه مفعول ثان لجعل أو على الحال، وإلى متعلق بجعل أو ب سَرْمَداً، ومنافع الليل والنهار والاستدلال بهما على كمال قدرة الله تعالى قد تقدمت مرارا. قال جار الله: وإنما لم يقل بنهار تتصرفون فيه كما قيل: بِلَيْلٍ
(5/359)
تَسْكُنُونَ فِيهِ
لأن الضياء وهو ضوء الشمس تتعلق به المنافع المتكاثرة وليس التصرف في المعاش وحده، والظلام ليس بتلك المنزلة ومن ثمّ قرن بالضياء أَفَلا تَسْمَعُونَ لأن السمع يدرك ما لا يدركه البصر من ذكر منافعه ووصف فوائده، وقرن بالليل أَفَلا تُبْصِرُونَ لأن غيرك يبصر من منفعة الظلام ما تبصره أنت من السكون ونحوه. قال الكلبي: أَفَلا تَسْمَعُونَ معناه أفلا تطيعون من يفعل ذلك. وقوله أَفَلا تُبْصِرُونَ معناه أفلا تبصرون ما أنتم عليه من الخطأ والضلال. وقال أهل البرهان: قدم الليل على النهار لأن ذهاب الليل بطلوع الشمس أكثر فائدة من ذهاب النهار بدخول الليل. وإنما ختم الآية الأولى بقوله أَفَلا تَسْمَعُونَ بناء على الليل، وختم الأخرى بقوله أَفَلا تُبْصِرُونَ بناء على النهار والنهار مبصر وآية النهار مبصرة. ثم بين أن من رحمته زواجه بين الليل والنهار لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار ولإرادة الشكر على النعمتين جميعا. وفي الآية طريقة اللف ثقة بفهم السامع وذلك لأن السكون بالنهار وإن كان ممكنا وكذا الابتغاء من فضل الله بالليل إلا أن الأليق بكل واحد منهما ما ذكره فلهذا خصه به. وفي تكرير التوبيخ باتخاذ الشركاء دليل على أنه لا شيء أسخط عند الله من الإشراك به، ويعلم منه أنه لا شيء أجلب لرضاه من الشهادة بوحدانيته. وفحوى الخطاب: أين الذين ادّعيتم إلهيتهم لتخلصكم أو أين الذين قلتم إنها تقربكم إلى الله زلفى وقد علموا أن لا إله إلا الله؟ فيكون ذلك زيادة في غمهم.
ومعنى وَنَزَعْنا وأخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً قال بعضهم: هو نبيهم لأن الأنبياء يشهدون أنهم بلغوا أمتهم الدلائل وبلغوا في إيضاحها كل غاية ليعلم أن التقصير منهم فيكون ذلك زيادة في غمهم أيضا. وقال آخرون: بل هم الشهداء الذين يشهدون على الناس في كل زمان، ويدخل في جملتهم الأنبياء وهذا أقرب، لأنه تعالى عم كل جماعة بأن ينزع منهم الشهيد فيدخل فيه أزمنة الفترات والأزمنة التي بعد محمد صلى الله عليه وسلم. فَقُلْنا للأمة هاتُوا بُرْهانَكُمْ فيما كنتم عليه من الشرك وخلاف الرسول فَعَلِمُوا حينئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ ورسوله وغاب عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الباطل والزور. ثم عقب حديث أهل الضلال بقصة قارون. وهو اسم أعجمي ولهذا لم ينصرف بعد العلمية ولو كان «فاعولا» من قرن لانصرف. والظاهر أنه كان ممن آمن بموسى، هذا ظاهر نص القرآن ولا يبعد أيضا حمله على القرابة. قال الكلبي: إنه كان ابن عم موسى. وقيل: كان موسى ابن أخيه وكان يسمى المنوّر لحسن صورته، وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة إلا أنه نافق كما نافق السامري. وقال:
إذا كانت النبوّة لموسى والذبح والقربان إلى هارون فما لي؟ وفي قوله فَبَغى عَلَيْهِمْ وجوه أحدها: أن بغيه استخفافه بالفقراء. وثانيها أنه ملكه فرعون على بني إسرائيل فظلمهم. وقال
(5/360)
القفال: معناه طلب الفضل عليهم وأن يكونوا تحت يده. وقال الضحاك: طغى عليهم واستطال فلم يوافقهم في أمر. ابن عباس: تجبر وتكبر عليهم ومثله عن شهر بن حوشب قال: بغيه أنه زاد عليهم في الثياب شبرا فهذا يعود إلى التكبر. الكلبي: بغيه حسده وذلك أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة له والوزارة لهارون، وكان القربان إلى موسى فجعله إلى هارون فوجد قارون في نفسه حسدهما فقال لموسى: الأمر لكما ولست على شيء إلى متى اصبر؟ قال موسى: هكذا حكم الله. قال: والله لا أصدقك حتى تأتي بآية، فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يأتي كل واحد بعصا فألقى مجموع العصيّ في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها فأصبحوا فإذا بعصا هارون تهتز ولها ورق أخضر وكانت من شجر اللوز فقال قارون: ما هو بأعجب مما تصنع من السحر. واعتزل قارون بأتباعه وكان كثير المال كما أخبر الله تعالى عن ذلك بقوله وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ سأل الكلبي: ألستم تقولون إن الله لا يعطي الحرام فكيف أضاف إيتاء مال قارون إلى نفسه؟ فأجاب بأنه لا حجة في أن ماله حرام لجواز أنه ظفر بكنز لبعض الملوك الخالية، وكان الظفر عندهم طريق التملك، أو لعله وصل إليه بالإرث من جهات، أو بالكسب من جهة المضاربات وغيرها. والمفاتح جمع مفتح بكسر الميم وهو ما يفتح به الباب، أو جمع مفتح بالفتح وهو الخزانة. فمن الناس من طعن في القول الأول لأن مال الرجل الواحد لا يبلغ هذا المبلغ، ولو أنا قدرنا بلدة مملوأة من الذهب لكفاها أعداد قليلة من المفاتيح ولهذا قال أبو رزين: يكفي للكوفة مفتاح واحد. وأيضا الكنوز هي الأموال المدفونة في الأرض ولا يتصوّر لها مفتاح. أجاب الناصرون للقول الأول وهو اختيار ابن عباس والحسن: أن المال إذا كان من جنس العروض لا من جنس النقود جاز أن يبلغ في الكثرة إلى هذا الحد. وأيضا ما روي أن مفاتيحه كانت من جلود الإبل وكل مفتاح إصبع ولكل خزانة مفتاح، وكان إذا ركب حملت المفاتيح ستون بغلا غير مذكور في القرآن. فالصواب أن يفسر قوله لَتَنُوأُ أي تنهض مثقلا بأن تلك الخزائن يعسر ضبطها ومعرفتها على أهل القوّة في الحساب، وقريب منه قول أبي مسلم: إن المراد من المفاتح العلم والإحاطة كقوله وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام: 59] والمراد أن حفظها والاطلاع عليها يثقل على العصبة أولي القوّة والمتانة في الرأي. وظاهر الكنوز وإن كان من جهة العرف هو المال المدفون إلا أنه قد يقع على المال المجموع في المواضع التي عليها أغلاق. وأيضا لا استبعاد في أن يكون موضع المال المدفون بيتا تحت الأرض له غلق ومفتاح معه.
ولا تَفْرَحْ كقوله وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [الحديد: 23] وذلك أنه لا يفرح بالدنيا
(5/361)
إلا من اطمأن ورضي بها. قال ابن عباس: كان حبه ذلك شركا لأنه ما كان يخاف معه عقوبة الله تعالى. وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ من المال والثروة الدَّارَ الْآخِرَةَ يعني أسباب حصول سعاداتها من أصناف الخيرات والمبرات الواجبة والمندوبة فإن ذلك هو نصيب المؤمن من الدنيا دون الذي يأكل ويشرب، وإلى هذا أشار بقوله وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا
ويحتمل أن يراد به اللذات المباحة. وحين أمروه بالإحسان المالي أمروه بالإحسان مطلقا ويدخل فيه الإحسان بالمال والجاه وطلاقة الوجه وحسن الغيبة والحضور. وفي قوله كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ إشارة إلى قوله تعالى لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم: 7] وإلى ما قال الحكماء: المكافأة في الطبيعة واجبة. والْفَسادَ فِي الْأَرْضِ المنهي عنه هو ما كان عليه من الظلم والبغي. وهذا القائل موسى عليه السلام أو مؤمنو قومه وهو ظاهر اللفظ.
وكيف كان فقد جمع في هذه الألفاظ من الوعظ ما لو قبل لم يكن عليه مزيد لكنه أبى أن يقبل بل تلقى النصح بكفران النعمة قائلا إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي قال قتادة ومقاتل والكلبي: كان قارون أقرأ بني إسرائيل للتوراة فقال: إنما أوتيته لفضل علمي واستحقاقي لذلك. وقال سعيد بن المسيب والضحاك: إن موسى أنزل عليه الكيمياء من السماء فعلم قارون ثلث العلم ويوشع ثلثه وطالوت ثلثه، فخدعهما قارون حتى أضاف علمهما إلى علمه، وكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا. وقيل: أراد علمه بوجوه المكاسب والتجارات. وقيل: أراد إن الله أعطاني ذلك على علم له تعالى بحالي وباستئهالي لذلك.
وقوله عِنْدِي الأمر كذلك أي في اعتقادي وفي ظني فأجابه الله تعالى بقوله أَوَلَمْ يَعْلَمْ الآية. قال علماء المعاني: يجوز أن يكون المعنى بالاستفهام إثباتا لعلمه لأنه قد قرأ في التوراة أخبار الأمم السالفة والقرون الخالية وحفظها من موسى وغيره فكأنه قيل: إنه قد علم ذلك فلم اغتر بكثرة ماله وأعوانه؟ ويجوز أن يراد به نفي العلم لأنه لما تحدّى بكونه من أهل العلم حيث قال عَلى عِلْمٍ عِنْدِي وبخه الله تعالى أنه لم يعلم هذا العلم النافع حتى يقي به نفسه مصارع الهلكى. ووجه اتصال قوله وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ بما قبله أنه تعالى إذا عاقب المجرمين فلا حاجة إلى أن يسألهم عن كيفية ذنوبهم وكميتها لأنه عالم بكل المعلومات. وقال أبو مسلم: أراد أنهم لا يسألون سؤال استيقان وإنما يسألون سؤال تقريع ومحاسبة فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ عن الحسن: في الحمرة والصفرة. وقيل: خرج على بغلة شهباء عليه ثوب أحمر أرجواني، وعلى البغلة سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه. وقيل: عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر، وعن يمينه ثلاثمائة غلام، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض عليهن الحلي والثياب الفاخرة. وقيل: في تسعين ألفا عليهم الثياب
(5/362)
الصفر. قال الراغبون في الحياة العاجلة يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ والحظ الجد والبخت. عن قتادة: كانوا مسلمين تمنوا ذلك رغبة في الإنفاق في سبيل الخير. وقال آخرون: كانوا كفارا وقد مر في سورة النساء تحقيق الغبطة والحسد في قوله وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ [النساء: 22] وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بأحوال الدنيا وأنها عند الآخرة كلا شيء وَيْلَكُمْ وأصله الدعاء بالهلاك إلا أنه قد يستعمل في الردع والزجر بطريق النصح والإشفاق، والضمير في قوله وَلا يُلَقَّاها عائد إلى الكلمة المذكورة وهي قوله ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً أو إلى الصواب بمعنى المثوبة.
أو بتأويل الجنة، أو إلى السيرة والطريقة أي لا يلزم هذه السيرة إِلَّا الصَّابِرُونَ على الطاعات وعن الشهوات وعلى ما قسم الله وحكم به من الغنى وضده، وظاهر حال قارون ينبىء عن أنه كان ذا أشر وبطر واستخفاف بحقوق الله واستهانة بنبيه وكتابه، فلا جرم خسف الله به وبداره الأرض. إلا أن المفسرين فصلوا فقالوا: كان يؤذي نبي الله موسى وهو يداريه للقرابة التي كانت بينهما حتى نزلت الزكاة فصالحه عن كل ألف دينار على دينار، وعن كل ألف درهم على درهم، فحسبه فاستكثر فشحت به نفسه فجمع بني إسرائيل وقال: إن موسى يريد أن يأخذ أموالكم فقالوا: أنت كبيرنا فأمر بما شئت. فقال: ائتوا إلى فلانة البغي حتى ترميه بنفسها في جمع بني إسرائيل فجعل لها ألف دينار أو طستا مملوءا من ذهب. فلما كان يوم عيد قام موسى فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، ومن افترى جلدناه، ومن زنى وهو غير محصن جلدناه، وإن أحصن رجمناه. فقال قارون: وإن كنت أنت؟ قال: وإن كنت أنا.
قال: فإن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة. فأحضرت فناشدها موسى بالذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق فتداركها الله فقالت: كذبوا بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي فخر موسى ساجدا يبكي وقال: يا رب إن كنت رسولك فاغضب لي فأوحى إليه أن مر الأرض بما شئت فإنها مطيعة لك. فقال: يا بني إسرائيل إن الله قد بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون فمن كان معه فليلزم مكانه، ومن كان معي فليعتزل فاعتزلوا جميعا غير رجلين. ثم قال: يا أرض خذيهم فأخذتهم إلى الركب، ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى الأوساط. ثم قال: خذيهم فأخذتهم إلى الأعناق، وقارون وأصحابه يتضرعون إلى موسى ويناشدونه بالله والرحم وموسى لا يلتفت إليهم لشدة غضبه. ثم قال: خذيهم فانطبقت عليهم. فأوحى الله إلى موسى ما أفظك! استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم أما وعزتي لو إياي دعوا مرة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا. قلت: لعل استغاثته كانت مقرونة بالتوبة وإلا فالعتاب بعيد. ثم إن بني إسرائيل أصبحوا يتناجون بينهم إنما دعا موسى على
(5/363)
قارون ليستفيد داره وكنوزه، فدعا الله حتى خسف بداره وأمواله. ومعنى مِنَ المُنْتَصِرِينَ من المنتقمين من موسى، أو من الممتنعين من عذاب الله وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ أي منزلته من الدنيا وأسبابها بِالْأَمْسِ أي بالزمان المتقدم يَقُولُونَ راغبين في طاعة الله والرضا بقضائه وقسمته وَيْكَأَنَّ اللَّهَ من قرأ وي مفصولة عن كأن وهو مذهب الخليل وسيبويه فهي كلمة تنبيه على الخطأ وتندم كأنهم تنبهوا على خطئهم في تمنيهم وتندموا ثم قالوا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ أي ما أشبه الحال بأن الكافرين لا ينالون الفلاح نظير هذا الاستعمال قول الشاعر:
ويكأن من يكن له نشب يح ... بب ومن يفتقر يعيش عيش ضر
وعند الكوفيين: ويك بمعنى ويلك أي ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون. حكى هذا القول قطرب عن يونس، وجوّز جار الله أن تكون الكاف كاف الخطاب مضمومة إلى وي واللام مقدر قبل أن لبيان المقول لأجله هذا القول والتعليل أي لأنه لا يفلح الكفار كان ذلك الخسف.
قال في الكشاف قوله تِلْكَ تعظيم للدار الآخرة وتفخيم لشأنها يعني تلك التي سمعت ذكرها وبلغك وصفها. قلت: يحتمل أن يكون للتبعيد حقيقة. وفي قوله لا يُرِيدُونَ دون أن يقول «يتركون» زجر عظيم ووعظ بليغ كقوله وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [هود: 113] حيث علق الوعيد بالركون عن علي أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحته. ومن الناس من رد العلو إلى فرعون والفساد إلى قارون لقوله تعالى إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ [القصص: 4] وقال في قصة قارون وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ وضعف هذا التخصيص بيّن لقوله في خاتمة الآية وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ الآية، قد مر تفسير مثله في آخر «الأنعام» وفي آخر «النمل» . وقوله فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ من وضع الظاهر موضع المضمر إذ كان يكفي أن يقال «فلا تجزون» إلا أنه أراد فضل تهجين لحالهم بإسناد عمل السيئات إليهم مكررا، وفي ذلك لطف للسامعين في زيادة تبغيض السيئة إلى قلوبهم. ثم أراد أن يسلي رسوله في خاتمة السورة فقال إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أي أوجب عليك تلاوته وتبليغه والعمل بما فيه لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ وأي معاد فتنكير المعاد للتعظيم وأنه ليس لغيره من البشر مثله يعني أن الذي حملك صعوبة تكليف التبليغ وما يتصل به لمثيبك عليها ثوابا لا يحيط به الوصف. وقيل: أراد عوده إلى مكة يوم الفتح، ووجه التنكير ظاهر لأن مكة
(5/364)
يومئذ كانت معادا له شأن لغلبة المسلمين وظهور عز الإسلام وأهله وذل أهل الشرك وحزبه والسورة مكية. فقيل: وعده وهو بمكة في أذى من أهلها أنه مهاجر بالنبي منها ويعيده إليها في ظفر ودولة. وقيل: نزلت عليه هذه الآية حين بلغ الجحفة في مهاجره وقد اشتاق إلى وطنه. وفي الآية إخبار عن الغيب وقد وقع كما أخبر فيكون فيه إعجاز دال على نبوّته.
وحين وعد رسوله الردّ إلى المعاد المعتبر قال قُلْ لأهل الشرك رَبِّي أَعْلَمُ يعني نفسه وإياهم بما يستحقه كل من الفريقين في معاده، ولا يخفى أن هذا كلام منصف واثق بصدقه وحقيته. ثم ذكر رسوله ما أنعم به عليه فقال وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً قال أهل العربية: هذا الاستثناء محمول على المعنى كأنه قيل: وما ألقى إليك الكتاب إلا لأجل الرحمة، أو «إلا» بمعنى «لكن» أي ولكن لرحمة من ربك ألقي إليك. ثم نهاه عن اتباع أهواء أهل الشرك وقد مرّ مرارا أن مثل هذا النهي من باب التهييج له ولأمته.
ثم إن مرجع الكل إليه فقال كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ فمن الناس من فسر الهلاك بالعدم أي يعدم كل شيء سواه، والوجه يعبر به عن الذات، ومنهم من فسر الهلاك بخروجه عن كونه منتفعا به منفعته الخاصة به إما بالإماتة أو بتفريق الأجزاء كما يقال «هلك الثوب وهلك المتاع» وقال أهل التحقيق: معنى الهلاك كونه في حيز الإمكان غير مستحق للوجود ولا للعدم من عند ذاته، وإن سميت المعدوم شيئا فممتنع الوجود أحق كل شيء بأن يسمى هالكا.
استدلت المعتزلة بالآية على أن الجنة والنار غير مخلوقتين لأنهما لو كانتا مخلوقتين لعرض لهما الفناء بحكم الآية، وهذا يناقض قوله أُكُلُها دائِمٌ [الرعد: 35] وعورض بقوله أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] وأُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [آل عمران: 131] ويحتمل أن يقال الكل بمعنى الأكثر ومن هناك قال الضحاك: كل شيء هالك إلا الله والعرش والجنة والنار. وقيل:
إلا العلماء فإن علمهم باق. ويمكن أن يقال إن زمان فناء الجنة لما كان قليلا بالنسبة إلى زمان بقائها فلا جرم أطلق لفظ الدوام عليه ومن فسر الهلاك بالإمكان فلا إشكال والله أعلم.
التأويل:
أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ ليل الفراق عند استيلاء ظلمة البشرية سَرْمَداً مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ نهار الوصل والتجلي قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ نهار الوصل بطلوع شمس التجلي سَرْمَداً مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ سر تسكنون فيه عن وعثاء سطوة التجلي وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ ليل السر ونهار التجلي فإن العاشق لو دام في التجلي كاد يستهلك وجوده،
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول «إنه ليغان على قلبي»
وقال لعائشة: كلميني يا حميراء.
وذلك لتخرجه من سطوات شمس التجلي إلى سر ظل البشرية ليستريح من التعب والنصب. وليس هذا السر من قبيل الحجاب وإنما هو من جملة الرحمة واللطف
(5/365)
نظيره الشمس في عالم الصورة فإنها في خط الاستواء تحرق، وفي الآفاق الرحوية لا تؤثر، وفي الآفاق الحملية يعتدل الحر والبرد فتكثر العمارة وتسهل ويعيش الحيوان وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ من أرباب النفوس شَهِيداً هو القلب الحاضر فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ وهو حقيقة التوحيد التي لا تحصل بالفعل إلا بجذبة خطاب الحق فعلموا بتلك البراهين القاطعة أن الحق لله إِنَّ قارُونَ النفس كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى القلب لأن الله تعالى جعل النفس تبعا للقلب وجعل سعادتها في متابعته وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ المودعة في صفاتها قد أهلك من قبله من القرون كإبليس فإنه أكثر علما وطاعة فِي زِينَتِهِ هي التي زين حبها للناس من النساء والبنين وغير ذلك قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وهم صفات النفس. وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهم صفات الروح فَخَسَفْنا بِهِ الأرض دركات السفل وَبِدارِهِ وهي قالبه أرض جهنم يتغلغل فيها إلى يوم القيامة بل إلى الأبد نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ كما
قال في بعض الكتب المنزلة: عبدي أنا ملك حي لا أموت أبدا، أطعني أجعلك ملكا حيا لا تموت أبدا. عبدي أنا ملك إذا قلت لشيء كن فيكون، أطعني أجعلك ملكا إذا قلت لشيء كن فيكون.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «عنوان كتاب الله إلى عباده المؤمنين من الملك الحي الذي لا يموت إلى الملك الحي الذي لا يموت»
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ أي أوجب عليك التخلق بخلق القرآن لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ هو مقام الفناء في الله والبقاء به قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وهو بذل الوجود المجازي في الوجود الحقيقي إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي إلا أنا ألقينا الكتاب إليك إلقاء الإكسير على النحاس فتخلقت بخلق القرآن والله المستعان.
(5/366)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
(سورة العنكبوت)
(وهي مكية حروفها 4595 كلمها 1981 آياتها 69 آية)
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 15]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)
مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14)
فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)
الوقوف:
الم كوفي. لا يُفْتَنُونَ هـ الْكاذِبِينَ هـ يَسْبِقُونا ط يَحْكُمُونَ هـ ج لَآتٍ ط الْعَلِيمُ هـ لِنَفْسِهِ ط الْعالَمِينَ هـ يَعْمَلُونَ هـ حُسْناً ط فَلا تُطِعْهُما ط تَعْمَلُونَ هـ الصَّالِحِينَ هـ كَعَذابِ اللَّهِ ط مَعَكُمْ ط الْعالَمِينَ هـ الْمُنافِقِينَ هـ خَطاياكُمْ ط شَيْءٍ ط لَكاذِبُونَ هـ مَعَ أَثْقالِهِمْ ط فصلا بين
(5/367)
الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين. يَفْتَرُونَ هـ عاماً ط لحق الحذف أي فلم يؤمنوا فأخذهم الطُّوفانُ ط ظالِمُونَ هـ لِلْعالَمِينَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما قال في خواتيم السور المتقدمة إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ [القصص: 85] أي إلى مكة ظاهرا ظافرا، وكان في ذلك الرد من احتمال مشاق الحوادث ما كان قال بعده الم أَحَسِبَ النَّاسُ إلى قوله وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ بالجهاد أو نقول: لما أمر بالدعاء إلى الدين القويم في قوله وَادْعُ إِلى رَبِّكَ [القصص: 87] وكان دونه من المتاعب وأعباء الرسالة ما لا يخفى، بدأ السورة بما يهوّن على النفس بعض ذلك. وأيضا لما بين أن كل هالك له رجوع إليه، ردّ على منكري الحشر بأن الأمر ليس على ما حسبوه ولكنهم يكلفون في دار الدنيا ثم يرجعون إلى مقام الجزء والحساب. قال أهل البرهان: وقوع الاستفهام بعد «ألم» يدل على استقلالها وانقطاعها عما بعدها في هذه السورة وفي غيرها من السور. وفي تصدير السورة بأمثال هذه الحروف تنبيه للمخاطب وإيقاظ له من سنة الغفلة كما يقدم لذلك كلام له معنى مفهوم كقول القائل: اسمع وكن لي. ولا يقدم إلا إذا كان في الحديث شأن وبالخطاب اهتمام، ولهذا ورد بعد هذه الحروف ذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن الذي لا يخفى غناؤه والاهتمام بشأنه كقوله الم ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 1] الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ [آل عمران: 1] المص كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ [الأعراف: 1] يس وَالْقُرْآنِ [يس: 1] ص وَالْقُرْآنِ [ص: 1] الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ [السجدة:
1] إلا ثلاث سور كهيعص [مريم: 1] الم أَحَسِبَ النَّاسُ الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الروم:
1] ولا يخفى أن ما بعد حروف التهجي فيها من الأمور العظام التي يحق أن ينبه عليها بيانه في هذه السورة أن القرآن ثقله وعبؤه بما فيه من التكاليف، وبيانه في سورة مريم ظاهر، لأن خلق الولد فيما بين الشيخ الفاني والعجوز العاقر معجز. وكذا الإخبار عن غلبة الروم قبل وقوعها. ومعنى الآية راجع إلى أن الناس لا يتركون بمجرد التلفظ بكلمة الإيمان بل يؤمرون بأنواع التكاليف. واختلفوا في سبب نزولها فقيل: نزلت في عمار بن ياسر والوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وكانوا يعذبون بمكة. وقيل: نزلت في أقوام هاجروا وتبعهم الكفار فاستشهد بعضهم ونجا الباقون.
وقيل: في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب وهو أول قتيل من المسلمين، رماه عامر بن الحضرمي يوم بدر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة.
قال جار الله: مفعولا الحسبان الترك وعلته والتقدير: أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا. قال: والترك بمعنى التصيير. فقوله وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ حال سدّ مسدّ ثاني مفعوليه. وقال آخرون: تقديره
(5/368)
أحسبوا أنفسهم متروكة غير مفتونين لأن قالوا آمنا وأقول: إن من خواص «أن» مع الفعل و «أن» مع جزأيه سدّها مسدّ مفعولي أفعال القلوب، والحكم بأن الترك هاهنا بمعنى التصيير غير لازم يؤيد ما ذكرنا من المعنيين قوله سبحانه في موضع آخر أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا [التوبة: 16] والفتنة الامتحان بشدائد التكليف من مفارقة الأوطان وكل ما يحب ويستلذ، ومن ملاقاة الأعداء والمصابرة على أذاهم وسائر ما تكرهه النفس. والتحقيق أن المقصود من خلق البشر هو العبادة الخالصة لله. فإذا قال باللسان: آمنت فقد ادعى طاعة الله بالجنان فلا بدّ له من شهود وهو الإتيان بالأركان، وإذا حصل الشهود فلا بد له من مزك وهو بذل النفس والمال في سبيل الرحمن. فمعنى الآية: أحسبوا أن يقبل منهم دعواهم بلا شهود وشهود بلا مزك؟ أو المراد أحسبوا أن يتركوا في أول المقامات لا بل ينقلون إلى أعلى الدرجات وهو مقام الإخلاص والقربات؟ ثم مثل حال هؤلاء بحال السلف منهم قائلا وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أراد كذلك فعل الله بمن قبلهم لم يتركهم بمجرد قولهم «آمنا» ، بل أمرهم بالطاعات وزجرهم عن المنهيات. وقوله فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ كقوله وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ [الآية: 140] وقد مر تحقيقه في «آل عمران» . والحاصل أن التجدد يرجع إلى المعلوم لا إلى العالم ولا إلى العلم، وذلك لأن الأول زماني دون الأخيرين. وأما عبارات المفسرين فقال مقاتل: فليرين الله وليظهرن الله. وقيل: فليميزن، وجوز جار الله أن يكون وعدا ووعيدا كأنه قال: وليبينن الذين صدقوا وليعاقبن الكاذبين. قال الإمام فخر الدين الرازي:
في وقت نزول الآية كانت الحكاية عن قوم قريبي العهد بالإسلام في أول إيجاب التكليف وعن قوم مستديمي الكفر مستمرين عليه، فقال في حق الأوّلين الَّذِينَ صَدَقُوا بصيغة الفعل المنبئ عن التجدد، وقال في حق الآخرين وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ بالصيغة المنبئة عن الثبات. وإنما قال يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة: 119] بلفظ اسم الفاعل لأن الصدق يومئذ قد يرسخ في قلوب المؤمنين بخلاف أوائل الإسلام. ثم بين بقوله أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ إلخ. أن من كلف بشيء ولم يمتثل عذب في الحال وإلا يعذب في الاستقبال نظيره قوله ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا [الأنفال: 59] والحاصل أن الإمهال لا يوجب الإهمال، والتعجيل في جزاء الأعمال إنما يوجد ممن يخاف الفوت لولا الاستعجال.
ومعنى الإضراب أن هذا الحسبان أشنع من الحسبان الأول، لأن ذلك يقدر أنه لا يمتحن لإيمانه وهذا يظن أنه لا يجازى بمساويه ولهذا ختم الآية بقوله ساءَ ما يَحْكُمُونَ والمخصوص محذوف و «ما» موصولة أو مبهمة والتقدير: بئس الذي يحكمون حكمهم هذا، وبئس حكما يحكمونه حكمهم هذا. وفي الآية إبطال قول من ذهب إلى أن التكاليف
(5/369)
إرشادات وإلا يعاد عليها ترغيب وترهيب ولا يوجب من الله تعذيب. واعلم أن أصول الدين ثلاثة: معرفة المبدأ وأشار إليه بقوله آمَنَّا، ومعرفة الوسط وهو إرسال الرسل. وإيضاح السبل وإليه أشار بقوله وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا ومعرفة المعاد إما للأشقياء وهو قوله الم أَحَسِبَ الآية وإما للسعداء وهو قوله مَنْ كانَ يَرْجُوا أي يأمل لِقاءَ جزاء اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ فإن أراد بالأجل الموت ففيه إشارة إلى بقاء النفس بعد فراق البدن، فلولا البقاء لما حصل اللقاء كقولك: من كان يرجو الخير فإن السلطان واصل. فإنه لا يفهم منه إلا إيصال الخير بوصوله. ومثله: من كان يرجو لقاء الملك فإن يوم الجمعة قريب. إذا علم أنه يقعد للناس يوم الجمعة. ويحتمل أن يراد بالأجل الوقت المضروب للحشر. وقيل:
يرجو بمعنى يخاف من قول الهذلي:
إذا لسعته الدبر لم يرج لسعها وَهُوَ السَّمِيعُ لأقوال العباد صدقوا أم كذبوا الْعَلِيمُ بنياتهم وطوياتهم وبسائر أعمالهم فيجازيهم بالمسموع ما لا أذن سمعت، وبالمرئي ما لا عين رأت وبالنيات ما لا خطر على قلب بشر.
ثم بين بقوله وَمَنْ جاهَدَ الآية. أن فائدة التكاليف والمجاهدات إنما ترجع إلى المكلف والله غني عن كل ذلك. قال المتكلمون من الأشاعرة: في الآية دلالة على أن رعاية الأصلح لا تجب على الله وإلا كان مستكملا بذلك، وأن أفعاله لا تعلل بغرض لأن ذلك خلاف الغني، وأنه ليس في مكان وإلا لزم افتقاره، وأنه ليست قادريته بقدرة ولا عالميته بعلم لأن القدرة والعلم غيره فيلزم افتقاره. ويمكن أن يجاب عن الأول بأن وجوب صدور الأصلح عنه لمقتضى الحكمة لا يوجب الاستكمال. وعن الثاني بأن استتباع الفائدة لا يوجب افتقار المفيد. وعن الثالث أن استصحاب المكان غير الافتقار إليه. وعن الرابع أن العالم هو ما يغاير ذات الله مع صفاته. وفي الآية بشارة من وجه وإنذار من وجه آخر، وذلك أن الاستغناء عن الكل يوجب غناه عن تعذيب كل فاجر كما أنه يمكن أن يهلك كل صالح ولا شيء عليه إلا أنه رجح جانب البشارة بقوله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية وقد مر مرارا أن الإيمان في الشرع عبارة عن التصديق بجميع ما قال الله تعالى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تفصيلا فيما علم وإجمالا فيما لم يعلم، والعمل الصالح هو الذي ندب الله ورسوله إليه، والفاسد ما نهى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنه. وعند المعتزلة الأمر والنهي مترتب على الحسن والقبح. ثم العمل الصالح باق لأنه في مقابلة الفاسد والفاسد هو الهالك التالف. يقال:
(5/370)
فسد الزرع إذا خرج عن حد الانتفاع. ولكن العمل عرض لا يبقى بنفسه ولا بالعامل لأن كل شيء هالك إلا وجهه، فبقاؤه إنما يتصور إذا كان لوجه الله. ومنه يعلم أن النية شرط في الأعمال الصالحة وهي كونها لله تعالى. وخالف زفر في نية الصوم وأبو حنيفة في نية الوضوء، وقد مر. ثم إنه تعالى ذكر في مقابلة الإيمان والعمل الصالح أمرين: تكفير السيئات والجزاء بالأحسن. فتكفير السيئات في مقابلة الإيمان، والجزاء بالأحسن في مقابلة العمل الصالح، ومنه يعلم أن الإيمان يقتضي عدم الخلود في النار لأن الذي كفر سيئاته يدخل الجنة لا محالة، فالجزاء الأحسن يكون غير الجنة وهو ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولا يبعد أن يكون هو الرؤية عند من يقول بها. وهاهنا بحث وهو أن قوله لَنُكَفِّرَنَّ يستدعي وجود السيئات حتى تكفر، فالمراد بالذين آمنوا وعملوا إما قوم مسلمون مذنبون، وإما قوم مشركون آمنوا فحط الإيمان ما قبله. أو يقال:
إن وعد الجميع بأشياء لا يستدعي وعد كل واحد بكل واحد من تلك الأشياء، نظيره قول الملك لقوم: إذا أطعتموني أكرم آباءكم وأحترم أبناءكم. وهذا لا يقتضي أن يكرم آباء من توفي أبوه ويحترم ابن من لم يولد له ابن، ولكن مفهومه أنه يكرم آباء من له أب ويحترم ابن من له ابن. أو يقال: ما من مكلف إلا وله سيئة حتى الأنبياء، فإن ترك الأولى بالنسبة إليهم سيئة بل حسنات الأبرار سيئات المقربين. وحين بين حسن التكاليف ووقوعها وذكر ثواب من حقق التكاليف أصولها وفروعها أشار بقوله وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ الآية إلى أنه لا دافع لهذه السيرة ولا مانع لهذه الطريقة فإن الإنسان إذا انقاد لأحد ينبغي أن ينقاد لأبويه، ومع هذا لو أمروه بالمعصية لا يجوز اتباعهم فكيف غيرهم؟ ومنه يعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ومعنى وَصَّيْنَا أمرنا كما مر في قوله وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ [البقرة: 132] وقوله بِوالِدَيْهِ أي بتعهدهما ورعاية حقوقهما، وعلى هذا ينتصب حُسْناً بمضمر يدل عليه ما قبله أي أولهما حسنا أو افعل بهما حسنا كأنه قال: قلنا له ذلك وقلنا له وَإِنْ جاهَداكَ إلى آخره فلو وقف على قوله بِوالِدَيْهِ حسن ويجوز أن يراد وصيناه بإيتاء والديه حسنا وقلنا له وَإِنْ جاهَداكَ وقوله ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ كقوله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً [الأنعام: 81] أي لا معلوم ليتعلق العلم به. وإذا كان التقليد في الإيمان قبيحا فكيف يكون حال التقليد في الكفر. وعلى وجوب ترك طاعة الوالدين إذا أرادا ولدهما على الإشراك دليل عقلي، وذلك أن طاعتهما وجبت بأمر الله فإذا نفيا طاعة الله في الإشراك به فقد أبطلا طاعة الله مطلقا، ويلزم منه عدم لزوم طاعة الوالدين بأمر الله، وكل ما يفضي وجوده إلى عدمه فهو باطل. فطاعة الوالدين في اتخاذ الشرك بالله من الممتنعات. وفي قوله
(5/371)
إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ترغيب في رعاية حقوق الوالدين وترهيب عن عقوقهما وإن كانا كافرين إلا في الدعاء إلى الشرك. وفيه أن المجازي للمؤمن والمشرك إذا كان هو الله وحده فلا ينبغي أن يعق الوالدين لأجل كفرهما. وفي قوله فَأُنَبِّئُكُمْ دليل على أنه سبحانه عالم بالخفيات لا يعزب عنه شيء.
يروى أن سعد بن أبي وقاص الزهري حين أسلم قالت أمه وهي حمنة بنت أبي سفيان: يا سعد بلغني أنك قد صبأت، فو الله لا يظلني سقف بيت وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد. وكان أحب ولدها إليها فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فنزلت هذه الآية، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سعدا أن يداريها ويرضيها بالإحسان.
ثم أكد جزاء من آمن وعمل صالحا بتكرير قوله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي في زمرتهم وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] قال الحكماء: أي في المجردين الذين لا كون لهم ولا فساد فيدخل فيه العلويات عندهم. ثم بين حال أهل النفاق بعد تقرير حال أهل الكفر والوفاق فقال وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ يعني أنا والمؤمنون حقا آمنا ادّعى أن إيمانه كإيمانهم فأخبر أن إيمانه لا تحقيق له بدليل قوله فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ أي في سبيله ودينه جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ قال جار الله: أي جعل فتنة الناس صارفة عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر، وهذا على التوهم أو كما يجب أن يكون عذاب الله صارفا وهذا في الواقع. وقيل: جزعوا من عذاب الناس كما جزعوا من عذاب الله. وبالجملة معناه أنهم جعلوا فتنة الناس مع ضعفها وانقطاعها كعذاب الله الأليم الدائم حتى تردّدوا في الأمر وقالوا: ان آمنا نتعرض للتأذي من الناس، وذلك أنهم كانوا يمسهم أذى من الكفار، وإن تركنا الإيمان نتعرض لما توعدنا به محمد فاختاروا الاحتراز عن التعرض العاجل ونافقوا. وإنما قال فِتْنَةَ النَّاسِ ولم يقل «عذاب الناس» لأن فعل العبد ابتلاء من الله. وليس في الآية منع من إظهار كلمة الكفر إكراها، وإنما المنع من إظهارها مع مواطأة القلب التي كانوا عليها.
ومما يؤكد تذبذبهم قوله وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ ويلزمه الغنيمة غالبا لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ يعني دأب المنافق أنه إذا رأى اليد للكافر أظهر ما أضمر من الكفر، وإن كان النصر للمؤمن أضمر ما أضمر وأظهر المعية وادّعى التبعية. وفي تخصيص اسم الرب بالمقام إشارة إلى أن التوبة والرحمة هي التي أوجبت النصر. ثم أخبر أنه سبحانه أعلم بما في صدور العالمين منهم بما في صدورهم، لأنه خبير بما بأنفسهم كما هي وهم لا يعرفون نفوسهم كما هي، فالتلبيس لا يفيد المنافق بالنسبة إلى الله شيئا لأنه لا يجوز عليه الالتباس دليله قوله وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ وفيه وعد للمؤمنين ووعيد
(5/372)
للمنافقين. اعتبر أمر القلب هاهنا وهو في المؤمن التصديق، وفي المنافق النفاق، واعتبر في أول السورة أمر اللسان وهو في الكافر الكذب لأنه يقول: الله غير موجود، أو الله أكثر من واحد. وفي المؤمن الصدق لأنه يقول: الله واحد. وحين بين أحوال الفرق الثلاثة وذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بالفتنة، وبين أن عذاب الله فوقها وكان للكافر أن يقول للمؤمن لم تصبر في الذل على الإيذاء ولم لا تدفع الذل والعذاب عن نفسك بموافقتنا، وكان جواب المؤمن أن يقول خوفا من عذاب الله خطيئة مذهبكم فقالوا: لا خطيئة فيه، وإن كان فيه خطيئة فعلينا، أشار إلى جميع ذلك قوله وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أرادوا وليجتمع هذان الأمران في الحصول أن تتبعوا طريقتنا وأن نحمل خطاياكم، نظيره «ليكن منك العطاء وليكن مني الدعاء» وليس هو في الحقيقة أمر طلب وإيجاب ولكنه حكاية قول صناديد قريش. كانوا يقولون لمن آمن منهم: لا نبعث نحن ولا أنتم فإن عسى كان جزاء ومعاد فإنا نتحمل عنكم الإثم. وترى نظيره في الإسلام يشجع أحدهم أخاه على ارتكاب بعض المآثم فيقول: افعل هذا وإثمه عليّ، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان. ثم أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يحملون شيئا من خطاياهم، ولا ريب أن هذا مخالف لما زعموا من أنهم يحملون أوزارهم فلهذا حكم الله عليهم بأنهم كاذبون. ويجوز أن يكونوا كاذبين لأنهم وعدوا وفي قلوبهم نية الخلف. ولا حاجة في توجيه تسميتهم كاذبين إلى التشبيه الذي ذكره في الكشاف. أما الجمع بين قوله وَما هُمْ بِحامِلِينَ وبين قوله وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ فهو أن النفي راجع إلى الحمل الذي يخفف عن صاحبه بسببه، والإثبات يرجع إلى أنهم يحملون وزر الإضلال ووزر الضلال مع أن أتباعهم حاملون وزر الضلال كما
قال عليه الصلاة والسلام «من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من وزره شيء» «1»
قال وَلَيُسْئَلُنَّ سؤال تقريع يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من أنه لا حشر، وعلى تقدير وجوده يحملون خطايا التابعين. ثم أجمل قصة نوح ومن بعده تصديقا لقوله في أول السورة وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وفيه تثبيت للنبي عليه الصلاة والسلام كأنه قيل له: إن نوحا لبث ألف سنة تقريبا يدعو قومه ولم يؤمن منهم إلا قليل، فأنت أولى بالصبر لقلة مدة لبثك وكثرة عدد أمتك، وفيه تحذير لكفار قريش فإن أولئك الكفار ما نجوا من العذاب مع تلك الأعمار الطوال، فهؤلاء كيف يسلمون أم كيف يغترون؟
__________
(1) رواه مسلم في كتاب العلم حديث 15. النسائي في كتاب الزكاة باب 64. أحمد في مسنده (4/ 357، 359) .
(5/373)
سؤال: ما الفائدة في قوله أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً دون أن يقول: تسعمائة وخمسين. الجواب: لأن العبارة الثانية تحتمل التجويز والتقريب. فإن من قال: عاش فلان ألف سنة يمكن أن يتوهم أنه يدعي ذلك تقريبا لا تحقيقا. فإذا قال: إلا شهرا أو إلا سنة، زال ذلك الوهم. وأيضا المقصود تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر الألف الذي هو عقد معتبر أوصل إلى هذا الغرض. وإنما جاء بالمميز في المستثنى مخالفا لما في المستثنى منه تجنبا من التكرار الخالي عن الفائدة وتوسعة في الكلام. قال بعض الأطباء: العمر الطبيعي للإنسان مائة وعشرون سنة. فاعترضوا عليهم بعمر نوح عليه السلام وغيره، وذلك أن المفسرين قالوا: عمر نوح ألفا وخمسين سنة بعث على رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستين. وعن وهب أنه عاش ألفا وأربعمائة سنة. ويمكن أن يقال: إنهم أرادوا بالطبيعي ما كان أكثريا في أعصارهم. ولا ينافي هذا كون بعض الأعمار زائدا على هذا القدر بطريق خرق العادة على أن العادة قد تختلف باختلاف الأعصار والأدوار، ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين» ! «1»
والطوفان ما عم كل المكان بكثرة وغلبة من سيل أو ظلام ليل. وفي قوله وَهُمْ ظالِمُونَ دليل على أن العذاب أخذهم وهم مصرون على الظلم ولو كانوا قد تركوه لما أهلكهم. والضمير في قوله وَجَعَلْناها إما للحادثة أو للقصة أو للسفينة. وأعاجيب هذه القصة وأحوال السفينة وأهوالها قد تقدّمت مرارا ولا ريب أنها آيات يجب أن يستدل بها على موجدها.
التأويل:
أقسم بفردانيته وبآلائه ونعمائه أنه مهما يكون من العبد التقرب إليه بأصناف العبودية يكون منه التقرب إلى العبد بألطاف الربوبية يؤكده قوله أَحَسِبَ النَّاسُ أي الناسون من أهل البطالة أَنْ يُتْرَكُوا بمجرد الدعوى ولا يطالبون بالبلوى، فالمحبة والمحنة توأمان وبالامتحان يكرم الرجل أو يهان، فمن زاد قدر معناه زاد قدر بلواه. فالبلاء للنفوس لإخراجها عن أوطان الكسل وتصريفها في حسن العمل، والبلاء على القلوب لتصفيتها من شين الرين لقبول نقوش الغيب، والبلاء على الأرواح لتجردها بالبوائق عن العلائق، والبلاء على الأسرار في اعتكافها في مشاهدة الكشف بالصبر على آثار التجلي إلى أن تصير مستهلكة فيه بإفنائه، وإن أشدّ الفتن حفظ وجود التوحيد لئلا يجري عليه نكر في أوقات غلبات شواهد الحق فيظن أنه هو الحق لا يدري أنه من الحق ولا يقال: إنه الحق وعزيز من يهتدي إلى ذلك أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فيه أن موجبات عمل السيئات سواد مرآة
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 23. ابن ماجة في كتاب الزهد باب 27.
(5/374)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)
القلوب بصدأ الحسبان ورين الكفران ليتوهموا أَنْ يَسْبِقُونا بالعدوان عن طريق سنتنا في الانتقام من أهل الحال والإجرام. ساءَ ما يَحْكُمُونَ بالنجاة عن الدركات باتباع الشهوات هيهات هيهات. مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ فإن من رجى عمره في رجاء لقائنا فهو الذي نبيح له النظر إلى جمالنا وَهُوَ السَّمِيعُ لأنين المشتاقين العليم بطويات الصادقين. ومن جاهد بالسعي في طلبنا فإنما يجاهد لنفسه لأنها بالتخلية عن الأخلاق الذميمة وبالتحلية بالصفات الحميدة تخلص عن الأمارية وتستأهل للمطمئنية فتستحق لجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] والذين آمنت قلوبهم بمحبتنا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ببذل الوجود في طلب جودنا لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سيئات وجودهم المجازي وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ وجودا حقيقيا أحسن منه وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي فيه إشارة إلى أن المريد إذا تمسك بذيل شيخ كامل وتوجه إلى الحضرة بعزيمة من عزائم الرجال فإن منعه الوالدان عن ذلك فعليه أن لا يطيعهما لأنه سبب ولادته في عالم الأرواح وهما سبب ولادته في عالم الأشباح كما
قال عيسى عليه السلام: لن يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين.
فهو أحق برعاية الحقوق منهما. جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ فيه أن المؤمن من كف الأذى، والولي من يتحمل من الخلق الأذى ولا تترشح عنه الشكوى من البلوى كالأرض يلقى عليها كل قبيح فينبت منها كل مليح. والمنافق إذا لم يكن في حماية خشية الله يفترسه خوف الخلق إذا أوذي في الله. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه أن كافر النفس وصفاته يقولون بلسان الطبيعة الإنسانية لموسى القلب والسر والروح وصفاتهم اتَّبِعُوا سَبِيلَنا في طلب الشهوات الحيوانية وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ أي ندفع عنكم ضرر ما يرجع إليكم في متابعة شهوات الدنيا وطيباتها وَما هُمْ بِحامِلِينَ شيئا مِنْ خَطاياهُمْ وهو العمى والصمم والبكم وسائر الصفات النفسانية، ولكن يحملون أثقالهم هذه الأوقات مع الآفات التي تختص بها والله أعلم بالصواب.
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 41]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41)
(5/375)
القراآت:
أولم تروا بتاء الخطاب: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل النشاءة بفتح الشين بعدها ألف ممدودة حيث كان: ابن كثير وأبو عمرو مودة بالرفع بَيْنِكُمْ بالجر على الإضافة: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي وأبو زيد عن المفضل مودة بالرفع بينكم بالفتح: الشموني والبرجمي. مَوَدَّةَ بالنصب بَيْنِكُمْ على الإضافة: حمزة وحفص. الباقون: مَوَدَّةَ بالنصب بَيْنِكُمْ بالفتح رَبِّي إِنَّهُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو إِنَّكُمْ بهمز واحد أينكم بهمزة بعدها ياء: ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب. زيد: مثله. بزيادة مدّة في الثانية: يزيد وقالون كلاهما مثل هذه الثانية أبو عمرو. والأولى بهمزة واحدة الثانية بهمزتين: ابن عامر وحفص هشام يدخل بينهما مدّة. الباقون بهمزتين فيهما أإنكم كنظائره. لَنُنَجِّيَنَّهُ بسكون النون من الإنجاء: يعقوب وحمزة وعلي وخلف سِيءَ بِهِمْ كما ذكر في «هود» ومُنَجُّوكَ من الإنجاء: ابن كثير ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل منزلون بالتشديد: ابن عامر وثَمُودَ غير مصروف في الحالين: حمزة وحفص وسهل ويعقوب.
الوقوف:
وَاتَّقُوهُ ط تَعْلَمُونَ هـ إِفْكاً ط وَاشْكُرُوا لَهُ ط تُرْجَعُونَ هـ مِنْ قَبْلِكُمْ ج للعطف مع الاختلاف بالإثبات والنفي الْمُبِينُ هـ يُعِيدُهُ ط يَسِيرٌ هـ الْآخِرَةَ ط قَدِيرٌ هـ ج لأن ما بعده يصلح وصفا واستئنافا مَنْ يَشاءُ ط لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتفاق الجملتين تُقْلَبُونَ هـ السَّماءِ ز فصلا بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين نَصِيرٍ هـ أَلِيمٌ هـ النَّارِ ط يُؤْمِنُونَ هـ أَوْثاناً ج لمن قرأ مَوَدَّةَ بالرفع الدُّنْيا ج لاختلاف الجملتين والفصل بين تباين الدارين بَعْضاً ط لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقصود مِنْ ناصِرِينَ هـ قيل: لا وقف لتعلق الفاء لُوطٌ م لأن قوله وَقالَ فاعله إبراهيم ولو وصل لأوهم اتحاد الفاعل رَبِّي ط الْحَكِيمُ هـ الدُّنْيا ج للابتداء بأن مع واو العطف الصَّالِحِينَ هـ الْفاحِشَةَ ز لأن ما بعده يصلح مستأنفا أو حالا أو وصفا الْعالَمِينَ هـ الْمُنْكَرَ ط لانتهاء الخطاب لابتداء الجواب الصَّادِقِينَ هـ الْمُفْسِدِينَ هـ بِالْبُشْرى لا لأن قالُوا جواب «لما» الْقَرْيَةِ ج للابتداء بأن مع احتمال التعليل. ظالِمِينَ هـ وقد يوصل دلالة على تدارك إبراهيم لُوطاً ط بِمَنْ فِيها ج لأن لام التوكيد تقتضي قسما أي والله لننجينه مع تمام المقصود في التنجية إِلَّا امْرَأَتَهُ ج لأن ما بعده يصلح مستأنفا في النظم ولكنه حال المرأة لأن المستثنى مشبه بالمفعول أي يستثنى امرأته كائنة من الغابرين وَلا تَحْزَنْ ط فصلا بين
(5/377)
البشارتين وتوفيرا للفرح الْغابِرِينَ هـ يَفْسُقُونَ هـ يَعْقِلُونَ هـ شُعَيْباً لا لتعلق الفاء مُفْسِدِينَ هـ جاثِمِينَ هـ لأن عاداً يحتمل أن يكون منصوبا ب فَأَخَذَتْهُمُ أو بمحذوف أي واذكر وهذا أوجه لأن قوله وَقَدْ تَبَيَّنَ حال ولا يحسن أن يكون عامله فَأَخَذَتْهُمُ والأوجه انتصابه بمحذوف وهو «أذكر» أو أهلكنا. مَساكِنِهِمْ ط لأن التقدير مقدرين وعامله فأخذتهم مُسْتَبْصِرِينَ هـ ج للعطف وَهامانَ يحتمل عندي الوقف وقيل: لا بناء على أن قوله وَلَقَدْ جاءَهُمْ حال عامله فَأَخَذَتْهُمُ. سابِقِينَ هـ لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتفاق الجملتين بِذَنْبِهِ ط وكذلك حاصِباً ط أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ ط خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ ط وأَغْرَقْنا ط لعطف الجمل والوقف أوجه تفصيلا لأنواع النقم وإمهالا لفرصة الاعتبار يَظْلِمُونَ هـ الْعَنْكَبُوتِ ج لأن ما بعده يصلح وصفا واستئنافا بَيْتاً ط الْعَنْكَبُوتِ ج لأن وهن بيت العنكبوت معلق يَعْلَمُونَ هـ.
التفسير:
قوله وَإِبْراهِيمَ منصوب بمضمر وهو «اذكر» . وقوله إِذْ قالَ بدل منه بدل الاشتمال لأن الأحيان تشتمل على ما فيها أي اذكر وقت قوله لقومه، وجوز أن يكون معطوفا على نُوحاً فأورد عليه أن الإرسال قبل الدعوة فكيف يكون وقت الدعوة ظرفا للإرسال؟ وأجيب بأن الإرسال أمر ممتد إلى أوان الدعوة أو المراد أرسلناه حين كان صالحا لأن يقول لقومه اعبدوا الله خصوه بالعبادة واتقوا مخالفته. ذلِكُمْ الإخلاص والتقوى خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أما العبادة فلأنها غاية الخضوع فلا تصلح إلا لمن هو في غاية الكمال فضلا عن الجماد، وأما اتقاء خلافه فلأن من قدر على إهلاك الماضين فهو قادر على إهلاك الباقين وتعذيبهم إذا عصوه، فالعاقل من يحذر خلاف القادر. ثم بين بقوله إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً أن الذي يعبدونه في غاية الخسة لأنه صنم لا روح له، ولا ظلم أشنع من وضع الأخس موضع الأشرف. وبين بقوله وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً أن الذين يزعمون أنها شفعاؤهم عند الله كذب وزور، ثم ذكرهم أنهم لا يقدرون على نفع ولا على إيصال رزق أيّ رزق كان. ثم أشار بقوله فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ إلى أن هذه الهبة والرزق الموعود في قوله وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] يجب أن يطلب من الله فقط، وإذا كان الرزق منه فالشكر يجب أن يكون له. ثم بين بقوله إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أن المعاقب والمثيب هو وحده فلا رهبة إلا منه ولا رغبة إلا فيه. ثم إن قوله وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ إلى قوله فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إن كان اعتراضا خطابا لكفار قريش فظاهر، وإن كان تتمة قول إبراهيم فالأمم المتقدمة عليه إما قوم نوح وقوم إدريس وقوم شيث وقوم آدم، وإما قوم نوح وحده. وعبر عن أمته بالأمم لأنه عاش ألف سنة وأكثر فمضت عليه
(5/378)
القرون، وكان كل قرن يوصون من بعدهم من الأبناء أن يكذبوا نوحا. والبلاغ ذكر المسائل والإبانة وإقامة البرهان عليه، وفيه دليل على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وإلا لم يكن البلاغ مبينا. وحين بين التوحيد والرسالة شرع في بيان المعاد فإن هذه الأصول الثلاثة لا تكاد تنفصل في الذكر الإلهي فقال أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم يعلموا بالبرهان النير القائم مقام الرؤية كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثم يعيده. أما إبداء الخلق المطلق فلأن المخلوق لا بد له من خالق أوّل تنتهي إليه سلسلة المخلوقات، وأما خلق الإنسان بل كيفيته فإنه كالمشاهد المحسوس فإنا نرى النطفة وقعت في الرحم فدارت عليها الأطوار حتى حصلت خلقا آخر. وأما الإعادة فلأنها أهون في القياس العقلي ولهذا ختم الآية بقوله إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وحين أشار إلى العلم الحدسي الحاصل من غير طلب أمر نبينا صلى الله عليه وسلم أو حكى إبراهيم قول ربه له قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي إن لم يحصل لكم الحدس المذكور فسيروا في أقطار الأرض وتفكروا في كيفية تكوّن المواليد الثلاثة: المعادن والنبات والحيوان. حتى يفضى بكم النظر إلى العيان فالآية الأولى إشارة إلى ما هو كالمركوز في الأذهان ولهذا قال بطريق الاستفهام أَوَلَمْ يَرَوْا الآية الثانية أمر بالنظر المؤدي إلى العلم والإيقان على تقدير عدم حضور ذلك البيان والعيان. وإنما قال أوّلا كَيْفَ يُبْدِئُ بلفظ المستقبل وثانيا كَيْفَ بَدَأَ بلفظ الماضي، لأن العلم الحدسي حاصل في كل حال، وأما العلم الاستقرائي فلا يفيد اليقين إلا فيما شاهد وتتبع فكأنه قيل: إن لم يحصل لكم العلم بأن الله في كل حال موصوف بالإبداء والإعادة فانظروا في أصناف المخلوقات حتى تعرفوا أنه كيف بدأها ثم تستدلوا من ذلك على أنه ينشئها النشأة الثانية، فهذا عطف على المعنى كأنه قال: وانظروا كيف بدأ هذا. وتكلف جار الله فقال: هو معطوف على جملة قوله أَوَلَمْ يَرَوْا كما قال قوله ثُمَّ يُعِيدُهُ إخبار على حياله وليس بمعطوف على يُبْدِئُ ثم في إقامة اسم الله مقام الضمير في قوله ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ إشارة إلى أنه لا يقدر على هذه النشأة إلا المعبود الكامل الذات المتصف بالعلم والحياة وبسائر نعوت الجلال. وحين ذكر دلائل الأنفس والآفاق صرح بالنتيجة الكلية فقال إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإبداء والإعادة قَدِيرٌ وكذا على التكليف والجزاء تقريره قوله
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ يقال: قلب فلان في مكانه إذا أردى. وفي الآية لطائف منها: أنه قدم التعذيب على الرحمة مع
قوله «سبقت رحمتي غضبي» «1»
لأن الآية مسوقة لتهديد المكذبين ومع ذلك لم يخل الكلام عن ذكر الرحمة وإنه يؤكد
قوله «سبقت رحمتي غضبي» «2»
ومنها أنه لم يقل يعذب
__________
(1، 2) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15، 22، 28. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16.
(5/379)
الكافر ويرحم المؤمن إظهارا للهيبة الإلهية. ومنها أنه قال أوّلا إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ثم أعاده هاهنا لأن التعذيب والرحمة قد يكونان عاجلين وكأنه قال: وإن تأخر ثوابكم وعقابكم فإن إلينا إيابكم وعلينا حسابكم وعندنا يدّخر لكم ذلك فلا تظنوا فواته يؤكده قوله وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ وفيه أن الانقلاب إليه لا منه، وذلك أن الإعجاز إما بالهرب وإما مع الثبات وقد نفى الأول بقوله وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ أي لو هبطتم إلى موضع السمك في الماء أو صعدتم إلى محل السماك في السماء لم تخرجوا من قبضة قدرة الله.
وقدّم الأرض على السماء لأن السماء أبعد وأفسح أي إن هربتم من حكمه وقضائه في الأرض الفسيحة أو في السماء التي هي أفسح منها وأبعد فإنكم لا تفوتون الله، والمراد لا تعجزونه كيفما هبطتم في أعماق الأرض أو علوتم إلى البروج المشيدة الذاهبة في السماء كقوله وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء: 78] أو أراد لا تعجزون بلاءه الظاهر في الأرض أو النازل من السماء. وجوّز بعضهم أن يراد وما أنتم بمعجزين من في الأرض ولا في السماء بحذف الموصول، واقتصر في الشورى على قوله وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ [العنكبوت: 22] لأنه خطاب للمؤمنين. ونفى الثاني بقوله وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ لأن الركن الشديد الذي يستند إليه إما وليّ يشفع أو ناصر يدفع، والأول أسهل الطريقين فلذلك قدم الوليّ على النصير.
ثم خص الوعيد بالكافرين بآياته أي بدلائل الوحدانية وبالكتب والمعجزات. وفي زيادة قوله أُولئِكَ إشارة إلى أن اليأس من الرحمة منحصر فيهم لقوله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف: 87] ونسبة اليأس إليهم إمّا على سبيل الإخبار عن حالهم يوم القيامة، أو على سبيل وصف الحال، فإن وصف المؤمن أن يكون راجيا خاشيا ونعت الكافر أن لا يخطر بباله خوف ولا رجاء بل يكون خائفا كما قيل: الخائن خائف.
وجوز في الكشاف أن يكون على طريقة التشبيه كأنه يشبه حالهم في انتفاء الرحمة عنهم بحال من يئس من رحمة الله. ولعله ذهب إلى هذا التشبه لأن اليأس من رحمة الله متوقف على الاعتراف بالله وبرحمته والكافر غير معترف بواحد من الأمرين. ثم بين بتكرير أولئك في قوله وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أن كل واحد من الوعيدين لا يوجد إلا فيهم وإن كان الوعيدان متلازمين في الحقيقة. ثم حكى أن جواب قوم إبراهيم لم يكن إلا أن قالوا فيما بينهم أو قال واحد ورضي به الباقون اقْتُلُوهُ بالسيف ونحوه أَوْ حَرِّقُوهُ بالنار وهذا ليس
__________
الترمذي في كتاب الدعوات باب 99 ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242) .
(5/380)
جوابا في الحقيقة ولكنه كقولهم «عتابك السيف» . وفيه بيان جهالتهم أنهم وضعوا الوعيد موضع الائتمار للنصيحة والإذعان للحق. ثم بين أنهم اتفقوا على تحريقه فأنجاه من النار.
والقصة مذكورة في سورة الأنبياء. إِنَّ فِي ذلِكَ الإنجاء لَآياتٍ جمع الآية لعظم تلك الحالة كقوله إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] أو لأنها مشتملة على أحوال عجيبة كالرمي من المنجنيق من غير أن لحق به ضرر، وكما يروى أن النار صارت عليه روحا وريحانا إلى غير ذلك. وإنما قال في قصة نوح عليه السلام وَجَعَلْناها آيَةً [العنكبوت:
15] ولم يذكر الجعل هاهنا لأن الخلاص من مثل تلك النار آية في نفسه، وأما السفينة فقد جعلها الله آية بأن أحدث الطوفان وصانها عن الغرق، ويمكن أن يقال: إن الصون عن النار أعجب من الصون عن الماء فلذلك وحد الآية هناك وجمعها هاهنا. وإنما قال هناك آيَةً لِلْعالَمِينَ [العنكبوت: 15] وهاهنا لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأن تلك السفينة بقيت أعواما حتى مرّ عليها الناس ورأوها فحصل العلم بها لكل أحد. أو نقول: جنس السفينة حصلت بعد ذلك فما بين الناس فكانت آية للعالمين. وأما تبريد النار فلم يبق من ذلك أثر فلم يظهر لمن بعده إلا بطريق الإيمان به. وهاهنا لطيفة وهي أن الله تعالى جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم بسبب اهتدائه في نفسه وهدايته لغيره وقال قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ [الممتحنة: 4] فحصل للمؤمنين بشارة بأن الله سيجعل النار على المؤمن المهتدي بردا وسلاما. ثم حكى أنه بعد أن خرج من النار عاد إلى النصيحة والدعاء لقومه إلى التوحيد والإخلاص وذلك قوله وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ قال جار الله: من قرأ بالنصب بغير إضافة أو بإضافة فعلى وجهين: أحدهما التعليل أي لتتوددوا بينكم وتتواصلوا لاتفاقكم وائتلافكم على عبادتها كما يتفق الناس على مذهب فيكون بينهم نسبة من ذلك.
الوجه الثاني: أن يكون مفعولا ثانيا على حذف المضاف، أو على أن المصدر بمعنى المفعول أي اتخذتم الأوثان سبب المودة بينكم واتخذتموها مودودة بينكم. ومن قرأ بالرفع بإضافة أو بغير إضافة فعلى وجهين أيضا: أن يكون خبرا لأن على أن ما موصولة والتقدير:
إن التي اتخذتموها أوثانا هي سبب مودة بينكم أو مودودة بينكم. وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هي مودودة أو سبب مودة وعلى هذا فالوقف على أَوْثاناً حسن كما مر.
ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يقوم بين العبدة وكذا بينهم وبين أوثانهم التباغض والتلاعن نظيره كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 82] والتحقيق فيه أنهم غلبت عليهم الجسمية ولذاتها فلهذا ألفوا الأصنام ولم تقبل عقولهم موجودا منزها عن الأجسام وخواصها، فلا جرم إذا رفعت الحجب وكشف الغطاء عن عالم الأرواح زالت نسبة الجسمية وظهرت الآلام الروحانية وعذبوا بنار الخسران والحرمان من غير شفعاء ولا أعوان، فلذلك
(5/381)
قال وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ وإنما لم يقل هاهنا وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ [البقرة:
107] لأن الله لا ينصر الكفار من أهل النار. وإنما جمع هاهنا لأنه أراد في الأول جنس النصير وهاهنا أراد نفي الناصرين الذين كان أهل الشرك يزعمون أنهم شفعاؤهم عند الله فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وكان ابن أخي إبراهيم صدقه حين رأى النار لم تحرقه. قالت العلماء: إن لوطا آمن برسالة إبراهيم حين رأى المعجزة. وأما بالوحدانية فآمن حين سمع مقالته إذ لو توقف في الإيمان إلى وقت إظهار المعجزة كان نقصا في مرتبته وقدحا في نور باطنه، ألا ترى أن أبا بكر وعليا أسلما كما عرض النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام عليهما. وَقالَ إبراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى فلسطين ولهذا قالوا: لكل نبي هجرة ولإبراهيم هجرتان. وكان معه في هجرته امرأته سارة وهاجر وهو ابن خمس وسبعين سنة وهاجر معه لوط أيضا. ومعنى إِلى رَبِّي أي إلى حيث أمر ربي بالهجرة إليه ومثله قوله إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: 99] وعبارة القرآن أدخل في الإخلاص لأن المهاجر إلى حيث أمره الملك قد يهاجر إليه مرة أخرى لغرض نفسه فيصدق أنه مهاجر إلى حيث أمره الملك ولا يصدق أنه مهاجر لأجل الملك ولرضاه. وفي قوله إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ نوع تهديد لقومه وتصويب لما بدا له من الهجرة بأمر الله. قال في الكشاف: إنه هو العزيز الذي يمنعني من أعدائي، الحكيم الذي لا يأمرني إلا بما هو مصلحتي.
ثم ذكر ما أنعم به عليه من الأولاد والأحفاد، ومن جعل النبوة وجنس الكتاب الإلهي فيهم. وهو التوراة والإنجيل والزبور والفرقان- ولهذا اندرج ذكر إسماعيل في الآية. ولعل السر في عدم ذكر إسماعيل والتصريح بذكره أن الله تعالى جعل الزمان بعد إبراهيم قسمين:
أحدهما زمن إسحاق ويعقوب وذراريهما إلى زمان الفترة، والآخر من محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم قيام الساعة وهو من ولد إسماعيل فطي ذكر إسماعيل إشارة إلى تأخر زمان دولته والله أعلم. ثم كرر ذكر النعمة بقوله وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا قال أهل التحقيق: إن الله تعالى بدل جميع أحوال إبراهيم عليه السلام بأضدادها. لما أراد القوم تعذيبه بالنار فجعلها الله عليه بردا وسلاما، وهاجر فريدا وحيدا فوهب الله له ذريّة طيبة مباركة كما وصفنا، وكان لا مال له فكثر ماله حتى حصل له من المواشي ما علم الله عدده فقط.
يروى أنه كان له اثنا عشر ألف كلب حارس في أعناقها أطواق من ذهب.
وكان خاملا حتى قال قائلهم سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ [الأنبياء: 60] فجعل الله له لسان صدق في الآخرين. اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم. ثم بين بقوله وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ أن تلك النعمة الدنيوية ولذاتها مقرونة بفلاح الآخرة وصلاحها
(5/382)
جعلنا الله تعالى ببركته أهلا لبعض ذلك وهو المستعان. قوله وَلُوطاً إِذْ قالَ إعرابه كإعراب قوله وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ وقد مر والظاهر أن لوطا يكون قد أمر قومه بالتوحيد والعبادة أوّلا ثم نهاهم عن الفاحشة ثانيا. إلا أن الله تعالى قد حكى عنه ما اختص به وبقومه وهو قوله إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ويحتمل أن يكونوا موحدين إلا أنهم بسبب الإصرار على الفعلة الشنعاء وتحليلها مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم الناهي عنها صاروا في حكم الكفرة. وإذا كان الزنا فاحشة كما قال وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً [الإسراء: 32] مع أن الزنا لا يفضي إلى قطع النسل فاللواطة أولى بكونها فاحشة لتماديها في القبح ولإفضائها إلى انقطاع النسل، ويعلم منه احتياجها إلى الزاجر كالزنا بل أولى ويعلم منه افتقارها إلى الرجم بدليل إمطار الحجارة على أهلها. ومعنى ما سَبَقَكُمْ بِها أنه لم يأت بمثل هذا الفعل أحد قبلهم أو لم يشتهر به ولم يبالغ فيه أحد وإن ارتكبه بعضهم في الندرة كما يقال: إن فلانا سبق البخلاء في البخل، واللئام في اللؤم إذا زاد عليهم. ومعنى تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ تقضون الشهوة بالرجال مع قطع السبيل المعتاد مع النساء. ويجوز أن يكونوا قطاع الطريق والظاهر يشعر به وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ أي تضمون إلى قبح فعلكم قبح الإظهار. والنادي هو المجلس ما دام فيه الناس. وعن عائشة: كانوا يتجامعون. وعن ابن عباس: هو الحذف ومضغ العلك وحل الإزار والفحش في المزاح والسخرية بمن مر بهم فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ ولم يهددوه بنحو القتل والتخويف كما في قصة إبراهيم، لأن إبراهيم كان يقدح في آلهتهم ويشتمهم بتعديد نقائصهم يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً
[مريم: 42] فجعلوا جزاءه شر الجزاء. وأما لوط فكان ينكر عليهم فعلهم فهددوه بالإخراج أوّلا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [النمل: 56] واقترحوا من عذاب الله ثانيا. ويجوز أن يكون على سبيل الاستهزاء فلا جرم قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ كأنه أيس من توبتهم وإنابتهم ومن أن يلدوا تائبا مطيعا كما قال نوح وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: 27] ولعلهم كانوا يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من المعاصي والفواحش طوعا وكرها أو بابتداء الفواحش واقتداء من بعدهم بهم.
والبشرى هي البشارة بالولد، والنافلة إسحق ويعقوب، وإضافة مُهْلِكُوا إضافة تخفيف لا تعريف لأنه بمعنى الاستقبال أو الحال القريب منه لا الماضي، ولأن المقصود يتضح بذلك لا بوصف الملائكة لمطلق الإهلاك. والقرية سذوم. ثم علل الإهلاك بأن الظلم قد استمر فيهم بناء على أن كان للثبوت والاستمرار، ويحتمل أن يكون للزمان الماضي فإن هذا القدر يكفي للتعليل والزائد عليه لا تحتاج الملائكة إلى تقريره بخلاف ما في قصة نوح فَأَخَذَهُمُ
(5/383)
الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ
[العنكبوت: 14] فإن ذلك إخبار من الله تعالى ولا يحسن من الكريم أن يعاقب على الجرم السابق إلا بعد تحقق الإصرار والاستمرار. قال بعضهم: إن تعلق بِالْبُشْرى بهذا الإنذار هو أنه كان في إهلاك قوم لوط إخلاء الأرض من العباد فقدمت البشارة المذكورة المتضمنة لوجود عباد صالحين حتى لا يتأسف على إهلاك قوم من أبناء جنسه. ثم إن إبراهيم لما سمع إنذار الملائكة أظهر الإشفاق على لوط والحزن له قائلا إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ منك بِمَنْ فِيها وأخبروا بحاله وحال قومه. ومعنى مِنَ الْغابِرِينَ من الماضين ذكرهم أو ممن يمضي زمانه ويفني أو من الباقين في المهلكين وسِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً قد مر في «هود» وقال بعضهم: يحتمل أن يكون ضيق الذرع عبارة عن انقباض الروح فعند ذلك تجتمع أعضاء الإنسان وتقل مساحتها. فقالت الملائكة لا تَخَفْ علينا وَلا تَحْزَنْ بسب التفكر في أمرنا. وقال أهل البرهان: وإنما قيل هاهنا وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ بزيادة «أن» لأن «لما» تقتضي جوابا وإذا اتصل به «أن» دل على أن الجواب وقع في الحال من غير تراخ في الظاهر كما في هذه السورة وهو قوله سِيءَ بِهِمْ وفي هود اتصل به كلام بعد كلام فطال فلم يحسن دخول «أن» ظاهرا مع أن القصة واحدة. ثم إن الملائكة قالوا للوط إِنَّا مُنَجُّوكَ بلفظ اسم الفاعل وقالوا لإبراهيم عليه السلام لَنُنَجِّيَنَّهُ بلفظ الفعل لأن ذلك ابتداء الوعد وهذا أوان إنجازه فأرادوا أن ذلك الوعد حتم واقع منا كقولك: أنا ميت لضرورة وقوعه ووجوده. والرجز العذاب الذي يوقع صاحبه في القلق والاضطراب من قولهم: ارتجز وارتجس إذا اضطرب، والمراد الحجارة.
وقيل: النار. وقيل: الخسف. وعلى هذا يراد أن الأمر بالخسف والقضاء به من السماء وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي من القرية آيَةً بَيِّنَةً هي آثار منازلهم الخربة أو بقية الحجارة أو الماء الأسود أو قصتهم وخبرهم. وقوله لِقَوْمٍ يتعلق ب تَرَكْنا أو ب بَيِّنَةً ولزيادة قوله بَيِّنَةً قال لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ بخلاف قوله في قصة نوح عليه السلام وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ [العنكبوت: 15] لأن الآية لا تتبين إلا لذوي العقول وليس كل من في العالم بذي عقل.
ثم أجمل سائر القصص والرجاء إما على أصله أو بمعنى الخوف. وعلى الأول قال جار الله: أراد افعلوا ما ترجون به العاقبة، فأقيم المسبب مقام السبب. أو أمروا بالرجاء والمراد اشتراط ما يسوغه من الإيمان كما يؤمر الكافر بالصلاة مثلا على إرادة الشرط وهو الإسلام. فَكَذَّبُوهُ إنما صح إطلاق التكذيب مع أن ما ذكره شعيب أمر ونهي، والأمر لكونه طلبا لا يحتمل التصديق والتكذيب، وكذا النهي لأن قول شعيب يتضمن قوله الله
(5/384)
واحد والحشر كائن والفساد محرم وكل واحد من هذه خبر. ومعنى الرجفة والصيحة قد مر في «الأعراف» وفي «هود» . وكذا إنه لم قال مع الرجفة في دارهم على التوحيد، ومع الصيحة في ديارهم على الجمع. وَأهلكنا عاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ ذلك الإهلاك مِنْ جهة مَساكِنِهِمْ إذا نظرتم إليها عند مروركم بها وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ أي عقلاء متمكنين من النظر والاستدلال، وكانوا عارفين بأخبار الرسل أن العذاب نازل بهم ولكنهم لم ينظروا في الدليل ولجوا حتى هلكوا وَما كانُوا سابِقِينَ أي أدركهم أمر الله فلم يفوتوه.
ثم قرر أمر المذنبين بإجمال آخر يفيد أنهم عذبوا بالعناصر الأربعة، فجعل ما منه تركيبهم سببا لعدمهم وما منه بقاؤهم سببا لفنائهم. فالحاصب حجارة محماة تقع على كل واحد منهم فتنفذ من الجانب الآخر وهو إشارة إلى التعذيب بعنصر النار وأنه لقوم لوط. والصيحة وهي تموّج شديد في الهواء لمدين وثمود. والخسف لقارون والغرق لقوم نوح وفرعون وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ بالإهلاك وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالإشراك وقال بعض أهل العرفان: وما كان الله ليضعهم في غير موضعهم فإن موضعهم الكرامة ولكنهم وضعوا أنفسهم مع شرفها في عبادة الوثن الذي هو في غاية الخسة فلذلك ضرب لهم المثل بالعنكبوت ونسجه الذي هو عند الناس في غاية الوهن والضعف. فإن كان تشبيها مركبا فظاهر، وإن كان مفرقا فالمشرك كالعنكبوت واتخاذه الصنم معبودا وملجأ كاتخاذ العنكبوت نسجه بيتا فإنه يصير سببا لهلاكه ولتنظيف البيت منه كعابد الوثن يقع في النار بسبب عبادته.
وفيه أن العنكبوت كما أنه يصطاد بسبب نسجه الذباب ولكنه لا بقاء له ويتلاشى بأدنى سبب كذلك الكافر يستفيد بشركه ما هو أقل من جناح بعوضة وهو بعض متاع الدنيا ولكنه كعمله يصير آخر الأمر هباء منثورا. ثم عرض على العقول صحة المثل المضروب قائلا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ بأنه لا يصلح للبقاء ولا للاستدفاء ولا للاستظلال ولا للاستكنان والنسج في نفسه إن فرض له فائدة كما أن الصنم في نفسه يمكن أن ينتفع به ولكن اتخاذ النسج بيتا لا شك أنه غير مفيد بل مضر كما مر فكذلك عبادة الصنم. ثم قال لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ فحذف الجواب ليذهب الوهم كل مذهب أي لو كانوا يعلمون أن هذا مثلهم وأمر دينهم لتابوا وندموا، ولو كانوا يعلمون صحة هذا التشبيه وقد صح أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت. فقد تبين أن دينهم أوهن الأديان إذا استقريتها دينا دينا.
وصاحب الكشاف علق هذا الشرط بما قبله وليس بذاك وقد مر في الوقوف والله أعلم.
تم الجزء العشرون، ويليه الجزء الحادي والعشرون وأوله: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ...
(5/385)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45) وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الحادي والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
[سورة العنكبوت (29) : الآيات 42 الى 69]
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)
قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56)
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
(5/386)
القراآت:
ما يَدْعُونَ بياء الغيبة: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم غير الأعشى والبرجمي. الباقون: بتاء الخطاب آية على التوحيد: ابن كثير وعاصم سوى حفص والمفضل وحمزة وعلي غير قتيبة وخلف لنفسه. وَيَقُولُ بالياء: نافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بالنون يا عِبادِيَ الَّذِينَ
بسكون الياء: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بفتح الياء والوقف للجميع بالياء لا غير أَرْضِي
بفتح الياء ابن عامر يرجعون بضم الياء التحتانية وفتح الجيم: يحيى وهشام تُرْجَعُونَ بفتح التاء الفوقانية وكسر الجيم. الباقون: بضم التاء الفوقانية وفتح الجيم لنثوينهم بسكون الثاء المثلثة: حمزة وعلي وخلف. والآخرون: بفتح الياء التحتانية الموحدة. وتشديد الواو وَلِيَتَمَتَّعُوا بسكون اللام: ابن كثير وقالون وحمزة وعلي وخلف سُبُلَنا بسكون الباء:
أبو عمرو.
الوقوف:
مِنْ شَيْءٍ ط الْحَكِيمُ هـ لِلنَّاسِ ط لاختلاف الجملتين والعدول عن العموم إلى الخصوص الْعالِمُونَ هـ بِالْحَقِّ هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ الصَّلاةَ ط وَالْمُنْكَرِ ط أَكْبَرُ ط ما تَصْنَعُونَ هـ مُسْلِمُونَ هـ إِلَيْكَ الْكِتابَ ط يُؤْمِنُونَ بِهِ ج فصلا بين حال الفريقين مع اتفاق الجملتين يُؤْمِنُ بِهِ ط الْكافِرُونَ هـ الْمُبْطِلُونَ هـ الْعِلْمَ ط الظَّالِمُونَ هـ مِنْ رَبِّهِ ط عِنْدَ اللَّهِ ط مُبِينٌ هـ عَلَيْهِمْ ط يُؤْمِنُونَ هـ شَهِيداً ج لأن ما بعده يصلح وصفا واستئنافا وَالْأَرْضِ بِاللَّهِ لا لأن ما بعده خبر الْخاسِرُونَ هـ بِالْعَذابِ ط الْعَذابُ ط لا يَشْعُرُونَ هـ بِالْعَذابِ ط بِالْكافِرِينَ هـ لا لأن يَوْمَ ظرف لَمُحِيطَةٌ تَعْمَلُونَ هـ فَاعْبُدُونِ
ط تُرْجَعُونَ هـ خالِدِينَ فِيها ط الْعامِلِينَ قف بناء على أن التقدير هم الذين أو أعني الذين يَتَوَكَّلُونَ هـ رِزْقَهَا ق قد قيل: والوصل أولى لأنه وصف آخر لدابة وَإِيَّاكُمْ ج لاحتمال الاستئناف والوصل أولى ليكون حالا متمما للمعنى الْعَلِيمُ هـ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ
(5/387)
لا للاستفهام مع الفاء يُؤْفَكُونَ هـ وَيَقْدِرُ لَهُ ط عَلِيمٌ هـ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ط الْحَمْدُ لِلَّهِ ط لتمام المقول لا يَعْقِلُونَ هـ وَلَعِبٌ ط الْحَيَوانُ ط لأن الشرط غير معلق يَعْلَمُونَ هـ الدِّينَ هـ يُشْرِكُونَ لا لتعلق لام كي ومن جعلها لام أمر تهديد وقف عليه آتَيْناهُمْ ط لمن قرأ وَلِيَتَمَتَّعُوا بالجزم على استئناف الأمر، ومن جعل لام لِيَكْفُرُوا للأمر عطف هذه عليها فلم يقف. وَلِيَتَمَتَّعُوا لا لاستئناف التهديد يَعْلَمُونَ هـ مِنْ حَوْلِهِمْ ط يَكْفُرُونَ هـ جاءَهُ ط لِلْكافِرِينَ هـ سُبُلَنا ط الْمُحْسِنِينَ هـ.
التفسير:
هذا توكيد للمثل المذكور وزيادة عليه حيث لم يجعل ما يدعونه شيئا هذا على تقدير كون «ما» نافية و «من» زائدة، ويجوز أن تكون استفهاما نصبا ب يَدْعُونَ أو بمعنى الذي و «من» للتبيين المراد ما يدعون من دونه من شيء فإن الله يعلمه. وهو العزيز الحكيم قادر على إعدامه وإهلاكهم لكنه حكيم يمهلهم ليكون الهلاك عن بينة والحياة عن بينة. وفيه أيضا تجهيل لهم حيث عبدوا ما هو أقل من لا شيء وتركوا عبادة القاهر القادر الحكيم. ثم إن الجهلة من قريش كانوا يسخرون من ضرب المثل بالذباب والعنكبوت ونحوهما فنزلت وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ وذلك لأن الأمثال والتشبيهات وسائل إلى المعاني المحتجبة في الأستار كما سبق في أول البقرة، حيث ضرب المثل بالبعوضة. قال الحكيم: العلم الحدسي يعرفه العاقل، وأما إذا كان فكريا دقيقا فإنه لا يعقله إلا العالم لافتقاره إلى مقدمات سابقة. والمثل مما يفتقر في إدراك صحته وحسن موقعه إلى أمور سابقة ولا حقة يعرف بها تناسب مورده ومضربه وفائدة إيراده فلا يعقل صحتها إلا العلماء. وحين أمر الخلق بالإيمان وأظهر الحق بالبرهان وقص قصصا فيها عبر، وأنذر أهل الكفر بإهلاك من غبر ووصف سبيل أهل الأباطيل بالتمثيل، قوى قلوب أهل الإيمان بأن كفرهم ينبغي أن لا يورث شكا في صحة دينكم، وشكهم يجب أن لا يؤثر في رد يقينكم، ففي خلق السموات والأرض بالحق بيان ظاهر وبرهان باهر وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر. وإنما قال هاهنا لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مع قوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ وقوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إلى قوله لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164] لأن المؤمن لا يقصر نظره من الخلق على معرفة الخالق فحسب ولكنه يرتقي منه إلى نعوت الكمال والجلال فيعرف أنه خلقهما متقنا محكما وهو المراد بقوله بِالْحَقِّ والخلق المتقن المحكم لا يصدر إلا عن العالم بالكليات والجزئيات، وإلا عن الواجب الواحد الذات والصفات كقوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] ثم يرتقي من مجموع هذه المقدمات إلى صحة الرسالة وحقيقة المعاد فيحصل له الإيمان بتمامه من خلق ما خلقه على أحسن نظامه. وإنما
(5/388)
وحد الآية هاهنا لأنه إشارة إلى التوحيد وهو سبحانه واحد لا شريك له. وفي قصة إبراهيم إشارة إلى النبوة وفي النبيين صلى الله عليهم وسلم كثرة. وحيث قوى قلب المؤمنين بالتخصيص المذكور سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ لتعلم أن نوحا ولوطا وغيرهما بلغوا الرسالة وبالغوا في إقامة الدلالة، ولم ينقذوا قومهم من الضلالة والجهالة، ولهذا قال اتْلُ ولم يقل «اتل عليهم» لأن التلاوة بعد اليأس منهم ما كانت إلا لتسلية قلب النبي صلى الله عليه وسلم. أو نقول: إن الكاتب الإلهي قانون كلي فيه شفاء للصدور فيجب تلاوته مرة بعد أخرى ليبلغ إلى حد التواتر وينقله قرن إلى قرن ويأخذه قوم من قوم إلى يوم النشور. وأيضا فيه من العبر والمواعظ ما يهش لها الأسماع وتطمئن إليها القلوب كالمسك يفوح لحظة فلحظة، وكالروض يستلذه النظر ساعة فساعة. وفي الجمع بين الأمرين التلاوة وإقامة الصلاة معنيان: أحدهما زيادة تسلية النبي صلى الله عليه وسلم كأنه قيل له: إذا تلوت ولم يقبل منك فأقبل على الصلاة لأنك واسطة بين الطرفين، فإن لم يتصل الطرف الأول وهو من الخالق إلى المخلوق، فليتصل الطرف الآخر وهو من المخلوق إلى الخالق. والثاني أن العبادات إما اعتقادية وهي لا تتكرر بل تبقى مستمرا عليها. وإما لسانية، وإما بدنية خارجية وأفضلها الصلاة، فأمر بتكرار الذكر والصلاة حيازة للفضيلتين ثم علل الأمر بإقامة الصلاة فقال إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ فقال بعض المفسرين: أراد بالصلاة القرآن وفيه النهي عنهما وهو بعيد وقيل: أراد نفس الصلاة وإنما تنهى عنهما ما دام العبد في الصلاة، وضعف بأنه ليس مدحا كاملا لأن غيرها من الأعمال الفاضلة والمباحة قد يكون كذلك كالنوم وغيره. والذي عليه المحققون أن للصلاة لطفا في ترك المعاصي فكأنها ناهية عنها وذلك إذا كانت الشروط من
الخشوع وغيره مرعية. فقد روي عن ابن عباس: من لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بعدا.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: إن فلانا يصلي بالنهار ويسرق بالليل. فقال: إن صلاته لتردعه
وروي أن فتى من الأنصار كان يصلي معه الصلاة ثم يرتكب الفواحش، فوصف ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن صلاته ستنهاه، فلم يلبث أن تاب.
وعلى كل حال فالمراعي لأوقات الصلاة لا بد أن يكون أبعد من القبائح. واللفظ لا يقتضي إلا هذا القدر وكيف لا تنهى ونحن نرى أن من لبس ثوبا فاخرا فإنه يتجنب مباشرة القاذورات، فمن لبس لباس التقوى كيف لا يتجنب الفواحش.
وأيضا الصلاة توجب القرب من الله تعالى كما قال وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق: 19] ومقرّب الملك المجازي يجل منصبه أن يتعاطى الأشغال الخسيسة فكيف يكون مقرب الملك الحقيقي؟
وأيضا من دخل في خدمة ملك فأعطاه منصبا له مقام خاص مرتفع فإذا دخل وجلس في صف النعال لم يتركه الملك هنالك، فإذا صار العبد برعاية شروط الصلاة وحقوقها من
(5/389)
أصحاب اليمين فكيف يتركه الله الكريم في أصحاب الشمال؟ وتفسير الفحشاء والمنكر مذكور مرارا، وقال أهل التحقيق: الفحشاء التعطيل وهو إنكار وجود الصانع، والمنكر الإشراك به وهو إثبات إله غير الله وذلك أن وجود الواجب الواحد أظهر من الشمس وإنكار الظاهر منكر ظاهر. واعلم أن الصلاة لها هيئة فأولها وقوف بين يدي الله كوقوف العبد بين يدي السلطان، وآخرها جثو بين يدي الله كما يجثو أهل الإخلاص بين يدي السلطان. وإذا جثا في الدنيا هكذا لم يجث في الآخرة كما قال وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [مريم: 72] فالمصلي إذا قال «الله» نفى التعطيل وإذا قال «أكبر» نفى الشرك لأن الشريك لا يكون أكبر من الشريك الآخر فيما فيه الاشتراك، وإذا قال بِسْمِ اللَّهِ نفى التعطيل، وإذا قال الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ نفى الإشراك لأن الرحمن هو المعطي للوجود بالخلق والرحيم هو المفيض للبقاء بالرزق، وهكذا الْحَمْدُ لِلَّهِ خلاف التعطيل، وقوله رَبِّ الْعالَمِينَ خلاف التشريك وفي قوله إِيَّاكَ نَعْبُدُ نفى التعطيل والإشراك من حيث إفادة التقديم الاختصاص بالعبادة، وكذا قوله وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ وفي قوله اهْدِنَا الصِّراطَ نفي التعطيل لأن المعطل لا مقصد له.
وفي قوله الْمُسْتَقِيمَ نفى الإشراك لأن المستقيم أقرب الطرق وهو أحد، والمشرك يزيد في الطريق بتحصيل الوسائط. وعلى هذا إلى آخر الصلاة وهو قوله في التشهد «أشهد أن لا إله إلا الله» نفى التعطيل والإشراك، فأول الصلاة «الله» وآخرها «الله» . ثم إن الله سبحانه كأنه قال للعبد: أنت إنما وصلت إلى هذه المنزلة الرفيعة بهداية محمد صلى الله عليه وسلم، فقل بعد ذكري:
أشهد أن محمدا رسول الله، واذكر إحسانه بالصلاة عليه. ثم إذا رجعت من معراجك وانتهيت إلى إخوانك فسلم عليهم وبلغهم سلامي كما هو دأب المسافرين وَلَذِكْرُ اللَّهِ أي الصلاة أَكْبَرُ من غيرها من الطاعات. وفي تسمية الصلاة بالذكر إشارة إلى أن شرف الصلاة بالذكر. وجوز في الكشاف أن يراد ولذكر الله عند الفحشاء والمنكر وذكر نهيه عنهما ووعيده عليهما أكبر فكان أولى بأن ينهى من اللطف الذي في الصلاة. وعن ابن عباس:
ولذكر الله إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بالطاعة. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من الأعمال فيثيبكم أو يعاقبكم على حسب ذلك.
وحين بين طريقة إرشاد المسلمين ونفع من انتفع واليأس ممن امتنع، أراد أن يبين طريقة إرشاد أهل الكتاب وهي مجادلتهم بالخصلة التي هي أحسن، يعني مقابلة الخشونة باللين والغضب بالحلم والعجلة بالتأني. قال بعض المفسرين: أراد لا تجادلهم بالسيف وإن لم يؤمنوا إلا إذا ظلموا فنبذوا الذمة أو منعوا الجزية. وقيل: إلّا الذين أشركوا منهم بإثبات الولد لله والقول بثالث ثلاثة وقيل: إلا الذين آذوا رسول الله. والتحقيق أن أكثر أهل الكتاب جاؤا بكل حسن إلا الاعتراف بمحمد صلى الله عليه وسلم فوحدوا وآمنوا بإنزال الكتب وإرسال الرسل
(5/390)
والمبدأ والمعاد، فلمقابلة إحسانهم يجادلون أولا بالأحسن، ولا تستهجن آراؤهم ولا ينسب إلى الضلال آباؤهم بل يقال لهم آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا إلى آخر الآية.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ما حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان باطلا لم تصدقوهم، وإن كان حقا لم تكذبوهم» «1»
ثم ذكر دليلا قياسيا فقال وَكَذلِكَ يعني كما أنزلنا على من تقدمك أنزلنا عليك وقال جار الله: هو تحقيق لقوله آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا أي ومثل ذلك الإنزال أنزلناه مصدقا لسائر الكتب السماوية. فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هم عبد الله بن سلام وأضرابه وَمِنْ هؤُلاءِ أي من أهل مكة أو الأولون هم الأقدمون من أهل الكتاب، والآخرون هم المعاصرون منهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقيل: الأولون هم الأنبياء لأن كلهم آمنوا بكلهم ومن هؤلاء هم أهل الكتاب وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع وضوحها إلا المصرون على الكفر المتوغلون فيه نحو كعب بن الأشرف وأصحابه. واعلم أن المجادل إذا ذكر مسألة خلافية كقوله: الزكاة تجب في مال الصغير. فإذا قيل له: لم؟ قال: كما تجب النفقة في ماله ولا يذكر الجامع بينهما. فإن فهم الجامع من نفسه فذاك، وإلا قيل له: لأن كليهما مال فضل عن الحاجة. فالله سبحانه ذكر أولا التمسك بقوله وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا ثم ذكر الجامع بقوله وَما كُنْتَ تَتْلُوا الآية. وفي قوله بِيَمِينِكَ زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبا. ومعنى إِذاً لَارْتابَ لو كان شيء من ذلك أي من التلاوة والخط لارتاب الْمُبْطِلُونَ من أهل الكتاب، وارتاب الذين من شأنهم الركون إلى الأباطيل، لأن النبي إذا كان قارئا كاتبا أمكن أن يسبق إلى الوهم أن الكلام كلامه لا كلام الله، وإذا كان أميا فلا مجال لهذا الوهم. أو المراد أن سائر الأنبياء لم يكونوا أميين ووجب الإيمان بهم لمكان معجزتهم فهبوا أنه قارئ كاتب أليس صاحب آيات ومعجزات فإذا هم مبطلون على كل حال. ثم أكد إزالة ريبهم بقوله بَلْ هُوَ يعني القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وهو الحفاظ والقراء وسائر الكتب السماوية، ما كانت تقرأ إلا من القراطيس ولهذا جاء في صفة هذه الأمة «صدورهم أناجيلهم» وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا الباهرة النيرة إلا المتوغلون في الظلم. سماهم أولا كافرين لأجل مجرد الجحود، ثم بعد بيان المعجزة سماهم ظالمين لأن الكفر إذا انضم معه الظلم كان أشنع. ويجوز أن يراد بالظلم الشرك كأنهم بغلوهم في الجحود ألحقوا بأهل الشرك حكما أو حقيقة. ولما بين الدليل من جانب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر شبهتهم وهي الفرق بين المقيس والمقيس عليه، وذلك أن موسى أوتي تسع آيات علم بها كون الكتاب من عند الله وأنت ما أوتيت شيئا منها فأرشد الله نبيه إلى الجواب
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الشهادات باب 29. كتاب تفسير سورة 2 باب 11. أبو داود في كتاب العلم باب 2. أحمد في مسنده (4/ 136) .
(5/391)
وهو أن يقول إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ووجهه أنه ليس من شرط الرسالة إظهار المعجزة وإنما المعجزة بعد التوقف في الرسالة، ولهذا علم وجود رسل كشيث وإدريس وشعيب، ولم يعلم لهم معجزة وكان في بني إسرائيل أنبياء لم تعرف نبوتهم إلا بقول موسى أو غيره، فليس على النبي إلا النذارة. وأما إنزال الآية فإلى رحمة الله إذا شاء تخليص القوم من تصديق المتنبئ وتكذيب النبي. ثم قال أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ الآية. والمعنى هبوا أن إنزال الآية شرط أليس القرآن المتلو الذي أخرس شقاشق فصحائهم كافيا في بيان الإعجاز؟ إِنَّ فِي ذلِكَ المتلو على وجه الأرضين لَرَحْمَةً من الله على الخلق وإلا اشتبه عليهم النبي بالمتنبئ وَذِكْرى ليتعظ بها الناس ما بقي الزمان. وإنما كانت هذه الرحمة من الله على الخلق والتذكرة مختصة بالمؤمنين، لأن المعجزة للكافرين سبب لمزيد الإنكار المستلزم لإلزام الحجة والخلود في النار، ثم ختم الدلائل بأن أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بكلام منصف وهو قوله كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً وقال في آخر سورة الرعد قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الآية: 43] لأن الكلام هناك مع المشركين فاستشهد عليهم بأهل الكتاب أيضا وأما هنا فالكلام مع أهل الكتاب فاقتصر على شهادة الله، ثم بين كون شهادة الله كافية بقوله يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثم هددهم بقوله وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ وهما متلازمان لأن الإيمان بما سوى الله وهو الباطل الهالك الزائل الزاهق كفر بالله وجحود بحقه. أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ لا يستحق لهذا الاسم في الحقيقة غيرهم إذ لا غبن أفحش من اشتراء الباطل بالحق والكفر بالإيمان وإضاعة العمر في عبادة ما لا ينفعهم بل يضرهم قيل: إن ناسا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود، فلما نظر إليها ألقاها وقال: كفى بها حماقة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم فنزلت أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ الآية.
ويروى أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا: يا محمد من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت قُلْ كَفى الآية.
فعلى هذا فالآية نازلة في المشركين، وعلى ما مر فهل يتناول أهل الكتاب؟ قالوا: نعم، لأنه صح عندهم معجزة محمد صلى الله عليه وسلم وقطعوا بأنها ليست من عند الله بل من تلقاء محمد صلى الله عليه وسلم فيلزمهم أن يقولوا: إن محمدا هو الله فيكون إيمانا بالباطل وكفرا بالله. قلت: ولعل وجه التناول هو أنهم آمنوا بالمحرف من التوراة وعبدوا العجل والله أعلم. ثم إن النضر بن الحرث وغيره من كفار قريش كانوا يستعجلون بالعذاب كما مر استهزاء منهم وتكذيبا فنزلت وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى هو الموت أو يوم بدر أو ما كتب في اللوح أنه لا يعذب هذه الأمة عذاب الاستئصال إلى يوم القيامة. وقوله وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ تأكيد للبغتة، أو هو كلام مستقل أي إنهم لا يشعرون هذا الأمر ويظنون أن العذاب لا يأتيهم أصلا.
(5/392)
ثم كرر قوله يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ تعجبا منهم وتعجيبا، فإن من توعد بأمر يسير كلطمة أو لكمة يحتمل أن يظهر من نفسه الجلادة ويقول: هات ما عندك. وأما الذي توعد بإحراق ونحوه فكيف يتجلد ويستعجل خصوصا إذا كان الموعد لا يخلف الميعاد ويقدر على كل ما أراد. وقوله لَمُحِيطَةٌ بمعنى الاستقبال أي ستحيط بهم يوم كذا ويجوز أن يكون بمعنى الحال حقيقة لأن المعاصي التي توجبها محيطة بهم في الدنيا، أو مجازا لأن جهنم مآلهم ومرجعهم فكأنها الساعة محيطة بهم. والظرف على هذين الوجهين منصوب بمضمر أي يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ كان كيت وكيت. وإنما خص الغشيان بالفوق والتحت دون باقي الجهات، لأن نار جهنم بذلك تتميز عن نار الدنيا لأن نار الدنيا، لا تنزل من فوق ولا تؤثر شعلتها من تحت بل تنطفئ الشعلة تحت القدم، وإنما لم يقل «ومن تحتهم» كما قال مِنْ فَوْقِهِمْ لأن نزول النار من فوق عجيب سواء كان من سمت الرأس أو من موضع آخر. وأما الاشتعال من تحت فليس بعجيب إلا حيث يحاذي الرجل. ويجوز أن يكون زيادة الأرجل تصويرا لوقوفهم في النار أو لجثوهم فيها. وقوله ذُوقُوا ما كُنْتُمْ أي جزاء ما كنتم تعملونه أمر إهانة، وحين ذكر حال الكفرة من أهل الكتاب والمشركين وجمعهم في الإنذار وجعلهم من أهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعهم من عبادة الله فقال يا عِبادِيَ
فإن كانت الإضافة للتشريف كقوله عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الدهر: 6] فقوله الَّذِينَ آمَنُوا
صفة موضحة. وإن كانت للتخصيص فهي صفة مميزة.
ومعنى الآية أن المؤمن إذا لم يتسهل له عبادة الله في بلد على وجه الإخلاص فليهاجر عنه إلى بلد يكون فيه أفرغ بالا أو أرفع حالا وأقل عوارض نفسانية وأكمل دواعي روحانية
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبرا من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق إبراهيم ومحمد» .
واعلم أني عند الوصول إلى تفسير هذه السورة عنّ لي سفر من غير اختيار كلي فأقول متضرعا إلى الله الكريم ومستمدا من إعجاز الفرقان العظيم: اللهم إن كنت تعلم أن هذا السفر مشوب بشيء من رضاك فإن كل الرضا لا يمكنني أن أراعيه فاجعله سببا لنجح المقاصد وحصول المآرب والاشتمال على الفوائد الدنيوية والدينية والخلاص من شماتة الأعداء الدنية حتى أفرع لنشر العلوم الشرعية إنك على ما تشاء قدير وبالإسعاف والإجابة جدير. والفاء في قوله فَإِيَّايَ
للدلالة على أنه جواب الشرط كأنه.
قال: إذا كان لا مانع من عبادتي فاعبدوني ثم أريد معنى الاختصاص والإخلاص فقدم المفعول على شريطة التفسير، وجيء بالفاء الثانية الدالة على ترتيب المقتضى على المقتضي كما يقال: هذا عالم فأكرموه كما مر في قوله وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: 40] فصار حاصل المعنى:
(5/393)
إن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فاخلصوها لي في غيرها. والفائدة في الأمر بالعبادة بعد قوله يا عِبادِيَ
الدال على العبودية إما المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل، أو الإخلاص في العبادة. ويجوز أن يقال: العبودية غير العبادة، فكم من عبد لا يطيع سيده، ثم لما أمر المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان والخلان فقال كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أي إن الذي تكرهون لا بد من وقوعه فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ فنثيبكم على ذلك، وفيه أن كل نفس ذائقة الموت اضطرارا فمن أراد أن لا يموت أبدا فليمت اختيارا فإن أولياء الله لا يموتون ولكن ينقلون من دار إلى دار. ثم بين أن للمؤمنين الجنان في مقابلة ما للكافرين من النيران، وأن في الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار في مقابلة ما يحيط بالكافرين من النار. وبين أن ذلك أجر عملهم بقوله نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ بإزاء ما بين جزاء عمل الكفار بقوله ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وقوله لَنُبَوِّئَنَّهُمْ ألننزلنهم مِنَ الْجَنَّةِ عوالي ومن قرأ بالثاء المثلثة فمن الثواء يقال: ثوى في المنزل لازما وأثوى غيره متعديا إلى واحد. فانتصاب غُرَفاً إما بنزع الخافض، وإما لتضمين الإثواء معنى التبوئة والإنزال، وإما التشبيه الظرف المؤقت بالمبهم. ثم مدح الَّذِينَ صَبَرُوا على المكاره في الحال. وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيما يحتاجون إليه في الاستقبال. وكل واحد من الصبر والتوكل يحتاج إليه المسافر والمقيم، فكما أن المهاجر يصبر على فراق الأوطان ويتوكل في سفره على الرحمن، فالمتوطن يصبر على الأذيات والمحن ويتوكل في أموره على فضل ذي المنن. والصبر والتوكل صفتان لا تحصلان إلا مع سعة العلم بالله وبما سوى الله، فمن علم أنه باق لا يصبر عنه ولا يتوكل في الأمور إلا عليه، ومن علم أن ما سواه فإن هان عليه الصبر وعلم أنه لا يصلح للاعتماد عليه. ثم ذكر ما يعين على الصبر والتوكل وهو النظر في حال الدواب.
وقال المفسرون: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسلم بمكة بالهجرة خافوا الفقر والضيعة فكان الرجل منهم يقول: كيف أقدم بلدة ليست لي فيها معيشة فنزلت وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا
عن الحسن أي لا تدخره وقال غيره: لا تطيق حمل الرزق اللَّهُ يَرْزُقُها بإيجاد غذائها وهدايتها إليه. ثم بتشبث ذلك الغذاء بالمغتذي بتوسط قوى أودعها فيها وهيأها لذلك. وَإِيَّاكُمْ بمثل ما قلنا وبزيادة الاهتداء إلى وجوه المكاسب والمعايش وترتيب الملبس والمسكن وتهيئة الأقوات وادخار الأموال وتملكها اختيارا وقهرا، ومنه يعلم أن الاشتغال بترتيب بعض الوسائط وتدبيرها لا ينافي التوكل فقد يكون الزارع الحاصد متوكلا والراكع الساجد غير متوكل. عن ابن عيينة: ليس شيء يخبأ إلا الإنسان والنملة والفأرة وللعقعق مخابئ إلا أنه
(5/394)
ينساها. وحكي أن البلبل يحتكر في حضنيه أي يجمع. وإذا كان أكثر الحيوان على صورة المتوكلين فالإنسان العاقل العارف بالمبدأ والمعاد، العالم بوجوه المكاسب الذي يأتيه الرزق من جهات الإرث والعمارة والهدية ونحوها، كيف يظاهر على الحطام الزائل أشد حرص؟! وَهُوَ السَّمِيعُ لدعاء طلبة الرزق الْعَلِيمُ بطوياتهم ومقادير حاجاتهم. ثم عجب أهل العجب من حال المشركين من أهل مكة وغيرهم لم يعبدوا الله مخلصين مع علمهم بأنه خالقهم ورازقهم، فكيف يصرفون عن توحيد الله؟ فإن من علمت عظمته وجبت خدمته، ولا عظمة فوق عظمة خالق الذرات وإليه أشار بخلق الأرض والسموات موجد الصفات وإليه الإشارة بتسخير الشمس والقمر ولا حقارة فوق حقارة الجماد لأنه دون النبات وهو دون الحيوان وهو دون الإنسان وهو دون سكان السموات، فكيف يتركون عبادة أشرف الموجودات ويشتغلون بعبادة أخس المخلوقات، وحين ذكر الخلق أتبعه ذكر الرزق وحكمة البسط والقبض في ذلك الباب. ومعنى يَقْدِرُ يضيق فالضمير في لَهُ إما للشخص المعين المبسوط له والمراد أن تعاقب الأمرين عليه بمشيئة الله وإما لمبهم غير معين كأن الضمير وضع موضع من يشاء. وفي قوله إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إشارة إلى أنه عالم بمقادير الحاجات فإذا علم احتياج العبد إلى الرزق أوصله إليه من غير تأخير إن شاء.
ثم احتج على المشركين بوجه آخر وهو اعترافهم بأن إحياء الأرض الميتة بواسطة تنزيل ماء السماء هو من الله. ثم قال قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وهو كلام مستقل على سبيل الاعتراض أو هو متصل بما قبله كأنه استحمد رسوله على البراءة من التناقض والتهافت خلاف أهل الشرك المعترفين بأن النعمة من الله ثم يتركون عبادته إلى عبادة الصنم الذي لا يملك نفعا ولا ضرا. وفيه أن العالم إذا لم يعمل بعلمه انخرط في سلك من لا عقل له ولهذا عقبه بقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ وقال جار الله: أراد لا يعقلون ما يقولون وما فيه من الدلالة على بطلان الشرك وصحة التوحيد، أو لا يعقلون ما تريد بقولك: «الحمد لله» ولا يفطنون لم حمدت الله عند مقالتهم. واعلم أن المشركين معترفون بأن الخلق والرزق من الله، ولكن حب الدنيا وزينتها حملتهم على موافقة أهل الشرك والمداومة على الدين الباطل، فصغر الله تعالى أمر الدنيا وعظم أمر الآخرة ليعلم أن رعاية جانب الآخرة أهم من رعاية صلاح الدنيا. قال أهل العلم: الإقبال على الباطل لعب، والإعراض عن الحق لهو، والمشتغل بالدنيا كذلك. ويمكن أن يقال: المشتغل بها لا على وجه الاستغراق بل على وجه يفرغ لبعض أمور الآخرة لاعب، والمشغول بها بحيث ينسى الآخرة بالكلية لاه وحين كان الكلام في الأنعام بعد ذكر الآخرة وما يجري فيها من الحيرة والحسرة قدم اللعب هنالك
(5/395)
لأن الاستغراق الكلي بالنسبة إلى أهل الآخرة أبعد فأخر الأبعد. ولما كان المذكور هاهنا من قبيل الدنيا ولهذا أشار إليها بقوله وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا وقال في الأنعام وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا [الآية: 32] وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها بالكلية، فلا جرم قدم اللهو. ويحتمل أن يقال: إنه تعالى قدم اللعب على اللهو في موضعين من «الأنعام» وكذلك في القتال ويقال لها «سورة محمد» صلى الله عليه وسلم وفي «الحديد» . وقدم اللهو على اللعب في «الأعراف» و «العنكبوت» . فاللعب مقدم في الأكثر لأن اللعب زمانه الصبا، واللهو زمانه الشباب، وزمان الصبا مقدم على زمان الشباب.
«تنبيه» ما ذكر في الحديد اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ كلعب الصبيان وَلَهْوٌ كلهو الشبان وزِينَةٌ كزينة النسوان وَتَفاخُرٌ كتفاخر الإخوان وَتَكاثُرٌ [الآية: 20] كتكاثر السلطان وقدم اللهو في الأعراف لأن ذلك في القيامة فذكر على ترتيب ما انقضى وبدأ بما بدأ به الإنسان وانتهى من الجانبين. وأما هذه السورة فأراد فيها ذكر سرعة زمان الآخرة، فبدأ بذكر ما هو أكثر ليكون إلى المقصود أقرب. ثم إن الحال في سورة الأنعام لما كانت حال إظهار الحسرة لم يحتج المكلف إلى وازع قوي فاقتصر على قوله وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ [الأنعام: 32] ولما كان هاهنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى وازع أقوى فقال وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ أي لا حياة إلا حياة الآخرة وليس فيها إلا حياة مستمرة دائمة بلا موت فكأنها في ذاتها حياة. ولا يخفى ما في التركيب من أنواع المبالغة من جهة «إن» ومن جهة صيغة الفصل، ولام التأكيد، وبناء الفعلان بتحريك العين وهو مصدر «حيي» بياءين لفقد ما عينه ياء ولامه واو. ولو كانا واوين لقيل: حوى مثل قوى وقياسه «حييان» بياءين قلبت الثانية واوا على منوال حيوة في اسم رجل. ولأن المبالغة هاهنا أزيد مما في الأنعام قال هاهنا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ وهنالك أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنعام: 32] لأن المعلوم أكثر مقدمة من المعقول وقد مر في السورة ثم أشار بقوله فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ إلى أن المانع من التوحيد والإخلاص هو الحياة الدنيا لأنهم إذا انقطع رجاؤهم رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد والإخلاص، فإذا نجاهم إلى البر عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا لأجلها. ثم بين أن نعمة الأمن يجب أن تقابل بالشكر لا بالكفر فقال أَوَلَمْ يَرَوْا الآية. وقد مر مثله في «القصص» . ثم ذكر أن الذين سمعوا البيانات المذكورة ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم لأن من وضع شيئا في غير موضعه فهو ظالم. فمن وضع شيئا في موضع لا يمكن أن يكون ذلك موضعه يكون أظلم، وإنهم جعلوا لله شريكا مع عدم إمكان الشريك له، فلا أظلم منهم. وأيضا من كذب صادقا يجوز عليه الكذب كان ظالما، فمن كذب صادقا لا يجوز عليه الكذب كيف يكون حاله وإنهم كذبوا النبي والقرآن؟ وفي قوله
(5/396)
لَمَّا جاءَهُ إشارة إلى أنهم لم يتلعثموا في التكذيب وقت أن سمعوه ولم يستعملوا التدبر التفكر فيما يجب أن يستعمل فيه التأني والتثبت. وهذا أيضا نوع من الظلم بل ظلم مضموم إلى ظلم. وفي قوله أَلَيْسَ معنيان بعد كون الاستفهام للتقرير. فإن أريد نفي الحال فمعناه ألم يصح عندهم أن في جهنم مثوى للكافرين حتى اجترءوا على مثل هذه الجرأة؟ وإن أريد نفي الاستقبال فالمراد ألا يثوون في جهنم وقد افتروا على الله وكذبوا بالحق؟ وقيل: هو من الكلام المنصف لأنه قدم مقدمة هي أنه لا أظلم من المفتري وهو المتنبئ ومن الذي كذب النبي. ثم ذكر أن جهنم مقام الكافر سواء كان هو المتنبئ أو المكذب للنبي فهو كقوله وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] ثم ختم السورة بآية جامعة فيها تسلية قلوب المؤمنين والمراد أن من جاهد النفس أو الشيطان الجني والإنسي فِينا أي في حقنا ومن أجل رضانا خالصا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سبيل الجنة أو سبيل الخير بإعطاء مزيد الألطاف والتوفيق. وقيل: والذين جاهدوا فيما علموا ولم يقصروا في العمل به لنهدينهم إلى ما لم يعلموا وهو قريب من قول الحكيم: إن النظر في المقدمات يعد النفس لقبول الفيض وهو النتيجة من واهب الصور الجسمانية والعقلية. وقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ أي بالنصر والإعانة إشارة إلى مرتبة أعلى من الاستدلال وهو الذي يسمى العلم اللدني، فكأنه تعالى أشار في خاتمة السورة إلى الفرق الثلاث. فأشار إلى الناقصين بقوله وَمَنْ أَظْلَمُ وذلك أنهم صرفوا الاستعداد في غير ما خلق لأجله، وإلى المتوسطين الذين يحصلون العلم بالكد بقوله وَالَّذِينَ جاهَدُوا وإلى أصحاب الحدس وصفاء الضمير بقوله وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ والله أعلم بمراده.
التأويل:
وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ بالله لأن عقولهم مؤيدة بأنوار العلم اللدني إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ الذين ينظرون بنور الله فان النور لا يرى إلا بالنور اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ فيه أن التلاوة والعمل به يجب أن يتقارنا حتى يتخلق بخلق القرآن ويحصل الانتهاء عن الفحشاء وهي طلب الدنيا. والمنكر وهو الالتفات إلى غير الله.
فإن لم تكن الصلاة متصفة بذلك فهي كلا صلاة. وَلَذِكْرُ اللَّهِ في إزالة مرض القلب أَكْبَرُ من تلاوة القرآن وإقامة الصلاة، لأن القلب لا يطمئن إلا بذكر الله، وعند الاطمئنان توجد سلامة القلب. فالذكر له خاصية الإكسير في جعل الإبريز ذهبا خالصا. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ من استعمال مفتاح الشريعة وآداب الطريقة لفتح أبواب طلسم الوجود المجازي والوصول إلى الكنز الخفي وَلا تُجادِلُوا يا أرباب القلوب أهل العلم الظاهر إلا بطريق الإنصاف والرفق إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا بمزيد الإنكار والعناد فحينئذ لا تجادلوهم إذ لا يرجى منهم قبول الحق والإذعان له، فخلوا بينهم وبين باطلهم وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا من
(5/397)
العلوم الباطنة وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من العلوم الظاهرة وَكَذلِكَ أي كما أنزلنا الدلائل والبراهين العقلية على أهل الظاهر أنزلنا عليكم الكشوف والمعارف فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وهم أرباب القلوب يصدقون به، وَمِنْ هؤُلاءِ العلماء الظاهريين من يؤمن به وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الذين يشترون الحق بالباطل وَما كُنْتَ تَتْلُوا وفيه أن القلب إذا كان خاليا عن النقوش الفاسدة كان أقبل للعلوم اللدنية كقلب النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك قال بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعني أن قلوب الخواص خزائن الغيب.
سأل موسى عليه السلام: إلهي أين أطلبك؟ فقال: أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي.
ثم أشار بقوله وَما يَجْحَدُ إلى أن الحرمان من الرؤية من خصوصية الرين ولهذا قالوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ وذلك لعمى عيون قلوبهم. ثم أشار إلى ظلومية الإنسان وجهوليته بأنه يستعجل بالعذاب مع عدم صبره عليه وَإِنَّ جَهَنَّمَ الحرص وغيره من الأخلاق الذميمة لَمُحِيطَةٌ بهم من فوقهم وهو الكبر والغضب وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وهو الحرص والشره والشهوة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ لأنهم نائمون فإذا ماتوا انتبهوا يا عِبادِيَ
أن أرض حضرة جلالي واسِعَةٌ
فهاجروا بالخروج من حبس وجودكم إلى سرادقات هويتي كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ بالاضطرار فارجعوا إلينا بالاختيار لنبوئنكم من جنة الوصال غرفا من المعارف تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أنهار الحكمة الَّذِينَ صَبَرُوا في البداية على حبس النفس بالفطام عن المرام، وفي الوسط على تجرع القلب كاسات التقدير من غير تعبير، وفي النهاية صبروا على بذل الروح لنيل الفتوح وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ شخص كالدابة لا تَحْمِلُ النظر عن رِزْقَهَا لضعف نفسها عن التوكل اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ أيها الطالبون للمشاهدات والمكاشفات لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لأن كلهم قالوا في الأزل: بلى عند خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] والفرق إثبات الشريك ونفيه وذلك لعدم إصابة النور المرشش وإصابة دليله قوله اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ بإصابته النور وَيَقْدِرُ بأخطائه إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ باستحقاق كل فريق من نزل من سماء الروحانية ماء الإيمان فأحيا به أرض القلوب لَهِيَ الْحَيَوانُ لأن جميع أجزائها حي
فقد ورد في الحديث «إن الجنة وما فيها من الأشجار والأثمار والغرف والحيطان والأنهار حتى ترابها وحصباؤها كلها حي»
قلت: ولعل ذلك لبقاء كل منها على كماله الآخر. ثم بين بقوله فَإِذا رَكِبُوا أن إخلاص المؤمن ثابت وإخلاص الكافر مضطرب ثم بين أن حرم القلب آمن وما حوله من صفات النفس ومشاهدة ربها مظنة تصرف الشيطان، فمن افترى على الله بأن لا يكون له مع الله وقت وحال ويظهر ذلك من نفسه، أو كذب طريقة أهل الحق جاهدوا فينا يخرج منه مجاهدة الرهبانيين والفلاسفة والبراهمة ونحوهم لأنهم مرتاضون رياء وكسلا.
(5/398)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10) اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
(سورة الروم)
(وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون وكلماتها ثمانمائة وتسعة عشر آياتها ستون)
[سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 32]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9)
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
(5/399)
القراآت:
عاقبة بالنصب: ابن عامر وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون:
بالرفع. السُّواى بالإمالة: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وحماد يرجعون على الغيبة: أبو عمرو غير عباس وأوقية وسهل ويحيى وحماد تخرجون بفتح التاء وضم الراء: حمزة وعلي وخلف. الباقون: مجهولا لِلْعالِمِينَ بكسر اللام: حفص يفصل على الغيبة: عباس. الآخرون: بالنون.
الوقوف:
الم كوفي غُلِبَتِ الرُّومُ هـ سَيَغْلِبُونَ هـ سِنِينَ هـ وَمِنْ بَعْدُ ط الْمُؤْمِنُونَ هـ بِنَصْرِ اللَّهِ ط وكلاهما مبني على أن قوله بِنَصْرِ اللَّهِ يتعلق ب يَفْرَحُ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ ط الرَّحِيمُ هـ وَعْدَ اللَّهِ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ الدُّنْيا ج لعطف الجملتين المختلفتين والوصل أولى غافِلُونَ هـ فِي أَنْفُسِهِمْ ط لحق الحذف أي فيعلموا ذلك أو فيقولوا هذا القول مُسَمًّى ط لَكافِرُونَ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ط بِالْبَيِّناتِ ط يَظْلِمُونَ هـ لا لأن «ثم» لترتيب الأخبار يَسْتَهْزِؤُنَ هـ يرجعون هـ الْمُجْرِمُونَ هـ والوصل جائز كافِرِينَ هـ يَتَفَرَّقُونَ هـ يُحْبَرُونَ هـ مُحْضَرُونَ هـ تُصْبِحُونَ هـ تُظْهِرُونَ هـ بَعْدَ مَوْتِها ط تُخْرَجُونَ هـ تَنْتَشِرُونَ هـ وَرَحْمَةً ط يَتَفَكَّرُونَ هـ وَأَلْوانِكُمْ ط لِلْعالِمِينَ هـ مِنْ فَضْلِهِ ط يَسْمَعُونَ هـ مَوْتِها ط يَعْقِلُونَ هـ بِأَمْرِهِ ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار دَعْوَةً لا وقيل: على من الأرض وكلاهما تعسف.
(5/400)
والحق أن قوله مِنَ الْأَرْضِ متعلق ب دَعاكُمْ كقولك دعوت زيدا من بيته لا كقولك دعوته من بيتي تَخْرُجُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط قانِتُونَ هـ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ج وَالْأَرْضِ ط الْحَكِيمُ هـ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ط لانتهاء الإخبار إلى الاستفهام كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ط يَعْقِلُونَ هـ بِغَيْرِ عِلْمٍ ج لابتداء الاستفهام مع الفاء أَضَلَّ اللَّهُ ط لتمام الاستفهام وابتداء النفي ناصِرِينَ هـ حَنِيفاً ط عَلَيْها ط لِخَلْقِ اللَّهِ ط الْقَيِّمُ هـ لا للاستدراك لا يَعْلَمُونَ هـ وقيل: لا وقف عليه بناء على أن مُنِيبِينَ حال من ضمير فَأَقِمْ على أن الأمر له ولأمته مثل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ [الطلاق: 1] والوقف أوضح لبعد العامل عن المعمول بل التقدير: كونوا منيبين بدليل قوله وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لأن قوله مِنَ الَّذِينَ كالبدل مما قبله شِيَعاً ط فَرِحُونَ هـ.
التفسير:
وجه تعلق السورة بما قبلها هو أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول للمشركين ما أمر الله به صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171] وكان يحقر آلهتهم وينسبها إلى العجز وعدم النفع والضر، وكان أهل الكتاب يوافقون المسلمين في الإله وفي كثير من الأحكام ولذلك قال وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إلى قوله وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ [العنكبوت: 46] فلا جرم أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم في الأمور. فاتفق أن بعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليهم رجلا يقال له شهريران، فسار إلى الروم بأهل فارس فظفر عليهم وقتلهم وخرب مدائنهم. وكان قيصر بعث رجلا يدعى بجنس فالتقى مع شهريران بأذرعات وبصرى وهو أدنى الشام إلى أرض العرب وإليه الإشارة بقوله أَدْنَى الْأَرْضِ لأن الأرض المعهودة عند العرب هي أرضهم أي غلبوا في أقرب أرض العرب منهم وهي أطراف الشام. وجوز جار الله أن يراد بأرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه أي في أدنى أرضهم إلى عدوهم. وهذا تفسير مجاهد لأنه قال: هي أرض الجزيرة وهي أدنى أرض الروم إلى فارس. عن ابن عباس: الأردن وفلسطين. ففرح المشركون بذلك فأنزل الله تعالى هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق فقد يبتلى المحبوب ويعجل عذابه ليسلم في الآجل. وقوله فِي أَدْنَى الْأَرْضِ إشارة إلى ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم. ثم بين أن الروم سيغلبون غلبة عظيمة بعد ذلك الضعف العظيم، وكل ذلك دليل على أن الأمر بيد الله من قبل الغلبة ومن بعدها، أو من قبل تلك المدة ومن بعد ذلك، وقد وقع كما أخبر فغلبت الروم على فارس حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هنالك الرومية،
قال المفسرون: لما نزلت الآية قال أبوبكر للمشركين: لا أقر الله أعينكم، والله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين. فقال له أبي
(5/401)
ابن خلف: كذبت يا أبا فضيل اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه، فخاطره على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعل الأجل ثلاث سنين. فأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين. فلما أراد أبوبكر أن يخرج من مكة أتاه أبي فلزمه وطلب كفيلا فكفله ابنه عبد الله بن أبي بكر، فلما أراد أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله فلزمه إلى أن أقام كفيلا ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي فمات بمكة من جراحته التي جرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم فظهرت الروم على فارس يوم الحديبية. وذلك عند رأس سبع سنين. فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يتصدق به.
قالت العلماء: إنما أبهم الوقت لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد الشاسعة قلما يحصل الاتفاق على وقتها المعين من السنة والشهر واليوم والساعة وإن كان معلوما للنبي بإعلام الله إياه، فالمعاند كان يتمكن من الإرجاف بوقوع الواقعة قبل وقوعها ليحصل الخلف في الميعاد ولكن المعاند لا يتمكن من إنكار الواقعة في البضع، وَيَوْمَئِذٍ أي يوم يغلب الروم فارس ويحصل ما وعد الله من غلبتهم يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ وبغلبة من له كتاب على من لا كتاب له، أو بغيظ الشامتين بهم من كفار مكة. وقيل: نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبر به نبيهم من غلبة الروم.
وعن أبي سعيد الخدري: وافق ذلك يوم بدر وهو المراد بنصر الله، وذلك أن خبر الكسر لم يصل إليهم في ذلك اليوم بعينه فلا يكون فرحهم يومئذ بل الفرح يحصل بعده، ولناصر القولين الأولين أن يقول: أقيم سبب الفرح، مقام الفرح أو المراد باليوم الوقت الواسع الشامل لما بين زمان وقوع الكسر إلى زمان وصول خبر الكسر الموجب للفرح. ومن علق قوله بِنَصْرِ اللَّهِ بقوله يَنْصُرُ بناء على أن المقصود بيان أن النصرة بيد الله لا بيان وقوع النصرة لم يقف هاهنا ووقف على الْمُؤْمِنُونَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فإذا سلط العدو على الحبيب فلعزته واستغنائه عن العالمين، وإذا نصر الحبيب فلرحمته عليه. أو نقول: إن نصر المحب فلعزته واستغنائه عنه ورحمته في الآخرة واصلة إليه. وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه لأن ما سبق في معنى الوعد وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه لا خلف في وعده لأنهم بله في أمور الدين. وفي إبدال قوله يَعْلَمُونَ من قوله لا يَعْلَمُونَ أو في بيان هذا بذاك إشارة أن العلم بأمور الدنيا كالجهل المطلق، وفي تنكير ظاهِراً إشارة إلى قلة علمهم بظاهر الدنيا أيضا وفي تكرير «هم» إشارة إلى أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكرة حاصلة وظاهر الدنيا ملاذها وملاعبها وباطنها مضارها ومتاعبها.
هي الدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذار من سفكي وفتكي
(5/402)
فلا يغرركم طول ابتسامي ... فقولي مضحك والفعل مبكي
ثم أشار إلى وجه التفكر بقوله أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا وقوله فِي أَنْفُسِهِمْ يتعلق به أما تعلق الظرف بالفعل كأنه قال: أو لم يحدثوا التفكر في قلوبهم الفارغة فيكون كما لو قلت لأجل زيادة التصوير اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك مع أن الاعتقاد لا يكون إلا في القلب، والإضمار لا يوجد إلا في النفس. وأما تعلق الجار بالفعل كقولك: تفكر في الأمور. وذلك أنه إذا تفكر في نفسه التي هي أقرب الأشياء إليه وقف على غرائب الحكم ودقائق الصنع التي أودعها الله تعالى فيها كما يكفل بيان بعضها علم التشريح فجره ذلك إلى العلم بأنه سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا متلبسا بالغرض الصحيح الذي أودعه الله فيها، وبتقدير أجل مسمى هو وقت الجزاء والحساب، ثم في الآية تقريران:
أحدهما يناسب أصول الأشاعرة وهو أن دلائل الأنفس منجرة إلى دلائل الآفاق المذكورة للتوحيد وللعلم بالإله القادر المختار الصادق كلامه، لكنه أخبر عن تخريب السموات والأرض وعن حشر الأجساد وانتهاء الجسمانيات إلى الإفناء ثم الإعادة في الوقت المعلوم فيكون الأمر على ما أخبر. وثانيهما يتوقف على أصول المعتزلة، وهو أن التفكر في النفس يجذب بصنعه إلى معرفة الإله الحكيم الذي لا يفعل العبث والجزاف، فإنه خلق السموات وغيرها من الأجسام لمنافع المكلفين، وإذا انتهى التكليف فلا بد من تخريب السموات والأرض وانتهاء الأمر إلى حالة الجزاء واللقاء كيلا تنخرم قاعدة الحكمة والتدبير ورعاية الصلاح والعدل. ثم قال وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ وقد قال قبل ذلك وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لأنه قد ذكر دليلا على الأصول، ولا شك أن الإيمان بعد الدليل يكون أكثر من الإيمان قبل الدليل فلا يبقى الأكثر كما هو فعبر عن الباقي بالكثير. قال في الكشاف والمراد بِلِقاءِ رَبِّهِمْ الأجل المسمى، والأشاعرة يحملونه على الرؤية، واعلم أن دليل الأنفس مقدم على دليل الآفاق، لأن الإنسان قلما يذهل عن نفسه، وأن نفسه أقرب الأشياء إليه نظير الآية قوله سبحانه الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 191] أي يعرفون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال، ويتفكرون في خلق السموات والأرض بدلائل الآفاق. وإنما أخر الأنفس في قوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] لإن الإراءة إنما يفتقر إليها في معرفة الأبعد الأخفى كأنه قال: سنريهم آياتنا الآفاقية فإن لم يفهموها فآيات الأنفس معلومة. وهذا الترتيب لا يناسب التفكر بل الفكر يتصور دليل الأنفس أولا ثم يرتقي إلى دليل الآفاق فظهر أن كل آية وردت على ما اقتضته الحكمة والبلاغة. وحين ذكر دليل النفس الذي لا يقع الذهول عنه إلا
(5/403)
ندرة ارتقى إلى دليل السموات والأرض الذي يقع الذهول عنه في كثير من الأحوال لكنه لا يحتاج إلا إلى التفات ذهني، ثم أتبعه دليل الآفاق الذي يتوقف على السير والتحول ليقفوا على أمر أمثالهم. وحكاية أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك لأن من تقدمهم كعاد وثمود كانوا أشد منهم قوة جسمانية وأثاروا الأرض حرثوها وهو إشارة إلى القوة المالية. ثم أشار إلى القوة الظهرية التي يستند إليها عند الضعف والفتور وهي الحصون والعمائر بقوله وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها هؤلاء يعني أهل مكة كانوا أهل واد غير ذي زرع ما لهم أثارة أرض أصلا ولا عمارة لها رأسا، ففيه نوع تهكم بهم. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة وفي آخر «فاطر» وفي «المؤمن» أَوَلَمْ يَسِيرُوا بالواو وفي غيرهن أفلم بالفاء لأن ما قبلها في هذه السورة أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا وما بعدها وَأَثارُوا بالواو فوافق ما قبلها وما بعدها. وكذا في «فاطر» ما قبله وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا وما بعده وَما كانَ [الآية: 43، 44] وفي «المؤمن» ما قبله وَالَّذِينَ يَدْعُونَ وأما في آخر «المؤمن» فما قبله أَيَّ آياتِ اللَّهِ
وما بعده فَما أَغْنى عَنْهُمْ [الآية: 82] وكلاهما بالفاء. قوله في هذه السورة مِنْ قَبْلِهِمْ متصل بكون آخر مضمر. وقوله كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وكذا معطوفاه إخبار عما كانوا عليه قبل الإهلاك. وإنما قال في «فاطر» وَكانُوا بزيادة الواو لأن التقدير فينظروا كيف أهلكوا وكانوا أشد، وخصت السورة به لقوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ [فاطر: 44] وقال في «المؤمن» كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ فأظهر «كان» وزاد لفظه «هم» لأن الآية وقعت في أوائل قصة موسى وهي تتم في ثلاثين آية، فكان اللائق به البسط دون الوجازة ولم يبسط هذا البسط في آخر السورة اكتفاء بالأول والله أعلم. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بوضع الأنفس الشريفة في موضع خسيس هو عبادة الأصنام. قال أهل السنة: هذا الوضع كان بمشيئة الله وإرادته لكنه صدر عنهم فأضيف إليهم والسوأى تأنيث الأسوإ وهو الأقبح وهي خبر «كان» فيمن قرأ عاقِبَةَ بالرفع واسم «كان» فيمن قرأ عاقِبَةَ بالنصب. و «ثم» لتفاوت الرتبة، وفي التركيب وضع للمظهر موضع المضمر. والمعنى أنهم أهلكوا ثم كانت عاقبتهم السوأى وهي عذاب النار. وأَنْ كَذَّبُوا المعنى لأن «أو» بأن كذبوا أو هو تفسير أساؤا على أن الإساءة في
معنى القول نحو: نادى وكتب معناه أي كذبوا وجوز جار الله أن يكون السوأى مفعول أَساؤُا وأَنْ كَذَّبُوا عطف بيان لها، وخبر «كان» محذوف إرادة الإبهام ليذهب الوهم كل مذهب فيكون تقدير الكلام. ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا أن كذبوا كذا وكذا مما لا يكتنه كنهه. قال أهل التحقيق: ذكر الزيادة في حق المحسن في قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يوسف: 26] ولم يذكر في الحق المسيء لأن جزاء
(5/404)
سيئة سيئة بمثلها، وذكر السبب في العقوبة وهو قوله أَنْ كَذَّبُوا ولم يذكره في الآية ليعلم أن إحسانه لا يتوقف على السبب بل فضله كاف فيه.
وحين ذكر أن عاقبتهم النار وكان في ذلك إشارة إلى الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة فقال اللَّهُ يَبْدَؤُا يعني من خلق بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة. ثم بين ما يكون وقت الرجوع فقال وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ يعني في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم وهو سكوت مع تحير ويأس مع بؤس ويأس لا اليأس الذي هو إحدى الراحتين وذلك إذا كان المرجو أمرا غير ضروري فيستريح الطامع من الانتظار.
ثم ذكر وجه الإبلاس وذلك قوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ يجحدونها وقتئذ بقوله سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [مريم: 82] أو وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم. ثم حكى أنهم يعني المسلمين والكافرين يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فريق في الجنة وفريق في السعير تفصيله في الآيتين بعده والروضة عندهم كل أرض ذات نبات وماء. وفي الأمثال «أحسن من بيضة في روضة» يعنون بيضة النعامة وتنكير روضة للتعظيم ومعنى يُحْبَرُونَ يسرون بأنواع المسار لحظة فلحظة. حبره إذا سره سرورا تهلل ببشر. وخصه مجاهد بالتكريم، وقتادة بالتنعيم، وابن كيسان بالتحلية، ووكيع بالسماع.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن في الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء رخصة يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة» «1»
قال الراوي: سألت أبا الدرداء بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح.
وروي أن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا.
وأما معنى مُحْضَرُونَ لا يغيبون عنه وقد مر في قوله ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص: 61] وإنما أهمل ذكر الفسقة من أهل الإيمان اكتفاء بما ذكر في الآيات الأخر كقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء:
48] وكقوله إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إلى قوله تُبْتُ الْآنَ [النساء: 17- 18] قال جار الله: لما ذكر الوعد والوعيد أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد وقال آخرون: لما ذكر عظمته في المبدأ بقوله ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وفي الانتهاء بقوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ وكرر ذكر قيام الساعة للتأكيد والتخويف، أراد أن ينزه نفسه عن كل سوء ويثبت لذاته كل حمد ليعلم أنه منزه عن طاعات المطيعين، محمود على كل ما يوصل
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الجنة باب 24.
(5/405)
إلى المكلفين، مذكور على لسان أهل السموات والأرضين. والتسبيح في الظاهر هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما في كل منها من كل نعمة متجددة.
وخص بعضهم التسبيح بالصلاة لما روي عن ابن عباس أنه قال تُمْسُونَ صلاتا المغرب والعشاء وتُصْبِحُونَ صلاة الفجر وَعَشِيًّا صلاة العصر ويَظْهَرُونَ صلاة الظهر أمر بالصلاة في أول النهار ووسطه وآخره، وأمر بالصلاة أول الليل ووسطه وهو العشاء
بقوله صلى الله عليه وسلم «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وبتأخير العشاء إلى نصف الليل»
ولم يأمر بالصلاة في آخر الليل لأن النوم فيه غالب وإنه منّ على عباده بالاستراحة في الليل بالنوم في مواضع منها قوله وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ [الروم: 23] كما يجيء. روي عن الحسن أن الآية مدنية بناء على أنه كان يقول: فرضت الصلوات الخمس بالمدينة وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقت معلوم. وقول الأكثر إن الخمس فرضت بمكة. قوله وَعَشِيًّا معطوف على حِينَ وما بينهما وهو قوله وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اعتراض.
قال جار الله: معناه إن على المميزين كلهم من أهل السموات والأرض أن يحمدوه قلت:
فيه أيضا أن الله غني عن تسبيح المسبحين فلو لم يحمده حامد فله استئهال الحمد على الإطلاق ولو حمدوه لعاد نفعه إليهم. وقدم الإمساك لأن الظلمة عدمية والأصل في الأشياء العدم، وقدم العشي على الظهيرة لأجل الفاصلة أو للتنبيه على فضيلة صلاة العصر، ولعل في تقديم الاعتراض المذكور على العشي إشارة إلى هذا ومعنى ويُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قد سلف مرارا ويحتمل أن يراد هاهنا اليقظان والنائم لقوله وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي من القبور، فتنبيه النائم بعد اليقظة يشبه الإعادة، وكذا رد الأرض إلى حالة الخضرة والنضرة بعد ذبولها.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فاته من يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته من ليلته»
ثم أراد أن يذكر الحجج الباهرة على استحقاق التسبيح والتحميد له فقال وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ أي أصلكم أو كلا منكم كما مر في أول الحج مِنْ تُرابٍ وذلك أن التراب أبعد الأشياء عن درجة الإحياء لكثافته ولبرودته ويبسه والحياة بالحرارة والرطوبة، ولكدورته والروح نير ولثقله وخفة الأرواح ولسكونه والحي متحرك حساس. ولا تتنافي بين هذا وبين قوله خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً [الفرقان: 54] لأنه أراد الأصل الثاني الذي هو النطفة، أو أراد أن أصل البشر في الظاهر هو التراب والماء وأما النار فللإنضاج، والهواء فللاستبقاء كالزق المنفوخ يقوم بالهواء، وثُمَّ لتبعيد الرتبة وإِذا للمفاجأة أي ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا.
قالوا: فيه إشارة إلى مسألة حكمية وهي أن الله تعالى يخلق أولا إنسانا فيتبعه أنه حيوان تام لا أنه يخلق أولا حيوانا ثم يجعله إنسانا، فخلق الأنواع هو المراد الأول ثم تكون الأنواع
(5/406)
فيها الأجناس بتلك الإرادة الأولى. وقوله بَشَرٌ إشارة إلى القوة المدركة التي البشر بها بشرو بها يمتاز عن غيره من الحيوانات. وقوله تَنْتَشِرُونَ إشارة إلى القوة المتحركة التي بها الحيوان حيوان فكأنه أشار إلى فصله وجنسه، وكان الأولى تقديم الجنس على الفصل، إلا أنه عكس الترتيب لأنه كأنه قال: العجب غير مختص بالإنسان بل الحيوان المنتشر من التراب الساكن عجيب أيضا. والانتشار إما بمعنى التردد في الحوائج كقوله فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] وإما بمعنى البث والتفريق كقوله وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النساء: 1] .
وحين بين خلق الإنسان ولم يكن مما يبقى على مر الزمان منّ عليهم بأن جعل نوع الإنسان باقيا بتعاقب الأشخاص فقال وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ ولا يلزم منه أن لا يكنّ مخلوقات للعبادة والتكليف لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، فقد يكون الشيء مختصا باثنين وجعل مهيأ لآخرين على أن النعمة ما كانت تتم علينا إلا بتكليفهن، فلولا خوف العقاب لتمردت النسوان على أزواجهن. ومِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم أو هو إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم وقد مر في «النحل» ويشهد للتفسير الأول قوله لِتَسْكُنُوا إِلَيْها فإن الجنس إلى الجنس أسكن وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً عن الحسن هي الجماع وَرَحْمَةً هي الولد. وقال غيره: المودة حالة حاجة نفسه إليها، والرحمة حالة حاجة صاحبته إليه، وقد تفضي المودة إلى مجرد الرحمة وذلك إذا خرجت عن محل الشهوة بكبر أو مرض، أو خرج عن إمكان رعاية حقها بكبر أو زمانة أو فقر. قال بعضهم:
المودة والرحمة بعصمة الزواج من غير سابقة معرفة وقرابة وهي من قبل الله، والفرك من قبل الشيطان إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق والجعل لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فخلق الإنسان من الوالدين آية، وجعل أحدهما ذكرا والآخر أنثى آية، وخروج الولد الضعيف من الموضع الضيق آية، وجعل التوادد بين الزوجين من غير صلة رحم آية ولما ذكر دلائل الأنفس أتبعها دلائل الآفاق وأعظمها خلق السموات والأرض، فإن خلق المركبات قد يسنده بعض الجهلة إلى ما في العناصر من الكيفيات وإلى ما في السموات من الحركات والاتصالات، وأما السماء والأرض فلا يجد بدا من أن يقول: إنهما بقدرة الله تعالى. ثم عاد إلى ذكر أحوال الأنفس ومن جملتها اختلاف الألسنة لا جرمها، فإن التباين بين أجرامها ليس يبلغ إلى حد يعد آية بل وصفها وهو النطق وتقطيع الأصوات اللذان بهما يمتاز بعض الأصناف والأشخاص عن بعض، واختلاف الألوان والحلي فبذلك يقع التفاوت ويرتفع الاشتباه، فحس البصر يدرك اختلاف الصور وحسن السمع يدرك اختلاف الأصوات وأما اللمس
(5/407)
والشم والذوق فلا حكم ظاهرا لها في باب التمييز بين الأشخاص الإنسانية. وحيث ذكر بعض العرضيات اللازمة أراد أن يذكر الأعراض المفارقة بعضها فقال وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ قال جار الله: هذا من باب اللف والنشر وتقدير الكلام. ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار ليكون موافقا لما جاء في مواضع أخر كقوله وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ: 10، 11] وقدم المنام على الابتغاء لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة قال: وإنما فصل بين القرينتين الأوليين بالقرينتين الآخريين لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد يعني كأنه لم يعطف النهار على الليل والابتغاء على المنام. وجوز أن يراد منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، فان الإنسان كثيرا ما ينام بالنهار ويكسب بالليل. وفي اقتران الفضل بالابتغاء إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من نفسه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه. ثم أشار إلى عوارض الآفاق فقال وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ فأضمر «أن» وأسكن الياء بعد حذفها وإنزال الفعل منزلة المصدر كما في المثل السائر «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» قيل: لما كان البرق من الأمور التي تتجدد زمانا دون زمان ذكره بلفظ المستقبل ولم يذكر معه «أن» وقيل: ومن آياته كلام كاف كما تقول: منها كذا ومنها كذا.
وتسكت تريد بذلك الكثرة: وقيل: أراد ويريكم من آياته البرق. وانتصاب خَوْفاً وَطَمَعاً كما مر في «الرعد» ثم ذكر بعض لوازم الآفاق قائلا وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ فقيام السموات والأرض استمساكهما بغير عمد، ومن نسب ذلك إلى الطبيعة فلا بد أن يستند الطبع إلى واجب لذاته وأمره أن يقول لهما كونا كذلك نظيره قوله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ إلى قوله مِنْ بَعْدِهِ [فاطر: 41] واعلم أن الأمر عند المعتزلة موافق للإرادة، وعند الأشاعرة ليس كذلك. ولكن النزاع في الأمر الذي هو للتكليف لا الذي للتكوين، فإن قوله كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] موافق للإرادة بالاتفاق. قال جار الله: قوله إِذا دَعاكُمْ بمنزلة قوله يُرِيكُمُ في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى كأنه قال: ومن آياته قيام السموات والأرض، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاكم مرة واحدة يا أهل القبور اخرجوا والمراد سرعة الخروج من غير توقف وإلا فلا أمر ظاهرا. أو أراد نداء الملك والأرض مكان المدعو على التقديرين لا الداعي إذ لا مكان لله مطلقا ولا للملك في جوف الأرض. نعم، لو كان المراد أن الملك يدعوهم وهو على وجه الأرض جاز. ومعنى «ثم» عظم ما يكون من ذلك الأمر وتهويل لتلك الحالة، وإذا الأولى للشرط، والثانية للمفاجأة نائبة مناب الفاء.
واعلم أنه تعالى ذكر في كل باب أمرين: أما من الأنفس فخلق البشر ثم خلقهم زوجين،
(5/408)
وأما من الآفاق فخلق السموات والأرض. ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان والألوان، ومن عوارضه المنام والابتغاء، ومن عوارض الآفاق البروق والأمطار، ومن لوازمها قيام السماء والأرض. والواحد يكفي للإقرار بالحق، إلا أن الثاني يجري مجرى الشاهد الآخر.
وراعى في تعداد العرضيات لطيفة، بدأ باللوازم وختم باللوازم وذلك أن الإنسان متغير الحال، فالأحوال اللازمة له أغرب والأفلاك ثابتة بالنسبة إلى الإنسان فعوارضها أغرب، وبدأ في كل باب بما هو أعجب، وإنما ختم الآية الأولى بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لأن الفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المقتضية للإنس والسكون وعلى دقائق صنع الله في خلق الإنسان وبثهم في الأرض، أو نقول: إن من الأشياء ما يعلم بمجرد الفكر كدقائق حكمة الله في خلق الإنسان، لأن أقرب الأشياء إلى الإنسان هو ذاته فلذلك قال هنالك لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ومنها ما يعلم من غير تجشم فكر كالاستدلال على قدرة الله بخلق السماء والأرض، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، فإن الكل تظلهم السماء وتقلهم الأرض.
وكل واحد منفرد بلطيفة في صورته يمتاز بها عن غيره، ولهذه يشترك في معرفتها الناس جميعا فلهذا قال لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ ومن حمل اختلاف الألسن على اللغات اختلاف الألوان على البياض والسواد والصفرة والسمرة، فالاشتراك في معرفتها أيضا ظاهر. ومن قرأ لِلْعالِمِينَ بكسر اللام فقد أحسن، فبالعلم يمكن الوصول إلى معرفة ما سبق ذكره، ومن الأشياء ما يحتاج الفكر فيه إلى إعانة مرشد كالمنام والابتغاء فإنهما لزوالهما في بعض الأوقات قد يرفعان لوازمهما فلهذا قال لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن معنى يَسْمَعُونَ هاهنا يستجيبون لما يدعون إليه، ثم إن حدوث الولد من الوالدين كالأمر المطرد العادي فكان الولد يمكن أن يسبق إلى الوهم إسناده إلى الطبيعة فأمر هنالك بالفكر. وأما البرق والمطر فليس أمرا عاديا ولذلك يختلف بالشدة والضعف وبحسب الأوقات والأمكنة فالعقل الصحيح يجزم بأن من فعل الفاعل المختار فلذلك قال لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وقيل: إن العقل ملاك الأمر وهو المؤدي إلى العلم فوقع الختم عليه. وحين فرغ من تعداد الآيات وكان مدلولها الوحدانية التي هي الأصل الأول والقدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر أكد الأول بقوله وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ مطيعون منقادون وأكد الأصل الآخر بل كلا الأصلين بقوله وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ يعني أن يعيده أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي في نظركم وعند معقولكم وإلا فلا صعوبة في الإبداء أصلا حتى يقع التفضيل على حده. وإنما أخرت الصلة هاهنا وقدمت في قوله في سورة مريم وهُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم: 9] لأنه قصد هناك الاختصاص يعني أن خلق الولد
(5/409)
بين هرم وعاقر لا يهون إلا علي. ولا معنى للاختصاص هاهنا فإن الأمر مبني على المعقول بين الآدميين من ان المعاد أهون من المبدأ ولهذا قيل: أول الغزو أخرق. وليس الدخيل في أمر كالناشىء عليه. ومن الدليل العقلي على هذا المطلوب أن الإبداء خلق الأجزاء وتأليفها، والإعادة تأليف فقط، ولا شك أن أمرا واحدا أهون من الأمرين ولا يلزم منه أن يكون في الأمرين صعوبة فإن من قال: الرجل القوي يقدر على حمل شعيرة من غير صعوبة وسلم السامع له ذلك فإذا قال فلان لا يتعب من حمل خردلة وإن حمل خردلة أهون عليه.
كان كلاما معقولا وقد أجرى الزجاج قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مجرى المثل فيما يصعب ويسهل. وفسر به قوله وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى يعني هذا مثل مضروب لكم في الأرض وله المثل الأعلى من هذا المثل ومن كل مثل يضرب في السموات فيما بين الملائكة. وعن ابن عباس: أراد أن فعله وإن شبهه بفعلكم ومثله به لكنه ليس كمثله شيء فله المثل الأعلى وقال جار الله: المثل الوصف أي له الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به ووصف في السموات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وهو أنه القادر الذي يقدر على الخلق والإعادة، العليم الذي لا يعزب عن علمه شيء فلا يصعب عليه جمع الأجزاء بعد تفرّقها على الوجه الذي يقتضيه التدبير ولهذا ختم الآية بقوله: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وعن مجاهد: المثل الأعلى وصفه بالوحدانية وهو قوله «لا إله إلا الله» وقد ضرب لذلك مثلا. ومعنى مِنْ أَنْفُسِكُمْ أنه أخذ مثلا وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم و «من» للابتداء وفي قوله مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ للتبعيض، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. والمعنى هل ترضون لأنفسكم أن يكون لكم شركاء من بعض عبيدكم يشاركونكم فيما رزقناكم من الأموال والأملاك فَأَنْتُمْ يعني بسبب ذلك أنتم أيها السادات والعبيد في ذلك المرزوق سَواءٌ من غير تفضيل وففضل للأحرار على العبيد تَخافُونَهُمْ أن تستبدوا بتصرف دونهم كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كما يهاب بعضكم بعضا من الأحرار.
والحاصل أن من يكون له مملوك لا يكون شريكا له في ماله ولا يكون له حرمة كحرمة سيده فكيف يجوز أن يكون عباد الله شركاء له أو شفعاء عنده بغير إذنه؟ وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة مثل عظمة الله حتى يعبدوا كعبادته على أن مملوككم ليس مملوكا لكم في الحقيقة ليس إلا اختصاص المبايعة، ولهذا لا حكم لهم عليهم بالقتل والقطع وبالمنع من الفرائض وقضاء الحاجة والنوم. وقد يزول الاختصاص بالبيع والعتق ومملوك الله لا خروج له من ملكه بوجه من الوجوه وفي قوله فِي ما رَزَقْناكُمْ إشارة إلى أن الذي هو لكم ليس في الحقيقة لكم وإنما الله استخلفكم فيه ورزقكموه من فضله كَذلِكَ أي مثل هذا التفصيل والتبعيد للتعظيم أو لدخوله في حيز الذكر أو المضي نُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها لِقَوْمٍ
(5/410)
يَعْقِلُونَ
لأن التمثيل إنما يكشف المعاني لأرباب العقول.
ثم شوه صورة الشرك بقوله بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي أشركوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فهوى العالم ربما يتبدل بالهدى وأما الجاهل فإنه هائم في هواه كالبهائم لا يرجى ارعواه يؤكده قوله فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ والإضلال هاهنا لا يخفى أن الأشاعرة يحملونه على خلق الضلال في المكلف، والمعتزلة يحملونه على الخذلان ومنع الألطاف وقد تقدم مرارا. ثم قال لرسوله ولأمته تبعية إذا تبين الحق وظهرت الوحدانية فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي سدده نحوه غير مائل إلى غيره من الأديان الباطلة فِطْرَتَ اللَّهِ أي الزموها أو عليكم بها. قال جار الله: إنما أضمرته على خطاب الجماعة لقوله مُنِيبِينَ وهو حال منهم ولأن الأمر والنهي بعده معطوفان عليه لكنك قد عرفت في الوقوف أن هذا التقدير غير لازم وعلى ذلك يحتمل أن يقدر الزم أو عليك أو أخص أو أريد وأشباه ذلك.
وفطرة الله هي التوحيد الذي تشهد به العقول السليمة والنظر الصحيح كما
جاء في الحديث النبوي «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه» «1» .
ويحتمل أن تكون الفطرة إشارة إلى أخذ الميثاق من الذر. وقوله لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ نفي في معنى النهي أي لا تبدلوا خلقه الذي فطركم عليه لكن الإيمان الفطري غير كاف.
وقيل: هو تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يؤمن قومه فكأنه قال: إنهم أشقياء ومن كتب شقيا لم يسعد. وقيل: أراد أن الخلق لا خروج لهم عن عبوديته بخلاف مماليك الإنسان فإنهم قد يخرجون من أيديهم بالبيع والعتق. وفيه فساد قول من زعم أن العبادة لتحصيل الكمال فإذا كمل العبد لم يبق عليه تكليف، وفساد قول الصابئة وبعض أهل الشك أن الناقص لا يصلح لعبادة الله وإنما الإنسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله، وفساد قول النصارى والحلولية أن الله يحل في بعض الأشخاص كعيسى وغيره فيصير إلها. ومعنى فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً قد مر في آخر «الأنعام» وأنهم فرق كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها وقال أهل التحقيق: بعضهم يعبد الدنيا وبعضهم يعبد الهوى وبعضهم يريد الجنة وبعضهم يطلب الخلاص من النار. ومعنى كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ قد مر في «المؤمنين» وجوز جار الله أن يكون مِنَ الَّذِينَ منقطعا عما قبله وكُلُّ حِزْبٍ مبتدأ وفَرِحُونَ صفة كل ومعناه من المفارقين دينهم كل حزب بصفة كذا والله أعلم.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 80. كتاب تفسير سورة 30 باب 1. مسلم في كتاب القدر حديث 22، 23، 24، أحمد في مسنده (2/ 315، 346) .
(5/411)
التأويل:
الألف ألفة طبع المؤمنين، واللام لوم طبيعة الكافرين، والميم مغفرة رب العالمين، فمن الألفة أحبوا أهل الكتاب، ومن اللوم أبغضهم الكافرون، ومغفرة رب العالمين شملت الفريقين حتى قال إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً [الزمر: 53] إلا أن يكون هناك مخصص. ثم أشار إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة وسيغلب روم القلب فارس النفس بتأييد الله ونصره فِي بِضْعِ سِنِينَ من أيام الطلب وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ وهم الروح والسر والعقل. أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي استعداد أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ الروحانية وَالْأَرْضَ النفسانية إلا ليكون مظهرا للحق ولأجل مسمى بالصبر والثبات في تصفية مرآة القلوب عن صدا الأوصاف الذميمة النفسانية. والأجل المسمى هو أوان صفاء القلب متوجها إلى الحق أَوَلَمْ يَسِيرُوا في أرض البشرية بالسلوك لتبديل الأخلاق والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم الفلاسفة والبراهمة المعتمدون على مجرد البراهين من غير اعتبار الشرائع. والسوأى هي أن صاروا أئمة الكفر والضلال. اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بتصيير النفس متعلقة بالقالب ثُمَّ يُعِيدُهُ بطريق السير والسلوك والعبور عن المنازل والمقامات إلى عالم الأرواح ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بجذبة ارْجِعِي [الفجر: 28] وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ الإرادة يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ بتضييع الأوقات في طلب ما سوى الله. ويوم تقوم الساعة قيامة العشق يومئذ تتفرق المحبون، فبعضهم يطلب الجنة، وبعضهم يطلب الوصلة، وبعضهم يريد الوحدة فَسُبْحانَ اللَّهِ حين تغلبون على ليل نيل الشهوات وحين صباح نهار تجلي شموس الوصال، وله الحمد إن كنتم في سموات القربات أو أرض البعد والغفلات، وسبحانه في عشاء غشاء القساوة وفي حالة استواء شمس المعرفة في وسط سماء القلب، فإن الربح الخسران في كلتا الحالتين راجع إلى الطائفتين والله منزه عن العالمين. يخرج القلب الحي بنور الله من النفس الميتة في ظلمات صفاتها إبرازا للطفه، ويخرج القلب الميت عن الأخلاق الحميدة من النفس الحية بالصفات الحيوانية، إظهارا لقهره، ويحيي أرض القلوب بعد موتها وكذلك تخرجون بدأ وإعادة. فمن آياته خلق سموات القلوب وأرض النفوس، واختلاف ألسنة القلوب وألسنة النفوس، فلسان القلب يتكلم بلغة العلويات، ولسان النفس يتكلم بلغات السفليات واختلاف أَلْوانِكُمْ وهي الطبائع المختلفة. منكم من يريد الدنيا، ومنكم من يريد الآخرة ومنكم من يريد الله وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ في ليل البشرية وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ في نهار الروحانية والمكاشفات الربانية لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ كلام الله من شجرة الوجود، ويريكم بروق شواهد الحق ثم اللوامع ثم الطوالع. فتلك الأنوار ترى شهوات الدنيا نيرانا فيخاف منها، وترى مكاره التكاليف جنانا فيطمع فيها. أن تقوم سماء النفس وأرض القلب بأمره لأن
(5/412)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
الروح من أمره ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ بجذبة ارْجِعِي [الفجر: 28] إِذا أَنْتُمْ يعني النفس والقلب والروح تَخْرُجُونَ من أنانية وجودكم وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ لأنه في البداية كان مباشرا بنفسه وفي الإعادة يكون المباشر إسرافيل بنفخه، والمباشرة بنفس الغير في العمل أهون من المباشرة بنفسه عند نظر الخلق. ويحتمل أن يكون أهون من الهون بالضم وهو الذلة والضمير للخلق، وذلك أنهم في البداية لم يكونوا ملوثين بلوث الحدوث، ولا مدنسين بأدناس الشرك والمعاصي، فلعزتهم في البداية باشر خلقهم بنفسه، ولهونهم في الإعادة باشرهم بغيره، وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فيما أودع من الآيات في سموات الأرواح وأرض القلوب. ضَرَبَ لَكُمْ أي للروح والقلب والسر والعقل مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من الأعضاء والجوارح والحواس والقوى فِي ما رَزَقْناكُمْ من العلوم والكشوف تَخافُونَهُمْ أن لا يضيعوا شيئا من المواهب بالتصرفات الفاسدة كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كخيفة الروح من القلب أن لا يضيع شيئا منها بأن يصرفها في غير موضعها رياء وسمعة وهوى، أو كخيفة القلب من السر والعقل بأن يصرفها فيما يفسد العقائد ويوقع في الشكوك. فكما لا يصلح هؤلاء لشركتكم فكذلك لا تصلحون أنتم لشركتي إذا تجليت عليكم، فدعوى الاتحاد والحلول باطلة والكبرياء ردائي لا غير.
[سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 60]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52)
وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)
(5/413)
القراآت:
آتَيْتُمْ مِنْ رِباً مقصورا: ابن كثير لتربوا بضم التاء وسكون الواو على الجمع: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب لنذيقهم بالنون: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل يرسل الريح على التوحيد: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف كسفا بالسكون: يزيد وابن ذكوان آثارِ على الجمع: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد ضَعْفٍ وما بعده بفتح الضاد: حمزة وعاصم غير للفضل. الباقون: بالضم وهو اختيار خلف وحفص لا يَنْفَعُ بياء الغيبة: حمزة وعلي وخلف وعاصم. والآخرون: بتاء التأنيث لا يَسْتَخِفَّنَّكَ بالنون الخفيفة: رويس عن يعقوب.
الوقوف:
يُشْرِكُونَ هـ لا وقد يوقف على توهم لام الأمر آتَيْناهُمْ ط للعدول إلى الخطاب وابتداء أمر التهديد فَتَمَتَّعُوا قف لاستئناف التهديد تَعْلَمُونَ هـ يُشْرِكُونَ هـ بِها ج ط فصلا بين النقيضين يَقْنَطُونَ هـ وَيَقْدِرُ ج يُؤْمِنُونَ هـ وَابْنَ السَّبِيلِ
(5/414)
ط وَجْهَ اللَّهِ ز ط الْمُفْلِحُونَ هـ عِنْدَ اللَّهِ ج ط لعطف جملتي الشرط الْمُضْعِفُونَ هـ يُحْيِيكُمْ ط شَيْءٍ ط يُشْرِكُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ مِنْ قَبْلُ ط مُشْرِكِينَ هـ يَصَّدَّعُونَ هـ كُفْرُهُ ج لما مر يَمْهَدُونَ هـ لا وقد يوقف على جعل اللام للقسم وحذف نون التأكيد مِنْ فَضْلِهِ هـ الْكافِرِينَ هـ تَشْكُرُونَ هـ جْرَمُوا
ط وقيل:
يوقف على قًّا
أي وكان الانتقام حقا. ثم ابتدأ علينا أي واجب عليناصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
هـ خِلالِهِ ط ج للشرط مع الفاء يَسْتَبْشِرُونَ هـ لَمُبْلِسِينَ هـ مَوْتِها ط الْمَوْتى ج لاتفاق الجملتين مع العدول عن بيان الإحياء إلى بيان القدرة قَدِيرٌ هـ يَكْفُرُونَ هـ مُدْبِرِينَ هـ ضَلالَتِهِمْ ط مُسْلِمُونَ هـ وَشَيْبَةً ط ما يَشاءُ ج ط لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقول الْقَدِيرُ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ لا لأن ما بعده جواب القسم غَيْرَ ساعَةٍ ط يُؤْفَكُونَ هـ يَوْمِ الْبَعْثِ ز لاختلاف الجملتين مع اتحاد المقول لا تَعْلَمُونَ هـ يُسْتَعْتَبُونَ هـ مَثَلٍ ط مُبْطِلُونَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ لا يُوقِنُونَ هـ.
التفسير:
لما بين التوحيد بالدلائل وبالمثل بين أنه أمر وجداني يعرفونه في حال الضر والبلاء وإن كانوا ينكرونه في حال الرحمة والرخاء، وفي لفظي المس والإذاقة دليل على أن الإنسان قليل الصبر في حالتي الضراء والسراء. وإنما قال إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ ولم يقل «إذا هم يشركون» كما قال في آخر «العنكبوت» ، لأن الكلام هناك مع أهل الشرك وهاهنا مع الناس كلهم وليس كل الناس كذلك. ثم استفهم على سبيل الإنكار قائلا أَمْ أَنْزَلْنا كأنه قال: إذا تقررت الحجج المذكورة فماذا يقولون، أيتبعون أهواءهم بغير علم أم لهم دليل على ما يقولون؟ وإسناد التكلم الى الدليل مجاز كما تقول: نطقت الحال بكذا. و «ما» في قوله بِما كانُوا مصدرية والضمير في بِهِ لله أو موصولة والضمير لها أي بالأمر الذي بسببه يشركون، ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي ذا سلطان وهو الملك فذلك الملك يتكلم بالبرهان الذي بسببه يُشْرِكُونَ وحين ذكر الشرك الظاهر أتبعه ذكر الخفي وهو أن تكون عبادة الله للدنيا فإذا أتاه بهواه رضي، وإذا منع وتعسر سخط وقنط، والرحمة المطر والصحة والأمن وأمثالها، والسيئة أضداد ذلك. وإنما لم يذكر سبب الرحمة ليعلم أنها بفضله وذكر سبب السيئة وهو شؤم معاصيهم ليدل على عدله. والفرح بالنعمة مذموم إذا كان مع قطع النظر عن المنعم، فإذا كان مع ملاحظة المنعم فمحمود بل الفرح الكلي يجب أن يكون بالمنعم. والقنوط من رحمة الله أيضا مذموم كما مر في قوله إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يوسف: 87] ثم أشار بقوله أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ إلى أن الكل من الله فيجب أن يكون نظر المحقق في الحالين على الله. ففي حالة
(5/415)
الرحمة يشتغل بالشكر، وفي حالة الضراء لا ينسب الله إلى عدم القدرة وإلى عدم العناية بحال العبد بل يشتغل بالتوبة والإنابة إلى أوان الفرج والنصر، وهذه مرتبة المؤمن الموحد فلذلك قال إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ولا يخفى أن بسط الرزق مما يشاهد ويرى فلذلك قال أَوَلَمْ يَرَوْا وقال في «الزمر» أَوَلَمْ يَعْلَمُوا [الآية: 52] مناسبة لما قبله وهو أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ [القصص: 78] وقوله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ قال جار الله:
لما ذكر أن السيئة أصابتهم بما قدمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك قائلا فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ الآية. وأقول: لما بين كيفية التعظيم لأمر الله أشار إلى الشفقة على خلق الله قائلا فَآتِ أيها المكلف أو النبي والأمة يتبعونه لا محالة كما مر في قوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ [الروم: 30] وفيه أن الله إذا بسط الرزق فلا ينقص بالإنفاق، وإذا ضيق لم يزدد بالإمساك، فينبغي أن لا يتوقف الإنسان في الإحسان. وفي تخصيص الأصناف الثلاثة بالذكر دلالة على أنهم أولى بالإشفاق عليهم من سائر الأصناف. وإنما قال ذَا الْقُرْبى ولم يقل «القريب» ليكون نصا في معناه ولا يشتبه بالقرب المكاني، وفيه أن القرابة أمر له دوام بخلاف المسكنة وكونه من أبناء السبيل. وفي قوله فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دون أن يقول «فآت هذه الأصناف حقوقهم» تشريف لذوي القرابة حيث جعل الصنفين الآخرين تابعا لهم على الإطلاق. فإنه إذا قال الملك: خل فلانا يدخل وفلانا أيضا كان أدخل في التعظيم من أن يقول: خل فلانا وفلانا يدخلان ذلِكَ الإيتاء خَيْرٌ في نفسه أو خير من المنع لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ أي ذاته أو جهة قربته فإن من أنفق ألوفا رياء وسمعة لم ينل درجة من أنفق رغيفا لوجه الله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ كقوله في أول «البقرة» لأن قوله فَأَقِمْ وَجْهَكَ [الروم: 30] اشارة إلى الإيمان بالغيب وغيره أو إلى إقامة الصلاة، وقوله وَآتِ ذَا الْقُرْبى أمر بالزكاة بل بالصدقة المطلقة. وفي قوله يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ إشارة إلى الاعتراف بالمعاد. ثم أراد أن يعظم شأن الصدقة فضم إلى ذلك تقبيح أمر الربا استطرادا.
فمن قرأ ممدودا فظاهر، ومن قرأ مقصورا فهو من الإتيان أي وما غشيتموه أو أصبتموه من إعطاء ربا ليربو أي ليزيد في أموال أكلة الربا، وفي القراءة الأخرى ليزيد في أموالهم فَلا يَرْبُوا فلا يزكو ولا ينمو عِنْدَ اللَّهِ لأنه يمحق بركتها نظيره ما مر في آخر البقرة يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [الآية: 276] قيل: نزلت في ثقيف وكانوا يرابون. وقيل: نزلت في الهبة أو الإهداء لأجل عوض زائد، فبين الله تعالى أن ذلك لا يوجب الثواب عند الله وإن كان مباحا.
وفي الحديث «الجانب المستغزر يثاب عن هبته»
أي الرجل الغريب إذا أهدى شيئا فإنه ينبغي أن يزاد في عوضه. قال جار الله: في قوله فَأُولئِكَ التفات حسن كأنه قال ذلك لخواصه ولملائكته وهو أمدح لهم من أن يقول «فأنتم المضعفون» أي ذوو الإضعاف
(5/416)
من الحسنات نظيره المقوي والموسر لذوي القوة واليسار، والرابط محذوف أي هم المضعفون به. وجوز في الكشاف أن يراد فمؤتوه أولئك هم المضعفون. قالت العلماء:
أراد الإضعاف في الثواب لا في المقدار، فليس من أعطى رغيفا فإن الله يعطيه عشرة أرغفة، وإنما المراد أن الرغيف الواحد لو اقتضى أن يكون ثوابه قصرا في الجنة فإن الله تعالى يعطيه عشرة قصور تفضلا.
ثم عاد إلى بيان التوحيد مرة أخرى بتذكير الخلق والرزق والإماتة والإحياء بعدها نظرا إلى الدلائل، ثم طلب منهم الإنصاف بقوله هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ قال جار الله: «من» الأولى والثانية والثالثة كل واحدة منهن مستقلة بتأكيد لتعجيز شركائهم وتجهيل عبدتهم. قلت: الأولى للتبعيض كأنه أقام فعل البعض مقام فعل الكل توسعة على الخصم، والثالثة لتأكيد الاستفهام، والمتوسطة للابتداء ولكنه يفيد أنه رضي منهم بشيء واحد من تلك الأشياء للتوسعة المذكورة أيضا. ثم بين أن الشرك وسائر المعاصي سبب ظهور الفساد في البر والبحر وذلك لقلة المنافع وكثرة المضار ومحق البركات من كل شي. وفسره ابن عباس بإجداب البر وانقطاع مادة البحر وتموجه بمائه، وعن الحسن:
المراد بالبحر مدن البحر وقراه التي على سواحله، وقال عكرمة: العرب تسمي الأمصار بحارا لِنُذِيقَهُمْ وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن نعاقبهم بجميعها في الآخرة إرادة أن يرجعوا عما هم عليه، وجوز جار الله أن يراد ظهر الشر والمعاصي في الأرض برا وبحرا بكسب الناس. وعلى هذا فاللام في قوله لِنُذِيقَهُمْ لام العاقبة. ثم أمرهم بالنظر في حال أشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم كقوم نوح وعاد وثمود كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ فيه إشارة إلى أن بعضهم كانوا مرتكبي ما دون الشرك من المعاصي ولكنهم شاركوا المشركين في الهلاك تغليظا عليهم. أو هو كقوله وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: 25] أو المراد أن أهل الشرك كانوا أكثر من أهل سائر الأديان الباطلة كالمعطلة والمجسمة ونحوهم. خاطب نبيه وبتبعيته أمته بقوله فَأَقِمْ كأنه قال: وإذ قد ظهر فساد سائر الملل والنحل فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ البليغ الاستقامة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ من الله يَوْمٌ لا يرده راد. ويجوز أن يتعلق قوله مِنَ اللَّهِ بقوله لا مَرَدَّ أي لا راد له من جهة الله فلا يقدر غيره على رده فلا دافع له أصلا يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ أي يتصدعون والتصدع التفرق. ثم بين وجه تفرق الناس بقوله مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وبال كفره عليه لا على غيره وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً أي آمن وعمل صالحا لأن العمل الصالح لا يتصور إلا بعد الإيمان، على أن الإيمان، أيضا عمل صالح قلبي ولساني وسيصرح به في قوله لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
(5/417)
الصَّالِحاتِ
ومعنى يَمْهَدُونَ يوطؤن كما يسوّي الراقد مضجعه، وجوز جار الله أن يراد فعلى أنفسهم يشفقون من قولهم: في المشفق أم فرشت فأنامت. وذلك أن الإشفاق يلزمه التمهيد عرفا وعادة. ثم بين غاية التمهيد بقوله لِيَجْزِيَ وقوله مِنْ فَضْلِهِ عند أهل السنة ظاهر: وحمله المعتزلة على شبه الكناية لأن الفضل تبع للثواب فلا يكون إلا بعد حصول ما هو تبع له، أو الفضل بمعنى العطاء والثواب. وفي قوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ وعيد عظيم لهم لأنه إذا لم يحبهم أرحم الراحمين فلا يتصور لهم خلاص من عذابه ولا مناص ولا رحمة من جهته ولا نعمة، وفيه تعريض بأنه يحب المؤمنين ولا وعد أعظم من هذا ولا شرف فوق ذلك. قال جار الله: تكرير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده إلا المؤمن الصالح. وقوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس. قلت: يشبه أن يكون مراده أنه ذكر الكافر أولا ثم المؤمن، وفي الآية الثانية قرر أولا أمر المؤمن ثم أردفه بتقرير أمر الكافر. أو أراد أن قوله لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ دل بصريحه على ثواب المؤمن وبتعريضه على حرمان الكافر، وقوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ دل بصريحه على حرمان الكافر وبتعريضه على ثواب المؤمن. فالأول طرد والثاني عكس وكل منهما مقرر للآخر. وحين ذكر ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح وبين أنه من دلائل الوحدانية بقوله وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح لما مر من أن الكريم لا يذكر، لإحسانه سببا ويذكر لأضراره سببا. ومن قرأ على التوحيد فللدلالة على الجنس، ومن قرأ على الجمع فإما لأنه أراد الجنوب والشمال والصبا وهي رياح الرحمة دون الدبور التي هي للعذاب، وإما لأن أكثر الرياح نافعة والضارة كالسموم قليلة جدا لا تهب إلا حينا، وإما لأن الرياح إذا اجتمعت وتزاحمت وتراكمت حتى صارت ريحا واحدا أضرت بالأشجار والأبنية وقلعتها وإذا تفرقت وصارت رياحا اعتدلت ونفعت. قوله مُبَشِّراتٍ أي بالمطر كقوله بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ [الأعراف: 57] وقيل: أي بتصحيح الأهوية وإصلاح الأبدان.
وقوله وَلِيُذِيقَكُمْ إما معطوف على ما قبله معنى كأنه قيل: ليبشركم وليذيقكم بعض رحمته لأن راحات الدنيا زائلة لا محالة، وإما معطوف على محذوف أي وليكون كذا وكذا أرسلناها. وفي قوله بِأَمْرِهِ إشارة إلى أن مجرد هبوب الريح لا يكفي في جريان الفلك ولكنها تجري بإذن الله وجعله الريح على اعتدال وقوام. وفي قوله وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ دلالة على أن ركوب البحر لأجل التجارة جائز. وفي قوله وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إشارة إلى أن نعم الله تعالى يجب أن تقابل بالشكر. وإنما بنى الكلام في هذه الآية على الخطاب بخلاف
(5/418)
قوله لنذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون تشريفا لأهل الرحمة، ورحمة الله قريب من المحسنين فكان من حقهم أن يخاطبوا ثم أشار إلى أصل النبوة مع تسلية النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لَقَدْ أَرْسَلْنا
واختصر الكلام فدل بذكر عاقبة الفريقين المجرم والمؤمن عليهما، فعاقبة المجرمين الذين لم يصدّقوا رسلهم الانتقام منهم، وعاقبة الذين صدّقوهم النصر والظفر على الأعداء. وفي قوله قًّا عَلَيْنا
تعظيم لأهل الإيمان ورفع في شأنهم وإلا فلا يجب لأحد على الله شيء. ثم أراد أن يشير إلى الأصل الثالث وهو المعاد فمهد لذلك مقدمة منتزعة مما تقدم ذكره وهو بيان إرسال الرياح لأجل إحداث السحاب الماطر المبسوطة بعضها على الاتصال والمتفرق بعضها كسفا أي قطعا. وقوله فَتَرَى الْوَدْقَ أي المطر يخرج من خلاله قد مر في النور. ثم ذكر في ضمن ذلك عجز الإنسان وقلة ثباته وتوكله وقوله مِنْ قَبْلِهِ مكرر للتأكيد ومعناه الدلالة على أن عهدهم بالمطر تطاول فاستحكم بأسهم وتحقق إبلاسهم. وقيل: أراد أنهم من قبل نزول المطر، أو من قبل ما ذكرنا من إرسال الريح وبسط السحاب كانوا مبلسين، وذلك أن عند رؤية السحب وهبوب الرياح قد يرجى المطر فلا يتحقق الإبلاس. ثم صرح بالمقصود قائلا إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ من الإبداء والإعادة قَدِيرٌ.
ثم أكد تزلزل الإنسان وتذبذبه وأنه بأدنى سبب يكفر بنعمة الله فقال وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً ضارة باردة أو حارة فَرَأَوْهُ أي رأوا أثر الرحمة وهو النبات. ومن قرأ آثار فالضمير عائد إلى المعنى لأن آثار الرحمة النبات أيضا واسم النبات يقع على القليل والكثير، وإنما قال مُصْفَرًّا ولم يقل «أصفر» لأن تلك الصفرة حادثة. وقيل: فرأوا السحاب مصفرا لأنه إذا كان كذلك لم يمطر. ثم زاد في تسلية رسوله بقوله فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى إلى قوله فَهُمْ مُسْلِمُونَ وقد مر في آخر النمل. ثم أعاد من دلائل التوحيد دليلا آخر من الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله وأطواره وتقلبه من ضعف الطفولية إلى قوة الشباب والكهولة ومنها إلى ضعف الهرم. وفي قوله خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ إشارة إلى أن أساس أمر الإنسان الضعف كقوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: 37] وقيل: من ضعف أي من نطفة.
وهذا الترديد في الأطوار المختلفة أظهر دليل على وجود الصانع العليم القدير. وقوله يَخْلُقُ ما يَشاءُ كقوله في دليل الآفاق فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ [الروم: 48] والكل إشارة إلى بطلان القول بالطبيعة المستقلة. ثم عاد إلى ذكر المعاد وأحوال القيامة، وذكر أن الكفار يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا أو في القبور أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث، وأن أهل العلم والإيمان وهم الملائكة والأنبياء وغيرهم حالهم بالعكس. وذلك أن
(5/419)
الموعود بوعد إذا ضرب له أجل يستكثر الأجل ويريد تعجيله، والموعود بوعيد إذا ضرب له أجل يستقل المدة ويريد تأخيرها. ومعنى يُؤْفَكُونَ يصرفون عن الصدق والتحقيق أي هكذا كان أمرهم في الدنيا مبينا على الظن الكاذب وكانوا يصرون بمثله. ويحتمل أن يكونوا ناسين أو كاذبين. ومعنى في كتاب الله في اللوح المحفوظ أو في علمه وقضائه، أو فيما كتب وأوجب. وفيه رد قول الكفار وإطلاع لهم على مصدوقية الحال. قال جار الله:
في الحديث «ما بين فناء الدنيا إلى وقت البعث أربعون»
قالوا: لا نعلم أهي أربعون سنة أو أربعون ألف سنة. وذلك وقت يفنون فيه وينقطع عذابهم. والفاء في قوله فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ جواب شرط يدل عليه الكلام كأنه قيل: إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث وبه تبين بطلان قولكم وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أنه حق. ثم بين أن ذلك اليوم لا يقبل فيه عذر من أهل الشرك وسائر أنواع الظلم وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أي لا يطلب منهم الرضا فلا يقال لهم أرضوا ربكم بتوبة وطاعة، وقد مر في «النحل» . ثم بين أن القرآن مشحون بقصص وأخبار كلها كالمثل في غرابتها وحسن مواقعها، وأن الرسول مهما جاءهم بدليل أنكروه لأن الذي اجترأ على العناد في دليل واحد، الأغلب أن يتجرأ على أمثاله وهذا نتيجة الطبع والخذلان، فلا علاج في مثل هذه القضية إلا بالصبر وتحمل أعباء الرسالة إلى إنجاز وعد الله بالنصرة وإعلاء الدين. ومعنى لا يَسْتَخِفَّنَّكَ لا يحملنك على الخفة والقلق قوم شاكون فأمثال هذه الأفعال والأقوال لا تستبعد من أهل الريب والضلال أمر أن لا يضجر ويشتغل بالدعاء إلى الحق حتى يأتي أوان النصر والظفر والله المستعان.
(5/420)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
(سورة لقمان)
(مكية إلا ثلاث آيات وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ إلخ حروفها ألفان ومائة وعشرة كلمها خمسمائة وثمانية وأربعون آياتها أربع وثلاثون)
[سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)
وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
(5/421)
القراآت:
ورحمة بالرفع. حمزة وأبو عون عن قنبل ليضل بفتح الياء: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب ويَتَّخِذَها بالنصب: يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بسكون الياء: البزي والقواس. وقرأ حفص والمفضل بفتح الياء وكذا في قوله يا بُنَيَّ أَقِمِ الباقون: بكسر الياء. مثقال بالرفع: أبو جعفر ونافع نصاعر بالألف: أبو عمرو ونافع وحمزة وعلي وخلف. الآخرون. بالتشديد.
الوقوف:
الم هـ كوفي الْحَكِيمِ هـ وقف لمن قرأ وَرَحْمَةً بالرفع على تقدير هو هدى. ومن قرأ بالنصب على الحال والعامل معنى الإشارة في تِلْكَ فلا وقف لِلْمُحْسِنِينَ هـ لا يُوقِنُونَ هـ ط الْمُفْلِحُونَ هـ بِغَيْرِ عِلْمٍ ط قد يوقف لمن قرأ وَيَتَّخِذَها بالرفع والوصل أحسن لأنه وإن لم يكن معطوفا على لِيُضِلَّ فهو معطوف على يَشْتَرِي هُزُواً ط مُهِينٌ ط وَقْراً ط لانقطاع النظم مع اتصال الفاء أَلِيمٍ هـ النَّعِيمِ هـ لا للحال والعامل معنى الفعل في لهم فِيها ط لأن التقدير وعد الله وعدا حَقًّا ط الْحَكِيمُ هـ دابَّةٍ هـ للعدول كَرِيمٍ هـ دُونِهِ ط مُبِينٍ هـ لِلَّهِ ط لِنَفْسِهِ ج حَمِيدٌ هـ بِاللَّهِ ط وقد يوقف على لا تُشْرِكْ على جعل الباء للقسم وهو تكلف عَظِيمٌ هـ بِوالِدَيْهِ ج لانقطاع النظم مع تعلق أَنِ اشْكُرْ ب وَصَّيْنَا وَلِوالِدَيْكَ ط الْمَصِيرُ هـ مَعْرُوفاً ز للعدول عن بعض المأمور إلى الكل مع اتفاق الجملتين إِلَيَّ ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار تَعْمَلُونَ هـ اللَّهُ ط خَبِيرٌ هـ أَصابَكَ ط الْأُمُورِ هـ ج للآية ووقوع العارض مع عطف المتفقتين مَرَحاً ط فَخُورٍ ج لما ذكر مِنْ صَوْتِكَ هـ ط الْحَمِيرِ هـ.
التفسير:
لما قال في آخر السورة المتقدمة وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الزمر: 27] وكان فيه إشارة إلى إعجاز القرآن، ودل ما بعده إلى تمام السورة على أنهم مصرون على كفرهم، أكد تلك المعاني في أول هذه السورة. وتفسيره إلى الْمُفْلِحُونَ كما في أول البقرة. إلا قوله تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ فإنه مذكور في أول «يونس» . وحيث زاد هاهنا وَرَحْمَةً قال لِلْمُحْسِنِينَ فإن الإحسان مرتبة فوق التقوى
لقوله صلى الله عليه وسلم «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» «1»
ولقوله سبحانه إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128]
__________
(1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 31 باب 2. مسلم في كتاب الإيمان حديث 57. أبو داود في كتاب السنة باب 16. الترمذي في كتاب الإيمان باب 4. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 9. أحمد في مسنده (1/ 27، 51) (2/ 107) .
(5/422)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] ومما يؤيد ما قلنا أنه لم يقل هنا يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة: 3] لئلا يلزم شبه التكرار، فإن الإحسان لا مزيد عليه في باب العقائد. ثم بين حال المعرضين عن الحق بقوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ الإضافة بمعنى «من» أي الحديث الذي هو لهو ومنكر. وجوز في الكشاف أن تكون «من» للتبعيض أي يشتري بعض الحديث الذي هو اللهو منه وفيه نظر، لأنه يصح هذا التأويل في قولنا «خاتم فضة» وليس بمشهور. قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحرث وكان يتجر إلى فارس فيشتري كتب الأعاجم فيحدث بها قريشا. وقيل: كان يشتري المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنيه ويقول: هذا خير مما يدعوك محمد إليه من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. فعلى هذا معنى لِيُضِلَّ بضم الياء ظاهر، ومن قرأ بالفتح فمعناه الثبات على الضلال أو الإضلال نوع من الضلال. وقوله بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلق ب يَشْتَرِي كقوله فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ [البقرة: 16] أي للتجارة قاله في الكشاف وغيره. ولا يبعد عندي تعلقه بقوله لِيُضِلَّ كما قال وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: 25] قال المحققون: ترك الحكمة والاشتغال بحديث آخر قبيح، وإذا كان الحديث لهوا لا فائدة فيه كان أقبح. وقد يسوغه بعض الناس بطريق الإحماض كما ينقل عن ابن عباس أنه قال أحمضوا.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «روّحوا القلوب ساعة فساعة»
والعوام يفهمون منه الترويح بالمطايبة وإن كان الخواص يحملونه على الاشتغال بجانب الحق
كقوله «يا بلال روّحنا»
ثم إنه إذا لم يقصد به الإحماض بل يقصد به الإضلال لم يكن عليه مزيد في القبح ولا سيما إذا كان مع اشتغاله بلهو الحديث مستكبرا عن آيات الله التي هي محض الحكمة كما قال وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً ومحل كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً نصب على الحال قال جار الله: الأولى حال من ضمير مُسْتَكْبِراً والثانية من لَمْ يَسْمَعْها قلت:
هذا بناء على تجويز الحال المتداخلة وإلا فمن الجائز أن يكون كل منهما ومُسْتَكْبِراً حالا من فاعل وَلَّى أي مستكبرا مشابها لمن لم يسمعها مشابها لمن في أذنيه وقر. وجوز أن يكونا مستأنفين وتقدير كأن المخففة كأنه والضمير للشأن، قال أهل البرهان: هذه الآية والتي في الجاثية نزلتا باتفاق المفسرين في النضر إلا أنه بالغ هاهنا في ذمه لتركه استماع القرآن فقال بعد قوله كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً أي صمما لا يقرع مسامعه صوت، فإن عدم السماع أعم من أن يكون بوقر الأذن أو بنحو غفلة. وترك الجملة الثانية في «الجاثية» لأنه لم يبن الكلام هنالك على المبالغة بدليل قوله وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً [الجاثية: 9] والعلم لا يحصل إلا بالسماع أو ما يقوم مقامه من خط وغيره. وحين بين
(5/423)
وعيد أعداء الدين بين حال أولياء الله بقوله إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية. وقد مر مثله مرارا وفي قوله وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إشارة إلى أنه لا غالب ولا مناوىء، يعطي النعيم من شاء والبؤس من شاء حسب ما تقتضيه حكمته وعدله. ثم بين عزته وحكمته بقوله خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ وقد مر في أول «الرعد» . وقوله وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ مذكور في أول «النحل» ومِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ذكر في أول الشعراء. هذا الذي ذكر من السموات بكيفياتها والأرض بهيآتها بسائطها ومركباتها خَلْقُ اللَّهِ أي مخلوقه فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وهم الآلهة بزعمهم. وهذا أمر تعجيز وتبكيت فلهذا سجل عليهم بالضلال المبين. ثم بين فساد اعتقاد أهل الشرك بأنه مخالف أيضا لعقيدة الحكماء الذين يعولون على المعقول الصرف منهم لقمان بن باعوراء ابن أخت أيوب أو ابن خالته أو من أولاد آزر، عاش ألف سنة وأدرك داود عليه السلام وأخذ منه العلم، وكان يفتي قبل مبعث داود عليه السلام، فلما بعث قطع الفتوى فقيل له؟ فقال: ألا أكتفي إذا كفيت وأكثر الأقاويل أنه كان حكيما. عن ابن عباس: لقمان لم يكن نبيا ولا ملكا ولكن كان راعيا أسود فرزقه الله العتق ورضي الله قوله «ووصيته» وحكاها في القرآن. وقيل: خير بين النبوة والحكمة فاختار الحكمة. وقال عكرمة والشعبي: كان نبيا.
روي أنه دخل على داود عليه السلام وهو يسرد وقد لين الله له الحديد، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلما أتمها لبسها وقال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة وقليل فاعله. فقال له داود عليه السلام: بحق ما سميت حكيما.
وروي أن مولاه أمره بذبح شاة وبأن يخرج منها أطيب مضغتين فأخرج اللسان والقلب، ثم أمره بمثل ذلك بعد أيام وأن يخرج أخبث مضغتين فأخرج اللسان والقلب أيضا فسأله عن ذلك فقال: هما أطيب ما فيها إذا طابا، وأخبث ما فيها إذا خبثا.
ثم فسر الحكمة بقوله أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ لأن إيتاء الحكمة في معنى القول. قال العلماء: هذا أمر تكوين أي جعلناه شاكرا فإن أمر التكليف يستوي فيه الجاهل والحكيم، وفيه تنبيه على أن شكر المعبود الحق رأس كل العبادة وسنام الحكمة وفائدته ترجع إلى العبد لا إلى المعبود فإنه غني عن شكر الشاكرين مستحق للحمد وإن لم يكن على وجه الأرض حامد. وحين بين كماله شرع في تكميله وذلك لابنه المسمى أنعم أو أشكم. قيل:
كان ابنه وامرأته كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما. ووجه كون الشرك ظلما عظيما أنه وضع فيه أخس الأشياء- وهو الفقير المطلق- موضع أشرف الأشياء- وهو الغني المطلق- ثم وصى الله سبحانه الإنسان بشكر إنعام الوالدين وبطاعتهما وإن كانا كافرين إلا أن يدعواه إلى الإشراك بالله. وهذه جملة معترضة نيط باعتراضها غرضان: أحدهما أن طاعة الأبوين تالية
(5/424)
لعبادة الله، والثاني تأكيد كون الشرك أمرا فظيعا منكرا حتى إنه يلزم فيه مخالفة من يجب طاعته. وقوله حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً أي حال كونها تهن وهنا عَلى وَهْنٍ أي ضعفا على ضعف، لأن الحمل كلما زاد وعظم ازدادت ثقلا وضعفا، اعتراض في اعتراض تحريضا على رعاية حق الوالدة خصوصا.
روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنه قال: قلت: يا رسول الله من أبر؟ قال: أمك ثم أمك ثم أباك.
وقوله وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ توقيت للفطام كما مر في «البقرة» في قوله وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ [البقرة: 233] وفيه تنبيه آخر على ما كابدته الأم من المشاق. ومعنى مَعْرُوفاً صحابا أو مصاحبا معروفا على ما يقتضيه العرف والشرع. وفي قوله وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ إشارة أخرى إلى أنهما لو لم يكونا منيبين إلى الرب لم يتبع سبيلهما في الدين وإن لزم طاعتهما في الدنيا وفي باب حسن العشرة والصحبة. واتفق المفسرون على أن هذه الآية ونظيرتها التي في «العنكبوت» وفي «الأحقاف» نزلت في سعد بن أبي وقاص وفي أمه حمنة بنت أبي سفيان،
وذلك أنه حين أسلم قالت: يا سعد، بلغني أنك قد صبأت، فو الله لا يظلني سقف بيت وإن الطعام والشراب عليّ حرام حتى تكفر بمحمد- وكان أحب ولدها إليها «فأبى سعد وبقيت ثلاثة أيام كذلك فجاء سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إليه فنزلت هذه الآيات، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتراضاها بالإحسان
وإنما لم يذكر في هذه السورة قوله حُسْناً لأن قوله أَنِ اشْكُرْ قام مقامه، وإنما قال هاهنا وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ لأنه أراد وإن حملاك على الإشراك، وقال في العنكبوت لِتُشْرِكَ [العنكبوت: 8] موافقة لما قبله فإنما يجاهد لنفسه مع أن مبني الكلام هناك الاختصار. وحين وصف نفسه بكماله في خاتمة الآية بقوله فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أتبعه ما يناسبه من وصايا لقمان وهو قوله يا بُنَيَّ إِنَّها أي القصة إِنْ تَكُ أي الحبة من الإساءة أو الإحسان في الصغر كحبة الخردل ويجوز أن يقال: الحبة إن تك كحبة الخردل. ومن قرأ مِثْقالَ بالرفع تعين أن يكون الضمير في إِنَّها للقصة وتأنيث تَكُ لإضافة المثقال إلى الحبة.
وروي أن ابن لقمان قال له: أرأيت الحبة تكون في مقل البحر أي في مغاصه يعلمها الله؟ إن الله يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة لأن الحبة في الصخرة أخفى منها في الماء.
سؤال: الصخرة لا بد أن تكون في السموات أو في الأرض فما الفائدة في ذكرها؟
الجواب على قول الظاهريين من المفسرين ظاهر لأنهم قالوا: الصخرة هي التي عليها الثور وهي لا في الأرض ولا في السماء. وقال أهل الأدب: فيه إضمار والمراد في صخرة أو في موضع آخر من السموات والأرض ومثله قول جار الله، أراد فكانت مع صغرها في أخفى
(5/425)
موضع وأحرزه كجوف الصخرة أو حيث كانت في العالم العلوي أو السفلي، وقال أهل التحقيق: إن خفاء الشيء يكون إما لغاية صغره، وإما لاحتجابه، وإما لكونه بعيدا، وإما لكونه في ظلمة. فأشار إلى الأول بقوله مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ وإلى الثاني بقوله فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ وإلى الثالث بقوله أَوْ فِي السَّماواتِ وإلى الرابع بقوله أَوْ فِي الْأَرْضِ وقوله يَأْتِ بِهَا اللَّهُ أبلغ من قول القائل «يعلمه الله» ففيه مع العلم بمكانه إظهار القدرة على الإتيان به إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ نافذ القدرة خَبِيرٌ ببواطن الأمور، وحين منع ابنه من الشرك وخوفه بعلم الله وقدرته أمره بمكارم الأخلاق والعادات وأولها الصلاة، وفيها تعظيم المعبود الحق، وبعدها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فبهما تتم الشفقة على خلق الله. وقوله وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من أذيات الخلق في البأس، أو هو مطلق في كل ما يصيبه من المصائب والمكاره إِنَّ ذلِكَ المذكور مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي من معزوماتها من عزم الأمر بالنصب إذا قطعه قطع إيجاب وإلزام، ومنه العزيمة خلاف الرخصة، أو من عزم الأمر بالرفع أي جد وقد مر في آخر «آل عمران» . وحين أمره بأن يكون كاملا في نفسه مكملا لغيره وكان يخشى عليه أن يتكبر على الغير بسبب كونه مكملا له أو يتبختر في النفس بسبب كونه كاملا في نفسه قال وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ يقال: أصعر خدّه وصعره وصاعره من الصعر بفتحتين وهو داء يصيب البعير يلوي منه عنقه. والمعنى: أقبل على الناس بكل وجهك تواضعا لا بشق الوجه كعادة المتكبرين. ومعنى لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً مذكور في سورة «سبحان الذي» والمختال والفخور مذكوران في سورة النساء. فالمختال هو الماشي لأجل الفرح والنشاط لا لمصلحة دينية أو دنيوية، والفخور هو المصعر خده، بين أن الله لا يحبهما فيلزم الاجتناب عن الاتصاف بصفتهما. ثم أمره عند الاحتياج إلى المشي لضرورة بالمشي القصد أي الوسط بين السرعة والإبطاء على قياس سائر الأخلاق والآداب فخير الأمور أوساطها، ومثله غض الصوت حين التكلم. قال أهل البيان: في تشبيه الرافعين أصواتهم بالحمير التي هي مثل في البلادة حتى استهجن التلفظ باسمها في أغلب الأمر، وفي تمثيل أصواتهم بالنهاق ثم إخلاء الكلام عن أداة التشبيه وإخراجه مخرج الاستعارة، تنبيه على أن الإفراط في رفع الصوت من غير ضرورة ولا فائدة مكروه عند الله جدا، واشتقاق أنكر من النكر ليكون على القياس لا من المنكر والحمير جمع الحمار، وإنما لم يقل أصوات الحمير لأن المراد أن كل جنس من الحيوان الناطق وغير الناطق له صوت، وإن أنكر أصوات هذه الأجناس صوت أفراد هذا الجنس. قال بعض العقلاء: من نكر صوت هذا الحيوان أنه لو مات تحت الحمل لا يصيح ولو قتل لا يصيح وفي أوقات عدم الحاجة يصيح وينهق، وأما سائر الحيوانات فلا يصيح إلا لحاجة قالوا: ومن فوائد عطف الأمر بغض
(5/426)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
الصوت على الأمر بالقصد في المشي، أن الحيوان يتوصل إلى مطلوبه بالمشي فإن عجز عن ذلك فبالتصويت والنداء كالغنم تطلب السخلة، ومنها أن الإنسان له عقيدة ولسان وجوارح يتحرك بها كسائر الحيوانات فأشار إلى الأولى بقوله إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ أي أصلح ضميرك فإن الله خبير، وأشار إلى التوسط في أفعال الجوارح بقوله وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وإلى التوسط في الأقوال بقوله اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أو نقول: أشار بقوله أَقِمِ الصَّلاةَ إلى الأوصاف الملكية التي يجب أن تكون في الإنسان، وبقوله وَأْمُرْ إلى قوله مَرَحاً إلى الأوصاف الفاضلة الإنسانية، وبقوله وَاقْصِدْ وَاغْضُضْ إلى الأوصاف التي يشارك فيها الإنسان سائر الحيوان والله تعالى أعلم.
التأويل:
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ هي للعوام مقادير معينة من المال كربع العشر من عشرين، وللخواص إخراج كل المال في سبيل الله، ولأخص الخواص بذل الوجود لنيل المقصود لَهْوَ الْحَدِيثِ قال الجنيد: السماع على أهل النفوس حرام لبقاء نفوسهم، وعلى أهل القلوب مباح لوفور علومهم وصفاء قلوبهم، وعلى أصحابنا واجب لفناء حظوظهم. وَإِذْ قالَ لُقْمانُ القلب لِابْنِهِ السر المتولد من ازدواج الروح والقلب وَهُوَ يَعِظُهُ أن لا يتصف بصفات النفس العابدة للشيطان والهوى والدنيا فِي عامَيْنِ يريد فطامه عن مألوفات الدارين وَإِنْ جاهَداكَ فيه أن السر لا ينبغي له أن يلتفت إلى الروح أو القلب إذا اشتغلا بغير الله في أوقات الفترات، فإن الروح قد يميل إلى مجانسه من الروحانيات، والقلب يميل تارة إلى الروح، وأخرى إلى النفس ولكنه يرجى الصلاة بعد الفترة، وأما السر فإذا زال عن طبيعته وهو الإخلاص في التوحيد فإصلاح حاله ممكن بعيد. وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ وهو الخفي. إِنَّها إِنْ تَكُ يعني القسمة الأزلية من السعادة وضدها لَصَوْتُ الْحَمِيرِ قالوا: هو الصوفي يتكلم قبل أوانه.
[سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 34]
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
(5/427)
القراآت:
نِعَمَهُ على الجمع: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل وحفص والبحر بالنصب: أبو عمرو ويعقوب عطفا على اسم «أن» الآخرون: بالرفع حملا على محل «أن» ومعمولها وَأَنَّ ما يَدْعُونَ على الغيبة: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وحفص وسهل ويعقوب وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ التشديد: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وعاصم.
الوقوف:
وَباطِنَةً ط مُنِيرٍ هـ آباءَنا ط السَّعِيرِ هـ الْوُثْقى ط الْأُمُورِ هـ كُفْرُهُ هـ عَمِلُوا ط الصُّدُورِ هـ غَلِيظٍ هـ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ط لِلَّهِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط الْحَمِيدُ هـ كَلِماتُ اللَّهِ ط حَكِيمٌ هـ واحِدَةٍ ط بَصِيرٌ هـ وَالْقَمَرَ ز لأن قوله كُلٌّ مبتدأ مع عطف «أن» على «أن» الأولى خَبِيرٌ هـ الْباطِلُ لا الْكَبِيرُ هـ مِنْ آياتِهِ ط شَكُورٍ هـ الدِّينَ ج مُقْتَصِدٌ ط كَفُورٍ هـ عَنْ وَلَدِهِ لا لعطف الجملتين المختلفتين لفظا مع صدق الاتصال معنى شَيْئاً ط الدُّنْيا قف للفصل بين الموعظتين الْغَرُورُ هـ السَّاعَةِ ج لاختلاف الجملتين الْغَيْثَ ج وإن اتفقت الجملتان للتفصيل بين عيب وغيب الْأَرْحامِ ط لابتداء الجملة المنفية التي فيها استفهام غَداً ط لابتداء نفي آخر مع تكرار نفس دون الاكتفاء بضميرها تَمُوتُ ط خَبِيرٌ هـ.
التفسير:
لما ذكر أن معرفة الصانع غير مختصة بالنبوة ولكنها توافق الحكمة أيضا،
(5/428)
ولو كانت تعبدا محضا للزم قبوله، كيف وإنها توافق المعقول، أعاد الاستدلال بالأمور المشاهدة الآفاقية والأنفسية. ومعنى سَخَّرَ لَكُمْ لأجلكم كما مر في سورة إبراهيم من قوله وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ [إبراهيم: 33] الآية ومعنى أَسْبَغَ أتم، والنعم الظاهرة كل ما يوجد للحس الظاهر إليه سبيل ومن جملتها الحواس أنفسها. والباطنة ما لا يدرك إلا بالحس الباطن أو بالعقل أو لا يعلم أصلا. ومن المفسرين من يخص، فعن مجاهد: الظاهرة ظهور الإسلام والنصر على الأعداء ظاهرا، والباطنة إمداد الملائكة. وعن الضحاك: الظاهرة حسن الصورة وامتداد القامة وتسوية الأعضاء والباطنة المعرفة والعلم.
وقيل: النفس. ثم ذكر أن بعض الناس يجادلون في الله بعد ظهور الدلائل على وحدانيته وقد مر في أول «الحج» . ثم ذكر أنه لا مستند له في ذلك إلا التقليد، ثم وبخه على جهله وتقليده بأنه يتبع سبيل الشيطان ولو دعاه إلى النار قائلا أَوَلَوْ كانَ إلخ. ومعناه أيتبعونهم ولو كان كذا؟ ثم أراد أن يفصل حال المؤمن والكافر بعض التفصيل فقال وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وهو نظير قوله في «البقرة» بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ [الآية: 112] والفرق أن معناه مع «إلى» يرجع إلى التفويض والتسليم، ومع اللام يؤل إلى الإخلاص والإذعان والاستمساك بالعروة الوثقى تمثيل كما مر في آية الكرسي. وقوله يمتعهم الآية. كقوله في البقرة وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ [الآية: 126] وغلظ العذاب شدته. ثم بين أنهم معترفون بالمعبود الحق إلا أنهم يشركون به وقد مر في آخر «العنكبوت» مثله إلا أنه قال في آخره بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ وذلك أنه زاد هناك قوله وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ [الرعد: 2] فبالغ، فإن نفي العقل أبلغ من نفي العلم إذ كل عالم عاقل ولا ينعكس. ثم ذكر أن الملك كله له وهو غني على الإطلاق حميد بالاستحقاق. وحين بين غاية قدرته أراد أن يبين أنه لا نهاية لعلمه فقال وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ الآية. عن ابن عباس: أنها نزلت جوابا لليهود وأن التوراة فيها كل الحكمة. وقيل: هي جواب قول المشركين أن الوحي سينفد.
وتقدير الآية على قراءة الرفع: لو ثبت كون الأشجار أقلاما وثبت البحر ممدودا بسبعة أبحر. ويجوز أن تكون الجملة حالا واللام في البحر للجنس. وجعل جنس البحار ممدودا بالسبعة للتكثير لا للتقدير، فإن كثيرا من الأشياء عددها سبعة كالسيارات السبعة والأقاليم السبعة وأيام الأسبوع ومثله
قوله صلى الله عليه وسلم «المؤمن يأكل في معا واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء» «1»
أراد الأكل الكثير. وقال في الكشاف جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وجعل
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأطعمة باب 12. مسلم في كتاب الأشربة حديث 182- 186. الترمذي في كتاب الأطعمة باب 20 ابن ماجة في كتاب الأطعمة باب 3. الدارمي في كتاب الأطعمة باب 13.
الموطأ في كتاب صفة النبي حديث 9، 10. أحمد في مسنده (2/ 21، 43) (4/ 336) .
(5/429)
الأبحر السبعة مملوأة مدادا، فهي تصب فيه مدادها أبدا صبا لا ينقطع. قلت: جعله الأبحر سبعة تقديرا ينافي قوله «أبدا لا ينقطع» وإنما لم يجعل للأقلام مدادا لأن نقصان المداد بالكتابة أظهر من نقصان القلم. وإنما لم يقل «كلم الله» على جمع الكثرة للمبالغة إذ يفهم منه أن كلماته لا تفي بكتبتها البحار فكيف بكلمة؟ وقيل: أراد بكلماته عجائب مصنوعاته الموجودة بكلمة «كن» وقد مر نظير هذه الآية في آخر الكهف. ثم بين أنه لا يصعب على قدرته كثرة الإيجاد والإعدام فإن تعلق قدرته بمقدور واحد كتعلقها بمقدورات غير محصورة لأن اقتداره لا يتوقف على آلة وعدة وإنما ذلك له ذاتي يكفي فيه الإرادة. ثم أكد ذلك بأن سمعه يتعلق في زمان واحد بكل المسموعات، وكذا بصره بكل المبصرات من غير أن يشغله شيء عن شيء. ثم أعاد طرفا من دلائل قدرته مع تذكير بعض نعمه قائلا أَلَمْ تَرَ وقد مر نظيره في «الحج» إلى قوله الْكَبِيرُ وقوله هاهنا يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وقوله في «فاطر» و «الزمر» لِأَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: 5، فاطر: 13] يؤل إلى معنى واحد وإن كان الطريق مغايرا، لأن الأول معناه انتهاؤهما إلى وقت معلوم وهو للشمس آخر السنة وللقمر آخر الشهر. وعن الحسن: هو يوم القيامة لأن جريهما لا ينقطع إلا وقتئذ. والثاني معناه اختصاص الجري بإدراك أجل معلوم كما وصفنا. ووجه اختصاص هذا المقام بإلى وغيره باللام، أن هذه الآية صدّرت بالتعجيب فناسب التطويل. والمشار إليه بذلك هو ما وصف من عجيب قدرته أو أراد أن الموحى من هذه الآيات بسبب بيان أن الله هو الحق. قال بعضهم الْعَلِيُّ إشارة إلى كونه تماما وهو أنه حصل له كما ينبغي أن يكون له. والْكَبِيرُ إشارة إلى كونه فوق التمام وهو أنه يحصل لغيره ما يحتاج إليه. ثم أكد الآية السماوية بالآية الأرضية.
ومعنى بِنِعْمَتِهِ بإحسانه ورحمته أو بالريح الطبية التي هي بأمر الله إِنَّ فِي ذلِكَ الإجراء لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على الضراء شَكُورٍ في السراء. ووجه المناسبة أن كلتا الحالتين قد يقع لراكب البحر أو صبار على النواحي والتروك شكور في الأفعال والأوامر ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم «الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر» .
ثم ذكر أن بعض الناس لا يخلص لله إلا عند الشدائد، وإنما وحد الموج وجمع الظلل وهي كل ما أظلك من جبل أو سحاب، لأن الموج الواحد يرى له صعود ونزول كالجبال المتلاصقة. وإنما قال هاهنا.
فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وقد قال فيما قبل إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ [العنكبوت: 65] لأنه ذكر هاهنا الموج وعظمته ولا محالة يبقى لمثله أثر في الخيال فيخفض شيئا من غلو الكفر والظلم وينزجر بعض الانزجار، ويلزمه أن يكون متوسطا في الإخلاص أيضا لا غاليا فيه، وقل مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر. والختر أشد الغدر ومنه قولهم «لا تمد لنا شبرا من غدر إلا
(5/430)
مددنا لك باعا من ختر» . والختار في مقابلة الصبار لأن الختر لا يصدر إلا من عدم الصبر وقلة الاعتماد على الله في دفع المكروه. والكفور طباق الشكور. وحين بيّن الدلائل وعظ بالتقوى وخوف من هول يوم القيامة. ومعنى لا يَجْزِي لا يقضي كما مر في أول «البقرة» .
وذكر شخصين في غاية الشفقة والمحبة وهما الوالد والولد ليلزم منه عدم الانتفاع بغيرهما بالأولى، وفيه إشارة إلى ما جرت به العادة من أن الأب يتحمل الآلام عن ابنه ما أمكن، والولد يتحمل الإهانة عن الأب ما أمكن، فكأنه قال: لا يجزى فيه والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ شيئا من الآلام وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً من أسباب الإهانة. قال جار الله: إنما أوردت الجملة الثانية اسمية لأجل التوكيد. وذلك أن الخطاب للمؤمنين فأراد حسم أطماعهم أن يشفعوا لآبائهم الكفرة وفي توسيط «هو» مزيد تأكيد. وفي لفظ الْمَوْلُودِ دون أن يقول «ولا ولد» تأكيد آخر، لأن الولد يقع على ولد الولد أيضا بخلاف المولود فإنه لمن ولد منك فكأنه قيل: إن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته فضلا أن يشفع لمن فوقه. وقيل: إنما أوردت الثانية اسمية لأن الابن من شأنه أن يكون جازيا عن والده لما عليه من الحقوق والوالد يجزي شفقة لا وجوبا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بمجيء ذلك اليوم حَقٌّ أو وعده بعدم جزاء الوالد عن الولد وبالعكس حق. والْغَرُورُ بناء مبالغة وهو الشيطان أي لا ينبغي أن تغرنكم الدنيا بنفسها ويزينها في أعينكم غار من الشيطان أو النفس الأمارة.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «مفاتيح الغيب خمس» وتلا قوله إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «1»
إلى آخرها. وعن المنصور، أنه همه معرفة مدة عمره فرأى في منامه كأن خيالا أخرج يده من البحر وأشار إليه بالأصابع الخمس. فاستفتى العلماء في ذلك فتأولوها بخمس سنين وبخمسة أشهر وبغير ذلك حتى قال أبو حنيفة: تأويلها أن مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله، وأن ما طلبت معرفته لا سبيل لك إليه. قال في التفسير الكبير: ليس مقصود الآية أنه تعالى مختص بمعرفة هذه الأمور فقط فإنه يعلم الجوهر الفرد أين هو وكيف هو من أول يوم خلق العالم إلى يوم النشور، وإنما المراد أنه تعالى حذر الناس من يوم القيامة. كان لقائل أن يقول: متى الساعة؟ فذكر أن هذا العلم لا يحصل لغيره ولكن هو كائن لدليلين ذكرهما مرارا وهو إنزال الغيث المستلزم لإحياء الأرض وخلق الأجنة في الأرحام، فإن القادر على الإبداء قادر على الإعادة بالأولى. ثم إنه كأنه قال: أيها السائل إن لك شيئا أهم منها لا تعلمه فإنك لا تعلم معاشك ومعادك فلا تعلم ماذا تَكْسِبُ غَداً مع أنه فعلك وزمانك ولا
__________
(1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 6 باب 1. مسلم في كتاب الإيمان حديث 5، 7. النسائي في كتاب الإيمان باب 6. أحمد في مسنده (2/ 24، 52) (4/ 13) .
(5/431)
تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك فكيف تعلم قيام الساعة؟ والسر في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت بل مكانه هو أنه ينافي التكليف كما مر في أول «طه» ، ولو علم المكلف مكان موته لأمن الموت إذا كان في غيره. والسر في إخفاء الكسب في غير الوقت الحاضر هو أن يكون المكلف أبدا مشغول السر بالله معتمدا عليه في أسباب الرزق وغيره.
روي أن ملك الموت مر على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه. فقال الرجل:
من هذا؟ قال: ملك الموت. فقال: كأنه يريدني. وسأل سليمان أن يحمله على الريح إلى بلاد الهند ففعل. ثم قال ملك الموت لسليمان: كان نظري إليه تعجبا منه لأني أمرت أن أقبض روحه بالهند وهو عندك.
قال جار الله: جعل العلم لله والدراية للعبد لما في الدراية من معنى الختل والحيلة كأنه قال: إنها لا تعرف وإن أعلمت حيلها وقرىء بأية أرض والأفصح عدم تأنيثه.
التأويل:
وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً هي تسخير ما في السموات وما في الأرض من الأجسام العلوية والسفلية، البسيطة والمركبة. وباطنة هي تسخير ما في سموات القلوب من الصدق والإخلاص والتوكل والشكر وسائر المقامات القلبية والروحانية بأن يسر العيون عليها بالسكون المتدارك بالجذبة والانتفاع بمنافعها والاجتناب عن مضارها. وتسخير ما في أرض النفوس من أضداد الأخلاق المذكورة بتبديلها بالحميدة والتمتع بخواصها والتحرز عن آفاتها. ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ لفساد استعدادهم تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ سلامتهم في الظاهر معلومة، وأما في الباطن فنجاتهم بسفائن العصمة من بحار القدرة أو بسفينة الشريعة بملابسة الطريقة في بحر الحقيقة لإراءة آيات شواهد الحق، وإذا تلاطمت عليهم أمواج بحار التقدير تمنوا أن تلفظهم نفحات الألطاف إلى سواحل الأعطاف.
(5/432)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9) وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
(سورة ألم السجدة)
(حروفها ألف وخمسمائة وثمانية عشر كلماتها ثلاثمائة وثمانون آياتها ثلاثون مكية إلا قوله أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً إلى ثلاث آيات)
[سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 30]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9)
وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19)
وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29)
فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
(5/433)
القراآت:
خَلَقَهُ بفتح اللام: عاصم وحمزة وعلي وخلف ونافع وسهل. الآخرون:
بالسكون على البدل من كل شيء. وعلى الأول يكون وصفا له أَإِذا أَإِنَّا كما في «الرعد» ما أُخْفِيَ بسكون الياء على أنه فعل مضارع متكلم: حمزة. الباقون: بفتحها على أنه فعل ماض مجهول لَمَّا صَبَرُوا بكسر اللام وتخفيف الميم: حمزة وعلي ورويس. الباقون: بفتح اللام وتشديد الميم أولم نهد بالنون: يزيد عن يعقوب.
الوقوف:
الم هـ كوفي الْعالَمِينَ هـ ط لأن «أم» استفهام تقريع غير عاطفة بل هي منقطعة افْتَراهُ ج لعطف الجملتين المختلفتين يَهْتَدُونَ هـ الْعَرْشِ ط شَفِيعٍ هـ تَتَذَكَّرُونَ هـ ط تَعُدُّونَ هـ الرَّحِيمُ ط مِنْ طِينٍ هـ ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار مَهِينٍ هـ ج لذلك وَالْأَفْئِدَةَ ط تَشْكُرُونَ هـ جَدِيدٍ هـ كافِرُونَ هـ تُرْجَعُونَ هـ عِنْدَ رَبِّهِمْ ط لحق القول المحذوف مُوقِنُونَ هـ أَجْمَعِينَ هـ هذا ج للابتداء بان مع تكرار وَذُوقُوا تَعْمَلُونَ هـ لا يَسْتَكْبِرُونَ هـ وَطَمَعاً ز لانقطاع النظم بتقديم المفعول يُنْفِقُونَ هـ أَعْيُنٍ ج لأن جَزاءً يحتمل أن يكون مفعولا له وأن يكون مصدرا لفعل محذوف يَعْمَلُونَ هـ فاسِقاً ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار لا يَسْتَوُونَ هـ الْمَأْوى ز لمثل ما مر في جَزاءً يَعْمَلُونَ هـ النَّارُ ط تُكَذِّبُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ عَنْها ط مُنْتَقِمُونَ هـ إِسْرائِيلَ هـ ج وإن اتفقت الجملتان للعدول عن ضمير المفعول الأول وهو واحد إلى ضمير الجمع في الثانية صَبَرُوا ط لمن شدد
(5/434)
يُوقِنُونَ هـ يَخْتَلِفُونَ هـ مَساكِنِهِمْ ط لَآياتٍ ط يَسْمَعُونَ هـ وَأَنْفُسُهُمْ ط يُبْصِرُونَ هـ صادِقِينَ هـ يُنْظَرُونَ هـ مُنْتَظِرُونَ هـ.
التفسير:
لما ذكر في السورة المتقدمة دلائل الوحدانية ودلائل الحشر وهما الطرفان، بدأ في هذه السورة ببيان الأمر الأوسط وهو الرسالة المصححة ببرهان القرآن. وإعرابه قريب من قوله الم ذلِكَ الْكِتابُ [البقرة: 1- 2] وميل جار الله إلى قوله تَنْزِيلُ الْكِتابِ مبتدأ خبره مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ ولا ريب فيه اعتراض لا محل له والضمير في فِيهِ راجع إلى مضمون الجملة أي لا ريب في كونه منزلا من عنده. ويمكن أن يقال: في وجه النظم لما عرّف في أول السورة المتقدمة أن القرآن هدى ورحمة قال هاهنا: إنه من رب العالمين، وذلك أن من عثر على كتاب سأل أولا أنه في أي علم. فإذا قيل: إنه في الفقه أو التفسير.
سأل: إنه تصنيف أي شخص؟ ففي تخصيص رب العالمين بالمقام إشارة إلى أن كتاب رب العالمين لا بد أن يكون فيه عجائب للعالمين فترغب النفس في مطالعته. ثم أضرب عما ذكر قائلا أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ وهو تعجيب من قولهم لظهور أمر القرآن في تعجيز بلغائهم عن مثل سورة الكوثر. ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك. ومعنى لِتُنْذِرَ قَوْماً قد مر في «القصص» ويندرج فيهم أهل الكتاب إذ يصدق عليهم أنه لم يأتهم نذير بعد ضلالهم سوى محمد صلى الله عليه وسلم، ولو لم يندرجوا لم يضرّ فإن تخصيص قوم بالذكر لا يدل على نفي من عداهم كقوله وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: 214] وحين بين الرسالة بين ما على الرسول من الدعاء إلى التوحيد فقال اللَّهُ مبتدأ خبره ما يتلوه وقد مر نظائره. وقوله ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ إثبات للولاية والشفاعة أي النصرة من عنده ونفي لهما من غيره، وفيه تجهيل لعبدة الأصنام الزاعمين أنها شفعاؤهم بعد اعترافهم بأن خالق الكل هو الله سبحانه. ولما بين الخلق شرع في الأمر فقال يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي المأمور به من الطاعات والأعمال الصالحة ينزله مدبرا من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه ذلك العمل في يوم طويل، وهو كناية عن قلة الإخلاص لأنه لا يوصف بالصعود ولا يقوى على العروج إلا العمل الخالص، يؤيد هذا التفسير قوله فيما بعد قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أو يدبر أمر الدنيا كلها من السماء إلى الأرض لكل يوم من أيام الله وهو ألف سنة، ثم يصعد إليه مكتوبا في الصحف في كل جزء من أجزاء ذلك اليوم إلخ. ثم يدبر الأمر ليوم آخر مثله وهلم جرا. أو ينزل الوحي مع جبرائيل ثم يرجع إليه ما كان من قبول الوحي. ورده مع جبرائيل أيضا وتقدير الزمان بألف سنة لأن ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام وأن الملك يقطعها في يوم واحد من أيامنا. وقيل: إنه إشارة إلى نفوذ الأمر، فإن نفاذ الأمر كلما
(5/435)
كان في مدة أكثر كان حاله أعلى أي يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة منه، فكم يكون شهر منه وكم يكون سنة منه وكم يكون دهر منه؟ فلا فرق على هذا بين ألف سنة وبين خمسين ألف سنة كما في «المعارج» . وقيل: إن هذه عبارة عن الشدة واستطالة أهلها إياها كالعادة في استطالة أيام الشدة والحزن واستقصار أيام الراحة والسرور. وخصت السورة بقوله أَلْفَ سَنَةٍ موافقة لما قبله وهو قوله فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وتلك الأيام من جنس هذا اليوم. وخصت سورة المعارج بقوله خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [الآية: 4] لأن فيها ذكر القيامة وأهوالها فكان هو اللائق بها. وعن عكرمة: إن اليوم في المعارج عبارة عن أول أيام الدنيا إلى انقضائها وأنها خمسون ألف سنة لا يدري أحدكم كم مضى وكم بقي إلا الله عز وجل.
وبالجملة فالآية المتقدمة تدل على عظمة عالم الخلق وسعة مكانه، والآية الثانية تدل على عظمة عالم الأمر وامتداد زمانه. ثم بين أنه مع غاية عظمة ملكه وملكوته عليم بأمر العالمين فقال ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وفي قوله الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ إشارة إلى صفتي القهر واللطف اللتين ينبغي أن تكونا لكل ملك، وإنما أخر الرَّحِيمُ مع أن رحمته سبقت غضبه ليوصله بقوله الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ نظيره الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ [طه:
50] وقد مر في «طه» . وعطف عليه تخصيصا بعد تعميم خلق الإنسان وهو آدم بدليل قوله ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ أي ذريته لأنها تنسل أي تنفصل، والسلالة الخلاصة كما ذكرنا في أول «المؤمنين» ، وقوله مِنْ ماءٍ بدل من سلالة والمهين الحقير. ومعنى سَوَّاهُ قوّمه وأداره في الأطوار إلى حيث صلح لنفخ الروح فيه، ثم عدل من الغيبة إلى الخطاب في قوله وَجَعَلَ لَكُمُ تنبيها على جسامة نعم هذه الجوارح وتوبيخا على قلة الشكر عليها. ثم بين عدم شكرهم بإنكارهم المعاد بعد مشاهدة الفطرة الأولى وليست الثانية بأصعب منها.
والواو للعطف على ما سبق كأنهم قالوا: إن محمدا مفتر وقالوا: الله ليس بواحد وَقالُوا أَإِذا يعني أنهم وأسلافهم زعموا أن الحشر غير ممكن.
ومعنى ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ غبنا فيها إما بالدفن أو بتفرق الأجزاء وتلاشيها. والعامل في أَإِذا ما يدل عليه قوله أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو نبعث أو يجدد خلقنا. ثم صرح بإثبات كفرهم على الإطلاق واللقاء لقاء الجزاء الشامل لجميع أحوال الآخرة. ثم رد عليهم قولهم بالفوت بأنه يتوفاهم ملك الموت الموكل بقبض الأرواح ثم يرجعون إلى حكم الله وحده. ثم بين ما يكون من حالهم عند الرجوع بقوله وَلَوْ تَرى أنت يا محمد أوكل من له أهلية الخطاب إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ خجلا وندامة قائلين رَبَّنا أَبْصَرْنا ما كنا شاكين في وقوعه وَسَمِعْنا منك تصديق رسلك وجواب «لو» محذوف
(5/436)
وهو لرأيت أمرا فظيعا، وجوزوا أن يكون «لو» للتمني كأنه جعل لنبيه تمني أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الذل والهوان ليشمت بهم. ثم إنه سبحانه ألزمهم وألجمهم بقوله وَلَوْ شِئْنا الآية. وفيه أنه لو ردهم إلى الدنيا لم يهتدوا لأنهم خلقوا لجهنم القهر وقد مر نظيره في آخر «هود» . ثم أكد إهانتهم بقوله فَذُوقُوا وانتصب هذا على أنه مفعول فَذُوقُوا وقوله لِقاءَ مفعول نَسِيتُمْ أي ذوقوا هذا العذاب بما نسيتم لقاء يومكم وذهلتم عنه بعد وضوح الدلائل أو تركتم الفكر فيه، ويجوز أن يكون هذا صفة يَوْمِكُمْ ومفعول ذُوقُوا محذوف وهو العذاب ولِقاءَ مفعول نَسِيتُمْ أو هو مفعول فَذُوقُوا على حذف المضاف أي تبعة لقاء يومكم ويكون نَسِيتُمْ متروك المفعول أو محذوفه وهو الفكر في العاقبة. وقوله إِنَّا نَسِيناكُمْ من باب المقابلة والمراد تركهم من الرحمة نظيره نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ [التوبة: 67] وقوله عَذابَ الْخُلْدِ من باب إضافة الموصوف إلى الصفة في الظاهر نحو: رجل صدق. أمرهم على سبيل الإهانة بذوق عذاب الخزي والخجل، ثم بذوق العذاب الخلد أعاذنا الله منه بفضله العميم، ثم ذكر أن كما الإيمان بآيات الله من شأن الخلص من عباده الساجدين لله شكرا وتواضعا حين وعظوا بآيات ربهم منزهين له عما لا يليق بجنابه وجلاله متلبسين بحمده غير مستكبرين عن عبادته تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ ترتفع وتتنحى عن مواضع النوم داعين ربهم أو عابدين له خَوْفاً من أليم عقابه وَطَمَعاً في عظيم ثوابه،
وفسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيام الليل وهو التهجد. قال: «إذا جمع الله الأولين والآخرين جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلهم سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم ثم يرجع ينادي ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع فيقومون وهم قليل ثم يرجع فينادي ليقم الذين كانوا يحمدون الله في البأساء والضراء فيقومون وهم قليل فيسرحون إلى الجنة ثم يحاسب سائر الناس.» »
عن علي رضي الله عنه: جنبي تجافى عن الوساد خوفا من النار والمعاد من خاف من سكرة المنايا لم يدر ما لذة الرقاد قد بلغ الزرع منتهاه لا بد للزرع من حصاد
عن أنس بن مالك: كان أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء الآخرة فنزلت فيهم. وقيل: هم الذين يصلون صلاة العتمة لا ينامون عنها.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (3/ 68، 76) .
(5/437)
و «ما» في قوله ما أُخْفِيَ موصولة ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى أي شيء، والمعنى لا تعلم نفس من النفوس لا ملك مقرب ولا نبي مرسل أي نوع عظيم من الثواب ادخر الله لأولئك مما تقرّ به عيونهم حتى لا تطمح إلى غيره ولا تطلب الفرح بما عداه.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر بله ما أطلعتم عليه اقرؤا إن شئتم فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين» «1»
وعن الحسن: أخفى القوم أعمالا في الدنيا فأخفى الله لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. قال المحققون: إنه يصدر من العبد أعمال صالحة وقد صدر عن الرب أشياء سابقة من الخلق والتربية وغيرهما، وأشياء لاحقة من الثواب والإكرام، فلله تعالى أن يقول: أنا أحسنت أولا، والعبد أحسن في مقابلته، فالثواب تفضل من غير عوض. وله أن يقول: الذي فعلته أولا تفضل فإذا أتى العبد بالعمل الصالح جزيته خيرا لأن جزاء الإحسان إحسان، وهذا الاعتبار الثاني أليق بالكرم ليذيق العبد لذة الأجر والكسب، والاعتبار الأول أليق بالعبودية حتى يرى الفضل لله في جانب الأبد فإذن لا تنقطع المعاملة بين الله وبين العبد أبدا، وتكون العبادة لهم في الآخرة بمنزلة التنفس للملائكة.
يروى أنه شجر بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه والوليد بن عقبة بن أبي معيط يوم بدر كلام فقال له الوليد: اسكت فإنك صبي. فقال له علي: اسكت فإنك فاسق. فأنزل الله تعالى فيهما خاصة
وفي أمثالهما من الفريقين عامة أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً إلى آخر ثلاث آيات أو أربع. ومن أول الآية محمول على اللفظ وفي قوله لا يَسْتَوُونَ محمول على المعنى. ثم فصل عدم استوائهما بقوله أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا وجَنَّاتُ الْمَأْوى نوع من الجنان تأوي إليها أرواح الشهداء على قول ابن عباس. وقال بعضهم: هي عن يمين العرش. وفي لام التمليك في فَلَهُمْ مزيد تشريف وإيذان بأنهم لا يخرجون منها كما لا يخرج المالك من ملكه ولهذا لو قيل: هذه الدار لزيد يفهم منه الملكية بخلاف ما لو قيل: اسكن هذه الدار. فإنه يحمل على الإعارة وإنه تعالى قال لأبينا آدم اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة: 35] لأنه كان في علمه أنه يخرج منها. وإنما قيل هاهنا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ وفي «سبأ» عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها [الآية: 42] لأن النار في هذه السورة وقعت موقع الكناية لتقدم ذكرها، الكنايات لا توصف فوصف العذاب. وفي «سبأ» لم يتقدم ذكر النار فحسن وصف النار.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 35. مسلم في كتاب الإيمان حديث 312 الترمذي في كتاب الجنة باب 15. ابن ماجة في كتاب الزهد باب 29. الدارمي في كتاب الرقاق باب 98. أحمد في مسنده (2/ 313) .
(5/438)
وتكذيبهم العذاب هو أنهم كانوا يقولون في الدنيا إنه لا عذاب في الآخرة، ويحتمل أن يراد بالتكذيب أنهم يقولون في الآخرة أول ما تأخذهم النار أنه لا عذاب فوق ما نحن فيه، فإذا زاد الله لهم ألما على ألم وهو قوله كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها صاروا كاذبين فيما زعموا أنه لا عذاب أزيد مما هم فيه، وعلى هذا يمكن أن يراد بالخروج منها والإعادة فيها هو أن أبدانهم تألف النار وتتعودها فيقل الإحساس بها فيعيد الله عليهم إحساسهم الأول فيزيد تألمهم، ومن هنا قالت الحكماء: إن الإحساس بحرارة حمى الدق أقل من الإحساس بحرارة الحمى البلغمية مع أن نسبة الدق إلى الثانية نسبة النار إلى الماء المسخن، ونظيره أن الإنسان يضع يده في الماء البارد فيتألم أولا، ثم إذا صبر زمانا طويلا زال ذلك الألم وذلك لبطلان حسه. ثم حتم على نفسه أنه يذيقهم عذاب الدنيا من القتل والأسر والقحط قبل أن يصلوا إلى عذاب الآخرة. وعن مجاهد: أن الأدنى هو عذاب القبر.
وإنما لم يقل الأصغر في مقابلة الأكبر، أو الأبعد الأقصى في مقابلة الأدنى، لأن الغرض هو التخويف والتهديد وذلك إنما يحصل بالقرب لا بالصغر والكبر ولا بالبعد. ومعنى قوله لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ والترجي على الله محال لنذيقهم إذاقة الراجين رجوعهم عن الكفر والمعاصي كقوله إِنَّا نَسِيناكُمْ أي تركناكم كما يترك الناسي حيث لا يلتفت إليه أصلا أي نذيقهم على الوجه الذي يفعل الراجي من التدريج، أو نذيقهم إذاقة يقول القائل: لعلهم يرجعون بسببه. قال في التفسير الكبير: إن الرجاء في أكثر الأمر يستعمل فيما لا تكون عاقبته معلومة، فتوهم الأكثرون أنه لا يجوز إطلاقه في حق الله تعالى وليس كذلك، فإن الجزم بالعاقبة إنما يحصل في حقه بدليل منفصل لا من نفس الفعل فإن التعذيب لا يلزم منه الرجوع لزوما بينا. قلت: هذا يرجع إلى التأويل الأول، فإن الكلام في تعذيب الله هل هو يستدعي الرجوع على سبيل الرجاء أم لا، وكون مطلق التعذيب مستدعيا لذلك لا يكفي للسائل. وقالت المعتزلة: لعل من الله إرادة وإرادة الله فعل المختار لا تقدح في اقتدار الله إذا لم يختر المختار مراد الله كما أنهم لم يختاروا التوبة والرجوع عن الكفر وإلا لم يكونوا ذائقين العذاب الأكبر. وإنما يقدح في اقتداره إذا تعلقت في إرادته بفعل نفسه أو بفعل المضطر المقسور ثم لا يوجد ذلك الفعل. وجوّز في الكشاف أن يراد: لعلهم يريدون الرجوع إلى الدنيا ويطلبونه كقوله فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً سميت إرادة الرجوع رجوعا كما سميت إرادة القيام قياما في قوله إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ [المائدة: 6] ثم بين أنهم إذا ذكروا بالدلائل من النعم أولا والنقم ثانيا وهو العذاب الأدنى ثم لم يؤمنوا فلا أحد أظلم منهم.
ومعنى ثُمَّ أنه ذكر مرات ثم بالآخرة أَعْرَضَ عَنْها والفاء في سورة الكهف تدل على
(5/439)
الإعراض عقيب التذكير وقد سبق. وقال أهل المعاني: «ثم» هاهنا تدل على أن الإعراض بعد التذكير مستبعد في العقول. قال المحققون: الذي لا يحتاج في معرفة الله إلّا إلى الله عدل كقوله أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] كما قال بعضهم: ما رأيت شيئا إلا ورأيت الله قبله. والذي يحتاج في ذلك إلى دلائل الآفاق والأنفس متوسط، والذي يقر عند الشدة ويجحد عند الرحمة ظالم كقوله وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ [الروم: 33] والذي يبقى على الجحود والإعراض وإن عذب فلا أظلم منه. وحين جعله أظلم كان ظالم توعد المجرمين عامة بالانتقام منهم ليدل على إصابة الأظلم منهم النصيب الأوفر من الانتقام. ولو قال «إنا منهم منتقمون» لم يكن بهذه الحيثية في الإفادة. ثم عاد إلى تأكيد أصل الرسالة مع تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ قال جار الله:
اللام للجنس ليشمل التوراة والفرقان. والضمير في لِقائِهِ للكتاب أي آتينا موسى مثل ما آتيناك ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي، فلا تك في شك من أنك لقيت مثله. واللقاء بمعنى التلقين والإعطاء كقوله وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ [النمل: 6] وقيل: الضمير في لِقائِهِ لموسى أي من لقائك موسى ليلة المعراج أو يوم القيامة، أو من لقاء موسى الكتاب وهو تلقيه له بالرضا والقبول. والضمير في جَعَلْنا للكتاب على أنه منزل على موسى.
واستدل به على أن الله تعالى جعل التوراة هدى لبني إسرائيل خاصة ولم يتعبد بما فيها ولد إسماعيل. ثم حكى أن منهم من اهتدى حتى صار من أئمة الهدى وذلك حين صبروا أو لصبرهم على متاعب التكليف ومشاق الدعاء إلى الدين بعيد إيقانهم به. وفيه أن الله تعالى سيجعل الكتاب المنزل على نبينا أيضا سبب الاهتداء والهداية وكان كما أخبر. ومثله
إخبار النبي صلى الله عليه وسلم «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»
ولا يخفى أن «من» التبعيضية في قوله وَجَعَلْنا مِنْهُمْ كانت تدل على أن بعضهم ليسوا أئمة الهدى، وفيه رمز إلى أن بعضهم كانوا أئمة الضلال فلذلك قال إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ الآية. وفيه إشارة إلى أنه سبحانه سيميز المحق في كل دين من المبطل. ثم أعاد أصل التوحيد مقرونا بالوعيد قائلا أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ وقد مر نظيره في آخر «طه» وإنما قال في آخر الآية إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ على الجمع ليناسب القرون والمساكن. وإنما قال أَفَلا يَسْمَعُونَ لأنه تقدم ذكر الكتاب وهو مسموع، وفيه إشارة إلى أنه لاحظ لهم منه إلا السماع. وحين ذكر الإهلاك والتخريب أتبعه ذكر الإحياء والعمارة. ومعنى نَسُوقُ الْماءَ نسوق السحاب وفيه المطر إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ وهي التي جز نباتها أي قطع إما لعدم الماء وإما لأنه رعي وأزيل. قال جار الله: ولا يقال للتي لا تنبت كالسباخ جرز بدلالة قوله فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً وعن ابن عباس أنها أرض اليمن،
(5/440)
والضمير في «به» للماء. وإنما قدم الأنعام هاهنا على الأنفس لأن الزرع لا يصلح أوّله إلا للأنعام وإنما يحدث الحب في آخر أمره. قال في «طه» كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ [الآية:
54] لأن الأزواج من النبات أعم من الزرع وكثير منه يصلح للإنسان في أول ظهوره مع أن الخطاب لهم فناسب أن يقدموا وإنما ختم الآية بقوله أَفَلا يُبْصِرُونَ تأكيدا لقوله في أول الآية أَوَلَمْ يَرَوْا ثم حكى نوع جهالة أخرى عنهم وهو استعجالهم العذاب. قال المفسرون: كان المسلمون يقولون إن الله سيفتح لنا على المشركين أي ينصرنا عليهم ويفتح بيننا وبينهم أي يفصل، فاستعجل المشركون ذلك. ويوم الفتح يوم القيامة فحينئذ تنفتح أبواب الأمور المبهمة أو يوم بدر أو يوم فتح مكة قاله مجاهد والحسن. فإن قلت: كيف ينطبق قوله قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ إلخ جوابا عن سؤالهم عن وقت الفتح؟ فالجواب أنهم سألوا ذلك على وجه التكذيب والاستهزاء فقيل لهم: لا تستهزؤا فكأنا بكم وقد حصلتم في ذلك اليوم وآمنتم فلم ينفعكم الإيمان واستنظرتم فلم تنظروا. ومن فسر يوم الفتح بيوم بدر أو بيوم فتح مكة فالمراد أن المقتولين منهم لا ينفعهم إيمانهم في حال القتل وإلا فقد نفع الإيمان الطلقاء يوم فتح مكة وناسا يوم بدر. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عنهم وانتظار النصرة عليهم حين علم أنه لا طريق معهم إلا القتال نظيره قوله قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطور: 31] .
التأويل:
الألف المحبون لقربي والعارفون بتمجيدي فلا يصبرون عني ولا يستأنسون بغيري. اللام الأحباء لي مدخر لقائي فلا أبالي أقاموا على وثاقي أم قصروا في وفائي. الميم ترك أوليائي مرادهم لمرادي فلذلك اخترتهم على جميع عبادي تَنْزِيلُ الْكِتابِ أعز الأشياء على الأحباب كتاب الأحباب أنزله رَبِّ الْعالَمِينَ لأهل الظاهر على ظاهرهم ولأهل الباطن في باطنهم فاستناروا بنوره وتكلموا بالحق عن الحق للحق فلم يفهمه أهل الغرة والغفلة فقالوا افْتَراهُ. خلق سموات الأرواح وأرض الأشباح وما بينهما من النفس والقلب والسر في ستة أجناس هي: الجماد والمعدن والنبات والحيوان والشيطان والملك ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الخفي وهو لطيفة ربانية قابلة للفيض الرباني بلا واسطة فَلا تَتَذَكَّرُونَ كيف خلقكم في أطوار مختلفة يُدَبِّرُ الْأَمْرَ من سماء الروح إلى أرض النفس البدن ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ النفس المخاطبة بخطاب ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] في يوم طلعت فيه شمس صدق الطلب، وأشرقت الأرض بنور جذبات الحق كانَ مِقْدارُهُ في العروج بالجذبة كألف سنة مما تعدون من أيامكم في السير من غير جذبة كما
قال صلى الله عليه وسلم «جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين»
وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ وخمره بيده في أربعين
(5/441)
صباحا فأودع في كل صباح خاصية نوع من أنواع عالم الشهادة ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ سلها من أجناس عالم الشهادة. ثُمَّ سَوَّاهُ شخص إنسان جديد المرآة وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ فصار مرآة قابلة لإراءة صفات جماله وجلاله. ثم تجلى فيها بتجلية صفة السمعية والبصرية والعالمية التي مرآتها السمع والأبصار والأفئدة ضَلَلْنا في أرض البشرية يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ وهو المحبة الإلهية بقبض الأرواح من صفات الإنسانية ويميتها عن محبوباتها بجذبة ارْجِعِي [الفجر: 28] ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ بالتوجه إلى حضيض عالم الطبيعة كالأنعام بعد أن كانوا رافعي الرؤوس يوم الميثاق. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ همتهم عن مضاجع الدارين جَنَّاتُ الْمَأْوى التي هي مأوى الأبرار تكون نزلا للمقربين السائرين إلى الله كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ لأنه لم يكن لكم به شعور في الدنيا لأنكم كنتم في يوم الغفلة والاشتغال بالمحسوسات الْعَذابِ الْأَدْنى إذا وقعت للسالك فترة ووقفة لعجب تداخله أو لملالة وسآمة ابتلاه الله ببلاء في نفسه أو ماله أو مصيبة في أهاليه وأقربائه وأحبابه لعله ينتبه من نوم الغفلة ويدارك أيام العطلة قبل أن يذيقه العذاب الأكبر في الخذلان والهجران فلا تك في مرية من لقائه أي من أنه يرى الرب ببركة متابعتك حين قال: اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الرؤية مخصوصة بك وبتبعتك لأمتك. ويحتمل أن يكون الخطاب في فلاتك لموسى القلب والضمير في لِقائِهِ لله. وجعلنا موسى القلب هدى لبني إسرائيل صفات القلب وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً هم السر الخفي إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ الآية. لأنهم عنده أعز من أن يجعل حكمهم إلى أحد من المخلوقين، ولأنه أعلم بحالهم من غيرهم ولئلا يطلع على أحوالهم غيره لأنه خلقهم للمحبة والرحمة فينظر في شأنهم بنظر المحبة والرضا، لأنه عفوّ يفيض العفو والجود فتحيا به القلوب الميتة فيسقي حدائق وصلهم بعد جفاف عودها وزوال المأنوس من معهودها فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً من الواردات التي تصلح لتربية النفوس وهي الأنعام، ومن المشاهدات التي تصلح لتغذية القلوب. ويقول المنكرون لهذه الطائفة مَتى هذَا الْفَتْحُ أي الفتوح التي تدعونها قل لا ينفعكم ذلك إذ لم تقتدوا بهم ولم تهتدوا بهديهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أيها الطالب بالإقبال علينا وبالله التوفيق.
(5/442)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3) مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5) النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6) وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
(سورة الأحزاب)
(مدنية حروفها خمسة آلاف وسبعمائة وستة وتسعون كلمها ألف ومائتان وثمانون آياتها ثلاث وسبعون)
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4)
ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9)
إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14)
وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)
(5/443)
القراآت:
بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ على الغيبة والضمير للمنافقين: أبو عمرو اللَّائِي بهمزة بعدها ياء: حمزة وعلي وخلف وعاصم وابن عامر. بهمزة مكسورة فقط: سهل ويعقوب ونافع غير ورش من طريق النجاري وابن مجاهد وابن عون عن قنبل اللاي بياء مكسورة فقط: أبو عمرو وورش من طريق النجاري ويزيد وسائر الروايات عن ابن كثير وكذلك في «المجادلة» و «الطلاق» تُظاهِرُونَ من المظاهرة عاصم تُظاهِرُونَ بحذف إحدى تاءي الفاعل: حمزة وعلي وخلف. مثله ولكن بإدغام التاء في الظاء: ابن عامر الباقون تظهرون بتشديد الظاء والهاء بما يعملون بصيرا على الغيبة: أبو عمرو وعباس مخير وَإِذْ زاغَتِ مدغما: أبو عمرو وعلي وهشام وحمزة في رواية ابن سعدان وخلاد وابن عمرو وزاغَتِ ممالة: نصير وحمزة في رواية خلاد ورجاء الظُّنُونَا والرَّسُولَا والسَّبِيلَا في الحالين: أبو عمرو ونافع وابن عامر وعباس والخراز وأبو بكر وحماد والمفضل. وقرأ أبو عمرو غير عباس وحمزة ويعقوب بغير ألف في الحالين. الباقون:
بالألف في الوقوف وبغير ألف في الوصل لا مُقامَ بضم الميم: حفص الآخرون:
بفتحها. لأتوها مقصورا من الإتيان: أبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون: بالمد من الإيتاء والإعطاء ويسائلون بإدغام التاء في السين من التفاعل: يعقوب الباقون يَسْئَلُونَ ثلاثيا.
الوقوف:
وَالْمُنافِقِينَ ط حَكِيماً هـ رَبِّكَ ط خَبِيراً هـ عَلَى اللَّهِ ط وَكِيلًا ط هـ فِي جَوْفِهِ ج فصلا بين بيان الحالين المختلفين مع اتفاق الجملتين
(5/444)
أُمَّهاتِكُمْ ج لذلك أَبْناءَكُمْ ط بِأَفْواهِكُمْ ط السَّبِيلَ هـ عِنْدَ اللَّهِ ج للشرط مع العطف وَمَوالِيكُمْ ط أَخْطَأْتُمْ بِهِ لا لأن التقدير ولكن فيما تعمدت قلوبكم وكذا إن كان خبر مبتدأ محذوف أي ولكن ما تعمدت قلوبكم فيه الجناح وذلك للاستدراك رَحِيماً هـ ط أُمَّهاتُهُمْ ط مَعْرُوفاً هـ مَسْطُوراً هـ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ص للعطف غَلِيظاً هـ صِدْقِهِمْ ج لأن الماضي لا ينعطف على المستقبل ولكن التقدير: وقد أعاد أَلِيماً هـ تَرَوْها ط بَصِيراً هـ ج لاحتمال أن يكون المراد واذكر إذ جاؤكم ولا سيما على قراءة يعملون على الغيبة الظُّنُونَا ط شَدِيداً هـ غُرُوراً هـ فَارْجِعُوا ج لظاهر الواو وإن كانت للاستئناف بِعَوْرَةٍ ط بناء على أن ما بعده ابتداء إخبار من الله، ومن وقف على عَوْرَةٌ وجعل ابتداء الإخبار من هناك لم يقف فِراراً هـ يَسِيراً هـ الْأَدْبارَ ط مَسْؤُلًا هـ قَلِيلًا هـ رَحْمَةً ط وَلا نَصِيراً هـ إِلَيْنا ج لاحتمال كون ما بعده استئنافا أو حالا قَلِيلًا لا لأن ما بعده حال عَلَيْكُمْ ج لعطف الجملتين المختلفتين الْمَوْتِ ج فصلا بين تناقض الحالين الْخَيْرِ ط أَعْمالَهُمْ ط يَسِيراً هـ لَمْ يَذْهَبُوا ج أَنْبائِكُمْ ط قَلِيلًا هـ.
التفسير:
لما أمره في آخر السورة المتقدمة بانتظار الفرج والنصر أمره في أول هذه السورة بأن لا يتقي غير الله ولا يطيع سواه. قال جار الله عن زر قال: قال أبي بن كعب: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت: ثلاثا وسبعين آية. قال: فو الذي يحلف به أبي بن كعب إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول، ولقد قرأنا منها آية الرجم «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما» إلى آخره. أراد أبي بن كعب أنها من جملة ما نسخ من القرآن. وأما ما يحكى أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليفات المبتدعة. ومن تشريفات الرسول صلى الله عليه وسلم أنه نودي في جميع القرآن بالنبي أو الرسول دون اسمه كما جاء يا آدَمُ [البقرة: 35] يا مُوسى [طه: 11] يا عِيسى [آل عمران: 55] يا داوُدُ [ص: 26] وإنما جاء في الأخبار مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح: 29] تعليما للناس وتلقينا لهم أنه رسول وجاء ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ [الأحزاب: 40] وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ [محمد: 2] لأن المقام مقام تعيين وتشخيص وإزالة اشتباه مع قصد أن لا يكون القرآن خاليا عن بركة اسمه العلم وحيث لم يقصد هذا المعنى ذكره بنحو ما ذكره في النداء كقوله لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ [التوبة: 128] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ [الأحزاب: 21] والمراد بقوله اتَّقِ اللَّهَ
(5/445)
واظب على ما أنت عليه من التقوى ولو أريد الازدياد جاز لأن التقوى باب لا يبلغ آخره ولا يأمن أحد أن يصدر عنه ما لا يوافق التقوى ولا يطابق الدعوى ولهذا جاء قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف: 110] يعني إنما يرفع عني الحجاب فينكشف لي الوحي، وإذا أرخى لدي الستر فإني كهيئتكم.
يروى أنه صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان يحب إسلام يهود قريظة والنضير وغيرهم وقد تابعه ناس منهم على النفاق كان يلين لهم جانبه ويكرم صغيرهم وكبيرهم فنزلت.
وروي أن أبا سفيان بن حرب وأشياعه قدموا المدينة أيام المصالحة فقالوا:
يا رسول الله ارفض ذكر آلهتنا وندعك وربك، فشق ذلك على المؤمنين فهموا بقتلهم فنزلت.
أي اتق الله في نقض العهد. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ من أهل مكة وَالْمُنافِقِينَ من أهل المدينة فيما طلبوا إليك وكانوا يقولون له أن يعطوه شطر أموالهم إن رجع عن دينه.
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالصواب حَكِيماً فيما أمرك به من عدم اتباع آرائهم وأهوائهم، وحين نهاه عن اتباع الغي أمره باتباع ما هو رشد وصلاح وهو القرآن، وبأن يثق بالله ويفوّض إليه أموره فلا يخاف غيره ولا يرجو سواه. ولما أمر رسوله بما أمر من اتقاء الله وحده وقد ابتدر منه صلى الله عليه وسلم في حكاية زينب زوجة دعيه زيد ما ابتدر قال على سبيل المثل ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ كأنه قال: يا أيها النبي اتق الله حق تقاته وهو أن لا يكون في قلبك تقوى غير الله فإن المرء ليس له قلبان حتى يتقي بأحدهما الله وبالآخر غيره كما جاء في قصة زيد وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ثم أراد أن يدفع عنه مقالة الناس بأنه تعالى لم يجعل دعي المرء ابنه فقدم على ذلك مقدمة وهي قوله وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ إلى آخرها أي إنكم إذا قلتم لأزواجكم: أنت عليّ كظهر أمي لا تصير أما بإجماع الكل، أما في الإسلام فإنه ظهار لا يحرم الوطء كما سيجيء في سورة المجادلة. وأما في الجاهلية فلأنه كان طلاقا حتى كان يجوز للزوج أن يتزوج بها ثانيا. فكذلك قول القائل للدعيّ إنه ابني لا يوجب كونه ابنا فلا تصير زوجته زوجة الابن، فلم يكن لأحد أن يقول في ذلك شيئا، فلم يكن لخوفك من الناس وجه ولو كان أمرا مخوفا ما كان يجوز أن تخاف غير الله إذ ليس لك قلبان في الجوف. والفائدة في ذكر هذا القيد كالفائدة في قوله الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:
46] من زيادة التصوير للتأكيد. ومعنى ظاهر من امرأته قال لها: أنت علي كظهر أمي. كأنه قال: تباعدي مني بجهة الظهار. وعدى ب «من» لتضمين معنى التباعد. وإنما كنوا عن البطن بالظهر لئلا يذكروا البطن الذي يقارب الفرج فكنوا عنه بالظهر الذي يلازمه لأنه عموده وبه قوامه. وقيل: إن إتيان المرأة في قبلها من جانب ظهرها كان محذورا عندهم زعما منهم بأن الولد حينئذ يجيء أحول، فلقصد التغليظ شبهها المطلق منهم بالظهر، ثم لم يقنع بذلك
(5/446)
حتى جعله ظهر أمه. والدعي «فعيل» بمعنى «مفعول» وهو المدعو ولد أشبه بفعيل الذي هو بمعنى «فاعل» كتقي وأتقياء فجمع على «أفعلاء» .
واعلم
أن زيد بن حارثة كان رجلا من قبيلة كلب سبي صغيرا فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله وهبته له وطلبه أبوه وعمه فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وكانوا يقولون زيد بن محمد فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقوله ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ [الأحزاب: 40] وقيل: كان أبو معمر رجلا من أحفظ العرب وكان يقال له ذو القلبين. وقيل: هو جميل الفهري كان يقول: إن لي قلبين أفهم بأحدهما أكثر مما يفهم محمد، فأكذب الله قولهما وضربه مثلا في الظهار والتبني. وقيل: سها في صلاته فقالت اليهود وأهل النفاق: لمحمد قلبان، قلب مع أصحابه وقلب معكم. وعن الحسن: نزلت فيمن يقول: نفس تأمرني ونفس تنهاني ومعنى التنكير في لِرَجُلٍ وزيادة من الاستغراقية التأكيد كأنه قيل: ما جعل الله لنوع الرجال ولا لواحد منهم قلبين البتة ذلِكُمْ النسب قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ إذ لا أصل شرعا لقول القائل: هذا ابني. وذلك إذا كان معروف النسب حرا، أما إذا كان مجهول النسب فإن كان حرا ثبت نسبه من المتبني ظاهرا إن أمكن ذلك بحسب السن، وإن كان عبدا له عتق وثبت النسب. وإن كان العبد معروف النسب عتق ولم يثبت النسب. ثم بين ما هو الحق والهدى عند الله فقال ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ أي انسبوهم إليهم فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فهم إخوانكم في الدين ومواليكم فقولوا: هذا أخي أو مولاي يعني الولاية في الدين. ثم رفع الجناح إذا صدر القول المذكور خطأ على سبيل سبق اللسان وكذا ما فعلوه من ذلك قبل ورود النهي. ويجوز أن يراد العفو عن الخطأ على طريق العموم فيتناول لعمومه خطأ النبي وعمده وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للخاطيء رَحِيماً للعامل ولا سيما إذا تاب. ثم إنه كان لقائل أن يقول: هب أن الدعي لا يسمى ابنا، أما إذا كان لدعيه شيء حسن فكيف يليق بالمروءة أن تطمح عينه إليه وخاصة إذا كان زوجته فلذلك قال في جوابه النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ والمعقول فيه أنه رأس الناس ورئيسهم فدفع حاجته والاعتناء بشأنه أهم كما أن رعاية العضو الرئيس وحفظ صحته وإزالة مرضه أولى وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم
بقوله «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» «1»
ويعلم من إطلاق الآية أنه أولى بهم من أنفسهم في كل شيء من أمور الدنيا والدين. وقيل: إن أولى بمعنى أرأف وأعطف
كقوله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث 95، 97. أبو داود في كتاب الزكاة باب 39، 40. أحمد في مسنده (2/ 94) . [.....]
(5/447)
«ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة اقرؤا إن شئتم النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن هلك وترك مالا فلترثه عصبته من كانوا وان ترك دينا أو ضياعا أي عيالا فإليّ» «1»
وكما رفع قدره بتحليل أزواج غيره له إذا تعلق قلبه بإحداهن رفع شأنه بتحريم أزواجه على أمته ولو بعد وفاته فقال وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ أي في هذا الحكم فإنهن فيما وراء ذلك كالأجنبيات ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن. ومن كمال عناية الله سبحانه بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن لم يقل وهو أب لهم وإن جاءت هذه الزيادة في قراءة ابن مسعود وإلا حرم زوجات المؤمنين عليه أبدا، إلا أن يراد الأبوة والشفقة في الدين كما قال مجاهد: كل نبي فهو أبو أمته. ولذلك صار المؤمنون أخوة. قال المفسرون: كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة فنسخه الله بقوله وَأُولُوا الْأَرْحامِ الآية.
وجعل التوارث بحق القرابة ومعنى فِي كِتابِ اللَّهِ في اللوح أو في القرآن وهو هذه الآية وآية المواريث وقد سبق نظيره في آخر «الأنفال» . وقوله مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إما ان يتعلق ب أُولُوا الْأَرْحامِ أي الأقارب من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا من الأجانب، وإما أن يتعلق ب أَوْلى أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحق الولاية الدينية ومن المهاجرين بحق الهجرة. ثم أشار إلى الوصية بقوله إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا أي إلا أن يسدوا ويوصلوا إلى أوليائهم في الدين وهم المؤمنون والمهاجرون معروفا برا بطريق التوصية. والحاصل أن الأقارب أحق من الأجانب في كل نفع من ميراث وهبة وهدية وصدقة وغير ذلك إلا في الوصية فإنه لا وصية لوارث. قال أهل النظم: كأنه سبحانه قال:
بينكم هذا التوارث والنبي لا توارث بينه وبين أقاربه فلذلك جعلنا له بدل هذا أنه أولى في حياته بما في أيديكم، أو لعله أراد دليلا على قوله أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ فذكر أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، ثم لو أراد أحد برا مع صديقه صار ذلك الصديق أولى من قريبه كأنه بالوصية قطع الإرث وقال: هذا مالي لا ينتقل مني إلا إلى من أريده، فالله تعالى كذلك جعل لصديقه من الدنيا ما أراده. ثم ما يفضل منه يكون لغيره كانَ ذلِكَ الذي ذكر في الآيتين فِي الْكِتابِ وهو القرآن أو اللوح مَسْطُوراً والجملة مستأنفة كالخاتمة للأحكام المذكورة.
ثم أكد الأمر بالاتقاء بقوله وَإِذْ أَخَذْنا أي اذكر وقت أخذنا في الأزل مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القويم من غير تفريط وتوان. وقد خصص بالذكر
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الاستقراض باب 11. أحمد في مسنده (2/ 334) .
(5/448)
خمسة لفضلهم وقدم نبينا صلى الله عليه وسلم لأفضليته. وإنما قدم نوحا في قوله شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ [الشورى: 13] لأن المقصود هنالك وصف دين الإسلام بالأصالة والاستقامة فكأنه قال: شرع لكم من الدين الأصلي الذي بعث عليه نوح في العهد القديم، ومحمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث، وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير. وإنما نسب الدين القديم إلى نوح لا إلى آدم لأن نوحا كان أصلا ثانيا للناس بعد الطوفان، وخلق آدم كان كالعمارة ونبوته كانت إرشادا للأولاد ولهذا لم يكن في زمانه إهلاك قوم ولا تعذيب كما في زمن نوح والله أعلم. قال أهل البيان: أراد بالميثاق الغليظ ذلك الميثاق بعينه أي وأخذنا منهم بذلك الميثاق ميثاقا غليظا أي عظيما وهو مستعار من وصف الأجرام. وقال آخرون: هو سؤالهم عما فعلوا في الإرسال كما قال وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] وهذا لأن الملك إذا أرسل رسولا وأمره بشيء وقبله كان ميثاقا فإذا أعلمه بأنه يسأل عن حاله في أفعاله وأقواله يكون تغليظا في الميثاق عليه حتى لا يزيد ولا ينقص في الرسالة، وعلى هذا يحق أن يقال: قوله في سورة النساء وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [الآية: 21] هو الإخبار بأنهم مسؤولون عنهن كما
قال صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» «1»
ثم بين الغاية من إرسال الرسل فقال لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ الآية. وفيه أن عاقبة المكلفين إما حساب وإما عذاب لأن الصادق محاسب والكاذب معاقب كما
قال علي رضي الله عنه: حلالها حساب وحرامها عقاب.
فالصادقون على هذا التفسير هم الذين صدقوا عهدهم يوم الميثاق حين قالوا بَلى في جواب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] ثم أقاموا على ذلك في عالم الشهادة، أو هم المصدقون للأنبياء فإن من قال للصادق صدقت كان صادقا. ووجه آخر وهو أن يراد بهم الأنبياء فيكون كقوله وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] وكقوله يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] وفائدة مسألة الرسل تبكيت الكافرين كما مر. قال جار الله: قوله وَأَعَدَّ معطوف على أخذنا كأنه قال: أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد أو على ما دل ليسأل كأنه قيل: فأثاب للمؤمنين وأعد للكافرين. وفيه وجه آخر عرفته في الوقوف. ثم أكد الأمر بالاتقاء من الله وحده مرة أخرى فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا الآية. وذلك أن في وقعة الأحزاب اشتد الأمر على الأصحاب لاجتماع المشركين بأسرهم واليهود بأجمعهم، فأمنهم الله وهزم عدوهم فينبغي أن لا يخاف العبد غير الله القدير
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجمعة باب 11. مسلم في كتاب الإمارة حديث 20 أبو داود في كتاب الإمارة باب 1، 13. الترمذي في كتاب الجهاد باب 27. أحمد في مسنده (2/ 45، 54) .
(5/449)
البصير.
وذكروا في القصة أن قريشا كانت قد أقبلت في عشرة آلاف من أحزاب بني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان وقد خرج غطفان في ألف ومن تابعهم من نجد وقائدهم عيينة بن حصن وعامر بن الطفيل في هوازن وضامتهم اليهود من قريظة والنضير. وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة أشار عليه بذلك سلمان الفارسي، ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالنساء أن يرفعوا في الآطام واشتد الخوف وظن المسلمون كل ظن ونجم النفاق من المنافقين حتى قال معتب بن قشير: كان محمد يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا نقدر أن نذهب إلى الغائط. ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى أنزل الله النصر،
وذلك بأن أرسل على أولئك الجنود المتحزبة ريح الصبا في ليلة باردة شاتية فسفت التراب في وجوههم وَأرسل جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وهم الملائكة وكانوا ألفا فقلعوا الأوتاد وقطعوا الأطناب وأطفأوا النيران وأكفئوا القدور وتفرقت الخيول وكثرت الملائكة في جوانب عسكرهم وقذف الله في قلوبهم الرعب فانهزموا. ومعنى مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي من قبل المشرق وهم بنو غطفان وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي من قبل المغرب وهم قريش تحزبوا وقالوا: سنكون جملة واحدة حتى نستأصل محمدا. ومعنى زيغ الأبصار ميلها عن سننها واستوائها حيرة، أو عدولها عن كل شيء الا عن العدو فزعا وروعا. والحنجرة منتهى الحلقوم، وبلوغ القلوب الحناجر إما أن يكون مثلا لاضطراب القلوب وقلقها وإن لم تبلغها في الحقيقة، وإما أن يكون حقيقة لأن القلب عند الخوف يجتمع فيتقلص ويلتصق بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يسد مخرج النفس فيموت وإنما جمع الظنون مع أن الظن مصدر لأن المراد أنواع مختلفة، فظن المؤمنون الابتلاء والفتنة فخافوا الزلل وضعف الاحتمال، وظن المنافقون وضعاف اليقين الذين في قلوبهم مرض وهم على حرف ما حكى الله عنهم وهو قوله ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً كما حكينا عن معتب.
ومن فوائد جمع الظن أن يعلم قطعا أن فيهم من أخطأ الظن فإن الظنون المختلفة لا تكون كلها صادقة. فأما أن تكون كلها كاذبة أو بعضها فقط والمقام مقام تقرير نتائج الخوف.
وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ كعبد الله بن أبي وأصحابه ويثرب اسم المدينة أو أرض وقعت المدينة في ناحية منها لا مُقامَ لَكُمْ أي لاقرار لكم ولا مكان هاهنا تقومون أو تقيمون فيه على القراءتين، فارجعوا إلى المدينة واهربوا من عسكر رسول الله، أو ارجعوا كفارا واتركوا دين محمد وإلا فليست لكم يثرب بمكان، ثم إن السامعين عزموا على الرجوع فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم وتعللوا بأن بيوتنا عورة أي ذات خلل لا يأمن أصحابها بها السراق على
(5/450)
متاعهم، أو أنها معرضة للعدو فأكذبهم الله تعالى بقوله وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ ثم أظهر ما تكن صدورهم فقال إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً ثم بين مصداق ذلك بقوله وَلَوْ دُخِلَتْ أي المدينة عليهم من أقطارها أو دخلت عليهم بيوتهم من جوانبها وأكنافها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ أي الارتداد والرجوع إلى الكفر وقتال المسلمين لَآتَوْها والحاصل أنهم يتعللون بأعوار بيوتهم ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو دخلت عليهم هؤلاء العساكر المتحزبة التي يفرون منها مدينتهم وبيوتهم من نواحيها كلها لأجل النهب والسبي ثم عرض عليهم الكفر ويقال لهم كونوا على المسلمين لتسارعوا إليه وما تعللوا بشيء. ويمكن أن يراد أن ذلك الفرار والرجوع ليس لأجل حفظ البيوت لأن من يفعل فعلا لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله كمن يبذل المال لكيلا يؤخذ منه بيته فإذا أخذ منه البيت لا يبذله، فأكذبهم الله تعالى بأن الأحزاب لو دخلت بيوتهم وأخذوها منهم لرجعوا عن نصرة المسلمين فتبين أن رجوعهم عنك ليس إلا لكفرهم ومقتهم الإسلام. والضمير في قوله وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلَّا يَسِيراً يرجع إلى الفتنة أي لم يلبثوا بإتيان الفتنة أو بإعطائها إلا زمانا يسيرا ريثما يكون السؤال والجواب أو لم يقيموها إلا قليلا ثم تزول وتكون العاقبة للمتقين. ويحتمل عود الضمير إلى المدينة أي وما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا قليلا فإن الله يهلكهم. قوله وَلَقَدْ كانُوا الآية.
عن ابن عباس: عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة أن يمنعوه مما يمنعون منه أنفسهم.
وقيل: هم قوم غابوا عن بدر فقالوا: لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن. وعن محمد بن اسحق: عاهدوا يوم أحد أن لا يفروا بعد أن نزل فيهم ما نزل. ثم ذكر أن عهد الله مسؤول عنه وأن ما قضى الله وقدر من الموت حتف الأنف أو من القتل فهو كائن والفرار منه غير نافع، ولئن فرض أن الفرار منه فتمتعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتع في مراتع الدنيا إلا زمانا قليلا. عن بعض المروانية أنه مر بحائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل نطلب. ثم أكد التقرير المذكور بقوله قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ الآية. قال جار الله: لا عصمة إلا من السوء فتقدير الكلام: من يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو من يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر الكلام كقوله متقلدا سيفا ورمحا. أي ومعتقلا رمحا. أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع. والمعوقون الذين يمنعون الناس من نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وهم المنافقون واليهود هَلُمَّ إِلَيْنا معناه قربوا أنفسكم إلينا وقد مر في «الأنعام» في قوله قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ [الآية: 15] وقوله وَلا يَأْتُونَ معطوف على الْقائِلِينَ لأنه في معنى الذين يقولون. وقوله إِلَّا قَلِيلًا أي إلا إتيانا قليلا كقوله ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا لقلة الرغبة. وعوز الجد والأشحة جمع شحيح قيل: معناه أضناء بكم أي
(5/451)
يظهرون الإشفاق على المسلمين قبل شدة القتال، فإذا جاء البأس ارتعدت فرائصهم وتدور أعينهم كدوران عين من يغشى عليه من سكرات الموت. وقيل: أراد أنهم يبخلون بأموالهم وأنفسهم فلا يبذلونهما في سبيل الله فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ وجمعت الغنائم سَلَقُوكُمْ أي بسطوا إليكم ألسنتهم قائلين وفروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم وبنا نصرتم وبمكاننا غلبتم عدوكم، فهم عند البأس أجبن قوم وأخذلهم للحق، وأما عند حيازة الغنيمة فأشحهم وأوقعهم والحداد جمع حديد، وكرر أشحة لأن الأول مطلق والثاني مقيد بالخير وهو المال والثواب أو الدين أو الكلام الجميل. أُولئِكَ المنافقون لَمْ يُؤْمِنُوا حقيقة وإن آمنوا في الظاهر فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ التي لها صورة الصلاح بأن أعلم المسلمين أحوال باطنهم وَكانَ ذلِكَ الذي ذكر من أعمال أهل النفاق يَسِيراً على الله لا وزن لها عنده أو وكان ذلك الإحباط عليه سهلا. قال في الكشاف: لأن أعمالهم حقيقة بالإحباط تدعو إليه الدواعي ولا يصرف عنه صارف. ويمكن أن يقال: إعدام الجواهر هين على الله فإعدام الإعراض ولا سيما بمعنى عدم اعتبار نتائجها أولى بأن يكون هينا. ثم قرر طرفا آخر من جبنهم وهو أنهم يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وقد ذهبوا فانصرف المنافقون إلى المدينة منهزمين بناء على هذا الحسبان. ومن جملة جبنهم وضعف احتمالهم أنه إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرة ثانية تمنوا أَنَّهُمْ بادُونَ أي خارجون إلى اليد وحاصلون فيما بين الأعراب حذرا من عيان القتال فيكون حالهم إذ ذاك أنهم يسئلون عن أخباركم قانعين من العيان بالأثر ومن الحضور بالخبر وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ولم ينصرفوا إلى المدينة وكان قتال لم يقاتلوا إِلَّا قَلِيلًا
إبداء للعذر على سبيل الرياء والضرورة.
التأويل:
«اتق الله» من التكوين وكان عليه السلام متقيا من الأزل إلى الأبد، وكذا الكلام فيما يتلوه من النواهي والأوامر ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ لأن القلب صدف درة المحبة ومحبة الله لا تجتمع مع محبة الدنيا والهوى وغيرهما، فالقلب واحد كما أن المحبة واحدة والمحبوب واحد وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ ووَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ فيه أن الحقائق لا تنقلب لا عقلا ولا طبعا ولا شرعا وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ من معرفة الأنساب فإن النسب الحقيقي ما ينسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإنه النسب الباقي كما
قال «كل حسب ونسب ينقطع إلا حسبي ونسبي»
فحسبه الفقر ونسبه النبوة وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ بقطع الرحم عن النبوة بترك سنته وسيرته النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لأنهم لا يقتدرون على توليد أنفسهم في النشأة الثانية كما لم يقدروا على توليد أنفسهم في النشأة الأولى، وكان أبوهم أحق بهم من أنفسهم في توليدهم من صلبه وأزواجه وهن
(5/452)
قلوبهم أمهاتهم لأنه يتصرف في قلوبهم تصرف الذكور في الإناث بشرط كمال التسليم ليقع من صلب النبوة نطفة الولاية في أرحام القلوب، وإذا حملوا النطفة صانوها عن الآفات لئلا تسقط بأدنى رائحة من روائح حب الدنيا وشهواتها فيرتدوا على أعقابهم. وبعد النبي صلى الله عليه وسلم سائر أقارب الدين بعضهم أولى ببعض لأجل التربية ومن المؤمنين بالنشأة الأخرى والمهاجرين عن أوطان البشرية إلا إذا تزكت النفس بالأخلاق الحميدة وصارت من الأولياء بعد أن كانت من الأعداء فيعمل معها معروفا برفق من الإزهاق وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ في الأزل وَمِنْكَ يا محمد أولا بالحبيبية وَمِنْ نُوحٍ بالدعوة ومن إبراهيم بالخلة ومن موسى بالمكالمة ومن عيسى بن مريم بالعبدية، وغلظنا الميثاق بالتأييد والتوثيق لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ سؤال تشريف لا سؤال تعنيف. والصدق أن لا يكون في أحوالك شوب ولا في أعمالك عيب، ولا في اعتقادك ريب، ومن أماراته وجود الإخلاص من غير ملاحظة المخلوق وتصفية الأحوال من غير مداخلة إعجاب، وسلامة القول من المعاريض، والتباعد عن التلبيس فيما بين الناس، وإدامة التبري من الحول والقوة، بل الخروج من الوجود الحقيقي إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ الشياطين وصفات النفس الدنيا وزينتها مِنْ فَوْقِكُمْ وهي الآفات السماوية وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وهي المتولدات البشرية. أو مِنْ فَوْقِكُمْ وهي الدواعي النفسانية في الدماغ، وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ هي الدواعي الشهوانية فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً من نكبات قهرنا وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها من حفظنا وعصمتنا وعاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ الشروع في الطلب أنهم لا يولون أدبارهم عند الجهاد مع الشيطان والنفس لإخوانهم وهم الحواس والجوارح كونوا أتباعا لنا والله أعلم.
تم الجزء الحادي والعشرون ويليه الجزء الثاني والعشرون وأوله: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ..
(5/453)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35) وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الثاني والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 21 الى 40]
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35)
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40)
(5/454)
القراآت:
أُسْوَةٌ بضم الهمزة حيث كان: عاصم وعباس. الآخرون: بكسرها نضعف بالنون وكسر العين العذاب بالنصب: ابن كثير وابن عامر، وقرأ أبو عمرو ويزيد ويعقوب بالياء المضمومة والعين مفتوح وبرفع العذاب. الآخرون: مثله ولكن بالألف من المضاعفة ويعمل صالحا يؤتها على التذكير والغيبة: حمزة وعلي وخلف وافق المفضل في ويعمل الباقون: بتأنيث الأول وبالنون في الثاني. وَقَرْنَ بفتح القاف: أبو جعفر ونافع وعاصم غير هبيرة. الباقون: بكسرها. وَلا تَبَرَّجْنَ أَنْ تَبَدَّلَ بتشديد التاءين:
البزي وابن فليح أن يكون على التذكير: عاصم وحمزة وعلي وخلف وهشام. وَخاتَمَ بفتح التاء بمعنى الطابع: عاصم. الباقون: بكسرها.
الوقوف:
كَثِيراً هـ لإبتداء القصة الْأَحْزابَ لا لأن قالُوا جواب «لما» رَسُولُهُ الثاني ز لاحتمال الاستئناف والحال أوجه وَتَسْلِيماً ط عَلَيْهِ ج لابتداء التفصيل مع الفاء يَنْتَظِرُ لا لاحتمال الحال وجانب الابتداء بالنفي أرجح تَبْدِيلًا هـ لا إلا عند أبي حاتم عَلَيْهِمْ ط رَحِيماً هـ لا للآية لاحتمال كون ما بعده صفة أو استئنافا شجرها ط مع الله ط يعدلون هـ حاجِزاً ط مع الله ط لا يعلمون هـ ط خلفاء الأرض هـ ط مع الله ط ما تذكرون هـ ط رحمته ط مع الله ط يشركون ط والأرض ط مع الله ط صادقين هـ إِلَّا اللَّهَ ط يبعثون هـ عمون هـ.
التفسير:
لما فرغ من توبيخ المنافقين حث جمع المكلفين على مواساة الرسول وموازرته كما واساهم بنفسه في الصبر على الجهاد والثبات في مداحض الأقدام. والأسوة القدوة وهو المؤتسى به أي المقتدى به، فالمراد أنه في نفسه قدوة كما تقول في البيضة
(5/455)
عشرون منا حديدا أي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. والمراد أن فيه خصلة هي المواساة بنفسه فمن حقها أن يؤتسى بها وتتبع. قال في الكشاف: قوله لِمَنْ كانَ بدل من قوله لَكُمْ وضعف بأن بدل الكل لا يقع من ضمير المخاطب فالأظهر أنه صفة الأسوة.
والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف. وقوله يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ كقولك: رجوت زيدا وفضله أي رجوت فضل زيد، أو أريد يرجو أيام الله واليوم الآخر خصوصا. وقوله وَذَكَرَ معطوف على كانَ وفيه أن المقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي واظب على ذكر الله وعمل ما يصلح لزاد المعاد. ثم حكى أن ما ظهر من المؤمنين وقت لقاء الأحزاب خلاف حال المنافقين. وقوله هذا إشارة إلى الخطب أو البلاء.
عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: إن الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا
أي في آخر تسع ليال أو عشر، فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وقد وقع. وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ في كل ما وعد وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً بمواعيده إلا فساد همهم بقتل نبيهم. وقد عدّ في الكشاف أسماءهم منهم قدار بن سالف عاقر الناقة، وكانوا مفسدين لا يخلطون الإفساد بشيء من الإصلاح ومن جملة وَتَسْلِيماً لقضائه. وقيل: هذا إشارة إلى ما أيقنوا من أن عند الفزع الشديد يكون النصر والجنة كما قال أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا [البقرة: 214] إلى آخره. كان رجال من الصحابة نذروا أنهم إذا لقوا حربا ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يستشهدوا، فمدحهم الله تعالى بأنهم صدقوا ما عاهدوا أي صدقوا الله فيما عاهدوه عليه. ويجوز أن يجعل المعاهد عليه مصدوقا على المجاز كأنهم قالوا للمعاهد عليه: سنفي بك فإذا وفوا به صدقوه فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ أي نذره فقاتل حتى قتل كحمزة ومصعب، وقد يقع قضاء النحب عبارة عن الموت لأن كل حي لا بد له من أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته. وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة كعثمان وطلحة وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ما غير كل من الفريقين عهده. وفيه تعريض بمن بدلوا من أهل النفاق ومرضى القلب فكأنه قال: صدق المؤمنون ونكث المنافقون، فكان عاقبة الصادقين الجزاء بالخير بواسطة صدقهم، وعاقبة أصحاب النفاق التعذيب إن شاء الله إلا أن يتوبوا. وإنما استثنى لأنه آمن منهم بعد ذلك ناس وإلى هذا أشار بقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً حيث رحمهم ورزقهم الإيمان، ويجوز أن يراد يعذب المنافقين مع أنه كان غفورا رحيما لكثرة ذنبهم وقوة جرمهم ولو كان دون ذلك لغفر لهم وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهم الأحزاب ملتبسين
(5/456)
بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً أي غير ظافرين بشيء من مطالبهم التي هي عندهم خير من كسر أو أسر أو غنيمة. وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بواسطة ريح الصبا وبإرسال الملائكة كما قصصنا وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهروا الأحزاب مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ والصيصية ما تحصن به ومنه يقال لقرن الثور والظبي ولشوكة الديك التي في ساقه صيصية لأن كلا منها سبب التحصن به.
روي أن جبرائيل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج فقال: ما هذا يا جبرائيل؟ فقال: من متابعة قريش: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عن وجه الفرس وعن سرجه فقال: يا رسول الله إن الملائكة لم تضع السلاح إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عائد إليهم فإن الله داقهم دق البيض على الصفا، وإنهم لكم طعمة. فأذن في الناس ان من كان سامعا مطيعا فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة، فما صلى كثير من الناس العصر إلا هناك بعد العشاء الآخرة فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزلون على حكمي. فأبوا فقال: على حكم سعد بن معاذ فرضوا به، فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل مقاتلهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ثم أنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقا فقدمهم وضرب أعناقهم وهم ثمانمائة إلى تسعمائة.
وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير. وإنما قدم مفعول تَقْتُلُونَ لأن القتل وقع على الرجال وكانوا مشهورين، وكان الاعتناء بحالهم أشد ولم يكن في المأسورين هذا الاعتناء بل بقاؤهم هناك بالأسر أشد لأنه لو قال و «فريقا تأسرون» فإذا سمع السامع قوله «وفريقا» ربما ظن أنه يقال بعده يطلقون أو لا يقدرون على أسرهم ولمثل هذا قدم قوله وَأَنْزَلَ على قوله وَقَذَفَ وإن كان قذف الرعب قبل الإنزال وذلك أن الاهتمام والفرح بذكر الإنزال أكثر.
وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ التي استوليتم عليها ونزلتم فيها أولا وَدِيارَهُمْ التي كانت في القلاع فسلموها إليكم وَأَمْوالَهُمْ التي كانت في تلك الديار وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها قيل: هي القلاع أنفسها. وعن مقاتل: هي خيبر. وعن قتادة: كنا نحدّث أنها مكة. وعن الحسن:
فارس والروم. وعن عكرمة: كل أرض تفتح إلى يوم القيامة. وعن بعضهم: أراد نساؤهم وهو غريب. ثم أكد الوعد بفتح البلاد بقوله وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً قال أهل النظم: إن مكارم الأخلاق ترجع أصولها إلى أمرين: التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله وإليها الإشارة
بقوله عليه السلام «الصلاة وما ملكت أيمانكم» «1»
ولما أرشد نبيه إلى القسم
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب الوصايا باب 1. أحمد في مسنده (1/ 78) (3/ 117) .
(5/457)
الأول بقوله اتَّقِ اللَّهَ أرشده إلى القسم الآخر وبدأ بالزوجات لأنه أولى الناس بالشفقة ولهذا قدّمهنّ في النفقة. لنبن تفسير الآية على مسائل منها: أن التخيير هل كان واجبا على النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فنقول: التخيير قولا كان واجبا بالاتفاق لأنه إبلاغ الرسالة، وأما التخيير معنى فمبني على أن الأمر للوجوب أم لا. ومنها أن واحدة منهن لو اختارت الفراق هل كان يعتبر اختيارها فراقا؟ والظاهر أنه لا يعتبر فراقا وإنما تبين المختارة نفسها بإبانة من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله فَتَعالَيْنَ وعلى هذا التقرير فهل كان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم الطلاق أم لا؟
الظاهر الوجوب، لأن خلف الوعد منه غير جائز بخلاف الحال فينا فإنه لا يلزمنا الوفاء بالوعد شرعا. ومنها أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره الظاهر نعم ليكون التخيير ممكنا لها من التمتع بزينة الدنيا. ومنها أن المختارة لله ورسوله هل يحرم طلاقها؟ الظاهر نعم بمعنى أنه لو أتى بالطلاق لعوتب. وفي تقديم اختيار الدنيا إشارة إلى أنه كان لا يلتفت إليهن كما ينبغي اشتغالا بعبادة ربه. وكيفية المتعة وكميتها ذكرناهما في سورة البقرة. والسراح الجميل كقوله أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [الآية: 229] وفي ذكر الله والدار الآخرة مع ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم وفي قوله لِلْمُحْسِناتِ إشارات إلى أن اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم سبب مرضاة الله وواسطة حيازة سعادات الآخرة، وأنه يوجب وصفهن بالإحسان. والمراد بالأجر العظيم كبره بالذات وحسنه بالصفات ودوامه بحسب الأوقات، فان العظيم لا يطلق إلا على الجسم الطويل العريض العميق الذاهب في الجهات في الامتدادات الثلاثة، وأجر الدنيا في ذاته قليل، وفي صفاته غير خال عن جهات القبح كما في قوله من الضرر والثقل، وكذلك في مشروبه وغيرهما من اللذات ومع ذلك فهو منغص بالانقطاع والزوال.
ويروى أنه حين نزلت الآية بدأ بعائشة وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اختار جميعهن اختيارها فشكر ذلك لهنّ الله فأنزل لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ [الأحزاب: 52]
وروى أنه قال لعائشة إني ذاكر لك أمرا ولا عليك أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ثم قرأ عليها القرآن فقالت: أفي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة ثم قالت: لا تخبر أزواجك أني اخترتك فقال: إنما بعثني الله مبلغا ولم يبعثني متعنتا أما حكم التخيير في الطلاق فإذا قال لها: اختاري. فقالت: اخترت نفسي.
أو قال: اختاري نفسك فقالت: اخترت.
لا بد من ذكر النفس في أحد الجانبين. وقعت طلقة بائنة عند أبي حنيفة وأصحابه إذا كان في المجلس أو لم يشتغل بما يدل على الإعراض. واعتبر الشافعي اختيارها على الفور وهي عنده طلقة رجعية وهو مذهب عمر وابن
(5/458)
مسعود. وعن الحسن وقتادة والزهري: أمرها بيدها في ذلك المجلس وفي غيره. وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء بالاتفاق لأن عائشة اختارت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعد ذلك طلاقا.
وعن علي رضي الله عنه مثله في رواية، وفي أخرى أنه عد ذلك واحدة رجعية إذا اختارته، وإذا اختارت نفسها فواحدة بائنة.
وحين خيرهن النبي صلى الله عليه وسلم واخترن الله ورسوله أدبهن الله وهدّدهن على الفاحشة التي هي أصعب على الزوج من كل ما تأتي به زوجته، وأوعدهن بتخفيف العذاب لأن الزنا في نفسه قبيح ومن زوجة النبي أقبح ازدراء بمنصبه، ولأنها تكون قد اختارت حينئذ غير النبي فلا يكون النبي عندها أولى من الغير ولا من نفسها، وفيه إشارة إلى شرفهن فإن الحرة لشرفها كان عذابها ضعف عذاب الأمة. وأيضا نسبة النبي إلى غيره من الرجال نسبة السادة إلى العبيد لكونه أولى بهم من أنفسهم، فكذلك زوجاته اللواتي هن أمهات المؤمنين.
وليس في قوله مَنْ يَأْتِ دلالة على أن الإتيان بالفاحشة منهن ممكن الوقوع فإن الله تعالى صان أزواج الأنبياء من الفاحشة ولكنه في قوة قوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ [البقرة: 120] وقوله مِنْكُنَّ للبيان لا للتبعيض لدخول الكل تحت الإرادة. وقيل: الفاحشة أريد بها كل الكبائر. وقيل: هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهن وطلبهن منه ما يشق عليه. وفي قوله وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً إشارة إلى أن كونهن نساء النبي لا يغني عنهن شيئا، كيف وإنه سبب مضاعفة العذاب؟
وحين بين مضاعفة عقابهن ذكر زيادة ثوابهن في مقابلة ذلك. والقنوت الطاعة، ووصف الرزق بالكرم لأن رزق الدنيا لا يأتي بنفسه في العادة وإنما هو مسخر للغير يمسكه ويرسله إلى الأغيار، ورزق الآخرة بخلاف ذلك. ثم صرح بفضيلة نساء النبي بأنهن لسن كأحد من النساء كقولك: ليس فلان كآحاد الناس أي ليس فيه مجرد كونه إنسانا بل فيه وصف أخص يوجد فيه ولا يوجد في أكثرهم كالعلم أو العقل أو النسب أو الحسب. قال جار الله: أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد، ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنث.
والواحد وما وراءه. والمعنى، إذا استقريت أمة النساء جماعة جماعة لم توجد منهن من جماعة واحدة تساويكن في الفضل. وقوله إِنِ اتَّقَيْتُنَّ احتمل أن يتعلق بما قبله وهو ظاهر، واحتمل أن يتعلق بما بعده أي إن كنتن متقيات فلا تجبن بقولكن خاضعا لينا مثل كلام المريبات فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ أي ريبة وفجور. وحين منعهن من الفاحشة ومن مقدماتها ومما يجرّ إليها أشار إلى أن ذلك ليس أمرا بالإيذاء والتكبر على الناس بل القول المعروف عند الحاجة هو المأمور به لا غير. ثم أمرهن بلزوم بيوتهن بقوله وَقَرْنَ
(5/459)
بفتح القاف أمر من القرار بإسقاط أحد حرفي التضعيف كقوله فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ [الواقعة:
65] وأصله «اقررن» . من قرأ بكسرها فهو أمر من قر يقر قرارا أو من قر يقر بكسر القاف.
وقيل: المفتوح من قولك قار يقار إذا اجتمع. والتبرج إظهار الزينة كما مر في قوله غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ [النور: 60] وذلك في سورة النور. والجاهلية الأولى هي القديمة التي كانت في أول زمن إبراهيم عليه السلام، أو ما بين آدم ونوح، أو بين إدريس ونوح، أو في زمن داود وسليمان. والجاهلية الأخرى ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: الأولى جاهلية الكفر، والأخرى الفسق والابتداع في الإسلام. وقيل: إن هذه أولى ليست لها أخرى بل معناه تبرج الجاهلية القديمة، وكانت المرأة تلبس درعا من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. ثم أمرهن أمرا خاصا بالصلاة والزكاة ثم عاما في جميع الطاعات، ثم علل جميع ذلك بقوله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ فاستعار للذنوب الرجس، وللتقوى الطهر. وإنما أكد إزالة الرجس بالتطهير لأن الرجس قد يزول ولم يطهر المحل بعد وأَهْلَ الْبَيْتِ نصب على النداء أو على المدح وقد مر في آية المباهلة أنهم أهل العباء النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أصل، وفاطمة رضي الله عنهما والحسن والحسين رضي الله عنهما بالاتفاق. والصحيح أن عليا رضي الله عنه منهم لمعاشرته بنت النبي صلى الله عليه وسلم وملازمته إياه.
وورود الآية في شأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يغلب على الظن دخولهن فيهن، والتذكير للتغليب.
فإن الرجال وهم النبي وعلي وأبناؤهم غلبوا على فاطمة وحدها أو مع أمهات المؤمنين. ثم أكد التكاليف المذكورة بأن بيوتهن مهابط الوحي ومنازل الحكم والشرائع الصادرة من مشرع النبوة ومعدن الرسالة. ثم ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً إيذانا بأن تلك الأوامر والنواهي لطف منه في شأنهن وهو أعلم بالمصطفين من عبيده المخصوصين بتأييده.
يروى أن أم سلمة أو كل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قلن: يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكر النساء فنحن نخاف أن لا يقبل منا طاعة فنزلت إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ
وذكر لهن عشر مراتب: الأولى التسليم والانقياد لأمر الله، والثانية الإيمان بكل ما يجب أن يصدّق به فإن المكلف يقول أولا كل ما يقول الشارع فأنا أقبله فهذا إسلام، فإذا قال له شيئا وقبله صدق مقالته وصحح اعتقاده. ثم إن اعتقاده يدعوه إلى الفعل الحسن والعمل الصالح فيقنت ويعبد وهو المرتبة الثالثة، ثم إذا آمن وعمل صالحا كمل غيره ويأمر بالمعروف وينصح أخاه فيصدق في كلامه عند النصيحة وهو المراد بقوله وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ ثم إن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يصيبه أذى فيصبر عليه كما قال في قصة لقمان وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ [الآية: 17] أي بسببه. ثم إنه إذا كمل في نفسه وكمل غيره قد يفتخر بنفسه
(5/460)
ويعجب بعبادته فمنعه منه بقوله وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وفيه إشارة إلى الصلاة لأن الخشوع من لوازمها قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ [المؤمنون:
1، 2] فلذلك أردفها بالصدقة. ثم بالصيام المانع من شهوة البطن فضم إلى ذلك الحفظ من شهوة الفرج التي هي ممنوع منها في الصوم مطلقا وفي غير الصوم مما وراء الأزواج والسراري. ثم ختم الأوصاف بقوله وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً يعني أنهم في جميع الأحوال يذكرون الله يكون إسلامهم وإيمانهم وقنوتهم وصدقهم وصومهم وحفظهم فروجهم لله.
وإنما وصف الذكر بالكثرة في أكثر المواضع فقال في أوائل السورة لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً وقال في الآية وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً ويجيء بعد ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً لأن الإكثار من الأفعال البدنية متعسر يمنع الاشتغال ببعضها من الاشتغال بغيرها بحسب الأغلب، ولكن لا مانع من أن يذكر الله وهو آكل أو شارب أو ماش أو نائم أو مشغول ببعض الصنائع والحرف، على أن جميع الأعمال صحتها أو كمالها بذكر الله تعالى وهي النية. قال علماء العربية: في الآية عطفان: أحدهما عطف الإناث على الذكور، والآخر عطف مجموع الذكور والإناث على مجموع ما قبله. والأول يدل على اشتراك الصنفين في الوصف المذكور وهو الإسلام في الأول والإيمان في الثاني إلى آخر الأوصاف، والثاني من باب عطف الصفة على الصفة فيؤل معناه إلى أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعد الله لهم.
وحين انجر الكلام من قصة زيد إلى هاهنا عاد إلى حديثه.
قال الراوي: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت حجش وكانت أمها أميمة بنت عبد المطلب على مولاه زيد بن حارثة فأبت وأبى أخوها عبد الله فنزلت وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ الآية. فقالا: رضينا يا رسول الله فأنكحها إياه وساق عنه المهر ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.
وقيل: نزلت في أن كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وهي أول من هاجر من النساء وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: قد قبلت، وزوّجها زيدا فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوّجها عبده.
وقال أهل النظم: إنه تعالى لما أمر نبيه أن يقول لزوجاته إنهن مخيرات فهم منه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يريد ضرر الغير فعليه أن يترك حق نفسه لحظ غيره، فذكر في هذه الآية أنه لا ينبغي أن يظن ظانّ أن هوى نفسه متبع، وأن زمام الاختيار بيد الإنسان كما في حق زوجات النبي، بل ليس لمؤمن ولا مؤمنة أن يكون له اختيار عند حكم الله ورسوله، فأمر الله هو المتبع وقضاء الرسول هو الحق، ومن خالف الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا، لأن المقصود هو الله والهادي هو النبي، فمن ترك المقصد
(5/461)
وخالف الدليل ضل ضلالا لا يرعوي بعده.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر زينب ذات يوم بعد ما أنكحها زيدا فوقعت في نفسه فقال: سبحان الله مقلب القلوب،
وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يردها أولا، لعله أي لم يلده إلخ تأمل ولو أرادها لاختطبها.
وسمعت زينب بالتسبيحة فذكرتها لزيد ففطن وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لأجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أريد أن أفارق صاحبتي. فقال: ما لك أرى بك شيء منها؟ قال: لا والله ما رأيت منها إلا خيرا ولكنها تتكبر عليّ لشرفها. فقال له: أمسك عليك زوجك واتق الله ثم طلقها بعد. فلما اعتدت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك اخطب عليّ زينب. قال زيد:
فانطلقت فإذا هي تخمر عجينها فلما رأيتها عظمت في صدري حتى ما أستطيع أن أنظر إليها حين علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها فوليتها ظهري وقلت: يا زينب أبشري إن رسول الله يخطبك. ففرحت وقالت: ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤامر ربي. فقامت إلى مسجدها ونزل القرآن فتزوّجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بها، وما أولم على امرأة من نسائه ما أولم عليها، ذبح شاة وأطعم الناس الخبز واللحم حتى امتد النهار
ولنرجع إلى ما يتعلق بتفسير الألفاظ. قوله لِلَّذِي يعني زيدا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بالإيمان الذي هو أجل النعم وبتوفيق الأسباب حتى تبناه رسوله وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أي بالإعتاق وبأنواع التربية والاختصاص. وقوله وَاتَّقِ اللَّهَ أي في تطليقها فلا تفارقها. نهي تنزيه لا تحريم، أو أراد اتق فلا تذمها بالنسبة إلى الكبر وإيذاء الزوج. والذي أخفى النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه هو تعلق قلبه بها أو مودّة مفارقة زيد إياها أو علمه بأن زيدا سيطلقها. وعن عائشة لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أوحي إليه لكتم هذه الآية، وذلك أن فيه نوع تخالف الظاهر والباطن في الظاهر وليس كذلك في الحقيقة، لأن ميل النفس ليس يتعلق باختيار الآدمي فلا يلام عليه، ولا هو مأمور بإبدائه. والذي أبداه كان مقتضى النصح والإشفاق والخشية والحياء من قالة الناس إن قلب النبي مال إلى زوجة دعيه فبهذا القدر عوتب بقوله وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. فلعل الأولى بالنبيّ أن يسكت عن إمساكه حذرا من عقاب الله على ترك الأولى كما سكت عن تطليقه حياء من الناس. قال جار الله: الواوات في قوله وَتُخْفِي وَتَخْشَى وَاللَّهُ للحال. ويجوز أن تكون للعطف كأنه قيل: وإذ تجمع بين قولك أمسك وإخفاء خلافه وخشية الناس وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ حتى لا تفعل مثل ذلك.
قوله فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها حاجته ولم يبق له فيها رغبة وطلقها وانقضت عدتها زَوَّجْناكَها نفيا للحرج عن المؤمنين في مثل هذه القضية فإن الشرع كما يستفاد من قول النبي صلى الله عليه وسلم يستفاد من فعله أيضا، بل الثاني يؤكد الأول. ألا ترى أنه لما ذكر ما فهم منه حلّ
(5/462)
الضب ثم لم يأكل بقي في النفوس شيء، وحيث أكل لحم الجمل طاب أكله مع أنه لا يؤكل في بعض الملل وكذلك الأرنب. وقوله إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً يفهم منه نفي الحرج عند قضاء الوطر بالطريق الأولى. عن الخليل: قضاء الوطر بلوغ كل حاجة يكون فيها همة وأراد بها في الآية الشهوة. وقيل: التطليق. فلا إضمار على هذا وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا مكونا لا محالة. ومن جملة أوامره ما جرى من قصة زينب، ثم نزه جانب النبي صلى الله عليه وسلم عن قالة الناس بقوله ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ أي قسم وأوجب لَهُ وسُنَّةَ اللَّهِ مصدر مؤكد لما قبله أي سن الله نفي الحرج سنة في الأنبياء الذين خلوا فكان من تحته أزواج كثيرة كداود وسليمان وسيجيء قصتهما في سورة ص. ومعنى قَدَراً مَقْدُوراً قضاء مقضيا هكذا قاله المفسرون ولعل قوله وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا إشارة إلى القضاء، وهذا الأخير إشارة إلى القدر وقد عرفت الفرق بينهما مرارا. وفي قوله وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ تعريض بما صرح به في قوله وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ والحسيب الكافي للمخاوف أو المحاسب على الصغائر والكبائر فيجب أن لا يخشى إلا هو. ثم أكد مضمون الآي المتقدمة وهو أن زيدا لم يكن ابنا له فقال ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ فكان لقائل أن يقول: أما كان أبا للطاهر والطيب والقاسم وإبراهيم فلذلك قيل مِنْ رِجالِكُمْ فخرجوا بهذا القدر من جهتين: إحداهما أن هؤلاء لم يبلغوا مبلغ الرجال، وبهذا الوجه يخرج الحسن والحسين أيضا من النفي لأنهما لم يكونا بالغين حينئذ. والأخرى أنه أضاف الرجال إليهم وهؤلاء رجاله لا رجالهم وكذا الحسن والحسين، أو أراد الأب الأقرب. ومعنى الاستدراك في قوله وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هو إثبات الأبوة من هذه الجهة لأن النبي كالأب لأمته من حيث الشفقة والنصيحة ورعاية حقوق التعظيم معه، وأكد هذا المعنى بقوله وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ لأن النبي إذا علم أن بعده نبيا آخر فقد ترك بعض البيان والإرشاد إليه بخلاف ما لو علم أن ختم النبوة عليه وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ومن جملة معلوماته أنه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ومجيء عيسى عليه السلام في آخر الزمان لا ينافي ذلك لأنه ممن نبىء قبله وهو يجيء على شريعة نبينا مصليا إلى قبلته وكأنه بعض أمته.
التأويل:
لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ أي كان في الأول مقدرا لكم متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلقت قدرتنا بإخراج أرواحكم من العدم إلى الوجود عقيب إخراج روح الرسول من العدم إلى الوجود
«أول ما خلق الله نوري أو روحي»
وبحسب القرب إلى روح الرسول والبعد عنه يكون حال الأسوة، وكل ما يجري على الإنسان من بداية عمره إلى نهاية عمره من الأفعال والأقوال والأخلاق والأحوال. فمن كان يرجو الله كان عمله خالصا لوجه
(5/463)
الله تعالى، ومن كان يرجو اليوم الآخر يكون عمله للفوز بنعيم الحنان. وكل هذه المقامات مشروط بالذكر وهو كلمة «لا اله الا الله محمد رسول الله» نفيا وإثباتا، وهما قدمان للسائرين إلى الله وجناحان للطائرين بالله. وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ المجتمعين على إضلالهم وإهلاكهم من النفس وصفاتها، والدنيا وزينتها، والشيطان واتباعه قالُوا متوكلين على الله هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أن البلاء موكل بالأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ يتصرفون في الموجودات تصرف الذكور في الإناث صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ أن لا يعبدوا غيره في الدنيا والعقبى. فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ فوصل إلى مقصده وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الوصول وهو في السير وهذا حال المتوسطين وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بريح القهر أذهبت على النفوس فأبطلت شهواتها، وعلى الشيطان فردت كيده، وعلى الدنيا فأزالت زينتها. وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ أي أعانوا النفس والشيطان والهوى على القلوب من أهل الكتاب طالبي الرخص لأرباب الطلب المنكرين أحوال أهل القلوب مِنْ صَياصِيهِمْ هي حصون تكبرهم وتجبرهم، وأنزل وقعهم من حصون اعتقاد أرباب الطلب كيلا يقتدوا بهم ولا يغتروا بأقوالهم، وقذف بنور قلوبهم في قلوب النفوس والشياطين الرعب فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وهم النفس وصفاتها والشيطان وأتباعه وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وهم الدنيا وجاهها وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ لتنفقوا في سبيل الله وتجعلوها بذر مزرعة الآخرة وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها يشير إلى مقامات وكمالات لم يبلغوها فيبلغوها باستعمال الدنيا فإن ذلك بعد الوصول لا يضر لأنه يتصرف بالحق للحق. قُلْ لِأَزْواجِكَ فيه إشارة إلى أن حب الدنيا يمنعهن من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم مع أنهن محال النطفة الإنسانية في عالم الصورة، فكيف لا يضر حب الدنيا لأهل القلوب الذين قلوبهم أرحام النطفة الروحانية الربانية، والأجر العظيم هو لقاء الله العظيم فمن أحب غير الله وإن كان الجنة نقص من الأجر بقدر ذلك إلا محبة النبي صلى الله عليه وسلم، لأن محبة الجنة بالحظ دون الحق فيها ما تشتهي الأنفس، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم بالحق لا الحظ قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] ومضاعفة العذاب سقوطهن عن قرب الله وعن الجنة كما أن إيتاء الأجر مرتين عبارة عن هذين، وكان من دعاء السري السقطي: اللهم إن كنت تعذبني بشيء فلا تعذبني بذل الحجاب. والرزق الكريم رزق المشاهدات الربانية يا نِساءَ النَّبِيِّ هم الذين أسلموا أرحام قلوبهم لتصرفات ولاية الشيخ ليست أحوالهم كأحوال غيرهم من الخلق إِنِ اتَّقَيْتُنَّ بالله من غيره فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ لشيء من الدارين فإن كثيرا من الصادقين خضعوا بالقول لأرباب الدنيا الذين في قلوبهم مرض حب المال والجاه فاستجروهم ووقعوا في ورطة الهلاك والحجاب. فالقول المعروف وهو المتوسط الذي لا
(5/464)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50) تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51) لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
يكون فيه الميل الكلي إلى أهل الدنيا أصوب وإلى الحق أقرب. وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ من عالم الملكوت وَلا تَبَرَّجْنَ في عالم الحواس راغبين في زينة الدنيا كعادة الجهلة وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ التي هي معراج المؤمن يرفع يده من الدنيا ويكبر عليها ويقبل على الله بالإعراض عما سواه، ويرجع من مقام تكبر الإنسان إلى خضوع ركوع الحيوان، ومنه إلى خشوع سجود النبات، ثم إلى قعود الجماد فإنه بهذا الطريق أهبط إلى أسفل القالب فيكون رجوعه بهذا الطريق إلى أن يصل إلى مقام الشهود الذي كان فيه في البداية الروحانية، ثم يتشهد بالتحية والثناء على الحضرة، ثم يسلم عن يمينه على الآخرة وما فيها وعن شماله على الدنيا وما فيها. وإيتاء الزكاة بذل الوجود المجازي لنيل الوجود الحقيقي. الرجس لوث الحدوث، والبيت لأهل الوحدة بيت القلب يتلى فيه آيات الواردات والكشوف. إن الذين استسلموا للأحكام الأزلية وآمنوا بوجود المعارف الحقيقية، وقتنوا أي أغرقوا الوجود في الطاعة والعبودية، وصدقوا في عهدهم وصبروا على الخصال الحميدة وعن الأوصاف الذميمة، وخشعوا أي أطرقت سريرتهم عند بواده الحقيقة، وتصدقوا بأموالهم وأعراضهم حتى لم يبق لهم مع أحد خصومة، وصاموا بالإمساك عن الشهوات وعن
رؤية الدرجات، وحفظوا فروجهم في الظاهر عن الحرام وفي الباطن عن زوائد الحلال، وذكروا الله بجميع أجزاء وجودهم الجسمانية والروحانية. وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ
إذا صدر أمر المكلف أو عليه، فإن كان مخالفا للشرع وجب عليه الإنابة والاستغفار، وإن كان موافقا للشرع فإن كان موافقا لطبعه وجب عليه الشكر، وإن كان مخالفا لطبعه وجب أن يستقبله بالصبر والرضا. وفي قوله وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ دلالة على أن المخلصين على خطر عظيم حتى إنهم يؤاخذون بميل القلب وحديث النفس وذلك لقوة صفاء باطنهم، فاللطيف أسرع تغيرا.
فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً قضاء شهوته بين الخلق إلى قيام الساعة ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فيما فيه أمان هو نقصان في نظر الخلق فإنه كمال عند الحق إلا إذا كان النظر للحق وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فيه أن نسبة المتابعين إلى حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم كنسبة الابن إلى الأب الشفيق ولهذا
قال «كل حسب ونسب ينقطع إلّا حسبي ونسبي» .
[سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 73]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45)
وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50)
تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60)
مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65)
يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70)
يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)
(5/465)
القراآت:
تُرْجِي بغير همز: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وحفص وخلف والأعشى والمفضل وعباس لا تحل بتاء التأنيث: أبو عمرو ويعقوب إِناهُ بالامالة وغيرها مثل الْحَوايا في «الأنعام» وافق الخزاز عن هبيرة هاهنا بالإمالة ساداتنا بالألف وبكسر التاء: ابن عامر وسهل ويعقوب وجبلة. الباقون: على التوحيد كَبِيراً بالباء الموحدة:
عاصم وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الآخرون: بالثاء المثلثة.
الوقوف:
كَثِيراً لا وَأَصِيلًا هـ النُّورِ ط رَحِيماً هـ سَلامٌ ج لاحتمال الجملة حالا واستئنافا كَرِيماً هـ نَذِيراً لا مُنِيراً هـ كَبِيراً هـ عَلَى اللَّهِ ط وَكِيلًا هـ تَعْتَدُّونَها ج لانقطاع النظم مع الفاء جَمِيلًا هـ مَعَكَ ج لاحتمال ما بعده العطف والنصب على المدح مع أن طول الكلام يرجح جانب الوقف يَسْتَنْكِحَها ق للعدول على تقدير جعلناها خالصة الْمُؤْمِنِينَ هـ حَرَجٌ ط رَحِيماً هـ إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ ط لأن ما بعده واو استئناف دخل على الشرط عَلَيْكَ ط كُلُّهُنَّ ط قُلُوبِكُمْ ط حَلِيماً هـ يَمِينُكَ ط رَقِيباً هـ إِناهُ لا للعطف مع الإستدراك لِحَدِيثٍ ط مِنْكُمْ ط فصلا بين وصف الخلق وحال الحق مع اتفاق الجملتين مِنَ الْحَقِّ ط لإبتداء حكم آخر حِجابٍ ط وَقُلُوبِهِنَّ ط أَبَداً ط عَظِيماً هـ عَلِيماً هـ أَيْمانُهُنَّ لا والوقف أجوز لتكون الواو للاستئناف وَاتَّقِينَ اللَّهَ ط شَهِيداً هـ النَّبِيِّ ط تَسْلِيماً
(5/467)
هـ مُهِيناً هـ مُبِيناً هـ جَلَابِيبِهِنَّ ط يُؤْذَيْنَ ط رَحِيماً هـ قَلِيلًا هـ ج لأن قوله مَلْعُونِينَ يحتمل أن يكون حالا أو منصوبا على الشتم مَلْعُونِينَ هـ ج لأن الجملة الشرطية تصلح وصفا واستئنافا تَقْتِيلًا هـ قَبْلُ ط تَبْدِيلًا هـ السَّاعَةِ ط عِنْدَ اللَّهِ ط قَرِيباً هـ سَعِيراً لا أَبَداً ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف نَصِيراً هـ ج لاحتمال تعلق الظرف ب لا يَجِدُونَ أو ب يَقُولُونَ أو باذكر الرَّسُولَا هـ السَّبِيلَا هـ كَبِيراً هـ قالُوا ط وَجِيهاً هـ سَدِيداً هـ لا ذُنُوبَكُمْ هـ عَظِيماً هـ الْإِنْسانُ ط جَهُولًا هـ لا وَالْمُؤْمِناتِ ط رَحِيماً هـ.
التفسير:
اعلم أن مبنى هذه السورة على تأديب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مر أنه سبحانه بدأ بذكر ما ينبغي أن يكون عليه النبيّ مع الله وهو التقوى، وذكر ما ينبغي أن يكون عليه مع أهله فأمر بعد ذلك عامة المؤمنين بما أمر به عباده المرسلين. وبدأ بما يتعلق بجانب التعظيم لله وهو الذكر الكثير، وفيه لطيفة وهي أن النبيّ لكونه من المقربين لم يكن ناسيا فلم يؤمر بالذكر بل أمر بالتقوى والمحافظة عليها فإنها تكاد لا تتناهى. والتسبيح بكرة وأصيلا عبارة عن الدوام لأن مريد العموم قد يذكر الطرفين ويفهم منهما الوسط
كقوله صلى الله عليه وسلم «ولو أن أوّلكم وآخركم» «1»
قال جار الله: خص التسبيح بالذكر من جملة الذكر لفضله على سائر الأذكار ففيه تنزيه عما لا يجوز عليه. ولقائل أن يقول: هذا لا يطابق
قوله صلى الله عليه وسلم «أفضل الذكر لا إله إلا الله» «2»
وجوّز أن يراد بالذكر الكثير الإقبال على العبادات كلها، ويراد بالتسبيح الصلاة، وبالوقتين العموم كما مر، أو صلاة الفجر والعشاءين، لأن أداءها أشق ومراعاتها أشد. ثم حرض المؤمنين على ذكره بأنه أيضا يذكرهم والصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار، فلعله أراد باللفظ المشترك كلا مفهومية كما ذهب إليه الشافعي، أو في الكلام حذف أي وملائكته تصلي، أو المراد بصلاة الملائكة هي قولهم: اللهم صل على المؤمنين.
جعلوا لاستجابة دعوتهم كأنهم فعلوا الرحمة، أو المراد القدر المشترك وهو العناية بحال المرحوم والمستغفر له. وأصل الصلاة التعطف وذلك أن المصلي يتعطف في ركوعه وسجوده فاستعير لمن يتعطف على غيره وحنوّا وترؤفا. ثم بين غاية الصلاة وهي إخراج المكلف من ظلمات الضلال إلى نور الهدى. وفي قوله وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً بشارة لجميع المؤمنين وإشارة إلى أن تلك الرحمة لا تخص السامعين وقت الوحي. ومعنى
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 48.
(2) رواه ابن ماجة في كتاب الأدب باب 55. أبو داود في كتاب الأدب باب 27.
(5/468)
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ مذكور في أول «يونس» وفي «إبراهيم» . وأراد بيوم اللقاء يوم القيامة لأن الخلق مقبلون على الله بكليتهم بخلاف الدنيا. والأجر الكريم هو ما يأتيه عفوا صفوا من غير شوب نغص. ثم أشار إلى ما ينبغي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مع عامة الخلق فقال إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وهي حال مقدرة أي مقبولا قولك عند الله لهم وعليهم كما يقبل قول الشاهد العدل، وفيه أن الله تعالى جعل النبي شاهدا على وجوده بل على وحدانيته لأن المدعي هو الذي يذكر شيئا بخلاف الظاهر والوحدانية أظهر من الشمس فلا ينبغي أن يقال:
إن النبي صلى الله عليه وسلم مدع لها. بل يقال: إنه شاهد عليها كما
قال «على مثل الشمس فاشهد»
وإنه قد جازاه بشهادته لله شهادته على نبوته كما قال والله يشهد انك لرسوله [المنافقون: 1] والحاصل أنه شاهد في الدنيا بأحوال الآخرة من الجنة والنار والميزان والصراط، وشاهد في الآخرة بأحوال الدنيا من الطاعة والمعصية والصلاح والفساد. وإنما قال وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ لأن الشهادة للمرء لا تفتقر إلى إذنه وكذلك الإنذار والتبشير إذا قال من يطع الملك أفلح ومن عصاه لم يربح. أما إذا قال: تعالوا إلى سماطه واحضروا على خوانه احتاج إلى رضاه. ويمكن أن يكون قوله بِإِذْنِهِ متعلقا بمجموع الأحوال أي بتسهيله أو تيسيره.
ووصف النبي عليه السلام بالسراج بأن ظلمات الضلال تنجلي به كما ينجلي ظلام الليل بالسراج، وقد أمدّ الله بنور نبوته نور البصائر كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار. وإنما لم يشبه بالشمس لأن الشمس لا يؤخذ منه شيء ويؤخذ من السراج سرج كثيرة وهم الصحابة والتابعون في المثال ولهذا
قال «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»
وصفهم بالنجم لأن النجم لا يؤخذ منه شيء، والتابعي لا يأخذ من الصحابي في الحقيقة وإنما يأخذ من النبيّ. ووصف السراج بالإنارة لأن السراج قد يكون فاترا ومنه قولهم «ثلاثة تضني: رسول بطيء، وسراج لا يضيء، ومائدة ينتظرها من يجيء» . ويجوز أن يكون سراجا معطوفا على الكاف ويراد به القرآن، ويجوز أن يكون المعنى وذا سراج أو تاليا سراجا. قوله وَدَعْ أَذاهُمْ أي خذ بظاهرهم وادفع عنهم الأسر والقتل وحسابهم على الله، وإضافة أذاهم يحتمل أن يكون إلى الفاعل وإلى المفعول.
ثم أمر المؤمنين بما يتعلق بجانب الشفقة على الخلق واكتفى بذكر الزوجات المطلقات قبل المسيس لأنه إذا لزم الإحسان إليهنّ بمجرد العقد وهو المراد بالنكاح هاهنا، فبالوطء يكون أولى وقد مر حكمهنّ في سورة البقرة. في قوله وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الآية: 237] وذلك لأجل تشطير الصداق. وإنما أعاد ذكرهن هاهنا لبيان عدم وجوب العدة عليهن. وتخصيص المؤمنات بالذكر دون الكتابيات إيذان بأنهن أولى بتخيرهن
(5/469)
للنطفة. وفي قوله ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ تنبيه على أنه لا تفاوت في هذا الحكم بين قريبة العهد من النكاح وبين بعيدة العهد منه، فإذا لم تجب العدّة على البعيدة العهد فلأن لا تجب على القريبة العهد أولى. وقد يستدل بكلمة «ثم» على أن تعليق الطلاق بالنكاح لا يصح لأن المعية تنافي التراخي. وفي قوله فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ دليل على أن العدة حق واجب للرجال على النساء وإن كان لا يسقط بإسقاطه لما فيها من حق الله تعالى أيضا. ومعنى تَعْتَدُّونَها تستوفون عددها تقول: عددت الدراهم فاعتدها نحو: كلته فاكتاله. ثم عاد إلى تعليم النبي صلى الله عليه وسلم. وفائدة قوله اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وقوله مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وقوله اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ هي أن الله تعالى اختار لرسوله الأفضل الأولى، وذلك أن سوق المهر إليها عاجلا أفضل من أن تسميه وتؤجله. وكان التعجيل ديدن السلف ومن الناس من قال: ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يجب عليه إعطاء المهر لأن المرأة لها الامتناع إلى أن تأخذ مهرها، والنبي عليه السلام لم يكن يستوفي ما لا يجب له كيف وإنه إذا طلب شيئا حرم الامتناع على المطلوب منه. والظاهر أن طالب الوطء ولا سيما في المرة الأولى يكون هو الرجل لحياء المرأة، ولو طلب النبيّ صلى الله عليه وسلم من المرأة التمكين قبل المهر لزم أن يجب وأن لا يجب، ولا كذلك أحدنا. ومما يؤكد هذا قوله وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يعني حينئذ لا يبقى لها صداق فتصير كالمستوفية مهرها. والجارية إذا كانت سبية مالكها ومخطوبة سيفه ورمحه فإنها أحل وأطيب من المشتراة لكونها غير معلومة الحال. قال جار الله: السبي على ضربين: سبي طيبة وهي ما سبي من أهل الحرب، وسبي خبيثة وهي ما سبي ممن له عهد، فلا جرم قال سبحانه مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ لأن فيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث، وكذلك اللاتي هاجرن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أقاربه غير المحارم أفضل من غير المهاجرات معه. وإنما لم يجمع العم والخال اكتفاء بجنسيتها مع أن لجمع البنات دلالة على ذلك لامتناع اجتماع أختين تحت واحد، ولم يحسن الاقتصار في العمة والخالة لإمكان سبق الوهم إلى أن التاء فيهما للوحدة وشرط في استحلال الواهبة نفسها إرادة استنكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تستنكحها. وفيه أنه لا بد من قبول الهبة حتى يتم النكاح، وبه استدل أبو حنيفة على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة، وحملها الشافعي على خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. وعن أبي الحسن الكرخي أن عقد النكاح بلفظ الإجارة جائز لقوله اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ قال أبو بكر الرازي: لا يصح لأن الإجارة عقد مؤقت وعقد النكاح مؤبد. والظاهر أن خالِصَةً حال من امْرَأَةً وقال جار الله: هي مصدر مؤكد كوعد الله أي خلص لك الإحلال خلوصا. وفائدة هذا الحال على مذهب الشافعي ظاهرة. وقال أبو حنيفة: أراد بها أنها زوجته وهي من أمهات المؤمنين فأورد عليه
(5/470)
أن أزواجه كلهن خالصات له فلا يبقى لتخصيص الواهبة فائدة. وقوله قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ جملة اعتراضية معناها أن الله قد علم ما يجب على المؤمنين في حق الأزواج وفي الإماء على أي حدّ وصفة ينبغي أن يكون. ثم بين غاية الإحلال بقوله لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ أي لئلا يكون عليك ضيق في دينك ولا في دنياك حيث أحللنا لك أصناف المنكوحات وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً للذي وقع في الحرج رَحِيماً بالتوسعة والتيسير على عباده.
ثم بيّن أنه أحل له وجوه المعاشرة بهن من غير إيجاب قسم بينهنّ، لأنه صلى الله عليه وسلم بالنسبة إلى أمته كالسيد المطاع فزوجاته كالمملوكات فلا قسم لهن. والإرجاء التأخير، والإيواء الضم وهما خبران في معنى الأمر. وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ يعني إذا طلبت من كنت تركتها فَلا جُناحَ عَلَيْكَ في شيء من ذلك وهذه قسمة جامعة للغرض لأنه إما أن يطلق وإما أن يمسك، وإذا أمسك ضاجع أو ترك، وإذا ضاجع قسم أو لم يقسم، وإذا طلق أو عزل فإما أن يترك المعزولة أو يبتغيها.
يروى أنه أرجأ منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة وكان يقسم لهنّ ما شاء كما شاء،
وكانت ممن آوى إليه عائشة وحفصة وأم سلمة وزينب.
وروي أنه كان يسوّي مع ما خير فيه إلّا سودة فإنها وهبت ليلتها لعائشة وقالت: لا تطلقني حتى أحشر في زمرة نسائك.
وقيل: أراد تترك تزوّج من شئت من نساء أمتك وتتزوّج من شئت. وعن الحسن: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب امرأة لم يكن لأحد أن يخطبها حتى يدعها. ومن قال: إن القسم كان واجبا مع أنه ضعيف بالنسبة إلى مفهوم الآية قال:
المراد تؤخرهن إن شئت إذ لا يجب القسم في الأول، وللزوج أن لا ينام عند أحد منهن وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ في ذلك فابدأ بمن شئت وتمم الدور والأول أقوى. ثم قال ذلِكَ التفويض إلى مشيئتك أَدْنى إلى قرّة عيونهن وقلة حزنهن وإلى رضاهنّ جميعا لأنه إذا لم يجب عليه القسم. ثم إنه يقسم بينهن حملهن ذلك على تلطفه وتخلصه. وفي قوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وعيد لمن يرض منهن بما دبر الله له وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بذات الصدور حَلِيماً مع ذلك لا يعاجل بالعقوبة فتحا لباب التوبة. وقوله كُلُّهُنَّ بالرفع تأكيد لنون يرضين، وقرىء بالنصب تأكيدا لضمير المفعول في آتَيْتَهُنَّ ثم إنه سبحانه شكر لأزواج رسول الله اختيارهن الله ورسوله فأنزل لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ قال أكثر المفسرين: أي من بعد التسع المذكورة، فالتسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته منهن. وإنه تعالى زاد في إكرامهن بقوله وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ أي ولا يحل لك أن تستبدل بهؤلاء التسع أزواجا أخر بكلهن أو بعضهن، وأكد النفي
(5/471)
بقوله مِنْ أَزْواجٍ وفائدته استغراق جنس جماعات الأزواج بالتحريم. وذهب بعضهم إلى أن الآية فيها تحريم غيرهن ولا المنع من طلاقهنّ، والمعنى لا يحل لك من النساء من بعد اللواتي نص على إحلالهنّ من الأجناس الأربعة، وأما غيرهنّ من الكتابيات والإماء بالنكاح والأعرابيات والغرائب فلا يحل لك التزوّج بهن. وقوله وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ منع من فعل الجاهلية وهو قولهم «بادلني بامرأتك وأبادلك بامرأتي» فكان ينزل كل واحد منهما عن امرأته لصاحبه.
يحكى أن عيينة بن حصن دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة من غير استئذان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عيينة أين الاستئذان؟ فقال: يا رسول الله ما استأذنت على رجل قط ممن مضى منذ أدركت. ثم قال: من هذه الجميلة إلى جنبك؟ فقال: هذه عائشة أم المؤمنين.
قال عيينة: أفلا أنزل لك عن أحسن الخلق. فقال عليه السلام: إن الله قد حرم ذلك. فلما خرج قالت عائشة: من هذا يا رسول الله؟ قال: أحمق مطاع وإنه على ما ترين لسيد قومه.
وقوله وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ في موضع الحال أي مفروضا إعجابك بهن. قال جار الله:
والأظهر أن جوابه محذوف يدل عليه ما قبله وهو لا يَحِلُّ وفائدة هذه الشرطية التأكيد والمبالغة. واستثنى ممن حرم عليه الإماء. وفي قوله وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً تحذير من مجاوزة حدوده. واعلم أن ظاهر هذه الآية ناسخ لما كان قد ثبت له صلى الله عليه وسلم من تحريم مرغوبته على زوجها، وفيه حكمة خفية، وذلك أن الأنبياء يشتدّ عليهم برحاء الوحي في أوّل الأمر ثم يستأنسون به فينزل عليهم وهم يتحدثون مع أصحابهم فكان الحاجة إلى تفريغ بال النبي تكون في أوّل الأمر أكثر لو هي القوّة ولعدم إلفه بالوحي، فإذا تكاملت قوّته وحصل إلفه بتعاقب الوحي لم يبق له الالتفات إلى غير الله فلم يحتج إلى إحلال التزوّج بمن وقع بصره عليها. وعن عائشة: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له النساء. تعني أن الآية نسخت، ونسخها إمّا بالسنة عند من يجوّز نسخ القرآن بخبر واحد، وأمّا بقوله إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ وترتيب النزول ليس على ترتيب المصحف.
ثم عاد إلى إرشاد الأمة، وحالهم مع النبيّ إما حال الخلوة فالواجب هناك احترام أهله وأشار إليه بقوله لا تَدْخُلُوا وإما حال الملأ فالواجب وقتئذ التعظيم بكل ما أمكن وذلك قوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ كانوا يتحينون طعام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخلون ويقعدون منتظرين لإدراكه فقيل: لا تدخلوا يا هؤلاء المتحينون للطعام إلا وقت الإذن أي مأذونين وإلا غير ناظرين إناه. وإنى الطعام إدراكه، أنى الطعام إنى نحو قلاه قلى. وقيل: أناه وقته فقد تلخص أن الإذن مشروط بكونه إلى الطعام فلزم منه أن لا يجوز الدخول إذا لم يكن الإذن
(5/472)
إلى طعام كالدخول بالإذن لاستماع كلام مثلا، فأجيب بأن الخطاب مع قوم كانوا موصوفين بالتحين للطعام فمنعوا من الدخول في وقته من غير إذن. وجوز بعضهم أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي لا تدخلوا إلى طعام إلا أن يؤذن لكم فلا يكون منعا من الدخول في غير وقت الطعام بغير الإذن والأوّل أولى. ولا يشترط في الإذن التصريح به إذا حصل العلم بالرضا جاز الدخول ولهذا قيل إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ على البناء للمفعول ليشمل إذن الله وإذن الرسول أو العقل المؤيد بالدليل. وقوله فَانْتَشِرُوا للوجوب وليس كقوله فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا [الجمعة: 10] وذلك للدليل العقلي على أن بيوت الناس لا تصلح للمكث بعد الفراغ مما دعي لأجله، وللدليل النقلي وذلك قوله وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ وهو مجرور معطوف على ناظِرِينَ أو منصوب على الحال أي لا تدخلوها هاجمين ولا مستأنسين.
يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولم على زينب بتمر وسويق وشاة وأمر أنسا أن يدعو بالناس فترادفوا أفواجا إلى أن قال: يا رسول الله دعوت حتى ما أجد أحد أدعوه. فقال:
ارفعوا طعامكم وتفرق الناس وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون فأطالوا فقام رسول الله ليخرجوا فانطلق إلى حجرة عائشة فقال: السلام عليكم أهل البيت فقالوا: وعليك السلام يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ وطاف بالحجرات فسلم عليهن ودعون له ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد الحياء وذلك قوله إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ أي من إخراجكم، فلما رأوه متوليا خرجوا فرجع فنزلت الآية
ناهية للثقلاء أن يطيلوا الجلوس يستأنس بعضهم ببعض لأجل حديث يحدّثه به أو يستأنسون حديث أهل البيت واستماعه. ومعنى لا يَسْتَحْيِي لا يمتنع ولا يترك كما مر في أول البقرة. والضمير في سَأَلْتُمُوهُنَّ لنساء النبيّ بقرينة الحال.
قال الراوي: إن عمر كان يحب ضرب الحجاب عليهن محبة شديدة وكان يقول: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت.
والمتاع الماعون وما يحتاج إليه. وثاني مفعولي فَسْئَلُوهُنَّ محذوف وهو المتاع المدلول عليه بما قبله. ذلِكُمْ الذي ذكر من السؤال من وراء الحجاب أَطْهَرُ لأجل قلوبكم لأن العين روزنة القلب ومنها تنشأ الفتنة غالبا. وروي أن بعضهم قال: نهينا أن نكلم بنات عمنا إلا من وراء حجاب لئن مات محمد لأتزوجن فلانة عنى عائشة، فأعلم الله أن ذلك محرم بقوله وَما كانَ أي وما صح لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ بوجه من الوجوه وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ الإيذاء والنكاح كانَ عِنْدَ اللَّهِ ذنبا عَظِيماً لأن حرمة الرسول ميتا كحرمته حيا.
ثم بين بقوله إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً الآية. إنهم إن لم يؤذوه في الحال ولكن عزموا على
(5/473)
إيذائه أو نكاح أزواجه بعده فالله عالم بكل شيء فيجازيهم بحسب ذلك. ثم إنه لما أنزل الحجاب استثنى المحارم بقوله لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ أي لا إثم عليهن في ترك الاحتجاب من هؤلاء. قال في التفسير الكبير عند الحجاب: لما أمر الله الرجل بالسؤال من وراء الحجاب فيفهم كون المرأة محجوبة عن الرجل بالطريق الأولى، وعند الاستثناء قال لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فرفع الحجاب عنهن فالرجال أولى بذلك. وقدم الآباء لأن اطلاعهم على بناتهم أكثر فقد رأوهن في حالة الصغر، ثم الأبناء ثم الأخوة، وقدم بني الإخوة لأن بني الأخوات آباؤهم ليسوا بمحارم إنما هم أزواج خالات أبنائهم فقد يصف الابن خالته عند أبيه ففي ذلك نوع مفسدة فأوجبت التأخر عن رتبة المحرمية، ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين، أو لأنهما قد يصفان لأبنائهما وأبناؤهما غير محارم. وقد يستدل بقوله وَلا نِسائِهِنَّ مضافة إلى المؤمنات أنه لا يجوز التكشف للكافرات في وجه، وأخر المماليك لأن محرميتهم كالأمر الضروري وإلا فالمفسدة في التكشف لهم ظاهرة ولهذا عقبه بقوله وَاتَّقِينَ فإن التكشف لهم مشروط بشرط سلامة العاقبة والأمن من الفتنة. ومنهم من قال: المراد من كان منهم دون البلوغ. قال جار الله: في نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب في قوله وَاتَّقِينَ فضل تشديد وبعث على سلوك طريقة التقوى فيما أمرن به من الاحتجاب كأنه قيل: وليكن عملكن في الحجب أحسن مما كان وأتقن غير محتجبات ليفضل سركن علنكن. ثم أكد الكل بقوله إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً وفيه أنه لا يتفاوت في علمه ظاهر الحجاب وباطنه. ثم كمل بيان حرمة النبي بأنه محترم في الملأ الأعلى فليكن واجب الاحترام في الملأ الأدنى، وقد مر معنى الصلاة في السورة. وإنما قال هناك هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ وقال هاهنا إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ ليلزم منه تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم:
وذلك لأن إفراد الواحد بالذكر وعطف الغير عليه يوجب تفضيلا للمذكور على المعطوف، فكأنه سبحانه شرف الملائكة بضمهم مع نفسه بواسطة صلاتهم على النبي صلى الله عليه وسلم. واستدل الشافعي: بقوله صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا وظاهر الأمر للوجوب أن الصلاة في التشهد واجبة وكذا التسليم لأنه لا يجب بالاتفاق في غير الصلاة فيجب فيها. وذكر المصدر للتأكيد ليكمل السلام عليه وهو قول المصلي: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. ولم يؤكد الصلاة هذا التأكيد لأنها كانت مؤكدة بقوله إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
وسئل النبي كيف نصلي عليك يا رسول الله؟ فقال: قولوا اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك
(5/474)
حميد مجيد.
وعنه صلى الله عليه وسلم «من صلى عليّ مرة صلى الله عليه عشرا «1»
ومن العلماء من أوجب الصلاة كلما جرى ذكره لما
روي في الحديث «من ذكرت عنده فلم يصل عليّ فدخل النار فأبعده الله» «2»
ومنهم من أوجبها في كل مجلس مرة وإن تكرر ذكره كما قيل في آية السجدة وتشميت العاطس، وكذلك في كل دعاء في أوله وآخره. ومنهم من أوجبها في العمر مرة، وكذا قال في إظهار الشهادتين. والأحوط هو الأول وهو الصلاة عليه عند كل ذكر، وأما الصلاة على غيره فقد مر الخلاف فيها في سورة التوبة في قوله وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [الآية: 103] ثم رتب الوعيد على إيذاء الله ورسوله فيجوز أن يكون ذكر الله توطئة وتشريفا وإعلاما بأن إيذاء رسول الله هو إيذاء الله كقوله تعالى فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران: 31] ويجوز أن يراد بإيذاء الله الشرك به ونسبته إلى ما لا يجوز عليه. وعن عكرمة: هو فعل أصحاب التصاوير الذين يرومون تكوين خلق كخلق الله. وقيل: أذى رسول الله قولهم إنه ساحر أو شاعر أو كاهن أو مجنون. وقيل: طعنهم عليه في نكاح صفية بنت حي، والأظهر التعميم. وعن بعضهم أن اللعن في الدارين هو جزاء من يؤذي الله، وإعداد العذاب المهين هو جزاء من يؤذي رسول الله، ولعل الفرق لاغ. ثم رتب وعيدا آخر على إيذاء المؤمنين والمؤمنات ولكن قيده بقوله بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا لأنه إذا صدر عن أحدهم ذنب جاز إيذاؤه على الوجه المحدود في الشرع، ولعل المراد هو الإيذاء القولي لقوله فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً ويحتمل أن يقال: احتمال البهتان سببه الإيذاء القولي، واحتمال الإثم المبين سببه الإيذاء الفعلي، ويحتمل أن يكون كلاهما وعيد الإيذاء القولي، وإنما وقع الاكتفاء به لأنه أجرح للقلب ولا مكان الاستدلال به على الفعلي، ولأن إيذاء الله لا يكون إلا بالقول إلا إذا جعل السجود للصنم إيذاء. قيل: نزلت في ناس من المنافقين كانوا يؤذون عليا رضي الله عنه. وقيل: في إفك عائشة. وقيل: في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات.
ثم أراد أن يدفع عن أهل بيت نبيه وعن أمته المثالب التي هي مظان لصوق العار فقال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ الآية. ومعنى يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ يرخين عليهن. يقال للمرأة إذا زل الثوب عن وجهها أدني ثوبك على وجهك. ومعنى التبعيض في مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ أن يكون للمرأة
__________
(1) رواه النسائي في كتاب الأذان باب 37. أحمد في مسنده (2/ 168) .
(2) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 100. أحمد في مسنده (2/ 254) .
(5/475)
جلابيب فتقتصر على واحد منها، أو أريد طرف من الجلباب الذي لها. وكانت النساء في أول الإسلام على عادتهن في الجاهلية متبذلات يبرزن في درع وخمار من غير فصل بين الحرة والأمة، فأمرن بلبس الأردية والملاحف وستر الرأس والوجوه ذلِكَ الإدناء أَدْنى وأقرب إلى أَنْ يُعْرَفْنَ أنهن حرائر أو أنهن لسن بزانيات فان التي سترت وجهها أولى بأن تستر عورتها فَلا يُؤْذَيْنَ لا هن ولا رجالهن أقاربهن لأن أكثر الإيذاء والطعن إنما يتفق من جهة نساء العشيرة إذا كن مرئيات فضلا عن كونهن مزينات وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً لما قد سلف رَحِيماً حين أرشدكم إلى هذا الأدب الجميل. ولما أوعدهم بعذاب الآخرة خوّفهم بعقاب الدنيا قائلا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عن الإيذاء وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وهم الضعفة الإيمان أو الزناة وأهل الفجور وَالْمُرْجِفُونَ في مدينة الرسول وهم الخائضون في أخبار السوء من غير حقيقة، سمي بذلك لكونه خبرا متزلزلا غير ثابت من الرجفة وهي الزلزلة. روي أن ناسا كانوا إذا خرجت سرايا رسول الله يوقعون في الناس أنهم قتلوا أو هزموا وكانوا يقولون قد أتاكم العدوّ ونحو ذلك. ومعنى لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ لنسلطنك عليهم وهو مجاز من قولهم: أغريت الجارحة بالصيد. والمراد لنأمرنك بأن تفعل ما يضطرهم إلى الجلاء ثم لا يساكنونك في المدينة إلا زمنا قليلا ريثما يتأهبون فيرتحلون بأنفسهم وعيالهم. ومعنى «ثم» تراخي الرتبة كأنه يفعل بهم أفاعيل تسوءهم إلى أن يبلغ حد الاضطرار فيزعجهم، ويجوز أن يكون قَلِيلًا منصوب على الحال أيضا ومعناه لا يجاورونك إلا أقلاء أذلاء ملعونين. وفي قوله لا يُجاوِرُونَكَ عطف على جواب القسم كأنه قيل: إن لم ينتهوا لا يجاورونك سُنَّةَ اللَّهِ أي سنة الله في الدين ينافقون في الأنبياء أن يقتلوا حيثما ثقفوا. وقال مقاتل: أراد كما قتل وأسر أهل بدر وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا أي ليست هذه السنة مثل الحكم الذي يتبدل وينسخ فإن النسخ يكون في الأحكام لا في الأفعال والأخبار. ثم إن المشركين واليهود كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة استهزاء وامتحانا فأمر نبيه أن يقول: إن ذلك العلم مما استأثر الله ولكنها قريبة الوقوع. ومعنى قَرِيباً شيئا قريبا أو يوما أو زمانا. ثم أوعدهم بما أعدّ لهم من عذاب السعير. ومعنى تقليب وجوههم تصريفها في الجهات كاللحم يدار على النار حين يشوى، أو تغييرها عن أحوالها، أو تحويلها عن هيآتها، أو نكسها على رؤوسها. والوجه عبارة عن الجملة وخص بالذكر لأنه أشرف وأكرم، وإذا كان الأشرف معرضا للعذاب فالأخس أولى.
ثم حكى أنهم يعترفون ويتمنون ولا ينفعهم شيء من ذلك ثم يطلبون بعض التشفي بالدعاء على من أضلهم. قوله ضِعْفَيْنِ أي ضعفا لضلالهم وضعفا لإضلالهم. من قرأ لَعْناً كَبِيراً بالباء الموحدة فالمراد أشد اللعن وأفظعه، ومن قرأ بالثاء المثلثة أراد تكثير عدد
(5/476)
اللعن وقد علموا أن العذاب حاصل فطلبوا ما ليس بحاصل وهو زيادة العذاب وكثرة اللعن أو عظمه. قوله لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى قال المفسرون: نزلت في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من قالة بعض الناس. وإيذاء موسى هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذف موسى، أو حديث الأدرة أو البرص الذي قرفوه بذلك ففر الحجر بثوبه حتى رأوه عريانا وقد مر في «البقرة» . وقيل: اتهامهم إياه بقتل هارون وكان قد خرج معه إلى الجبل فمات هناك فحملته الملائكة ومروا به عليهم ميتا حتى أبصروه فعرفوا أنه غير مقتول، أو أحياه الله عز وجل فأخبرهم ببراءة موسى ومعنى مِمَّا قالُوا من مؤدى قولهم أو من مضمون مقولهم وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ذا جاه ومنزلة فلذلك كان يذب ويدفع عنه المثالب والمطاعن كما يفعل الملك بمن له عنده قربة. وروي عن شنبوذ وكان عبدا لله. ثم أشار إلى ما ينبغي أن يكون المؤمن عليه فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ والمعنى راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتقويم أمركم بسداد قولكم، فبتقوى الله يصلح العمل وبصلاح العمل تكفر السيئات وترفع الدرجات. أمرهم أوّلا بالتخلية وهي ترك الإيذاء وثانيا بالتحلية وهي التقوى الموجبة لتحصيل الأخلاق الفاضلة، ثم علق الفوز العظيم بالطاعة المسماة بالأمانة في قوله إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ فقيل: العرض حقيقة. وقيل: أراد المقابلة أي قابلنا الأمانة بالسماوات فرحجت الأمانة. والعرض أسهل من الفرض ولهذا كفر إبليس بالإباء ولم يكفر هؤلاء بالإباء لأن هناك استكبارا وهاهنا استصغارا بدليل قوله وَأَشْفَقْنَ مِنْها وقد يقال: المضاف محذوف أي عرضناها على أهل السموات والأرض والجبال وإنما صير إلى هذا التكلف لاستبعاد طلب الطاعة من الجمادات، ولم يستبعده أهل البيان لأن المراد تصوير عظم الأمانة وثقل حملها فمثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحالة المتحملة المفروضة لو عرضت على هذه الأجرام العظام. واعلم أن التكليف هو الأمر بخلاف ما في الطبيعة، فهذا النوع من التكليف ليس في السموات والأرض والجبال لأن السماء لا يطلب منها الهبوط، والأرض لا يطلب منها الصعود ولا الحركة، والجبال لا يطلب منها السير، وكذا الملائكة ملهمون بالتسبيح والتقديس. وسمي التكليف أمانة لأن من قصر فيه فعليه الغرامة ومن أداه فله الكرامة. فعرض الأمانة بهذا المعنى على هذه الأجرام وإباؤها من حملها هو عدم صلوحها لهذا الأمر، أو المراد هو التصوير المذكور. وقد خص بعضهم التكليف بقول «لا إله الا الله» . والأظهر عندي أن الأمانة هي الاستعداد الذي جبل كل نوع من المخلوقات عليه، وحمل الأمانة عبارة عن عدم أداء حقها كما يقال: فلان ركب عليه الدين. فكل من أخرج ما في قوته إلى الفعل فهو مؤدّ للأمانة وقاض حقها وإلا فهو حامل لها. ولا ريب أن
(5/477)
السموات مسخرات بأمر الله كل يجري لأجل مسمى، والأرض ثابتة في مستقرها، والجبال راسخة في أمكنتها، وهكذا كل نوع من الأنواع مما يطول تعدادها وإليه الإشارة بقوله سبحانه وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] إلا الإنسان فإن كثيرا من الأشخاص بل أكثرها مائلة إلى أسفل السافلين الطبع فلا جرم لم يقض حق الأمانة وانحط إلى رتبة الأنعام فوصف بالظلومية لأنه صرف الاستعداد في غير ما خلق لأجله، وبالجهولية لأنه جهل خاصة عاقبة إفساد الاستعداد، أو علم ولم يعمل بعلمه فنفي عنه العلم لانتفاء ثمرته. فاللام في الْإِنْسانُ للجنس وحمل الشيء على بعض الجنس يكفي في صدقه على الجنس. وفيه لطيفة أخرى مذكورة في تأويل آخر سورة البقرة. وذكروا في سبب الإشفاق أن الأمانة لا تقبل إما لعزتها ونفاستها كالجواهر الثمينة، أو لصعوبة حفظها كالزجاج مثلا، وكلا المحذورين موجود في التكليف. وأيضا كان الزمان زمان نهب وغارة إذ العرض كان بعد خروج آدم من الجنة والشيطان وجنوده كانوا في قصد المكلفين والعاقل لا يقبل الوديعة في مثل ذلك الوقت. وأيضا قد لا يقبل الأمانة لعسر مراعاتها ولاحتياجها إلى تعهد
ومؤنة كالحيوان المحتاج إلى العلف والسقي والتكليف كذلك فإنه يحتاج إلى تربية وتنمية بخلاف متاع يوضع في صندوق أو بيت، فهذه الأشياء علمن ما في التكليف من التبعات وجهلها الإنسان فقبله فكان جهولا، وقد ظلم آدم نفسه بالمخالفة فكان ظلوما وكذا أولاده الذين ظلموا أنفسهم بالعصيان وجهلوا ما عليهم من العقاب. واعتذر بعضهم عن الإنسان أنه نظر إلى جانب من كلفه وقال المودع عالم قادر لا يعرض الأمانة إلا على أهلها، وإذا أودع لا يتركها بل يحفظها بعينه وعونه فقبلها وقال إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 4] وقيل:
إنه كان ظلوما جهولا في ظن الملائكة حيث قالوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة:
30] وقال الحكيم: المخلوقات على قسمين: مدرك وغير مدرك. والمدرك منه من يدرك الجزئي فقط كالبهائم تدرك الشعير وتأكله ولا تتفكر في عواقب الأمور ولا تنظر في الدلائل، ومنه من يدرك الكلي دون الجزئي كالملك يدرك الكليات ولا يدرك لذة الجماع والأكل ولهذا قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا [البقرة: 32] فاعترفوا بعدم علمهم بتلك الجزئيات. ومنه من يدرك الأمرين وهو الإنسان له لذات بأمور جزئية فمنع منها لتحصيل لذات حقيقية كلذة الملائكة بعبادة الله ومعرفته. فغير الإنسان إن كان مكلفا كان بمعنى كونه مخاطبا لا بمعنى الأمر بما فيه كلفة ومشقة. وفي قوله وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ دون أن يقول «وقبلها» إشارة إلى ما في التكليف من الثقل وإلى ما يستحقه عليه من الأجر لو حمله كما أمر وإلى حيث أمر وإلا غرم وجرم. (لطيفة) . الأمانة عرضت على آدم فقبلها وكان أمينا عليها، والقول قول الأمين فهو فائز. وأما أولاده فأخذوا الأمانة منه والآخذ من الأمين ليس
(5/478)
بمؤتمن بل ضامن ولهذا لا يكون وارث المودع مقبول القول فلم يكن له بد من تجديد عهد وإيمان حتى يصير أمينا عند الله ويصير القول قوله فيكون له ما كان لآدم من الفوز، ولهذا ذكر ما فيه عاقبة حمل الأمانة قائلا لِيُعَذِّبَ إلى قوله وَيَتُوبَ إشارة إلى الفريقين. ثم وصف نفسه بكونه غفورا رحيما بإزاء كون الإنسان ظلوما جهولا ولا يخفى ما في هذه الإشارة من البشارة.
التأويل:
اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً فمن أحب شيئا أكثر ذكره. وأهل المحبة هم الأحرار عن رق الكونين والحرّ يكفيه الإشارة هُوَ الَّذِي يُصَلِّي أي لولا صلاتي عليكم لما وفقتم لذكري كما أنه لولا سابقة محبتي لما هديتم إلى محبتي، فكان في الأزل بالمؤمنين رحيما فلهذا أخرجهم في الأبد من ظلمة الوجود المجازي إلى نور الوجود الحقيقي إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً لنا بنعت المحبوبية وَمُبَشِّراً للطالبين برؤية جمالنا وَنَذِيراً للبطالين عن كمال حسننا وحسن كمالنا وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ لا بطبعك وهواك وَسِراجاً مُنِيراً في أوقات عدم الدعوة، وذلك أن النظر إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم كاف لمن كان له قلب مستنير، فإذا انضمت الدعوة إلى ذلك كان في الهداية غاية. وفضلا كبيرا هو القلب المستنير. إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ لما اتصفت نفسه بصفات القلب وزال عنها الهوى اتصفت دنياه بصفات الآخرة فحل له في الدنيا ما يحل لغيره في الآخرة إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ صلاة تليق بتلك الحضرة المقدّسة مناسبة لحضرة النبوّة بحيث لا يفهم معناها غيرهما منها الرحمة، ومنها المغفرة الواردة، ومنها الشواهد، ومنها الكشوف، ومنها المشاهدة، ومنها الجذبة، ومنها القربة، ومنها الشرب، ومنها الري، ومنها السكون، ومنها التجلي، ومنها الفناء في الله، ومنها البقاء به، وهكذا لأمته بحسب مراتبهم كقوله أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ [البقرة: 157] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ هي قبول الفيض الإلهي بلا واسطة ولهذا سمي أمانة لأن الفيض من صفات الحق فلا يتملكه أحد. وقد اختص الإنسان بإصابة رشاش النور الإلهي فكان عرض الفيض عاما على قلب المخلوقات ولكن كان حمله خاصا بالإنسان لأن نسبة الإنسان إلى سائر المخلوقات نسبة القلب إلى الشخص، فالروح يتعلق بالقلب ثم يصل فيضه بواسطة العروق والشرايين إلى سائر البدن فيتحرك به وهذا سر الخلافة إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً لأنه خلق ضعيفا وحمل قويا جَهُولًا لأنه ظن أنه خلق للمطعم والمشرب والمنكح ولم يعلم أن هذه الصورة قشر وله لب وللبه لب وهو محبوب الله. فبقوّة الظلومية والجهولية حمل الأمانة ثم بروحه المنوّر برشاش الله أدّى الأمانة فصارت الصفتان في حق حامل الأمانة ومؤدي حقها مدحا، وفي حق الخائنين فيها ذمّا. ولما لم يكن لروح الملائكة
(5/479)
ولغيرهم من المخلوقات راحلة تحملها بالعزة أبين منها وأشفقن. فالمخاطبون إذن على ثلاث طبقات: طبقة يظهر فيها جمال صفة عدله وهم الملك والأجسام العلوية والسفلية سوى الثقلين لم يحملوا الأمانة وتركوا نفعها لضرها، وطبقة يظهر فيها جمال قهره وهم المشركون والمنافقون حملوها طمعا في نفعها ثم لم يؤدّوا حقها بأن باعوها بالأعراض الفانية، والطبقة الثالثة المؤمنون وهم الذين حملوها طوعا ورغبة وشوقا ومحبة وأدّوا حقها بقدر وسعهم. ولكن الحكم لكل جواد كبوة يقع قدم صدقهم في حجر بلاء وابتلاء فيتوب الله عليهم بجذبات العناية وهم مرآة جمال فضله ولطفه الله حسبي ونعم الوكيل وبالله التوفيق.
(5/480)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14) لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
(سورة سبأ)
(وهي مكية حروفها ثلاثة آلف وخمسمائة واثنا عشر كلمها ثمانمائة وثلاث وثمانون آياتها أربع وخمسون)
[سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 21]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)
لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
(5/481)
القراآت:
عالم الغيب بالرفع: أبو جعفر ونافع وابن عامر ورويس. علام بالجر وبناء المبالغة: حمزة وعلي. الباقون عالِمِ بالجر وبدون المبالغة. مُعاجِزِينَ بالألف وقد روي عن ابن كثير وأبي عمرو معجزين بالتشديد رِجْزٍ أَلِيمٌ بالرفع صفة العذاب وكذلك في «الجاثية» : ابن كثير وحفص ويعقوب وجبلة. الآخرون: بالجر إن يشأ يخسف أو يسقط على الغيبة فيهما: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بالنون نَخْسِفْ بِهِمُ بإدغام الفاء في الباء: علي كِسَفاً بفتح السين: حفص غير الخزاز والطير بالرفع حملا على لفظ المنادى: يعقوب غير رويس الآخرون: بالنصب حملا على المحل أو لأنه مفعول معه أو معطوف على فَضْلًا بمعنى وسخرنا له الطير الريح بالرفع:
أبو بكر وحماد والمفضل بتقدير: ولسليمان الريح مسخرة أو سخرت الريح له الرياح بالرفع أيضا ولكن مجموعا: يزيد. الباقون: موحدا منصوبا كالجوابي بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو وورش في الوصل عِبادِيَ الشَّكُورُ بسكون الياء: حمزة والوقف بالياء لا غير مِنْسَأَتَهُ بالألف: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن فليح وزيد عن يعقوب. وقرأ ابن ذكوان ساكنة الهمزة. الآخرون: بفتح الهمزة تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ على البناء للمفعول: يعقوب غير زيد لِسَبَإٍ غير مصروف: أبو عمرو والبزي لِسَبَإٍ بهمزة ساكنة: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل لِسَبَإٍ بالألف: ابن فليح وزمعة والقواس غير ابن مجاهد وأبي عون مَسْكَنِهِمْ بفتح الكاف: حمزة وحفص، وبكسرها علي وخلف الباقون: مساكنهم مجموعة بِجَنَّتَيْهِمْ بضم الهاء: سهل ويعقوب أُكُلٍ خَمْطٍ بضم الكاف والإضافة: أبو عمرو وسهل ويعقوب. الآخرون: بالسكون والتنوين نُجازِي بضم النون وكسر الزاي إِلَّا الْكَفُورَ بالنصب: حمزة وعلي وخلف وحفص ويعقوب. الآخرون: بضم الياء وفتح الزاي وبرفع الْكَفُورَ ربنا بالرفع باعد بلفظ
(5/482)
الماضي من المفاعلة: سهل. الآخرون: رَبَّنا بالنصب على النداء باعِدْ على الأمر.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بعد أمرا من التبعيد صَدَّقَ بالتشديد: عاصم وعلي وخلف. الباقون: بالتخفيف أي صدق في ظنه أو صدق يظن ظنا نحو «فعلته جهدك» .
الوقوف:
فِي الْآخِرَةِ ط الْخَبِيرُ هـ فِيها ط الْغَفُورُ هـ السَّاعَةُ ط لَتَأْتِيَنَّكُمْ هـ لمن قرأ عالِمِ بالرفع أي هو عالم ومن خفض جعله نعتا لربي فلم يقف ب الْغَيْبِ ج لأن قوله لا يَعْزُبُ يصلح حالا واستئنافا مُبِينٍ هـ لا لتعلق اللام أبو حاتم يقف الصَّالِحاتِ ط كَرِيمٌ هـ أَلِيمٌ هـ الْحَقَّ ج لأن قولهن وَيَهْدِي عطف على المعنى أي يحق قبوله ويهدي الْحَمِيدِ هـ مُمَزَّقٍ ط لأن ما بعده في حكم المفعول لأنه مفعول ثان ل يُنَبِّئُكُمْ وإنما كسرت لدخول اللام في خبرها جَدِيدٍ هـ ج للآية ولاتحاد المقول جِنَّةٌ ط الْبَعِيدِ هـ الْأَرْضِ ط السَّماءِ ط مُنِيبٍ هـ فَضْلًا ط وَالطَّيْرَ ج لأن ما يتلوه يصلح حالا واستئنافا الْحَدِيدَ هـ لا لتعلق «أن» صالِحاً ط بَصِيرٌ هـ وَرَواحُها شَهْرٌ ط لأن قوله وَأَسَلْنا عطف على محذوف أي وسخرنا لسليمان الريح الْقِطْرِ ط رَبِّهِ ط السَّعِيرِ هـ راسِياتٍ ط شُكْراً ط الشَّكُورُ هـ مِنْسَأَتَهُ هـ الْمُهِينِ هـ آيَةٌ ج لاحتمال أن يكون التقدير هي جنتان وأن يكون بدلا من آية وَشِمالٍ ط لَهُ ط أي لكم بلدة غَفُورٌ هـ قَلِيلٍ هـ كَفَرُوا ط الْكَفُورَ هـ السَّيْرَ ط آمِنِينَ هـ مُمَزَّقٍ ط شَكُورٍ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ شَكٍّ ط حَفِيظٌ هـ.
التفسير:
قال في التفسير الكبير: السور المفتتحة بالحمد خمس: ثنتان في النصف الأول «الأنعام» و «الكهف» ، وثنتان في النصف الأخير هذه «والملائكة» والخامسة وهي «الفاتحة» تقرأ مع النصف الأول ومع النصف الأخير، وذلك لأن المكلف له حالتان الإبداء والإعادة وفي كل حالة لله علينا نعمتان: نعمة الإيجاد ونعمة الإبقاء فأشار في أوّل «الأنعام» إلى نعمة الإيجاد الأول بدليل قوله تعالى هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [الآية: 2] وأشار في أوّل «الكهف» إلى إنزال الكتاب الذي به يتم نظام العالم ويحصل قوام معاش بني آدم، وأشار في أوّل هذه السورة إلى نعمة الإيجاد الثاني بدليل قوله تعالى وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وأشار في أوّل سورة الملائكة إلى الإبقاء الأبدي بدليل قوله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] والملائكة بأجمعهم لا يكونون رسلا إلا يوم القيامة يرسلهم الله مسلمين على المسلمين كقوله وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنبياء: 103] وقال تعالى في تحيتهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [الزمر: 73] وفاتحة الكتاب حيث تشتمل على نعمة الدنيا بقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ
(5/483)
رَبِّ الْعالَمِينَ
[الفاتحة: 1] وعلى نعمة الآخرة بقوله مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 3] يقرأ في الافتتاح وفي الاختتام. واعلم أنه تعالى وصف نفسه في أول هذه السورة بأن له ما في السموات وما في الأرض إيذانا بأن كونه مالكا لكل الأشياء يوجب كونه محمودا على كل لسان، لأن الكل إذا كان له فكل من ينتفع بشيء من ذلك كان مستنفعا بنعمه. ثم صرح بأن له الحمد في الآخرة تفضيلا لنعم الآخرة على نعم الدنيا وإيذانا بأنها هي النعمة الحقيقية التي يحق أن يحمد عليها ويثنى عليه من أجلها مع إفادة الاختصاص بتقديم الظرف وَهُوَ الْحَكِيمُ في الابتداء الْخَبِيرُ بالانتهاء. ثم أكد علمه بقوله يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ أي يدخل فيها من المياه والحبات والكنوز والأموات وَما يَخْرُجُ مِنْها من الشجر والنبات ومياه الآبار والجواهر والمعدنيات وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ من الأمطار والأرزاق وأنواع البركات والوحي وَما يَعْرُجُ فِيها من الملائكة وأعمال العباد. وقد أشار بقوله فِيها دون أن يقول «إليها» إلى أن الأعمال الصالحة مقبولة والنفوس الزكية واصلة، فقد ينتهي الشيء إلى الشيء ولا ينفذ فيه ولا يتصل به وَهُوَ الرَّحِيمُ حين الإنزال الْغَفُورُ وقت عروج الأعمال للمفرطين في الأقوال والأفعال. ثم بين أن نعمة الآخرة بإتيان الساعة الآخرة قد ينكرها قوم ثم رد عليهم بقوله بَلى وأكد ذلك بقوله وَرَبِّي ثم برهن على ذلك بقوله عالِمِ الْغَيْبِ لأن العالم بجميع الأشياء عالم بأجزاء الأحياء قادر على جمعها كما بدأها. وفي قوله لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إشارة إلى أن الإنسان له جسم أرضي وروح سماوي، فالعالم بما في العالمين القادر على تأليفهما قادر على إعادتهما على ما كانا عليه. وإنما ذكر الأكبر مع أن الأصغر هو اللائق بالمبالغة لئلا يتوهم متوهم أن الصغار تثبت لكونها تنسى أما الأكبر فلا ينسى فلا حاجة إلى إثباته، بل المراد أن الصغير والكبير مثبت في الكتاب وقد مر نظيره في «يونس» . وقدم السموات على الأرض موافقة لقوله لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ بخلاف «يونس» فإن المخاطبين في الأرض فقدمت. ثم ذكر غاية الإعادة بقوله لِيَجْزِيَ إلى قوله مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ومعنى سَعَوْا فِي آياتِنا أي في إبطال آياتنا معاجزين مريدين تعجيز النبيّ في التقرير والتبليغ، أو يعجزون من آمن بنا. وقيل: أي مسابقين يحسبون أنهم يفوتوننا. وقال ابن زيد: جاهدين وهو قولهم لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت: 26] وعن قتادة: الرجز سوء العذاب. وحين بين جزاء المؤمن الصالح عمله والمكذب الساعي العجز علم منه حال غيرهما، فالمؤمن الذي لم يعمل صالحا يكون له مغفرة من غير رزق كريم، والكافر غير المعاند يكون له عذاب وإن لم يكن من أسوأ أنواعه. ثم بين أن الذين أوتوا العلم لا يغترون بشبهات أهل العناد ويرون ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق ليس الحق إلا هو
(5/484)
والنزاع غير لفظي حتى يمكن تصحيح قول المعاند بوجه. وأولو العلم هم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعون لهم. وقيل: هم علماء أهل الكتابين الذين أسلموا. ويرى من فعل القلب مفعولاه الذي مع صلته والحق وهو فصل. وقيل: إن يَرَى معطوف على لِيَجْزِيَ فلا وقف
على أَلِيمٌ أي وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علما لا يزاد عليه في الإيقان ويحتجوا به على المعاند، أو وليعلم من لم يؤمن من الأحبار أنه هو الحق فيزدادوا حسرة. والعزيز إشارة إلى كونه منتقما من الساعين في التكذيب، والحميد إشارة إلى أنه يشكر سعي من يصدق ويعمل صالحا، وقدم صفة الهيبة لأن الكلام مع منكري البعث. ثم قص عناد أهل قريش وخصهم بالتعجيب من حالهم لأنهم تجاهلوا حين قالوا على رجل مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندهم أظهر من الشمس قصدوا بذلك الطعن والسخرية فأخرجوا الكلام مخرج الحكاية ببعض الأضاحيك والأعاجيب كأن لم يكونوا قد عرفوا منه إلا أنه رجل ما.
ومعنى مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فرقت أوصالكم كل تفريق وجوّز جار الله أن يكون اسم مكان فمن الأموات ما حصل أجزاؤه في بطون الطير والسباع، ومنها ما مرت به السيول فذهبت به كل مذهب أو سفته الرياح فطرحته كل مطرح. والعامل في «إذا» ما دل عليه قوله إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو تبعثون أو تخلقون، ثم ازدادوا في التجاهل قائلين أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً إن كان يعتقد خلافه أَمْ بِهِ جِنَّةٌ إن كان لا يعتقد خلافه. وفيه أن الكافر لا يرضى بالكذب البحت فيردد كلامه بين الأمرين ولكن أخطأ ابن أخت خالته حين ترك قسما ثالثا وهو أنه عاقل صادق فلذلك ردّ الله عليهم بقوله بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ جعل وقوعهم في العذاب رسلا لوقوعهم في الضلال إذ العذاب من لوازم الظلال وموجباته قابل قولهم أَفْتَرى بالعذاب وقولهم بِهِ جِنَّةٌ بالضلال البعيد لأن نسبة الجنون إلى العاقل أقل في باب الإيذاء من نسبة الافتراء إليه. وقد أسقطت همزة الوصل في قوله أَفْتَرى استثقالا لاجتماع همزتين: همزة الاستفهام المفتوحة وهمزة الوصل المكسورة وهو على القياس. وجوز بعضهم أن يكون هذا الاستفهام من كلام السامع المجيب لمن قال: هل ندلكم؟ وحين قرر دليل الحشر من جهة كونه علام الغيوب أراد أن يذكر دليلا آخر على ذلك من قبل كمال قدرته فقال أَفَلَمْ يَرَوْا معناه أعموا فلم ينظروا، خصت بالفاء وليس غيره في القرآن تعجيلا للجواب وتعقيبا لحل الشبهة نظيره قوله أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس: 81] ثم هدّدهم بأنه قادر على أن يجعل عين النافع ضارا بالخسف وإسقاط الكسف. وقال جار الله: أراد فلم ينظروا
(5/485)
إلى السماء والأرض وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم لا يقدرون أن يخرجوا من أقطارهما فلم يخافوا أن يخسف الله بهم، أو يسقط عليهم كسفا لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. إِنَّ فِي ذلِكَ النظر والاعتبار لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ لأن الراجع إلى ربه قلما يخلو من الاعتبار والاستبصار. ثم ذكر من عباده المنيبين إليه داود وسليمان كما قال في «ص» فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ [ص: 24] وقال في سليمان وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ [ص: 34] وفي قوله مِنَّا تنويه بالفضل وشأنه. ثم بين الفضل بقوله يا جِبالُ أَوِّبِي لأن هذا القول نوع من إيتاء الفضل، ويجوز أن يكون التقدير: قلنا يا جبال أوّبي أي رجعي معه التسبيح.
قيل: كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائها والطير بأصدائها، وقد مر تحقيقه في سورة الأنبياء. والتأويب السير طول النهار والنزول ليلا فكأنه قال: أوّبي النهار كله بالتسبيح معه. وفي خطاب الجماد إشعار بأنه ما من صامت ولا ناطق إلا وهو منقاد لمشيئته. وقد ألان الله له الحديد كالشمع أو لأن الحديد في يده لما أوتي من شدة القوة. و «أن» في قوله أَنِ اعْمَلْ مفسرة لأن إلانة الحديد له في معنى الأمر بأن يستعمل. سابِغاتٍ أي دروعا واسعة وهي من الصفات التي غلبت عليها الاسمية حتى ترك ذكر موصوفها. والسرد نسج الدروع ومعنى التقدير فيه أن لا تجعل المسامير دقاقا فتقلق ولا غلاظا فتفصم الحلق.
يروى أنه كان يخرج حين ملك بني إسرائيل متنكرا فيسأل الناس عن نفسه ويقول لهم: ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه فقيض الله تعالى ملكا في صورة آدمي فسأله على عادته فقال: نعم الرجل لولا خصلة فيه. فخاف داود فسأله فقال:
لولا أنه يطعم عياله من بيت المال فطلب عند ذلك من الله أن يغنيه عن أكل بيت المال فعلمه صنعة اللبوس.
وإنما اختار له ذلك لأنه وقاية للروح ويحفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل، فالزرّاد خير من القوّاس والسياف. وقيل: إن التقدير في السرد إشارة إلى أنه غير مأمور به أمر إيجاب إنما هو اكتساب يكون بقدر الحاجة إلى القوت وباقي اليوم والليلة للعبادة بدليل قوله وَاعْمَلُوا صالِحاً أي لستم يا آل داود مخلوقين إلا للعمل الصالح فأكثروا منه وأما كسب القوت فاقتصدوا فيه. ثم أكد الفعل الصالح بقوله إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فإن من يعلم أنه بمرأى من الملك اجتهد في حسن العمل وتزكية الباطن.
ثم ذكر المنيب الآخر وهو سليمان، وحكى ما استفاد هو بالإنابة وهو تسخير الريح له كالمملوك المنقاد لأمره غُدُوُّها شَهْرٌ أي جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك. يروى أن بعض أصحاب سليمان كتب في منزل بناحية دجلة: نحن نزلناه وما بنيناه،
(5/486)
ومبنيا وجدناه غدونا من إصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه وبائتون بالشام إن شاء الله. ومن جملة معجزاته إسالة عين القطر، والقطر النحاس أساله لأجله كما ألان الحديد لداود فنبع كما ينبع الماء من العين فلذلك سماه عين القطر. روي أنه كان يسيل في شهر ثلاثة أيام.
زعم بعض المتحذلقين أن المراد من تسخير الجبال وتسبيحها مع داود أنها كانت تسبح كما يسبح كل شيء بحمده وكان هو عليه السلام يفقه تسبيحهم فيسبح. والمراد من تسخير الريح أنه راض الخيل وهي كالريح. وقوله غُدُوُّها شَهْرٌ أي ثلاثون فرسخا لأن الذي يخرج للتفرج لا يسير في العادة أكثر من فرسخ ثم يرجع. والمراد بإلانة الحديد وإسالة القطر أنهم استخرجوا الحديد والنحاس بالنار واستعمال آلاتها. والمراد بالشياطين ناس أقوياء. ولا يخفى ضعف هذه التأويلات فإن قدرة الله في باب خوارق العادات أكثر وأكمل من أن تحتاج إلى هذه التكلفات. وقال في التفسير الكبير: الجبال لما سبحت تشرفت بذكر الله فلم يضفها إلى داود بلام الملك بل جعلها معه كالمصاحب، والريح لم يذكر فيها أنها سبحت فجعلها كالمملوكة. أو نقول: الجبل في السير ليس أصلا بل هو يتحرك معه تبعا، والريح لا تتحرك مع سليمان بل تتحرك مع نفسها فلم يقل الريح مع سليمان بل سليمان كان مع الريح. وهاهنا نكتة وهي أن الله تعالى ذكر ثلاثة أشياء في حق داود وثلاثة في حق سليمان. لعله كالمصروف عن جهته تأمل فالجبال المسخرة لداود من جنس تسخير الريح لسليمان. إذ كل منهما ثقيل مع خفيف، فالجبال أثقل من الآدمي والآدمي أثقل من الريح. وأيضا تسخير الطير من جنس الجن فإن الطير تنفر من الآدمي والآدمي يتقي مواضع الجن والجن تطلب أبدا اصطياد الناس والإنسان يطلب اصطياد الطير.
وإلانة الحديد شبيهة بإسالة القطر. وفي قوله بِإِذْنِ رَبِّهِ إشارة إلى أن حضور الجن بين يديه كان مصلحة له لا مفسدة. وفي قوله عَنْ أَمْرِنا دون أن يقول «عن أمر ربه» إشارة إلى أن الجن كانوا بصدد التعذيب عند زيغهم عن أمر الله، فإن لفظ الرب ينبىء عن الرحمة، وصيغة جمع المتكلم في مقام الوحدة ينبىء عن الهيبة. قال ابن عباس: عذاب السعير عذاب الآخرة. وعن السدي: كان معه ملك بيده سوط من النار كلما استعصى عليه الجنيّ ضربه من حيث لا يراه الجني. ثم فصل عمل الجن بقوله يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وهي المساجد والمجالس الرفيعة الشريفة المصونة عن الابتذال وقد مر في «آل عمران» . والتماثيل صور الملائكة والنبيين كان يأمر بأن تعمل في المساجد من نحاس وصفر وزجاج ورخام ليراها الناس فيعبدوا نحو عبادتهم. عن أبي العالية: لم يكن اتخاذ الصور في تلك الشرائع محرما ولعلها صور غير الحيوان من الأشجار ونحوها. ويروى أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه، ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا
(5/487)
قعد أظله النسران بأجنحتهما. وحين فرغ من تقرير مسكنه ونقوشه شرع في تقرير آلات مجلسه فقدم ذكر الجفان التي بها تظهر عظمة السماط الممدود منه. والجفنة القصعة الكبيرة، والجوابي الحياض الكبار، لأن الماء يجبى فيها أي يجمع جعل الفعل لها مجازا وهي من الصفات الغالبة كالدابة، وكان يقعد على الجفنة ألف رجل. وحين ذكر الجفان كان يقع في النفس أن هذه الأطعمة كيف تكون قدورها فذكر أنها قدور راسيات ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها. ويعلم من تقرير قصتي داود سليمان أن اشتغال داود بآلة الحرب أكثر لأنه قتل جالوت، ثم أراد تسوية الملك والغلبة على الجبابرة، وأما في زمن سليمان فالملك قد استوى ولم يكن على وجه الأرض أحد يقاومه وكان يفرق الأموال في الإطعام والإنعام.
ثم بين بقوله اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً أن الدنيا عرض زائل وإن كان ملك سليمان فعلى العاقل أن يصرف همته في طلب الآخرة. وانتصب شُكْراً على أنه مفعول له أو حال أي شاكرين، أو مصدرا لأن اعْمَلُوا في معنى الشكر، أو مفعول به لأن الشكر عمل صالح. وقال جار الله: إنه على طريق المشاكلة ومعناه إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكرا. قلت: وفي لفظ العمل إشارة إلى أن الشكر اللساني غير كاف وإنما المعتبر الشكر الفعلي أو هو مع القولي.
يروى أن داود عليه السلام جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي.
والشكور هو المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه بالقلب واللسان والجوارح في أكثر الأوقات والأحوال وإنهم لقليل فلذلك قال بعضهم: اللهم اجعلني من الأقلين. وهذا الشكر القليل إنما هو بقدر الطاقة البشرية وأما الذي يناسب نعم الله فلن يقدر الإنسان عليه إلا أن يقول الله: عبدي ما أتيت به من الشكر قبلته منك مع قلته وكتبتك شاكرا لأنعمي بأسرها، وهذا القول نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها. وحين بين عظمة سليمان وتسخير الريح والجن له، بين أنه لم ينج من الموت وأنه قضى عليه الموت ولو نجا أحد منه لكان نبي الله أولى بذلك.
يروى أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس فمات قبل أن يتمه، فوصى به إلى سليمان فأمر الشياطين بإتمامه، وكان من عادته أن يعتكف فيه أحيانا. فلما دنا أجله لم يصبح إلا رأى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله عز وجل فيسألها لأي شيء أنت؟
فتقول: لكذا حتى أصبح ذات يوم فرأى الخروبة فسألها لأيّ شيء أنت؟ فقالت: لخراب هذا المسجد. فقال: ما كان الله ليخربه وأنا حيّ. فقال: اللهم عمّ على الجن موتي حتى يعلم الناس أنهم لا يعلمون الغيب. وقال لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني. فقال:
(5/488)
أمرت بك وقد بقيت في عمرك ساعة. فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب؟ فقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه فبقي كذلك وظن جنوده أنه في العبادة فكانوا يواظبون على الأعمال الشاقة إلى أن أكلت الأرضة عصاه فخرّ ميتا وذلك بعد سنة.
والأرض مصدر أرضت الخشبة أرضا إذا أكلتها الأرضة. والمنسأة العصا لأنه ينسأ بها أي يطرد ويؤخر، وقد يترك همزها. وقرىء من سأته أي طرف عصاه سميت بسأة القوس على الاستعارة. وتبينت بمعنى ظهرت «وأن» مع صلتها بدل من الجن بدل الاشتمال على نحو قولك «تبين زيد جهله» أو هو بمعنى علمت أي علم الجن كلهم بعد التباس الأمر على عامتهم أن كبارهم لا يعلمون الغيب وكان ادعاؤهم ذلك من قبل زورا. أو المراد التهكم بهم وأن الذين ادّعوا منهم علم الغيب اعترفوا بعجزهم مع أنهم كانوا من قبل عارفين عجزهم كما لو قلت لمدعي الباطل إذا دحضت حجته: هل تبينت أنك مبطل. وأنت تعلم أنه لم يزل متبينا لذلك. وكان عمر سليمان ثلاثا وخمسين سنة، ملك وهو ابن ثلاث عشرة وبقي في ملكه إلى أن مات، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. ولما بين حال الشاكرين لأنعمه ذكر حال من كفر النعمة. وسبأ بصرف بناء على أنه اسم للحي أو الأب الأكبر، ولا يصرف بتأويل القبيلة وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ثم سميت مدينة مأرب بسبأ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث. من قرأ مساكنهم فظاهر. ومن قرأ على التوحيد فالمراد مسكن كل واحد منهم أو موضع سكناهم وهو بلدهم وأرضهم. عن الضحاك: كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام. ومعنى كون الجنتين آية أنه جعل قصتهما عبرة لأهل الكفران، أو علامة دالة على الصانع وكمال اقتداره ووجوب شكره. قال جار الله: لم يرد بستانين اثنين فحسب وإنما أراد جماعتين من البساتين: جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها، كأن كل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها جنة واحدة، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كقوله جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ [الكهف: 32] .
وقوله كُلُوا مِنْ رِزْقِ حكاية لسان الحال أو لسان الأنبياء المبعوثين إليهم وهم ثلاثة عشر نبيا على ما روي. وفيه إشارة إلى كمال النعمة حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض. وكذا قوله وَاشْكُرُوا لَهُ لأن الشكر لا يطلب إلا على النعمة المعتبرة. وكذا قوله بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ أي عن المؤذيات من العقارب والحيات وسائر الهوام والحشرات، أو المراد أنها ليست بسبخة كقوله وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ [الأعراف: 58] وَرَبٌّ غَفُورٌ أي ربكم الذي رزقكم فطلب شكركم غفور لمن يشكره بقدر طاقته لا يؤاخذه بالتقصير في أداء حق
(5/489)
الشكر إذا توجه عليه الشكر وبذل وسعه فيه، أو أراد غفران سائر الذنوب فكأنه وعدهم سعادة الدارين. وعن ثعلب: معناه اسكن واعبد. وحين بين ما كان من جانبه ذكر ما كان من جانبهم وهو قوله فَأَعْرَضُوا أي عن الشكر. ثم ذكر جزاءهم بقوله فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وهو الجرذ.
يروى أن بلقيس الملكة عمدت إلى جبال هناك فسدّت ما بينها من الشعب بالصخر والقار فحقنت به ماء العيون والأمطار وتركت فيه خروقا لها أبواب مترتبة بعضها فوق بعض على مقدار ما يحتاجون إليه في سقي أراضيهم، فلما طغوا سلط الله على سدّهم الخلد فثقبه من أسفله.
وقيل: العرم جمع عرمة وهي الحجارة المركوزة والمراد بها المسناة التي عقدوها سكرا. وقيل: العرم اسم الوادي. وقيل: المطر الشديد. والتركيب يدل على الشكاسة وسوء الخلق ومنه قولهم «صبي عارم» من العرام بالضم أي شرس. ومن ذلك «عرمت العظم» عرقته و «عرمت الإبل الشجر» نالت منه ذَواتَيْ أُكُلٍ صاحبتي ثمر.
والقياس ذاتي إلا أن المستعمل في التثنية هو الجمع. والخمط شجر الأراك. أبو عبيدة: كل شجر ذي شوك. الزجاج: كل نبت أخذ طعما من مرارة حتى لا يمكن أكله. والأثل نوع من الطرفاء لا يكون عليه ثمرة إلا نادرا كالعفص في الطعم والطبع ولكن أصغر. والسدر معروف وهو من أحسن أشجار البادية فلذلك وصفه هاهنا بالقلة. عن الحسن: قلل السدر لأنه أكرم ما بدّلوا، والتحقيق فيه أن البساتين إذا عمرت كل سنة ونقيت من الحشائش كانت ثمارها زاكية وأشجارها عالية، فإذا تركت سنين صارت كالغيضة والأجمة والتفت الأشجار بعضها ببعض فيقل الثمر وتكثر الحشائش والأشجار ذوات الشوك على أنه لا يبعد التبديل تحقيقا فيكون شبه المشخ. من قرأ أُكُلٍ خَمْطٍ بالإضافة فظاهر، ومن قرأ بالتنوين فعلى حذف المضاف أي أكل أكل خمط، أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل: ذواتي أكل بشع.
وتسمية البدل جنتين لأجل المشاكلة أو التهكم. قال في الكشاف: الأثل والسدر معطوفان على أُكُلٍ لا على خَمْطٍ لأن الأثل لا أكل له ذلِكَ الإرسال والتبديل جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا النعمة وغمطوها وَهَلْ نُجازِي مثل هذا الجزاء وهو العقاب العاجل إِلَّا الْكَفُورَ قال بعضهم: المجازاة في النقمة والجزاء في النعمة إلا إذا قيد كقوله سبحانه جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وقال جار الله: الجزاء عام لكل مكافأة يستعمل في المعاقبة تارة وفي الإثابة أخرى، فلما استعمل أوّلا في معنى المعاقبة استعمل ثانيا على نحو ذلك. وقيل: إن المجازاة مفاعلة وهي في الأكثر تكون بين اثنين يوجد من كل واحد جزاء في حق الآخر، ففي النعمة لا يكون مجازاة لأن الله مبتدىء بالنعم. وحين ذكر حال مسكنهم وجنتيهم وحكى تبديل الجنتين بما لا نفع فيه أراد أن يذكر حال خارج بلدهم وما يؤل إليه أمره فقال وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها وهي قرى الشام قُرىً ظاهِرَةً متواصلة يرى
(5/490)
من كل منها ما يتلوها لتقاربها، أو ظاهرة للسابلة لكونها على متن الطريق. وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فيقيل الغادي في قرية ويبيت الرائح في أخرى، فمنازل ما بين تلك القرى مقدّرة ومعلومة لا يجاوزها المسافر عرفا بخلاف المفاوز فإن السائر يسير فيها بقدر طاقته حتى يقطعها. ثم بين أمن تلك الطريق بقوله سِيرُوا أي قلنا لهم سيروا إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار. قال أهل البيان: لا قول ثمة ولكنهم مكنوا من السير بتهيئة أسبابه من وجدان الزاد والراحلة وعدم المخاوف والمضارّ فكأنهم أمروا بذلك. والمقصود من ذكر الليالي والأيام تقرير كمال الأمن ولذلك قدمت الليالي فإنها مظنة الآفات. ويمكن تقرير الأمن بوجه آخر وهو أن يقال: سيروا فيها وإن تطاولت مدّة سفركم فيها وامتدت أياما وليالي، أو يراد بالليالي والأيام مدّة أعمارهم أي سيروا فيها مدّة عمركم فإنكم لا تلقون إلا الأمن.
ثم حكى أنهم سئموا العيش الهنيء وملوا الدعة والراحة كما طلب بنو إسرائيل البصل والفوم مكان المن والسلوى فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا أرادوا أن يجعل الله بينهم وبين الشام مفاوز ليركبوا الرواحل فيها ويتزوّدوا الأزواد قائلين: لو كان جني جناتنا أبعد كان أشهى وأرغد. ويحتمل أن يكون ذلك لفساد اعتقادهم وشدّة اعتمادهم على أن ذلك لا يعدم كما يقول القائل لغيره: اضربني مشيرا بذلك إلى أنه لا يقدر عليه. ومن قرأ على الابتداء والخبر فالمراد استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوّها لفرط تنعمهم وترفههم وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بوضع الكفر موضع الشكر فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ فرقناهم كل تفريق فلا جرم اتخذ الناس حالهم مثلا قائلين «ذهبوا أيدي سبأ» أي في طرق شتى. واليد في كلام العرب الطريق يقال: سلك بهم يد البحر. وقيل: الأيادي الأولاد لأنه يعضد بهم كما بالأيدي. والمعنى ذهبوا تفرق أولاد سبأ فلحق غسان بالشام، وأنمار بيثرب، وجذام بتهامة، والأزد بعمان إِنَّ فِي ذلِكَ الجعل والتمزيق لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي شَكُورٍ للنعم أو صبار على النعم حتى لا يلحقه البطر شكور لها برعاية حق الله فيها. ثم أخبر عن ضعف عزم الإنسان بقوله وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ أي على بني آدم لقرينة الحال.
وقيل: على أهل سبأ وظن إبليس هو قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ [الحجر: 39] أو قوله أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ [ص: 76] بدليل قوله فَاتَّبَعُوهُ والمتبوع خير من التابع. ولا ريب أن الكافر أدون حالا من إبليس لأنه خالف أمر الله في سجدة آدم والكافر يجحد الصانع أو يشرك به. ثم بين قوله وَما كانَ لَهُ أن الشيطان ليس بملجىء ولكنه آية وعلامة يتميز به ما هو السابق في علمه من المقرّ والشاك. والحفيظ المحافظ ويدخل في مفهوم الحفظ العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه وكذا العاجز.
(5/491)
التأويل:
يَعْلَمُ ما يَلِجُ في أرض البشرية بواسطة الحواس والأغذية الحلال والحرام وَما يَخْرُجُ مِنْها من الصفات المتولدة منها. وَما يَنْزِلُ من سماء القلب من الفيوض والإلهامات وَما يَعْرُجُ فِيها من آثار الفجور والتقوى وظلمة الضلالة ونور الهدى إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من سماء القلب وأرض النفس، نخسف بهم أرض البشرية بغلبات صفاتها أو يغلب عليهم صفة من صفات القلب بالميل إلى الإفراط فنهلكهم بها كالسخاوة فإنها صفة حميدة لكنها إذا جاوزت حدّ الاعتدال صارت ذميمة إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ [الإسراء: 27] يا جِبالُ أَوِّبِي قد مر تأويله في سورة الأنبياء وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وهو المتكلم بالحكمة على قدر عقول الناس وَلِسُلَيْمانَ القلب سخرت ريح العناية وذلك أن مركب القلوب في السير هو الجذبة الإلهية كما أن مركب البدن في المسير البدن.
يروى أن سليمان في سيره لاحظ ملكه يوما فمال الريح ببساطه فقال سليمان للريح:
استو فقالت الريح: استو أنت فإني لا أكون مستوية حتى تستوي أنت.
كذلك حال السر مع القلب وريح العناية إذا زاغ القلب أزاغ الله بريح الخذلان بساط السر إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: 11] وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ الحقائق والمعاني وسخرنا له صفات الشيطنة لتعمل بين يديه على وفق أوامر الله ونواهيه كما
قال نبينا صلى الله عليه وسلم «شيطاني أسلم على يدي فلا يأمرني إلا بالخير» «1»
مِنْ مَحارِيبَ وهو كل ما يتوج إلى الله به بخاصية الإباء والاستكبار وأنفة السجود لغير الله، ولو وكل القلب والروح إلى خاصية الروحانية التي جبل الروح عليها ما كان يرغب في العبور عن مقام الروحانية كالملائكة.
قال جبرائيل عليه السلام: لو دنوت أنملة لاحترقت.
وَجِفانٍ كَالْجَوابِ فيه إشارة إلى مأدبة الله التي يأكل منها الأنبياء والأولياء إذ يبيتون عنده اعْمَلُوا آلَ داوُدَ وهم متولدات الروح فشكر البدن استعمال الشريعة بجميع الأعضاء والحواس، وشكر النفس بإقامة شرائط التقوى والورع، وشكر القلب بمحبة الله وحده، وشكر السر المراقبة، وشكر الروح بذل الوجود على نار المحبة كالفراش على شعلة الشمعة، وشكر الخفي قبول الفيض بلا واسطة في مقام الوحدة مخفيا بنور الوحدة عن نفسه. فالعوام شكرهم بالأقوال، والخواص شكرهم بالأعمال، وخواص الخواص شكرهم بالأحوال من الاتصاف بصفة الشكورية التي تعطي على عمل. فإن عشرة ثواب باق ولذلك وصفهم بالقلة تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ اتكأ سليمان على عصاه فبعث الله أخس دابة لإبطال متكئه وجعله سببا لزوال ملكه وفوات روحه وكان قبل
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث 69، 70. الترمذي في كتاب الرضاع باب 17. النسائي في كتاب النساء باب 4. الدارمي في كتاب الرقاق باب 25، 66. أحمد في مسنده (1/ 257) .
(5/492)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
متكئا على فضل الله فآتاه ما لم يؤت أحدا من خلقه لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ السر جَنَّتانِ جنة الروح عن يمين السر وجنة القلب عن شمال السر بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ هي بلدة الإنسانية القابلة لبذر التوحيد وَرَبٌّ غَفُورٌ يستر العيوب فَأَعْرَضُوا عن الوفاء وأقبلوا على الجفاء فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ سطوات الْعَرِمِ قهرنا وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ الشجرتين بأشجار الأخلاق الحميدة جَنَّتَيْنِ من الأوصاف الذميمة وَهَلْ نُجازِي وهل يكون للأشجار الخبيثة إلا الأثمار الخبيثة. قُرىً ظاهِرَةً منازل السالكين ومقامات العارفين من التوبة والزهد والتوكل والتزكية والتحلية. وقلنا لهم سيروا في ليالي البشرية وأيام الروحانية آمِنِينَ في حيازة الشريعة فطلبوا البعد عن الله بالميل إلى ما سواه ففرقناهم في أودية الهلاك ودركات البعد. وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ فيه أن الشيطان إنما سلط على بني آدم لاستخراج جواهر النفوس من معادنها.
[سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 54]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)
قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36)
وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41)
فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46)
قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51)
وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
(5/493)
القراآت:
أذن له على البناء للمفعول: أبو عمرو وعلي وخلف والأعشى والبرجمي فزع علي البناء للفاعل: ابن عامر ويعقوب جزاء بالنصب الضِّعْفِ مرفوعا:
يعقوب في الغرفة على التوحيد: حمزة يَحْشُرُهُمْ ثُمَّ يَقُولُ على الغيبة فيهما:
حفص ويعقوب. الباقون: بالنون ثم تفكروا بتشديد التاء: رويس أَجْرِيَ إِلَّا بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص ربي إنه بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو: التَّناوُشُ مهموزا: أبو عمرو وحمزة وخلف وعاصم سوى حفص والشموني والبرجمي. حِيلَ بضم الحاء وكسر الياء: ابن عامر وعلي ورويس.
الوقوف:
مِنْ دُونِ اللَّهِ ج لاحتمال الجملة بعده حالا واستئنافا ظَهِيرٍ هـ أَذِنَ
(5/494)
لَهُ
ط الْحَقَّ ط الْكَبِيرُ هـ وَالْأَرْضِ ط قُلِ اللَّهُ لا لاتصال المقول مُبِينٍ هـ تَعْمَلُونَ هـ بِالْحَقِّ ط الْعَلِيمُ هـ كَلَّا ط الْحَكِيمُ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ صادِقِينَ هـ وَلا تَسْتَقْدِمُونَ هـ بَيْنَ يَدَيْهِ ط عِنْدَ رَبِّهِمْ ج لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا وهذا أوجه الْقَوْلَ ج لمثل ذلك مُؤْمِنِينَ هـ مُجْرِمِينَ هـ أَنْداداً ط الْعَذابَ ط كَفَرُوا ط يَعْمَلُونَ هـ كافِرُونَ هـ بِمُعَذَّبِينَ هـ لا يعملون هـ صالِحاً ز أن أولئك مبتدأ مع الفاء آمِنُونَ هـ مُحْضَرُونَ هـ وَيَقْدِرُ لَهُ ط يُخْلِفُهُ ج لعطف الجملتين المختلفتين الرَّازِقِينَ هـ يَعْبُدُونَ هـ مِنْ دُونِهِمْ ج لتنويع الكلام مع اتحاد المقول الْجِنَّ ج لذلك مُؤْمِنُونَ هـ ضَرًّا ط تُكَذِّبُونَ هـ آباؤُكُمْ ج للعطف مع طول الكلام والتكرار مُفْتَرىً ط مُبِينٌ هـ مِنْ نَذِيرٍ هـ نَكِيرِ هـ بِواحِدَةٍ ج لأن ما بعده بدل أو خبر أي هي أن تقوموا مِنْ جِنَّةٍ ط شَدِيدٍ هـ لَكُمْ ط اللَّهِ ج شَهِيدٌ هـ بِالْحَقِّ ج لاحتمال أن ما بعده بدل من الضمير في يقذف أو خبر أي هو علام الْغُيُوبِ هـ يُعِيدُ هـ عَلى نَفْسِي ج لعطف جملتي الشرط رَبِّي ط قَرِيبٌ هـ قَرِيبٍ لا لأن ما بعده معطوف على أُخِذُوا: آمَنَّا بِهِ ط لاحتمال كون الجملة الاستفهامية مبتدأ بها أو حالا بَعِيدٍ هـ لا للآية ولاحتمال الاستئناف والحال بعده والعامل معنى الفعل في التناوش مِنْ قَبْلُ ج للعطف على كفروا بناء على أنه حال ماضية أو للاستئناف أي وهم يقذفون بَعِيدٍ هـ مِنْ قَبْلُ ط مُرِيبٍ هـ.
التفسير:
لما فرغ من حكاية أهل الشكر وأهل الكفران تمثيلا عاد إلى مخاطبة كفار قريش وتقريعهم. ومفعولا زعم محذوف أي زعمتموهم آلهة، وسبب حذف الأوّل استحقاق عوده إلى الموصول، وسبب حذف الثاني إقامة الصفة وهي مِنْ دُونِ اللَّهِ مقام الموصوف. وتفسير الآية مبني على تفصيل وهو أن مذاهب أهل الشرك أربعة: أحدها قولهم إنا نعبد الملائكة والكواكب التي في السماء فهم آلهتنا والله إلههم فالله تعالى قال في إبطال قولهم أنهم لا يملكون في السموات شيئا كما اعترفتم، ولا في الأرض على خلاف ما زعمتم أن الأرض والأرضيات في حكمهم. وثانيها قول بعضهم إن السموات من الله على سبيل الاستقلال، وإن الأرضيات منه ولكن بواسطة الكواكب واتصالاتها وانصرافاتها فأبطل معتمد هؤلاء بقوله وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ أي الأرض كالسماء لله ليس لغيره فيها نصيب.
وثالثها قول من قال: التركيبات والحوادث كلها من الله لكن فوض ذلك إلى الكواكب وإعانتها فأشار إلى إبطال معتقد هؤلاء بقوله وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ورابعها مذهب من زعم أنا نعبد الأصنام التي هي صور الملائكة ليشفعوا لنا فبين بطلان مذهبهم بقوله وَلا
(5/495)
تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ
قال جار الله: تقول الشفاعة لزيد على أنه الشافع وعلى معنى أنه المشفوع له أي لا تنفع الشفاعة إِلَّا كائنة لِمَنْ أَذِنَ لَهُ من الشافعين أو إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله. و «حتى» غاية لمضمون الكلام الدال على انتظار الإذن كأنه قيل: يتربصون ويقفون مليا فزعين حَتَّى إِذا فُزِّعَ أي كشف الفزع في القيامة عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن تباشروا بذلك وسأل بعضهم بعضا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا قال الْحَقَّ أي القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى، يؤيد هذا التفسير
قول ابن عباس عن النبي «فإذا أذن لمن أذن أن يشفع فزعته الشفاعة»
والتشديد للسلب والإزالة على نحو «قردته وجلدته» أي أزلت قراده وسلخت جلده. وقيل: إن «حتى» على هذا التفسير متعلق بقوله زَعَمْتُمْ أي زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ثم تركتم ما زعمتم وقلتم قال الحق. ومنهم من ذهب إلى أن التفزيع غاية الوحي المستفاد من قل فإنه عند الوحي يفزع من في السموات كما
جاء في حديث «إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبرائيل فاذا جاء فزع عن قلوبهم فيقولون: يا جبرائيل ماذا قال ربكم؟ فيقول الحق» «1»
أي يقول الحق الحق. وقيل: أراد بالفزع أنه تعالى لما أوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم فزع من في السموات من القيامة لأن إرسال محمد صلى الله عليه وسلم من أشراطها فلما زال عنهم ذلك قالوا: ماذا قال الله؟ قال جبرائيل وأتباعه: الحق. وقيل: إنه الفزع عند الموت يزيله الله عن القلوب فيعرف كل أحد أن ما قال الله هو الحق فينتفع بتلك المعرفة أهل الإيمان ولا ينتفع بها أهل الكفر. وحين بين بقوله قُلِ ادْعُوا أنه لا يدفع الضر إلا هو أشار بقوله قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ إلى أن جلب النفع لا يكمل إلا به. وهاهنا نكتة هي أنه قال في دفع الضر قالُوا الْحَقَّ وفي طلب النفع قال قُلِ اللَّهُ تنبيها على أنهم في الضراء مقبلون على الله معترفون به، وفي السراء معرضون عنه غافلون لا يتنبهون إلا بمسه. وقوله وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ من الكلام المنصف الذي يتضمن قلة شغب الخصم وفلّ شوكته بالهوينا. وفي تخالف حرفي الجر في قوله لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ إشارة إلى أن أهل الحق راكبون مطية الهدى مستعلون على متنها، وأن أهل الباطل منغمسون في ظلمة الضلال لا يدرون أين يتوجهون. وإنما وصف الضلال بالمبين وأطلق الهدى لأن الحق كالخط المستقيم واحد، والباطل كالخطوط المنحنية لا حصر لها فبعضها أدخل في الضلالة من بعض وأبين.
وقوله عَمَّا أَجْرَمْنا إلى قوله عَمَّا تَعْمَلُونَ أبلغ في سلوك طريقة الإنصاف حيث
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 31. أبو داود في كتاب السنة باب 20.
(5/496)
أسند الإجرام وهو الصغائر والزلات أو هي مع الكبائر إلى أهل الإيمان، وعبر عن إجرام أهل الكفر بلفظ عام وهو العمل. وفيه إرشاد إلى المناظرات الجارية في العلوم وغيرها، وإذا قال أحد المناظرين للآخر: أنت مخطئ أغضبه وعند الغضب لا يبقى سداد الفكر، وعند اختلاله لا مطمع في الفهم فيفوت الغرض. ومعنى الفتح الحكم والفصل بين الفريقين بإدخال أهل الجنة الجنة وأهل النار النار. وحين حث في الآية الأولى على وجوب النظر من حيث إن كل أحد يؤاخذ بجرمه ولو كان البريء أخذ بالمجرم لم يكن كذلك، أكد ذلك المعنى بالآية الثانية فإن مجرد الخطأ والضلال واجب الاجتناب فكيف إذا كان يوم عرض وحساب. وفي قوله الْعَلِيمُ إشارة إلى أن حكمه يكون مع العلم لا كحكم من يحكم بمجرد الغلبة والهوى. ولما بين أن غير الله لا يعبد لدفع الضر ولا لجلب النفع أراد أن يبين أن غير الله لا ينبغي أن يعبد لأجل استحقاق العبادة فإنه لا مستحق للعبادة إلا هو. ومعنى أَرُونِيَ وكان يعرفهم ويراهم الاستخفاف بهم والتنبيه على الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله أو أراد أعلموني بأي صفة ألحقتموهم بالله وجعلتموهم شركاء ف شُرَكاءَ نصب على الحال والعائد محذوف وكَلَّا ردع لهم عن مذهبهم بعد ما كسده بإبطال المقايسة وردّ الإلحاق. ثم زاد في توبيخهم بقوله بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ كأنه قال:
أين الذين ألحقتم به شركاء من هذه الصفات فإن الإله لا يمكن أن يخلو عن القدرة الكاملة والحكمة الشاملة. وهو يحتمل أن يكون ضمير الشأن. وحين فرغ من التوحيد شرع في الرسالة. ومعنى كَافَّةً عامة لأن الرسالة إذا شملتهم فقد منعتهم أن يخرج أحد منهم والكف المنع وكافة صفة لرسالة. وقال الزجاج: التاء للمبالغة كتاء الراوية والعلامة وإنه حال من الكاف أي أرسلناك جامعا للناس في الإبلاغ والتبشير والإنذار، أو مانعا للناس من الكفر والمعاصي. وبعض النحويين جعله حالا من الناس وزيف بأن حال المجرور لا يتقدم عليه. ومن هؤلاء من جعل اللام بمعنى «إلى» لأن أرسل يتعدى بإلى فضوعفت تخطئته بأن استعمال اللام بمعنى. «إلى» ضعيف، ولا يخفى أن ثاني مفعولي أَرْسَلْناكَ على غير هذا التفسير محذوف والتقدير: وما أرسلناك إلى الناس إلا كافة وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ وذلك لا لخفائه ولكن لغفلتهم. وحين ذكر الرسالة بين الحشر وذكر أنهم استعجلوه تعنتا منهم فبين على طريق التهديد أنه لا استعجال فيه كما لا إمهال وهذا شأن كل أمر ذي بال.
قال جار الله مِيعادُ يَوْمٍ كقولك «سحق عمامة» في أن الإضافة للتبيين يؤيده قراءة من قرأ مِيعادُ يَوْمٍ بالرفع فيهما فأبدل منه اليوم. وفي إسناد الفعل إليهم بقوله لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ دون أن يقول لا يؤخر عنكم زيادة تأكيد لوقوع اليوم. ولما بين الأصول الثلاثة:
التوحيد والرسالة والحشر، ذكر أنهم كافرون بالكل قائلين لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي
(5/497)
بَيْنَ يَدَيْهِ
من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل. يروى أن كفار مكة سألوا أهل الكتاب فأخبروهم أنهم يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم فأغضبهم ذلك وقرنوا إلى القرآن جميع الكتب. وقيل: الذين كفروا عام والذي بين يديه يوم القيامة وما جاء ذكره في القرآن من تفاصيل الحشر وغيرها، وأن أهل الكتاب لو صدّقوا بشيء من ذلك فليس لأجل مجيئه في القرآن ولكن لمجيئه في كتبهم. وحين وقع اليأس من إيمانهم بقولهم لَنْ نُؤْمِنَ وعد نبيه بأنه سيراهم على أذل حال موقوفين للسؤال متجاذبين أهداب المراجعة كما يكون حال جماعة أخطأوا في تدبير أمره وجواب «لو» محذوف أي لقضيت العجب. وبدأ بالأتباع لأن المضل أولى بالتوبيخ. وفي قوله لَوْلا أَنْتُمْ إشارة إلى أن كفرهم كان لمانع لا لعدم المقتضى فإن الرسول قد جاء ولم يقصر في الإبلاغ. ثم ذكر جواب المستكبرين وهم الرؤوس والمتبوعون على طريقة الاستئناف. وفي إيلاء الاسم وهو نحن حرف الإنكار إثبات أنهم هم الذين صدّوا بأنفسهم عن الهدى بكسب منهم واختيار وأن المانع لم يكن راجحا على المقتضى ولا مساويا له وأكدوا ذلك بقولهم بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أي إنكم أنتم الذين أطعتم أمر الشهوة فكنتم كافرين ولم يكن منا إلا التسويل والتزيين.
ثم عطف قولا آخر للمستضعفين على قولهم الأول. والإضافة في مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ من باب الاتساع بإجراء الظرف مجرى المفعول به وأصل الكلام: بل مكرهم في الليل والنهار. أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي، فالأول اتساع لفظي، والثاني معنوي. أبطلوا إضرابهم بإضرابهم قائلين: ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة مكركم لنا مستمرا دائما دائبا ليلا ونهارا. وقدم الليل لأنه أخفى للمكر والويل. وقرىء مَكْرُ اللَّيْلِ بالتشديد أي سبب ذلك أنكم تكرّون الإغواء مكرا دائبا. والمعنى: ما أنتم بالصارف القطعيّ والمانع القويّ ولكن انضم إلى ذلك طول المدة فصار قولكم جزء السبب.
وفي قولهم أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً إشارة إلى أن المشرك وإن كان مثبتا لله في الظاهر ولكنه ناف له على الحقيقة لأنه جعله مساويا للصنم. ويجوز أن يكون كل منهما قول طائفة فبعضهم كانوا مأمورين بجحد الصانع وبعضهم بالإشراك به. وتفسير قوله وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ مذكور في سورة يونس. والضمير يعود إلى جنس الظالمين الشامل للمستضعفين وللمستكبرين. وقوله فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي في أعناقهم من وضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على ما استحقوا به الأغلال وهي محمولة على الظاهر وإن جاز أن يراد بها العلائق. وفي قوله هل تجزون إشارة إلى أنهم استحقوها عدلا. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن إيذاء الكفار الأنبياء ليس بدعا وإنما ذلك هجيراهم قدما. وإنما خص المترفين
(5/498)
بالذكر لأنهم أصل في الجحود والإنكار وغيرهم تبع، ثم استدلوا على كونهم مصيبين في ذلك بكثرة الأموال والأولاد لأنهم اعتقدوا أنهم لو لم يكرموا على الله ما رزقهم، ثم قاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا فقالوا وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فبين الله خطأهم بأن القابض الباسط هو الله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن ذلك بمجرد المشيئة لا بالكسب والاستحقاق فكم من شقيّ موسر وتقي معسر. ثم زاد في البيان بقوله وَما أَمْوالُكُمْ أي وما جماعة أموالكم وَلا جماعة أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى أي قربى اسم بمعنى القربة وقع موقع المصدر كقوله وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح:
17] ثم استثنى من ضمير المفعول في تقرّبكم بقوله إِلَّا مَنْ آمَنَ والمراد أن الأموال والأولاد لا تقرّب أحدا إلا المؤمن الصالح ينفق الأموال في سبيل الله ويعلم أولاده الخير والفقه في الدين. ويحتمل أن يكون الاستثناء من الفاعل والمعنى أن شيئا من الأشياء لا يقرّب إلا عمل المؤمن الصالح لأن ما سوى ذلك شاغل عن الله، والعمل الصالح إقبال على العبودية. ومن توجه إلى الله وصل ومن طلب شيئا من الله حصل. وجزاء الضعف من إضافة المصدر إلى المفعول تقديره: فأولئك لهم أن يجازوا الضعف. ومعنى قراءة يعقوب: أولئك لهم الضعف جزاء. والتضعيف يكون إلى العشر وإلى سبعمائة وأكثر كما عرفت. والباقي إلى قوله مُحْضَرُونَ قد سبق. وحين بين أن حصول الترف لا يدل على الشرف ذكر أن بسط الرزق لا يختص بهم ولكنه سبحانه قد يبسط الرزق لمن يشاء من عباده المؤمنين. ثم رتب وعد الإخلاف على الإنفاق وذلك إما في العاجل بالمال أو بالقنوع، وإما في الآخرة بالثواب الذي لا خلف فوقه ولا مثله. ومما يؤكد الآية
قوله صلى الله عليه وسلم اللهم «أعط منفقا خلفا» «1»
الحديث. وقول الفقهاء ألق متاعك في البحر وعليّ ضمانه، وأن التاجر إذا علم أن مالا من الأموال في معرض الفناء يبيعه نسيئة وإن كان من الفقراء وإلا نسب إلى الخطأ وسخافة الرأي، ولا ريب أن مال الدنيا في معرض الزوال وأن أغنى الأغنياء قد طلب منا الإقراض ووعد الإضعاف والإخلاف فأي تجارة عند العاقل أربح من هذا؟ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأن سلسلة الأرزاق والرزق تنتهي إليه. وعن بعضهم: الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فكم من مشته لا يجد وواجد لا يشتهي.
ثم حكى عاقبة حال الكفار بقوله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وفي خطاب الملائكة تقريع الكفار وتقرير لما يعروهم من الخجل والوجل عند اقتصاص ذلك كما مر في قوله لعيسى
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 27. مسلم في كتاب الزكاة حديث 57. أحمد في مسنده (2/ 306، 347) .
(5/499)
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: 116] قالُوا سُبْحانَكَ ننزهك عن أن نعبد غيرك أنت الذي نواليك ونعادي غيرك في شأن العبادة بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ حيث أطاعوهم في عبادة غيرك فهم كانوا يطيعونهم وكنا نحن كالقبلة، أو صوّرت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها، أو كانوا يدخلون في أجواف الأصنام فيعبدون بعبادتها. وإنما قالوا أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ وما ادّعوا الإحاطة لأن الذين رأوهم وأطلعهم الله على أحوالهم كانوا كذلك ولعل في الوجود من لا يطلع الله الملائكة عليه من الكفار.
وأيضا أن العبادة عمل ظاهر والإيمان عمل باطن، والاطلاع على عمل القلب كما هو ليس إلا الله وحده فراعوا الأدب الجميل والحكم على الظاهر أكثري. ثم ذكر أن الأمر في ذلك اليوم لله وحده والخطاب في قوله لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ للملائكة والكفار وإن كان الكفار غائبين كما تقول لمن حضر عندك ولمن شاركه في أمر بسببه: أنتم قلتم كذا على معنى أنت قلت وهم قالوا. ويحتمل أن يكون الخطاب للكفار لأن ذكر اليوم يدل على حضورهم أو لهم وللملائكة أيضا بهذا التأويل، وعلى الأول يكون قوله وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا إفرادا للكفرة بالذكر، وعلى الوجه الآخر يكون تأكيدا لبيان حالهم في الظلم وذكر الضر تأكيد لعدم تملكهم شيئا وإلا فهو غير متصور في ذلك اليوم. وإنما قال هاهنا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وفي السجدة عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ [الآية: 20] لأنهم هناك قد رأوا النار بدليل قوله كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها [الآية: 20] فقيل لهم ذوقوا العذاب المؤبد الذي كنتم به تكذبون في قولكم لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 80] وهاهنا لم يروا النار. وقيل: لأنه مذكور عقيب الحشر والسؤال فناسب التوبيخ على تكذيبهم بالنار. ثم حكى أكاذيبهم بقوله وَإِذا تُتْلى الآية. ولا يخفى ما فيه من المبالغات. ثم بين أن أقوالهم هذه لا تستند إلا إلى محض التقليد فقال وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها فالآيات البينات لا تعارض إلا بالبراهين العقلية وما لهم من دليل أو بالنقليات وما عندهم من كتاب ولا رسول غيرك وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد وثمود وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ والمعشار كالمرباع وهما العشر والربع. قال الأكثرون: معناه وما بلغ هؤلاء المشركون عشر ما آتينا المتقدمين من القوة والنعمة وطول العمر. ثم إن الله أخذهم وما نفعهم محصولهم فكيف حال هؤلاء الضعفاء؟. وقال بعضهم: أراد وما بلغ الذين من قبلهم معشار ما آتينا قوم محمد صلى الله عليه وسلم من البيان والبرهان لأن محمدا صلى الله عليه وسلم أفصح الرسل وكتابه أوضح الكتب. ثم إن المتقدمين أنكر عليهم تكذيبهم فكيف لا ينكر على هؤلاء؟ قال جار الله: قوله فَكَذَّبُوا رُسُلِي بعد قوله وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تخصيص بعد تعميم كأنه قيل: وفعل الذين من قبلهم التكذيب فكذبوا رسلي؟ نظيره قول القائل: أقدم
(5/500)
فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن ينعطف على قوله وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما كقولك: ما بلغ زيد معشار فضل عمرو فيفضل عليه. قلت: فعلى هذا تكون الفاء للسببية، والمعنى أنه إذا لم يبلغ معشار فضله فكيف يفضل عليه؟ وكذا في الآية فيصير المعنى أنهم إذا لم يبلغوا معشار الأقدمين فكيف كذبوا؟ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ للمكذبين الأوّلين فليحذروا من مثله. ويجوز عندي أن يكون الثاني تكريرا للأول لأجل ترتب النكير عليه كأنه قيل: فإذ قد صح أنهم فعلوا ما ذكرنا فلا جرم ذاقوا وبال أمرهم نظيره قولك لمن بحضرتك: فعلت كذا وكذا، فإذا فعلت ذلك فتربص.
وبعد تقرير الأصول الثلاثة: التوحيد والرسالة والحشر كررها مجموعة بقوله قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أي بخصلة أو حسنة أو كلمة واحدة وقد فسرها بقوله أَنْ تَقُومُوا على أنه عطف بيان لها. والقيام إما حقيقة وهو قيامهم عن مجلس النبيّ متفرقين إلى أوطانهم. وإما مجاز وهو الاهتمام بالأمر والنهوض له بالعزم والجد. فقوله مَثْنى وَفُرادى إشارة إلى جميع الأحوال لأن الإنسان إما أن يكون مع غيره أو لا فكأنه قال: أن تقوموا لله مجتمعين ومنفردين لا تمنعكم الجمعية عن ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد إلى معين يعينكم على ذكر الله. وقوله ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا يعني اعترفوا بما هو الأصل وهو التوحيد ولا حاجة فيه إلى تفكر ونظر بعد ما بان وظهر، ثم تتفكروا فيما أقول بعده، وهو الرسالة المشار إليها بقوله ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ والحشر المشار إليه بقوله بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ قيل: وفيه إشارة إلى عذاب قريب كأنه قال: ينذركم بعذاب يمسكم قبل الشديد. فمجموع الأمور الثلاثة شيء واحد، أو المراد أنه لا يأمرهم في أوّل الأمر بغير التوحيد لأنه سابق على الكل لا أنه لا يأمرهم في جميع العمر إلا بشيء واحد. وعند جار الله: الخصلة الواحدة هي الفكر في أمر محمد صلى الله عليه وسلم والمعنى: إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وهو أن تقوموا لوجه الله خالصا متفرقين اثنين اثنين وواحدا واحدا، فإن ما فوق الاثنين والواحد يوجب التشويش واختلاف الرأي فيعرض كل من الاثنين محصول فكره على صاحبه من غير عصبية ولا اتباع هوى، وكذلك الفرد يفكر في نفسه بعدل ونصفة حتى يجذب الفكر بصنعه إلى أن هذا الأمر المستتبع لسعادة الدارين لا يتصدّى لادعائه إلا رجلان: مجنون لا يبالي بافتضاحه إذا طولب بالبرهان، وعاقل اجتباه الله بسوابق الفضل والامتنان لتكميل نوع الإنسان. لكن محمدا صلى الله عليه وسلم بالاتفاق أرجح الناس عقلا وأصدقهم قولا وأوفرهم حياء وأمانة، فما هو إلا النبيّ المنتظر في آخر الزمان المبعوث بين يدي عذاب شديد هو القيامة وأهوالها. وقوله ما بِصاحِبِكُمْ إما أن يكون كلاما مستأنفا فيه تنبيه على كيفية النظر في أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم والمراد: ثم تتفكروا
(5/501)
فتعلموا ذلك. وجوز بعضهم أن تكون «ما» استفهامية. وحين ذكر أنه ما به جنة ليلزم منه كونه نبيا ذكر وجها آخر يلزم منه صحة نبوّته وهو قوله ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ الآية. وتقريره أن العاقل لا يركب العناء الشديد إلا لغرض عاجل وهو غير موجود هاهنا بل كل أحد يعاديه ويقصده بالسوء، أو لغرض آجل ولا يثبت إلا على تقدير الصدق فإن الكاذب معذب في الآخرة لا مثاب. هذا إذا أريد بقوله فَهُوَ لَكُمْ نفي سؤال الآخر رأسا كما يقول الرجل لصاحبه: إن أعطيتني شيئا فخذه وهو لم يعطه شيئا. ويحتمل أن يراد بالأجر قوله لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [الشورى: 23] وقوله ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الفرقان: 57] لأن المودة في القربى قد انتظمته وإياهم وكذا اتخاذ السبيل إلى الله عز وجل فيه نصيبهم ونفعهم. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ يعلم أني لا أطلب الأجر على نصحكم أو يعلم أن فائدة النصح تعود عليكم. قوله يَقْذِفُ بِالْحَقِّ أي في قلوب المحقين وفيه إزالة استبعاد الكفرة تخصيص واحد منهم بإنزال الذكر عليه فإن الأمر بيد الله والفضل له يؤتيه من يشاء وإنه عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعلم عواقب الأمور ومراتب الاستحقاق فيعطى على حسب ذلك لا كما يفعل الهاجم الغافل، أو أراد يقذف بالحق على الباطل فيدمغه، وذلك أن براهين التوحيد قد ظهرت وشبه المبطلين قد دحضت. وفي قوله عَلَّامُ الْغُيُوبِ إشارة إلى أن البرهان الباهر لم يقم إلا على التوحيد والرسالة، وأما الحشر فالدليل عليه إخبار علام الغيوب عنه.
وحين ذكر أنه يقذف بالحق وكان ذلك بصيغة الاستقبال أخبر أن ذلك الحق قد جاء وهو القرآن والإسلام وكل ما ظهر على لسان النبي صلى الله عليه وسلم وعلى يده. وقيل: السيف. وقوله وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ مثل في الهلاك لأن الحيّ إما أن يبدىء فعلا أو يعيده، فإذا هلك لم يبق له إبداء ولا إعادة. والتحقيق فيه أن الحق هو الموجود الثابت. ولما كان ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من بيان التوحيد والرسالة والحشر ثابتا في نفسه بينا لمن نظر إليه كان جائيا، وحين كان ما أتوا به من الإصرار والتكذيب مما لا أصل له قيل: إنه لا يبدىء ولا يعيد أي لا يعيد شيئا لا في الأوّل ولا في الآخر. وقيل: الباطل إبليس لأنه صاحب الباطل ولأنه هالك والمراد أنه لا ينشىء خلقا ولا يعيد وإنما المنشئ والباعث هو الله. وعن الحسن: لا يبدىء لأهله خيرا ولا يعيده أي لا ينفعهم في الدنيا والآخرة. وقال الزجاج:
«ما» استفهامية والمعنى أي شيء ينشىء إبليس ويعيده؟ ثم قرر أمر الرسالة بوجه آخر وهو قوله قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي يعنى كضلالكم وأما اهتدائي فليس بالنظر والاستدلال كاهتدائكم وإنما هو بالوحي المبين. قال جار الله: هذا حكم عام لكل مكلف،
(5/502)
والتقابل مرعي من حيث المعنى والمراد أن كل ما هو وبال على النفس وضارّ لها فهو بها وبسببها لأنها الأمارة بالسوء وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه. وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ يدرك قول كل ضال ومهتد وفعله لا يعزب عنه منهما شيء، وفيه أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دعاه على من يكذبه أجابه ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الداعي. ثم عجب نبيه أو كل راء من مآل حال أهل العناد بقوله وَلَوْ تَرى وجوابه محذوف أي لرأيت أمرا عظيما. والأفعال الماضية التي هي فَزِعُوا وَأُخِذُوا وَقالُوا وَحِيلَ كلها من قبيل وَنادى [الأعراف: 48] وَسِيقَ [الزمر: 73] ووقت الفزع وقت البعث أو الموت أو يوم بدر. وعن ابن عباس: نزلت في خسف البيداء وهم ثمانون ألفا أرادوا غزو الكعبة وتخريبها فخسف بهم حين دخلوا البيداء فَلا فَوْتَ أي فلا يفوتون الله ولا يسبقونه.
والأخذ من مكان قريب هو من الموقف إلى النار، أو من ظهر الأرض إلى بطنها، أو من صحراء بدر إلى القليب، أو من تحت أقدامهم إلى الأرض. وجوّز جار الله أن يعطف وَأُخِذُوا على فَلا فَوْتَ على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا. ثم بين أنهم سيؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بالقرآن أو بالحق حين لا ينفع الإيمان وذلك قوله وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ وهو تناول سهل لشيء قريب مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعيد كما يتناوله الآخر من قريب تناولا سهلا لا تعب فيه، أو أراد أن تناولهم التوبة وإيمانهم في الآخرة بعيد عن الدنيا فإن أمس الدابر لا يعود وإن كانت الآخرة قريبة من الدنيا ولهذا سماها الله الساعة وكل ما هو آت قريب. وعن أبي عمرو: التناؤش بالهمز التناول من بعد من قولهم: نأشت بالهمزة أي أبطأت وتأخرت. والأصح أنه من النوش كما مر همزت الواو المضمومة كما همزت في أجوه. وقيل: التناوش بلغة اليمن التذكرة قاله أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب في كتاب «المدخل في تفسير القرآن» والضمير في قوله وَقَدْ كَفَرُوا عائد إلى ما يعود إليه في قوله آمَنَّا بِهِ.
قوله وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ فيه وجوه أحدها: أنه قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر ساحر وهذا تكلم بالأمر الخفي وقد أتوا به من جهة بعيدة عن حاله لأنهم قد عرفوا منه الأمانة والصدق لا الكذب والزور. وثانيها: أخذوا الشريك من حالهم في العجز فإنهم يحتاجون في الأمور العظام إلى التعاون فقاسوا الأمر الإلهي عليه. وثالثها: أنهم قاسوا قدرة الله على قدرتهم عجزوا عن إحياء الموتى فظنوا أن الله لا يقدر على البعث، وقياس الخالق على المخلوق بعيد المأخذ. ورابعها: قاسوا أمر الآخرة على الدنيا قائلين إن كان الأمر كما
(5/503)
تصفون من قيام الساعة وحصول الثواب والعقاب فنحن أكرم على الله من أن يعذبنا.
وخامسها: قالوا رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً [السجدة: 12] وهو قذف بالغيب من مكان بعيد وهو الدنيا. وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ من نفع الإيمان في الآخرة أو من الرد إلى الدنيا كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ أي بأشباههم من كفرة الأمم لم ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأس الله ومُرِيبٍ موقع في الريب منقول من الأعيان إلى المعنى أو ذو ريبة وذلك باعتبار صاحبه وكلاهما مجاز بوجهين وقد مر في هود.
التأويل:
مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ القلوب وَلا فِي الْأَرْضِ النفوس من سعادة أو شقاوة قالُوا الْحَقَّ يعني ما فهموا من الهيبة كلامه ولكن يعلمون أنه لا يقول إلا الحق قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ من سموات القلوب وأرض النفوس إذا نزل من سماء القلب ماء الفيض على أرض الشرعية. أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ من الدنيا والهوى والشيطان كافة للناس من أهل الأولين والآخرين في عالم الأجساد وهو ظاهر، وفي عالم الأرواح تبشرها بأن لها كمالا عند الاتصال بالأشباح وتنذرها بالحرمان إن لم تتعلق بالأجسام، وذلك أن الأرواح علوية نورانية والأشباح سفلية مظلمة لا يحصل بينهما التعلق إلا بالتبشير والإنذار. فالروح بمثابة البذر والقالب كالأرض، وشخص الإنسان بمثابة الشجرة، والتوحيد والمعرفة ثمرتها، والشريعة كالماء والبشير والنذير كالآكار. وإذا أمعنت النظر وجدت شجرة الموجودات نابتة من بذر روحه صلى الله عليه وسلم وهو ثمرة هذه الشجرة مع جميع الأنبياء والمرسلين ولكن بتبعية محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا حصلت له رتبة الشفاعة دونهم. يقولون يعني أرباب الطلب يستعجلون متى نصل إلى الكمال الذي بشرتمونا به. ثم بين أن لثمرة كل شجرة وقتا معلوما لا تتجاوزه أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ أي أكثر مدعي الإسلام بأهل الأهواء مؤمنون وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ فيه أن معارف الأسرار ومراتب الأحرار لا تصلح لمن هو أسير في أيدي صفات النفس وَحِيلَ بَيْنَهُمْ لأن الدين ليس بالتمني والله أعلم بحقائق الأشياء والله الموفق.
(5/504)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
(سورة فاطر)
(مكية حروفها ثلاثة آلاف ومائة وثلاثون كلمها سبعمائة وسبع وسبعون آياتها خمس وأربعون)
[سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 26]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19)
وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)
(5/505)
القراآت:
غير الله بالجر: يزيد وحمزة وعليّ. الآخرون: بالرفع حملا على المحل فَلا تَذْهَبْ من الإذهاب نفسك منصوبا: يزيد. الآخرون: بفتح التاء والهاء من الذهاب نَفْسُكَ مرفوعا: الريح على التوحيد: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف وَلا يُنْقَصُ بفتح الياء وضم القاف: روح وزيد. الباقون: بالعكس. مِنْ عُمُرِهِ باختلاس الضمة: عباس والذين يدعون على الغيبة: قتيبة.
الوقوف:
وَرُباعَ ط يَشاءُ ط قَدِيرٌ هـ لَها ج بَعْدِهِ ط الْحَكِيمُ هـ عَلَيْكُمْ ط وَالْأَرْضِ ط إِلَّا هُوَ ز للاستفهام ولفاء التعقيب واتحاد المعنى تُؤْفَكُونَ هـ قَبْلِكَ ط الْأُمُورُ هـ الْغَرُورُ هـ عَدُوًّا ط السَّعِيرِ هـ ط لأن الَّذِينَ مبتدأ. شَدِيدٌ هـ كَبِيرٌ هـ حَسَناً ط لحذف الجواب حَسَراتٍ ط يَصْنَعُونَ هـ مَوْتِها ط النُّشُورُ هـ جَمِيعاً ط يَرْفَعُهُ ط شَدِيدٌ هـ يَبُورُ هـ أَزْواجاً ط بِعِلْمِهِ ط فِي كِتابٍ ط يَسِيرٌ هـ أُجاجٌ ط تَلْبَسُونَها ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى تَشْكُرُونَ هـ مُسَمًّى ط الْمُلْكُ ط قِطْمِيرٍ هـ دُعاءَكُمْ ج للشرط مع العطف لَكُمْ ط بِشِرْكِكُمْ ط خَبِيرٍ هـ إِلَى اللَّهِ ط لاتفاق الجملتين مع حسن الفصل بين وصفي الخالق والمخلوق الْحَمِيدُ هـ جَدِيدٍ هـ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال بِعَزِيزٍ هـ أُخْرى ط لاستئناف الشرط قُرْبى ط الصَّلاةَ ط لِنَفْسِهِ ط الْمَصِيرُ هـ وَالْبَصِيرُ هـ لا وَلَا النُّورُ هـ لا وَلَا الْحَرُورُ هـ ج للطول والتكرار الْأَمْواتُ ط يَشاءُ ج للعطف من الإثبات إلى النفي مع اتفاق
(5/506)
الجملتين الْقُبُورِ هـ إِلَّا نَذِيرٌ هـ وَنَذِيراً ط نَذِيرٌ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف الْمُنِيرِ هـ نَكِيرِ هـ.
التفسير:
لما بين في آخر السورة المتقدمة انقطاع رجاء الشاك وعدم قبول توبته في الآخرة ذكر في أول هذه السورة حال الموفق المؤمن وبشر بإرسال الملائكة إليهم مبشرين، وبين أنه يفتح لهم أبواب الرحمة. وفاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبدعهما أو شاقهما لنزول الأرواح من السماء وخروج الأجساد من الأرض يؤيد التفسير الثاني قوله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وقوله وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء: 103] وأُولِي أَجْنِحَةٍ أي أصحاب أجنحة أراد أن طائفة منهم أجنحة كل منهم اثنان اثنان، وبعضهم أجنحة كل ثلاثة ثلاثة، وبعضهم أجنحة كل أربعة أربعة. قال جار الله: الذين أجنحتهم ثلاثة ثلاثة لعل الثالث منها في وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة أو لعله لغير الطيران فلقد رأيت في بعض الكتب أن صنفا من الملائكة لهم ستة أجنحة، فجناحان يلفون بهما أجسادهم، وجناحان يطيرون بهما في الأمر من أمور الله عز وجل، وجناحان مرخيان على وجوههم حياء من الله عز وجل.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبرائيل عليه السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح.
وروي أن إسرافيل له اثنا عشر جناحا، جناح منها بالمشرق، وجناح بالمغرب، وإن العرش على كاهله وإنه ليتضاءل لعظمة الله سبحانه وتعالى حتى يعود مثل الوصع وهو العصفور الصغير.
ويجوز أن يخالف حال الملائكة حال الطيور في الطيران كالحيوان الذي يدب بأرجل كثيرة، ويجوز أن يكون البعض للزينة، ويجوز أن يكون كل جناح ذا شعب. وقال الحكيم: الجناحان إشارة إلى جهتين: جهة الأخذ من الله، وجهة الإعطاء لمن دونهم بإذن الله كقوله نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193] عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً [النازعات: 5] ومنهم من يفعل بواسطة فلهم ثلاث جهات أو أكثر على حسب الوسائط. ثم بين كمال قدرته بقوله يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ والظاهر أنه عام يتناول كل زيادة في كل أمر يعتبر في الصورة كحسن الوجه والخط والصوت ونحوهما، أو في المعنى كحصافة العقل وجزالة الرأي وسماحة النفس وذلاقة اللسان وغير ذلك من الأخلاق الفاضلة. ثم أكد نفاذ أمره وجريان الأمور على وفق مشيئته بقوله ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ الآية. وفيها دلالة على أن رحمته سبقت غضبه من جهة تقديم الرحمة ومن جهة بيان الضمير في القرينة الأولى بقوله مِنْ رَحْمَةٍ والإطلاق في قوله وَما يُمْسِكْ فيشمل إمساك الغضب وإمساك الرحمة. ومن جهة قوله مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد إمساكه فيفيد أن الرحمة إذ جاءته لم يكن لها انقطاع وإن ضدّها قد ينقطع وإن كان
(5/507)
لا يقطعه إلا الله ولهذا لا يخرج أهل الجنة من الجنة وقد يخرج أهل النار من النار وَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب على إرسال الرحمة وإمساكها الْحَكِيمُ الذي لا يمسك ولا يرسل إلا عن علم كامل وصلاح شامل. وحيث بين أن الحمد لله وبين بعض وجوه النعمة المستدعية للحمد على التفصيل أمر المكلفين بتذكر النعمة على الإجمال لسانا وقلبا وعملا، ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه: اذكر أياديّ عندك يريد حفظها وشكرها والعمل بموجبها. وعن ابن عباس: أن الناس أهل مكة أسكنهم حرمه ويتخطف الناس من حولهم. وعنه أيضا أنه أراد بالنعمة العافية، والظاهر تعميم النعمة والمنعم عليهم. ثم أشار إلى نعمة الإيجاد بقوله هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ وإلى نعمة الإبقاء بقوله يَرْزُقُكُمْ وهو نعت خالق أو مستأنف أو تفسير لمضمر والتقدير: هل يرزقكم خالق يرزقكم؟ قال جار الله: إن جعلت يَرْزُقُكُمْ كلاما مستأنفا ففيه دليل على أن الخالق لا يطلق إلا على الله عز وجل. وأما على الوجهين الآخرين فلا، إذ لا يلزم من نفي خالق رازق غيره نفي خالق غيره مطلقا. وقوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ جملة مفصولة لا محل لها مثل يَرْزُقُكُمْ
في غير وجه الوصف إذ لو جعلت وصفا لزم التناقض لأن قولك «هل من خالق آخر سوى الله» إثبات لله، ولو جعلت المنفية وصفا صار تقدير الكلام: هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلا ذلك الخالق فلزم نقض الإثبات المذكور مع أن الكلام في نفسه يكون غير مستقيم. فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أي كيف تصرفون عن هذا الظاهر فتشركون المنعوت بمالك الملك والملكوت. وحين بيّن الأصل الأول وهو التوحيد ذكر الأصل الثاني وهو الرسالة بقوله وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ الآية. والمراد إن يكذبوك فتسل بهذا المعنى. ثم بين الأصل الثالث وهو الحشر بقوله يا أَيُّهَا النَّاسُ وقد مرّ مثل الآية في آخر سورة لقمان. وقد يسبق إلى الظن هاهنا أن الغرور وهو الشيطان لأنه عقبه بقوله إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا لأن الحازم لا يقبل قول العدوّ ولا يعتمد عليه. ثم صرح بوجه اتخاذه وبعاقبة دعوته فقال إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ ثم فصل مال حال حزبه وحزب الله بقوله الَّذِينَ كَفَرُوا إلى قوله وَأَجْرٌ كَبِيرٌ عرض على العقول أنه لا سواء بين الحزبين والمعنى أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ من الفريقين كمن لم يزين له. ولا ريب أن المزين لهم عملهم هم أهل الأهواء والبدع الذين لا مستند لهم في مأخذهم سوى التقليد واتباع الهوى. ثم أنتج من ذلك قوله فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وذلك أن الناس متساوية الأقدام في الإنسانية ومتفاوتة الأحوال في الأعمال، فتبين أنه لا استقلال، وأن أفعال العباد مستندة إلى إزادة مصرف القلوب والأحوال. ثم رتب على عدم الاستقلال قوله فَلا تَذْهَبْ أي فلا تهلك نَفْسُكَ وعَلَيْهِمْ صلة تذهب كما تقول هلك عليه حبا أو هو بيان للمتحسر عليه ولا يتعلق ب حَسَراتٍ المفعول
(5/508)
لأجله لأن المصدر لا يتقدم عليه
صلته. وجوّز جار الله أن يكون حالا كأن كل نفسه صارت حسرات لفرط التحسر. وعن الزجاج أن تقدير الآية: أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليهم فحذف لدلالة المذكور وهو فلا تذهب عليه، أو أفمن زين له سوء عمله كمن هداه الله، فحذف لأن قوله فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ يدل عليه. ثم بين أن حزنه إن كان لما بهم من الضلال فالله عالم بهم وبما يصنعون لو أراد منهم الإيمان لآمنوا وإن كان لما بهم من الإيذاء فالله عليم بفعلهم فيجازيهم بذلك.
ثم أكد كونه فاعلا مختارا قادرا قهارا مبدئا معيدا بقوله وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ وهو من الالتفات الموجب للتهويل والتعظيم. وقوله فَتُثِيرُ بلفظ المستقبل تصوير لتلك الحالة العجيبة الشأن، عرف نفسه بفعل الإرسال ثم قال فَسُقْناهُ كأنه قال: أنا الذي عرفتني بمثل هذه السياقة والصناعة وأنعمت عليك بهذه النعمة الشاملة. ثم شبه البعث والنشور بالصنع المذكور ووجهه ظاهر. وحين بين برهان الإيمان أشار إلى ما كان يمنع الكفار منه وهو العزة الظاهرة التي كانوا يتوهمونها من حيث إن معبوديهم كانت تحت تسخيرهم والرسول كان يدعوهم إلى الإيمان لطاعة الله وطاعة أنبيائه فكأنه قال: إن كنتم تطلبون حقيقة العزة فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ خاصة كلها فلتطلبها من عنده ومن عند أوليائه نظيره قولك «من أراد النصيحة فهي عند الأبرار» يريد فليطلبها عندهم فاعتبر في هذه الآية حرف النهاية. وأما في قوله لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] فاعتبر الوسائط فالعزة للمؤمنين بواسطة الرسول وله من رب العزة. ثم إن الكفار كأنهم قالوا: نحن لا نعبد من لا نراه ولا نحضر عنده فإن البعد من الملك ذلة فقال إِلَيْهِ يَصْعَدُ أي إن كنتم لا تصلون إليه فهو يسمع كلامكم ويقبل الطيب منها وذلك آية العزة، وأما هذه الأصنام فلا يتبين عندها الذليل من العزيز إذ لا حياة لها ولا شعور وهكذا العمل الصالح لا تراه هذه الأصنام فلا يمكن لها مجازاة الأنام. وفاعل قوله يَرْفَعُهُ إن كان هو الله فظاهر، وإن كان الكلم أعني قوله «لا إله إلا الله» فمعناه أنه لا يقبل عمل إلا من موحد وإن كان هو العمل فالمعنى: أن الكلم وهو كل كلام فيه ذكر الله أو رضاه يريد الصعود إلى الله إلا أنه لا يستطيع الصعود ولا يقع موقع القبول إلا إذا كان مقرونا بالعمل الصالح.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «الكلم الطيب هو قول الرجل سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء فحيا بها وجه الرحمن فإذا لم يكن له عمل صالح لم يقبل منه» .
وعن ابن المقفع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، وسحاب بلا مطر، وقوس بلا وتر. ولا يخفى أن القول هو الأصل والعمل مؤكده فلهذا قدم القول.
وحين بيّن حال العمل الصالح ذكر أن المكرات السيئات بائرة كاسدة لا حقيقة لها، ولعله
(5/509)
أشار بها إلى مكرات قريش المذكورات في قوله وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [الأنفال: 30] جمع الله مكراتهم فقلبها عليهم حين أوقعهم في قليب بدر. ولما ذكر دليل الآفاق أكده بدليل الأنفس قائلا وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ وفيه إشارة إلى خلق آدم ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ وفيه إشارة إلى خلق أولاده. ومعنى أَزْواجاً أصنافا أو ذكرانا وإناثا. ثم أشار إلى كمال علمه بقوله وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ ثم بين نفوذ إرادته بقوله وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ قال جار الله: معناه من أحد ولكنه سماه معمرا باعتبار ما يؤل إليه. وليس المراد تعاقب التعمير وخلافه على شخص واحد وإنما المراد تعاقبهما على شخصين فتسومح في اللفظ تعويلا على فهم السامع كقول القائل: ما تنعمت بكذا ولا اجتويته إلا قل فيه ثوائي. وتأويل آخر وهو أن يراد لا يطول عمر إنسان ولا ينقص من عمر ذلك الإنسان بعينه إِلَّا فِي كِتابٍ وصورته أن يكتب في اللوح إن حج أو وصل الرحم فعمره أربعون سنة، وإن جمع بين الأمرين فعمره ستون، فإذا جمع بينهما فعمر ستين كان الغاية، وإذا أفرد فعمر أربعين فقد نقص من تلك الغاية. وبهذا التأويل يستبين معنى ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار» .
ويصح ما استفاض على الألسن «أطال الله بقاءك» . وعن سعيد بن جبير يكتب في الصحيفة أن عمره كذا سنة، ثم يكتب بعد ذلك في آخرها ذهب يوم ذهب يومان حتى تنقضي المدّة. وعن قتادة: المعمر من بلغ ستين، والمنقوص من عمره من يموت قبل الستين. وذلك في علم الله. إِنَّ ذلِكَ الذي ذكر من خلق الإنسان من المادة المذكورة أو الزيادة في الأعمار أو النقصان منها عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. ثم ضرب مثلا للمؤمن والكافر وذكر دليلا آخر على عظم قدرته فقال وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ الآية. على الأوّل يكون قوله وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ إلى آخر الآية تقريرا للنعمة على سبيل الاستطراد، أو هو من تمام التشبيه كأنه شبه الجنسين بالبحرين. ثم فضل البحر الأجاج على الكافر لأنه شارك العذب في استخراج السمك واللؤلؤ وجرى الفلك فيه، وأما الكافر فلا نفع فيه البتة فيكون كقوله في البقرة ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ إلى آخر قوله وإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الآية: 74] والأشبه أن الآية تقرير دليل مستأنف كما مرّ في أوّل «النحل» يؤيده تعقيبه بدليل آخر وهو قوله يُولِجُ اللَّيْلَ إلى قوله لِأَجَلٍ مُسَمًّى قد مرّ في آخر «لقمان» مثله، وفيه ردّ على عبدة الكواكب الذين ينسبون حوادث هذا العالم إلى الكواكب بالذات لا إلى تسخير مبدعها. قوله ذلِكُمُ اللَّهُ أي الذي فعل الأشياء المذكورة من فطر السموات والأرض وإرسال الرياح وخلق الإنسان من التراب وغير ذلك هو المعبود الحق. وقوله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ خبران آخران، ويجوز أن يكون اللَّهُ رَبُّكُمْ خبرين ولَهُ الْمُلْكُ جملة مبتدأة واقعة في طبقات. قوله
(5/510)
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ وذلك أن المشركين كانوا معترفين بأن الأصنام ليسوا خالقين وإنما كانوا يقولون إنه تعالى فوض أمور الأرضيات إلى الكواكب التي هذه الأصنام صورها وطوالعها، فأخبر الله تعالى أنهم لا يملكون قطميرا وهو القشرة الرقيقة للنواة فضلا عما فوقها. قال جار الله: يجوز في حكم الإعراب إيقاع اسم الله تعالى صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان ورَبُّكُمْ خبرا لولا أن المعنى يأباه فقيل: لأن ذلك إشارة إلى معلوم سبق ذكره. وكونه صفة أو عطف بيان يقتضي أن يكون فيما سبق ضرب إبهام. قلت:
وفيه نظر، أما أولا فلأن اسم الله من قبيل الأعلام لا من قبيل أسماء الأجناس فكيف يجوز جعله صفة؟ وأما ثانيا فلأنه على تقدير التجويز يكون صفة مدح فلا ينافي كون المشار إليه معلوما. والوجه الصحيح في إباء المعنى هو أن الوصف إذا كان معرفة كان أمرا متحققا في الخارج مسلما عند السامع. مثلا إذا قلت: الرجل الكاتب جاءني. تريد الرجل الذي تعرفه أيها السامع أنه كاتب جاءني لكن الخطاب هاهنا مع الكفار وهم يجحدون المعبود الحق، أو يجحدون أن العبادة لا تصلح إلا له، فلا يصح إيقاع اسم الله وصفا لذلكم والخطاب معهم.
ثم زاد في توبيخ الكفرة بقوله إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنهم جماد ولو فرض سماعهم مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لما مرّ من أنهم لا يملكون شيئا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أيضا يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ قائلين ما كنتم إيانا تعبدون وَلا يُنَبِّئُكَ أي لا يطلعك على حقيقة الحال أيها النبيّ أو أيها السامع مِثْلُ خَبِيرٍ ببواطن الأمور. والمعنى أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق لأني خبير بما أخبرت به ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل عالم به. وفيه أنه الخبير بالأمر وحده، وفيه أن هذا الخبر مما لا يعرف بمجرد المعقول لولا إخبار الله سبحانه.
ثم بين أن نفع العبادة إنما يعود على المكلفين فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ ومعنى تعريف الخبر القصد إلى أنهم جنس الفقراء مبالغة، وذلك أن افتقار الإنسان إلى الله عاجلا لأمور المعاش وآجلا لنعيم الآخرة أبين من افتقار سائر المخلوقين إليه. وقيل: إن كون الناس فقراء أمر ظاهر لا يخفى على أحد فلهذا عرف كقول القائل: الله ربنا ومحمد نبينا. ثم بين أن فقرهم ليس إلا إلى الله فقابل الفقراء بقوله وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ وقابل قوله إِلَى اللَّهِ بقوله الْحَمِيدُ لأنه إذا أنعم عليهم استحق الحمد منهم. ثم ذكر أنه غني عن وجودهم أيضا لا يفتقر في ظهور أثر قدرته إليهم فقال إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وقد مرّ في «النساء» وفي «إبراهيم» . وحين بين الحق بالدلائل الباهرة أراد أن يذكر ما يدعوهم إلى النظر فيه فقال وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ يعني أن النفوس الوازرات لا ترى واحدة منهن إلا حاملة وزرها لا وزر
(5/511)
غيرها. ولا ينافي في هذا قوله وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت: 13] لأن وزر الإضلال هو وزر النفس الوزارة أيضا، وفيه أن كل نفس وازرة مهمومة بهم وزرها متحيرة في أمرها. ثم زاد في التهويل بقوله وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ أي نفس ذات حمل لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ فإن عدم قضاء الحاجة بعد السؤال أفظع. ثم زاد التأكيد بقوله وَلَوْ كانَ أي المدعوّ ذا قُرْبى فإن عدم القضاء بعد السؤال من القريب من أب وولد أدل على شدّة الأمر فيعلم منه أن لا غياث يومئذ أصلا. ثم بين أن هذه الإنذارات إنما تفيد أهل الخشية والطاعة حال كونهم غائبين عن العذاب أو حال كون العذاب غائبا عنهم. ثم لما بيّن أن الوزر لا يتعدى إلى الغير بيّن أن التطهر عن الذنوب لا يفيد إلا نفس المتزكي وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ لكل فيجزيهم على حسب ذلك. ثم ضرب للكافر والمؤمن مثلا فقال وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وقيل: إنه مثل للصنم وللمعبود الحق. ثم ذكر للكفر والإيمان مثلا قائلا وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ وإذا كان الإيمان نورا والمؤمن بصيرا فلا يخفى عليه النور، وإذا كان الكفر ظلمة والكافر أعمى فله صادّ فوق صادّ. ثم بيّن لمآلهما ومرجعهما مثلا وهو الظل والحرور. قال أهل اللغة: السموم يكون بالنهار والحرور أعم. وقال بعضهم: الحرور يكون بالليل فالمؤمن بإيمانه كمن هو في ظل وراحة، والكافر في كفره كمن هو حرّ وتعب.
وهاهنا مسائل. الأولى: ضرب أوّلا مثلا للكافر والمؤمن ثم أعاد مثلهما بقوله وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ وهذا أبلغ لأن الأعمى والبصير قد يشتركان في إدراك أشياء ولا كذلك الحي والميت ولمكان هذه المبالغة أعاد الفعل. الثانية: كرر «لا» النافية في الأمثال الأخيرة دون الأوّل، لأن المنافاة بين العمى والبصر ليست ذاتية كما في سائرهما وقد يكون شخص واحد بصيرا بإحدى العينين أعمى بالأخرى. الثالثة: قدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحيّ، وأخره في الآخرين فهم أهل الظاهر أن ذلك لرعاية الفواصل.
والمحققون قالوا: إنهم كانوا قبل البعث في ظلمة الضلال فصاروا إلى نور الإيمان في زمان محمد صلى الله عليه وسلم، فلهذا الترتيب قدّم مثل الكافر وكفره على مثل المؤمن وإيمانه. ولما ذكر المآل والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب لأن رحمته سبقت غضبه. ثم إن الكافر المصرّ بعد البعثة صار أضلّ من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ أي المؤمن الذي آمن بما أنزل الله. والأموات الذين تليت عليهم الآيات ولم تنجع فيهم البينات فأخرهم عن المؤمنين لوجود حياتهم قبل ممات الكافرين المعاندين. الرابعة: إنما وحد الأعمى والبصير لأن المراد أن أحد الجنسين لا يساوي جنس الآخر من جهة العمى والبصر، ولعل فردا من أحدهما قد يساوي الفرد الآخر من جهة أخرى
(5/512)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
وكذا الكلام في إفراد الظل والحرور. وإنما جمع الظلمات ووحّد النور لما مرّ في أوّل «الأنعام» من تحقيق أن الحق واحد والشبهات كثيرة. وإنما جمع الأحياء والأموات لأن المراد أن أحد الصنفين لا يساوي الآخر سواء قابلت الجنس بالجنس أو قابلت الفرد بالفرد.
الخامسة: لا يخفي أن هذه الواوات بعضها ضمت شفعا إلى شفع وبعضها ضمت وترا إلى وتر. ثم سلى ورسوله بقوله إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ الآية. فقد مرّ نظيره في قوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النمل: 80] وإنما اقتصر على قوله إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ وكذا في قوله إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ لأن الكلام في معرض التهديد مع أن ذكر البشير يدل عليه بل ذكر النذير يدل على مقابله. والمراد بالنذارة آثارها لثبوت زمان الفترة. ثم زاد في التسلية بقوله وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ وقد مر مثله في آخر «آل عمران» . وإنما حذف الفاعل هناك لبناء الكلام هنالك على الاقتصار دليله أنه قال وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ فاقتصر على لفظ المضيّ ولم يسم الفاعل، ويحتمل أن يكون لفظ الماضي إشارة إلى وقوع التكذيب منهم فإن تلك السورة مدنية والله أعلم.
[سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 45]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36)
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)
(5/513)
القراآت:
يدخلونها مجهولا: أبو عمرو ويجزي مجهولا غائبا كل بالرفع:
أبو عمرو. الباقون: بالنون مبينا للفاعل كل بالنصب والْمَكْرُ السَّيِّئُ بهمزة ساكنة: حمزة استثقالا للحركات، وحمله النحويون على الاختلاس، وإذا وقف يبدل من الهمزة ياء ساكنة.
الوقوف:
ماءً ج للعدول أَلْوانُها الأولى ج سُودٌ هـ كَذلِكَ ط الْعُلَماءُ ط غَفُورٌ هـ لَنْ تَبُورَ هـ فَضْلِهِ ط شَكُورٌ هـ يَدَيْهِ ط بَصِيرٌ هـ عِبادِنا ج لِنَفْسِهِ ج مُقْتَصِدٌ ج تفصيلا بين الجمل مع النسق بِإِذْنِ اللَّهِ ط الْكَبِيرُ هـ ط لأن ما بعده مبتدأ لا بدل وَلُؤْلُؤاً ج لاختلاف الجملتين حَرِيرٌ هـ الْحَزَنَ ط شَكُورٌ هـ فَضْلِهِ ج لاحتمال الاستئناف والحال لُغُوبٌ هـ جَهَنَّمَ ج لمثل ما قلنا عَذابِها ط كَفُورٍ هـ ج لاحتمال الواو الحال فِيها ج للقول المحذوف كُنَّا نَعْمَلُ ط النَّذِيرُ هـ نَصِيرٍ هـ وَالْأَرْضِ
ط الصُّدُورِ
هـ فِي الْأَرْضِ ط كُفْرُهُ ط مَقْتاً ج وان اتفقت الجملتان ولكن لتكرار الفعل وتصريح الفاعل والمفعول في الثانية خَساراً هـ دُونِ اللَّهِ ط السَّماواتِ ج لاحتمال أن «أم» منقطعة مِنْهُ ج غُرُوراً هـ تَزُولا ج لابتداء ما في معنى القسم مع الواو مِنْ بَعْدِهِ
ط غَفُوراً هـ الْأُمَمِ ج نُفُوراً هـ لا وَمَكْرَ السَّيِّئِ ط بِأَهْلِهِ ط الْأَوَّلِينَ ج لانتهاء الاستفهام مع اتصال الفاء تَبْدِيلًا هـ
(5/514)
ج تَحْوِيلًا هـ قُوَّةً ط فِي الْأَرْضِ ط قَدِيراً هـ مُسَمًّى ج بَصِيراً هـ.
التفسير:
لما بين دلائل الوحدانية بطريق الإخبار ذكر دليلا آخر بطريق الاستخبار لأن الشيء إذا كان خفيا ولا يراه من بحضرتك كان معذورا، أما إذا كان بارزا مكشوفا فإنك تقول: أما تراه. والمخاطب إما كل أحد أو النبيّ صلى الله عليه وسلم لأن السيد إذا نصح بعض العباد ولم ينفعهم الإرشاد قال لغيره. اسمع ولا تكن مثل هذا ويكرر معه ما ذكره مع الأول.
والالتفات في فَأَخْرَجْنا لأن نزول الماء يمكن أن يقال: إنه بالطبع ولكن الإخراج لا يمكن إلا بإرادة الله. وأيضا الإخراج أتم نعمة من الإنزال لأن إنزال المطر لفائدة الإخراج.
واختلاف ألوان الثمرات اختلاف أصنافها أو هيئاتها، والجدد الخطط، والطرائق «فعلة» بمعنى «مفعول» والجد القطع. قال جار الله: لا بدّ من تقدير مضاف أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر مختلف ألوانها في البياض والحمرة، لأن الأبيض قد يكون على لون الجص وقد يكون أدنى من ذلك، وكذلك الحمرة. والغرابيب تأكيد للسود إلا أنه أضمر المؤكد أوّلا ثم أظهر ثانيا على طريقة قوله:
والمؤمن العائذات الطير وإنما لم يتصوّر اختلاف الألوان هاهنا لأن السواد إذا كان في الغاية لم يكن بعدها لون. يقال: أسود غربيب للذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب. ويمكن أن يقال:
إن المختلف صفة الحمر فقط. وحين فرغ من دلائل النبات وما يشبه المعادن شرع في الاستدلال بالحيوان، وقدّم الإنسان لشرفه، ثم ذكر الدواب على العموم، ثم خصص الأنعام، أو أراد بالدابة الفرس فجعله لشرفه رديف الإنسان. وقوله مُخْتَلِفٌ أي بعض مختلف أَلْوانُهُ وذكر الضمير تغليبا للإنسان أو نظرا إلى البعض. وقوله كَذلِكَ أي كاختلاف الجبال والثمرات، وفيه أن هذه الأجناس كما أنها في أنفسها دلائل فهي باختلافها أيضا دلائل. وحين خاطب نبيه بقوله أَلَمْ تَرَ بمعنى ألم تعلم أتبعه قوله إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ كأنه قال: إنما يخشاه مثلك ومن على صفتك ممن نظر في دلائله فعرفه حق معرفته، أو أراد أن يعرّفه كنه معرفته لأن الخشية على حسب العلم بنعوت كماله وصفات جلاله.
وفي الحديث «أعلمكم بالله أشدّكم خشية له»
وفائدة تقديم المفعول أن يعلم أن الذين يخشون الله من بين عباده هم العلماء دون غيرهم، ولو أخر المفعول كان معنى صحيحا وهو أنهم لا يخشون أحدا إلا الله إلا أن ذلك غير مراد هاهنا. وعن عمر بن عبد العزيز ويحكى عن أبي حنيفة أنهما قرءا برفع الله ونصب العلماء فتكون الخشية مستعارة
(5/515)
للتعظيم أي لا يعظم الله ولا يجل من الرجال إلا العلماء به. ثم بين السبب الباعث على الخشية بقوله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ فالعزة توجب الخوف من أليم عقابه والمغفرة توجب الطمع في نعيمه وثوابه، وفيه أن خوف المؤمن ينبغي أن يكون مخلوطا برجائه. ثم مدح العالمين العاملين بقوله إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ الآية. قال أهل التحقيق: قوله إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ إشارة إلى عمل القلب، وقوله إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ أي يداومون على التلاوة إشارة إلى عمل اللسان. وقوله وَأَقامُوا الصَّلاةَ إشارة إلى عمل الجوارح، والكل أقسام التعظيم لأمر الله.
ثم أشار إلى الشفقة على خلق الله بقوله وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ وقوله يَرْجُونَ وهو خبر «إن» إشارة إلى الإخلاص في العقائد والأعمال أي ينفقون من الأموال لا ليقال إنه كريم أو لغرض آخر بل لتجارة لا كساد فيها ولا بوار وهي طلب مرضاة الله. وقوله لِيُوَفِّيَهُمْ متعلق ب لَنْ تَبُورَ أي تنفق عند الله ليوفيهم بنفاقها عنده أجورهم. وجوّز جار الله أن يجعل يَرْجُونَ في موضع الحال واللام متعلق بالأفعال المتقدّمة أي فعلوا جميع ما ذكر من التلاوة والإقامة والإنفاق لغرض التوفية. وخبر «إن» قوله إِنَّهُ غَفُورٌ لهم شَكُورٌ لأعمالهم. وحين ذكر دلائل الوحدانية أتبعه بيان الرسالة وذكر حقيقة الكتاب المتلوّ والكتاب للجنس ف «من» للتبعيض أو هو القرآن، و «من» للتبيين أو هو اللوح المحفوظ و «من» للابتداء وقد مرّ في البقرة أن قوله مُصَدِّقاً حال مؤكدة. وفي قوله إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ تقرير لكونه حقا لأن الذي يكون عالما بالبواطن والظواهر لم يمكن أن يكون في كلامه شوب باطل. وفيه لم يختر محمدا للرسالة جزافا وعلى سبيل الاتفاق ولكنه أعلم حيث يجعل رسالته. قوله ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ زعم جمع من المفسرين أن الكتاب للجنس بدليل قوله فيما قبل جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ والإيراث الإعطاء، والمصطفون من عبيده هم الأنبياء كأنه قال: علمنا البواطن وأبصرنا الظواهر فاصطفينا عبادا ثم أورثناهم الكتاب. وعلى هذا فالمراد بالظلم على النفس وضع الشيء في غير موضعه وإن كان بترك الأولى ومنه قول أبينا آدم رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [الأعراف: 23] وقول يونس إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] وإذا كان الظلم بهذا المعنى جائزا عليهم فالاقتصاد أولى. ويجوز أن يعود الضمير في قوله فَمِنْهُمْ إلى الأمة كأنه قيل: إن الذي أوحينا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلنا، وآتيناهم كتبا فمن قومك ظالم كفر بك وبما أنزل إليك، ومقتصد آمن به ولم يأت بجميع ما أمر به، وسابق آمن وعمل صالحا. وقال أكثرهم: إنه القرآن والإيراث الحكم بالتوريث أو هو على عادة إخبار الله في التعبير عن المستقبل بالماضي لتحققه أي نريد أن نورثه. والمصطفون هم الصحابة والتابعون ومن بعدهم إلى يوم القيامة كقوله كُنْتُمْ خَيْرَ
(5/516)
أُمَّةٍ
[آل عمران: 11] وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] وعلى هذا ففي تفسير المراتب الثلاثة أقوال أحدها: الظالم الراجح السيئات، والمقتصد المتساوي الحسنات والسيئات، والسابق راجح الحسنات. ثانيها الظالم من ظاهره خير من باطنه، والمقتصد المتساوي، والسابق من باطنه خير. ثالثها: الظالم صاحب الكبيرة، والمقتصد صاحب الصغيرة، والسابق المعصوم.
رابعها:
عن علي رضي الله عنه: الظالم أنا، والمقتصد أنا، والسابق أنا. فقيل له: كيف ذاك؟ قال:
أنا ظالم بمعصيتي، ومقتصد بتوبتي، وسابق بمحبتي.
خامسها: الظالم التالي للقرآن غير العالم به ولا العامل بموجبه، والمقتصد التالي العالم غير العامل، والسابق التالي العامل.
سادسها: الظالم الجاهل، والمقتصد المتعلم، والسابق العالم. سابعها: الظالم من يحاسب فيدخل النار وهو أصحاب المشأمة، والمقتصد من يحاسب فيدخل الجنة وهو أصحاب الميمنة، والسابق من يدخل الجنة بغير حساب. ثامنها: الظالم من خالف أوامر الله وارتكب مناهيه فإنه واضع للتكليف في غير موضعه، والمقتصد هو المجتهد في أداء التكاليف وإن لم يوفق لذلك فإنه قصد الحق واجتهد، والسابق هو الذي لم يخالف تكاليف الله بتوفيقه دليله قوله في الأخير بِإِذْنِ اللَّهِ وذلك أنه إذا وقع الخير في نفسه سبق إليه قبل تسويل النفس، والمقتصد يقع في قلبه فتردّده النفس، والظالم تغلبه النفس. وبعبارة أخرى من غلبته النفس الأمارة وأمرته فأطاعها ظالم، ومن جاهد نفسه فغلبته تارة وغلب أخرى فهو المقتصد صاحب النفس اللوامة، ومن قهر نفسه فهو السابق. وفي تقديم الظالم ثم المقتصد إيذان بأن المقتصدين أكثر من السابقين والظالمون أكثر الأقسام كما قال وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] ذلِكَ الذي ذكر من التوفيق أو من السبق بالخيرات أو من الإيراث هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ قال جار الله: أبدل قوله جَنَّاتُ عَدْنٍ من الفضل لأنها مسببة عنه وكأنها هو. قلت: ويمكن أن يقال جَنَّاتُ عَدْنٍ مبتدأ لأنها معرفة بدليل قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ [مريم: 61] ولئن سلم أنها نكرة فليكن يَدْخُلُونَها صفة له وخبرها يُحَلَّوْنَ ثم إن ضمير يَدْخُلُونَها إن عاد إلى التالين لكتاب الله أو إلى السابقين فلا إشكال فالظالم يدخل النار والمقتصد يكون أمره موقوفا كقوله وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ [التوبة: 106] أو كقوله وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً وإن عاد إلى الفرق الثلاث فبشرط العفو أو بشرط التوبة،
وقد يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له»
وفي تقديم جَنَّاتُ عَدْنٍ وبناء الكلام عليها دون أن يقول «يدخلون جنات عدن» إيذان بأن الاهتمام بشأنها أكثر فإن نظر السامع على المدخول فيه لا على نفس الدخول. وقد مرت العبارة الأصلية في سورة الحج في قوله إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ إلى قوله حَرِيرٌ [الآية: 23] وتغيير
(5/517)
العبارة في هذا المقام لمزيد هذه الفائدة والله أعلم. وفي قوله يُحَلَّوْنَ فِيها إشارة إلى سرعة الدخول فإن في تحليتهم خارج الجنة تأخيرا للدخول. وفي تحليتهم بالسوار إشارة إلى أمرين: أحدهما الترفه والتنعم، الثاني أنهم لا يحتاجون فيها إلى عمل من الطبخ وتهيئة سائر الأسباب. قال جار الله: أي يحلون بعض أساور من ذهب كأنه بعض سابق لسائر الأبعاض كما سبق المسوّرون به غيرهم، والذهب واللؤلؤ إشارة إلى النوعين اللذين منهما الحليّ. وقيل: إن ذلك الذهب في صفاء اللؤلؤ، والحزن للجنس فيعم كل حزن من أحزان الدنيا والدين كما
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في محشرهم وكأني بأهل لا إله إلا الله يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن»
وقد خصه جمع من المفسرين بخوف سوء العاقبة أو بحزن الآفات أو بحزن الموت أو بهمّ المعاش حتى قال بعضهم: كراء الدار والتعميم أولى. والمقامة بمعنى الإقامة والفضل التفضل. وعند المعتزلة العطاء لأن الثواب أجر مستحق واجب عندهم. والنصب التعب والمشقة التي تصيب المزاول للأمر المنتصب له. واللغوب ما يلحقه من الفتور والكلال بعد ذلك قاله جار الله. وقال غيره: إن الذي يباشر عملا من الأعمال لا يظهر عليه الإعياء إلا بعد أن يستريح، فالمراد أنهم لا يخرجون من الجنة إلى موضع يتعبون بسبب ذلك ثم يلحقهم الإعياء بعد الرجوع.
ثم عطف قوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا على قوله إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ وقوله فَيَمُوتُوا جواب للنفي والتقدير لا يقضي عليهم بالموت فيستريحوا ويَصْطَرِخُونَ يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد وشدّة كشأن المستغيث. وفائدة قوله غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ زيادة التحسر على ما عملوه من غير الصالح، أو المراد نعمل صالحا غير الذي كنا نحسبه صالحا لأنهم كانوا يحسبون أنهم يحسنون. وفيه إشارة إلى أنهم في الآخرة أيضا ضالون لم يهدهم الله في الآخرة كما لم يهدهم في الدنيا، ولو كانوا مهتدين لقالوا: ربنا زدت للمحسنين حسنات بفضلك لا بعملهم ونحن أحوج إلى تخفيف العذاب منهم إلى تضعيف الثواب فافعل بنا ما أنت أهله نظرا إلى فضلك، ولا تفعل بنا ما نحن أهله نظرا إلى عدلك، وانظر إلى مغفرتك الهاطلة ولا تنظر إلى معذرتنا الباطلة. وهذا بخلاف حال المؤمن هداه في العقبى كما هداه في الدنيا حتى دعاه بأقرب دعاء إلى الإجابة، وأثنى عليه بأطيب ثناء عند الإنابة فقالوا الْحَمْدُ لِلَّهِ وقالوا إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ اعترافا بتقصيرهم شَكُورٌ إقرارا بوصول ما لم يخطر ببالهم إليهم وأحالوا الكل إلى فضله تصريحا بأنه لا عمل لهم بالنسبة إلى بحار نعمه. قوله أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ استفهام فيه توبيخ وإفحام وهو متناول لكل عمر
(5/518)
تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه إلا أن التوبيخ في العمر الطويل أعظم.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة»
وروي «من جاوز الأربعين ولم يغلب خيره شره فليتجهز إلى النار»
وعن مجاهد: ما بين العشرين إلى الستين. وقيل: ثماني عشرة وسبع عشرة. وقوله وَجاءَكُمُ معطوف على المعنى كأنه قيل: قد عمرناكم وجاءكم النَّذِيرُ وهو النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: الشيب. فبين بالجملتين أن القابل موجود والفاعل حاصل، فالعذر غير مقبول فَذُوقُوا العذاب فَما لِلظَّالِمِينَ الذين وضعوا أعمالهم في غير موضعها وأتوا بالمعذرة في غير وقتها مِنْ نَصِيرٍ نفى الأنصار والناصرين في آخر «آل عمران» وفي «الروم» ووحد هاهنا كأنهم في النار قد أيسوا من كثير ممن كانوا يتوقعون منهم النصرة إلّا من نصير واحد وهو الله سبحانه. ثم كان لسائل أن يسأل: ما بال الكافر يعذب أبدا وإنه ما كفر إلا أياما معدودة فلا جرم قال إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
فكان يعلم من الكافر أن الكفر قد تمكن في قلبه بحيث لو دام إلى الأبد لما أطاع الله ولا عبده.
وذات الصدور صواحباتها من الظنون والعقائد فذو موضوع لمعنى الصحبة، فالصدور ذات العقائد والعقائد ذات الصدور باعتبار أنها تصحبها. وحين ذكرهم بما مر من أنه سوف يوبخهم بالتعمير وإيتاء العقول وإرسال من يؤيد المعقول بالمنقول وعظهم بأنه هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ وفقد العاطف هنا خلاف ما في آخر «الأنعام» للعدول عن خطاب أهل الآخرة إلى خطاب أهل الدنيا. وقال هاهنا خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ بزيادة «في» المفيدة لتمكن المظروف في الظرف لأجل المبالغة والترقي من الأدنى إلى الأعلى كأنه قيل: أمهلتم وعمرتم وأمرتم على لسان الرسل بما أمرتم وجعلتم خلفاء الهالكين الماضين فأصبحتم بحالهم راضين فَمَنْ كَفَرَ بعد هذا كله فَعَلَيْهِ وبال كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً لأن الكافر السابق ممقوت واللاحق الذي أنذره الرسول ولم ينتبه أمقت لأنه رأى عذاب من تقدّمه ولم يتنبه وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً فإن العمر كرأس مال من اشترى به رضا الله ربح ومن اشترى به سخطه خسر. ثم وبخ أهل الشرك بقوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ وأبدل منه أَرُونِي كأنه قال: أخبروني عن هؤلاء الشركاء، أروني أيّ جزء من أجزاء الأرض استبدّوا بخلقه أَمْ لَهُمْ مع الله شِرْكٌ فِي خلق السَّماواتِ أم معهم أو مع عابديهم كتاب من عند الله فهم على برهان من ذلك الكتاب. والإضافة في شُرَكاءَكُمُ لملابسة العبادة، أو المراد كونهم شركاءهم في النار كقوله إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ وهم الرؤساء بَعْضاً وهم الأتباع إِلَّا غُرُوراً [يونس: 18] وهو قولهم هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا وحين بين عجز الأصنام أراد أن يبين كمال القدرة فقال إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي يمنعهما من أَنْ
(5/519)
تَزُولا
أو كراهة زوالهما عن مقرهما ومركزهما، ولو فرض زوالهما بأمر الله فلن يمسكهما أحد من بعد زوالهما أو من بعد الله. وقيل: أراد أنهما كانتا جديرتين بأن تهدّ هدّا لعظم كلمة الشرك كقوله تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ [مريم: 90] يؤيد هذا الوجه قوله إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غير معاجل بالعقوبة غَفُوراً لمن تاب من الشرك. قال المفسرون: بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم رسلهم فكذبوا فو الله لئن أتانا رسول لكنا أهدى. وزيف هذا النقل بأن المشركين كانوا منكرين للرسالة والحشر فكيف اعترفوا بأن اليهود والنصارى جاءهم رسل. سلمنا لكنهم كيف عرفوا تكذيب اليهود وتحريفهم ولم يأتهم رسول ولا كتاب؟ فالوجه الصحيح في سبب النزول أنهم كانوا يقولون: لو جاءنا رسول لم ننكره وإنما ينكرون كون محمد صلى الله عليه وسلم رسولا لأنه كاذب، ولو صح كونه رسولا لآمنا. وقوله مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ليس للتفضيل بل المراد أنا نكون أهدى مما نحن عليه ونكون من إحدى الأمم كقولك: زيد من المسلمين. أو هو للتفضيل والأمم لتعريف العهد أي أمة محمد وموسى وعيسى عليهم السلام، أو للعموم أي أهدى من أيّ أمة تفرض ويقال فيها إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها في الهدى والاستقامة. فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي صح لهم نذارته بالمعجزات الباهرة ما زادَهُمْ هو أو مجيئه إِلَّا نُفُوراً كأنه صار سببا في نفارهم عن الحق عنادا وكبرا فانتصب اسْتِكْباراً على أنه مفعول لأجله أو حال ويجوز أن يكون بدلا من نُفُوراً وقوله وَمَكْرَ من إضافة المصدر إلى صفة معموله أصله وأن مكروا السيء أي المكر السيء، والمكر هو مكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم من الهمّ بالقتل والإخراج وقد حاق بهم يوم بدر، أو هو عام وعاقبة الماكر وخيمة يصل إليه جزاؤه عاجلا أو آجلا.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تمكروا ولا تعينوا ماكرا فإن الله يقول ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله» . وفي أمثالهم «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا» .
وفي قوله بِأَهْلِهِ دون أن يقول «إلا بالماكر إشارة إلى أن الرضا بالمكر والإعانة عليه كهو فيندرج مصاحبه في زمرة أهل المكر. وقوله سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ من إضافة المصدر إلى المفعول. وقوله لِسُنَّتِ اللَّهِ من إضافته إلى الفاعل والمراد بها إنزال العذاب على أمثالهم من مكذبي الرسل، جعل استقبالهم لذلك واستعجالهم إياه انتظارا له منهم. والتبديل تغيير الصورة مع بقاء المادة، والتحويل نقل الشيء من مكان إلى مكان آخر. خص هذه السورة بالجمع بين الوصفين لأن كثيرا من أحوال الكفرة جاءت هاهنا مثناة كقوله وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ إلى قوله إِلَّا خَساراً وكقوله إِلَّا نُفُوراً اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ويحتمل أن يريد بسنة الأوّلين استمرارهم على الإنكار كأنه قال: أنتم تريدون
(5/520)
الإتيان بسنة الأوّلين والله يأتي بسنة لا تبدل. العذاب المعلوم بنوع آخر ولا تحوّله عن مستحقيه إلى من لا يستحقه. ثم أمرهم بالسير وذكرهم ما رأوه في مسايرهم ومتاجرهم إلى الشام والعراق واليمن من آثار الهالكين الأقدمين مع وفور قوّتهم وكثرة شوكتهم. ثم بين كمال علمه ونهاية قدرته على اتصال أصناف الاستحقاقات بقوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ أي ليسبقه ويفوته شيء. ثم ختم السورة بما يدل على غاية حلمه وهو أنه لا يؤاخذ الناس بكل جرم إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو القيامة وهو يومئذ أعلم بأحوالهم علما عيانيا فيجزي كلا بحسب علمه، وقد مر مثل الآية في سورة النحل. وقيل: الأجل هو يوم لا يوجد في الخلق من يؤمن أو حين يجتمع الناس على الضلال والله أعلم.
تم الجزء الثاني والعشرون، ويليه الجزء الثالث والعشرون وأوله تفسير سورة يس
(5/521)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17) قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29) يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الثالث والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
(سورة يس)
(مكية سوى آية نزلت في اليهود قوله وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا حروفها ثلاثة آلاف كلمها سبعمائة وسبع وعشرون آياتها ثلاث وثمانون)
[سورة يس (36) : الآيات 1 الى 44]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)
تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)
وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14)
قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)
إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)
يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34)
لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39)
لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44)
(5/522)
القراآت:
يس بإظهار النون: أبو عمرو وسهل ويعقوب غير رويس وابن كثير غير ابن فليح وحمزة وأبو جعفر ونافع غير النجاري عن ورش والحلواني عن قالون وعاصم غير يحيى وابن أبي غالب. وقرأ حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد بالإمالة. تنزيل بالنصب: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. والباقون: بالرفع سَدًّا بفتح السين في الحرفين: حمزة وعلي وخلف وحفص وأبو زيد فَعَزَّزْنا بالتخفيف: أبو بكر وحماد والمفضل آين بالمد والياء أبو عمرو وقالون وزيد مثله ولكن بالقصر ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد. أَإِنْ بهمزتين: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل وابن عامر، هشام يدخل بينهما مدة وقرأ المفضل أين على وزن «كيف» الْآنَ بسكون النون وبالمد: يزيد مثل آنذرتهم ذُكِّرْتُمْ بالتخفيف: زيد وَما لِيَ بسكون الياء: حمزة ويعقوب ينقذوني في الحالين بالياء: يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل إِنِّي إِذاً بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو إِنِّي آمَنْتُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو إلا صيحة واحدة بالرفع وكذلك ما بعدها: يزيد لَمَّا بالتشديد: ابن عامر وحمزة وعاصم الميتة بالتشديد: أبو جعفر ونافع عملت بغير هاء الضمير: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل لمستقر بكسر القاف: زيد عن يعقوب والقمر بالرفع على الابتداء: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ونافع ويعقوب غير رويس. الآخرون: بالنصب إضمارا على شريطة التفسير ذرياتهم على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب.
الوقوف:
يس هـ كوفي الْحَكِيمِ هـ لا لجواب القسم الْمُرْسَلِينَ هـ لا لأن الجار والمجرور خبر بعد خبر أو مفعول ثان لمعنى الفعل في الْمُرْسَلِينَ أي أرسلت على
(5/523)
صراط مُسْتَقِيمٍ هـ ط على القراءتين فمن نصب فمعناه نزل تنزيل أو أعني تنزيل ومن رفع فالتقدير هذا تنزيل الرَّحِيمِ هـ لا لتعلق لام كي بمعنى التنزيل والإرسال غافِلُونَ هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ مُقْمَحُونَ هـ لا يُبْصِرُونَ هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ بِالْغَيْبِ هـ لانقطاع النظم مع دخول الفاء كَرِيمٍ هـ وَآثارَهُمْ ط مُبِينٍ هـ الْقَرْيَةِ هـ لأن «إذا» ليس ظرفا ل اضْرِبْ بل التقدير واذكر إذ جاءها. وجوّز في الكشاف أن يكون «إذ» بدلا من أَصْحابَ الْقَرْيَةِ فلا وقف. الْمُرْسَلُونَ هـ ج لاحتمال أن يكون «إذ» بدلا أو معمولا لعامل آخر مضمر مُرْسَلُونَ هـ مِثْلُنا لا مِنْ شَيْءٍ لا لاتحاد المقول فيهما تَكْذِبُونَ هـ لَمُرْسَلُونَ هـ ج الْمُبِينُ هـ بِكُمْ ج للابتداء بما في معنى القسم مع اتحاد المقول أَلِيمٌ هـ مَعَكُمْ ط ذُكِّرْتُمْ ط مُسْرِفُونَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ لأن اتَّبِعُوا بدل من الأوّل مُهْتَدُونَ هـ تُرْجَعُونَ هـ وَلا يُنْقِذُونِ هـ ج للابتداء بان مع تعلق «إذا» بما قبلها أي أني إذا اتخذت آلهة لفي ضلال مُبِينٍ هـ فَاسْمَعُونِ هـ ط لأن التقدير فلم يسمعوا قوله فقتلوه ثم قيل له ادخل الْجَنَّةَ ط يَعْلَمُونَ هـ لا لتعلق الباء. الْمُكْرَمِينَ هـ مُنْزِلِينَ هـ خامِدُونَ هـ الْعِبادِ ج لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا والعامل معنى في حسرة يَسْتَهْزِؤُنَ هـ لا يَرْجِعُونَ هـ مُحْضَرُونَ هـ يَأْكُلُونَ هـ الْعُيُونِ هـ لا ثَمَرِهِ هـ ط لمن جعل «ما» نافية ومن جعلها موصولة لم يقف أَيْدِيهِمْ ط يَشْكُرُونَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ مُظْلِمُونَ هـ ط لَها ط الْعَلِيمِ هـ لا لمن قرأ وَالْقَمَرَ بالرفع بالعطف على اللَّيْلُ، ومن قرأ بالنصب وقف مطلقا الْقَدِيمِ هـ النَّهارِ ط يَسْبَحُونَ هـ الْمَشْحُونِ هـ لا يَرْكَبُونَ هـ يُنْقَذُونَ هـ لا حِينٍ هـ.
التفسير:
الكلام الكلي في فواتح السور قد مر في أوّل البقرة وغيرها والذي يختص بالمقام ما قيل إن معناه يا سيد أو يا أنيسين فاقتصر على البعض رواه جار الله عن ابن عباس. ولا يخفى أن النداء على هذا يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم يؤيده قوله إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وكثيرا ما يستعمل القسم بعد إفحام الخصم الألدّ كيلا يقول إنك قد أفحمت بقوّة جدالك وأنت في نفسك خبير بضعف مقالك. وأيضا الابتداء بصورة اليمين يدل على أن المقسم عليه أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه، وكانت العرب يتحرزون من الأيمان الفاجرة ويقولون إنها تدع الديار بلاقع، وكان من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعظمون القرآن غاية التعظيم وكان اليمين به موقوفا عليه عند الكفرة. وقوله عَلى صِراطٍ كالتأكيد لأن المرسلين لا يكونون إلا على المنهج القويم. وتنكير صراط للتعظيم. قيل: فيه دليل على فساد قول المباحية القائلين بأن المكلف إذا صار واصلا لم يبق عليه تكليف فإن
(5/524)
المرسلين لم يستغنوا عن رعاية الشريعة فكيف غيرهم. وقوله ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ كقوله في «القصص» لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ [الآية: 46] وقد مر أنه يشمل اليهود والنصارى لأن آباءهم الأدنين لم ينذروا بعد ما ضلوا فَهُمْ غافِلُونَ لهذا السبب. وقد يقال: إن «ما» مصدرية أو موصولة أي أرسلت لتنذرهم إنذار آبائهم أو ما أنذر آباؤهم فإنهم في غفلة، فعلى هذا كونهم غافلين سبب باعث على الإنذار، وعلى الأول عدم الإنذار سبب غفلتهم. ثم بين أن السبب الحقيقي للغفلة هو أنه تعالى جعلهم من جملة المطبوع على قلوبهم ومن زمرة أهل النار وهو قوله فيهم لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ [ص 85] أو أراد بالقول سبق علمه فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤمنون. وقيل: أراد أن القول بالدعوة بلغ أكثرهم ولكنهم لا يؤمنون جحودا وعنادا، وذلك أن من يتوقف على استماع الدليل في مهلة النظر يرجى منه الإيمان إذا بان له البرهان، أما بعد البيان والوضوح فلا يكون عدم الإيمان إلا للمكابرة.
وحين بيّن أنهم لا يؤمنون ذكر أن ذلك من الله تعالى فقال إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فيكون مثلا لتصميمهم على الكفر كالطبع والختم. وقيل: إنه إشارة إلى إمساكهم وأنهم لا ينفقون في سبيل الله كما قال وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ [الإسراء: 29] وعلى هذا يمكن أن يكون معنى قوله فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أنهم لا يزكون كأنه عبر بالإيمان عن الزكاة كما عبر به عن الصلاة في قوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143]
وقيل: نزلت في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمدا صلى الله عليه وسلم يصلي ليرضخن رأسه، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي آخر: أنا أقتله بهذا الحجر. فذهب فأعمى الله بصره وأنزلت الآيتان.
والضمير في قوله فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ راجع إلى الأيدي وإن كانت غير مذكورة لكونها معلومة فإن المغلول تكون أيديه مجموعة إلى العنق ولذلك يسمى الغل جامعة أي جامعا لليد والعنق. وتأنيث الجامعة مبالغة أو بتأويل الآلة. وقيل:
واختاره في الكشاف أنه يرجع إلى الأغلال أي جعلنا في أعناقهم أغلالا ثقالا غلاظا بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطىء رأسه فلا يزال مقمحا. والمقمح الذي يرفع رأسه ويغض بصره ومنه أقمحت السويق أي سففته. والكانونان يقال لهما شهرا قماح لأن الإبل ترفع رؤوسها عن الماء لبرده فيهما. وكيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية فيقول المغلول الذي بلغ الغل ذقنه وبقي مقمحا رافع الرأس لا يبصر الطريق فضرب ذلك مثلا للذي يهديه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصراط المستقيم العقلي وهو لا يبصره بنظر بصيرته، ويمكن أن يجعل كناية عن عدم التصديق بتحريك الرأس. ويقال: بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء، والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة. ثم ضرب مثلا
(5/525)
آخر لكونهم غير منتهجين سبيل الرشاد وذلك قوله وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا قال أهل التحقيق: المانع إما أن يكون في النفس وهو الغل فلا يتبين لهم آيات الأنفس، وإما أن يكون خارجا عنها وهو السدّ فلا يتضح لهم دلائل الآفاق. ويمكن أن يقال: السدّ من قدام إشارة إلى عدم العلوم النظرية، ومن خلف إشارة إلى عدم فطنتهم الغريزية، أو الأوّل إشارة إلى الغفلة عن أحوال المعاد، والثاني إشارة إلى الغفلة عن المبدأ. وفيه أن السالك إذا انسدّ عليه الطريق من قدامه ومن خلفه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة فإنه يهلك لا محالة. ثم زاد في التأكيد بقوله فَأَغْشَيْناهُمْ أي جعلنا بعد ذلك كله على أبصارهم غشاوة فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ شيئا أصلا. ويحتمل أن يكون الإغشاء إشارة إلى أن السدّ قريب منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة فإن القرب القريب مانع من الرؤية فلا يرون السدّ قريب منهم فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وعلى هذا يكون ذكر السد من خلف تأكيدا على تأكيد، فإن الذي جعل بين يديه ومن خلفه سدان ملتزقان لا يمكنه التحرك يمنة ويسرة ولا النظر إلى السدّ ولا إلى غيره. ويمكن أن يقال: فائدته تعميم المنع من انتهاج المسالك المستقيمة لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو إلى جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء، وهكذا إن فرض رجوع قهقرى فإن المشي من هاتين الجهتين عادة، ثم صرح بالمقصود معطوفا على المذكورات قائلا وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ الآية. وقد مر إعرابه وسائر ما يتعلق بتفسيره في أول البقرة. ولا يخفى أن الإنذار وعدمه بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير مستويين وإنما الإنذار سبب لزيادة سيادته وسعادته عاجلا وآجلا.
ثم بين بقوله إِنَّما تُنْذِرُ أن عدم فائدة الإنذار إنما هو بالإضافة إلى المطبوع على قلوبهم الذين تقدم شرح حالهم وبيان أمثالهم لا إلى المنتفعين به. والذكر القرآن أو ما فيه من المواعظ والحكم والدلائل، وفي ذكر الخشية مع تعقيبه باسم الرحمن إشارة إلى أن قهره مقرون بلطفه يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا رجاءكم. والغيب ما غاب عنا من أحوال القيامة وغيرها. وقيل: أي بالدليل وإن لم ينته إلى العيان فعند الانتهاء إلى ذلك لم يبق للخشية فائدة. ومعنى الفاء في فَبَشِّرْهُ أنك كما أنذرت وخوّفت فبشر بمغفرة واسعة وأجر كريم لا يكتنه كنهه، فكأن المغفرة بإزاء الإيمان والأجر الكريم للعمل الصالح. أو الأول لاتباع الذكر والثاني للخشية. وحين فرغ من بيان الرسالة شرع في أصل الحشر قائلا إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى على أن البشارة بالمغفرة والأجر لا يتم إلا بعد ثبوت الإعادة وهكذا خشية الرحمن بالغيب تناسب ذكر إحياء الأموات. والظاهر أن قوله نَحْنُ ضمير الفصل ويجوز أن يكون مبتدأ والفعل خبره والجملة خبر «إن» ويجوز أن يكون نَحْنُ خبر «إن»
(5/526)
كقول القائل عند الافتخار بالشهرة: أنا أنا. كأن الله تعالى قال إنما نحن معروفون بأوصاف الكمال وإذا عرّفنا أنفسنا فلا تنكر قدرتنا على إحياء الموتى. وفي هذا التركيب أيضا إشارة إلى التوحيد أي ليس غيرنا أحد يشاركنا حتى نقول إنا كذا فنمتاز. ثم أشار إلى العلم التام الذي يتوقف عليه المجازاة فقال وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا أي أسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة. وقيل: أراد ما قدّموا وأخروا فاكتفى بأحدهما كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] والصحيح أنه لا حاجة إلى هذا التقدير لأن قوله وَآثارَهُمْ يدل عليه والمراد بها ما هلكوا عليه من أثر حسن كعلم علموه أو كتاب صنفوه أو بقعة خير عمروها أو أثر سيء كبدعة وظلامة وآلات ملاه. وقيل: هي آثار المشائين إلى المساجد.
عن جابر: أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حوله خالية فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليكم دياركم فإنما تكتب آثاركم.
وعن عمر بن عبد العزيز: لو كان الله مغفلا شيئا لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح أي تمحوها. وقيل: أراد ونكتب ما قدموا من نياتهم فإنها قبل الأعمال وآثارهم أي أعمالهم.
سؤال: كيف قدم إحياء الموتى على الكتابة ولم يقل «نكتب ما قدموا ونحييهم» لأجل الجزاء؟ الجواب لأن الكتابة ليست مقصودة بالذات وإنما المقصود الأصلي هو الإحياء للجزاء ولو لم يكن إحياء وإعادة لم يكن للكتابة أثر. وأيضا قوله إِنَّا نَحْنُ دال على العظمة والجبروت، والإحياء أمر عظيم لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه بخلاف الكتابة، فقدّم الأمر العظيم ليناسب اللفظ الدال على العظمة. وأيضا أراد أن يرتب على كتابة الأعمال قوله وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ ومعناه أن قبل هذه الكتابة كتابة أخرى فإن الله كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا، ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه. وفيه بيان أن الكتابة مقرونة بالحفظ والإحصاء، فرب مكتوب غير محفوظ ولا مضبوط، وفيه تعميم بعد تخصيص كأنه قال: ليست الكتابة مختصة بأفعالهم وإنما هي لكل شيء. والإمام اللوح لأن الملائكة يتبعون ما كتب فيه من أجل ورزق وإماتة وإحياء، والمبين هو المظهر للأمور، والفارق بين أحوال الخلق، وحيث بين أن الإنذار لا ينفع من أضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال لنبيه صلى الله عليه وسلم لا تأس.
وَاضْرِبْ لنفسك ولقومك مَثَلًا مثل أَصْحابَ الْقَرْيَةِ وهي أنطاكية الروم، والمرسلون رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها. وفي قوله إِذْ أَرْسَلْنا دلالة على أن رسول الرسول رسول وأنه يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل الموكل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول، وكأنه أرسل اثنين ليكون قولهما
(5/527)
على قومها عند عيسى حجة تامة. وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم يكتفي بواحد في الأغلب كمعاذ وغيره فمن هنا يعلم ترجيح هذه الأمة. وأما القصة فإن عيسى عليه السلام أرسل إليهم اثنين فلما قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنما واسمه حبيب النجار فسألهما فأخبراه فقال: ما آيتكما؟
قالا: نشفي المريض ونبرىء الأكمة والأبرص. وكان له ولد مريض من سنتين فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر فشفى على أيديهما خلق كثير ورفع خبرهما إلى الملك فأحضرا فلما سمع قولهما قال: ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم. من أوجدك وآلهتك. فحبسهما حتى ينظر في أمرهما فبعث عيسى شمعون وذلك قوله سبحانه فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ
من قرأ بالتشديد فمعناه فقوّينا الرسولين، ومن قرأ بالتخفيف فمن العزة أي فغلبنا وقهرنا أهل القرية. وإنما ترك ذكر المفعول به لأن الغرض ذكر الثالث فالعناية بذكره أهم وأتم نظيره قولك: حكم السلطان اليوم بالحق الغرض الذي سيق له الكلام قولك بالحق فلذلك تركت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه. وأما باقي القصة فإن شمعون دخل متنكرا وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به فقال له ذات يوم بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه؟ قال: لا، حال الغضب بيني وبين ذلك. فدعاهما فقال شمعون:
من أرسلكما قال: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنى الملك. فدعا بغلام مطموس فدعوا الله حتى انشق له بصر وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين ينظر بهما فقال شمعون: يا أيها الملك إن شئت أن تغلبهما فقل لآلهتك حتى تصنع مثل هذا. فقال الملك: أنت لا يخفى عليك أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تقدر ولا تعلم. وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبون أنه منهم. فقال شمعون: فالحق إذا معهم فآمن الملك وبعض حاشيته وبقي آخرون على الكفر فأهلكوا بالصيحة. قال أهل البيان: يجب زيادة المؤكدات في الجملة الخبرية بحسب تزايد الإنكار من السامع فلهذا قال الرسل أوّلا: إنا إليكم مرسلون مقتصرين على «أن» . وثانيا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ مجموعا بين «أن» واللام وما يجري مجرى القسم. ولا يخفى أن اليمين بعد إظهار البينة وإفحام الخصم مؤكد قوي كما مر في أول السورة. وفي قولهم وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا من عهدة ما علينا ولم يبق إلا التفكر منكم والتذكر. وحيث أكد الرسل قولهم باليمن أكد الكفار قولهم بالتطير، فمن عادة الجهال أن يتيمنوا بكل ما يوافق طباعهم وهواهم ويتشاءموا بما كرهوه وكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب حالفين بالأيمان الكاذبة التي تدع الديار بلاقع فتشاءمنا بكم ولا نترككم. لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالقول أو بالحجارة. وَلَيَمَسَّنَّكُمْ بعد ذلك أو بسبب الرجم بالحجارة
(5/528)
المتوالية إلى الموت عَذابٌ أَلِيمٌ قالُوا طائِرُكُمْ أي سبب شؤمكم مَعَكُمْ وهو كفركم ومعاصيكم أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ يعني أتطيرون إن ذكرتم. ومن قرأ أين على وزن «كيف» ذكرتم بالتخفيف فالمراد شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم فضلا عن المكان الذي حللتم فيه. ثم إن الرسل كأنهم قالوا لهم أنحن كاذبون أم نحن مشؤمون بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ في عصيانكم أو ضلالكم فمن ثم أتاكم الشؤم، أو تشاءمتم بمن يجب التبرك بهم وقصدتموهم بالسوء وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ هو حبيب النجار الذي مر ذكره نصح قومه فقتلوه وقبره في سوق أنطاكية. وقيل: كان في غار يعبد الله عز وجل، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة فوثبوا عليه فقتلوه.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصاحب ياسين ومؤمن آل فرعون»
ومن هنا قالوا: إنه آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل ولادته وذلك أنه سمع نعته من الكتب والعلماء. وتنكير رجل للتعظيم أي رجل كامل في الرجولية أو ليفيد ظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن بهم رجل من الرجال لا معرفة لهم به وكان بعيدا من التواطؤ. وقوله مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ أيضا يفيد مثل هذا أو أنهم ما قصروا في التبليغ والإنذار حتى بلغ خبرهم القاصي والداني والسعي بمعنى المشي أو بمعنى القيام في المهام أي يهتم بشأن المؤمنين ويسعى في نصرتهم وهدايتهم ونصحهم. ثم حثهم على اتباع الرسل ولم يقل اتبعوني كما قال مؤمن آل فرعون اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر: 38] لأنه جاءهم فنصحهم في أوّل مجيئه وما رأوا سيرته بعد فقال: اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لأجلكم السبيل. فقوله اتَّبِعُوا نصيحة وقوله الْمُرْسَلِينَ إظهار للإيمان وقدم النصيحة إظهارا للشفقة.
وقد روي أنه كان يقتل ويقول: اللهم اهد قومي.
ثم أكد وجوب الاتباع بأنهم في أنفسهم مهتدون ولا يتوقعون أجرا في الدلالة ووجوب اتباع مثل هذا الدليل للذي ضل عن سواء السبيل مركوز في العقول. ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحة قومه. قال الحكيم الَّذِي فَطَرَنِي إشارة إلى وجود المقتضي. وقوله وَما لِيَ إشارة إلى عدم المانع من جانبه فإن كل امرئ هو أعلم بحال نفسه، والمقتضى وإن كان مقدما في الوضع والطبع على المانع إلا أن المقتضي هاهنا لظهوره كان مستغنيا عن البيان رأسا فقدّم عدم المانع لأجل البيان ولهذا لم يقل «وما لكم لا تعبدون» كيلا يذهب الوهم إلى أنه لعله يطلب العلة والبيان وإنما ورد في سورة نوح ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً [الآية: 13] لأن القائل هناك داع لا مدعو فكأن الرجل قال: مالي لا أعبد وقد طلب مني ذلك. وفي قوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بيان الخوف والرجاء ولهذا لم يقل
(5/529)
«وإليه أرجع» كأنه جعل نفسه ممن يعبد الله لذاته لا لرغبة أو رهبة. ثم أراد كمال التوحيد فقال أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً فقوله ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي فيه إقرار بوجود الصانع الفاطر، وقوله أَأَتَّخِذُ على سبيل الإنكار نفي لغيره ممن يسمى إلها وبهما يتم معنى لا إله إلا الله. ثم عرض على عقولهم جهل عابدي الأصنام أنهم لا يقدرون على دفع ضر ولا على إيصال نفع، وقد رتب الكلام فيه على ترتيب ما يقع بين العقلاء فإن الذي يريد أن يدفع الضر عن شخص يقدم على الشفاعة له، فإن قبلت وإلا أنقذه أي خلصه بوجه من الوجوه.
قال بعض المفسرين: لما أقبل القوم عليه يريدون قتله أقبل هو على المرسلين. قال إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعوا قولي لتشهدوا لي. وإنما قال بِرَبِّكُمْ ولم يقل «بربي» ليتعين أنه آمن بالرب الذي دعوه إليه. وقال أكثرهم: الخطاب للكفار وعلى هذا فالمراد به بيان التوحيد أي ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وفطركم فاسمعوا قولي وأطيعوني. وفي قوله قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ وجهان أحدهما. أنه قتل. ثم كأن سائلا سأل: كيف لقاؤه ربه بعد ذلك التصلب في نصرة الدين حتى بذل مهجته؟ فقيل: قيل ادخل الجنة. والقائل هو الله سبحانه أو الملائكة بأمره. قال جار الله: لم يذكر المقول له لانصباب الغرض إلى المقول وعظم شأنه ولأنه معلوم. ثم كأن سائلا آخر سأل: أيّ شيء تمنى في الجنة؟ فقيل: قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ وإنما تمنى علم قومه بحاله ليصير ذلك سببا لهم في التوبة والإيمان ليفوزوا بما فاز ويؤيده ما روي في حديث مرفوع أنه نصح قومه حيا وميتا. ويجوز أن يكون سبب التمني هو أن ينبهوا على خطئهم في أمره وعلى صوابه في رأيه وأن عداوتهم لم تعقبه إلا سعادة وكرامة. وثانيهما أن الرسل بشروه وهو حيّ بدخول الجنة فصدّقهم وتمنى علم قومه بحاله فيؤمنوا كما آمن. و «ما» في قوله بِما غَفَرَ مصدرية أو موصولة أي بالذي غفره لي من الذنوب، أو استفهامية يعني بأي شيء غفر لي أراد ما جرى بينه وبينهم من المصابرة والذب عن الدين إلا أن طرح الألف أجود. فقول القائل: علمت بم صنعت هذا أحسن من قوله «بما صنعت» فقوله غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ بإزاء قوله فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ ثم أشار إلى كيفية إهلاك قومه بعده قائلا وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ قال المفسرون: يجوز أن يريد بقومه الذين بقوا من أهل القرية بعد المؤمنين منهم وأن يريد به أقاربه فلعل غيرهم من قوم الرسل آمنوا فلم يصبهم العذاب. ثم قال وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ أي وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جندا من السماء، ومن هنا يعلم فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على غيره فقد أنزل الله لأجله الجنود من السماء يوم بدر والخندق وحنين وما أنزلها لغيره من نبي فضلا عن حبيب، فشتان بين حبيب الجبار وبين حبيب النجار.
فالحاصل أنه تعالى يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها
(5/530)
إلا مثلك وما كنا نفعله لغيرك. فمن قرأ إِلَّا صَيْحَةً بالنصب أراد ما كانت الأخذة أو العقوبة إلا بسبب صيحة، ومن قرأ بالرفع على أن «كان» التامة فمعناه ما وقعت إلا صيحة.
قال جار الله: القياس والاستعمال على تذكير الفعل لأن المعنى ما وقع شيء إلا صيحة ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل. قلت: يجوز أن يقدر ما حدثت عقوبة. وقيل: إن التأنيث لتهويل الواقعة ولهذا جاءت أسماء الجنس كلها مؤنثة.
ووصف الصيحة بواحدة للتأكيد. وقرأ ابن مسعود إلا زقية وهي الصيحة أيضا ومنه المثل «أثقل من الزواقي» والزقاء صياح الديك ونحوه، وذلك لأن صياح الديكة يؤل بنزول الأنس وبتبدل الفراق بالوصال.
ثم شبه هلاكهم بخمود النار وهو صيرورتها رمادا لأنهم كانوا كالنار الموقدة في القوّة الغضبية حيث قتلوا من نصحهم وتجبروا على من أظهر المعجزة لديهم. ثم بين بقوله يا حَسْرَةً أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون من الملائكة والثقلين، أو من الله عز وجل على سبيل الاستعارة وذلك لتعظيم ما صدر من تقصيرهم وبدر من تفريطهم ثم ذكر سبب التحسر بقوله ما يَأْتِيهِمْ الآية. ثم عجب من حالهم في عدم الاعتبار بأمثالهم من الأمم الخالية. وقوله أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ بدل من كَمْ أَهْلَكْنا التقدير: ألم يعلموا القرون الكثيرة المهلكة من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم. والبدل بدل اشتمال لهم لأنه حال من أحوال المهلكة أي أهلكوا بحيث لا رجوع لهم إليهم. والرجوع حسيّ وهو ظاهر، أو معنويّ وهو الرجوع بالنسب والولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم. من قرأ «لما» بالتشديد فبمعنى إلا و «أن» نافية. ومن قرأ بالتخفيف فإن مخففة و «ما» صلة تقديره. وإن كلهم لمحشورون مجموعون محضرون للحساب يوم القيامة. قال في الكشاف: كيف أخبر عن كل المجموعي بجميع؟ وأجاب بأنهما ليسا بواحد، بل الكل يفيد الشمول والجميع يفيد الانضمام وأن المحشر يجمعهم. ويحتمل أن يقال: الغرض وصف الجميع بالإحضار كقولك: الرجل رجل عالم والنبيّ نبيّ مرسل. ثم ذكر البرهان على الحشر وعلى التوحيد أيضا مع تعداد النعم وتذكيرها قائلا: وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ قال المحققون: إنما قال لهم لأن الأرض ليست آية للنبي ولغيره من أهل الإخلاص الذين هم بالله عرفوا الله قبل النظر إلى الأرض والسماء كقوله أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] وقوله أَحْيَيْناها استئناف بيانا لكونها آية وكذلك نسلخ ويجوز أن يكونا وصفين على قياس.
ولقد أمر على اللئيم يسبني
(5/531)
وقوله فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ بتقديم الجار للدلالة على أن الحب هو معظم قوت الإنسان وبه قوام معاشه عادة، فنفس الأرض آية فإنها مهدهم الذي فيه تحريكهم واستكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم. وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم، ثم إحياؤها مخضرة نعمة ثانية فإنها أحسن وأنزه، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة فإن قوتهم إذا كان في مكانهم كأن أجمع للقوّة والفراغ. ثم جعل الجنات فيها نعمة رابعة موجبة للتفكه وسعة العيش، ثم تفجير العيون فيها نعمة خامسة لأن ماء السماء لا يحصل الوثوق بنزوله في كل حين فذلك كالشيء المدخر القريب التناول. والضمير في قوله مِنْ ثَمَرِهِ يعود إلى الله، وفائدة الالتفات أن الثمار بعد وجود الأشجار وجريان الأنهار لا توجد إلا بتخليق الملك الجبار، ويحتمل أن يعود إلى المذكور وهو الجنات أو إلى التحصيل وترك ذكر الأعناب لأن حكمه حكم النخيل. وقيل: إلى التفجير المدلول عليه بسياق الكلام أي ليأكلوا من فوائد التفجير وهو أعم من الثمار، ويشمل جميع ما ذكره في قوله أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا إلى قوله وَفاكِهَةً وَأَبًّا [عبس: 25- 31] وقوله وَما عَمِلَتْ من قرأ بغير هاء الضمير فما موصولة أو مصدرية أي ليأكلوا من ثمر الله ومن ثمر ما عملته أو من ثمر عمل أيديهم، أو نافية فيكون إشارة إلى أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه، ومن قرأ مع الضمير فما موصولة والضمير لها أو نافية والضمير للتفجير أو المذكور.
ومعنى عمل الأيدي ما يتكابده الناس من الحرث والسقي وغير ذلك. هذا إذا جعلت «ما» موصولة، فإن كانت نافية فالمراد الإيجاد والخلق. وقيل: عمل الأيدي التجارة. وقيل:
الطبخ ونحوه.
ثم نزه نفسه بقوله سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ أي الأصناف والمراد بقوله وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ أزواج لم يطلع الله الإنسان عليها بطريق من طرق المعرفة وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: 31] فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] قالت الأشاعرة: فيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن أفعالهم أعراض وهي داخلة تحت الأجناس. وقوله مِمَّا تُنْبِتُ لا يخرجه عن العموم لأن البيان متعدّد نظيره قول القائل:
أعطيته كل شيء من الثياب والدواب والعبيد. فإنه يفهم أن تعديد الأصناف لتأكيد العموم يؤيده قوله في الزخرف الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها [الآية: 36] من غير تقييد. وحين فرغ من الاستدلال بالمكان شرع في الاستدلال بالزمان. ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه. ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه. قال جار الله: أصله من سلخ الجلد الشاة إذا ازاله عنها فاستعير لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وموضع إلقاء ظله. ومعنى
(5/532)
مُظْلِمُونَ داخلون في الظلام أي لا بد لهم أن يدخلوا في الظلام إذ زال ولا يقدرون على دفعه. وفيه أن الليل كعرض أصلي يطرأ عليه النور تارة ويزول عنه أخرى. ثم كان لجاهل أن يقول: سلخ النهار إنما هو بغروب الشمس فلا جرم قال وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ أي لحدّ لها مؤقت تنتهي إليه من فلكها شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره إلا أن المسافر له قرار بعد ذلك وهذه لا قرار لها بعد الحصول في ذلك الحدّ ولكنها تستأنف الحركة منه وهو أوّل الحمل أو أحد الخافقين أو إحدى الغايتين في تصاعدها فلك نصف النهار وتنازلها أو غير ذلك من الاعتبارات. وقيل: أراد بالمستقر بيتها وهو الأسد. وقيل: أراد لجري مستقرها وهو فلكها. وقيل: هو الدائرة التي عليها حركتها الخاصة. وقال الحكيم: أراد لأمر لو وجده لاستقر وهو استخراج الأوضاع الممكنة. وقيل: أراد الوقت الذي ينقطع جريها وهو يوم القيامة. وقيل: إنه إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه قال: إن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار لمنافعه وعلى هذا فالمستقر هو أفق الغرب خاصة ذلِكَ الجري على الوجوه المذكورة تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الغالب بقدرته على كل مقدور الْعَلِيمِ بمبادىء الأمور وغاياتها.
ثم ذكر أمر سير القمر وقد مر في أوّل سورة يونس في قوله وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ [الآية:
5] والعرجون عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة وهو «فعلون» من الانعراج الانعطاف قاله الزجاج. والقديم ما تقادم عهده ويختلف بحسب الأعيان. فلا يقال لمدينة بنيت من سنة وسنتين هي قديمة. وقد يقال: نبت قديم وإن لم يكن له سنة. وإطلاق القديم على العالم لا يعتاد لأنه موهم إلا عند من يعتقد أنه لا أول له. وقال في الكشاف: القديم المحول وهو أول ما يوصف بالقدم، فلو أن رجلا قال: كل مملوك لي قديم فهو حر وكتب ذلك في وصية، عتق منهم من مضى له حول وأكثر. وإذا قدم العرجون دق وانحنى واصفرّ فشبه انقراض الشهر به من الوجوه الثلاثة. ثم بين أن لكل واحد من النيرين حركة مقدرة وسلطانا على حياله لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ لتباطوء سيرها عن سيره وَلَا اللَّيْلُ أي ولا تسبق آية الليل- وهو القمر- آية النهار- وهي الشمس- أي لا يداخل القمر الشمس في سلطانها. وقيل: أراد أن الليل لا يدخل في وقت النهار. وقيل: إنه إشارة إلى الحركة اليومية التي بها يحدث الليل والنهار. والمراد أن القمر لا يسبق الشمس بهذه الحركة لأنها تشملهما على السواء، وهكذا جميع الكواكب فلا يقع بسببها تقدم ولا تأخر ولهذا لم يقل «يسبق» على قياس تدرك أي ليس من شأنه السبق إذ الكواكب كأنها كلها ساكنة بهذه الحركة. وأقول: يحتمل أن يراد لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا القمر ينبغي أن
(5/533)
يتخلف، فحذف إحدى القرينتين للعلم به كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] وكذا الكلام في قوله وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ أراد ولا النهار سابق الليل أي لا يدخل شيء منهما في غير وقته. سلمنا أن المراد بالليل والنهار آيتهما لكنه يمكن أن يقال: إنه إشارة إلى الحركة الدورية لأنه لما قال: إن الشمس لبطء سيرها لا تدرك القمر. فهم منه أن القمر يسبق الشمس بحركته، فأشار إلى أن هذا السبق ليس على قياس المتحركات على الاستقامة ولكنه سبق هو بعينه موجب للقرب، وهذا معنى قول أهل الهيئة إن الكوكب هارب عن نقطة ما طالب لها بعينه. وأما قوله وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فقد مرّ تفسيره في سورة الأنبياء.
ولما بين ما هو كالضروري لوجود الإنسان من المكان والزمان وما يتبعه ويسبقه، شرع في تقرير ما هو نافع لهم في أحوال المعاش. قال بعض المفسرين: أراد بحمل الذرية حمل آبائهم وهم في أصلابهم. والفلك فلك نوح ومثله هو ما يركبون الآن عليه من السفن والزوارق. قال جار الله: وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل. ومن فوائد ذكر الذرية أن من الناس من لا يركب السفينة طول عمره ولكنه في ذريته من يركبها غالبا. وذهب آخرون إلى أن المراد حمل أولادهم ومن يهمهم حمله كالنساء. وقد يقع اسم الذرية عليهن لأنهن مزارع الأولاد.
في الحديث «إنه نهى عن قتل الذراري»
يعني النساء فكأنه قيل: إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره وعلى هذا يكون قوله وَخَلَقْنا لَهُمْ إلى آخره اعتراضا، ومثل الفلك ما يركبون من الإبل لأنها سفائن البر. وفي وصف الفلك بالمشحون مزيد تقرير للقدرة والنعمة فإن الفلك إذا كان خاليا كان خفيفا لا يرسب في الماء بالطبع. ثم ذكر ما يؤكد كونه فاعلا مختارا قائلا وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وهو مصدر أو صفة أي لا إغاثة أو لا مغيث. وقوله إِلَّا رَحْمَةً إشارة إلى أن الإنقاذ رحمة بالنسبة إلى المؤمن ومتاع إلى حلول الأجل بالإضافة إلى الكافر، أو المراد أن أحد لا يتخلص من الموت وإن سلم من الآفات ولله در القائل:
ولم أسلم لكي أبقى ولكن ... سلمت من الحمام إلى الحمام
التأويل:
يس إشارة إلى أنه بلغ في السيادة مبلغا لم يبلغه أحد من المرسلين تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ فيه أنه لعزته لا يحتاج إلى تنزيل القرآن ولكن رحمته اقتضت ذلك نُحْيِ القلوب الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا من الأنفاس المتصاعدة ندما وشوقا، وآثار خطا أقدام صدقهم وآثار دموعهم على خدودهم أَصْحابَ الْقَرْيَةِ القلوب إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ من الخواطر الرحمانية والإلهامات الربانية بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار
(5/534)
الخلود فَكَذَّبُوهُما النفس وصفاتها فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ من الجذبة إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لأن النفس وصفاتها لا يوافقهما ما يدعو الإلهام والجذبة إليه طائِرُكُمْ مَعَكُمْ لأن النفس خلقت من العدم على خاصيتها المشئومة رَجُلٌ يَسْعى هو الروح المشتاق إلى لقاء الحق لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً لأنه لا شرب له من مشاربكم. قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ وهي عالم الأرواح وهو كقوله يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ إلى قوله وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر: 30] عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي بعد رجوع الروح إلى الحضرة ما أنزل إلى النفس وصفاتها ملائكة من السماء لأنهم لا يقدرون على النفس وصفاتها وإصلاح حالها، فإن صلاحها في موتها والمميت هو الله. صَيْحَةً واحِدَةً من وارد حق فَإِذا هُمْ يعني النفس وصفاتها خامِدُونَ ميتون عن أنانيته بهويته أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا فيه إشارة إلى أن هذه الأمة خير الأمم شكى معهم من كل أمة وما شكى إلى أحد من غيرهم شكايتهم وَآيَةٌ لَهُمُ القلوب الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها بالطاعة ونخيل الأذكار وأعناب الأشواق وعيون الحكمة وثمر المكاشفات وعمل الخيرات والصدقات خَلَقَ الْأَزْواجَ من الآباء العلوية والأمهات السفلية مِمَّا تُنْبِتُ أرض البشرية بازدواج الكاف والنون. وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ بازدواج الروح والقلب وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ من تأثير العناية في قلوب المخلصين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت وَآيَةٌ لَهُمُ ليل البشرية نَسْلَخُ مِنْهُ نهار الروحانية فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ بظلمة الخليقة فإن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره. وشمس نور الله تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها وهو قلب استقر فيه رشاش نور الله وقمر القلب قَدَّرْناهُ ثمانية وعشرين منزلا على حسب حروف القرآن وأسماؤها:
الألفة والبر والتوبة والثبات والجمعية والحلم والخلوص والديانة والذلة والرأفة والزلفة والسلامة والشوق والصدق والصبر والطلب والظمأ والعشق والعزة والفتوة والقربة والكرم واللين والمروءة والنور والولاية والهداية واليقين. فإذا قطع كل المنازل فقد تخلق بخلق القرآن ولهذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 90] وهو آخر المنازل والمقامات، فإن السالك يألف الحق أوّلا ثم يتوب فيثبت على ذلك حتى تحصل له الجمعية، وعلى هذا يعبر المقامات حتى يصير كاملا كالبدر، ثم يتناقص نوره بحسب دنوّه من شمس شهود الحق إلى أن يتلاشى ويخفى وهو مقام الفقر الحقيقي الذي افتخر به نبينا صلى الله عليه وسلم
بقوله «الفقر فخري» .
ثم أشار بقوله لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها إلى أن الرب لا يصير عبدا ولا العبد ربا. ثم ذكر أن العوام محمولون في سفينة الشريعة والخواص في بحر الحقيقة كلاهما بفلك العناية وملاحة أرباب الطريقة، ومثل ما يركبون هو جناح همة المشايخ. وَإِنْ نَشَأْ نغرق العوام في بحر الدنيا والرخص والخواص في بحر الشبهات والإباحة.
(5/535)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
[سورة يس (36) : الآيات 45 الى 83]
وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)
فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)
أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)
الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69)
لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74)
لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
(5/536)
القراآت:
يَخِصِّمُونَ بفتحتين ثم كسر الصاد المشددة: ابن كثير وورش وسهل ويعقوب وأصله «يختصمون» أدغمت التاء في الصاد بعد نقل حركتها إلى الخاء، وقرأ أبو جعفر ونافع غير ورش بسكون الخاء، وقرأ أبو عمرو بإشمام الفتحة قليلا وقرأ حمزة بسكون الخاء وتخفيف الصاد من الخصم ثلاثيا. الباقون: بكسر الخاء للاتباع وتشديد الصاد.
وروى خلف عن يحيى بكسر الياء والخاء والتشديد. شُغُلٍ بضمتين: عاصم وخلف وابن عامر ويزيد ويعقوب. فكهون وبابه بغير ألف: يزيد. ظل بضم الظاء وفتح اللام:
حمزة وعلي وخلف على أنه جمع ظلة. الآخرون: ظِلالٍ جمع ظل جِبِلًّا بضم الجيم وسكون الباء. ابن عامر وأبو عمرو. وقرأ أبو جعفر ونافع وعاصم وسهل بكسرتين واللام مشددة، وقرأ يعقوب بضمتين والتشديد. والباقون: بضمتين والتخفيف نُنَكِّسْهُ مشددا:
حمزة وعاصم غير مفضل. الآخرون: بالتخفيف من النكس. تعقلون بتاء الخطاب:
أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب لتنذر على الخطاب أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب يقدر على صيغة المضارع: يعقوب كن فيكون بالنصب: ابن عامر وعلي.
الوقوف:
تُرْحَمُونَ هـ مُعْرِضِينَ هـ رَزَقَكُمُ اللَّهُ لا لأن ما بعده جواب «إذا» أَطْعَمَهُ لا كذلك لاتحاد المقول ولئلا يبتدأ بما لا يقوله مسلم. وجوز جار الله أن يكون قوله إِنْ أَنْتُمْ قول الله أو حكاية قول المؤمنين لهم فالوقف جائز. مُبِينٍ هـ صادِقِينَ هـ يَخِصِّمُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ يَنْسِلُونَ هـ مَرْقَدِنا هـ لئلا يوهم أن هذا صفة وما بعده منفي وفيه وجوه أخر نذكرها في التفسير الْمُرْسَلُونَ هـ مُحْضَرُونَ هـ تَعْمَلُونَ هـ فاكِهُونَ هـ ج لاحتمال أن هُمْ تأكيد الضمير وأَزْواجُهُمْ عطف عليه وفِي ظِلالٍ ظرف فاكِهُونَ، ولاحتمال أن ما بعده مبتدأ وخبره مُتَّكِؤُنَ يَدَّعُونَ هـ ج لأنه من المحتمل أن يكون سَلامٌ خبر محذوف أي عليهم سلام يقول قولا، وأن يكون سَلامٌ بدل ما يَدَّعُونَ أي لهم ما يتمنون وهو سلام سَلامٌ ط ج لحق الحذف رَحِيمٍ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ الشَّيْطانَ ج لأن التقدير فإنه مُبِينٌ هـ لا للعطف اعْبُدُونِي ج مُسْتَقِيمٌ هـ كَثِيراً هـ تَعْقِلُونَ هـ تُوعَدُونَ هـ تَكْفُرُونَ هـ يَكْسِبُونَ هـ يُبْصِرُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ فِي الْخَلْقِ ط يَعْقِلُونَ هـ له ج مُبِينٌ هـ الْكافِرِينَ هـ مالِكُونَ هـ يَأْكُلُونَ هـ وَمَشارِبُ هـ يَشْكُرُونَ هـ يُنْصَرُونَ ج نَصْرَهُمْ لا لأن الواو للحال مُحْضَرُونَ هـ قَوْلُهُمْ هـ لئلا يوهم أن ما بعده مقول الكفار يُعْلِنُونَ هـ مُبِينٌ هـ خَلْقَهُ ط رَمِيمٌ هـ مَرَّةٍ ط عَلِيمٌ هـ لا لأن
(5/537)
الَّذِي بدل تُوقِدُونَ هـ مِثْلَهُمْ ط لانتهاء الاستفهام الْعَلِيمُ هـ فَيَكُونُ هـ تُرْجَعُونَ هـ.
التفسير:
لما بين الآيات المذكورة حكى أنهم في غاية الجهالة ونهاية الضلالة، لا مثل العلماء الذين يتبعون البرهان، ولا كالعوام الذين يبنون أمورهم على الأحوط إذا أنذرهم منذر انتهوا عن ارتكاب المنهي خوفا من تبعته وطمعا في منفعته وإليه الإشارة بقوله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي في ظنكم فإن الذي لا تفيده الآيات يقينا فلا أقل من أن يحترز من العذاب ويرجو الثواب أخذا بطريقة الاحتياط، ونظير الآية ما مرّ في أوّل سورة سبأ أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الآية: 9] وعن مجاهد: أراد ما تقدّم من ذنوبكم وما تأخر. وعن قتادة: ما بين أيديكم من وقائع الأمم وما خلفكم أي من أمر الساعة. وقيل: ما بين أيديكم من أمر الساعة. وقيل: ما بين أيديكم الآخرة فإنهم مستقبلون لها، وما خلفكم الدنيا فإنهم تاركون لها. أو ما بين أيديكم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم فإنه حاضر عندهم وما خلفكم من أمر فإنكم إذا اتقيتم تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم والحشر رحمكم الله. أو ما بين أيديكم من أنواع العذاب كالحرق والغرق المدلول عليه بقوله وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ ما خلفكم الموت الطالب لكم يدل على قوله وَمَتاعاً إِلى حِينٍ وجواب «إذا» محذوف وهو لا يتقون أو يعرضون، يدل عليه ما بعده مع زيادة فائدة هي دأبهم الإعراض عند كل آية.
ويحتمل أن يكون قوله وما تَأْتِيهِمْ متعلقا بما قبله وهو قوله يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ. وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يعني إذا جاءتهم الرسل كذبوهم فإذا أتوا بالآيات أعرضوا عنها. وقوله أَلَمْ يَرَوْا إلى قوله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ اعتراض. ثم أشار إلى أنهم كما يخلون بجانب التعظيم لأمر الله حيث قيل لهم اتقوا فلم يتقوا يخلون بجانب الشفقة على خلق الله ولا ينفقون إذا أمروا بالإنفاق على أنهم خوطبوا بأدنى الدرجات في التعظيم والإشفاق، فإن أدنى الانقياد الاتقاء من العذاب، وأدنى الإشفاق هو إنفاق بعض ما في التصرف من مال الله، فأين هم من معشر أقبلوا بالكلية على الله وبذلوا أموالهم وأنفسهم في سبيل الله؟ وفي قوله مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ إشارة إلى أن الله تعالى قادر على إغناء الفقير وإعطائه ولكنه جعل الغني واسطة في الإنفاق على الفقير. فالسعيد من عرف حق التوسيط وانتهز فرصة الإمكان وعلم أن الإنفاق سبب للبركة في الحال ومجلبة للثواب في المآل. وقوله قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا دون أن يقول «قالوا» تسجيل عليهم بالكفر. وقوله لِلَّذِينَ آمَنُوا
مزيد تصوير لجهالتهم حين قالوا لهؤلاء الأشراف ما قالوا. وقوله أَنُطْعِمُ دون «أننفق» إظهار لغاية خستهم فإن الإطعام أدون من
(5/538)
الإنفاق ومن بخل بالأدون فهو بأن يبخل بالأكثر أولى. وقوله مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ كلام في نفسه حسن لكنهم ذكروه في معرض الدفع فلهذا استوجبوا الذم وقد بين الله خطأهم بقوله مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فإن من في خزائنه مال وله في يد الغير مال فإنه مخير إن أراد أعطى زيدا مما في خزائنه وإن شاء أعطاه مما في يد الغير وليس لذلك الغير أن يقول لم أحلته عليّ. وقوله إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ بناء على ما اعتقدوه أن الأمر بالإنفاق ضائع، لأنه سعي في إبطال مشيئة الله ولم يعلموا أن الضلال لا يتعدّاهم أيه سلكوا، وذلك أنهم لم ينظروا إلى الأمر والطلب وبادروا إلى الاعتراض، والطاعة هي اتباع الأمر لا الاستكشاف عن الغرض والغاية. ومن جملة تعنتهم أنهم استبطؤا الموعود على الاتقاء والإنفاق قائلين إِنْ كُنْتُمْ أيها المدّعون للرسالة صادِقِينَ فأخبرونا متى يكون هذا الموعود به من الثواب والعقاب فأجابهم الله تعالى بقوله ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً كأنهم بالاستبطاء كانوا منتظرين شيئا. وتنكير صيحة للتهويل ووصفها بواحدة تعظيم للصيحة وتحقير لشأنهم أي صيحة لا يحتاج معها إلى ثانية، وفي قوله تَأْخُذُهُمْ أي تعمهم بالأخذ مبالغة أخرى، وكذا في قوله وَهُمْ يَخِصِّمُونَ أي يشتغلون بمتاجرهم ومعاملاتهم وسائر ما يتخاصمون فيه ومع ذلك يصعقون. وقيل: تأخذهم وهم يختصمون في أمر البعث قائلين إنه لا يكون.
ثم بالغ في شدّة الأخذ بقوله فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وفي قوله فَلا يَسْتَطِيعُونَ دون أن يقول «فلا يوصون» مبالغة لأن من لا يوصي قد يستطيعها، وكذلك في تنكير توصية الدال على التقليل، وكذا في نفس التوصية لأنها بالقول والقول يوجد أسرع من الفعل من أداء الواجبات وردّ المظالم، وقد تحصل التوصية بالإشارة فالعاجز عنها عاجز عن غيرها. وفي قوله وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ بيان لشدّة الحاجة إلى التوصية فإن الذي يقطع بعدم الوصول إلى أهله كان إلى الوصية أحوج. وفيه تنبيه على أن الميت لا رجوع له إلى الدنيا ولا اجتماع له بأهله مرة أخرى إلى حين يبعثون. ثم بين حال النفخة الثانية، والأجداث القبور والنسلان العدو. وكيف صارت النفختان مؤثرتين في أمرين متضادين الإماتة والإحياء؟ نقول: لا مؤثر إلا الله، والنفخ علامة على أن الصوت يوجد التزلزل وأنه قد يصير سببا لافتراق الأجزاء المجتمعة تارة ولاجتماع المتفرقة أخرى. ثم إن أجزاء كل بدن قد تحصل في موضع هو بمنزلة جدثه، أو أعطى للأكثر حكم الكل. وذكر الرب في هذا الموضع للتخجيل فإن من أساء واضطر إلى الحضور عند من أحسن إليه كان أشدّ ألما وأكثر ندما. وقوله يَنْسِلُونَ لا ينافي قوله في موضع آخر فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] فلعل ذلك في أول الحالة ثم يحصل لهم سرعة المشي من غير اختيارهم. ويمكن أن يقال:
(5/539)
إن هيئة الانتظار ليست بمنافية للمشي بل مؤكدة له ومعينة عليه. وفي «إذا» المفاجأة إشارة إلى أن الإحياء والتركيب والقيام والعدو كلها تقع في زمان النفخ.
ثم بين أنهم قبل النسلان قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا كأنهم شكوا في أنهم كانوا موتى فبعثوا أو كانوا نياما فتنبهوا فجمعوا في السؤال بين الأمرين: البعث والمرقد.
عن مجاهد: للكفار. هجعة يجدون فيها طعم النوم فإذا صيح بأهل القبور قالوا ذلك، ثم أجابهم الملائكة في رواية ابن عباس، والمتقون على قول الحسن هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ كأنه قيل: ليس بالبعث الذي عرفتموه وهو بعث النائم من مرقده حتى يهمكم السؤال عن الباعث أن هذا هو البعث الأكبر الذي وعده الرحمن في كتبه المنزلة على لسان رسله الصادقين. والظاهر أن هذا مبتدأ وما وَعَدَ الرَّحْمنُ إلى آخره خبره، و «ما» مصدرية أي هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالمصدر.
ويجوز أن يكون «ما» موصولة أي هذا الذي وعده الرحمن وصدقه المرسلون أي صدقوا فيه. وجوّز جار الله أن يكون هذا صفة للمرقد وما وَعَدَ خبر مبتدأ محذوف أي هذا وعد الرحمن، أو مبتدأ محذوف الخبر أي ما وعده الرحمن وصدقه المرسلون حق عليكم.
وقيل: إن قوله هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ من كلام الكافرين كأنهم تذكروا ما سمعوا من الرسل فأجابوا به أنفسهم، أو أجاب بعضهم بعضا. ثم عظم شأن الصيحة بالنسبة إلى المكلفين وحقر أمرها بالإضافة إلى الجبار قائلا إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً الآية. وقد مر نظيره. ثم بين ما يكون في ذلك اليوم قائلا فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ أيها الكافرون إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وفيه إشارة إلى أن عدله عام وفضله خاص بأهل الإيمان وفيه أنهم إذا جمعوا لم يجمعوا إلا للعدل أو الفضل فالفاء فيه كما في قول القائل للوالي أو للقاضي: جلست للعدل فلا تظلم. أي ذلك يقتضي هذا ويستعقبه. وقوله ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إشارة إلى عدم الزيادة فإن الشيء لا يزيد على عينه كقولك: فلان يجازيني حرفا بحرف. أي لا يترك شيئا.
ويجوز أن يراد الجنس أيّ لا تجزون إلا جنس العمل حسنا أو سيئا. ثم فصل حال المحسنين بطريق الحكاية في ذلك اليوم تصويرا للموعود وترغيبا فيه فقال إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ لا يكتنه كنهه وفيه وجوه أقواها أنهم مشغولون عن هول ذلك اليوم بما لهم من الكرامات والدرجات. وقوله فاكِهُونَ مؤكد لذلك المعنى أي شغلوا عنه باللذة والسرور لا بالويل والثبور. وثانيها أنه بيان لحالهم ولا يريد أنهم شغلوا عن شيء بل المراد أنهم في عمل، ثم بين عملهم بأنه ليس بشاق بل هو ملذ محبوب. وثالثها أنهم تصوروا في الدنيا أمورا يطلبونها في الجنة فإذا رأوا فيها ما لم يخطر ببالهم اشتغلوا به عنها.
(5/540)
وعن ابن عباس أن الشغل افتضاض الأبكار أو ضرب الأوتار. وقيل: التزاور. وقيل:
ضيافة الله. وعن الكلبي: هم في شغل عن أهاليهم من أهل النار لا يهمهم أمرهم لئلا يدخل عليهم تنغيص من تنعمهم. والفاكه والفكه المتنعم المتلذذ ومنه الفاكهة لأنها تؤكل للتلذذ لا للتغذي والفكاهة الحديث لأجل التلذذ لا للضرورة. والأزواج ظاهرها زوج المرأة وزوجة الرجل. وقيل: أراد أشكالهم في الأحساب وأمثالهم في الإيمان كقوله وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [ص: 58] قال أهل العرفان: من شرائط السماع الزمان والمكان والإخوان فقوله هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ إشارة إلى عدم الوجوه الموحشة وأن لهم في ظل الله ما يمنع الإيذاء كقوله لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً [الدهر: 13] وقوله عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ دليل على القوّة والفراغة والتمكن من أنواع الملاذ. وقوله لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ إشارة إلى سائر أنواع الملاذ الزائدة على قدر الضرورة.
وقوله وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ إشارة إلى دفع جميع حوائجهم وما يخطر ببالهم. قال الزجاج: هو افتعل من الدعاء أي ما يدعونه أهل الجنة يأتيهم. وقال جار الله: هو للاتخاذ أي ما يدعون به أو ما يدعون به أو ما يدعون لأنفسهم كقولك: يشتوي. أي اتخذ لنفسه شواء. أو هو بمعنى التداعي. وعلى الوجهين إما أن يراد كل ما يدعو به الله أحد أو كل ما يطلبه من صاحبه فإنه يجاب له بذلك، أو يراد أن كل ما يصح أن يدعى به ويطلب فهو حاصل لهم قبل الطلب. وقيل: معناه يتمنون من قولهم: ادّع عليّ ما شئت أي تمنه عليّ.
وقيل: هو من الدعوى وذلك أنهم كانوا يدّعون في الدنيا أن الله هو مولاهم وأن الكافرين لا مولى لهم بينه قوله سَلامٌ يقال لهم قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي من جهته بواسطة الملائكة. وقيل: أراد لهم ما يدّعون سالم خالص لا شوب فيه. وقَوْلًا أي عدة وعلى هذا يكون قوله لَهُمْ للبيان وما يَدَّعُونَ سَلامٌ مبتدأ وخبر كقولك: لزيد الشرف متوفر.
وقال بعضهم: يحتمل أن يكون قَوْلًا نصبا على التمييز لأن السلام من الملك قد يكون قولا وقد يكون إشارة. وقال أهل البيان قوله وَامْتازُوا معطوف على المعنى كأنه قيل:
دوموا أيها المؤمنون في النعيم وامتازوا اليوم أيها المجرمون. أو قلنا لأهل الجنة: إنكم في شغل وقلنا لأهل النار: امتازوا وهو كقوله فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى:
7] أو تميزوا في أنفسكم غيظا وحنقا فلا دواء لألمكم ولا شفاء لسقمكم كقوله في صفة جهنم تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك: 8] أو افترقوا خلاف ما للمؤمن من الاجتماع بالإخوان فلا عذاب كفرقة الأخدان يؤيده ما روي عن الضحاك: لكل كافر بيت من النار يكون فيه لا يرى ولا يرى. وعن قتادة: أراد اعتزلوا عن كل خير ترجون، أو امتازوا عن
(5/541)
شفعائكم وقرنائكم. أو المراد تميزهم بسواد الوجه وزرقة العين وبأخذ الكتاب بالشمال وبخفة الميزان وغير ذلك. وقال صاحب المفتاح: قوله إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ إلى آخر الآيات خطاب لأهل المحشر بدلالة الفاء في قوله فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ بعد قوله إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وقد جاء في التفاسير أن قوله إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ إنما يقال حين يسار بهم إلى الجنة فيؤل معنى الكلام إلى قول القائل إن أصحاب الجنة منكم يا أهل المحشر يؤل حالهم إلى أسعد حال فليمتازوا عنكم إلى الجنة، وامتازوا أنتم عنهم أيها المجرمون. ثم كان لسائل أن يقول: إن الإنسان خلق ظلوما جهولا والجهل عذر فبين الله تعالى أن الأعذار زائلة قائلا أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ والآية إلى قوله أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ شبه اعتراض، فيه توبيخ لأهل النار وما ذلك العهد عن بعضهم أنه الذي مر ذكره في قوله وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ [طه: 115] وقيل: هو المذكور في قوله وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ [الأعراف: 172] وقيل: هو المبين على لسان الرسل. ومعنى لا تَعْبُدُوا لا تطيعوا ولا تنقادوا وسوسته وتزيينه. وقوله هذا إشارة إلى ما عهد إليهم من مخالفة الشيطان وعبادة الرحمن. قال أهل المعاني: التنوين في قوله صِراطٌ للتعظيم إذ لا صراط أقوم منه، أو للتنويع أي هذا بعض الطرق المستقيمة، ففيه توبيخ لهم على العدول عنه كما يقول الرجل لولده وقد نصحه النصح البالغ: هذا فيما أظن قول نافع غير ضار. وفي ذكر الصراط هاهنا إشارة إلى أن الإنسان في دار التكليف مسافر والمجتاز في بادية يخاف فيها على نفسه وماله لا يكون عنده شيء أهم من معرفة طريق قريب أمن. ثم بين لهم عدواة الشيطان بقوله وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا وهو في لغاته كلها بمعنى الخلق من جبله الله على كذا أي طبعه عليه. عن علي رضي الله عنه أنه قرأ جيلا بياء منقوطة من تحت بنقطتين. ثم أشار إلى محل امتياز المجرمين إليه بقوله هذِهِ جَهَنَّمُ وقوله اصْلَوْهَا أمر إهانة وتنكيل نحو ذق. وفي قوله الْيَوْمَ إشارة إلى أن اللذات قد مضت وأيامها قد انقضت وليس بعد ذلك إلا العقاب. روى أهل التفسير أنهم يجحدون يوم القيامة كفرهم في الدنيا فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم جوارحهم.
وفي الحديث «يقول العبد يوم القيامة إني لا أجيز شاهدا إلا من نفسي فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعد الكنّ وسحقا فعنكن كنت أناضل» «1»
قال المتكلمون: إنه لا يبعد من الله تعالى إنطاق كل جرم من الأجرام إنطاق اللسان وهو فاعل لما يشاء. قال الحكيم: إنهم لا يتكلمون بشيء لانقطاع أعذارهم وانهتاك أستارهم فيقفون ناكسي الرؤوس وقوف القنوط اليئوس.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 17.
(5/542)
وتكلم الأعضاء عبارة عن ظهور إمارات الذنوب عليهم بحيث لا يبقى للإنكار مجال كقول القائل: الحيطان تبكي على صاحب الدار إذا ظهر أمارات الحزن وأسبابه. ثم إنه تعالى أسند الختم إلى نفسه وأسند التكلم والشهادة إلى الأيدي والأرجل لكيلا يقال: إن الإقرار بالإجبار غير مقبول. وأيضا إنه أسند التكلم إلى الأيدي والشهادة إلى الأرجل لأن الأعمال مستندة إلى الأيدي غالبا كقوله وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] فهي كالعاملة، والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره. وإنما جعلت الشهادة عليهم منهم لأن غيرهم إما صالحون وهم أعداء للمجرمين فلهم أن يقولوا شهادتهم غير مقبولة في حقنا، وإما فاسقون وشهادة الفسقة غير مقبولة شرعا.
وهاهنا نكتة وهي أن الختم لازم للكفار في الدارين، ختم الله على قلوبهم في الدنيا وكان قولهم بأفواههم كما قال يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران: 167] ثم إذا ختم على أفواههم أيضا في الآخرة لزم أن يكون قولهم بسائر أعضائهم. هذا وقد ذكرنا مرارا أنه تعالى كلما يذكر تمسك الجبرية يذكر عقيبه تمسك القدرية وبالعكس. وكان للقدرية أن تتمسك بقوله يَكْسِبُونَ تَكْفُرُونَ حيث أسند الله الكفر والكسب إليهم فلا جرم عقبه بتمسك الجبري وهو قوله وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا ووجه التمسك أن إعماء البصائر شبه إعماء الأبصار، وسلب القوّة العقلية كسلب القوّة الجسمية. فكما أنه لو شاء لطمس على أبصارهم حتى لا يهتدوا إلى الطريق القاهر الظاهر ولو شاء لسلب قوّة جسومهم بالمسخ حتى لا يقدروا على تقدم ولا تأخر، فكذلك إذا شاء أعمى البصائر وسلب قواهم العقلية حتى لم يفهموا دليلا ولم يتفكروا في آية. والطمس محو أثر شق العين. قال جار الله فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ أصله فاستبقوا إلى الصراط فانتصب بنزع الخافض. والمعنى لو شاء لمسخ أعينهم فلو راموا أن يسبقوا إلى الصراط الذي عهدوه واعتادوا على سلوكه إلى مساكنهم لم يقدروا عليه إذ الصراط طريق الاستباق، والاستباق مضمن معنى الابتدار.
فالمراد لو شاء لأعماهم حتى لو أرادوا أن يمشوا مستبقين في الطريق المألوف أو مبتدرين إياه كما كان هجيراهم لم يستطيعوا. أو يجعل الصراط مسبوقا لا مسبوقا إليه، فالمعنى لو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذي اعتادوه لعجزوا ولم يقدروا إلا على سلوك الطريق المعتاد كالعميان يهتدون فيما ألفوا من المقاصد والجهات دون غيرها. عن ابن عباس: أراد لمسخناهم قردة وخنازير. وقيل: حجارة. وعن قتادة: لأقعدناهم على أرجلهم أو أزمناهم على أرجلهم. والمكان والمكانة واحد أراد مسخا مجمدا بحيث لا يقدرون أن يرجعوا مكانهم. وإنما قدم الطمس على المسخ تدرّجا من الأهون إلى الأصعب، فإن الأعمى قد
(5/543)
يهتدي إلى وجوه التصرف بأمارات عقلية أو حسية غير البصر. وأما الممسوخ على مكانه فلا يهتدي إلى شيء أصلا. ولمثل ما قلنا قدم المضيّ على الرجوع فإن سلوك طريق قد رآه مرة يكون أهون مما لم يره أصلا، فنفى أوّلا استطاعة الأصعب ثم نفى استطاعة الأهون أيضا لأجل المبالغة. وحين قطع الأعذار بسبق الإنذار وذلك في قوله أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ شرع في قطع عذر آخر للكافر وهو أن يقول: لم يكن لبثنا في الدنيا إلا يسيرا ولو عمرتنا لما وجدت منا تقصيرا فقال الله تعالى وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ كقوله وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [الحج: 5] افلا تعقلون أنكم كلما دخلتم في السن ضعفتم وقد عمرتم ما تمكنتم فيه من النظر والعمل، ومن لم يأت بالواجب في زمان الإمكان لم يأت به في زمن الأزمان. وعن بعضهم:
طوى العصران ما نشراه مني ... فأبلى جدّتي نشر وطيّ
أراني كل يوم في انتقاص ... ولا يبقى على النقصان شيّ
وقال آخر:
أرى الأيام تتركني وتمضي ... وأوشك أنها تبقى وأمضي
علامة ذاك شيب قد علاني ... وضعف عند إبرامي ونقضي
وما كذب الذي قد قال قبلي ... إذا ما مر يوم مر بعضي
وحيث بين أصل الوحدانية والحشر في هذه السورة مرات أقربها قوله وَأَنِ اعْبُدُونِي وقوله هذِهِ جَهَنَّمُ إلى آخرها عاد إلى أصل الرسالة بقوله وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وإنما لم يقل وما علمناه السحر ولا الكهانة مع أنهم ادّعوا أنه ساحر كاهن لأنه ما تحدّاهم إلا بالقرآن. وإنما نسبوه إلى السحر عند إظهار فعل خارق كشق القمر وحنين الجذع إليه، ونسبوه إلى الكهانة عند إخباره عن الغيوب وهو نوع خاص من الكلام من غير اعتبار الفصاحة اللفظية والمعنوية. قال جار الله معنى قوله وَما يَنْبَغِي لَهُ أنه لا يتأتى له ولا يتسهل كما جعلناه أميا لا يهتدي للخط.
وروي عن الخليل أن الشعر كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كثير من الكلام ولكن كان لا يتأتى له. قال: وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب وقال:
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت كلام اتفاقي من غير قصد وتعمد، والشعر كلام موزون مقفى مع تعمد.
وقيل: أراد
(5/544)
نفي الشعر عن القرآن فقال وَما عَلَّمْناهُ بتعليم القرآن الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي للقرآن أن يكون شعرا وأنا أقول: الأحسن أن يقال: ما ينبغي له معناه أنه لا يليق بجلالة منصبه لأن الشعر مادته كلام يفيد تأثيرا دون التصديق وهو التخييل، وأما الوزن والقافية فهما كالصورة ويفيدانه ترويجا وتزيينا فجلّ رتبته من التخييل الذي هو قريب من المغالطة، ولهذا لم يؤمر بأن يدعو بهما إلى سبيل ربه. وإنما أمر بأن يدعو إلى الدين بسائر أصناف الكلام حيث قيل ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:
125] ونظيره قوله هاهنا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ أي موعظة وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ذو البيان أو الإبانة وأنه يشمل البرهان والجدل. أما البرهان فظاهر، وأما الجدل فلأن النتيجة إذا كانت في نفسها حقة. فالرجل العالم المحق ليس عليه إلا إفحام الخصم الألدّ وإلزامه بمقدّمات مسلمة أو مشهورة، ومما يؤيد ما ذكرنا ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقرأ قول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد
هكذا: ويأتيك من لم تزوّد بالأخبار. ولا ريب أنه كان يتأتى له رواية الشعر إن لم يتأت له قرضه، وما ذاك إلا للتنزه عما يشبه ما يشين رتبته ولا يوافق مغزاه.
ويروى أنه صلى الله عليه وسلم حين قال:
هل أنت إلا إصبع دميت انقطع الوحي أياما حتى قالت الكفار إن محمدا قد ودعه ربه وقلاه،
وهذا أحد أسباب نزول تلك الآية. ولمثل ما قلنا لم يرو عنه كلام منظوم وإن كان حقا وصدقا كالذي قاله بعض الشعراء في التوحيد والحقائق. وقد أشار إلى نحو ذلك
بقوله صلى الله عليه وسلم «إن من الشعر لحكمة» «1»
وقد مر في تفسير قوله سبحانه في آخر الشعراء إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ [الآية: 227] وذلك أن الشاعر يقصد لفظا فيوافقه معنى حكمي. وبالجملة لا يخلو الشعر عن تكلف ما، وقد يدعوه النظم إلى تغيير المعنى لمراعاة اللفظ، فأين الشارع من الشاعر؟ ثم بين كون القرآن منزلا على هذا الوجه بقوله لتنذر يا محمد أو لينذر هو أي القرآن مَنْ كانَ حَيًّا عاقلا متأملا. ويجوز أن تكون الحياة عبارة عن الإيمان، أو المراد بالحي من يؤل حاله إلى الإيمان. أو المراد بالإنذار الانتفاع به مثل هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ [يس: 11] وقوله وَيَحِقَّ الْقَوْلُ كقوله في أول
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 90. الترمذي في كتاب الأدب باب 69. ابن ماجة في كتاب الأدب باب 41. الدارمي في كتاب الاستئذان باب 69. أحمد في مسنده (1/ 269) (3/ 456) (5/ 125) .
(5/545)
السورة لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ وقد مر وهذا كلام مطابق من حيث المعنى كأنه قال: لتنذر من كان حيا ويحق القول على من كان ميتا لأن الكافر في عداد الموتى. ثم عاد إلى تقرير دلائل الوحدانية مع تعداد النعم فقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أي من جملة ما عملته أَيْدِينا فاستعار عمل الأيدي لتفرده بالأحداث والإيجاد مع اشتمال المحدث والموجد على غرائب وعجائب حتى قال فيه أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية: 11] وقوله فَهُمْ لَها مالِكُونَ إشارة إلى إتمام الإنعام في خلق الأنعام. وقوله وَذَلَّلْناها لَهُمْ إشارة إلى ما فوق التمام فقد يملك الشيء ولا يكون مسخرا، ومن الذي يقدر على تذليل الإبل لولا أمر الله بتسخيرها حتى قال بعضهم:
يصرفه الصبيّ بكل وجه ... ويحبسه على الخسف الجرير
وتضربه الوليدة بالهراوي ... فلا غير لديه ولا نكير
والجرير حبل يجعل للبعير بمنزلة العذار للدابة. ومن زعم أن الملك بمعنى الضبط من قوله: لا أملك رأس البعير أن يفر. يلزمه التكرار. ثم فصل بعض منافعها بقوله فَمِنْها رَكُوبُهُمْ والركوب والركوبة ما يركب كالحلوب والحلوبة، والتاء للمبالغة. وقيل: للوحدة والمنافع كالجلود والأوبار والأصواف، ذكرها بالاسم العام لما في تفصيلها من الطول.
والمشارب جمع مشرب وهو موضع الشرب أي الأواني المتخذة من جلودها، أو هو الشرب كالألبان والاسمان.
وحين وبخهم على عدم الشكر بقوله أَفَلا يَشْكُرُونَ زاد في توبيخهم بقوله وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أي وضعوا الشرك مكان الشكر فلا أظلم منهم. وفي قوله لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ إلى قوله مُحْضَرُونَ وجهان: أحدهما أنهم طمعوا في أن يتقوّوا بهم ويعتضدوا بمكانهم والأمر عكس ذلك حيث هم جند لآلهتهم معدّون يخدمونهم ويذبون عنهم من غير نفع في آلهتهم. وثانيهما اتخذوهم لينصروهم عند الله بالشفاعة، والأمر على خلاف ذلك حيث إن آلهتهم يوم القيامة جند محضرون لعذابهم لأنهم يجعلون وقودا للنار.
ووجه ثالث وهو أن يكون قوله وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ تأكيدا لعدم الاستطاعة فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف بخلاف من لم يتأهب ولم يجمع أنصاره. ثم عقب دليل التوحيد بالرسالة مسليا رسوله بقوله فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ باتخاذ الشريك لله أو بالطعن في الرسالة أو بالإيذاء والتهديد. ثم علل عدم الحزن بقوله إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من النفاق وسائر العقائد الفاسدة وَما يُعْلِنُونَ من الشرك وسائر الأفعال القبيحة، أو يسرون من المعرفة بالله ويعلنون من العناد. وجوّز جار الله فتح «أن» على تقدير
(5/546)
لام التعليل، بل جوز أن تكون المفتوحة بدلا من قَوْلُهُمْ والمكسورة مفعولا ل قَوْلُهُمْ ويكون نهي الرسول عن ذلك كنهيه عن الشرك في قوله وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 14] ثم أردف الرسالة بالحشر مع أن فيه دليلا آخر على التوحيد مأخوذا من الأنفس، فإن الأول كان مأخوذا من الآفاق. وفي قوله فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وجهان: أحدهما فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا رجل مميز منطيق معرب عما في ضميره كقوله أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف: 18] فقوله مِنْ نُطْفَةٍ إشارة إلى أدنى ما كان عليه الإنسان وقوله فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ إشارة إلى أعلى ما حصل عليه الآن، لأن أعلى أحوال الناطق أن يقدر على المخاصمة والذب عن نفسه بالكلام الفصيح. وثانيهما
قول كثير من المفسرين إنها نزلت في جماعة من كفار قريش تكلموا في البعث فقال لهم أبيّ بن خلف الجمحي: واللات والعزى لأصيرن إلى محمد ولأخصمنه.
وأخذ عظما باليا فجعل يفتته بيده ويقول: يا محمد أترى الله يحيي هذا بعد ما قد رمّ؟
فقال صلى الله عليه وسلم: نعم ويبعثك ويدخلك جهنم.
قال أهل البيان: سمى قولهم مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ مثلا لأن إنكار قدرة الله تعالى على إحياء الموتى قصة عجيبة. وفيه تشبيه الخالق القادر العليم بالمخلوق العاجز عن خلق أدنى بعوضة الجاهل بما يجري عليه من الأحوال. والرميم اسم لما بلي من العظام كالرمة والرفات ولا يبعد أن يكون صفة. ولم تؤنث بتقدير موصوف محذوف أي شيء رميم، أو لأنه بمعنى فاعل كقوله إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ [الأعراف: 56] وفي الآية دليل ظاهر على أن عظام الميتة نجسة لأن الموت والحياة يتعاقبان عليها. وقال أصحاب أبي حنيفة: إنها طاهرة وإن الحياة لا تحل فيها فلا يتصور موتها، وكذا الشعر والعصب. وتأوّلوا الآية بأن المراد بإحياء العظام ردّها على ما كانت عليه غضة طرية في بدن حيّ حساس. واعلم أن المنكرين للحشر منهم من اكتفى في إنكاره بمجرد الاستبعاد كقوله مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ فأزال استبعادهم بتصوير الخلق الأول، فإن الذي قدر على جعل النطفة المتشابهة الأجزاء إنسانا مختلف الأبعاض والأعضاء، مودعا فيه الفهم والعقل وسائر أسباب المزية والفضل، فهو على إعادتها أقدر.
ومنهم من ذكر شبهة وهي كقولهم: إن الإنسان بعد العدم لم يبق شيئا فكيف يصح إعادة المعدوم عقلا؟ أو كقولهم: إن الذي تفرقت أجزاؤه في أبدان السباع وجدران الرباع كيف يجمع ويعاد؟ أو كقولهم إن إنسانا إذا نشأ مغتذيا بلحم إنسان آخر فلا بد أن لا يبقى للآكل وللمأكول جزء يمكن إعادته. فأجاب الله تعالى عن الأول بقوله يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني كما خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا فإنه يعيده وإن لم يكن شيئا. وعن الباقيتين بقوله وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ فيجمع الأجزاء المتفرقة في البقاع والسباع وهكذا
(5/547)
يعلم الأصلي من الفضلي فيجمع الأجزاء الأصلية للآكل والمأكول. ثم شبه خلق الإنسان بل الحيوان من قبل إيداع الحرارة الغريزية التي بها قوام الحياة في جوهر رطب طريّ بإنشاء الشجر الأخضر الذي تنقدح منه النار. قالت العرب: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار أي استكثر واستغزر يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ- وهو ذكر على العفار- وهي أنثى- فتنقدح النار بإذن الله عز وجل.
وعن ابن عباس: ليس من شجرة إلا وفيها نار إلا العناب قالوا: ولذلك يتخذ منه كذينقات القصارين. قلت: ويشبه أن يكون كل شجرة في غاية الصلابة هكذا إلا أن يكون له سبب خاص به كما يروى أنه معجزة لموسى عليه السلام فإنه قد رأى النار فيها فلا ينبغي لغيره أن يراها. ثم أكد قدرته الكاملة على خلق الإنسان إبداء وإعادة بتذكر خلق السموات والأرض الذي هو أكبر من خلق الناس. ثم أثبت ما نفاه مستفهما للتقرير بقوله بَلى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الكثير الخلق الكامل فيه الْعَلِيمُ بكل جوهر وعرض وما يطلق عليه اسم الشيئية. ثم بين أن إيجاده ليس متوقفا إلا على تعلق الإرادة بالمقدور وقد مر تقريره في أوائل «البقرة» وغيرها. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن المعدوم شيء. وأجيب بأن الآية دلت على أنه حين تعلق الإرادة به شيء، أما إنه قبل ذلك شيء فكلا. ثم ختم السورة بتقرير المبدأ والمعاد على الإجمال. فقوله بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ إشارة إلى المبدأ.
وقوله وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إشارة إلى المعاد وإذا تقرر الطرفان فما بينهما الوسط المشتمل على التكاليف والرسالة، فهذه الآية كالنتيجة للمقدمات السابقة في السورة. عن ابن عباس:
كنت لا أعلم ما روي في فضائل يس وقراءتها كيف خصت بذلك فإذا أنه لهذه الآية.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ان لكل شيء قلبا وقلب القرآن يس» «1»
فذكر الإمام الغزالي رضي الله عنه أن الإيمان صحته بالاعتراف بالحشر وأنه مقرر في هذه السورة بأبلغ وجه فلذلك سماها قلب القرآن. وقال غيره: إن الأصول الثلاثة التي يتعلق بها نصيب الجنان وهي التوحيد والرسالة والحشر مكررة في هذه السورة. وليس فيها شيء من بيان وظيفة اللسان ولا العمل بالأركان. فلما كان أعمال القلب لا غير سماه قلبا، ولهذا ورد في الأخبار أنه ينبغي أن تقرأ على الميت حالة النزع وذلك ليزداد بها قوة قلبه، فإن الأعضاء الظاهرة وقتئذ ساقطة المنة، والقلب مقبل على الله معرض عما سواه ولنا فيه وجه هو بالتأويل أشبه فلنذكره هناك.
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 7. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 21.
(5/548)
التأويل:
اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ من الدنيا وشهواتها وَما خَلْفَكُمْ من نعيم الجنة ولذاتها لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بمشاهدة الجمال وأنوار الكمال وَنُفِخَ فِي الصُّورِ إشارة إلى نفخ إسرافيل المحبة في صور القلب، فإذا السر والروح والخفي من أجداث أوصاف البشرية إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ يرجعون بعضها بالسير وبعضها بالطيران إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ شغلهم الله بالمفاكهة عن المشاهدة كما قال بعض الصوفية: والناس يخرجون من مسجد الجامع هؤلاء حشو الجنة. وللمجالسة أقوام آخرون وهم الفارغون من الالتفات إلى الكونين. قال الله تعالى فَإِذا فَرَغْتَ [الشرح: 7] أي من تعلقات الكونين فَانْصَبْ [الشرح: 7] لطلب الوصال. ويحكى أن الآية قرئت في مجلس الشبلي رضي الله عنه فشهق شهقة وغاب، فلما أفاق قال: مساكين لو علموا أنهم عم شغلوا لهلكوا. ويحتمل أن يقال:
إنهم اليوم أي في الدنيا في شغل بأنواع الطاعات والعبادات من طلب الحق والشوق إلى لقائه كما يحكى عن يحيى بن معاذ أنه قال: رأيت رب العزة في منامي فقال لي: ابن معاذ، كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني. ويمكن أن يقال: إنهم اليوم في الدنيا في شغل بالطاعات والرضا بما قسم الله عن طلب اللذات والفوائد وارتكاب المحرمات والزوائد. أو يقال: إنه خطاب للعصاة فإن أهل الله هم المستغرقون في بحار عظمة الله، وأهل الجنة مشتغلون باستيفاء اللذات وليس للعصاة إلا رحمتي وكرمي كما قال يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ [الزمر: 53] وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ
في بعض الاخبار المروية أن عبدا لتشهد عليه أعضاؤه بالذلة فتتطاير شعرة من جفن عينه فتستأذن بالشهادة له فيقول الحق تعالى: تكلمي يا شعرة جفن عين عبدي واحتجي عن عبدي. فتشهد له بالبكاء من خوفه فيغفر له وينادي مناد: هذا عتيق الله بشعرة.
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ إن السالك إذا عمر صار في آخر الأمر إلى الفناء في الله حتى لا يبقى منه ما يستند الفعل إليه. وفي قوله وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ إشارة إلى أن العلوم والصنائع كلها من الله تعالى وبتعليمه وإلهامه. مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ وهو شجرة البشرية نار المحبة تُوقِدُونَ مصباح قلوبكم. وإنما
قال النبي صلى الله عليه وسلم «إن قلب القرآن يس»
لأن ذكره صلى الله عليه وسلم رمز إليه في أول السورة وفي آخرها. أما الأول فقد مر في تفسير لفظ يس وأما الثاني فلأن قوله فَسُبْحانَ إلى آخره يدل على المبدأ والمعاد تصريحا، وعلى الرسالة ضمنا، ولا ريب أن القلب خلاصة كل ذي قلب، وإنه صلى الله عليه وسلم كان خلاصة المخلوقات وكان خلقه القرآن الذي نزل على قلبه، وكأن فاتحة السورة وخاتمتها مبنية على ذكره منبئة عن سره كالقلب في جوف صاحبه فلأجل هذه المناسبات أطلق على يس أنه قلب القرآن والله ورسوله أعلم بأسرار كلامه.
(5/549)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
(سورة والصافات)
(مكية حروفها ثلاثة آلاف وثمانمائة وستة وعشرون كلمها ثمانمائة وستون آياتها مائة واثنان وثمانون)
[سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 82]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9)
إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14)
وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24)
ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29)
وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34)
إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44)
يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)
فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)
إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64)
طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69)
فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
(5/550)
القراآت:
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا وما بعدهما مدغما: حمزة وأبو عمرو غير عباس بِزِينَةٍ منونا: حمزة وعاصم غير المفضل الكواكب بالنصب: أبو بكر وحماد. الباقون: بالجر لا يَسَّمَّعُونَ بتشديد السين والميم وأصله «يتسمعون» : حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون: بسكون السين وتخفيف الميم. بَلْ عَجِبْتَ بالضم: حمزة وعلي وخلف. الآخرون: بالفتح على الخطاب آيذا بالمد والياء إنا بهمزة واحدة مكسورة: يزيد وقالون وزيد. الباقون: مثل التي في «الرعد» وأما الثانية فمثل التي في «الرعد» أَوَآباؤُنَا مثل أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى [الأعراف: 98] وكذلك في «الواقعة» لا تَناصَرُونَ بالتشديد البزي وابن فليح أَإِنَّا أَإِنَّكَ أَإِفْكاً مثل أَإِنَّكُمْ في «الأنعام» يُنْزَفُونَ بضم الياء وكسر الزاي: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الآخرون: بفتح الزاي لترديني بالياء في الحالين: يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل.
الوقوف:
صَفًّا هـ لا زَجْراً هـ لا لَواحِدٌ هـ ط الْمَشارِقِ هـ ط الْكَواكِبِ هـ لا مارِدٍ هـ ج لاحتمال ما بعده الوصف والاستئناف قاله السجاوندي. وعليه بحث
(5/551)
يجيء في التفسير واصِبٌ هـ لا ثاقِبٌ هـ ج خَلَقْنا ط لازِبٍ هـ وَيَسْخَرُونَ هـ ص لا يَذْكُرُونَ هـ ص يَسْتَسْخِرُونَ هـ ص مُبِينٌ هـ ج لَمَبْعُوثُونَ هـ لا الْأَوَّلُونَ هـ ط داخِرُونَ هـ يَنْظُرُونَ هـ الدِّينِ هـ تُكَذِّبُونَ هـ يَعْبُدُونَ هـ لا الْجَحِيمِ هـ مَسْؤُلُونَ هـ لا لأن المسئول عنه قوله ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ هـ مُسْتَسْلِمُونَ هـ يَتَساءَلُونَ هـ الْيَمِينِ هـ مُؤْمِنِينَ هـ ج سُلْطانٍ ج للعدول مع اتفاق الجملتين طاغِينَ هـ لَذائِقُونَ هـ غاوِينَ هـ مُشْتَرِكُونَ هـ بِالْمُجْرِمِينَ هـ يَسْتَكْبِرُونَ هـ مَجْنُونٍ هـ ط الْمُرْسَلِينَ هـ الْأَلِيمِ هـ ج تَعْمَلُونَ هـ لا الْمُخْلَصِينَ هـ مَعْلُومٌ هـ فَواكِهُ ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف مُكْرَمُونَ هـ لا النَّعِيمِ هـ لا مُتَقابِلِينَ ج مَعِينٍ هـ لا لِلشَّارِبِينَ هـ ج لأن ما بعده يصلح وصفا واستئنافا يُنْزَفُونَ هـ عِينٌ ط مَكْنُونٌ ج يَتَساءَلُونَ هـ قَرِينٌ هـ الْمُصَدِّقِينَ هـ لَمَدِينُونَ هـ مُطَّلِعُونَ هـ الْجَحِيمِ هـ لَتُرْدِينِ هـ الْمُحْضَرِينَ هـ بِمَيِّتِينَ هـ لا بِمُعَذَّبِينَ هـ الْعَظِيمُ هـ الْعامِلُونَ هـ الزَّقُّومِ هـ لِلظَّالِمِينَ هـ الْجَحِيمِ هـ لا لأن ما بعده صفة لشجرة الشَّياطِينِ هـ الْبُطُونَ هـ لا لأن «ثم» لترتيب الأخبار حَمِيمٍ هـ الْجَحِيمِ هـ ج ضالِّينَ هـ لا للعطف مع اتصال المعنى يُهْرَعُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ مُنْذِرِينَ هـ الْمُنْذَرِينَ هـ لا الْمُخْلَصِينَ هـ الْمُجِيبُونَ هـ ز الْعَظِيمِ هـ ز الْباقِينَ هـ ز فِي الْآخِرِينَ هـ لا لأن ما بعده مفعول تركنا على سبيل الحكاية الْعالَمِينَ هـ الْمُحْسِنِينَ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ الْآخَرِينَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه بدأ في أوّل هذه السورة بالتوحيد كما ختم السورة المتقدمة بذكر المعاد وأقسم على المطلوب بثلاثة أشياء، أما الحكمة في القسم فكما مرّ في أول سورة يس، وأما الإقسام بغير الله وصفاته فلا نسلم أنه لا يجوز لله سبحانه، أو هو على عادة العرب، أو المراد تعظيم هذه الأشياء وتشريفها، أو المراد رب هذه الأشياء فحذف المضاف. قال الواحدي: إدغام التاء في الصاد حسن وكذا التاء في الزاي وفي الذال لتقارب مخارجها، ألا ترى أن التاء والصاد هما من طرف اللسان وأصول الثنايا ويجتمعان في الهمس، والمدغم فيه يزيد على المدغم في الإطباق والصفير وإدغام الأنقص في الأزيد حسن؟ وأيضا الزاي مجهورة وفيها زيادة صفير. ثم المقسم بها في الآيات إما أن تكون صفات ثلاثا لموصوف واحد أو صفات لموصوفات متباينة. وأما التقدير الأوّل ففيه وجوه الأوّل: أنها صفة الملائكة لأنهم صفوف في السماء كصفوف المصلين في الأرض، أو أنهم يصفون أجنحتهم في الهواء واقفين منتظرين لأمر الله تعالى. والصف ترتيب الشيء على
(5/552)
نسق. الفاعل صاف، والجماعة صافة، والصافات جمع الجمع ولولا ذلك لقيل والصافين.
قال الحكيم: يشبه أن يكون معنى كونهم صفوفا أن لكل منهم مرتبة معينة في الشرف أو بالغلبة. والزجر سوق السحاب. قال ابن عباس: يعني الملائكة الموكلين بالسحاب. وقال آخرون: أراد زجرهم الناس عن المعاصي بالخواطر والإلهامات، أو بدفع تعرض الشياطين عن بني آدم. والتاليات الذين يتلون كتاب الله على الأنبياء. والحاصل أن كونهم صافين إشارة إلى استكمال جواهر الملائكة في ذواتها أعني وقوفهم في مواقف العبودية والطاعة، وكونهم زاجرين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إزالة ما لا ينبغي من جواهر الأرواح البشرية، وكونهم تالين إشارة إلى كيفية تأثيراتها في إفاضة الجلايا القدسية والأنوار الإلهية على الأرواح الإنسانية. الوجه الثاني أنها صفات النفوس الإنسانية المقبلة على عبودية الله وعبادته وهم ملائكة الأرض، أقسم بنفوس المصلين بالجماعات الزاجرين أنفسهم عن الشهوات أو عن إلقاء وساوس الشيطان في قلوبهم أثناء الصلوات بتقديم الاستعاذة أو برفع الأصوات، التالين للقرآن في الصلاة وغيرها. أو أقسم بنفوس العلماء الصافات لأجل الدعوة إلى دين الله الزاجرات عن الشبهات والمنهيات بالمواعظ والنصائح الدارسات شرائع الله وكتبه لوجه الله، أو أقسم بنفوس المجاهدين في سبيل الله كقوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا
[الصف: 3] والزجرة والصيحة سواء. والمراد رفع الصوت بزجر الخيل. وأما التاليات فذلك أنهم يشتغلون وقت المحاربة بقراءة القرآن وذكر الله.
يحكى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان يخرج من الصف وسيفه ينطف دما فإذا رقى ربوة يأتي بالخطبة الغراء.
الوجه الثالث أنها صفات آيات القرآن وذلك أنها أنواع مختلفة بعضها دلائل التوحيد، وبعضها دلائل العلم والقدرة، وبعضها دلائل النبوة، وبعضها دلائل المعاد، وبعضها بيان التكاليف والأحكام، وبعضها تعليم الأخلاق الفاضلة، وكلها مترتبة ترتيبا لا يتغير ولا يتبدل فكأنها أجرام واقفة في صفوف معينة، ولا ريب أنها تزجر المكلفين عن المناهي والمنكرات. وأما نسبة التلاوة إليهن فمجاز كما يقال: شعر شاعر. والفاء في هذه الوجوه لترتب الصفات في الفضل فالفضل للصف ثم للزجر ثم للتلاوة أو بالعكس فلكل وجه. ويحتمل وإن لم يذكره جار الله أن تكون لترتيب معانيها في الوجود كقوله:
الصابح فالغانم فالآيب كأنه قال: الذي صبح فغنم فآب. مثاله المصلون يقفون أوّلا صفوفا ثم يزجرون الوساوس عنهم بالاستعاذة ثم يشتغلون بالقراءة.
(5/553)
وأما التقدير الثاني وهو أن يكون المراد بهذه الأمور الثلاثة موصوفات متغايرة فالصافات الطير من قوله وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور: 41] والزاجرات كل ما زجر عن معاصي الله، والتاليات كل من تلا كتاب الله. أو الصافات طائفة من الملائكة أو من الأشخاص الإنسانية، وكل من الزاجرات والتاليات طائفة أخرى. وقيل: الصافات العالم الجسماني المنضود كرة فوق كرة من الأرض إلى الفلك الأعظم، والزاجرات الأرواح المدبرة للأجسام بالتحريك والتصريف، والتاليات الأرواح المستغرقة في بحار معرفة الله تعالى والثناء عليه. والفاء على هذه المعاني لترتب الموصوفات في الفضل. ثم إنه سبحانه لم يقتصر في إثبات التوحيد على الحلف ولكنه عقبه بالدليل الباهر فقال رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ فلكل كوكب مشرق ومغرب بل للشمس ولسائر السيارات وللثوابت في كل يوم مشرق آخر بحسب تباعدها عن منطقة المعدل وتقاربها منها.
وإنما اقتصر على ذكر المشارق لشرفها ولدلالتها على البغارب كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] . ثم بين أنه جعل الكواكب بحيث يشاهدها الناس من السماء الدنيا وهي تأنيث الأدنى لمنفعتين: الأولى تحصيل الزينة، والثانية الحفظ من الشيطان. والزينة مصدر كالنسبة أو اسم لما يزان به الشيء كالليقة لما تلاق به الدواة. ثم قرأ بالإضافة فلها وجوه: أن يكون مصدرا مضافا إلى الفاعل أي بأن زانتها الكواكب وإلى المفعول أي بأن زان الله تعالى الكواكب وحسنها في أنفسها، فإن النور والضوء أحسن الصفات وأكملها، وكذا أشكالها المختلفة كشكل الثريا وبنات النعش والجوزاء وسائر الصور المتوهمة من الخطوط التي تنظم طائفة منها، وقد ترتقي إلى نيف وأربعين منها صور البروج الاثني عشر.
وبالجملة إشراق الجواهر الزواهر وتلألؤها على بسيط أزرق بنظام مخصوص مما يروق الناظر، ويجوز أن يقع الْكَواكِبِ بيانا للزينة وهي اسم لأن الزينة مبهمة في الكواكب وغيرها مما يزان به فيكون كخاتم فضة. ويجوز أن يراد بالزينة ما زينت به الكواكب كما روي عن ابن عباس أنه فسر الزينة بالضوء. ومن قرأ بتنوين بِزِينَةٍ وجر الْكَواكِبِ فعلى الإبدال، ومن قرأ بتنوين بِزِينَةٍ ونصب الْكَواكِبِ فعلى أنه بدل من محل بِزِينَةٍ أو من السماء، أو على أن المراد بتزيينها الكواكب كما في أحد وجوه الإضافة. قوله وَحِفْظاً فيه وجوه أحدها: أنه محمول على المعنى والتقدير: إنا خلقنا الكواكب زينة للسماء وحفظا من الشياطين. وثانيها أن يقدر مثل الفعل المتقدم للتعليل كأنه قيل: وحفظا من كل شيطان زيناها بالكواكب. وثالثها قال المبرد: إذا ذكرت فعلا ثم عطفت عليه مصدر فعل آخر نصبت المصدر لأنه قد دل على فعله بما تقدم. تقول: افعل ذلك وكرامة أي وأكرمك كرامة، وذلك لما علم أن الأسماء لا تعطف على الأفعال فالتقدير: وحفظناها
(5/554)
حفظا. قال المفسرون: الشياطين كانوا يصعدون إلى قرب السماء فربما سمعوا كلام الملائكة وعرفوا به ما سيكون من الغيوب فأخبروا صنعاءهم، فجعل الله الكواكب في زمن محمد صلى الله عليه وسلم بحيث تحرقهم وتحفظ أهل السماء من إصغائهم. قال الحكيم: ليس المراد بالكواكب الحافظة أنفس الكواكب المركوزة في الأفلاك وإلا لوقع نقصان ظاهر في أعدادها، بل المراد ما يضاهيها من الشهب الحادثة عند كرة النار من الأبخرة المرتفعة، وقد مر تحقيق ذلك في أول سورة الحجر. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: إن الشياطين لهم حذق كامل في استخراج الصنائع الدقيقة فإذا عرفوا هذه الحالة بالتجربة فلم لا يمنعون منه. وأيضا إنهم مخلوقون من النار والنار كيف تؤثر في النار؟ وأيضا مقر الملائكة السطح الظاهر من الفلك الأعلى وإنهم لا يصعدون إلا إلى قريب من الفلك الأدنى فكيف يسمعون كلام الملائكة؟ والجواب أنا لا نسلم حذقهم في كل الأمور ولهذا جاء في وجوه تسخيرهم ما جاء على أن موضع الاستراق والاحتراق غير متعين، ووقوع هذه الحالة أيضا كالنادر.
فلعل المسترق يكون غير واقف عليه، والنيران بعضها أقوى من البعض وليس الشيطان نارا صرفا، ولكن الناري غالب عليه. ولا نسلم أن الملائكة لا ينزلون إلى الفلك الأخير بإذن الله. والمارد الخارج من الطاعة وقد مر اشتقاقه في قوله مردوا على النفاق.
والضمير في قوله لا يَسَّمَّعُونَ لكل شيطان لأنه في معنى الجمع. والتسمع تكلف السماع سمع أو لم يسمع وقد ضمن معنى الإصغاء فلذلك عدّي بإلى. وقيل: معنى سمعت إليه صرفت إلى جهته سمعي. قال جار الله: هذه الجملة لا يصح أن تكون صفة لأن الحفظ من شياطين غير سامعين أو مستمعين لا معنى له، ولا يصح أن يكون استئنافا لأن سائلا لو سأل: لم يحفظ من الشياطين؟ فأجيب بأنهم لا يسمعون. لم يستقم فبقي أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ به لاقتصاص حال المسترقة للسمع. قلت: لو كان صفة باعتبار ما يؤول إليه حالهم جاز، وكذا إن كان مستأنفا كأنه قيل: لم يحفظ فأجيب لأنهم يؤلون إلى كذا. ومن هنا زعم بعضهم أن أصله لئلا يسمعوا لهم فحذفت اللام ثم «أن» وأهدر عملها كما في قول القائل:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى ورد عليه في الكشاف أن حذف اللام في قولك «جئتك أن تكرمني» وحذف «أن» في قول الشاعر جائز، فأما اجتماعهما فمنكر من المنكرات. قلت: إن القرآن حجة على غيره مع أن قول الشاعر أيضا لا يصح إلا بتقدير اللام أو «من» مع «أن» . والملأ الأعلى الملائكة
(5/555)
لأنهم يسكنون السموات. وعن ابن عباس: أراد أشراف الملائكة. وعنه: الكتبة من الملائكة. والقذف الرمي بحجر تقول: قذفته بحجر أي رميت إليه حجرا. وقوله مِنْ كُلِّ جانِبٍ أي مرة من هذا الجانب ومرة من هذا الجانب. وقيل: من كل الجوانب. دُحُوراً أي طردا مع صغار مصدر من غير لفظ الفعل، لأن القذف والطرد متغايران كأنه قيل:
يقذفون قذفا أو يدحرون دحورا. ويجوز أن يكون مفعولا له أي لأجل الدحور أو مصدرا في موضع الحال أي مدحورين كقوله مَذْمُوماً مَدْحُوراً [الإسراء: 18] وَلَهُمْ أي للشياطين عَذابٌ واصِبٌ دائم وقد مر في النحل في قوله وَلَهُ الدِّينُ واصِباً [النحل:
52] يعني أنهم في الدنيا مرجومون بالشهب ولهم في الآخرة نوع من العذاب غير منقطع إِلَّا مَنْ خَطِفَ في محل الرفع بدلا من الواو في لا يَسَّمَّعُونَ أي لا يسمع إلا الشيطان الذي اختلس الكلمة مسارقة. وقيل: وثب وثبة. وقيل: الاستثناء منقطع خبره فَأَتْبَعَهُ أي أتبعه ورمى في أثره شِهابٌ ثاقِبٌ مضيء أو ماض فإذا قذفوا احترقوا. وقيل: تصيبهم آفة فلا يعودون. وقيل: لا يقتلون بالشهب بل يحس بذلك فلا يرجع ولهذا لا يمتنع غيره من ذلك. وقيل: يصيبهم مرة ويسلمون مرة فصاروا في ذلك كراكبي السفينة للتجارة. وحين بين الوحدانية ودلائلها في أول هذه السورة أراد أن يذكر ما يدل على الحشر والكلام فيه من طريقين: الأوّل أن يقال: قدر على الأصعب فيقدر على الأسهل بالأولى، الثاني قدر في أول الأمر فيقدر في الحالة الثانية. أما الطريق الأوّل فأشار إليه بقوله فَاسْتَفْتِهِمْ أي سل قومك أو صاحبهم وأراد بمن خلقنا ما ذكرنا من الملائكة والسموات والأرض والمشارق والكواكب والشهب والشياطين، وغلب أولي العقل على غيرهم. وقيل: أراد عادا وثمود ومن قبلهم من الأمم الخالية. والقول الأول أقوى بدليل فاء التعقيب ولإطلاق قوله خَلَقْنا اكتفاء ببيان ما تقدمه كأنه قال: خلقنا كذا وكذا من عجائب الخلق، فاستخبرهم أهم أشد خلقا أم هذه الخلائق، ومن هان عليه هذه كان خلق البشر بل إعادته عليه أهون.
وأما الطريق الثاني فإليه الإشارة بقوله إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ أي لازم والباء بدل من الميم عند أكثرهم ولهذا قال ابن عباس: هو الملتصق من الطين الحر. وقال مجاهد والضحاك: هو المنتن. ووجه الاستدلال أن هذا الجسم لو لم يكن قابلا للحياة لم يقبلها من أول الأمر، وإذا قبلها أوّلا فلا يبقى ريب في قبولها ثانيا، وقادرية الله تعالى باقية على حالها فالإعادة أمر ممكن، وقد أخبر الصادق عن وقوعها فيجب وقوعها. وفي هذا الطريق الثاني تقوية للطريق الأوّل، فإن خلقهم من الطين شهادة عليهم بالضعف والرخاوة. ثم بين أنهم مع قيام الحجج الضرورية عليهم مصرون على الإنكار فقال بَلْ عَجِبْتَ من قرأ بفتح التاء فظاهر أي عجبت يا محمد من تكذيبهم وإنكارهم البعث وَهم يَسْخَرُونَ من
(5/556)
تعجبك، أو عجبت من القرآن حين أعطيته ويسخر أهل الكفر منه. ومن قرأ بالضم فأورد عليه أن التعجب على الله غير جائز لأنه روعة تعتري الشخص عند استعظام الشيء. وقيل:
هذه حالة تحصل عند الجهل بصفة الشيء. وأجيب بأن معناه: قل يا محمد بل عجبت.
سلمنا لكن العجب هو أن يرى الإنسان ما ينكره الكافر والإنكار من الله تعالى غير منكر.
سلمنا لكن هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات كالمكر والاستهزاء والمعنى:
بلغ من عظم آياتي وكثرة خلائقي أني استعظمتها فكيف بعبادي وهؤلاء بجهلهم وعنادهم يسخرون منها، أو استعظمت إنكارهم البعث ممن هذه أفعاله وهم يسخرون ممن يصف الله تعالى بالقدرة عليه نظيره الآية وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد: 5] . عند من يرى أن العجب من الله.
وقد جاء في الحديث «يعجب ربك من الشاب ليس له صبوة» .
وقال أيضا: «عجب ربكم من ألكم وقنوطكم وسرعة إجابته» .
والألّ التضرع. ثم حكى عنهم أنه كما أن دأبهم السخرية عند إيراد البراهين فكذلك دأبهم أنهم إذا وعظوا لا يتعظون.
وَإِذا رَأَوْا آيَةً بينة كانشقاق القمر وغيره من المعجزات يَسْتَسْخِرُونَ يبالغون في السخرية أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها ونسبوا ما رأوه إلى السحر. فالحاصل أنه لا تفيد معهم البراهين الضرورية ولا المقدمات الوعظية ولا المعجزات الدالة على صدق إخبارك بالبعث. قوله أَوَآباؤُنَا من قرأ بسكون الواو فمعطوف على محل اسم «أن» ، ومن قرأ بفتحها فعليه، أو على الضمير في لَمَبْعُوثُونَ وحسن الفصل بهمزة الاستفهام والمعنى:
أيبعث أيضا آباؤنا؟ يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد. وعلى الأوّل أرادوا إنكار أن يبعث واحد منهم أو من آبائهم فأرغمهم الله سبحانه بقوله قُلْ نَعَمْ تبعثون وَأَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون أذلاء. وإذا كان كذلك فَإِنَّما هِيَ أي البعثة أو هو مبهم يوضحه خبره زَجْرَةٌ واحدة يعني صيحة النفخة الثانية فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ أراد أنهم أحياء بصراء أو أراد أنهم ينظرون أمر الله فيهم. وَقالُوا يا وَيْلَنا الظاهر أن كلامهم يتم عند قوله تُكَذِّبُونَ يقوله الكفرة فيما بينهم. وقيل: إن كلامهم يتم عند قوله يا وَيْلَنا ثم قال الله أو الملائكة هذا يَوْمُ الدِّينِ الجزاء والحساب هذا يَوْمُ الْفَصْلِ القضاء والفرق بين المحسن والمسيء احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا بالكفر أو بالفسق يعني رؤساءهم. وهذا الحشر بمعنى الجمع لأنه بعد البعث أي اجمعوهم وَأَزْواجَهُمْ أي أشكالهم الذين على دينهم وسيرتهم الزاني مع الزاني، والسارق مع السارق، والشارب مع الشارب. وقيل: قرناءهم من الشياطين. وقيل: نساءهم اللاتي على ملتهم. وَما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام فَاهْدُوهُمْ ادعوهم أو قدموهم والسابق يسمى الهادي أو دلوهم إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ وسطها أو طريقها لأنه قال
(5/557)
بعد ذلك وَقِفُوهُمْ أي احبسوهم للسؤال كأنهم إذا انتهوا إلى الجحيم سئلوا تهكما وتوبيخا بالعجز عن التناصر ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ قد أسلم بعضهم بعضا وخذله. وحقيقته طلب كل منهم سلامة نفسه فقال المفسرون: إن أبا جهل قال يوم بدر: نحن جميع منتصر فيوبخ على ذلك يوم القيامة. ثم حكى أنهم في جهنم يتساءلون تساؤل التخاصم وذلك أن اتباعهم قالُوا لرؤسائهم إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ وفيه وجوه، الأول: أنها استعارة عن الخيرات والسعادات وذلك أن الجانب الأيمن أشرف من الأيسر شرعا وعرفا. كان رسول الله يحب التيامن في كل شيء ولهذا أمرت الشريعة بمباشرة أفاضل الأمور باليمين وأراطلها بالشمال، وجعلت اليمين لكاتب الحسنات والشمال لكاتب السيئات، ووعد المحسن أن يؤتى كتابه بيمينه والمسيء بالضد، وما جعلت يمنى إلا للتيمن بها ولذلك تيمنوا بالسانح وتطيروا بالبارح. فقيل: أتاه عن اليمين أي من قبل الخير وناحيته فصدّه عنه وأضله. قال جار الله: من المجاز ما غلب عليه الاستعمال حتى لحق بالحقيقة وهذا من ذاك لأن اليمين كالحقيقة في الخير. ثم صار قولك «أتاه عن اليمين» مجازا في المعنى المذكور. الثاني: أن يقال: فلان يمين فلان إذا كان عنده بمنزلة رفيعة فكأنهم قالوا: إنكم كنتم تخدعوننا وتوهمون أننا عندكم بمحل رفيع فوثقنا بكم وقبلنا عنكم. الثالث: اليمين الحلف، كان الكفار قد حلفوا لهؤلاء الضعفة أن ما يدعونهم إليه هو الحق فوثقوا بأيمانهم وتمسكوا بعهودهم. الرابع: أن اليمين القوة والقهر فبها يقع البطش غالبا أي كنتم تأتوننا عن القهر والغلبة حتى حملتمونا على الضلال. وكما أن الضمير في قالُوا الأول كان عائدا إلى الأتباع بقرينة الخطاب، فالضمير في قالُوا الثاني يعود إلى الرؤساء لمثل تلك القرينة. والمعنى بل أبيتم أنتم الإيمان وأعرضتم عنه كما أعرضنا. وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً مختارين الطغيان وهذا مثل محاجة إبليس وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ [إبراهيم: 22] فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ قال مقاتل:
أراد قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [الأعراف: 18] والمعنى أنه لما أخبر عن وقوعنا في العذاب وكان خبر الله حقا فلا جرم وجب وقوعنا في العذاب. قال جار الله: لو حكى الوعيد كما هو لقال «إنكم لذائقون» ولكنه عدل به إلى لفظ المتكلم لأنهم يتكلمون بذلك عن أنفسهم وكلا الاستعمالين شائع فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ أي أقدمنا على إغوائكم لأنا كنا موصوفين في أنفسنا بالغواية كأنهم قالوا: إن اعتقدتم أن غوايتكم بسبب إغوائنا فغوايتنا إن كانت بسبب إغواء غاو آخر لزم التسلسل فعلمنا أن غوايتنا أيضا من الله كما مر في قوله فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا هذا تفسير أهل السنة. وأما المعتزلة فيفسرون الآيات هكذا قالوا: بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ أي كنتم مختارين الكفر على الإيمان، وما سلبنا تمكنكم من تسلط بل اخترتم أنتم الطغيان فحق
(5/558)
علينا وعيد الله بأنا ذائقون لعذابه لا محالة لعلمه بحالنا واستحقاقنا بها العقوبة فَأَغْوَيْناكُمْ فدعوناكم إلى الغي لأنا كنا غاوين فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا. وحين حكى كلام الأتباع والمتبوعين أنتج من ذلك قوله فَإِنَّهُمْ جميعا يَوْمَئِذٍ أي يوم القيامة فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ كما كانوا مشتركين في الغواية. ولعل للمتبوعين عذابا زائدا للإغواء ولكن الزيادة لا تنافي الاشتراك في أصل الشيء إِنَّا كَذلِكَ أي مثل ذلك الفعل نَفْعَلُ بكل مجرم أي كافر بدليل قوله إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ يأبون من قبوله، والجملة الشرطية خبر «كان» وهو مع الاسم والخبر خبر «إن» وإن ألغيت «كان» فالخبر يَسْتَكْبِرُونَ و «إذا» ظرفه.
وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ عنوا محمدا صلى الله عليه وسلم بين أنهم منكرون للتوحيد وللنبوّة جميعا فردّ عليهم بقوله بَلْ جاءَ متلبسا بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ وفيه تنبيه على أن التوحيد دين كل الأنبياء ثم صدقهم في قولهم فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا ونقل الكلام من الغيبة إلى الحضور للمبالغة قائلا إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ ثم كان لقائل أن يقول: كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع والضر أن يعذب عبيده فقال وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فالحكمة اقتضت الأمر بالخير والطاعة، والنهي عن القبيح والمعصية، والأمر والنهي لا يكمل المقصود بهما إلا بالترغيب والترهيب، وإذا وقع الإخبار عنه وجب تحققه صونا للكلام عن الكذب هذا بتفسير المعتزلة أشبه. والسنّي يقول: لا اعتراض عليه في شيء ولا يسأل عما يفعل. قال جار الله إِلَّا عِبادَ اللَّهِ استثناء منقطع أي لكن عباد الله الْمُخْلَصِينَ أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ قلت: يجوز أن يكون الاستثناء متصلا والمعنى: وما تجزون إلا ما كنتم تعملون من غير زيادة إلا المخلصين فإن جزاءهم بالأضعاف. ويحتمل أن يكون الخطاب في قوله إِنَّكُمْ للمكلفين جميعا فيصح الاستثناء المتصل مطلقا أي تذوقون العذاب الأليم. قوله مَعْلُومٌ قيل: أي معلوم الوقت كقوله وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] وقيل: معلوم الصفة لكونه مخصوصا بخصائص خلق عليها من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر. وقيل: معلوم القدر على حسب استحقاقهم. وقيل: أراد أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ومتى يقطع. ثم فسر ذلك الرزق بأنه فَواكِهُ فقيل: إن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذذ لا لأجل الحاجة، وأرزاق أهل الجنة كلها كذلك لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد فلذلك سمي رزقهم فاكهة. وقيل: أراد به التنبيه بالأدنى على الأعلى، فإذا كانت الفاكهة حاضرة أبدا كان الطعام أولى بالحضور.
(5/559)
وحيث بين الأكل ذكر أن ذلك حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال وَهُمْ مُكْرَمُونَ إذ الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم. وحين ذكر مأكولهم وصف مسكنهم وهيئة جلوسهم فقال فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ وقد مر في «الحجر» . ثم وصف مشروبهم. قال أهل اللغة: لا يسمى الإناء كأسا إلا إذا كان فيها خمر، وقد تسمى الخمر نفسها كأسا. عن الأخفش:
كل كأس في القرآن فهي الخمر وكذا في تفسير ابن عباس. والمعين النهر الجاري على وجه الأرض وأصله معيون لأنه الظاهر للعيون أو من عين الماء. وقد يقال: عان الماء يعين إذا ظهر جاريا قاله ثعلب.
وقيل: «فعيل» من المعن وهو المنقعة أو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في السير أي بالغ فيه. واشتدّ وصف الخمر بما يوصف به الماء لأنها تجري في الجنة في أنهار كما يجري الماء. وبيضاء صفة للكأس: قال الحسن: خمر الجنة أشدّ بياضا من اللبن. ولَذَّةٍ إما مصدر وصف بها للمبالغة كأنها نفس اللذة، أوصي تأنيث. اللذ واللذ اللذيذ واحد كالطب والطبيب ثم بين أن خمر الجنة لا تغتال العقول. يقال: غاله يغوله غولا إذا أهلكه وأفسده، وفيه تعريض بخمر الدنيا ولهذا قدم الظرف وبنى الكلام على الاسم في قوله وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ أي يسكرون. وخص هذا الوصف بالذكر لأنه أعظم المفاسد في شرب الخمر. يقال: نزف الشارب على البناء للمفعول إذا ذهب عقله. والتركيب يدور على الفناء والنفاد ومنه نزحت الركية حتى نزفتها إذا لم تترك فيها ماء. وأنزف مثله ومعناه صار ذا نزف. وعن بعضهم أن معنى قوله وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ هو أن الشراب لا ينقطع عنهم لئلا يلزم نوع من التكرار.
والأوّلون حملوه على المبالغة. ثم وصف منكوحهم بقوله وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أي حابساتها عن غير أزواجهن كقوله عُرُباً [الواقعة: 37] والعين جمع العيناء مؤنث الأعين وهو كبير العين. ثم شبههن ببيض النعام المكنون في وكناتها، وذلك لأن فيها بياضا يشوبه قليل من الصفرة، وإذا كانت مستورة في أماكنها كانت مصونة عن الغبرة والتغير فكانت في غاية الحسن، وبها تشبه العرب النساء وتسميهن بيضات الخدور. ثم عطف على قوله يُطافُ قوله فَأَقْبَلَ وهو مضارع في المعنى إلا أنه على عادة الله تعالى في الأخبار.
ولعل هذا التذاكر عقيب إطافة الكأس فلهذا جيء بالفاء بخلاف ما مر في تخاصم أهل النار.
والمراد أنهم يشربون فيتحادثون على الشراب كعادة أهل المنادمة والعشرة. قال بعضهم:
وما بقيت من اللذات إلا ... أحاديث الكرام على المدام
(5/560)
وقد حكى من جملة مكالماتهم تذكرهم أنه كان قد حصل لهم في الدنيا ما يوجب لهم الوقوع في عذاب الله، ثم إنهم تخلصوا عنه وفازوا بالنعيم المقيم وهذا ابتداء الحكاية قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي من أهل الجنة إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ جليس أو شريك في الدنيا يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أي بيوم الدين أَإِنَّا لَمَدِينُونَ لمجزيون من دان يدين إذا جزى. وقيل:
لمسوسون مقهورون من دانه إذا ساسه ومنه
الحديث «الكيس من دان نفسه»
وعن بعضهم:
أراد بالمتحادثين الرجلين المذكورين في الكهف في قوله وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ [الآية: 32] قالَ يعني ذلك القائل أو الله أو بعض الملائكة هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إلى النار أي هل تحبون أن تطلعوا فتعلموا أين منزلتكم منها. عن ابن عباس: إن في الجنة كوى ينظر أهلها منها إلى النار فَاطَّلَعَ على أهل النار فرأى قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ وسطها قالَ لقرينه تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ «إن» مخففة واللام فارقة. والإرداء الإهلاك، وبخه على أنه كان يدعوه في الدنيا إلى إنكار البعث المتضمن للكفر المؤدّي إلى الهلاك الحقيقي.
والخطاب مع القرين إما أن يكون بحيث يسمعه حقيقة وذلك لرفع الحجاب وتقريب المسافة أو كما أراد الله بقدرته، وإما أن يخاطبه وإن لم يمكنه السماع لبعده كما يخاطب الموتى ومن في حكمهم، نظيره ما مر في قصة صالح فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [الأعراف: 79] إلى آخر الآية والله أعلم. ثم شكر الله تعالى على أن وفقه لنعمة الإسلام وأرشده إلى الحق وعصمه عن الباطل فقال وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ في النار مثلك أطلق إطلاقا لأن الإحضار يستعمل في الشر غالبا ولا سيما في اصطلاح القرآن.
وحين تمم كلامه مع الرجل الذي كان قرينا له في الدنيا وهو الآن من أهل النار عاد إلى مخاطبة جلسائه من أهل الجنة قائلا أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ وفيه قولان أحدهما: إن أهل الجنة لا يعلمون في أوّل دخولهم الجنة أنهم لا يموتون فيستفهمون عن ذلك فيما بينهم، أو يسألون الملائكة فإذا جيء بالموت على صورة كبش أملح وذبح فعند ذلك يعلمون أنهم لا يموتون والتقدير: نحن مخلدون منعمون فما من شأننا أن نموت ولا أن نعذب. وثانيهما أن هذا مما يقوله المؤمن تحدثا بنعمة الله سبحانه واغتباطا بحاله، فإن الذي يتكامل خيره وسعادته إذا عظم تعجبه بها قد يقول. أفيدوم هذا لي؟ وإن كان على يقين من دوامه. وأيضا إنه قال ذلك بمسمع من قرينه ليكون توبيخا له وليحكيه الله فيكون لنا لطفا وزجرا. احتج نفاة عذاب القبر بقوله إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى فإنه يدل على أن الإنسان لا يموت إلا موتة واحدة ولو حصلت الحياة في القبر لكان الموت حاصلا مرتين. وأجيب بأن المراد بالموتة الأولى كل ما يقع في الدنيا. وقوله إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ يجوز أن يكون من تمام كلامه لقرينه تقريعا له وتوبيخا وأن يكون من قول أهل الجنة فيما بينهم أي إن هذا الأمر
(5/561)
الذي نحن فيه أو هو قول الله تصديقا لهم، وكذا قوله لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ ولا خلاف أن قول ذلك خير من كلام الله عز وجل كأنه لما تمم قصة المؤمن رجع إلى ذكر الرزق المعلوم فاستفهم للتقرير أن ذلك الرزق خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ قال جار الله:
أصل النزل الفضل والريع في الطعام يقال: طعام كثير النزل. فاستعير للحاصل من الشيء، وحاصل الرزق المعلوم اللذة والسرور، وحاصل تلك الشجرة الألم والغم. ويمكن أن يقال: النزل ما يقدّم للضيف، ومعلوم أنه لا خير في شجرة الزقوم ولكنهم وبخوا على ذلك. وظاهر القرآن يدل على أنها شجرة كريهة الطعم والرائحة مؤلمة التناول صعبة الابتلاع إلا أن المفسرين اختلفوا في ماهيتها، فذكر قطرب أنها شجرة مرة تكون بتهامة. وقال غيره:
إنها ليس لها في الدنيا وجود بدليل قوله إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ وذلك أنها خلاف المألوف والمعتاد فإذا ورد على سمع المؤمن فوض علمه إلى الله تعالى وإذا ورد على الزنديق توسل به إلى الطعن في القرآن ويزيد في شبهته كقوله فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] وقيل: إنما كانت فتنة لهم لأنهم إذا كلفوا تناولها شق ذلك عليهم فهو كقوله: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 13] وذكر المفسرون أن ابن الزبعري قال لصناديد قريش إن محمدا يخوّفنا بالزقوم وإن الزقوم بلسان بربر وإفريقية الزبد والتمر.
وذكروا أيضا أن أبا جهل أدخلهم بيته وقال: يا جارية زقمينا فأتتهم بالزبد والتمر فقال:
تزقموا فهذا الذي يوعدكم محمد به فأنزل الله صفة الزقوم.
وذكر بقية أوصاف الشجرة منها إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي منبتها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها. وفيه تكذيب للطاعنين فيه كيف يكون في النار شجرة والنار تحرق الشجر. ومنها طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ قال جار الله: الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية وذلك أن يكون وجه الاستعارة مجرد الطلوع أي الظهور، أو معنوية وذلك إذا كان يشبه الطلع شكلا ولونا. وفي تشبيه ثمرتها برؤوس الشياطين أقوال أحدها وهو الأقوى: أنه تمثيل وتخييل وذلك أن الشيطان مثل في القبح ونفرة الطباع عنه كما أن الملك مثل في الحسن وميل النفوس إليه، وإذا كان الشيطان كله مستقبحا فرأسه كذلك، وتشبيه الثمرة برأسه أولى للاستدارة وللتوسط في الجحيم. الثاني أن الشيطان هاهنا نوع من الحيات تعرفها العرب، خفاف لها أعراف ورؤوس قباح. الثالث أنه شجر معروف عند العرب قبيح الأعالي يسمى الأستن وثمره يسمى رؤوس الشياطين. الرابع قال مقاتل: رؤوس الشياطين حجارة سود تكون حول مكة. ولعل هذا بل الثالث والثاني أيضا يعود إلى الأول إلا أنه بعد التسمية كأنه صار أصلا يشبه به. ثم
(5/562)
علل جعل الشجرة فتنة للظالمين بقوله فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها أي من طلعها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي بطونهم إما لأن شدّة الجوع تحملهم على تناول ذلك الشيء الكريه، وإما لأن الزبانية يقسرونهم على أكلها ليكون بابا من العذاب، فإذا شبعوا غلبهم العطش أو أخذتهم الغصة فيسقون من حميم وهو الماء الشديد الحرارة، وقد وصفه الله سبحانه في قوله وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف: 29] والشوب المزج كما قال في صفة شراب أهل الجنة وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ [المطففين: 27] وهو تسمية بالمصدر والمراد أن الطعام مزج بالحميم أو يسقون صديدا أو شرابا حارا ممزوجا بما هو أحر وهو الحميم.
ومعنى «ثم» التراخي في الزمان كأنهم لا يسقون إلا بعد مدة مديدة تكميلا للتعذيب، أو التراخي بالرتبة لأن الشراب أبشع من الطعام بكثير. قال مقاتل: معنى «ثم» في قوله ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ أنهم يخرجون من الجحيم ودركاتها إلى موضع فيه الزقوم والحميم، وبعد الأكل والشرب يردّون إلى موضعهم أي من الجحيم فكأنهم في وقت الأكل والشرب لا يعذبون بالنار. وقيل: هو كقولهم «فلان يرجع إلى مال ونعمة» أي هو فيها. وقيل: «ثم» لتراخي الأخبار أي فقد صح أن مرجع الكفار إلى النار. وقيل: «ثم» مع الجملة قد تدل على التقديم أي قبل ذلك كان مرجعهم إلى الجحيم. ثم بين أن سبب وقوعهم في أصناف العذاب المذكور هو التقليد. والإهراع الإسراع الشديد كأنهم يساقون سوقا ولو لم يوجد في ذم التقليد إلا هذه الآية لكفى. ثم أراد تسلية النبي صلى الله عليه وسلم إجمالا بقوله وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أي قبل قومك أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ ثم استثنى من قوله وَلَقَدْ ضَلَّ أو من الْمُنْذَرِينَ المهلكين عباده المخلصين فإن عاقبتهم كانت حميدة. ثم سلاه بوقائع الأمم الخالية تفصيلا. وقدّم قصة نوح عليه السلام لكونه أبا ثانيا ونداؤه في قوله رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ [المؤمنون:
26] أو قوله رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] واللام الداخلة على فَلَنِعْمَ جواب قسم محذوف أو للابتداء، والمخصوص بالمدح وهو نحن محذوف، والجمع لتصوير العظمة والكبرياء، وفيه وفي فاء التعقيب في فَلَنِعْمَ دليل على أن نداء العظيم الكبير حقيق بأن يكون مقرونا بإجابة. والكرب العظيم ما هو فيه من مخاوف الطوفان أو من إيذاء قومه مع اليأس من إيمانهم وهذا أقرب. وفي قوله هُمُ الْباقِينَ بصيغة الحصر دلالة على أن كل من سواه وسوى ذريته فقد فنوا. روي أنه مات كل من كان معه في السفينة غير ذريّته وهم سام وحام ويافث. فسام أبو العرب وفارس والروم، وحام أبو السودان شرقا وغربا، ويافث أبو الترك والخزر ويأجوج ومأجوج وتركنا عليه في المتأخرين من الأمم هذه الكلمة وهي سَلامٌ عَلى نُوحٍ ومعنى فِي الْعالَمِينَ أن هذه التحية ثبتها الله فيهم فيسلم الثقلان عليه إلى يوم القيامة. ثم بين أن سبب هذه التشريفات هو كونه محسنا وهذا جزاء
(5/563)
كل محسن. ثم بين أن إحسانه كان مسبوقا بإيمانه فعلى كل مؤمن أن يجتهد حتى يصير محسنا. وحين تمم ما آل إليه أمر نوح وذريته ذكر عاقبة سائر قومه فقال ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ أعاذنا الله من الإغراق والإحراق وجعل فلكنا فلك نوح وسفرنا متضمنا للنصر والفتوح.
التأويل:
وَالصَّافَّاتِ إشارة إلى ما جاء أن الأرواح خلقت قبل الأجساد في أربعة صفوف: الأول للأنبياء، والثاني للأولياء، والثالث للمؤمنين، والرابع لأهل الكفر فَالزَّاجِراتِ هي الإلهامات الربانية للعوام عن المناهي، وللخواص عن رؤية الأعمال، وللأخص عن الالتفات إلى غير الله فَالتَّالِياتِ ذِكْراً هم الذين يذكرون الله في الخلوات بخلوص النيات. رب سموات القلوب وأرض النفوس وما بينهما من صفاتهما ورب مشارق القلوب يطلع منها شموس الشواهد وأقمار الطوالع ونجوم اللوامع. السماء الدنيا هي الرأس، وكواكبها الحواس، والشهب هي الخواطر الرحمانية تدفع بها الوساوس الشيطانية طِينٍ لازِبٍ أي لاصق بكل ما يصادفه فقوم لصقوا بالدنيا وقوم لصقوا بالآخرة وقوم لصقوا بنفحات ألطاف الحق، فأذابتهم وجذبتهم عن أنانيتهم بهويتها كما تذيب الشمس الثلج وتجذبه عنه: وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ للسالك في كل مقام وقفة تناسب ذلك المقام وهو مسؤول عن أداء حقوق ذلك المقام. فقوم يسألهم الملك وقوم يسألهم الملك، والأوّلون أقوام لهم أعمال صالحة تصلح للعرض والكشف. والآخرون قسمان: قوم لهم أعمال يسترها الحق عن اطلاع الخلق عليهم في الدنيا والآخرة كما
قال «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري»
وقوم لهم ذنوب لا يطلع عليها إلا الله فيسترها عليهم كما
جاء ذكره في الحديث «إن الله يدني المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كتفه يستره من الناس فيقول: أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب. ثم يقول: أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم. ثم يقول: أي عبدي تعرف ذنب كذا وكذا؟ فيقول: نعم أي رب. حتى إذا قرره بذنوبه ورأى نفسه أنه قد هلك قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وقد غفرتها لك اليوم ثم يعطى كتاب حسناته» «1»
إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى وهي الموتة الإرادية عن الصفات النفسانية وبعد ذلك لا موت، بل ينتقل من دار إلى دار. لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ بل لمثل هذه الأمور تبذل الأرواح وتفدى الأشباح كما قيل: (شعر)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 11 باب 4. مسلم في كتاب التوبة حديث 52. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 13. [.....]
(5/564)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
على مثل ليلى يقتل المرء نفسه ... وإن بات من ليلى على اليأس والصدّ
ثم أخبر بعد قصة الأولياء عن قصة الأعداء بقوله أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ وفي قوله كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ دليل على أن أفعالهم كانت في قبح صفات الشياطين فكانت مكافأتهم من جنس صورة الشياطين سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ انه تعالى سلم على نوح الروح لأنه يحتاج إلى سلام الله ليعبر على الصراط المستقيم الذي هو أدقّ من الشعر وأحدّ من السيف، ولهذا يكون دعوة الرسل حينئذ رب «سلم سلم» . وإنما اختصوا بالصراط والعبور عليه ليؤدّوا الأمانة التي حملوها إلى أهلها وهو الله سبحانه وتعالى.
[سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 182]
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)
فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)
فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102)
فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107)
وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112)
وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117)
وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)
إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)
وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142)
فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)
فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152)
أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157)
وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162)
إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167)
لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172)
وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177)
وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)
(5/565)
القراآت:
يزفون بضم الياء وكسر الزاي: حمزة. الباقون: بفتح الياء إِنِّي أَرى أَنِّي أَذْبَحُكَ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. وتَرى بضم التاء وكسر الراء: علي وخلف وحمزة. سَتَجِدُنِي بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع وَإِنَّ إِلْياسَ موصولا كهمزة الوصل: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الآخرون: بكسر الهمزة اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ بالنصب في ثلاثتها على البدل: سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد والمفضل. الباقون: برفعها على الابتداء والخبر. آل ياسين ابن عامر ونافع ورويس. الآخرون إلياسين كأنه جمع إلياس لَكاذِبُونَ أَصْطَفَى موصولا والابتداء بكسر الهمزة: يزيد وإسماعيل والأصبهاني عن ورش الباقون: بفتحها في الحالين.
الوقوف:
لَإِبْراهِيمَ هـ ط لأن التقدير «واذكر» . وجوز في الكشاف أن يتعلق الظرف بما في الشيعة من معنى المتابعة فلا وقف سَلِيمٍ هـ تَعْبُدُونَ هـ ج للابتداء بالاستفهام
(5/566)
مع اتحاد المقول تُرِيدُونَ هـ ط لاستفهام آخر الْعالَمِينَ هـ فِي النُّجُومِ هـ لا للفاء واتحاد المعنى سَقِيمٌ هـ مُدْبِرِينَ هـ تَأْكُلُونَ هـ ج للاستفهام مع الاتحاد كما مر لا تَنْطِقُونَ هـ بِالْيَمِينِ هـ يَزِفُّونَ هـ تَنْحِتُونَ هـ لا لأن الواو للحال تَعْمَلُونَ هـ فِي الْجَحِيمِ هـ الْأَسْفَلِينَ هـ سَيَهْدِينِ هـ الصَّالِحِينَ هـ حَلِيمٍ هـ ماذا تَرى ط ما تُؤْمَرُ ز للسين مع اتصال المقول الصَّابِرِينَ هـ لِلْجَبِينِ هـ ج لاحتمال أن الواو مقحمة وَنادَيْناهُ جواب «لما» ، ولاحتمال أن الجواب محذوف أي قبلنا منه وناديناه يا إِبْراهِيمُ هـ لا الرُّؤْيا ج لاحتمال أن ما بعده داخل في حكم النداء أو مستأنف الْمُحْسِنِينَ هـ الْمُبِينُ هـ عَظِيمٍ هـ فِي الْآخِرِينَ هـ لا إِبْراهِيمَ هـ الْمُحْسِنِينَ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ الصَّالِحِينَ هـ إِسْحاقَ ط مُبِينٌ هـ وَهارُونَ هـ ج للآية مع العطف الْعَظِيمِ هـ ج لذلك الْغالِبِينَ هـ لا الْمُسْتَبِينَ هـ ج الْمُسْتَقِيمَ هـ ج فِي الْآخِرِينَ هـ لا وَهارُونَ هـ الْمُحْسِنِينَ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ لا وجه صحيح وإن لم يكن مقصودا فلهذا لم يكن الوقف لازما. تَتَّقُونَ هـ الْخالِقِينَ هـ لا لمن قرأ اللَّهَ بالنصب الْأَوَّلِينَ هـ لَمُحْضَرُونَ هـ الْمُخْلَصِينَ هـ فِي الْآخِرِينَ هـ لا الياسين هـ الْمُحْسِنِينَ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ أَجْمَعِينَ هـ لا الْغابِرِينَ هـ الْآخَرِينَ
هـ مُصْبِحِينَ
هـ لا وَبِاللَّيْلِ
ط تَعْقِلُونَ
هـ الْمُرْسَلِينَ
هـ لا الْمَشْحُونِ
هـ لا الْمُدْحَضِينَ
هـ ج لحق المحذوف مع الفاء مُلِيمٌ هـ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ هـ لا يُبْعَثُونَ هـ سَقِيمٌ هـ ج يَقْطِينٍ هـ ج أَوْ يَزِيدُونَ هـ ط إِلى حِينٍ هـ ط الْبَنُونَ هـ ط شاهِدُونَ هـ لَيَقُولُونَ هـ لا وَلَدَ اللَّهُ لا تعجيلا لتكذيبهم لَكاذِبُونَ هـ الْبَنِينَ هـ ط لابتداء استفهام آخر تَحْكُمُونَ هـ تَذَكَّرُونَ هـ ج لأن «أم» تصلح استئنافا مُبِينٌ هـ لا لتعجيل أمر التعجيز صادِقِينَ
هـ نَسَباً ط لَمُحْضَرُونَ هـ لا لتعلق الاستثناء وسُبْحانَ اللَّهِ معترض يَصِفُونَ هـ الْمُخْلَصِينَ هـ تَعْبُدُونَ هـ لا بِفاتِنِينَ هـ لا الْجَحِيمِ هـ مَعْلُومٌ هـ الصَّافُّونَ هـ ج للعطف مع الاتفاق الْمُسَبِّحُونَ هـ ج لَيَقُولُونَ هـ لا مِنَ الْأَوَّلِينَ هـ لا الْمُخْلَصِينَ هـ يَعْلَمُونَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ لأن ما بعده يصلح ابتداء مقولا للكلمة الْمَنْصُورُونَ هـ ص لعطف الجملتين المتفقتينْ غالِبُونَ
هـ حِينٍ هـ لا للعطف ولشدة اتصال المعنى يُبْصِرُونَ هـ يَسْتَعْجِلُونَ هـ الْمُنْذَرِينَ هـ حِينٍ هـ لا يُبْصِرُونَ هـ عَمَّا يَصِفُونَ هـ ج لعطف جملتين مختلفتين الْمُرْسَلِينَ هـ ج للابتداء بالحمد الذي به يبتدأ الكلام وإليه ينتهي مع اتفاق الجملتين الْعالَمِينَ هـ.
التفسير:
الضمير في شِيعَتِهِ يعود إلى نوح والمراد أن إبراهيم ممن شايع نوحا على
(5/567)
أصول الدين أو على التصلب في الدين. وقال الكلبي: واختاره الفراء إنه يعود إلى محمد أي هو على منهاجه ودينه وإن كان إبراهيم سابقا والأوّل أظهر لتقدّم ذكر نوح. ولما روي عن ابن عباس معناه من أهل دينه وعلى سنته وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان: هود وصالح، وبين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة. ومعنى جاءَ رَبَّهُ أقبل بقلبه على الله وأخلص العمل له. والقلب السليم قد مرّ في «الشعراء» . ثم ذكر من جملة آثار سلامة قلبه أن دعا أباه وقومه إلى التوحيد. ومعنى ماذا تَعْبُدُونَ أي شيء تعبدونه كقوله في «الشعراء» ما تَعْبُدُونَ [الآية: 70] سألهم عن جنس معبوديهم ثم وبخهم على ذلك بقوله أَإِفْكاً هو مفعول له قدم للعناية كما قدم المفعول به على الفعل لذلك فإنه كان الأهم عنده أن يكافحهم ويعنفهم على شركهم وأنهم على إفك وباطل. ويجوز أن يكون إِفْكاً حالا معنى أو مفعولا به وآلِهَةً بدل منه على أنها إفك في أنفسها. فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ حتى جعلتم الجمادات أندادا له أو حسبتم أنه يهمل أمركم ولا يعاقبكم، وفيه أنه لا يقدر في وهم ولا ظن ما يصدر عن عبادته. وفي قوله إِنِّي سَقِيمٌ قولان:
الأوّل أنه صدر منه كذبا لمصلحة رأى فيه، ولما
جاء في الحديث «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات» : قوله: «إِنِّي سَقِيمٌ وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وقوله لسارة إنها أختي» «1»
وقد سبق تقرير ذلك في الأنبياء. الثاني وهو الأقوى أنه كلام صادق لأن الكذب قبيح وإن اشتمل على مصلحة. وأما الحديث فنسبة الراوي إلى الكذب أولى من نسبة نبي الله إلى ذلك. وفي التوجيه وجوه: الأوّل: إن النظر في النجوم يريد به النظر في علم النجوم وأحكامها وكتبها وذلك ليس بحرام ولا سيما في ذلك الشرع فليس فيه إلا اعتقاد أنه تعالى خص كل واحد من الكواكب بقوّة وخاصية يظهر بها منه أثر مخصوص، والإنسان لا ينفك في أكثر أحواله عن حصول حالة مكروهة له، إما في بدنه أو في قلبه، فلعل به سقما كالحمى الثابتة، أو أراد سيسقم لأمارة نجومية، أو أراد به الموت الذي يلحقه لا محالة ولاداء أعي منه. الثاني: أن المراد بالنجوم ما جاء في قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً إلى آخر الآية. أي نظر فيها ليعرف أحوالها وأنها قديمة أو محدثة. وقوله إِنِّي سَقِيمٌ أي سقيم القلب غير عارف بربي وكان ذلك قبل البلوغ، أو سقيم النفس لكفركم. الثالث: إن النجوم النبات أي فنظر فيها متحريا منها ما فيه شفاء لسقمهم وهمهم أن به ذلك وكان به. وقال الأزهري عن أحمد بن يحيى: النجوم جمع نجم وهو كل ما تفرق ومنه نجوم الكتابة أي نظر في متفرقات
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 8. مسلم في كتاب الفضائل حديث 154. أبو داود في كتاب الطلاق باب 16. الترمذي في كتاب تفسير سورة 21 باب 3. أحمد في مسنده (2/ 403) .
(5/568)
كلامهم وأحوالهم حتى يستخرج منه حيلة فلم يجد عذرا أحسن من قوله إِنِّي سَقِيمٌ قال المفسرون: كان الطاعون أغلب الأسقام عليهم فظنوا أن به ذلك فتركوه في بيت الأصنام مخافة العدوى وهربوا إلى عيدهم وذلك قوله سبحانه فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ ذهب إليها في خفية حتى لا يرى فكأنه رجع إليها مراوغا قومه من روغان الثعلب. وقيل:
راغ بقوله إِنِّي سَقِيمٌ حتى خلا بها وسماها آلهة على زعمهم. وقوله أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ استهزاء بها وكان عندها طعام زعموا أنها تأكل منه. وقيل: وضع الطعام ليبارك فيه.
وروى أن سدنتها كانوا يأكلون ما يوضع عندها من الطعام وينطقون عند الضعفة عن لسانها يوهمون أنها تأكل وتنطق.
وإنما جاء في هذه السورة فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ بالفاء وفي «الذاريات» قالَ أَلا تَأْكُلُونَ بغير الفاء لأنه قصد من أول الأمر تقريع من زعم أنها تأكل وتشرب، وفي «الذاريات» يستأنف تقديره: قربه إليهم فلم يأكلوها فلما رآهم لا يأكلون فقال ألا تأكلون.
فَراغَ عَلَيْهِمْ عداه بعلى لأن الميل الأول كان على سبيل الرفق استهزاء، وهذا كان بطريق العنف والقهر وهذا كمال يقال في المحبوب: مال إليه. وفي المكروه: مال عليه. وقوله ضَرْباً مصدر راغ من غير لفظه أو لفعل محذوف أو حال أي يضرب ضربا أو ضاربا.
ومعنى بِالْيَمِينِ أي باليد اليمنى لأنها أقوى على الأعمال أو بالقوّة مجازا، أو بسبب الحلف وهو قوله تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ أي إلى إبراهيم يَزِفُّونَ يمشون على سرعة. وزفيف النعامة ابتداء عدوها. ومن قرأ بضم الياء فإما لازم من أزف إذا صار إلى حال الزفيف، أو متعد والمفعول محذوف أي يزفون دوابهم أو بعضهم بعضا وقد مر نظيره في التوبة في قوله وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ [التوبة: 47] قال بعض الطاعنين، قوله فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ دل على أنهم عرفوا كاسر أصنامهم. وقوله في «الأنبياء» أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ [الآية: 62] دل على أنهم لم يعرفوا الكاسر فبينهما تناقض. وأجيب بأن هؤلاء غير أولئك فالذين عرفوه ذهبوا إليه مسرعين، والذين لم يعرفوه بعد استخبروا عنه.
على أن قوله فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ لا دلالة له على أنهم عرفوا أن الكاسر هو إبراهيم فلعلهم أقبلوا إليه لأجل السؤال عن الكاسر. وحين عاتبوه على فعله أراد أن يبين لهم فساد طريقتهم ف قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وذلك أن الناحت لم يحدث فيه إلا صورة معينة فيكون معناه أن الشيء الذي لم يكن معبودا لي صار بسبب تصرفي فيه معبودا لي وفساد هذا معلوم بالبديهة، احتج جمهور الأشاعرة بقوله وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ على أن العبد ليس خالق أعماله لأن المعنى خلقكم وأعمالكم. وزيف بأن «ما» موصولة لتناسب قرينتها في قوله ما
(5/569)
تَنْحِتُونَ
وليتوجه التوبيخ ولكيلا يلزم التناقض فإن النحت عملهم. والصحيح أن الآية كقوله بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ [الأنبياء: 56] أي فطر الأصنام.
ثم إن إبراهيم لما ألقمهم الحجر بهذا القول وألزمهم عدلوا إلى طريقة الإيذاء وقالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً قال ابن عباس: بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون. وتقدير الآية: ابنوا له بنيانا واملؤه نارا وألقوه فيها. والجحيم النار العظيمة. ومعنى الفاء في قوله فَأَرادُوا كقوله أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف: 4] كأنه قيل: فبنوا البنيان وملؤه نارا وألقوه فيها فنجيناه منها. وقد صح أنهم أرادوا به كيدا فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ الأذلين وأما في الأنبياء فلم يقصد هذا الترتيب فاقتصر على الواو العاطفة. وإنما اختصت هذه السورة بقوله الْأَسْفَلِينَ لأنه ذكر أنهم بنوا بنيانا عاليا فكان ذكر السفل في طباقه أنسب. ثم ذكر بقية قصة إبراهيم وقوله إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي كقوله في «العنكبوت» إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [الآية: 26] وإنما حكم بقوله سَيَهْدِينِ ربي إلى ما فيه صلاحي في الدارين اعتمادا على فضل الله أو عرف ذلك بالوحي. وحين هاجر إلى الأرض المقدسة أراد الولد فقال رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ والله تعالى بين استجابته بقوله فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ وصف الغلام بالعلم في سورة الحجر وبالحلم هاهنا. فذهب العلماء إلى أنه أراد بغلام عليم في صغره حليم في كبره، فإن الصبي لا يوصف بالحلم ومن هنا انطوت البشارة على معان ثلاثة: أحدها أن الولد ذكر، والثاني أنه يبلغ أوان الحلم، والثالث أنه يكون حليما، وأيّ حلم أعظم من استمساكه حين عرض أبوه عليه الذبح فقال سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ وفيه أن ولده قائم مقامه في الشرف والفضيلة فوصفه بالحلم كما وصف به إبراهيم في قوله إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود: 75] . وقيل: العليم إسحق لقوله فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ [الذاريات: 29] والحليم إسماعيل. ثم حكى حديث ذبحه قائلا فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي قوي على أن يمشي مع أبيه في حوائجه. والظرف بيان كأنه قال أوّلا فلما بلغ السعي فقيل: مع من؟ فأجيب مع أبيه. ولا يجوز تعلقه بالسعي لأن صلة المصدر لا تتقدّم عليه ولا بقوله بَلَغَ لأنهما لم يبلغا معا حد السعي- والمعنى في اختصاص الأب إخراج الكلام مخرج الأغلب. وقال جار الله: السبب فيه أن الأب أرفق الناس به وأعطفهم عليه وغيره ربما عنف به في الاستسعاء فلا يحتمله لأنه لم تستحكم قوته. يروى أنه كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة وقيل أراد السعي في المنافع وفي طاعة الله.
اعلم أن الناس اختلفوا في الذبيح، فعن أبي بكر الصديق وابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب وعكرمة ومجاهد والضحاك أنه إسماعيل
لقوله صلى الله عليه وسلم «أنا
(5/570)
ابن الذبيحين»
فأحدهما جده إسماعيل والآخر أبوه عبد الله. وذلك أن عبد المطلب نذر إن بلغ بنوه عشرة أن يذبح واحدا منهم تقربا، فلما كملوا عشرة أتى بهم البيت وضرب عليهم بالقداح فخرج قدح عبد الله فمنعه أخواله ففداه بعشرة من الإبل، ثم ضرب عليه وعلى الإبل فخرج قدحه ففداه بعشرة أخرى، وضرب مرة أخرى فخرج قدحه وهكذا يزيد عشرة عشرة إلى أن تمت مائة فخرج القدح على الجزر فنحرها وسن الدية مائة.
وفي رواية أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم «يا ابن الذبيحين» . فتبسم فسأل عن ذلك فقال: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم نذر لله لئن سهل الله له أمرها ليذبحن أحد ولده. فخرج السهم على عبد الله فمنعوه ففداه بمائة من الإبل.
حجة أخرى: نقل عن الأصمعي أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي أين عقلك؟ ومتى كان إسحق بمكة وإنما كان إسماعيل وهو الذي بنى البيت مع أبيه وسن النحر بمكة. وحجة أخرى: وصف إسماعيل بالصبر في قوله وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ [الأنبياء: 85] وهو صبره على الذبح في قوله سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ووصفه بصدق الوعد إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ [مريم: 54] وذلك أنه وعد أباه الصبر على قضاء الله أو على الذبح فوفى به. أخرى: وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ [مريم: 54] فيمن قرأ بالنصب لأنه إذا بشر بالولد من صلبه علم أنه لم يؤمر بذبحه. أخرى: أجمعوا على أن إسماعيل مقدم في الوجود على إسحق فهو المراد بقوله رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ ثم إنه ذكر عقيبة قصة الذبح. وأيضا قوله وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ يجب أن يكون غير قوله فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ وإلا لزم التكرار. حجة أخرى:
ان قرني الكبش كانا ميراثا لولد إسماعيل عن أبيهم وكانا معلقين بالكعبة إلى أن احترق البيت في أيام ابن الزبير والحجاج. وعن علي وابن مسعود وكعب الأحبار وإليه ذهب أهل الكتاب أن الذبيح إسحق لما
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي النسب أشرف؟ فقال: يوسف صديق الله ابن يعقوب إسرائيل الله ابن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله.
وأجابوا عن قوله: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ أنه بشر بغلام أوّلا ثم بنبوته ثانيا. وأيضا صرح بالمبشر به في قوله فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود: 71] وفي قوله وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ فيحمل عليه المبهم في قوله فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ وأيضا لا نسلم أن البشارة بيعقوب كانت متصلة ببشارة إسحق اعتبارا بقراءة من قرأ يعقوب [هود: 17] بالرفع. وأيضا أنهم أجمعوا على أن المراد من قوله إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي هو مهاجرته إلى الشام ثم قال فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ فوجب أن يكون الغلام الحليم قد حصل له في الشام وذلك الغلام لم يكن إلا إسحق، لأن إسماعيل قد نشأ بمكة. وكان الزجاج يقول: الله أعلم أيهما الذبيح. ويتفرع على اختلاف المفسرين في الذبيح اختلافهم في موضع الذبح، فالذين قالوا إن الذبيح إسماعيل ذهبوا إلى أن الذبح كان
(5/571)
بمنى وهذا أقوى، والذين قالوا إنه إسحق قالوا إن الذبح كان بالشام وخصه بعضهم يبيت المقدس. إذا عرفت هذا الاختلاف فقوله يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ إنما قال بلفظ المستقبل لأنه كان يرى في منامه ثلاث ليال أو لأن رؤيا الأنبياء وحي ثان فذكر تأويل الرؤيا كما يقول الممتحن وقد رأى أنه راكب سفينة: رأيت في المنام أني ناج من هذه المحنة فكأنه قال: إني أرى في المنام ما يوجب أني أذبحك. ويحتمل أن يكون حكاية ما رآه. قال بعض المفسرين: رأى ليلة التروية كأن قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فأصبح يروّي في ذلك أمن الله أو من الشيطان فسمي يوم التروية. فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله فسمي عرفة، ثم رأى مثله في الثالثة فهمّ بنحره فسمي يوم النحر. وقال بعضهم: حين بشره الملائكة بغلام حليم قال هو إذن ذبيح الله، فلما ولد وبلغ حد السعي مع أبيه قيل له:
أوف بنذرك فانظر ماذا ترى هو من الرأي. ومن قرأه من الإراءة فالمعنى ماذا تبصر من رأيك وتدبيرك. وإنما شاوره في حتم من الله ليثبته إن جزع ويفرح بصبره إن ثبت ولئلا يقع الذبح معافصة من غير إعلام به وبسببه، وليكون سنة في المشاورة فقد قيل: لو شاور آدم الملائكة في الأكل من الشجرة لما فرط منه ذلك قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أي به فحذف الجار كقوله: أمرتك الخير. أي أمرتك بالخير أو أمرك على تسمية المأمور به بالمصدر ثم إضافته إلى المفعول: فَلَمَّا أَسْلَما أي انقادا وخضعا لأمر الله. قال قتادة: أسلم هذا ابنه وهذا نفسه. وَتَلَّهُ أي صرعه. واللام في لِلْجَبِينِ كهي في قوله وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ [الإسراء: 109] والجبين أحد جانبي الجبهة. وقيل: كبه لوجهه لأن الولد قال له اذبحني وأنا ساجد.
يروى أنه حين أراد ذبحه قال: يا بنيّ خذ الحبل والمدية ننطلق إلى الشعب ونحتطب، فلما توسطا الشعب أخبره بما أمر فقال له: اشدد به رباطي لئلا أضطرب واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فينقص أجري وتراه أمي فتحزن، واشحذ شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد، واقرأ على أمي سلامي، وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل. فقال إبراهيم: نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله. ثم أقبل عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان فقال له: كبني على وجهي ولا تنظر إليّ حتى لا تدركك رقة تحول بينك وبين أمر الله.
قال جار الله: تقدير الكلام فلما أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا كان ما كان مما ينطق به العيان ولا يحيط به البيان من استئثارهما بما أنعم الله عليهما من دفع البلاء وبما اكتسبا في تضاعيف ذلك من الثواب والثناء، وقد أشير إلى جميع ذلك بقوله إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّ هذا الأمر الذي قد وقع لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الذي يتميز فيه المخلص عن المدعى والمكروه الذي لا أصعب على النفس منه.
يروى أنه لما وصل موضع السجود منه
(5/572)
الأرض جاء الفرج.
وقيل: إنه وضع السكين على قفاه فانقلب السكين ونودي يا إبراهيم قد صدّقت الرؤيا. فنظر فإذا جبرائيل عليه السلام معه كبش أقرن أملح فكبر جبرائيل والكبش وإبراهيم وابنه وأتى المنحر من منى فذبحه
وذلك قوله سبحانه وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ والفداء جعل الشيء مكان غيره لدفع الضرر عنه. والذبح اسم لما يذبح كالطحن لما يطحن. وقوله عَظِيمٍ أي سمين ضخم الجثة بالقياس إلى أمثاله وهي السنة في الأضاحي.
قال صلى الله عليه وسلم «استشرفوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم» .
والاستشراف جعلها شريفة وكريمة. وعن سعيد بن جبير: حق له أن يكون عظيما وقد رعى في الجنة أربعين خريفا. وفي قول ابن عباس: إنه الكبش الذي قربه هابيل فقبل منه وكان يرعى في الجنة إلى أن فدى به إسماعيل. وقيل: سمي عظيما لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد خليله. وقيل: وصفه بالعظم لبقاء أثره إلى يوم القيامة فإنه ما من سنة إلا ويذبح بسبب ذلك من الأنعام ما لا يحصيه إلا الله. وعن الحسن. أنه وعل أهبط عليه من ثبير. وقال السدّي:
نودي إبراهيم فالتفت فإذا هو بكبش أملح ينحط من الجبل فقام عند إبراهيم عليه السلام فذبحه وخلى ابنه.
استدل بعض الأصوليين من أهل السنة بالآية على جواز نسخ الحكم قبل حضور وقته. وقالت المعتزلة. وكثير من فقهاء الشافعية والحنفية بعدم الجواز لاستلزامه البداء أو الجهل، وزعموا أنه تعالى أمر إبراهيم في المنام بمقدمات الذبح كاضجاع ابنه ووضع السكين على حلقه، والعزم الصحيح على الإتيان بذلك الفعل أوان ورود الأمر. سلمنا أنه أمر بنفس الذبح لكن لم يجوز أنه قطع الحلقوم إلا أنه كان يلتئم جزءا فجزءا فلهذا قيل له قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا. والفداء فضل من الله في حقه وتعظيم له بدلا من عدم وقوع الذبح في الظاهر ولهذا قال وَفَدَيْناهُ. بإسناد الفداء إلى ذاته تعالى. والحق أن نسخ الحكم قبل وقته لا يدل على البداء والعبث كما أنه بعد الوقت لا يدل على ذلك فقد يكون غرض الآمر أن يعلم أن المأمور هل يعزم على الفعل ويوطن نفسه على الانقياد والطاعة أم لا. وتصديق الرؤيا يكفي فيه الإتيان بمثل هيئة الذبح، فمن الرؤيا ما يكون تأويلها بالشبيه كرؤيا يوسف، والفداء زيادة تشريف وتكريم ووضع سنة مؤكدة.
وروي أن الكبش هرب من إبراهيم عند الجمرة فرماه بسبع حصيات حتى أخذه فبقيت سنة في الرمي.
وروي أنه لما ذبحه قال جبرائيل: الله أكبر الله أكبر. فقال الولد الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر. فقال إبراهيم: الله أكبر ولله الحمد. فبقي سنة.
قوله وَتَرَكْنا إلى قوله الْمُؤْمِنِينَ قد مر نظيره في قصة نوح إلا أنه لم يقل هاهنا فِي الْعالَمِينَ اكتفاء بما علم في قصة نوح. ولم يقل هاهنا إِنَّا
(5/573)
كَذلِكَ
بل اقتصر على كَذلِكَ لأنه سبق ذكر التأكيد في هذه القصة فلم يحتج إلى إعادته على أنه قد بقي من القصة شيء فناسب الاختصار في الاعتراض. قوله وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ من جعل الذبيح إسماعيل قال: وبشرناه بإسحاق بعد إسماعيل. ومن جعل الذبيح إسحق قال بشر بنبوّته وقد كان بشر بمولده. قوله نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ كل منهما حال مقدرة من الفاعل أي بشرناه به مقدرا وعالما وحاكما بأنه نبي صالح. وقد أطنب صاحب الكشاف في هذا المقام حيث بنى الكلام على أنه حال مقدرة من إسحق. وهو عندي تطويل بلا طائل فليتأمل. وَبارَكْنا عَلَيْهِ قيل: أي على الغلام المبشر به. وقيل: على إبراهيم: وَعَلى إِسْحاقَ أي أفضنا عليهما بركات الدين والدنيا. ومن جملة ذلك ما
روي أنه أخرج من صلب إسحق ألف نبي أوّلهم يعقوب وآخرهم عيسى
وهم المشار إليهم بقوله وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ ويعلم من قوله وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ أن البر قد يلد الفاجر ولا عار على الأب، وأن الشرف بالحسب لا بالنسب. وأما قصة موسى فلا خفاء بها. والكرب العظيم تسلط فرعون وجفاؤه على قومه. وقيل: الغرق. والضمير في نَصَرْناهُمْ لهما ولقومهما. والمستبين البليغ في بيانه وهو التوراة بان وأبان واستبان بمعنى إلا أن الثالث أبلغ. والصراط المستقيم دين الله الذي اشترك في أصوله جميع الرسل. وأما إلياس فالجمهور على أنه نبي من بني إسرائيل بعث بعد موسى وكان من ولد هارون. وقيل:
هو إدريس النبي وقد مر ذكره في سورة مريم. و «إذا» ظرف 3 لمحذوف أي اذكر يا محمد لقومك إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ الله. قال الكلبي: أي ألا تخافون عبادة غير الله. وحين خوّفهم مجملا ذكر سببه فقال أَتَدْعُونَ أي أتعبدون بَعْلًا وهو اسم صنم من ذهب كان ببعلبك من بلاد الشام طوله عشرون ذراعا وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وجعلوهم أنبياءه، فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس. قال الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه:
لو جوّزنا دخول الشيطان في جوف الصنم وتكلمه فيه لكان قادحا في كثير من المعجزات كحنين الجذع وكلام الجمل. قلت: هذا الوهم زائل بعد ثبوت النبوّة بمعجزات أخر.
وقيل: البعل الرب بلغة اليمن. والمعنى أتعبدون بعض البعول وتتركون عبادة أحسن الخالقين. ثم بين جزاء تكذيبهم أنهم محضرون في العذاب غدا. وباقي القصة ظاهر إلا قوله إلياسين فمن قرأ بالإضافة فعلى أن إدريس بن ياسين أي سلام على أهل ياسين. وقيل:
آل ياسين آل محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: يس اسم القرآن فكأنه قيل: سلام على من آمن بكتاب الله.
والوجه الأوّل هو أنسب الأقوال. ومن قرأ على صورة الجمع فقد قال الفراء: أراد به إلياس
(5/574)
وأتباعه من المؤمنين كقولهم المهلبون والأشعرون بتخفيف ياء النسبة. وقيل: إنه لغة في إلياس. قال الزجاج: يقال ميكائيل وميكائين فكذا هاهنا. حكى الثعلبي وغيره أن إلياس نبي من سبط هارون بعثه الله إلى بني إسرائيل وكان فيهم ملك يقال له «أحب» وله امرأة يقال لها «إزبيل» وكانت تبرز للناس كما يبرز زوجها وتجلس للحكم كما يجلس، فأتاهما إلياس ودعاهما إلى الله تعالى فأبيا عليه وهما بقتله فاختفى منهما سبع سنين، وكان اليسع خليفته وآل أمره إلى أن أوحي إليه أن اخرج إلى موضع كذا فما جاءك فاركبه ولا تخف. فجاء فرس من نار فوثب عليه وناداه خليفته اليسع بن أخطوب ما تأمرني؟ فرمى إلياس إليه بكسائه من الجوّ وكان ذلك عليه علامة استخلافه إياه على بني إسرائيل. ورفع الله إلياس من بين أظهرهم وقطع عنه لذة المطعم والمشرب وكساه الريش فكان إنسيا ملكيا أرضيا سماويا.
وقيل: إلياس موكل بالفيافي كما وكل الخضر بالبحار، وهما آخر من يموت من بني آدم.
وكان الحسن يقول: قد هلك إلياس والخضر ولا نقول كما يقول الناس. وقصة لوط مذكورة مرارا. ومعنى مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ
أن مشركي العرب كانوا مسافرين إلى الشام فلعل أكثر مرورهم بتلك الديار كان في هذين الوقتين لأمر عارض كحر أو غيره. وقصة يونس أيضا مما سبق ذكرها، وفيها مزيد تسلية وتثبيت للنبي صلى الله عليه وسلم. قال بعضهم: إنه أرسله ملك زمانه إلى أولئك القوم ليدعوهم إلى الله تعالى. فالإباق وهو هرب العبد من سيده لا يوجب العصيان، والأظهر أن قوله وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
مذكور في معرض التعظيم على قياس أوائل سائر القصص، ولن يفيد هذه الفائدة إلا إذا كان الإرسال من الله تعالى. وأما الجواب عن إباقه فقد مر في قوله وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [الأنبياء: 87] قوله الْمَشْحُونِ
كالعلة لقوله فَساهَمَ
والمساهمة المقارعة. يقال: أسهم القوم إذا اقترعوا.
قال المبرد: هي من السهام التي تجال للقرعة، والمدحض المغلوب في الحجة وغيرها وحقيقته الذي أزلق عن مقام الظفر والغلبة. يروى أنه حين غضب على قومه خرج من بينهم حتى أتى بحر الروم ووجد سفينة مشحونة فحملوه فيها، فلما وصلت إلى لجة البحر أشرفت على الغرق فقال الملاحون: إن فيكم عاصيا وإلا لم يحصل في السفينة ما نراه من غير ريح ولا سبب ظاهر. وقد يزعم أهل البحر أن السفينة إذا كان فيها آبق لا تجري فاقترعوا فخرج من بينهم يونس. فقال التجار: نحن أولى بالمعصية من نبي الله. ثم عادوا ثانيا وثالثا فخرج سهمه فقال: يا هؤلاء أنا العاصي ورمى بنفسه إلى الماء. فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ أي ابتلعه كاللقمة وَهُوَ مُلِيمٌ داخل في الملامة ومنه المثل: رب لائم مليم. أي يلوم غيره وهو أحق منه باللوم فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ قيل: أي من المصلين. قيل: أي من المصلين.
عن قتادة: كان كثير الصلاة في الرخاء. وقيل: من الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح والتقديس
(5/575)
كما قيل: اذكر الله في الخلوات يذكرك في الفلوات. والأظهر أن المراد منه ما حكى الله تعالى في آية أخرى أنه كان يقول في تلك الظلمات لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [الأنبياء: 87] .
والضمير في يُبْعَثُونَ للخلائق بالقرينة وقوله لَلَبِثَ فيه أقوال: أحدها: يبقى هو والحوت إلى يوم البعث. والثاني يموت الحوت ويبقى هو في بطنه. والثالث يموتان ثم يحشر يونس من بطنه. واختلفوا في مدّة لبثه في بطن الحوت، فعن الحسن أنه لم يلبث إلا قليلا. وقيل: ثلاثة أيام. وعن عطاء: سبعة. وعن الضحاك: عشرون. وقال الكلبي:
أربعون.
روي أن الحوت سار مع السفينة رافعا رأسه يتنفس فيه يونس ويسبح ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر فلفظه بالعراء وهو المكان الخالي لا شجر فيه ولا شيء يغطيه.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «سبح يونس في بطن الحوت فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا ربنا إنا لنسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة. فقال: نعم ذلك عبدي يونس عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر فقالوا: العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عمل صالح. قال: نعم فشفعوا له فأمر الحوت فقذفه في الساحل»
وحكي في بعض التفاسير وإن لم يطابقه رأي أصحاب المسالك كل المطابقة أن الحوت أخرجه إلى نيل مصر ثم إلى بحر فارس ثم إلى البطائح ثم دجلة فلفظه بأرض نصيبين لم تنله آفة إلا أن بدنه عاد كبدن الصبي حين يولد، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين وذلك كالمعجزة له. قال المبرد والزجاج: هو «يفعيل» من قطن بالمكان إذا أقام به فيشمل كل شجرة لا تقوم على ساق كالدباء والبطيخ إلا أن المفسرين خصصوه بالدباء قالوا: لأن الذباب لا يجتمع عنده
وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنك لتحب القرع. قال: أجل هي شجرة أخي يونس.
قال الواحدي: في الآية دلالة أوّلا على أن اليقطين لم يكن من قبل فأنبته الله لأجله. والآخر أن اليقطين كان قائما بحيث يحصل له ظل. قلت: الثاني مسلم إلا أن الأول ممنوع إن أراد به النوع وإن أراد به الشخص فمسلم.
وقيل: هي التين. وقيل: هي شجرة الموز تغطى بورقها واستظل بأغصانها واغتذى من ثمارها.
وروي أنه كان يستظل بالشجرة وكانت وعلة تأتيه فيشرب من لبنها.
وروي أنه مر زمان على الشجرة فيبست فبكى جزعا فأوحى إليه: بكيت على شجرة ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون فرجع إلى قومه.
وقد سبق في سورة يونس باقي التفسير و «أو» في قوله أَوْ يَزِيدُونَ ليست للشك وإنما المراد وصفهم بالكثرة في مرأى الناظر أي إذا رآها الرائي قال هي مائة ألف أو أكثر. ومن هذا التأويل يتضح وجه العطف من حيث المعنى كأنه قيل:
وأرسلناه إلى جم غفير مقول فيهم إنهم مائة ألف أو يزيدون. وقيل: التقدير وأرسلناه إلى
(5/576)
مائة ألف وأرسلناه إلى قوم يزيدون في الإيهام. وكم الزائد؟ قيل: ثلاثون ألفا. عن ابن عباس. وقيل: بضعة وثلاثون. وقيل: بضعة وأربعون. وقيل: سبعون. وجاء مرفوعا عشرون ألفا. ويحتمل أن يراد أو يزيدون في مرور الزمان لأنه يبقى فيهم مدة كما قال فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ هو انقضاء آجالهم. وقيل: القيامة وقد مر. ثم عطف قوله فَاسْتَفْتِهِمْ على مثله في أول السورة. والوجه فيه أنه أمر رسوله باستفتاء قريش عن سبب إنكار البعث، ثم ساق الكلام متصلا بعضه ببعض على ما عرفت في أثناء التفسير، ثم أمره باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى حين أضافوا البنات إلى الله تعالى قائلين الملائكة بنات الله مع كراهتهم التامة لهن ورغبتهم الوافرة في البنين. وحين استفتاهم على سبيل التوبيخ شرع في تزييف معتقدهم بقسمة عقلية وذلك أن سند الدعوى إما أن يكون حسا أو خبرا أو نظرا. أما الحس فمفقود لأنهم ما شاهدوا كيفية تخليق الله الملائكة وهو المراد من قوله أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ وأما الخبر فكذلك لأن الخبر إنما يفيد العلم إذا علم أنه صدق قطعا وهؤلاء كذابون أفاكون وأشار إليه بقوله أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وأما النظر فمفقود أيضا وبيانه من وجهين: الأول أن دليل العقل يقتضي فساده لأنه تعالى أكمل الموجودات والأكمل لا يليق به اصطفاء الأخس لأجل نفسه وذلك قوله أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ من قرأ أصطفى بفتح الهمزة فلأنه استفهام بطريق الإنكار وقد حذفت همزة الوصل للتخفيف، ومن قرأ بكسرها على الإخبار جعله من جملة كلام الكفرة. الثاني: عدم الدليل على صحة مذهبهم وهو قوله أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ نظيره ما مر في قوله أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ [الروم: 35] وقوله وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً للمفسرين فيه قولان: أحدهما أنهم الطائفة الأولى والمعنى أنهم جعلوا بين الله وبين الملائكة نسبة بسبب قولهم إنهم بناته فإن الولادة تقتضي الجنسية والمناسبة، وفيه توبيخ لهم على أن من صفته الاجتنان والاستتار كيف يصلح أن يكون مناسبا لا يجوز عليه صفات الإجرام، وعلى هذا فالضمير في قوله إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ للكفرة. والمعنى أنهم يقولون ما يقولون في الملائكة وقد علمت الملائكة أنهم في ذلك كاذبون وأنهم محضرون النار معذبون بما يقولون. وثانيهما أنهم طائفة من الزنادقة قائلون بيزدان وأهرمن كما مر في «الأنعام» في قوله وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الآية: 100] وعلى هذا فالضمير إما للكفار كما مر، وإما للشياطين. روى عكرمة أنهم قالوا: سروات الجن بنات الرحمن. وقال الكلبي: زعموا أن الله سبحانه تزوّج إلى الجن فخرج منها الملائكة. والتاء في الجنة للتأنيث كحق وحقة.
(5/577)
قال جار الله: الاستثناء في قوله إِلَّا عِبادَ اللَّهِ منقطع معناه إنهم لمحضرون ولكن المخلصين ناجون وما بينهما اعتراض دال على التنزيه. وجوّز أن يكون الاستثناء من الضمير في يَصِفُونَ أي يصفه هؤلاء بذلك، ولكن أهل الإخلاص مبرؤن من وصفه بما لا ينبغي.
وحين بين المذاهب الفاسدة بقضها بيّن أن أهل الشرك ومعبوديهم ليس لهم أن يفتنوا على الله أي يحملوا غيرهم على سلوك سبيل الفتنة والضلال إلا من سبق في علم الله بأنه من أهل النار. وقالت المعتزلة: إلا من سبق في علمه أنهم بسوء أعمالهم يستوجبون أن يصلوها.
وجوز جار الله أن تكون الواو في وَما تَعْبُدُونَ بمعنى «مع» وجاز السكوت على تَعْبُدُونَ كما في قولهم «كل رجل وضيعته» . ثم قال ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أي على ما تعبدون بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ مثلكم. وقال: والوجه في نظم هذه الآيات أن يكون قوله سُبْحانَ اللَّهِ إلى قوله الْمُسَبِّحُونَ من كلام الملائكة والمعنى: ولقد علمت الملائكة وشهدوا أن المشركين مفترون عليهم في مناسبة رب العزة وقالوا: سبحان الله، فنزهوه عن ذلك واستثنوا عباده المخلصين. وقالوا للكفرة: فإذا صح ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحدا من خلقه إلا من كان مثلكم ممن علم الله عز وجل لكفرهم أنهم أهل النار. وكيف نكون مناسبين لرب العزة وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه لكل منا مقام من الطاعة لا يستطيع أن يتجاوزه ونحن الصافون كما مر في أول السورة ونحن المسبحون وقال في التفسير الكبير: هاتان الجملتان تدلان على الحصر، وفيه إشارة إلى أن طاعة البشر كالعدم بالنسبة إلى طاعة الملك فكيف يجوز أن يقال: البشر تقرب درجتهم من درجة الملك فضلا عن دعوى الأفضلية؟ قلت: لا شك أن هذا التركيب يفيد الحصر إلا أنه لم يفرق بين قصر الأول على الثاني كما في الآية وبين عكسه، والذي يفيد مدعاه هو العكس لا الأصل فافهم. وقيل: هذه الآيات من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أي وما من المسلمين أحد إلا له مقام معلوم يوم القيامة على قدر عمله. ثم ذكر أعمالهم وأنهم الذين يصطفون في الصلاة ويسبحون الله وينزهونه. ثم حكى أن مشركي قريش كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً أي كتابا من جملة كتب الأوّلين أي نظيرها في بيان الشرائع والتكاليف لأخلصنا العبادة لله. وإن مخففة واللام فارقة فَكَفَرُوا بِهِ الفاء للربط أي فجاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار فكفروا به فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وخامة عاقبة التكذيب. وقيل: أرادوا لو علمنا حال آبائنا وما آل إليه أمرهم وكان ذلك كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم لآمنا به وأخلصنا لكنا على شك من حديثه. ثم بين أن رسل الله وجنده منصورون غالبون عاجلا وآجلا، والأول أكثريّ والثاني تحقيق يقيني. ثم أمر نبيه بالصفح والإغماض إلى أوان النصرة والغلبة قائلا فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي أعرض عن أذاهم إلى حين الأمر بالقتال أو إلى يوم بدر. عن السدي: أو إلى الموت والقيامة.
(5/578)
وَأَبْصِرْهُمْ وما يقضى عليهم من الأسر والقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة فسوف يبصرونك وما يؤل إليه أمرك من النصر والثواب في الدارين. وفي هذا الأمر تنفيس عن النبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له كأن الحالة الموعودة قدام عينيه قربا وتحققا. وفَسَوْفَ في الموضعين للوعيد لا للتبعيد وكأنهم فهموا التسويف فاستعجلوا العذاب فوبخوا عليه. وكان من عادة العرب أن يغيروا صباحا فسميت الغارة صباحا وإن وقعت في وقت آخر، وشبه نزول العذاب بساحتهم بعد ما أنذروه بجيش أنذر بعض النصحاء بهجومه قومه فلم يلتفتوا إلى إنذاره ولا أخذوا أهبتهم حتى أناخ بفنائهم بغتة فشنّ الغارة عليهم. قيل: نزلت في فتح مكة.
وعن أنس: لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وكانوا خارجين إلى مزارعهم ومعهم المساحي قالوا: محمد والخميس. ورجعوا إلى حصنهم فقال صلى الله عليه وسلم: الله أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين
أي صباحهم، فحذف المخصوص بالذم. واللام في الْمُنْذَرِينَ للجنس. وإنما ثنى وتول عنهم ليكون تسلية على تسلية. والأول لعذاب الدنيا والثاني للآخرة، وأطلق الفعل الثاني أيضا اكتفاء بالأول وليفيد فائدة زائدة وهي أنه يبصر وهم يبصرون ما لا يحيط به الوصف من صنوف المسرة وفنون المساءة. واعلم أن السورة اشتملت على ما قاله المشركون في الله وعلى ما عانى المرسلون من جهتهم وعلى ما يؤل إليه عاقبة الرسل وحزب الله من موجبات الحمد فلا جرم ختمها بكلمات جامعة لتلك المعاني. ومعنى رَبِّ الْعِزَّةِ كقوله قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ [آل عمران: 26] والمراد ذي العزة لأنها صفته لا مربوبه. عن ابن عباس أنه سمع رجلا يقول: اللهم رب القرآن فأنكر عليه وقال: القرآن ليس بمربوب ولكن كلام الله. والظاهر أن قوله عَمَّا يَصِفُونَ يتعلق ب سُبْحانَ كما في قوله سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ وقل: متعلق بالعزة أي امتنع عما يصفونه به وقد مر شيء من تحقيق هذه الحالة في آخر سورة يس. قال بعضهم: إنما لم يقل في آخر قصتي لوط ويونس سلام عليهما اكتفاء بقوله في الخاتمة وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ
عن علي رضي الله عنه: من أحب أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلس سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ إلى آخر السورة.
(5/579)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16) اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20) وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
(سورة ص)
(وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وتسعة وستون كلمها سبعمائة واثنان وثلاثون آياتها ثمان وثمانون)
[سورة ص (38) : الآيات 1 الى 40]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4)
أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9)
أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14)
وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19)
وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24)
فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)
وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39)
وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
(5/580)
القراآت:
أو نزل بالواو مثل أأنبئكم [الآية: 15] في آل عمران عذابي وعقابي بالياء في الحالين: يعقوب والسرندي عن قنبل وافق سهل وعباس في الوصل الْأَيْكَةِ مذكور في «الشعراء» مِنْ فَواقٍ بضم الفاء: حمزة وعلي وخلف. الباقون:
بالفتح وَلِيَ نَعْجَةٌ بفتح الياء: حفص والأعشى والبرجمي فَتَنَّاهُ بتخفيف النون على أنه مثنى والضمير للخصمين: عباس لتدبروا بحذف إحدى التاءين على أنه خطاب: يزيد والأعشى والبرجمي. الباقون: على الغيبة وإدغام تاء التفعل في الدال إِنِّي أَحْبَبْتُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو من بعدي بالفتح أبو جعفر ونافع وأبو عمرو والرياح مجموعة: يزيد.
الوقوف:
ذِي الذِّكْرِ ط وَشِقاقٍ هـ مَناصٍ هـ مِنْهُمْ ز لتصريح ذكر الكافرين مع إمكان الاكتفاء بالضمير وقد اتفقت الجملتان كَذَّابٌ ج للاستفهام واتحاد العامل واحِداً ج لمثل ما مر عُجابٌ هـ آلِهَتِكُمْ ج لما مر يُرادُ ج هـ لذلك الْآخِرَةِ ج لذلك اخْتِلاقٌ هـ ج لما قلنا مِنْ بَيْنِنا ط مِنْ ذِكْرِي هـ لعطف الجملتين المختلفتين والابتداء بالتهديد عَذابِ هـ لأن «أم» بمعنى ألف استفهام إنكار الْوَهَّابِ هـ ج لأن «أم» تصلح ابتداء إنكار الْأَسْبابِ هـ الْأَحْزابِ هـ الْأَوْتادِ هـ لا الْأَيْكَةِ ط الْأَحْزابُ هـ عِقابِ هـ فَواقٍ هـ الْحِسابِ هـ الْأَيْدِ ج للابتداء بان ولاحتمال التعليل أَوَّابٌ هـ وَالْإِشْراقِ هـ أَوَّابٌ هـ الْخِطابِ هـ الْخَصْمِ م لأن «إذ» ليس بظرف للإتيان ولتناهي الاستفهام إلى الأمر أي اذكر إذ تسوّروا الْمِحْرابَ هـ لا
(5/581)
لأن «إذ» بدل من الأولى لا تَخَفْ ج لحق الحذف أي نحن خصمان مع اتحاد المقول الصِّراطِ هـ فِي الْخِطابِ هـ نِعاجِهِ ج ما هُمْ ط وَأَنابَ هـ ذلِكَ ط مَآبٍ هـ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ الأولى ط الْحِسابِ هـ باطِلًا ط كَفَرُوا ج للابتداء بالتهديد مع فاء التعقيب النَّارِ هـ ج لأن «أم» لاستفهام إنكار. كَالْفُجَّارِ هـ الْأَلْبابِ هـ سُلَيْمانَ ط الْعَبْدُ ط أَوَّابٌ هـ لا والأصح الوقف والتقدير: اذكر إذ فإن أوبه غير مقيد بل مطلق الجياد هـ لا للعطف رَبِّي ج لاحتمال أن «حتى» للابتداء وأن تكون لانتهاء الحب أي آثرت حب الخير حتى توارت بِالْحِجابِ هـ لحق الحذف تقديره: قال ردّوها عليّ فطفق. وَالْأَعْناقِ هـ أَنابَ هـ بَعْدِي هـ لا لاحتمال أن يكون التقدير فإنك الْوَهَّابُ هـ أَصابَ هـ وَغَوَّاصٍ هـ الْأَصْفادِ هـ حِسابٍ هـ مَآبٍ هـ.
التفسير:
عن ابن عباس أن ص بحر عليه عرش الرحمن. وعن سعيد بن جبير:
بحر يحيي الله به الموتى بين النفختين. وقيل: صدق محمد صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به عن الله.
وقيل: صدّ الكفار عن قبول هذا الدين. وقيل: صدّ محمد صلى الله عليه وسلم قلوب العباد. وقيل: هو من المصاداة المعارضة ومنه الصدى وهو ما يعارض الصوت في الجبال يؤيده قراءة من قرأ ص بالكسر، معناه عارض القرآن بعملك فاعمل بأوامره وانته عن نواهيه. والذكر الشرف والشهرة أو الموعظة، وجواب القسم محذوف كأنه قيل: إنه المعجز وإن إلهكم لواحد.
ويجوز إن كان ص اسم السورة أن يراد هذه ص، والقرآن يعني هذه السورة هي التي أعجزت العرب بحق القرآن كما تخبر عن هذا حاتم والله، تريد هذا هو المشهور بالسخاء والله. ثم بين أن الكفار في استكبار عن الإذعان للحق وفي مخالفة الله ورسوله. ومعنى «بل» ترك كلام والأخذ في كلام آخر. ولئن سلم أنه للمغايرة الكلية فالكلام الأول هو كون محمد صلى الله عليه وسلم صادقا في تبليغ الرسالة، أو كون القرآن، أو هذه السورة معجزا، والحكم المذكور بعد «بل» هو المعازة والمشاقة في كونه كذلك فحصل المطلوب. ثم خوف الكفار بقوله كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ أي رفعوا أصواتهم بالدعاء والاستغاثة لأن نداء من نزل به العذاب لا يكون إلا كذلك. وعن الحسن: فنادوا بالتوبة كقوله فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا ولهذا قال وَلاتَ حِينَ مَناصٍ أي لم يكن ذلك الوقت وقت فرار من العذاب أو حين نداء ينجي. قال سيبويه والخليل: التاء في «لات» زائدة مثلها في «ربت» و «ثمت» وهي المشبهة بليس، وقد تغير حكمها بزيادة التاء حيث لا تدخل إلا على الأحيان ولم يبرز إلا اسمها أو خبرها وتقدير الآية: ليس الحين حين مناص. ولو رفع لكان تقديره وليس حين مناص حاصلا لهم. وقال الأخفش: إنها «لا» النافية للجنس زيدت عليها التاء
(5/582)
وخصت بنفي الأحيان كأنه قيل: أصل «لات» ليس قلبت الياء ألفا والسين تاء. وقيل: التاء قد تلحق بحين كقوله:
العاطفون تحين ما من عاطف ... والمطعمون زمان ما من مطعم
وإلى هذا ذهب أبو عبيدة. وتأكد هذا الرأي عنده حين رأى التاء في المصحف متصلا بحين. وضعف بعد تسليم أنه في الإمام كذلك بأن خط المصحف غير مقيس عليه. أما الوقف على لاتَ فعند الكوفيين بالهاء قياسا على الأسماء، وعند البصريين بالتاء قياسا على الأفعال. والمناص مصدر ناص ينوص إذا هرب ونجا أو فات. قال ابن عباس: لما نزل بهم العذاب ببدر قالوا: مناص أي اهربوا وخذوا حذركم فأنزل الله وَلاتَ حِينَ مَناصٍ. ثم حكى شر صنيعهم وسوء مقالتهم في حق النبي صلى الله عليه وسلم قائلا وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ أي من جنس البشر. ثم سجل عليهم بالكفر بوضع الظاهر موضع المضمر قائلا وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ في إظهار خوارق العادات كَذَّابٌ على الله. وإنما قيل في سورة ق فَقالَ الْكافِرُونَ [الآية: 2] بالفاء لأن القول هناك شيء عجيب وهو نتيجة العجب فاتصل الكلامان لفظا ومعنى. وأما هاهنا فلم يتصل إلا معنى أَجَعَلَ الْآلِهَةَ أي صيرها وحكم عليها بالوحدة إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ بليغ في العجب.
يروى أنه لما أسلم عمر بن الخطاب شق ذلك على قريش وفرح المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش وهم الأشراف والرؤساء: امشوا إلى أبي طالب فأتوه وقالوا: أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، وإنا أتيناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك. فدعا أبو طالب النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألون السواء فلا تمل كل الميل على قومك. فقال: ماذا يسألونني؟ فقالوا: ارفضنا وارفض آلهتنا وندعك وإلهك. فقال صلى الله عليه وسلم: أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم فقال له أبو جهل: والله لنعطينكها وعشر أمثالها.
فقال صلى الله عليه وسلم: قولوا لا إله إلا الله. فنفروا من ذلك وقالوا: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً كيف يسع الخلق كلهم إله واحد فأنزل الله هذه الآيات.
يعني من أول السورة إلى قوله كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أي نهضوا من ذلك المجلس وأَنِ مفسرة أي امْشُوا من غير أن يتلفظوا به وَاصْبِرُوا عَلى عبادة آلِهَتِكُمْ.
قال النحويون: الانطلاق هاهنا مضمن معنى القول لأن المنطلقين عن مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ويتفاوضوا فيما جرى لهم. وقيل: وانطلق الملأ منهم وقالوا لغيرهم امشوا. وقيل: انطلقوا بأن امشوا أي بهذا القول. وليس المراد بالمشي السير إنما
(5/583)
المراد المضيّ على الأمر. وقيل: امشوا واتركوا محمدا صلى الله عليه وسلم. وقيل: هي من مشت الماشية إذا كثر نسلها مشاء ومنه الماشية للتفاؤل. وفي تهذيب اللغة عن الأزهري: مشى الرجل إذا استغنى فيكون هذا دعاء لهم بالبركة إِنَّ هذا الأمر وهو استعلاء محمد صلى الله عليه وسلم لَشَيْءٌ يُرادُ أي حكم الله به فلا حيلة في دفعه ولا ينفع إلا الصبر أو إنه لشيء من نوائب الدهر أريد بنا فلا انفكاك لنا منه، أو إن دينكم لشيء يراد أن يؤخذ منكم. وقيل: إن عبادة الأصنام لشيء نريده ونحتاج إليه. وقيل: إن هذا الاستعلاء والترفع لشيء يريده كل أحد وكل ذي همة وقريب منه قول القفال: إن هذه كلمة تذكر للتحذير والتخويف معناها إنه ليس غرض محمد صلى الله عليه وسلم من هذا القول تقرير الدين ولكن غرضه أن يستولي علينا ويحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد. ما سَمِعْنا بِهذا أي بقول محمد صلى الله عليه وسلم فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ فيما أدركنا عليه آباءنا أو في ملة عيسى التي هي آخر الملل، لأن النصارى مثلثة غير موحدة. قال جار الله: يجوز أن يكون التقدير ما سمعنا بهذا كائنا في الملة الآخرة فيكون الظرف حالا من هذا لا متعلقا ب سَمِعْنا والمعنى أنا لم نسمع من أهل الكتاب ولا الكهان أنه يحدث في الملة الآخرة توحيد الله. إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ كذب اختلقه من عنده. ثم أظهروا الحسد وما كان يغلي به صدورهم قائلين أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا وذلك أنهم ظنوا أن الشرف بالمال والجاه فقط نظيره في القمر أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [القمر: 25] إلا أنه استعمل هناك الإلقاء لأن أذكارهم كانت صحفا مكتوبة وألواحا مسطورة. وقدم الظرف هاهنا لشدّة العناية ولزيادة غيظهم وحمقهم فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي من دلائلي التي لو نظروا فيها لزال الشك عنهم، فالقاطع لا يساوي المشكوك. وقيل: أراد أنهم لا يكذبونك ولكنهم جحدوا آياتي. ثم قال بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ أي لو ذاقوه لأقبلوا على أداء المأمورات والانتهاء عن المنهيات. وقيل: أراد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخوّفهم بالعذاب لو أصروا على الكفر. ثم إنهم أصروا ولم ينزل عليهم العذاب فصار ذلك سببا لشكهم في صدقه صلى الله عليه وسلم فلا جرم لا يزول ذلك الشك إلا بنزول العذاب. ثم أجاب عن شبهتهم بوجه آخر وهو قوله أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ والمراد أن النبوة من جملة النعمة المخزونة عنده يعطيها من يشاء من عباده. ثم خصص بعد التعميم قائلا أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما ولا ريب أن هذه الأشياء بعض خزائن الله وإذا كانوا عاجزين عن البعض فعن الكل أولى. ثم تهكم بهم بقوله فَلْيَرْتَقُوا أي فإن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق وقسمة الرحمة فليصعدوا في المعارج والطرق التي يتوسل بها إلى المقصود. وقيل: أسباب السموات أبوابها والمعنى إن ادّعوا ملك السموات وأنهم يعلمون ما يجري فيها فليرتقوا إليها. قال بعض حكماء الإسلام: في الأسباب إشارة إلى أن
(5/584)
الأجرام الفلكية وما أودع الله فيها من القوى والخواص أسباب حوادث العالم السفلي. ثم حقر أمرهم بقوله جُنْدٌ ما وهو خبر مبتدأ محذوف و «ما» مزيدة للاستعظام جارية مجرى الصفة أي هم جند من الجنود. ثم خصص الوصف بقوله مِنَ الْأَحْزابِ أي ما هم إلا جند من الكفار المتحزبين على رسل الله مهزوم مكسور عما قريب فلا تبال بهم. قال قتادة هُنالِكَ إشارة إلى يوم بدر. وقيل: يوم الخندق. وقيل: فتح مكة فإن مكة هي الموضع الذي ذكروا فيه هذه الكلمات. وقال أهل البيان: هي إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم كقولك لمن ينتدب لأمر «ليس من أهله» «لست هنالك» . ثم مثل حالهم بحال من قبلهم من الأمم المكذبة وقصصهم مذكورة مرارا. والذي يختص بالمقام هو أنه وصف فرعون بذي الأوتاد فعن قتادة أنه كانت له أوتاد وأرسان وملاعب يلعب
بها عنده. وقال المبرد: بنى أبنية طويلة صارت كالأوتاد لبقائها. وقيل: هي أوتاد أربعة كان يعذب الناس بها على الأرض أو على رؤوس أخشاب أربعة. وقيل: أراد كثرة أوتاد خيام معسكره. وقيل: أراد ذو جموع كثيرة فبالجمعية يشتد الملك كما يشتد البناء بالأوتاد وهذا قريب. وقول أهل البيان إن أصل هذه الكلمة من ثبات البيت المطنب بأوتاد، ثم استعير لثبات العز والملك والمقصود على الوجوه كلها. وصف فرعون بالشدة والقوة ونفاذ الأمر ليعلم أنه تعالى أهلك من كان هذه صفته فكيف بمن هو دونه.
قال أبو البقاء: قوله أُولئِكَ الْأَحْزابُ مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون خبرا والمبتدأ من قوله وعاد أو من ثمود أو من قوم لوط، قلت: ويحتمل أن يكون الْأَحْزابُ صفة أُولئِكَ وأُولئِكَ بدلا من مجموع المعطوفات والمعطوف عليه. قال جار الله: قصد بهذه الإشارة الإعلام بأن هذه الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم وآباؤهم الذين وجد منهم التكذيب. لقد ذكر تكذيبهم أوّلا في الجملة الخبرية على وجه الإبهام، ثم جاء بالجملة الاستثنائية أعني قوله إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فبين أن كل واحد من الأحزاب كذب جميع الرسل لأنهم إذا كذبوا واحدا منهم فقد كذبوا جميعهم فَحَقَّ أي ثبت أو وجب لذلك عقابي إياهم في الدنيا ثم في الآخرة وذلك قوله وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ المذكورون. وقيل: أهل مكة: إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً وهي النفخة الأولى ما لَها مِنْ توقف مقدار فَواقٍ وهو بالفتح والضم زمان ما بين حلبتي الحالب.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «العيادة قدر فواق الناقة»
ومعنى الآية إذا جاء وقتها لم يمهل هذا القدر. وقيل: الفواق بالفتح الإفاقة أي ما لها من رجوع وترداد لأن الواحدة تكفي أمرهم وما لها رجوع إلى الحالة الأولى بل تبقى ممتدة إلى أن يهلك كلهم واعلم أن القوم إنما تعجبوا لشبهات ثلاث وقعت لهم:
(5/585)
أولاها في الإلهيات وهو قولهم أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً والثانية في النبوات وهي قولهم أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا والثالثة تتعلق بالمعاد وهي قولهم: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا وهو القطعة من الشيء لأنه قطع منه من قطه إذا قطعه. والقط أيضا صحيفة الجائزة ونحوها لأنها قطعة من القرطاس استعجلوا نصيبهم من العذاب الموعود، أو من اللذات العاجلة، أو من صحيفة الأعمال، كل ذلك استهزاء منهم فلذلك أمره بالصبر على ما يقولون. قال جار الله:
أراد اصبر على أذاهم وصن نفسك أن تزل فيما كلفت من مخابراتهم. وَاذْكُرْ أخاك داوُدَ كيف زل تلك الزلة اليسيرة فعوتب عليها ونسب إلى البغي، أو اصبر وعظم أثر أمر معصية الله في أعينهم بذكر قصة داود وما أورثته زلته من البكاء الدائم والحزن الواصب.
وقال غيره: اصبر على أذى قومك فإنك مبتلى بذلك كما صبر سائر الأنبياء على ما ابتلاهم به. ثم عدّهم وبدأ بداود وذلك أنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحق ويعقوب فأوحى الله إليه أنهم وجدوها بالصبر على البلايا فسأل الابتلاء. ثم إن الدنيا لا تنفك من الهموم والأحزان واستحقاق الدرجات بقدر الصبر على البليات. ثم إن مجامع ما ذكر الله تعالى في قصة داود ثلاثة أنواع من الكلام: الأول: تفصيل ما آتاه الله تعالى من الفضائل. الثاني: شرح الواقعة التي وقعت له. والثالث: استخلاف الله تعالى إياه بعد ذلك. والأول عشرة أصناف: أحدها ذكر نبينا صلى الله عليه وسلم إياه ليقتدي به في الصبر وسائر أصول الأخلاق. وثانيها تسميته بالعبد مضافا إلى صيغة جمع التكلم للتعظيم والعبودية الصحيحة الجامعة لكمالات الممكنات كما سبق مرارا. ويمكن أن يكون التلفظ بذكر اسمه العلم أيضا تشريفا له. وثالثها قوله ذَا الْأَيْدِ ذا القوة في الحروب وعلى الطاعات وعن المعاصي وكان يصوم يوما ويفطر يوما وهو أشد الصوم ويقوم نصف الليل. ويحتمل أن يكون الياء محذوفا اكتفاء بالكسر فيكون جمع اليد بمعنى النعمة لأن الله تعالى أنعم عليه ما لم ينعم على غيره. رابعها قوله إِنَّهُ أَوَّابٌ أي رجاع في الأمور كلها إلى طاعة الله ومرضاته من آب يؤب. خامسها تسبيح الجبال معه وقوله يُسَبِّحْنَ حال والإشراق وقت إضاءة الشمس وهو بعد شروقها عند الضحى. يقال شرقت الشمس ولما تشرق. واستدل به ابن عباس على وجود صلاة الضحى في القرآن لما
روي عن أم هانىء: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بوضوء فتوضأ ثم صلى صلاة الضحى وقال: يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق.
قال ابن عباس: وكانت صلاة يصليها داود عليه السلام ويحتمل أن يكون معنى الإشراق الدخول في وقت الشروق فيراد وقت صلاة الفجر لانتهائه بالشروق قاله جار الله. سادسها قوله وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً أي وسخرنا الطير مجموعة من كل ناحية. قال ابن عباس: كان إذا سبح جاوبته الجبال بالتسبيح واجتمعت إليه الطير
(5/586)
فسبحت فذلك حشرها وقد مر ذكر هذه المعجزة في «الأنبياء» وفي «سبأ» . قال أهل البيان:
قوله مَحْشُورَةً في مقابلة قوله يُسَبِّحْنَ ولكنه اختير الفعل في أحد الموضعين والاسم في الآخر لأنه أريد في الأول الدلالة على حدوث التسبيح من الجبال شيئا بعد شيء وحالا بعد حال حتى كأن السامع يتصوّرها بتلك الحالة، وأما الحاشر فهو الله وحشر الطيور جملة واحدة أدل على القدرة له تعالى. سابعها قوله كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ أي كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود مسبح مرجع للتسبيح. وقيل: الضمير لله أي كل من داود والجبال والطير لله مسبح رجاع إلى فعله مرة بعد مرة، وهذا الوصف كالتأكيد للوصف الذي يتقدّمه وهذا أخص لأنه أدل على الواقعة. ثامنها قوله وَشَدَدْنا مُلْكَهُ أي قوّيناه بالجنود والأعوان وبسائر الأسباب فكان يحرس محرابه كل ليلة ثلاثة وثلاثون ألف حرس، وزاد بعضهم فقال أربعون ألفا. وقيل: نصرناه بالهيبة، وسببه
أن غلاما ادّعى على رجل بقرة فأنكر المدّعى عليه ولطم الغلام لطمة فسأل داود من الغلام البينة فعجز فرأى داود في المنام أن الله تعالى يأمره أن يقتل المدعى عليه ويسلم البقرة إلى الغلام. فقال داود: هذا منام فأتاه الوحي بذلك في اليقظة فأخبر بذلك بني إسرائيل فجزعوا وقالوا: أتقتل رجلا بلطمة؟ فقال داود:
هذا أمر الله فسكتوا. ثم أحضر الرجل وأخبره إن الله أمره بقتله فقال الرجل: صدقت يا نبيّ الله إني قتلت أباه غيلة وأخذت البقرة، فقتله داود وعظمت هيبته واشتدّ ملكه وقالوا: إنه يقضي بالوحي من السماء.
تاسعها قوله وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وقد مر معناها مرارا وأنها منحصرة في قسمين: الأول العلم بالتصوّرات الحقيقية والتصديقات اليقينية بمقتضى الطاقة البشرية، والثاني العمل بالأخلاق الفاضلة المفضية إلى السعادة الباقية. وخصصها بعضهم بالعلم بالنبوّة والفهم أو بالزبور والشرائع. عاشرها فصل الخطاب وهو القدرة على ضبط المعاني والتعبير عنها بأقصى الغايات حتى يكون كاملا مكملا فهما مفهما.
قال جار الله: الفصل بمعنى المفصول ومعناه البين من الكلام الملخص الذي لا يلتبس ولا يختلط بغيره. قلت: ومن ذلك أن لا يخطىء صاحبه مظان الفصل والوصل كما نذكره في الوقوف.
وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال: البينة على المدّعي واليمين على من أنكر.
فالفصل بمعنى الفاصل كالصوم والصحب ويندرج فيه جميع كلامه في الأقضية والحكومات وتدابير الملك والمشورات.
يروى أنه سبحانه علق لأجله سلسلة من السماء وأمره أن يقضي بها بين الناس، فمن كان على الحق يأخذ السلسلة، ومن كان على الباطل لا يقدر على أخذها. ثم إن رجلا غصب من آخر لؤلؤة وجعلها في جوف عصا له ثم خاصمه المدّعي إلى داود فقال المدعي: إن هذا أخذ مني لؤلؤة ولم يردّها عليّ وإني صادق
(5/587)
في مقالتي، فجاء وأخذ السلسلة فتحير داود في ذلك فرفعت السلسلة وأمره أن يقضي بالبينة واليمين وهو فصل الخطاب.
وقيل: هو قوله «أما بعد» وهو أوّل من تكلم به. وقيل: هو أنه إذا تكلم في الحكم فصل وكل هذه الأقوال تخصيصات من غير دليل والأقوى ما قدمناه. ثم إنه سبحانه لما مدحه بالوجوه العشرة أردفه بذكر واقعته قائلا وَهَلْ أَتاكَ يا محمد نَبَأُ الْخَصْمِ أي ما أتاك خبرهم وقد أتاك الآن. وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها ليكون أدعى إلى الإصغاء لها. وللناس في هذه الواقعة ثلاثة أقوال أقواها تقريرها على وجه لا يدل على صدور ذنب عن نبيّ الله، وثانيها التقرير على وجه يدل على صدور الصغيرة عن نبيّ الله، وثالثها التقرير على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه، وأضعفها التقرير على وجه يدل على الكبيرة. ويختلف تفسير بعض الألفاظ بحسب اختلاف بعض المذاهب فلنفسر كلا منها على حدة. وأما المشترك بين الأقوال فلا نفسره إلا مرة.
القول الأوّل: يروى أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبيّ الله داود- وكان له يوم يخلو بنفسه ويشتغل بطاعة ربه- فانتهضوا الفرصة في ذلك وتسوّروا المحراب أي تصعدوا غرفته من سوره. وفي قوله إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ إشارة إلى أنهم بعد التسوّر نزلوا عليه. قال الفراء: قد يجاء بإذ مرتين ويكون معناهما كالواحد كقولك «ضربتك إذ دخلت عليّ إذ اجترأت عليّ» مع أنه يكون وقت الدخول ووقت الاجتراء واحدا. وحين رآهما قد دخلا عليه لا من الطريق المعتاد علم أنهم إنما دخلوا عليه للشر. فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ أي نحن خصمان والخصم في الأصل مصدر فلهذا لم يجمعه أوّلا نظرا إلى أصله، وثناه ثانيا بتأويل شخصان أو فريقان خصمان، وجمع الضمائر في قوله إِذْ تَسَوَّرُوا إِذْ دَخَلُوا فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ بناء على أن أقل الجمع اثنان، أو على أن صحب كل منهما من جملتهما. والأوّل أظهر لأن القائلين كانا اثنين بالاتفاق بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أي بغى أحدنا على الآخر وتعدّى حدّ العدالة. ثم قرروا مقصودهم بثلاث عبارات متلازمة إحداها فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ أي بالعدل الذي هو حكم الله فينا. والثانية وَلا تُشْطِطْ وهو نهي عن الباطل بإلزام الحق والشط البعد. شط وأشط لغتان، أرادوا لا تجر فالجور البعد عن الحق. والثالثة وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ أي وسطه وهو مثل لمحض الحق وصدقه. وحين أخبروا عن وقوع الخصومة مجملا شرعوا في التفصيل فقال أحدهما مشيرا إلى الآخر إِنَّ هذا وقوله أَخِي أي في الدين أو الخلطة أو النسب خبر أو بدل والخبر لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وهي أنثى من الضأن وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها أي ملكنيها فأكفلها كما أكفل ما تحت يدي وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ أي غلبني في
(5/588)
المخاطبة فكان تكلمه أبين وبطشه أشدّ قالَ داود لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ أضاف المصدر إلى المفعول الثاني وحذف الفاعل والمفعول الأوّل أي بسؤاله إياك نعجتك. وليس السؤال هاهنا سؤال خضوع وتفضل وإنما هو سؤال مطالبة ومعازة. وإِلى متعلقة بفعل دل عليه السؤال تقديره بسؤال أي ليضمها إلى نعاجه، أو ضمن السؤال معنى الإضافة كأنه قيل:
بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه الطلب وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الشركاء الذين خلطوا أموالهم واطلع بسبب ذلك بعضهم على أحوال البعض لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ وقد تغلب الخلطة في الماشية. والشافعي يعتبرها في باب الزكاة إذا اتحد الفحل والراعي والمراح والمسقى وموضع الحلب، فإن كانت للخليطين أربعون شاة فعليهما شاة. وعند أبي حنيفة لا شيء عليهما وإن كانت لأحدهما واحدة وللآخر تسع وتسعون فعلى الأوّل أداء جزء من مائة جزء من شاة واحدة وعلى الآخر الباقي. هذا عند الشافعي، وعند أبي حنيفة لا شيء على ذي النعجة. ثم بين أن أكثر الخلطاء موسوم بسمة الظلم إلا المؤمنين وإنهم لقليل. «وما» في قوله وَقَلِيلٌ ما هُمْ مزيدة للإبهام، وفيه تعجيب من قلتهم. وقال ابن عيسى: هي موصولة أي وقليل الذين هم كذلك. قصد نبيّ الله بذكر حال الخطاء في هذا المقام الموعظة الحسنة والترغيب في اختيار عادة الخلطاء الصلحاء لا التي عليها أكثرهم من الظلم والاعتداء، وفيه تسلية للمظلوم عما جرى عليه من خليطه وإن له في أكثر الخلطاء أسوة وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ أي ابتليناه وذلك أن القوم لما دخلوا عليه قاصدين قتله وإنه كان سلطانا شديد القوّة وقد فزع منهم. ثم إنه مع ذلك عفا عنهم دخل قلبه شيء من العجب فحمله على الابتلاء فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ
من تلك الحالة وَأَنابَ إلى الله واعترف بأن إقدامه على تلك الخلة لم يكن إلا بتوفيق الله. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ الخاطر أو لعله هم بإيذاء القوم.
ثم تذكر أنه لم يدل دليل قاطع على أن هؤلاء قصدوا الشر فعفا عنهم، ثم استغفر من تلك الهمة. أو لعل القوم تابوا إلى الله وطلبوا منه أن يستغفر الله لهم فاستغفر لأجلهم متضرعا إلى الله فغفر ذنبهم بسبب شفاعته ودعائه. وَمعنى خَرَّ راكِعاً سقط ساجدا. قال الحسن: لأنه لا يكون ساجدا حتى يركع، أو المراد أن خرّ للسجود مصليا لأن الركوع قد يعبر به عن الصلاة. ومذهب الشافعي أن هذا الموضع ليس فيه سجدة التلاوة لأنه توبة نبيّ فلا توجب على غيره سجدة التلاوة ولا تستحب أيضا. ومذهب أبي حنيفة بخلافه. وجوز مع ذلك أن يكون الركوع بدل السجود هذا تمام تقرير القول الأوّل. ولا يرد عليه إلا أن داود كان أرفع منزلة من أن يتسور عليه بعض آحاد الرعية في حال تعبده أو يتجاسر عليه بقوله لا تَخَفْ وَلا تُشْطِطْ وأنه كيف سارع إلى تصديق أحد الخصمين على ظلم الآخر قبل
(5/589)
استماع كلامه والأول استبعاد محض؟ وأجيب عن الثاني بأنه ما قال ذلك إلا بعد اعتراف صاحبه لكنه لم يذكر في القرآن، ومما يؤيد هذا القول ختم ذكر الواقعة بقوله: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ والزلفى القربة، والمآب الحسن الجنة. قال مالك بن دينار: إذا كان يوم القيامة يؤتى بمنبر رفيع ويوضع في الجنة يقال: يا داود مجدني بذلك الصوت الحسن الرخيم الذي كنت تمجدني به في الدنيا- وحاصل التفسير على هذا القول إن الخصمين كانا من الإنس وكانت الخصومة بينهما على الحقيقة، وكانا خليطين في الغنم، أو كان الخلطة خلطة الصدقة، أو الجوار وكان أحدهما موسرا وله نسوان كثيرة من الحرائر والسرائر. والعرب تشبه المرأة بالنعجة والظبية، والثاني معسرا ما له إلا امرأة واحدة واستنزله عنها، وكانت الأنصار يواسون المهاجرين بمثل ذلك كما كانوا يقاسمونهم أموالهم ومنازلهم وما كان ذنب داود إلا خطرة أو همة.
القول الثاني: إن أهل زمان داود كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته فيتزوجها إذا أعجبته فاتفق أن نظر داود وقع على امرأة رجل يقال له أوريا فأحبها فسأله النزول عنها فاستحيا ففعل فتزوجها وهي أم سليمان. فقيل له: إن مع عظم منزلتك وارتفاع مرتبتك وكثرة نسائك لم يكن لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة النزول لك، كان الواجب عليك مغالبة هواك والصبر على ما امتحنت به. وقيل: خطبها أوريا ثم خطبها داود فآثره أهلها وكان ذنبه أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه، وعلى هذا يجوز أن يكون الخطاب في قوله وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ من الخطبة أي غالبني في خطبتها حيث زوّجها دوني. وعلى هذا القول يجوز أن يكون الخصمان من الإنس كما مر. وحين وافق حالهما حال داود تنبه فاستغفر. وأن يكونا ملكين بعثهما الله ليتنبه على خطئه فيتداركه بالاستغفار ويرد على هذا أن الملكين لو قالا نحن خصمان بغى بعضنا على بعض فكذب والملائكة لا يكذبون ولا يأمرهم الله بالكذب. والجواب أن التقدير ما تقول خصمان قالا بغى بعضنا على بعض. أو أرادوا: أرأيت لو كنا خصمين بغى بعضنا على بعض ألست تحكم بيننا، ثم صوروا المسألة ومثلوا قصته بقصة رجل له نعجة واحدة ولخليطه تسع وتسعون فأراد صاحبه تتمة المائة وحاجة في ذلك محاجة حريص على بلوغ مراده. وعن الحسن: لم يكن لداود تسع وتسعون امرأة وإنما هذا مثل.
القول الثالث:
وهو المشهور عند الجمهور أن داود عليه السلام جزأ زمانه أربعة أجزاء: يوما للعبادة، ويوما للاشتغال بخواص أموره، ويوما يجمع بني إسرائيل للوعظ والتذكير فجاءه الشيطان يوم العبادة والباب مغلق في صورة حمامة من ذهب فمد يده
(5/590)
ليأخذها لابن صغير له فطارت إلى قريب منه، وهكذا مرة ثانية وثالثة إلى أن وقعت في كوة فتبعها فوقع بصره على امرأة جميلة تغتسل فنقضت شعرها فغطى جسدها فوقع في نفسه منها ما شغله عن الصلاة، فنزل من محرابه ولبست المرأة ثيابها وخرجت إلى بيتها، فخرج داود حتى عرف بيتها وسألها من أنت؟ فأخبرته فقال لها: هل لك زوج؟ فقالت: نعم. قال: أين هو؟ قالت: في جند كذا فرجع وكتب إلى أمير جيشه إذا جاءك كتابي هذا فقدم فلانا في أول التابوت وكان من يتقدم على التابوت لا يحل له أن يرجع حتى يفتح الله على يده أو يستشهد ففتح الله على يده وسلم. فأمر برده مرة ثانية وثالثة حتى قتل، فأتاه خبر قتله فلم يحزن كما كان يحزن على الشهداء، وتزوّج امرأته فبعث الله إليه ملكين في صورة إنسانين فطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته ومنعهما الحرس فتسوّرا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان ففزع منهما، وحين وجد قصتهما مطابقة لحاله علم أنه مبتلى من الله. يروى أنهما قالا حينئذ حكم على نفسه. وقيل: ضحكا وغابا فعلم أن الله ابتلاه بذنبه.
ولا يخفى أن ذنبه بهذا التفسير والتقرير كبيرة لأنه يدل على الإفراط في العشق وعلى السعي في قتل النفس المسلمة بغير حق.
فيروى أنه سجد أربعين ليلة لم يرفع رأسه إلا للصلاة المكتوبة ولم يذق طعاما ولا شرابا حتى أوحى الله إليه أن ارفع رأسك فإني قد غفرت لك.
ويروى أن جبرائيل قال له اذهب إلى أوريا وهو زوج المرأة واستحل منه فإنك تسمع صوته موضع كذا، فأتاه واستحل منه فقال: أنت في حل. قال: فلما رجع قال له جبريل: هل أخبرته بجرمك؟ فقال: لا قال: فإنك لم تعمل شيئا فارجع وأخبره بالذي صنعت. فرجع داود فأخبره بذلك فقال: أنا خصمك يوم القيامة فرجع مغتما وبكى أربعين يوما. فأتاه جبريل وقال: إن الله تعالى يقول: أنا أستوهبك من عبدي فيهبك لي وأجزيه على ذلك أفضل الجزاء فسرى عنه وكان حزينا في عمره باكيا على خطيئته.
وروي أنه نقش خطيئته على كفه حتى لا ينساها.
والمحققون كعلي رضي الله عنه وابن عباس وابن مسعود وغيرهم ينكرون القصة على هذا الوجه.
روى سعيد بن المسيب والحرث بن الأعور أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين وهو حد الفرية على الأنبياء.
قلت: لا يخفى أن الأحوط السكوت عما لا يرجع إلى طائل، بل يحتمل أن يعود إلى قائله لوم عاجل وعقاب آجل.
ومن الدلائل القوية التي اعتمد عليها فخر الدين الرازي في ضعف هذه الرواية قوله سبحانه عقيب ذكر الواقعة يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فمن البعيد جدا أن يوصف الرجل بكونه ساعيا في سفك دم أخيه المسلم بغير حق وبانتزاع زوجته منه ثم يقال:
(5/591)
إنا فوضنا الخلافة إليه. وعندي أن ذلك عليه لا له لقوله تعالى فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى إلخ فكأنه قيل له: إنا جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله وفي سياسة المدن، أو تخلفنا كما يقال «السلطان ظل الله في الأرض» فاللائق بهذا المنصب السعي لإصلاح حال المسلمين وحفظ فروجهم ودمائهم وأموالهم لا السعي في تحصيل هوى النفس بأي وجه يمكن، فإن صاحبه المصر عليه ضال معرض عن إعداد الزاد ليوم المعاد. يحكى عن بعض خلفاء بني مروان أنه قال لعمر بن عبد العزيز أو الزهري: هل سمعت ما بلغنا؟ قال: وما هو؟ قال: بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا يكتب عليه معصية. فقال: يا أمير المؤمنين، الخلفاء أفضل أم الأنبياء ثم تلا هذه الآية. وحين تمم واقعة داود ونصحه وما فرض عليه في شأن الاستخلاف أشار إلى أن الأمور الدنيوية التابعة للحركات السماوية ليست واقعة على الجزاف، وبمقتضى الطبائع، ولكن لها غاية صحيحة فأجمل هذا المعنى أوّلا بقوله وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ الذي ذكر من خلق هذه الأشياء بلا غاية ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لأنهم بإنكارهم البعث جحدوا الجزاء الذي هو غاية التكليف فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ لأنهم بهذه العقيدة وقعوا في نار البعد والقطيعة فلم يستدلوا بالآفاق والأنفس على الصانع نظيره ما مر في آخر «آل عمران» رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ [الآية: 191] ثم صرح بالغاية قائلا أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية. «وأم» منقطعة بمعنى بل والهمزة للإنكار والمراد أنه لو بطل الجزاء كما زعموا لاستوت حال الطائفتين المتقي المصلح للأرض بتهذيب الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة المدنية على وفق العقل والشرع، والفاجر المفسد في الأرض بهدم النواميس وتتبع الشهوات وهتك الحرمات، ومن سوى بينهم كان إلى السفه أقرب منه إلى الحكمة، ولا ينافي هذا إمكان التسوية من حيث المالكية. وحين ذكر هذه المعاني اللطيفة والقواعد الشريفة منّ على رسوله بقوله كِتابٌ أي هذا كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ كثير المنافع والفوائد لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ ليتأملوا فيها ويستنبطوا الأسرار والحقائق منها فمن حفظ حروفه وضيع حدوده كان مثله كمثل معلق اللؤلؤ والجواهر على الخنازير.
قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: يقال في وجه النظم إن العقلاء قالوا: من ابتلى بخصم جاهل مصر متعصب وجب عليه أن يقطع الكلام معه ويخوض في كلام آخر أجنبي حتى إذا اشتغل خاطره بالكلام الأجنبي أدرج في أثنائه مقدمة مناسبة للمطلوب الأول، فإن ذلك المتعصب قد يسلم هذه المقدمة فإذا سلمها فحينئذ يتمسك بها في إثبات المطلوب الأول فيصير الخصم ساكتا مفحما. وإذ قد عرفت هذا فنقول: إن الكفار قد بلغوا في إنكار الحشر إلى حيث قالوا على سبيل الاستهزاء رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ فقال
(5/592)
تعالى: يا محمد فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ واقطع الكلام معهم في هذه المسألة واشرع في كلام آخر أجنبي في الظاهر وهو قصة داود إلى قوله إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ فكل من سمع هذا قال: نعم ما فعل حيث أمره بالحكم الحق كأنه قال:
أيها المكلف إني لا آمرك مع أني رب العالمين إلا بالحق فههنا الخصم يقول: نعم ما فعل حيث لم يقض إلا بالحق، فعند هذا يلتزم صحة القول بالحشر وإلّا لزم التسوية بين من أصلح واتقى ومن أفسد وفجر وذلك ضدّ الحكمة. وحين ذكر هذه الطريقة الدقيقة في إلزام المنكرين وإفحامهم وصف القرآن بالبركة والإفادة والإرشاد، لأن هذه الطائف لا تستفاد إلا منه.
وبعد تتميم قصة داود شرع في قصة ابنه سليمان ومدحه بقوله نِعْمَ الْعَبْدُ أي هو فحذف المخصوص للعلم به. وفي قوله إِنَّهُ أَوَّابٌ كما مر في قصة داود إشارة إلى أنه كان شبيها بالأب في الفضيلة والكمال فلذلك استويا في جهة المدح. وفي القصة واقعتان يمكن تقرير كل منهما كما في واقعة أبيه على وجه لا يقدح في العصمة وهو المختار عند المحققين، وعلى وجه دون ذلك وهو الأشهر فلنفسر كلا منهما بالوجهين بتوفيق الله تعالى.
أما الأوّل من الواقعة الأولى فقوله إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ وهي جمع صافن وهو الذي يقوم على ثلاث قوائم وعلى طرف الرابعة وهو نعت جيد للخيل. قيل: الصافن الذي يجمع بين يديه.
وفي الحديث «من سرّه أن يقوم الناس له صفوفا فليتبوّأ مقعده من النار»
أي واقفين مثل خدم الجبابرة. والْجِيادُ جمع جواد وهو جيد الجري يعني إذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها على أحسن الأشكال. وإذا أجريت كانت سراعا في جريها، فإذا طلبت لحقت، وإذا طلبت لم تلحق. يروى أن رباط الخيل كان مندوبا في شرعهم كما في شرعنا. ثم إن سليمان سلام الله عليه احتاج إلى الغزو فجلس بعد صلاة الظهر على كرسيه وأمر بإحضار الخيل، وذكر أني لا أحبها لأجل الدنيا وحظ النفس وإنما أحبها لأمر الله وطلب تقوية دينه وهو المراد من قوله إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي سمى الخيل خيرا لتعلق الخير بها كما
جاء في الحديث «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة» «1»
أي آثرت حب الخير ولزمته لأن ربي أمرني بارتباطها ولم يصدر حب هذه المحبة الشديدة إلا عن ذكر الله وأمره. والضمير في قوله حَتَّى تَوارَتْ للخيل أي ما زالت تعرض
__________
(1) رواه البخاري في كتاب المناقب باب 28. مسلم في كتاب الزكاة حديث 25. أبو داود في كتاب الجهاد باب 41. ابن ماجة في كتاب التجارات باب 29. الدارمي في كتاب الجهاد باب 33. الموطأ في كتاب الجهاد حديث 44. أحمد في مسنده (3/ 29) .
(5/593)
عليه ويأمر بإعدائها وسيرها إلى إن غابت عن بصره، ثم قال رُدُّوها عَلَيَّ أي أمر الرائضين بان يردوا الخيل عليه، فلما عادت عليه طفق يمسح مسحا بسوقها وأعناقها تشريفا لها وإظهارا لعزتها لكونها من أعظم الأعوان في دفع العدوّ، أو لأنه كان أعلم بأحوال الخيل وأمراضها وعيوبها، أو أراد إظهار أنه بلغ في اختبار أمور المملكة إلى حيث يباشر أكثر الأمور بنفسه. وقيل: مسح الغبار عن أعناقها وسوقها بيده. وقيل: وسم أعناقهن وأرجلهن فجعلهن في سبيل الله.
وأما الوجه الآخر في هذه الواقعة فما
روي أن سليمان غزا أهل دمشق ونصيبين فأصاب ألف فرس.
وقيل: ورثها من أبيه وكان أبوه أصابها من العمالقة. وقيل: أخرجها الشياطين من مرج من المروج أو من البحر وكانت ذوات أجنحة. فقعد يوما بعد الظهر واستعرضها فلم يزل تعرض عليه حتى غربت الشمس وذلك قوله حَتَّى تَوارَتْ أي الشمس بدليل ذكر العشي بِالْحِجابِ حجاب الأفق. وقيل: حتى توارت الخيل بحجاب الليل وغفل عن العصر، أو عن ورد من الذكر كان له وقت العشي فقال إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ وهو متضمن معنى فعل يتعدى بعن أي أنبت حب الخير عن ذكر ربي وجعلت حبها مغنيا عن ذكر ربي فاغتم لما فاته فاستردها وعقرها تقربا لله وذلك قوله فَطَفِقَ مَسْحاً قال جار الله: أي يمسح بالسيف سوقها وأعناقها فقلب لأمن الإلباس كقولهم «عرضت الناقة على الحوض» قال الراوي: قربها إلا مائة فما في أيدي الناس من الجياد فمن نسلها، وحين عقرها أبدله الله خيرا منها وهي الريح تجري بأمره. وقيل: الضمير في رُدُّوها للشمس والخطاب للملائكة تضرع إلى الله فرد الله عليه الشمس فصلى العصر. ومحل القدح في هذه الرواية هو نسبة سليمان إلى حب الدنيا حتى غفل عن الصلاة وضم بعضهم إلى ذلك أن قطع أعناق الخيل وعرقبة أرجلها منهي عنه.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله.
وأجيب بأنه فعل ذلك لأنها منعته عن الصلاة أو لأنه ذبحها للفقراء والمساكين، قال الزجاج: لم يفعل ذلك إلا وقد أباحه الله له وما أباح الله فليس بمنهي. قال الإمام فخر الدين الرازي: إن الكفار لما بلغوا في الإيذاء والسفاهة إلى حيث قالوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قال لنبيه: اصبر يا محمد على ما يقولون واذكر عبدنا داود. ثم ذكر عقيبه قصة سليمان، وهذا الكلام إنما يكون لائقا لو قلنا إن سليمان أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة وصبر على طاعة الله وأعرض عن الشهوات، فأما لو كان المقصود أنه أقدم على الكبيرة لم يكن ذكره مناسبا. هذا تمام الكلام في الواقعة الأولى.
وأما الثانية وإليها الإشارة بقوله. وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً
(5/594)
فالمحققون يروونه على وجوه: أحدها: أن سليمان ولد له ابن بعد أن ملك عشرين سنة فقالت الشياطين: إن عاش لم نتخلص من البلاء والتسخير فسبيلنا أن نقتله أو نخبله، فعلم بذلك سليمان فأمر السحاب أن يحفظه ويغذوه خوفا من مضرة الشياطين، فما راعه إلا أن ألقي على كرسيه ميتا فتنبه على خطئه في أن لم يتوكل فيه على ربه فاستغفر ربه وأناب.
وثانيها
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن سليمان قال ذات ليلة: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة. وفي رواية على مائة وفي رواية على ألف- كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل:
إن شاء الله. فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل. والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعين فذلك قوله وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ» «1» .
وثالثها قال أبو مسلم: مرض سليمان مرضا شديدا امتحنه الله به حتى صار جسدا على كرسيه ملقي كما
جاء في الحديث «لحم على وضم وجسد بلا روح»
لأن الجسد يطلق في الأكثر على ما لا روح له. ثُمَّ أَنابَ أي رجع إلى حالة الصحة. والمشهور عند الجمهور أن الجسد الملقى على كرسيه كان شيطانا جلس على سرير ملكه أربعين يوما، وذلك أن ملكه كان في خاتمه فأخذ شيطانا يقال له آصف وقال: كيف تفتنون الناس؟ قال:
أرني خاتمك أخبرك. فلما أعطاه إياه نبذه آصف في البحر فذهب ملكه وقعد آصف على كرسيه.
وعن علي رضي الله عنه أنه قال: بينما سليمان جالس على شاطىء البحر وهو يعبث بخاتمه إذ سقط في البحر.
وقيل: إنه وطئ امرأة في الحيض فذلك ذنبه.
وقال في الكشاف: وغيره حكوا أن سليمان بلغه خبر صيدون وهي مدينة في بعض الجزائر وأن بها ملكا عظيم الشأن. فخرج إليه تحمله الريح حتى أناخ بها جنوده من الجن والإنس فقتل ملكها وأصاب بنتا له اسمها جرادة من أحسن الناس وجها، فاصطفاها لنفسه وأسلمت وأحبها وكانت لا يرقأ دمعها حزنا على أبيها. فأمر الشياطين فمثلوا لها صورة أبيها فكستها مثل كسوته وكانت تغدو إليها وتروح مع ولائدها يسجدون لها كعادتهن في ملكه، فأخبر آصف سليمان بذلك فكسر الصورة وكانت له أم ولد يقال لها أمينة إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها، فوضعه عندها يوما فأتاها الشيطان صاحب البحر وهو الذي دل سليمان على الماس حين أمر ببناء بيت المقدس. واسمه صخر- على صورة سليمان فقال: يا أمينة أعطيني خاتمي فتختم به وجلس على كرسي سليمان وعكفت عليه الطير والجن والإنس. وغير سليمان عن هيئته فأتى أمينة لطلب الخاتم فأنكرته وطردته فعرف أن الخطيئة قد أدركته، فكان يدور على البيوت يتكفف وإذا قال: أنا سليمان. حثوا
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الأيمان حديث 24.
(5/595)
عليه التراب وسبوه فمكث على ذلك أربعين يوما عدد ما عبد الوثن في بيته.
وكان ذلك الشيطان يقضي بين الناس ويتمكن من جميع ملكه إلا نساءه. وقيل: من جميع ملكه ونسائه وما يدع امرأة في دمها ولا يغتسل من جنابة، فلما أراد الله أن يرد الملك إليه أنكر علماء بني إسرائيل قضية قضاها الشيطان فأحضروا التوراة، فلما قرؤها فرّ الشيطان وألقى الخاتم في البحر فابتلعته سمكة فصادها صائد ووهبها لسليمان وأعطاها على أجرة عمله يوما فأخرج من بطنها الخاتم ثُمَّ أَنابَ أي رجع على ملكه أو ثاب ووقع ساجدا. ثم إن سليمان ظفر بالشيطان فجعله في تابوت وسده بالنحاس وألقاه في البحر. والعلماء المتقنون أبوا قبول هذه الرواية وقالوا: إنها من أباطيل اليهود، والشياطين لا يتمكنون من مثل هذه الأفاعيل وإلا ارتفع الأمان عن الشرائع والأديان، وكيف يسلطهم الله على آحاد عباده فضلا عن أنبيائه حتى يغيروا أحكامهم ويفجروا بنسائهم. وأما اتخاذ التماثيل فيجوز أن تختلف فيه الشرائع والسجود للصورة إذا كان بغير إذنه فلا عتب عليه.
وحكى الثعلبي هذه القصة بوجه أقرب إلى القبول وهو أن سليمان لما افتتن بأخذ التمثال في بيته سقط الخاتم من يده فأخذه سليمان فأعاده إلى يده فسقط، فلما رآه لا يثبت في اليد أيقن بالفتنة فقال له آصف: إنك لمفتون فتب إلى الله واشتغل بالعبادة وأنا أقوم مقامك إلى أن يتوب الله عليك. فقام آصف في ملكه أربعة عشر يوما وهو الجسد الذي ألقي على كرسيه، فردّ الله إليه ملكه وأثبت الخاتم في يده.
وعن سعيد بن المسيب أن سليمان احتجب عن الناس ثلاثة أيام فأوحى الله إليه: يا سليمان احتجبت عن عبادي وما أنصفت مظلوما عن ظالم، ثم ذكر القصة وأخذ الشيطان الخاتم ورجوعه إليه.
ثم حكى الله تعالى أن سليمان قال رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً قدم المغفرة على طلب الملك كما هو دأب الصالحين تقديما لأمر الدين على أمر الدنيا، ولأن الاستغفار يجر الرزق فإن الإنسان قلما ينفك عن ترك الأولى فإذا زال عنه شؤم ذلك ببركة الاستغفار انفتح عليه أبواب الخيرات.
والذين حملوا الفتنة على صدور الذنب عنه فوجوب الاستغفار عندهم واضح وحملوا قوله لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي على أنه سأل ملكا لا يقدر الشيطان على أن تقوم مقامه.
والأوّلون ذهبوا إلى أنه لم يقل ذلك حسدا وإنما قصد به أن يكون معجزة له، ومن شرط المعجز أن لا يقدر غيره على معارضته ولا سيما أمته الذين بعث إليهم ولهذا قال بعضهم:
أراد غيري ممن بعثت إليهم ولم يرد من بعده إلى يوم القيامة. وحقيقة لا ينبغي لا ينفعل من بغيت الشيء طلبته أي لا يصير مطلوبا لأنه سماوي فوق طوق البشر، أو قصد أن الاحتراز عن طيبات الدنيا مع القدرة عليها أشق فإذا كان ملكه آية كان ثوابه على الصبر عنه غاية
(5/596)
ونهاية، أو أراد أن يظهر للخلق أن حصول الدنيا لا يمنع من خدمة المولى، وأن ملك سليمان إذا كان عرضة للفناء فالأولى بالعاقل أن يشتغل بالعبودية ولا يلتفت إلى الدنيا وما فيها. وقيل: إنه لما مرض ثم عاد إلى الصحة عرف أن خيرات الدنيا زائلة منتقلة إلى الغير بإرث ونحوه فطلب ملكا لا يتصور انتقاله إلى الغير وهو ملك الدين والحكمة. وقال أهل البيان: لم يقصد بذلك إلا عظم الملك وسعته كما تقول لفلان: ما ليس لأحد من الفضل والمال. وربما كان للناس أمثال ذلك. والأقوى هو الأوّل بدليل قوله عقيبه فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ وَالشَّياطِينَ. ولا ريب أن هذا معجزة وملك عجيب دال على نبوّته ويؤيده
ما جاء في الحديث «أردت أن أربطه- يعني الشيطان- على سارية من سواري المسجد إلا أني تذكرت دعوة أخي سليمان» «1»
والضمير في بِأَمْرِهِ لسليمان. وقيل: لله. والرخاء الرخوة اللينة ولا ينافي هذا وصفها بالعصوف في الأنبياء فلعلها تختلف باختلاف الأحوال والأوقات، أو هي طيبة في نفسها ولكنها عاصفة بالإضافة إلى الرياح المعهودة. ومعنى أصاب قصد وأراد من إصابة السهم. وقوله وَالشَّياطِينَ معطوف على الرِّيحَ وقوله كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ بدل الكل من الشياطين. كانوا يبنون لأجله الأبنية الرفيعة ويستخرجون اللؤلؤ من البحر وهو أوّل من استخرج الدر من البحر وَآخَرِينَ عطف على الشياطين أو على كل داخل في حكم البدل، وكان يقرن مردة الشياطين بعضهم مع بعض في القيود والسلاسل للتأديب والكف عن الفساد. والصفد القيد والعطاء لأنه ارتباط للمنعم عليه ومنه
قول عليّ رضي الله عنه: من برك فقد أسرك ومن جفاك فقد أطلقك
وقيل: حقيقته التفويض على الخير والشر. قال الجبائي: إن الشيطان كان كثيف الجسم في زمن سليمان ويشاهده الناس. ثم إنه لما توفي سليمان أمات الله ذلك الجنس وخلق نوعا آخر لطيف الجسم بحيث لا يرى ولا يقوى على الأعمال الشاقة. قلت: هذا إخبار بالغيب إلا أن تكون رواية صحيحة. ولم لا يجوز أن تكون أجسامهم لطيفة بمعنى عدم اللون ولكنها صلبة بمعنى أنها لا تقبل التمزق والتفرق. هذا عَطاؤُنا أي قلنا لسليمان هذا الملك عطاؤنا والإضافة للتعظيم. وقوله: بِغَيْرِ حِسابٍ يتعلق بالعطاء يعني أنه جم كثير لا يدخل تحت الضبط والحصر فأعط منه ما شئت أو أمسك مفوّضا إليك زمام
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الصلاة باب 75. مسلم في كتاب المساجد حديث 39. أحمد في مسنده (2/ 298) .
(5/597)
التصرف فيه. ويجوز أن يتعلق بالأمرين أي ليس عليك في ذلك حرج ولا تحاسب على ما تعطي وتمنع يوم القيامة. عن الحسن: أن الله لم يعط أحدا عطية إلا جعل عليه فيها حسابا سوى سليمان فإنه أعطاه عطية هنيئة إن أعطى أجر وإن لم يعط لم يكن عليه تبعة. ويحتمل أن يراد هذا التسخير تسخير الشياطين عطاؤنا فامنن على من شئت منهم بالإطلاق، أو أمسك من شئت منهم بالوثاق، فأنت في سعة من ذلك لا تحاسب في إطلاق من أطلقت وحبس من حبست وحين فرغ من تعداد النعم الدنيوية أردفه بما أنعم به عليه في الآخرة قائلا: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ كما في قصة داود وفيه أن ثوابه كفء ثواب أبيه كما أن سيرته سيرة أبيه.
التأويل بصاد صمديته في الأزل وصانعيته في الوسط وصبوريته إلى الأبد. أقسم بالقرآن ذي الذكر لأن القرآن قانون معالجات القلوب وأعظم مرض القلب من نسيان الله فأعظم علاجه ذكر الله. ثم أشار إلى انحراف مزاج الكفار بمرض نسيان الله من اللين والسلامة إلى الغلظ والقساوة، ومن التواضع إلى التكبر، ومن الوفاق إلى الخلاف، ومن التصديق إلى التكذيب، ومن التوحيد إلى تكثير الآلهة. وفي قوله وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إشارة إلى أن الكفار إذا تواصوا فيما بينهم بالصبر والثبات فالمؤمنون أولى بالثبات على قدم الصدق في طلب المحبوب الحقيقي إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ في الأزل من المقبول والمردود.
بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ لأنهم في النوم فإذا ماتوا انتبهوا وأحسوا بالألم فعاينوا الأمر حين لا ينفع العيان، ويزول الشك يوم لا يجدي البرهان. عَجِّلْ لَنا قِطَّنا النفوس الخبيثة تميل بطبعها إلى السفليات العاجلة كما أن النفوس الكريمة تميل بطبعها إلى العلويات الباقية، ولكل من الصنفين جذبة بالخاصية إلى شكله كجذب المغناطيس الحديد. لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً هن آثار فيوض الصفات الربانية بحسب الأسماء التسعة والتسعين، فلكل منها مظهر في عالم الملك والخلق وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ هو ذات الله وحده فَقالَ أَكْفِلْنِيها أي صيرني أجمع بين الله وبين ما سواه. ثم هاهنا أسرار كثيرة تفهمها إن شاء الله. وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ امتحناه بالجمع بين الدين والدنيا فَاسْتَغْفَرَ للحق رَبَّهُ راكِعاً وَأَنابَ إلى الله معرضا عما سواه. وهذا التأويل مما خطر ببالي أرجو أن يكون مضاهيا للحق: إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فيه أن الخلافة عطاء من الله وأنها مخصوصة بالإنسان خلق مستعدّا لها بالقوة، وفيه أن الجعلية تتعلق بعالم المعنى كما أن الخلقية تتعلق بعالم المعنى كما أن الخلقية تتعلق بعالم الصورة. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ [الأنعام:
1] فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] ووجه الخلافة هو أن
(5/598)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48) هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54) هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
الروح الإنساني أوّل فيض بذاته وصفاته فذاته من ذات الله بلا واسطة، وصفاته من صفاته بلا واسطة، فخلق لخليفته منزلا صالحا وهو قالبه، وأعد له عرشا هو القلب ليكون محل استوائه، ونصب له خادما وهو النفس، فلو بقي الإنسان على فطرة الله لكان روحه مستفيضا من الله تعالى فائضا لخلافة الحق على عرش القلب، والقلب فائض لخلافة الروح على خادمه النفس، والنفس فائضة لخلافة القلب على القالب، والقالب فائض لخلافة النفس على الدنيا، وهي أرض الله فلا يجري شيء من الأمور إلا على نهج الحق. وَوَهَبْنا لِداوُدَ الروح سُلَيْمانَ القلب إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ وهو بعد زوال شمس التجلي الصَّافِناتُ الْجِيادُ وهي مركب الصفات البشرية. وفي قوله فَطَفِقَ مَسْحاً إشارة إلى أن كل محبوب سوى الله إذا حجبك عنه لحظة يلزمك أن تقتله بسيف «لا إله إلا الله» وإليه الإشارة بقوله ثانيا وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ صدره شيئا من الشهوات الجسدانية فافتتن به فتاب ورجع إلى الحضرة. فإن قيل: قوله لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي هل يتناول نبينا صلى الله عليه وسلم؟ قلنا:
يتناوله بالصورة لا بالمعنى. فإن الذي كان مطلوب سليمان من تزكية النفس عن محبة الدنيا مع القدرة عليها، ومن تحلية القلوب بعلوّ الهمة وبذل المال والجاه وإفشاء العدل والنصفة وغير ذلك كان حاصلا للنبي صلى الله عليه وسلم من غير زحمة مباشرة صورة الملك والافتتان به عزة ودلالا ولهذا
قال في حديث تسلطه على الشيطان «ذكرت دعوة أخي سليمان فتركته» «1»
وكان يعرض عليه مقاليد الخزائن
فيقول: «الفقر فخري»
على أن صورة الملك أيضا مما سيحصل لبعض أمته كما
قال «وسيبلغ ملك أمتي ما زوى لي منها» «2» .
[سورة ص (38) : الآيات 41 الى 88]
وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45)
إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50)
مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55)
جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60)
قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65)
رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75)
قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80)
إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
__________
(1) المصدر.
(2) رواه مسلم في كتاب الفتن حديث 19. أبو داود في كتاب الفتن باب 1. الترمذي في كتاب الفتن باب 14. ابن ماجة في كتاب الفتن باب 9. أحمد في مسنده (5/ 278) (4/ 123) .
(5/599)
القراآت:
مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بسكون الياء: حمزة. بنصب بضمتين: يزيد، وقرأ يعقوب بفتحتين، وقرأ هبيرة بالفتح والسكون. والباقون: بالضم والسكون بِخالِصَةٍ ذِكْرَى على الإضافة: أبو جعفر ونافع وهشام عبدنا إبراهيم على التوحيد: ابن كثير وعلى هذا يكون إبراهيم وحده عطف بيان. ما يوعدون على الغيبة: ابن كثير وأبو عمرو وَغَسَّاقٌ بالتشديد حيث كان: حمزة وعليّ وخلف وحفص وأخر بضم الهمزة على الجمع: أبو عمرو وسهل ويعقوب والمفضل. والباقون: بالمد على التوحيد. الْأَشْرارِ بالإمالة والتفخيم مثل الْأَبْرارِ غير ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان الْأَشْرارِ بالإمالة أَتَّخَذْناهُمْ موصولة والابتداء بكسر الألف: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. والآخرون: بفتح الهمزة على الاستفهام ما كان لي بفتح الياء: حفص إلا إنما بكسر الهمزة على الحكاية: يزيد لَعْنَتِي إِلى بفتح الياء: أبو جعفر ونافع فَالْحَقُّ بالرفع: حمزة وخلف وعاصم غير المفضل وهبيرة ويعقوب غير رويس.
(5/600)
الوقوف:
أَيُّوبَ م إلا إذا جعل «إذ» بدلا وَعَذابٍ هـ ط لتقدير القول أي فأرسلنا إليه جبريل فقال له اركض بِرِجْلِكَ ج لأن هذا مبتدأ مع أنه من تمام القول وَشَرابٌ هـ الْأَلْبابِ هـ وَلا تَحْنَثْ ط صابِراً ط الْعَبْدُ ط أَوَّابٌ هـ وَالْأَبْصارِ هـ الدَّارِ هـ ج للاية مع العطف الْأَخْيارِ هـ وَذَا الْكِفْلِ ط مِنَ الْأَخْيارِ هـ ذِكْرٌ هـ ط مَآبٍ هـ لا لأن جَنَّاتِ بدل أو عطف بيان. الْأَبْوابُ هـ ج لاحتمال أن عامل مُتَّكِئِينَ محذوف أي يتنعمون متكئين وإن جعل حالا من مُفَتَّحَةً فهي مقدّرة لأن الاتكاء لا يكون في حال فتح الأبواب وَشَرابٍ هـ أَتْرابٌ هـ الْحِسابِ هـ مِنْ نَفادٍ هـ ج هذا ط أي هذا بيان جزاء المتقين أو الأمر هذا مَآبٍ هـ لا جَهَنَّمَ ج لأن ما بعده يصلح حالا واستئنافا يَصْلَوْنَها ج الْمِهادُ هـ هذا لا لأن خبره حَمِيمٌ فقوله فَلْيَذُوقُوهُ اعتراض وَغَسَّاقٌ هـ لا للعطف أَزْواجٌ هـ ط مَعَكُمْ ج لاتصال المعنى مع الابتداء بما في معنى الدعاء بِهِمْ هـ النَّارِ ط بِكُمْ ط لَنا ج الْقَرارُ هـ النَّارِ هـ الْأَشْرارِ هـ ط لمن قرأ بكسر الهمزة لاحتمال إضمار همزة الاستفهام واحتمال كونها خبرية صفة أو حالا ومن صرح بالاستفهام فوقفه مطلق الْأَبْصارُ هـ النَّارِ هـ الْقَهَّارُ هـ ج لأن ما بعده يصلح بدلا وخبرا لمحذوف أي هو الغفار عَظِيمٌ هـ لا لأن ما بعده وصف مُعْرِضُونَ هـ يَخْتَصِمُونَ هـ مُبِينٌ هـ طِينٍ هـ ساجِدِينَ هـ أَجْمَعُونَ هـ لا إِبْلِيسَ ط الْكافِرِينَ هـ بِيَدَيَّ ط للاستفهام الْعالِينَ هـ مِنْهُ ط لأن ما بعده جواب سؤال كأنه علل الخيرية طِينٍ هـ رَجِيمٌ هـ ج والوصل أولى لاتصال لعنتي به الدِّينِ هـ يُبْعَثُونَ هـ الْمُنْظَرِينَ هـ لا لتعلق إلى الْمَعْلُومِ هـ أَجْمَعِينَ هـ لا للاستثناء الْمُخْلَصِينَ هـ فَالْحَقُّ ز على قراءة الرفع أي فهذا الحق مع اتحاد المقول أَقُولُ ج لاحتمال أن ما بعده قسم مستأنف أو بدل من قوله وَالْحَقَّ. أَجْمَعِينَ هـ ج الْمُتَكَلِّفِينَ هـ لِلْعالَمِينَ هـ حِينٍ هـ.
التفسير:
وجه النظم كأنه تعالى يقول: يا محمد اصبر على سفاهة قومك فإنه ما كان في الدنيا أكثر مالا أو جاها من داود وسليمان، ولم يكن أكثر بلاء ومحنة من أيوب، ومع ذلك لم يبق حالهما وحاله على نسق واحد، فالصبر مفتاح الفرج. وأَيُّوبَ عطف بيان و «إذ» معمول فعل آخر أو بدل اشتمال من أيوب أي زمان بلائه وكان معاصرا ليعقوب، وامرأته ليا بنت يعقوب، ونداؤه دعاؤه والجار محذوف أي دعاه بأني مسني على الحكاية وإلا لقال بأنه مسه والنصب والنصيب كالرشد والرشد، والنصب بالفتح والسكون على أصل المصدر، وضمة الصاد لا تباع النون كقفل وقفل. ومعنى الكل التعب والمشقة. قيل: الضر
(5/601)
في البدن والعذاب في ذهاب المال والأهل وللناس في بلائه قولان: الأول أن الذي نزل به كان من الشيطان وقد مرّ تقريره في «الأنبياء» ومجمله ما
روي أن إبليس سأل ربه فقال: هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال: نعم، عبدي أيوب. قال: فسلطني على ماله فكان يجيئه ويقول: هلك من مالك كذا فيقول: الله أعطى والله أخذ ثم يحمد الله.
فقال: يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده. فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية فجاء وأخبره به فلم يلتفت إليه فقال: يا رب إنه لا يبالي بماله وولده فسلطني على جسده فأذن فيه، فنفخ في جلد أيوب وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فمكث في ذلك البلاء سبع سنين أو ثمان عشرة، وصار بحيث استقذره أهل بلده فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد فجاء الشيطان إلى امرأته وقال: إن استعاذ بي زوجك خلصته من هذا البلاء فأشارت إلى أيوب بذلك فغضب لذلك- أو لوجوه أخر سبق ذكرها في سورة الأنبياء- وحلف إن عافه الله ليجلدنها مائة جلدة وعند ذلك دعا ربه شاكيا إليه لامنه
كقول يعقوب نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
[يوسف: 86] فأجاب دعاءه وأوحى إليه ارْكُضْ أي اضرب بِرِجْلِكَ الأرض. عن قتادة: هي أرض الجابية من قرى الشام. فأظهر الله تعالى من تحت رجله عينا باردة طيبة فاغتسل منها فأذهب الله عنه كل داء في ظاهره وباطنه وردّ عليه أهله وماله.
القول الثاني: إن الشيطان لا قدرة له على إيقاع الناس في الأمراض والآفات وإلا لوقع في العالم مفاسد ولم يدع صالحا إلا نكبه، وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة. فالمراد بمس الشيطان هو الأحزان الحاصلة في قلبه بسبب وساوسه من تعظيم ما نزل به من البلاء وإغرائه على الجزع والقنوط من روح الله إلى غير ذلك مما مر ذكره في سورة الأنبياء. ولناصر القول الأول أن يقول: سلمنا أن الشيطان باستقلاله لا يقدر على المفاسد ولكنه لم لا يجوز أن يقدر على المفاسد ولكنه لم لا يجوز أن يقدر بعد الالتماس والتسليط؟. ولنعد إلى تفسير ما يختص بالمقام. قوله مُغْتَسَلٌ بارِدٌ أي هذا مكان يغتسل فيه أي بمائه ويشرب منه، والظاهر أنها كانت عينا واحدة عذبة باردة، وروى بعضهم أنه نبعت عينان ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارة فاغتسل منها فبرأ ظاهره، وضرب رجله اليسرى فنبعت عين باردة فشرب منها فزال ما في بطنه من القروح. وزعم أن تقدير الكلام هذا مغتسل وشراب بارد. وقوله وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ قيل: أحياهم الله بأعيانهم وزاده مثلهم من أولاده. وقيل: من أولاد أولاده. وقيل: كانوا قد غابوا عنه وتفرقوا فجمع الله شملهم. وقيل: كانوا مرضى فشفاهم الله والأول أصح. وقوله رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى
(5/602)
مفعول لهما فكانت الهبة رحمة له وتذكيرا لذوي العقول حتى لو ابتلوا بما ابتلي به صبروا كما صبر فيفوزوا كما فاز. وإنما لم يقل هاهنا رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا [الأنبياء: 84] مع أنه أبلغ اكتفاء بما مر في سورة الأنبياء وفي قوله وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ مع قوله في «الأنبياء» وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ [الآية: 84] إشارة إلى أن ذا اللب هو الذي يعبد الله. وتخصص كل من السورتين بما خص لرعاية الفاصلة قوله وَخُذْ معطوف على ارْكُضْ والضغث الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو سنبلة. قال مجاهد: هو لأيوب خاصة. وعن قتادة: هو عام في هذه الأمة. والصحيح أنه باق في المريض والمعذور لما
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمخدج وقد زنى بأمة فقال: خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة حلل الله يمين أيوب بأهون شيء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها.
ومعنى وَجَدْناهُ صابِراً علمنا منه الصبر.
وهاهنا نكتة ذكرها بعض أرباب القلوب وهي أنه لما نزل في حق سليمان نِعْمَ الْعَبْدُ تارة وفي حق أيوب أخرى، اغتم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا: هذا تشريف عظيم فإن كان سببه اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان فنحن لا نقدر عليه، وإن كان سببه تحمل بلاء مثل بلاء أيوب فنحن لا نطيقه، فكيف السبيل الى تحصيله؟ فأنزل الله تعالى قوله فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج: 78] والمراد أنك إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى، فإن كان منك الفضول فمني الفضل، وإن كان منك التقصير فمني النصرة والتوفيق. قلت: وصف أنبياء سائر الأمم بقوله نِعْمَ الْعَبْدُ ووصف هذه الأمة بقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: 110] فلا تشريف فوق هذا ثم أجمل ذكر طائفة من مشاهير الأنبياء. ومعنى أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ أولي العمل والعلم لأن اليد آلة لأكثر الأعمال، والبصر آلة لأقوى الإدراكات، فحسن التعبير عن العمل باليد، وعن الإدراك بالبصر، وفيه تعريض بأن الذين لا يعملون أعمال الآخرة ولا يتفكرون أفكار ذوي العقول والعرفان فهم في حكم الزمنى والعميان، ولولا قرينة الأبصار لكان يحتمل أن الأيدي جمع اليد النعمة. قوله أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ الخالصة صفة أو مصدر كالعاقبة، والدار ظرف فهي الدنيا، أو مفعول به فهي الآخرة. والمعنى جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة لا شوب فيها وهي ذكراهم الجنة بحيث لا يشوبون ذكرها بشيء من هموم الدنيا، أو هي تذكيرهم الآخرة وترغيبهم فيها، أو بسبب خلوص ذكرى الجنة، أو بما خلص من ذكراها، أو جعلناهم مختصين بخلة صافية عن المنقصات وهي الثناء الحسن في الدنيا ولسان الصدق الذي ليس لغيرهم.
والْمُصْطَفَيْنَ جمع مصطفى وأصله مصطفيين لأنه في حالة الجر بالياء قلبت الياء
(5/603)
المتحركة ألفا ثم حذفت، أراد اخترناهم من بين أبناء جنسهم والأخيار جمع خير بالتشديد أو خير بالتخفيف كأموات في ميت أو موت وإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وقد مر ذكرهم في سورة الأنبياء. وحين تمم ذكر الصالحين وما لقي كل منهم من أنواع الابتلاء تثبيتا لنبيه صلى الله عليه وسلم وهو باب من أبواب التنزيل ونوع من أنواع القرآن، أراد أن يذكر على عقيبه بابا آخر وهو ذكر جزاء المتقين والطاغين قال هذا ذِكْرٌ ثم قال وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ كما يقول المصنف: إذا فرغ من فصل من كتابه هذا باب ثم يشرع في باب آخر. ويحتمل أن يكون من تتمة صفات الأنبياء أي هذا الذي قصصنا عليك من أحوال هؤلاء الأنبياء شرف وذكر جميل يذكرون به أبدا. قوله مُفَتَّحَةً حال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل. قال الزجاج الْأَبْوابُ فاعل مُفَتَّحَةً والعائد محذوف أي الأبواب منها. وقال غيره: في مُفَتَّحَةً ضمير الجنات والْأَبْوابُ بدل الاشتمال من الضمير تقديره مفتحة هي الأبواب نظيره في بدل البعض «ضرب زيد اليد والرجل» فكان اللام عوضا من الضمير الراجع.
والمعنى أن الملائكة الموكلين بالجنات إذا رأوا صاحب الجنة فتحوا له أبوابها وحيوه بالسلام فلا يحتاجون إلى تحصيل مفاتيح ومعاناة الفتح. وقيل: أراد به وصف تلك المساكن بالسعة وجولان الطرف فيها من غير حائل. وقوله مُتَّكِئِينَ حال مقدرة متداخلة كما مر أو حال بعد حال أو عامله مؤخر وهو يَدْعُونَ أي يتحكمون في ثمارها وشرابها فإذا قالوا لشيء منها أقبل حصل عندهم. وقيل: يتمنون وقيل: يسألون. قال المفسرون:
أراد وشراب كثير فحذف اكتفاء بالأول. وحين بين أمر المسكن والمأكول والمشروب ذكر أمر المنكوح. وقاصرات الطرف قد مر في «الصافات» أنهن اللواتي قصرن الطرف عن الالتفات إلى غير أزواجهن. والأتراب جمع ترب وهي اللدة. واشتقاقها قيل من اللعب بالتراب، وقيل لأن التراب مسهن في وقت واحد. والسبب في اعتبار هذا الوصف أن التحاب بين الأقران أثبت. وقيل: هن وأزواجهن واحدة في الأسنان. وقيل: أراد أنهن شواب لا عجوز ولا صبية. ويروى أنهن بنات ثلاث وثلاثين. ومعنى لِيَوْمِ الْحِسابِ قيل: لأجل الحساب لأن الحساب علة الوصول إلى جزاء العمل. والظاهر أن اللام للوقت أي ما وعدتم تعطونه في يوم الحساب. إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ انقطاع ونهاية ولا مزيد فوق ذلك فتمام النعم بدوامها. ثم بين أن حال الطاغين مضادّة لحال المتقين وأكثر المفسرين حملوا الطغيان هاهنا على الكفر لأنه تعالى يحكي عنهم أنهم قالوا اتخذناهم سخريا، والفاسق لا يتخذ المؤمن هزوا لأن الطاغي اسم ذم، والاسم المطلق محمول على الكامل والكامل في الطغيان هو الكافر، ويؤيده قول ابن عباس: المعنى إن الذين طغوا عليّ وكذبوا رسلي لهم شر مصير. وحمله الجبائي على أصحاب الكبائر من أهل الإيمان وغيرهم
(5/604)
لأن كل من تجاوز عن تكاليف الله فقد طغا، ومنه قوله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6] والمهاد الفراش وقد مر مرارا. وقوله هذا قد مر بعض إعرابه في الوقوف، ويحتمل أن يراد العذاب هذا ثم ابتدأ فقال هو حميم أو منه حَمِيمٌ ومنه غَسَّاقٌ أو هذا فَلْيَذُوقُوهُ معناه ليذوقوا هذا فليذوقوه كقوله فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [النحل:
51] وقيل: حَمِيمٌ مبتدأ وهذا خبره. والغساق بالتخفيف والتشديد ما يغسق من صديد أهل النار. يقال: غسقت العين إذا سال دمعها. وذكر الأزهري أن الغاسق البارد ولهذا قيل لليل الغاسق لأنه أبرد من النهار. فالحميم يحرق بحرّه، والغساق يحرق ببرده.
وقال الزجاج: إنه المنتن لو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق يؤيده قول ابن عمر: هو القيح الذي يسيل منهم يجتمع فيسقونه. وقال كعب: هو عين في جهنم يسيل إليها سم كل ذي سم من عقرب وحية. وعن الحسن: هو عذاب لا يعلمه إلا الله. إن الناس أخفوا لله طاعة فأخفى لهم ثوابا في قوله فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] وأخفوا معصية فأخفى لهم عقوبة: وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أي ومذوقات أخر أو عذاب أو مذوق آخر من جنس هذا المذوق. وأَزْواجٌ أي أجناس أو مقترنات صفة الآخر لأنه جاز أن يكن مختلفات أو صفة للثلاثة المذكورة وهي حميم وغساق وشيء آخر من شكله، والمجموع خبر هذا أو خبر هو.
وحين وصف مسكن الطاغين ومأكولهم ومشروبهم حكى أحوالهم مع الذين كانوا يعدونهم أحباءهم في الدنيا ثم مع الذين كانوا يعدونهم أعداءهم. أما الأوّل فقوله هذا أي يقول الطاغون بعضهم مع بعض وذلك إذا دخلت أمة ثم دخل آخرون. والفوج الأوّل الرؤساء والثاني الأتباع. وقيل: الأول إبليس وبنوه والثاني أبناء آدم هذا فَوْجٌ أي جمع كثيف دخل النار في صحبتكم. والاقتحام الدخول في الشدة أرادوا أن أتباعهم اقتحموا معهم العذاب كما اقتحموا معهم الضلال. وقوله لا مَرْحَباً بِهِمْ دعاء منهم على أتباعهم ومَرْحَباً نصب على أنه مفعول به أو مصدر أي أتيت رحبا لا ضيقا، أو رحبت بلادك رحبا فإذا دخل عليه لا صار دعاء السوء وبهم بيان للمدعو عليهم. وقوله إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ تعليل لاستيجابهم اللعن. قيل: إنما قالوا ذلك ولم يصدر من الأتباع ذنب في حق من قبلهم لأن النار تكون مملوءة منهم، أو لأن عذابهم يضاعف بسببهم. وقيل: هو إخبار لا دعاء أي وقد وردوا موردا لا رحب فيه ولا سعة. وقيل هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ كلام الخزنة لرؤساء الكفرة فما بين أتباعهم. وقيل: هذا كله كلام الخزنة قالُوا أي الأتباع.
بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أي الدعاء الذي دعوتم به علينا أنتم أحق به وعللوا ذلك بقولهم
(5/605)
أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا والضمير لما هم فيه من العذاب أو الصلي أي كنتم السبب في العمل الذي هذا جزاؤه فجمعوا بين مجازين، لأن الأتباع هم الذين عملوا عمل السوء لا رؤساؤهم والعمل هو المقدّم لا جزاؤه. ومن جعل قوله لا مَرْحَباً بهم من كلام الخزنة، زعم أن تقدير الكلام هذا الذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحق به منا لإغوائكم إيانا وتسببكم لما نحن فيه. فَبِئْسَ الْقَرارُ أي المستقر النار قالُوا أي الفوج وهو كالبدل من قالُوا الأوّل والضعف المضاعف كما مر في «الأعراف» وأما الثاني فقوله ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أي في اعتقادنا لأن دينهم على خلاف ديننا، أو أرادوا أنهم أراذل لا خير فيهم يعنون فقراء المسلمين. وعن بعضهم أن القائلين صناديد قريش كأبي جهل والوليد وأضرابهما والرجال عمار وبلال وصهيب وأمثالهم. من قرأ أَتَّخَذْناهُمْ بفتح الهمزة فعلى أنه إنكار منهم على أنفسهم وتأنيب لها بالاستسخار منهم، وكذا فيمن قرأ أَتَّخَذْناهُمْ بكسر الهمزة ويقدر همزة الاستفهام محذوفة، ومن جعلها صفة أو حالا فلا إشكال وحينئذ يتصل أَمْ زاغَتْ بقوله ما لَنا لا نَرى أي الرجال الموصوفين في النار كأنهم ليسوا فيها بل أزاغت عنهم أبصارنا وخفي علينا مكانهم فلا نراهم وهم فيها. فأم منقطعة وكذا إن اتصل بقوله أَتَّخَذْناهُمْ على الاستفهام لأن الأول للإنكار، والثاني للاستخبار. ويجوز أن يكون «أم» متصلة وكلاهما للإنكار. ومعنى زيغ الأبصار ازدراؤهم وتحقيرهم يؤيده قول الحسن، كل ذلك قد فعلوا اتخذوهم سخريا وزاغت عنهم أبصارهم محقرة لهم واللام في الأبصار عوض من الضمير أي أبصارنا إِنَّ ذلِكَ الذي حكينا عنهم لَحَقٌّ لا بد لهم وقوعه لأنهم مالوا إلى عالم التضاد فيحشرون، كذلك. ثم بين ما هو فقال هو تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ لأن التلاعن والتشاتم نوع من أنواع الخصومة.
واعلم أنه سبحانه لما بدأ في أول السورة بأن محمدا يدعو إلى التوحيد وأن الكفار يستهزؤن منه وينسبونه إلى السخرية تارة وإلى الكذب أخرى. ثم ذكر طرفا من قصص الأنبياء عليهم السلام ليعلم أن الدنيا دار تكليف وبلاء لا دار إقامة وبقاء. ثم عقبه بشرح نعيم الأبرار وعقاب الأشرار، عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أوّل السورة وهي صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق ما يدعو إليه من التوحيد والإخلاص فقال قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ من جميع الوجوه الْقَهَّارُ لما دونه ثم أردف القهر باللطف والتربية قائلا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا ثم أكد صفتي القهر واللطف بقوله الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ فمن عزته أدخل أهل الاستكبار النار ولمغفرته أعدّ الجنة لأهل الاستغفار. قوله قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أي القول بأن الله واحد نبأ عظيم أو القول بالنبوّة أو بإثبات الحشر
(5/606)
والقيامة، وذلك لأن هذه المطالب كانت مذكورة في أوّل السورة ولأجلها سيق الكلام منجرا إلى هاهنا. ويحتمل أن يراد كتاب أنزلناه فيه نبأ عظيم وهؤلاء الأقوام أعرضوا عن كل من هذه الأمور. ثم بين أنه حاصل من قبل الوحي بقوله ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى وهم الملائكة إِذْ يَخْتَصِمُونَ أي يتقاولون فيما بينهم بالوحي. والظرف متعلق بمحذوف أي بكلامهم وقت اختصامهم، شبه التقاول بالتخاصم من حيث إن في كل منهما سؤالا وجوابا والمشابهة علة لجواز المجاز. ثم صرح بما عليه مدار الوحي قائلا إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي ما يوحى إليّ إلا هذا وهو إني نذير كامل في باب التبليغ، ويؤيده قراءة كسر أَنَّما. وقيل: إن الجار محذوف أي لم يوح إليّ إلا لأن أنذر ولا أقصر.
روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم «أتاني الليل آت من ربي وفي رواية ربي في أحسن صورة فقال لي: يا محمد. قلت: لبيك ربي وسعديك. قال: هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أعلم.
قال: فوضع يده بين كتفيّ حتى وجدت بردها بين ثديي فعلمت ما في السموات وما في الأرض. قال: يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: نعم، في الدرجات والكفارات ونقل الأقدام إلى الجماعات وإسباغ الوضوء في السبرات المكروهات أي في البرد الشديد وانتظار الصلاة بعد الصلاة، ومن حافظ عليهن عاش بخير ومات بخير وكان من ذنوبه كيوم ولدته أمه» «1» الحديث.
قال: والدرجات إفشاء السلام وإطعام الطعام والصلاة بالليل والناس نيام.
واعلم أن أشراف قريش إنما نازعوا محمدا صلى الله عليه وسلم بسبب الحسد والكبر فختم الله تعالى السورة بذكر قصة آدم وما وقع فيه إبليس من الرجم واللعن حين حسد آدم واستكبر ليصير سماع القصة زاجرا للمكلفين عن هاتين الخصلتين، فعلى هذا يكون إِذْ قالَ معمولا لمحذوف أي اذكر وقت قول ربك للملائكة. وقيل: النبأ العظيم قصص آدم والإنباء به من غير سماع من أحد. وعلى هذا فالضمير عائد إلى ما يذكره عما قريب. والمعنى ما أحكيه خبر له شأن لأنه مستفاد من الوحي. وقوله إِذْ قالَ بدل من إِذْ يَخْتَصِمُونَ والملأ الأعلى أصحاب القصة الملائكة وآدم وإبليس لأنهم كانوا في السماء وكان التقاول بينهم حين قالوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] كأنهم قالوا: هؤلاء فيما بينهم. ثم خاطبوا بها الله سبحانه فلا يلزم أن يكون الله تعالى من الملأ الأعلى ويثبت له مكان. أو نقول: المراد علو الرتبة والشرف فيشمل تقاول الله وملائكته. وقال جار الله:
كانت مقاولة الله سبحانه بواسطة ملك فكان المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسط. وقصة
__________
(1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 9 باب 15. الدارمي في كتاب الرؤيا باب 12. أحمد في مسنده (1/ 368) (4/ 88) (5/ 243) .
(5/607)
آدم مذكورة في «البقرة» وفي غيرها مشروحة. والتي في هذه السورة يوافق أكثرها ما في الحجر فلا فائدة في إعادتها فلنذكر ما يختص بالمقام قوله خَلَقْتُ بِيَدَيَّ كلام المجسمة فيه ظاهر وغيرهم حملوه على وجوه منها: أن اليد عبارة عن القدرة يقال مالي بهذا الأمر يد أي قوّة وطاقة. ومنها أنها النعمة. ومنها أنها للتأكيد وليدل على عدم الواسطة كما مر في قوله مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا [يس: 71] وقد يقال في حق من جنى بلسانه وإن لم يكن له هذا مما كسبت يداك. والحق فيه أن السلطان العظيم لا يقدر على عمل شيء بيديه إلا إذا كانت عنايته مصروفة إلى ذلك العمل، فحيث كانت العناية الشديدة من لوازم العمل باليد أمكن جعله مجازا عنها. ومنها قول أرباب التأويل إنه إشارة إلى صفتي اللطف والقهر وهما يشملان جميع الصفات فلا مخلوق إلا وهو مظهر لإحدى الصفتين، كالملك فإنه مظهر اللطف، وكالشيطان فإنه مظهر القهر إلا الإنسان فإنه مظهر لكلتيهما وبذلك استحق الخلافة ومسجودية الملائكة ولهذا
جاء في الأحاديث القدسية «لا أجعل ذرّية من خلقت بيديّ كمن قلت له كن فكان»
قوله أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ أي أطلبت الكبر من غير استحقاق أم كنت ممن علوت وفقت؟ فأجاب بأنه من العالين حيث قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ وقيل: استكبرت الآن أو لم تزل منذ كنت من المتكبرين. ومعنى الهمزة التقرير. قوله فَالْحَقُّ من قرأ بالرفع فعلى أنه خبر لما مر أو مبتدأ محذوف الخبر مثل لَعَمْرُكَ [الحجر: 72] أي فالحق قسمي لأملان والحق أقوله وهو اعتراض. ومن نصبهما فعلى أن الثاني تأكيد للأوّل، أو على أن الأوّل للإغراء أي اتبعوا الحق وهو الله سبحانه، أو الحق الذي هو نقيض الباطل. وقوله مِنْكَ أي من جنسك وهم الشياطين وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أي من ذريّة آدم. وأَجْمَعِينَ تأكيد للتابعين والمتبوعين. ثم ختم السورة بما يدل على الاحتياط والاجتهاد في طلب هذا الدين لأن النظر إما إلى الداعي أو إلى المدعو إليه. أما الداعي فلا يسأل أجرا على ما يدعو إليه وهو القرآن أو الوحي أو النبأ، ومن الظاهر أن الكذاب لا ينقطع طمعه عن طلب المال البتة. وأما المدعو إليه فقوله وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ الذين ينتحلون ما ليس عندهم ولا دليل لهم على وجوده، بل العقل الصريح يشهد بصحته فإني أدعوكم إلى الإقرار بالله أوّلا ثم إلى تنزيهه عما لا يليق به ثانيا، ثم إلى وصفه بنعوت الجمال والجلال ثالثا ومن جملة ذلك التوحيد ونفي الأنداد والأضداد، ثم أدعو إلى تعظيم الأرواح الطاهرة وهم الملائكة والأنبياء رابعا، ثم إلى الشفقة على خلق الله خامسا، ثم أدعو إلى الإقرار بالبعث والقيامة سادسا لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم: 31] فهذه أصول معتبرة في دين الإسلام يشهد بحسنها بداية العقول ويحكم ببعدها عن الباطل كل من يرجع إلى محصول وهو المراد بقوله إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ
عن النبي صلى الله عليه وسلم «للمتكلف
(5/608)
ثلاث علامات: ينازع من فوقه ويتعاطى ما لا ينال ويقول ما لا يعلم»
وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ أي خبر حقيقة القرآن وما أدعو إليه بعد حين هو الموت لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا. وقيل: هو القيامة. وقيل: هو حين ظهور الإسلام ولا يخفى ما فيه من التهديد.
(5/609)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
(سورة الزمر)
(مكية إلا ثلاث آيات نزلت في وحشي بن حرب وأصحابه يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا إلى آخرهن حروفها أربعة آلاف وسبعمائة وثمانية وكلمها ألف ومائة وسبعون آياتها 75)
[سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 31]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14)
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19)
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29)
إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
(5/610)
القراآت:
يَرْضَهُ بالإشباع: ابن كثير وعلي والمفضل وعباس وإسماعيل وابن ذكوان وخلف يَرْضَهُ باختلاس ضمة الهاء: يزيد وسهل ويعقوب ونافع وعاصم غير يحيى وحماد والمفضل وحمزة وهشام وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الباقون يَرْضَهُ بسكون الهاء ليضل بفتح الياء: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. الباقون: بالضم أَمَّنْ هُوَ بتخفيف الميم: نافع وابن كثير وحمزة وأبو زيد يا عبادي الذين بفتح الياء.
الشموني والبرجمي والوقف بالياء إني أمرت فبشر عبادي بفتح ياء المتكلم فيهما:
شجاع وأبو شعيب وعباس والشموني والبرجمي والوقف بالياء إني أخاف بالفتح:
(5/611)
أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. سالما بالألف: ابن كثير وأبو عمرو. والآخرون:
بفتح السين واللام من غير ألف.
الوقوف:
الْحَكِيمِ هـ لَهُ الدِّينَ هـ ط الْخالِصُ ط أَوْلِياءَ هـ التقدير يقولون ولو وصل لأوهم أن ما نعبدهم أخبار من الله قاله السجاوندي. وعندي أن هذا وهم بعيد والأولى أن لا يوقف لئلا يفصل بين المبتدأ وخبره زُلْفى ج لاحتمال أن خبر المبتدأ هو ما بعده يَخْتَلِفُونَ هـ ط كَفَّارٌ هـ ما يَشاءُ ز لتعجيل التنزيه سُبْحانَهُ ط الْقَهَّارُ هـ ز بِالْحَقِّ ج لاحتمال كون ما بعده حالا والاستئناف أفضل وَالْقَمَرَ ط مُسَمًّى ط الْغَفَّارُ هـ أَزْواجٍ ط ثَلاثٍ ط الْمُلْكُ ط تُصْرَفُونَ هـ الْكُفْرَ ج لعطف جملتي الشرط مع وقوع العارض لَكُمْ ط أُخْرى ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار تَعْمَلُونَ هـ الصُّدُورِ هـ سَبِيلِهِ ط قَلِيلًا ز ص والأولى الوصل أو التقدير فإنك النَّارِ هـ رَحْمَةَ رَبِّهِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ الْأَلْبابِ هـ رَبَّكُمْ ط حَسَنَةٌ ط واسِعَةٌ ط حِسابٍ هـ لَهُ الدِّينَ هـ ط الْمُسْلِمِينَ هـ عَظِيمٍ هـ دِينِي هـ لا دُونِهِ ط يَوْمَ الْقِيامَةِ ط الْمُبِينُ هـ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ط عِبادَهُ ط فَاتَّقُونِ هـ الْبُشْرى ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب عِبادِ هـ لا أَحْسَنَهُ ط الْأَلْبابِ هـ الْعَذابِ هـ فِي النَّارِ هـ ج للآية مع الاستدراك مبنية لا لأن ما بعده وصف الْأَنْهارُ ط وَعْدَ اللَّهِ ط الْمِيعادَ هـ حُطاماً ط الْأَلْبابِ هـ مِنْ رَبِّهِ ط لحذف جواب الاستفهام من ذِكْرِ اللَّهِ ط مُبِينٍ هـ رَبَّهُمْ ج لأن الجملة ليست من صفة الكتاب مع العطف ذِكْرِ اللَّهِ ط مَنْ يَشاءُ ط هادٍ هـ يَوْمَ الْقِيامَةِ ط لحق الحذف كما مر تَكْسِبُونَ هـ لا يَشْعُرُونَ هـ الدُّنْيا ج للام الابتداء مع العطف أَكْبَرُ هـ يَعْلَمُونَ هـ يَتَذَكَّرُونَ هـ ج لاحتمال كون قُرْآناً نصبا على المدح أو على الحال المؤكدة كما يجيء يَتَّقُونَ هـ مُتَشاكِسُونَ هـ لِرَجُلٍ ط مَثَلًا ط اللَّهُ ج للإضراب مع اتفاق الجملتين لا يَعْلَمُونَ هـ مَيِّتُونَ هـ تَخْتَصِمُونَ هـ.
التفسير:
تَنْزِيلُ الْكِتابِ مبتدأ وخبره مِنَ اللَّهِ وقيل: أصله هذا تنزيل الكتاب والجار صلة، والأولى أقوى لأن الإضمار خلاف الأصل، ولأنه يلزم مجاز آخر وهو كون التنزيل بمعنى المنزل فإن هذا إشارة إلى القرآن أو إلى جزء منه وهو هذه السورة. وفيه إبطال ما يقوله المشركون من أن محمدا يقوله من تلقاء نفسه. وفي قوله مِنَ اللَّهِ إشارة إلى الذات المستحق للعبادة والطاعة كقولك: هذا كتاب من فلان. تعظم به شأن الكتاب: وفي قوله الْعَزِيزِ إشارة إلى أن هذا الكتاب يحق قبوله فكتاب العزيز عزيز، وفيه أنه غني عن
(5/612)
إرسال الكتاب والاستكمال به وإنما ينتفع به المرسل إليهم. وفي قوله الْحَكِيمِ إشارة إلى أنه مشتمل على الفوائد الدينية والدنيوية لا على العبث والباطل. وقوله إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ ليس تكرارا من وجهين: أحدهما أن التنزيل للتدريج والإنزال دفعي كما مر مرارا. والثاني أن الأول كعنوان الكتاب، والثاني يقرر ما في الكتاب. وقوله بِالْحَقِّ يعني أن كل ما أودعنا فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد وأنواع التكاليف فهو حق وصدق مؤيد بالبرهان العقلي وهو مطابقته للعقول الصحيحة، وبالدليل الحسي وهو أن الفصحاء عجزوا عن معارضته. ثم اشتغل ببيان بعض ما فيه من الحق وهو الإقبال على عبادته بالإخلاص والالتفات عما سواه بالكلية. أما الأول فهو قوله فَاعْبُدِ اللَّهَ أي أنت أو أمتك مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وآية الإخلاص أن يكون الداعي إلى العبادة هو مجرد الأمر لا طلب مرغوب أو هرب مكروه. وأما الثاني فذلك قوله أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي واجب اختصاصه بالطاعة من غير أن يشوب ذلك دعاء أو شرك ظاهر وخفي. وخصصه قتادة فقال: الدين الخالص شهادة أن لا إله إلا الله. وحين حث على التوحيد والإخلاص ذم طريقة الشرك والتقليد فقال وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا الضمير للمشركين ولكن الموصول يحتمل أن يكون عبارة عن المشركين والخبر ما أضمر من القول، أو قوله إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ والقول المضمر حال أو بدل فلا يكون له محل كالمبدل، وأن يكون عبارة عن الشركاء والخبر إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ والقول المضمر للحال أو بدل. وتقدير الكلام على الأول: والمشركون الذين اتخذوا من دونه أولياء ويقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا، أو المشركون الذين اتخذوا من دونه أولياء قائلين أو يقولون ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم. وعلى الثاني: والشركاء الذين اتخذهم المشركون أولياء قائلين أو يقولون كذا إن الله يحكم بينهم. وإذا عرفت التقادير فنقول: المراد بالأولياء هاهنا الملائكة وعيسى واللات والعزى. قال ابن عباس:
كانوا يرجون شفاعتهم وتقريبهم إلى الله أما الملائكة وعيسى فظاهر، وأما الأصنام فلأنهم اعتقدوا أنها تماثيل الكواكب والأرواح السماوية أو الصالحين. ومعنى حكم الله بينهم أنه يدخل الملائكة وعيسى الجنة، ويدخلهم مع الأصنام النار. واختلافهم أن الملائكة وعيسى موحدون وهم مشركون والأصنام يكفرون يوم القيامة بشركهم وهم يرجون نفعهم وشفاعتهم. ويجوز أن يرجع الضمير في بَيْنَهُمْ إلى الفريقين المؤمن والمشرك. ولا يخفى ما في الآية من التهديد. ثم سجل عليهم بالخذلان والحرمان فقال إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ فكذبهم هو زعمهم شفاعة الأصنام وكفرانهم أنهم تركوا عبادة المنعم الحق وأقبلوا على عبادة من لا يملك لهم ضرا ولا نفعا. ومن جملة كذبهم قولهم الملائكة
(5/613)
بنات الله فلذلك نعبد صورها فاحتج على إبطال معتقدهم بقوله لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ وهو الأفضل يعني البنين لا الأنقص وهن البنات. وقال جار الله: معناه لو أراد اتخاذ الولد لم يزد على ما فعل من اصطفاء ما شاء من خلقه وهم الملائكة، لأن اتخاذ الولد ممتنع، وفيه توبيخ لهم على أنهم حسبوا الاصطفاء اتخاذ الأولاد بل البنات. وأقول: إنه تعالى أراد إبطال قولهم بطريق برهان وهو صورة قياس استثنائي كقوله لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى لأجل الاتخاذ مما يخلق ما يشاء لكنه ما اصطفى ينتج أنه لم يرد أما الشرطية فظاهرة بعد تسليم كمال قدرته، وأما الثانية فأشار إليها بقوله سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ فقوله سُبْحانَهُ إشارة إلى استحالة اصطفائه شيئا لأجل اتخاذ الولد. وقوله هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ إشارة إلى البرهان على استحالة ذلك وتقريره من ثلاثة أوجه: الأول أنه هو الله وهو اسم للمعبود الواجب الذات الجامع لجميع نعوت الجمال والجلال واتخاذ الولد يدل على الحاجة والفقر حتى يقوم الولد بعده مقامه، أو على الاستئناس والالتذاذ بوجوده أو لغير ذلك من الأغراض، وكل ذلك ينافي الوجوب الذاتي والاستغناء المطلق. الثاني أنه هو الواحد الحقيقي كما مر ذكره مرارا. والولد إنما يحصل من جزء من أجزاء الوالد، ومن شرطه أن يكون مماثلا لوالده في تمام الماهية حتى تكون حقيقة الوالد حقيقة نوعية محمولة على شخصين، ويكون تعين كل منهما معلوما لسبب منفصل وكل ذلك ينافي التعين الذاتي والوحدة المطلقة. وأيضا إن حصول الولد من الزوج يتوقف على الزوجة عادة وهي لا بد أن تكون من جنس الزوج فلا يكون الزوج مما ينحصر نوعه في شخصه. الثالث أنه هو القهار والمحتاج إلى الولد هو الذي يموت فيقوم الولد مقامه والميت مقهور لا قاهر، فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما اصطفى شيئا لأن يتخذه ولدا فصح أنه لم يرد ذلك، ونفي إرادة الاتخاذ أبلغ من نفي الاتخاذ فقد يراد ولا يتخذ لمانع كعجزه ونحوه. هذا ما وصل إليه فهمي في تفسير هذه الآية والله تعالى أعلم بأسرار كلامه.
وحين طعن في إلهية الأصنام عدد الصفات التي بها يستدل على الإلهية الحقة وهي أصناف: أولها قوله خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي متلبسا بالغاية الصحيحة وقد مر مرارا. الثاني. يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ والتكوير اللف واللي يقال كار العمامة على رأسه وكورها. وفي التشبيه أوجه منها: أن الليل والنهار متعاقبان إذا غشي أحدهما مكان الآخر فكأنما ألبسه ولف عليه. ومنها أنه شبه كل منهما إذا غيب صاحبه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن الأبصار. ومنها أن كلا منهما يكر على الآخر كرورا متتابعا كتتابع أكوار العمامة.
وقيل: أراد أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص من الآخر من
قوله صلى الله عليه وسلم «نعوذ بالله من
(5/614)
الحور بعد الكور» «1»
أي من الإدبار بعد الإقبال. الثالث قوله وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى وقد مر مثله في «فاطر» وغيره. وحيث كان الأجل المسمى شاملا للقيامة عقبه بقوله أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ وفيه ترهيب مع ترغيب. الرابع والخامس قوله خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وهما آيتان أوّلهما تشعيب الخلق الفائت للحصر من نفس آدم، والثانية خلق حوّاء من ضلعه. ومعنى «ثم» ترتيب الأخبار لأن الأولى عادة مستمرة دون الثانية إذ لم يخلق أنثى غير حوّاء من قصيري رجل فكانت أدخل في كونها آية وأجلب لعجب السامع. وقيل: هو متعلق بواحدة في المعنى كأنه قيل: خلقكم من نفس واحدة ثم شفعها الله بزوج منها. وقيل: إنه خلق آدم وأخرج ذريته من ظهره ثم ردهم إلى مكانهم، ثم خلق بعد ذلك حوّاء. وقيل: «ثم» قد يأتي مع الجملة دالا على التقدّم كقوله ثُمَّ اهْتَدى [طه: 82] ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [البلد: 17]
وكقوله صلى الله عليه وسلم «فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير»
السادس قوله وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ أما الأزواج فهي المذكورة في سورة الأنعام من الضأن اثنين الذكر والأنثى، ومن المعز اثنين، ومن الإبل اثنين، ومن البقر اثنين. وأما وصفها بالإنزال فقيل: أنزلها من الجنة. وقيل:
أراد إنزال ما هو سبب في وجودها وهو المطر الذي به قوام النبات الذي به يعيش الحيوان.
وقيل: أنزل بمعنى قضى وقسم لأن قضاياه وقسمه مكتوبة في اللوح ومن هناك ينزل. وفي هذه العبارة نوع فخامة وتعظيم لإفادتها معنى الرفعة والاعتلاء ولهذا يقال: رفعت القضية إلى الأمير وإن كان الأمير في سرب. وخصت هذه الأزواج بالذكر لكثرة منافعها من اللبن واللحم والجلد والشعر والوبر والركوب والحمل والحرث وغير ذلك. السابع قوله يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ والمقصود ذكر تخليق الحيوان على الإطلاق بعد ذكر تخليق الإنسان والأنعام، إلا أنه غلب أولي العقل لشرفهم. ويحتمل أن يكون ذكر الإنعام اعتراضا حسن موقعه ذكر الأزواج بعد قوله جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ليعلم أن كل حيوان ذو زوج وترتيب التخليق مذكور مرارا كقوله وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14] والظلمات الثلاث: البطن والرحم والمشيمة، أو الصلب والرحم والبطن. ذلِكُمُ الذي هذه أفعاله رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وقد مر إعرابه في «فاطر» . لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا موصوف بهذه الصفات إلا هو فَأَنَّى تُصْرَفُونَ
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب الدعاء باب 20. مسلم في كتاب الحج حديث 426. الترمذي في كتاب الدعوات باب 41. النسائي في كتاب الاستعاذة باب 41، 42. الدارمي في كتاب الاستئذان باب 42. أحمد في مسنده (5/ 82، 83) .
(5/615)
أي كيف يعدل بكم عن طريق الحق بعد هذا البيان؟ ثم بين أنه غني عن طاعات المطيعين وأنها لا تفيد إلا أنفسهم فقال إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ قال المعتزلة: في قوله وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ دليل على أن الكفر ليس بقضائه وإلا لكان راضيا به. وأجاب الأشاعرة بأنه قد علم من اصطلاح القرآن أن العباد المضاف إلى الله أو إلى ضميره هم المؤمنون. قال وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ [الفرقان: 63] عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ [الدهر: 6] فمعنى الآية: ولا يرضى لعباده المخلصين الكفر. وهذا مما لا نزاع فيه. أو نقول: سلمنا أن كفر الكافر ليس برضا الله بمعنى أنه لا يمدحه عليه ولا يترك اللوم والاعتراض إلا أنا ندعي أنه بإرادته، وليس في الآية دليل على إبطاله. ثم بين غاية كرمه بقوله وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ والسبب في كلا الحكمين ما
جاء في الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي»
وباقي الآية مذكور مرارا مع وضوحه. ثم حكى نهاية ضعف الإنسان وتناقض آرائه بقوله وَإِذا مَسَّ إلى آخره. وقد مر نظيره أيضا. وقيل: إن الإنسان هو الكافر الذي تقدّم ذكره.
وقيل: أريد أقوام معينون كعتبة بن ربيعة وغيره. ومعنى خوّله أعطاه لا لاستجرار العوض.
قال جار الله: في حقيقته وجهان: أحدهما جعله خائل مال من قولهم هو خائل مال وخال مال إذا كان متعهدا له حسن القيام به. ومنه ما
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتخوّل أصحابه بالموعظة
أي يتعهد ويتكفل أحوالهم إن رأى منهم نشاطا في الوعظ وعظهم. والثاني أنه جعله يخول أي يفتخر كما قيل:
إن الغني طويل الذيل مياس ومعنى نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ نسي الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه، أو نسي ربه الذي كان يتضرع إليه و «ما» بمعنى «من» . والمراد أنه نسي أن لا مفزع ولا إله سواه وعاد إلى اتخاذ الأنداد مع الله. واللام في لِيُضِلَّ لام العاقبة. ثم هدّده بقوله تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] وفيه أن الكافر لا يتمتع بالدنيا إلا قليلا ثم يؤل إلى النار.
ثم أردفه بشرح حال المحقين الذين لا رجوع لهم إلا إلى الله ولا اعتماد لهم إلا على فضله فقال أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ قال ابن عباس: القنوت الطاعة. وقال ابن عمر: لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام. والمشهور أنه الدعاء في الصلاة والقيام بما يجب عليه من الطاعة. وعن قتادة آناءَ اللَّيْلِ أوّله ووسطه وآخره. وفيه تنبيه على فضل قيام الليل ولا يخفى أنه كذلك لبعده عن الرياء ولمزيد الحضور وفراغ الحواس من الشواغل
(5/616)
الخارجية، ولأن الليل وقت الراحة فالعبادة فيه أشق على النفس فيكون ثوابه أكثر. والواو في قوله ساجِداً وَقائِماً للجمع بين الصفتين. وفي قوله يَحْذَرُ الْآخِرَةَ أي عذابها وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ إشارة إلى أن العابد يتقلب بين طوري القهر واللطف، ويتردّد بين حالي القبض والبسط ولا يخفى أن في الكلام حذفا فمن قرأ أَمَّنْ بالتخفيف فالخبر محذوف والمعنى أمن هو مطيع كغيره، وإنما حذف لدلالة الكلام عليه وهو جري ذكر الكافر قبله وبيان عدم الاستواء بين العالم والجاهل بعده. ومن قرأ بالتشديد فالمحذوف جملة استفهامية والمذكور معطوف على المبتدأ والمعنى: هذا أفضل أمن هو قانت. وقيل: الهمزة على قراءة التخفيف للنداء كما تقول: فلان لا يصلي ولا يصوم فيا من تصلي وتصوم أبشر.
وقيل: المنادي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم بدليل قوله قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الآية. قال جار الله: أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون فكأنه جعل من لا يعمل غير عالم. وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون فيها ثم يفتنون بالدنيا. ويجوز أن يراد على وجه التشبيه أي كما لا يستوي العالمون والجاهلون كذلك لا يستوي القانتون والعاصون. قيل: نزلت في عمار بن ياسر وأمثاله، والظاهر العموم. وفي قوله إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ إشارة إلى أن هذا التفات العظيم بين العالم والجاهل لا يعرفه إلا أرباب العقول كما قيل:
إنما نعرف ذا الفضل من الناس ذووه وقيل لبعض العلماء: إنكم تزعمون أن العلم أفضل من المال ونحن نرى العلماء مجتمعين على أبواب الملوك دون العكس؟ فأجاب بأن هذا أيضا من فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فتركوه. وحين بين عدم الاستواء بين من يعلم وبين من لا يعلم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يخاطب المؤمنين بأنواع من الكلام. النوع الأوّل. قل يا عبادي الذين آمنوا اتقوا ربكم قال أهل السنة: أمر المؤمنين أن يضموا إلى الإيمان التقوى، وفيه دلالة على أن الإيمان يبقى مع المعصية. وقالت المعتزلة: أمرهم بالتقوى لكيلا يحبطوا إيمانهم بارتكاب الكبائر بل يزيدوا في الإيمان حتى يتصفوا بصفة الاتقاء. ثم بين للمؤمنين فائدة الاتقاء قائلا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الآية. وقوله فِي هذِهِ الدُّنْيا إما أن يكون صلة لما قبله أو صلة لما بعده وهو قول السدي.
ومعناه على الأوّل: الذين أحسنوا في هذه الدنيا لهم حسنة في الآخرة وهي الجنة. والتنكير للتعظيم أي حسنة لا يصل العقل إلى كنهها. وعلى الثاني: الذين أحسنوا فلهم في هذه
(5/617)
الدنيا حسنة. قال جار الله: فالظرف بيان لمكان الحسنة. ويحتمل أن يقال: إنه نصب على الحال لأنه نعت للنكرة قدّم عليها. والقائلون بهذا القول فسروا الحسنة بالصحة والعافية وضم بعضهم إليها الأمن والكفاية. ورجح الأوّل بأن هذه الأمور قد تحصل للكفار على الوجه الأتم فكيف تجعل جزاء للمؤمن المتقي. وقيل: هي الثناء الجميل. وقيل: الظفر والغنيمة. وقيل: نور القلب وبهاء الوجه. وفي قوله وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إشارة إلى أن أسباب التقوى إن لم يتيسر في أرض وجبت الهجرة إلى أرض يتيسر ذلك فيها فيكون كقوله أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [النساء: 97] وعن أبي مسلم: هي أرض الجنة لأنه حين بين أن المتقي له الجنة وصف أرض الجنة بالسعة ترغيبا فيها كما قال نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ [الزمر: 74] إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مفارقة الأوطان وتجرّع الغصص واحتمال البلايا في طاعة الله وتكاليفه أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أي لا يحاسبون أو بغير حصر.
قال جار الله: عن النبي صلى الله عليه وسلم «ينصب الله الموازين يوم القيامة فيؤتى بأهل الصلاة فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل الحج فيوفون أجورهم بالموازين ويؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزان ولا ينشر لهم ديوان ويصب عليهم الأجر صبا» ثم تلا الآية وقال: حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض مما يذهب به أهل البلاء من الفضل.
النوع الثاني قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ
قال مقاتل: إن كفار قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ما يحملك على هذا الدين الذي أتيتنا به؟ ألا تنظر إلى ملة أبيك وجدّك وسادة قومك يعبدون اللات والعزى؟ فأنزل الله هذه الآية.
وكأنه إشارة إلى الأمر المذكور في أوّل السورة فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وقوله وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ ليس بتكرار لأن اللام للعلة والمأمور به محذوف يدل عليه ما قبله والمعنى: أمرت بإخلاص الدين وأمرت بذلك لأجل أن أكون أوّل المسلمين أي مقدّمهم وسابقهم في الدارين فنقول: فائدة التكرار أن ذكر التعليل مع نوع تأكيد. وقيل: اللام بدل من الباء أي أمرت بأن أكون أول من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره ليصح الاقتداء بي في قولي وفعلي. ولعل الإخلاص إشارة إلى عمل القلب والإسلام إلى عمل الجوارح،
فإن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الإسلام في خبر جبريل بالأعمال الظاهرة، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم ليس مثل الملوك الجبابرة الذين يأمرون الناس بأشياء وهم لا يفعلونها بل له سابقة في كل ما يأمر به وينهى عنه.
وحين بين أن الله أمره بإخلاص القلب وبأعمال الجوارح وكان الأمر يحتمل الوجوب والندب بين أن ذلك الأمر للوجوب فقال قُلْ إِنِّي أَخافُ الآية. وذلك أن خوف العقاب لا يترتب إلا على ترك الواجب، وإذا كان النبيّ صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره خائفا من العصيان فغيره أولى. قيل: المراد به أمته. وقيل: نزلت قبل أن يغفر الله له. وقالت الأشاعرة: فيه دليل على أن صاحب الكبيرة
(5/618)
قد يعفى عنه لأنه بين أن اللازم عند حصول المعصية خوف العقاب لا نفس العقاب. النوع الثالث قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي وليس بتكرار لما قبله وذلك أن الأوّل للإخبار بأنه مأمور من جهة الله بالعبادة الخالصة عن الشرك الجلي والخفي، وهذا إخبار بأن الذي أمر به فإنه قد أتى به على أكمل الوجوه، ولهذا أخر الفعل وضم إلى مضمونه التهديد بقوله فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ النوع الرابع قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الكاملين في الخسران الجامعين لوجوهه هم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لوقوعها في هلكة الإخلاد بعذابها وَخسروا أَهْلِيهِمْ لأن أهلهم وأولادهم إن كانوا في النار فلا فائدة لهم منهم لأنهم محجوبون عنهم، أو لأن كلا منهم مشغول بهمه وإن كانوا من أهل الجنة فما أبعد ما بينهم.
وقيل: أهلوهم الحور العين في الجنة لو آمنوا.
قال أهل البيان: في قوله أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ تفظيع لشأنهم حيث استأنف الجملة وصدّرها بحرف التنبيه ووسط الفصل وعرف الخسران ووصفه بالمبين. قلت:
التحقيق فيه أن للإنسان قوّتين يستكمل بإحداهما علما وبالأخرى عملا. والآلة الواسطة في القسم الأول هي العلوم المسماة بالبديهيات وترتيبها على الوجه المؤدّي إلى النتائج وهو بمنزلة الربح يشبه تصرف التاجر في رأس المال بالبيع والشراء، والآلة في القسم العملي هي القوى البدنية وغيرها من الأسباب الخارجية المعينة عليها، واستعمال تلك القوى في وجوه أعمال البر التي هي بمنزلة الربح يشبه التجارة فكل من أعطاه الله العقل والصحة والتمكين.
ثم إنه لم يستفد منها معرفة الحق ولا عمل الخير فإذا مات فقد فات ربحه وضاع رأس ماله ووقع في عذاب الجهل وألم البعد عن عالمه والقرب مما يضاده أبد الآباد، فلا خسران فوق هذا ولا حرمان أبين منه وقد أشار إلى هذا بقوله لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ أي أطباق من النار من ظلل الآخرين فإن لجهنم دركات كما أن للجنة درجات. وقال المفسرون: سمى النار ظلة بغلظها وكثافتها فصارت محيطة بهم من جميع الجوانب حائلة من النظر إلى شيء آخر. قلت: إن كانوا في كرة النار فوجهه ظاهر ونظيره في الأحوال النفسانية إحاطة نار الجهل والحرص وسائر الأخلاق الذميمة بالإنسان وقد مرّ في قوله لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف: 41] يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [العنكبوت: 55] وقيل: الظلة ما علا الإنسان فسمى ما تحتهم بالظلة إطلاقا لأحد الضدين على الآخر، أو لأن التحتانية مشابهة للفوقانية في الحرارة والإحراق وذلِكَ العذاب المعد للكفار يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ المؤمنين وقد مر أن العباد في القرآن إذا كان مضافا إلى ضمير الله اختص بأهل الإيمان عند أهل السنة. وعندي أنه لا مانع من
(5/619)
التعميم هاهنا. ثم عقب الوعيد بالوعد قائلا وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ وهو كل ما عبد من دون الله كما مر في آية الكرسي. وقوله أَنْ يَعْبُدُوها بدل اشتمال منه وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ رجعوا بالكلية إلى تحصيل رضاه، فالأول تخلية، والثاني تحلية، وحقيقة الإعراض عما سوى الله والإقبال على الله هي أن يعرف أنّ كل ما سواه فإنه ممكن الوجود لذاته فقير في نفسه وهو سبحانه واجب الوجود لذاته غني على الإطلاق لا حكم إلا له ولا تدبير إلا به وبأمره. لَهُمُ الْبُشْرى أي هم مخصوصون بالبشارة المطلقة وهي الخبر الأول الصدق الموجب للسرور بزوال المكاره وحصول الأماني ووقتها الموت الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [النحل: 32] وعند دخول الجنة وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرعد: 24] وعند لقاء الله تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب: 44] وسماع هذه البشارات في الدنيا على ألسنة الرسل لا يخرجها عن كونها بشارة في هذه الأوقات لأنها في الأول عامة للمكلفين مبهمة فيهم ولا تتعين إلا في هذه الأحوال. وقيل: هذه أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها أو سمعوها نسأل الله الفوز بها. قال ابن زيد: نزلت في ثلاثة نفر كانوا يقولون في الجاهلية لا إله إلا الله: زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي. وعن ابن عباس أن أبا بكر آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عثمان وعبد الرحمن وطلحة والزبير وسعد وسعيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فأنزل الله فبشر عبادي الذين يستمعون القول أي من أبي بكر فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وهو لا إله إلا الله.
وقال أهل النظم: لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأقلون جعل الحكم أعم إظهارا للرحمة فقال: كل من اختار الأحسن في كل باب كان من زمرة السعداء أهلا للبشارة. وقال جار الله: أراد بعباده الذين يستمعون القول الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم أي هم الذين ضموا هذه الخصلة إلى تلك، ولهذا وضع الظاهر في موضع المضمر. وفي الآية دلالة على وجوب النظر والاستدلال وأنه إذا اعترض أمران واجب وندب، فالأولى اختيار الواجب. وكذا الكلام في المباح والندب، فالأولى اختيار الواجب. وكذا الكلام في المباح والندب كالقصاص والعفو وكل ما هو أحوط في الدين. مثاله في الأصول القول بأن للعالم صانعا حيا قديما عليما قادرا متصفا بنعوت الجلال والإكرام وصفات الكمال والتمام، أولى وأحوط من إنكاره. وكذا الإقرار بالبعث والجزاء أحوط من الإنكار، وفي الفروع الصلاة المشتملة على القراءة والتشهد والتسليم وغيرها من الأركان والأبعاض المختلف فيها أجود من الصلاة الفارغة عنها أو عن بعضها.
وقال العارفون: يسمعون من النفس الدعوة إلى الشهوات، ومن الشيطان قول الباطل
(5/620)
والغرور، ومن الملك الإلهامات، ومن الله ورسوله الدعاء إلى دار السلام، فيقبلون كلام الله ورسوله والخواطر الحسنة دون غيرها. وعن ابن عباس: هو الرجل يجلس مع القوم فيستمع الحديث فيه محاسن ومساو فيحدث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه. ومن الواقفين من يقف على قوله فبشر عبادي ويبتدىء الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ وخبره أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ وهو إشارة إلى الفاعل وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ إشارة إلى أن جواهر نفوسهم قابلة لفيض الهداية بخلاف من لم يكن له قابلية ذلك وهو قوله أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ قال جار الله: أصل الكلام أمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تنقذه فهي جملة شرطية دخل عليها الهمزة للإنكار، وكررت الفاء الثانية للجزاء تأكيدا لمعنى الإنكار. ووضع من في النار موضع الضمير تصريحا بجزائهم، وأما الفاء الأولى فللعطف على محذوف يدل عليه سياق الكلام تقديره: أأنت مالك أمرهم؟ فمن حق إلى آخره. وجوز أن يكون الكلام بعد المحذوف جملتين شرطية جزاؤها محذوف أيضا ثم حملية والتقدير: أفمن حق عليه كلمة العذاب فأنت تخلصه أفأنت تنقذ من في النار؟ قلت: فالكلام على هذا التقدير يشتمل على أربع جمل: ثنتان بعد همزتي الإنكار محذوفتان والباقيتان ظاهرتان. ومن زعم أن الفاء بعد الهمزة لمزيد الإنكار لا للعطف فمجموع الآية شرطية كما ذكرنا، أو هي مع حملية ثم صرح بجزاء المتقين فقال لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ وهو كالمقابل لما مر في وعيد الكفار لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ ومعنى قوله مَبْنِيَّةٌ والله أعلم. أنها بنيت بناء المنازل التي على الأرض وسوّيت تسويتها وجعلت متساوية في أسباب النزاهة من الأشجار والأنهار لا مثل أبنية الدنيا فان الفوقاني منها يكون أضعف من التحتاني وأخف، والتحتاني قد يجري من تحتها الأنهار، وأما الفوقاني فلا يمكن فيها ذلك. قال حكماء الإسلام: الغرف المبنية بعضها فوق بعض هي العلوم المكتسبة المبنية على الفطريات، وأنها تكون في المتانة واليقين كالعلوم الغريزية البديهية.
وحين وصف الآخرة بصفات توجب الرغبة فيها أراد أن يصف الدنيا بما يقتضي النفرة عنها فقدم لذلك مقدمة يستدل بها على حقية الصانع أيضا فقال أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ أي أدخله في الأرض حال كون ذلك الماء يَنابِيعَ مثل الدم في العروق. والينابيع جمع ينبوع وهو كل ماء يخرج من الأرض. وقيل: هو الموضع الذي يخرج منه الماء كالعيون والآبار فينصب على الظرف. وقوله ثُمَّ يُخْرِجُ على لفظ المستقبل تصوير لتلك الحالة العجيبة الشأن وهي إخراج النبت المختلف الألوان والأصناف والخواص بسبب الماء المخالط للأرض ثُمَّ يَهِيجُ أي يتم جفافه. قال الأصمعي: لأنه إذا
(5/621)
تم جفافه جاز له أن يثور عن منابته ويذهب ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً أي فتاتا متكسرا إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من إنزال الماء وإخراج الزرع بسببه لَذِكْرى لتذكيرا أو تنبيها على وجود الصانع لِأُولِي الْأَلْبابِ وفيه أن الإنسان وإن طال عمره فلا بدّ له من الانتهاء إلى حالة اصفرار اللون وتحطم الأجزاء والأعضاء بل إلى الموت والفناء. وإنما قال هاهنا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً وفي الحديد ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً [الحديد: 20] لأن الفعل هناك مسند إلى النبات وهو قوله أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ وهاهنا مسند إلى الله من قوله أَنْزَلَ إلى آخره. وحين بالغ في تقرير البيانات الدالة على وجوب الإقبال على طاعة الله والإعراض عن الدنيا الفانية بيّن أن ذلك البيان لا يكمل الانتفاع به إلا إذا شرح الله صدره ونور قلبه فقال أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ ولا يخفى ما في لفظة «على» من فائدة الاستعلاء والتمكن كما مر في قوله أُولئِكَ عَلى هُدىً [البقرة: 5] والخبر محذوف كما ذكرنا في قوله أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ يعني هذا الشخص المنشرح الصدر كمن طبع الله على قلبه يدل عليه ما بعده فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أي من أجل سماع القرآن. وإنما عدى ب «من» لأن قسوة القلب تدل على خلوه من فوائد القرآن ويجوز أن يكون «من» للتعليل وذلك أن جواهر النفوس مختلفة فبعضها تكون مشرقة بنور الله يزيدها نور القرآن بهاء وضياء، وبعضها تكون مظلمة كدرة لا ينعكس نور الذكر إليها ولا تظهر صور الحق فيها كالمرآة الصدئة. ثم أكد وصف القرآن وكيفية تأثيره في النفوس بقوله اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ
عن ابن عباس وابن مسعود أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا ملة فقالوا له: حدثنا، فنزلت الآية.
والحديث كلام يتضمن الخبر عن حال متقدمة ووصفه بالحدوث من حيث النزول لا ينافي قدمه من حيث إنه كلام نفسي. ووجه كونه أحسن لفظا ومعنى مما لا يخفى على ذي طبع فضلا عن ذي لب. وقوله كِتاباً بدل من أحسن أو حال موطئة. ومعنى مُتَشابِهاً أنه يشبه بعضه بعضا في الإعجاز اللفظي والمعنوي والنظم الأنيق والأسلوب العجيب والاشتمال على الغيوب وعلى أصول العلوم كما مر في أوّل «البقرة» في تفسير قوله وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة: 23] وقيل: هو من قوله وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7] فيكون صفة لبعض القرآن. وقيل:
يشبه اللفظ اللفظ والمعنى مختلف. وقوله مَثانِيَ جميع مثنى ومثنى بمعنى مكرر لما ثنى من قصصه وأحكامه ومواعظه، أو لأنه يثني في التلاوة فلا يورث ملالا
كقوله «ولا يخلق على كثرة الرد» «1»
وقيل: المثاني لآي القرآن كالقوافي للشعر. وقد مر بعض هذه الأقوال في مقدمات الكتاب وفي سورة الحجر في قوله وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر: 87]
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 14. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 1.
(5/622)
ومعنى اقشعرار الجلد تقبضه. قال جار الله: تركيبه من حروف القشع وهو الأديم اليابس مضموما إليها الراء ليصير رباعيا دالا على معنى زائد، وهو تمثيل لشدة الخوف أو حقيقة سببه الخوف. قال المفسرون: أراد أنهم عند سماع آيات العذاب يخافون فتقشعر جلودهم وعند سماع آيات الرحمة والإحسان أو تذكرهم لرأفته وأن رحمته سبقت غضبه تلين جلودهم وقلوبهم. ومعنى «إلى» في قوله إِلى ذِكْرِ اللَّهِ هو أنه ضمن لأن معنى سكن واطمأن. وقال العارفون: إذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا وإن راح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا. وقال أهل البرهان: إذا اعتبر العقل موجودا لا أول له ولا آخر ولا حين ولا جهة وقع في بادية التحير والهيبة، وإذا اعتبر الدلائل القاطعة على وجود موجود واجب لذاته واحد في صفاته وأفعاله اطمأن قلبه إليه. قال جار الله: إنما ذكرت الجلود أوّلا وحدها لأن الخشية تدل على القلوب لأنها محل الخشية فكأنه قيل: تقشعر جلودهم بعد خشية قلوبهم، ثم إذا ذكروا الله ومبنى أمره على الرأفة والرحمة استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم وبالقشعريرة لينا في جلودهم. ويحتمل أن يقال: المكاشفة في مقام الرجاء أكمل منها في مقام الخوف، ومحل المكاشفات هو القلب، فلذلك اختص ذكر القلب بجانب الرجاء. ثم أشار إلى الكتاب المذكور بقوله ذلِكَ هُدَى اللَّهِ كقوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] .
ثم بين أن للقاسية قلوبهم حالين: أما في الدنيا فالضلال العام وهو قوله وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ وأما في الآخرة فقوله أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ أي شدّته والخبر محذوف وهو كمن أمن العذاب واتقاء العذاب بوجهه إما حقيقة بأن تكون يداه مغلولة إلى عنقه فلا يتهيأ له أن يتقي النار إلا بوجهه، وإما أن يكون كناية عن عجزه عن الاتقاء وذلك أن الإنسان إذا وقع في نوع من العذاب فإنه يجعل يديه وقاية لوجهه الذي هو أشرف الأعضاء، فكأنه قيل: لا يقدرون على الاتقاء إلا بالوجه، والاتقاء بالوجه غير ممكن فلا اتقاء أصلا وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ القائلون هم خزنة النار. قوله كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تصوير لحال أمثالهم من الأمم الخالية بيناهم آمنون إذ أخذهم العذاب والخزي في الدنيا كالمسخ والقتل ونحوهما. ثم بين بقوله وَلَقَدْ ضَرَبْنا إلى آخر الآيتين أن هذه البيانات بلغت في الكمال إلى حيث لا مزيد عليه. ثم ضرب من أمثال القرآن مثلا لقبح طريقة أهل الشرك وهو رجل من المماليك قد اشترك فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ أي كلهم يسيء خلقه في استخدامه أو هم مختلفون في ذلك يأمره هذا بشيء وينهاه الآخر عن ذلك الشيء بعينه.
والشكاسة سوء الخلق والاختلاف. ورجلا سالما لرجل أي خالصا من الشرك. ومن قرأ بغير ألف فعلى حذف المضاف أي ذا سلامة وذا خلوص من الشركة. وقال جار الله: وإنما
(5/623)
جعله رجلا ليكون أفطن لما شقي به أو سعد فان المرأة والصبي قد يغفلان عن ذلك. قلت:
لا ريب أن الرجل أصل في كل باب فجعله مضرب المثل أولى نظيره وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ [النحل: 76] ثم استفهم على سبيل الإنكار بقوله هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا وهو تمييز أي هل يستوي حالاهما وصفتاهما. واقتصر في التمييز على الواحد لقصد الجنس والمراد تجهيل من يجعل المعبود متعددا، فليس رضا واحد كطلب رضا جماعة مختلفين. وحاصله يرجع إلى دليل التمانع كما مرّ في قوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] وقال أهل العرفان: الشركاء المتشاكسون تجاذب شغل الدنيا وشغل العيال وغير ذلك من الأشغال، فأين ذلك الرجل ممن ليس له في الدنيا نصيب ولا له في الخلق نسيب وهو عن الآخرة غريب وإلى الله قريب. قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ كما مرّ في «لقمان» قوله إِنَّكَ مَيِّتٌ وجه النظم أنه سبحانه كأنه قال إن هؤلاء الأقوام إن لم يلتفتوا إلى هذه الدلائل القاهرة بسبب استيلاء الحرص والحسد عليهم في الدنيا، فلا تبال يا محمد بهذا فإنك ستموت وهم أيضا يؤلون إلى الموت فلو أنهم يتربصون بك الموت فإن الموت يعم الكل فلا معنى لشماتة المرء بعد وفاة صاحبه ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ تحتج عليهم بأنك قد بلغت وهم يعتذرون بما لا طائل تحته، وقد يخاصم الكفار بعضهم بعضا حتى يقال لهم لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ [ق: 28] وقد يقع الاختصام بين أهل الملة في الدماء والمظالم التي بينهم والله أعلم.
تم الجزء الثالث والعشرون، وبه يتم المجلد الخامس من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري، ويليه المجلد السادس، وأوله:
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ ...
(5/624)
الفهرس
فهرس المجلد الخامس من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان
(5/625)
تفسير سورة الأنبياء الآيات: 1- 20 3 الآيات: 21- 50 11 الآيات: 51- 91 27 الآيات: 92- 112 52 تفسير سورة الحج الآيات: 1- 22 61 الآيات: 23- 41 74 الآيات: 42- 64 87 الآيات: 65- 78 98 تفسير سورة المؤمنون الآيات: 1- 30 106 الآيات: 31- 56 118 الآيات: 57- 90 125 الآيات: 91- 118 132 تفسير سورة النور الآيات: 1- 10 140 الآيات: 11- 26 165 الآيات: 27- 34 175 الآيات: 35- 50 192 الآيات: 51- 64 207 تفسير سورة الفرقان الآيات: 1- 20 219 الآيات: 21- 50 229
(5/627)
الآيات: 51- 77 249 تفسير سورة الشعراء الآيات: 1- 68 261 الآيات: 69- 122 272 الآيات: 123- 175 279 الآيات: 176- 227 283 تفسير سورة النحل الآيات: 1- 14 291 الآيات: 15- 44 297 الآيات: 45- 66 310 الآيات: 67- 93 318 تفسير سورة القصص الآيات: 1- 21 326 الآيات: 22- 42 336 الآيات: 43- 70 347 الآيات: 71- 88 359 تفسير سورة العنكبوت الآيات: 1- 15 367 الآيات: 16- 41 377 الآيات: 42- 69 386 تفسير سورة الروم الآيات: 1- 32 399 الآيات: 33- 60 414 تفسير سورة لقمان الآيات: 1- 19 421 الآيات: 20- 34 428 تفسير سورة الم السجدة الآيات: 1- 30 433
(5/628)
تفسير سورة الأحزاب الآيات: 1- 20 443 الآيات: 21- 40 454 الآيات: 41- 73 467 تفسير سورة سبأ الآيات: 1- 21 481 الآيات: 22- 54 494 تفسير سورة فاطر الآيات: 1- 26 505 الآيات: 27- 45 514 تفسير سورة يس الآيات: 1- 44 522 الآيات: 45- 83 537 تفسير سورة الصافات الآيات: 1- 82 550 الآيات: 83- 182 566 تفسير سورة ص الآيات: 1- 40 580 الآيات: 41- 88 600 تفسير سورة الزمر الآيات: 1- 31 610
(5/629)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
[المجلد السادس]
بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء الرابع والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
[تتمة سورة الزمر]
[سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 75]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)
وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51)
أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56)
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71)
قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)
(6/3)
القراآت:
عباده على الجمع: يزيد وحمزة وعلى وخلف. أرادني الله بسكون الياء: حمزة. كاشفات بالتنوين ضره بالنصب وهكذا ممسكات رحمته أبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون: بالإضافة فيهما قضى عليها مجهولا الموت بالرفع:
حمزة وعلي وخلف يا عبادي الذين أسرفوا بسكون الياء: حمزة وعلي وخلف وأبو عمرو وسهل ويعقوب، والوقف للجميع بالياء لا غير. يا حسرتاي بياء بعد الف:
يزيد. الآخرون: بالألف وحدها وينجي الله بالتخفيف: روح بمفازاتهم على الجمع: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل تَأْمُرُونِّي بتشديد النون وفتح الياء: ابن كثير تأمرونني بنونين وسكون الياء: ابن عامر تأمروني بنون واحدة وفتح الياء: أبو جعفر ونافع. الباقون: بتشديد النون وسكون الياء. لنحبطن بالنون من الإحباط عملك بالنصب: يزيد. الآخرون: على الغيبة وفتح العين عَمَلُكَ بالرفع وسيق بضم السين وكسر الياء: ابن عامر وعلي ورويس فُتِحَتْ بالتخفيف: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل في الحرفين.
الوقوف:
إِذْ جاءَهُ ط لِلْكافِرِينَ هـ الْمُتَّقُونَ هـ عِنْدَ رَبِّهِمْ ط الْمُحْسِنِينَ هـ ج لاحتمال تعلق اللام بمحذوف كما يجيء. يَعْمَلُونَ هـ عَبْدَهُ ط مِنْ دُونِهِ ط مِنْ هادٍ هـ ج مُضِلٍّ ط انْتِقامٍ هـ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ط رَحْمَتِهِ ط حَسْبِيَ اللَّهُ ط الْمُتَوَكِّلُونَ هـ عامِلٌ ج لابتداء التهديد مع فاء التعقيب تَعْلَمُونَ هـ لا مُقِيمٌ هـ بِالْحَقِّ ج لاختلاف الجملتين فَلِنَفْسِهِ ج عَلَيْها ج للابتداء بالنفي مع العطف بِوَكِيلٍ هـ ج فِي مَنامِها ج مُسَمًّى ط يَتَفَكَّرُونَ هـ شُفَعاءَ ط يَعْقِلُونَ هـ جَمِيعاً ط وَالْأَرْضِ ط بناء على أن «ثم» لترتيب الأخبار تُرْجَعُونَ هـ بِالْآخِرَةِ ط ج فصلا بين الجملتين مع اتفاقهما نظما يَسْتَبْشِرُونَ هـ يَخْتَلِفُونَ هـ الْقِيامَةِ ط يَحْتَسِبُونَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ دَعانا ز فصلا بين تناقض الحالين مع اتفاق الجملتين مِنَّا لا لأن ما بعده جواب عَلى عِلْمٍ ط لا يَعْلَمُونَ هـ يَكْسِبُونَ هـ ما كَسَبُوا الأولى ط ما كَسَبُوا الثانية لا لأن الواو للحال بِمُعْجِزِينَ هـ وَيَقْدِرُ ط يُؤْمِنُونَ هـ رَحْمَةِ اللَّهِ ط جَمِيعاً ط الرَّحِيمُ هـ لا تُنْصَرُونَ هـ لا تَشْعُرُونَ هـ لا السَّاخِرِينَ هـ لا الْمُتَّقِينَ هـ لا الْمُحْسِنِينَ هـ الْكافِرِينَ هـ مُسْوَدَّةٌ ط لِلْمُتَكَبِّرِينَ هـ بِمَفازَتِهِمْ ز لاحتمال الاستئناف والحال أوجه
(6/5)
يَحْزَنُونَ هـ كُلِّ شَيْءٍ ز للفصل بين الوصفين تعظيما مع اتفاق الجملتين وَكِيلٌ هـ وَالْأَرْضِ ط الْخاسِرُونَ هـ الْجاهِلُونَ هـ مِنْ قَبْلِكَ ج لحق القسم المحذوف الْخاسِرِينَ هـ الشَّاكِرِينَ هـ بِيَمِينِهِ ط يُشْرِكُونَ هـ مَنْ شاءَ اللَّهُ ج بيانا لتراخي النفخة الثانية عن الأولى مع اتفاق الجملتين يَنْظُرُونَ هـ لا يُظْلَمُونَ هـ يَفْعَلُونَ هـ زُمَراً ط هذا ط الْكافِرِينَ هـ فِيها ج الْمُتَكَبِّرِينَ هـ زُمَراً ط خالِدِينَ هـ نَشاءُ ج الْعامِلِينَ هـ رَبِّهِمْ ج لأن الماضي لا ينعطف على المستقبل ولاحتمال جعله حالا وقد قضى بين الزمرين الْعالَمِينَ هـ.
التفسير:
لما ضرب لعبدة الأصنام مثلا أشار إلى نوع آخر من قبائح أفعالهم وهو أنهم يضمون على كذبهم على الله بإضافة الشريك والولد إليه تكذيبهم بالصدق يعني الأمر الذي هو الصدق بعينه أي القرآن. ومعنى إِذْ جاءَهُ أنه لم يراع طريقة أهل الإنصاف والتدبر لكنه لما سمع به فاجأه بالتكذيب. واللام في قوله لِلْكافِرِينَ لهؤلاء المعهودين الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق. قال جار الله: ويحتمل أن يكون للعموم فيشملهم وغيرهم من الكفرة. وحين بين وعيدهم عقبه بوعد الصادقين المصدّقين وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وقيل: الرسول وأبو بكر والتعميم أولى لقوله أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ قوله لِيُكَفِّرَ ظاهره تعلقه ب يَشاؤُنَ فتكون لام العاقبة. ويحتمل تعلقه بمحذوف أي جزاؤهم وإكرامهم لأجل ذلك. قال جار الله: الأسوأ هاهنا ليس للتفضيل وإنما هو كقولهم: الأشج أعدل بني مروان. وفائدة صيغة التفضيل استعظامهم المعصية حتى إن الصغائر عندهم أسوأ أعمالهم. وقال بعض المفسرين: أراد به الكفر السابق الذي يمحوه الإيمان. واستدل مقاتل- وكان شيخ المرجئة- بهذه الآية فإنها تدل على أن من صدّق الأنبياء فإنه تعالى يكفر عنه أسوأ الأعمال التي أتى بها بعد الإيمان والوصف بالتقوى وفيه نظر. ثم إنهم كانوا يخوّفون المؤمنين والنبي صلى الله عليه وسلم برفض آلهتهم وتحقيرها.
ويروى أنه بعث خالدا إلى العزى ليكسرها فقال له سادنها: أحذركها يا خالد، إن لها شدّة. فعمد خالد إليها فهشم أنفها فأنزل الله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ
أي نبيه بدليل قوله وَيُخَوِّفُونَكَ ومن قرأ على الجمع فهي للعموم. والآيات إلى قوله بِوَكِيلٍ ظاهرة مع أنها تعلم مما سبق ذكرها مرارا. والعذاب الخزي عذاب يوم بدر، والعذاب المقيم العذاب الدائم في الآخرة، ومدار هذه الآي على تسلية النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أكد كون الهداية والضلال من الله تعالى بقوله اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ وذلك أن الحياة واليقظة تشبه الهداية، والموت والنوم يضاهي الضلال. فكما أن الحياة والموت واليقظة والنوم لا يحصلان إلا بتخليق الله وتكوينه
(6/6)
فكذلك الهداية والضلال، والعارف بهذه الدقيقة عارف بسر الله في القدر، ومن عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب، فقيه تسلية أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل في وجه النظم: إنه تعالى أراد أن يذكر حجة أخرى على إثبات الإله العليم القدير ليعلم أنه أحق بالعبادة من كل ما سواه فضلا عن الأصنام. ومعنى الآية أن الله تعالى يتوفى الأنفس حين موتها. قال جار الله: أراد بالأنفس الجملة كما هي لأنها هي التي تنام وتموت وَيتوفى الأنفس الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها أي يتوفاها حين تنام تشبيها للنائمين بالموتى كقوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: 60] والحاصل أنه يتوفى الأنفس مرتين، مرة عند موتها ومرة عند نومها فتكون «في» متعلقة ب يَتَوَفَّى والتوفي مستعمل في الأول حقيقة وفي الثاني مجازا، ولم يجوّزه كثير من أئمة الأصول. وقال الفراء: «في» متعلقة بالموت وتقديره:
ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها عند انقضاء حياتها. ثم بين الفرق بين الحالين بقوله فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى من غير غلط.
وقال حكماء الإسلام: النفس الإنسانية جوهر مشرق نوراني إذا تعلق بالبدن حصل ضوءه في جميع الأعضاء ظاهرها وباطنها وهو الحياة واليقظة. وأما في وقت النوم فإن ضوءه لا يقع إلا على باطن البدن وينقطع عن ظاهره، فتبقى نفس الحياة التي بها النفس وعمل القوى البدنية في الباطن ويفنى ما به التمييز والعقل، وإذا نقطع هذا الضوء بالكلية عن البدن فهو الموت، ومثل هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا من القدير الخبير الذي لا شريك له في ملكه ولا نظير، ولهذا ختم الآية بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ثم كان لمشرك أن يقول: إنما نعبد الأصنام لأنها تماثيل أشخاص كانوا عند الله مقربين فنحن نرجو شفاعتهم فأنكر الله عليهم بقوله أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أي من دون إذنه شُفَعاءَ و «أم» بمعنى «بل» ، والهمزة الإنكارية وتقرير الإنكار أن هؤلاء الكفار إما أن يطعموا في شفاعة تلك التماثيل وإما في شفاعة من هذه التماثيل تماثيلهم. والأول باطل لأن هذه الأصنام جمادات لا تملك شيئا ولا تعقل وأشار إلى هذا المعنى بقوله قُلْ أَوَلَوْ كانُوا يعني أيشفعون ولو كانوا بحيث لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ والثاني أيضا مستحيل لأن يوم القيامة لا يشفع أحد إلا بإذن الله وهو المراد بقوله قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ وانتصب جَمِيعاً على الحال. ولو كان تأكيدا للشفاعة لقيل جمعاء.
وحين قرر أن لا شفاعة لأحد إلا بإذن الله برهن على ذلك بقوله لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة ولا ملك في ذلك اليوم إلا له. ثم ذكر نوعا آخر من قبائح أفعال المشركين فقال وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ أي منفردا ذكره عن ذكر آلهتهم
(6/7)
اشْمَأَزَّتْ أي نفرت وانقبضت منه قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ سواء ذكر الله معهم أو لم يذكر إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ أي فاجأ وقت ذكر آلهتهم وقت استبشارهم. وفي الآية طباق ومقابلة لأن الاستبشار أن يمتلىء قلبه سرورا حتى يظهر أثره في بشرته، والاشمئزاز أن يمتلىء غما وغيظا حتى يظهر الانقباض في أديم وجهه وذلك لاحتباس الروح الحيواني في القلب. وقيل: معنى الآية أنه إذا قيل لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نفروا لأن فيه نفيا لآلهتهم. وفي بعض التفاسير أن هذا إشارة إلى ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم لما قرأ سورة النجم وسوس الشيطان إليه بقوله «تلك الغرانيق العلى وأن شفاعتهن لترتجى» فاستبشر المشركون وسجدوا.
ولما حكى عنهم هذا الجهل الغليظ والحمق الشديد وهو الاشمئزاز عن ذكر من ذكره رأس السعادات وعنوان الخيرات والاستبشار بذكر أخس الأشياء وهي الجمادات، أمر رسوله بهذا الدعاء اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهو وصفه بالقدرة التامة عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وهو نعته بالعلم الكامل. وإنما قدم وصفه بالقدرة على وصفه بالعلم لأن العلم بكونه قادرا متقدم على العلم بكونه عالما كما بين في أصول الدين وقد أشرنا إلى ذلك فيما سلف أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ يعني أن نفرتهم عن التوحيد وفرحهم بالشرك أمر معلوم الفساد ببديهة العقل فلا حيلة في إزالته إلا باستعانة القدير العليم.
عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفتتح صلاته بالليل فيقول: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما أختلف فيه من الحق بإذنك إنك لتهدي إلى صراط مستقيم.
وعن الربيع بن خثيم. وكان قليل الكلام أنه أخبر بقتل الحسين عليه السلام وقالوا: الآن يتكلم، فما زاد على أن قال آه أوقد فعلوا وقرأ هذه الآية. وروي أنه قال على أثره: قتل من كان النبي صلى الله عليه وسلم. يجلسه في حجره ويضع فاه في فيه. ثم ذكر وعيدهم على ذلك المذهب الباطل بقوله وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا أي بالشرك وقد مر نظير الآية مرارا أوّلها في آل عمران وفيه قوله وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ نظير قوله في أهل الوعد فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] وقيل: عملوا أعمالا حسبوها حسنات فإذا هي سيئات. يروى أن محمد بن المنكدر جزع عند موته فقيل له في ذلك فقال: أخشى آية من كتاب الله وتلاها، فأنا أخشى أن يبدو لي من الله ما لم يكن في حسباني. وعن سفيان الثوري أنه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء. ثم صرح بما أبهم قائلا وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا و «ما» موصولة أو مصدرية أي ظهرت لهم سيئات أعمالهم التي اكتسبوها، أو سيئات كسبهم وذلك عند عرض الصحائف أو غير ذلك من المواقف. وجوّز أهل البيان أن يراد بالسيئات جزاء أفعالهم كقوله وَجَزاءُ
(6/8)
سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
[الشورى: 40] وإنما قال في الجاثية سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا [الجاثية: 33] لمناسبة ألفاظ العمل، وهاهنا قد وقع من ألفاظ الكسب.
ثم حكى نوعا آخر من قبيح أعمالهم قائلا فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ وقد مر مثله في مواضع أقر بها أول السورة إلا أنه ذكر هاهنا بفاء التعقيب لأن هذا مناقض لما حكى عنهم عن قريب وهو أنهم يشمئزون عن ذكر الله وحده فكيف التجئوا إليه وحده عند ضر يصيبهم.
ومعنى أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ أوتيته على علم الله بكوني مستحقا لذلك أو على علم عندي صار سببا لهذه المزية ككسب وصنعة ونحو ذلك. ولا شك أن هذا نوع من الغرور فلهذا قال سبحانه بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ بلاء واختبار يتميز بها الشاكر عن الكافر. ذكر الضمير أوّلا بتأويل المخوّل وأنثه ثانيا بتأويل النقمة. ثم أشار بقوله قَدْ قالَهَا أي مجموع الكلمة التي صدرت عنهم والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم قارون وقومه حيث قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص: 78] وقومه راضون بها فكأنهم قالوها. ويجوز أن يكون في الأمم الخالية قائلون مثلها فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من الأموال أو من المعاصي وأشار بقوله هؤُلاءِ إلى أهل مكة أصابهم قتل في يوم بدر وغيره وحبس عنهم الرزق فقحطوا سبع سنين ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين فقيل لهم: أو لم يعلموا أن الباسط والقابض هو الله وحده؟ وذلك أن انتهاء الحوادث المتسلسلة يجب أن يكون إلى إرادته ومشيئته، ولا ينافي هذا توسيط عالم الأسباب وأن يكون للكواكب كلها تأثيرات في عالمنا هذا بإذن مبدعها وفاطرها. وقول الشاعر:
فلا السعد يقضي به المشتري ... ولا النحس يقضي علينا زحل
ولكنه حكم رب السماء ... وقاضي القضاة تعالى وجل
كلام من غير تبين واستبصار بسر القدر. والذي يشكك به الإمام فخر الدين الرازي من أنه قد يولد إنسانان في طالع واحد ثم يصير أحدهما في غاية السعادة والآخر في غاية الشقاوة كلام غير محقق، لأنا لو سلمنا وقوع ذلك فلاختلاف القابل، وليس تأثير العامل السماوي في طالع ولد السلطان مثله في طالع ولد الحمامي، وكذا اختلافات أخر لا نهاية لها. نعم لو ادعى عسر إدراك جميع الجزئيات فلا نزاع في ذلك إلا المنتفع بما ينتفع به عليه أن يقنع بما يصل إليه فهمه فلكل شيء حد وفوق كل ذي علم عليم. وحين أطنب في الوعيد أردفه ببيان كمال رحمته ومغفرته فقال يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ عن ابن عباس أن أهل مكة قالوا: يزعم محمد أن من عبد الأوثان وقتل النفس التي حرم الله لن يغفر له ونحن قد عبدنا الأوثان وقتلنا الأنفس فأنزل الله هذه الآية. وعن ابن عمر: نزلت
(6/9)
في عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر من المسلمين أسلموا ثم عذبوا فارتدوا فنزلت فيهم، وكان عمر كاتبا فكتبها إلى عياش والوليد وإلى أولئك النفر فأسلموا وهاجروا. وقيل: نزلت بالمدينة في وحشيّ وقد سبق. ثم إن قلنا: العباد عام فالإسراف على النفس يعم الشرك، ولا نزاع أن عدم اليأس من الرحمة يكون مشروطا بالتوبة والإيمان. وإن قلنا: العباد المضاف في عرف القرآن مختص بالمؤمنين فالإسراف إما بالصغائر ولا خلاف في أنها مكفرة ما اجتنبت الكبائر، وأما بالكبائر وحينئذ يبقى النزاع بين الفريقين. فالمعتزلة شرطوا التوبة، والأشاعرة العفو وقد مر مرارا.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية فقال رجل: يا رسول الله ومن أشرك؟ فسكت ساعة ثم قال: ألا ومن أشرك ثلاث مرات» رواه في الكشاف.
وعلى هذا يكون مخصوصا بشرط الإيمان.
ولا يخفى ما في الآية من مؤكدات الرحمة: أوّلها تسمية المذنب عبدا والعبودية تشعر بالاختصاص مع الحاجة، واللائق بالكريم الرحيم إفاضة الجود والرحمة على المساكين. وثانيها من جهة الإضافة الموجبة للتشريف. وثالثها من جهة وصفهم بقوله الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ كأنه قال يكفيهم من تلك الذنوب عود مضرتها عليهم لا عليّ. ورابعها نهاهم عن القنوط، والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم. وخامسها قوله مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مع إمكان الاقتصار على الضمير بأن يقول «من رحمتي» فإيراد أشرف الأسماء في هذا المقام يدل على أعظم أنواع الكرم واللطف. وسادسها تكرير اسم الله تعالى في قوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً مع تصدير الجملة ب «إن» ، ومع إيراد صيغة المضارع المنبئة عن الاستمرار، ومع تأكيد الذنوب بقوله جَمِيعاً أي حال كونها مجموعة. وسابعها إرداف الجملة بقوله إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ومع ما فيه من أنواع المؤكدات ومع جميع ذلك لم يخل الترغيب عن الترهيب ليكون رجاء المؤمن مقرونا بخوفه فقال وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ وذلك أن الأشاعرة أيضا يجوّزون أن يدخل صاحب الكبيرة النار مدة ثم يخرج منها. ومع احتمال هذا العذاب يجب الميل إلى الإنابة والإخلاص لله في العمل على أن الخوف للتقصير في الطاعة يكفي عن الخوف للتصريح بالمعصية، وللصديقين في الأول مندوحة عن الثاني. وقال بعضهم: إن الكلام قد تم على الآية الأولى، ثم خاطب الكفار بهذه الآيات من قوله وَأَنِيبُوا والمراد بالعذاب إما عذاب الدنيا كما للأمم السابقة، وإما الموت لأنه أول أهول الآخرة. وقوله أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ كقوله يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وقد مر الأقوال فيه. وحين خوّفهم
(6/10)
بالعذاب حكى عنهم أنهم بتقدير نزول العذاب ماذا يقولون؟ فذكر ثلاثة أنواع من الكلمات: الأوّل أن تقول والتقدير أنذرناكم العذاب المذكور كراهة أن تقول أو لئلا.
تقول. قال جار الله: إنما نكرت نفس لأن المراد بها بعض الأنفس وهي نفس الكافر، أو نوع من الأنفس متميزة بلجاج في الكفر شديد أو بعذاب عظيم. وجوز أن يكون التنكير لأجل التكثير كقوله «رب وفد أكرمته» . يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ أي قصرت. والتفريط إهمال ما ينبغي أن يقدّم فِي جَنْبِ اللَّهِ واعلم أن بعض أهل التجسيم يحكمون بورود هذا اللفظ على إثبات هذا العضو لله سبحانه ولا يدري أنه بعد التسليم لا معنى للتفريط فيه ما لم يصر إلى التأويل. والصحيح ما ذهب إليه علماء البيان أن هذا من باب الكناية، لأنك إذا أثبت الشيء في مكان الرجل وحيزه وجانبه وناحيته فقد أثبته كقوله:
إن السماحة والمروءة والندى ... في قبة ضربت على ابن الحشرج
وتقول: لمكانك فعلت كذا. أي لأجلك.
وفي الحديث «من الشرك الخفي أن يصلى الرجل لمكان الرجل»
«1» ولا بد من تقدير مضاف سواء ذكر الجنب أو لم يذكر، وللمفسرين فيه عبارات. قال ابن عباس: أي ضيعت من ثواب الله. وقال مقاتل: ضيعت من ذكر الله.
وقال مجاهد: في أمر الله. وقال الحسن: في طاعة الله. وعن سعيد بن جبير: في حق الله.
وقيل: في قرب الله من الجنة من قوله وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ [النساء: 36] وقال ابن جبير: في جانب هدى الله لأن الطريق متشعب إلى الهدى والضلال فكل واحد جانب وجنب. والتحقيق في المسألة أن الذي يكون من لوازم الشيء ومن توابعه كأنه حدّ من حدوده وجانب من جوانبه، فلما حصلت المشابهة بين الجنب الذي هو العضو وبين ما يكون لازما للشيء وتابعا له، لا جرم حسن إطلاق لفظ الجنب في الآية على أحد هذه المضافات. قال الشاعر وهو سابق البربري:
أما لتقين الله في جنب عاشق ... له كبد حرّى عليك تقطع؟
ثم زاد في التحسر بقوله وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ أي المستهزئين بالقرآن والنبي والمؤمنين. «إن» مخففة، واللام فارقة، والواو تحتمل العطف والحال. قال قتادة. لم يكفه ما ضيع من أمر الله حتى سخر من المصدّقين. النوع الثاني من كلمات النفس المعذبة
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب 21. أحمد في مسنده (3/ 30) .
(6/11)
لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي يجوز أن يقول مرة هذا ومرة ذلك، أو يكون قائل كل من الكلمتين بعد أخرى والمعنى لو أرشدني إلى دينه. لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ النوع الثالث قوله عند رؤية العذاب لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ قال جار الله: لما حكى أقوال النفس على ترتيبها ونظمها ثم أجاب من بينها عما اقتضى الجواب وهو الثاني، صح أن تقع «بلى» جوابا له مع أنه غير منفي، لأن قوله لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي في معنى ما هديت. قلت: هذا يصلح جوابا للقولين الثاني والثالث أي بلى قد هديت بالوحي فكذبت واستكبرت عن قبوله فلا فائدة في الرجعة، فإن عدم القابلية وكونه واقعا في جانب القهر لن يزول عنه. ثم صرح ببعض أنواع العذاب قائلا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وقبوله وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ مفعول ثان إن كانت الرؤية القلبية وإلا فموضعه نصب على الحال.
والظاهر أن الكذب على الله هو المشار إليه في قوله فَكَذَّبْتَ بِها ويشمل الكذب عليه باتخاذ الشريك والوالد، ونسبته إلى العجز عن الإعادة، ونسبة القرآن إلى كونه مختلفا ونحو ذلك. وأما المسائل الاجتهادية التي يختلف فيها كل فريق إسلامي ولا سيما الفروعية، فالظاهر أنها لا تدخل فيها والله أعلم. وأما سواد الوجه فإن كان في الصورة فظاهر ويكون كسائر أوصاف أهل النار من زرقة العيون وغيره، وإن كان المراد به الخجل وشدّة الحياء ونحو ذلك فالله تعالى أعلم بمراده. ولا ريب أن الجهل والإخبار على خلاف ما عليه الأمر ونحو ذلك من الأخلاق الذميمة كلها ظلمات كما أن العلم والصدق ونحو هما أنوار كلها وفي ذلك العالم تظهر حقيقة كل شيء على المكلف هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ [يونس: 30] .
ثم حكى حال المتقين يومئذ قائلا وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك أو المعاصي كبائر وصغائر بِمَفازَتِهِمْ هي «مفعلة» من الفوز. فمن وحد فلأنه مصدر، ومن جمع فلاختلاف أجناسها فلكل متق مفازة وهي الفلاح. ولا شك أن الباء هي التي في نحو قولك «كتبت بالقلم» . فقال جار الله: تارة تفسير المفازة هي قوله لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ فلا محل للجملة لأنه كأنه قيل: وما مفازتهم؟ فقيل: لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ أي في أبدانهم. وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ يتألمون قلبا على ما فات. وقال: أخرى يجوز أن يراد بسبب فلاحهم أو منجاتهم وهو العمل الصالح، وذلك أن العمل الصالح سبب الفلاح وهو دخول الجنة. ويجوز أن يسمى العمل الصالح في نفسه مفازة لأنه سببها. وعلى هذه الوجوه يكون قوله لا يَمَسُّهُمُ منصوبا على الحال. وعن الماوردي أن المفازة هاهنا البرية أي بما سلكوا مفازة الطاعات الشاقة وهو غريب. وحين تمم الوعد والوعيد أتبعه شيئا من دلائل
(6/12)
المالكية قائلا اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ وقد مر في «الأنعام» . ثم أكده بقوله لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهو كقوله في «الأنعام» وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الآية: 59] والمقاليد المفاتيح أيضا فقيل: لا واحد لها من لفظها. وقيل: مقليد أو مقلد أو إقليد. والظاهر أنه في الأصل فارسي والتعريب جعله من قبيل العربي.
ويروى أنه سأل عثمان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير الآية فقال: يا عثمان ما سألني عنها أحد قبلك، تفسير المقاليد لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله وبحمده وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، هو الأول والآخر والظاهر والباطن بيده الخير يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.
وقال العلماء: يعني أن هذه الكلمات مفاتيح خيرات السموات والأرض وقد يوحد الله بها ويمجد. قال أهل العرفان: بيده مفاتيح خزائن اللطف والقهر، فيفتح على من يشاء أبواب خزائن لطفه في قلبه فتخرج ينابيع الحكمة وجواهر الأخلاق الحسنة وللآخر بالضد. قال في الكشاف قوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا متصل بقوله وَيُنَجِّي وما بينهما اعتراض دل على أنه خالق الأشياء كلها مهيمن عليها، لا يخفى عليه أعمال المكلفين وجزاؤها فإن كل شيء في السموات والأرض فإن مفتاحه بيده. هذا والظاهر أنه لا حاجة إلى هذا التقدير البعيد حتى يعطف جملة اسمية على جملة فعلية. والأقرب أنه لما وصف نفسه بصفات المالكية والقدرة ذكر بعده وَالَّذِينَ كَفَرُوا بدلائل ملكه وملكه مع كونها ظاهرة باهرة فلا أخسر منهم لأنهم عمي في الدارين فاقدون لأشرف المطالب ولذلك وبخ أهل الشرك بقوله قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أي قل لهم بعد هذا البيان أفغير الله وهو منصوب ب أَعْبُدُ وتَأْمُرُونِّي اعتراض والمعنى أفغير الله أَعْبُدُ بأمركم. وذلك أن المشركين دعوه إلى دين آبائه.
وجوز جار الله: أن ينصب بما يدل عليه جملة قوله تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ لأنه في معنى تعبدونني غير الله وتقولون لي اعبد. والأصل تأمرونني أن أعبد فحذف أن ورفع الفعل.
ويمكن أن يعترض عليه بأن صلة «أن» كيف تتقدّم عليه. ويحتمل أن يجاب بأن العامل هو ما دل عليه الجملة كما قلنا لا قوله أن أعبد وقيل: التقدير أفبعبادة غير الله تأمروني؟.
وقوله أَيُّهَا الْجاهِلُونَ لا يكون أليق بالمقام منه لأنه لا جهل أشدّ من جهل من نهى عن عبادة أشرف الأشياء وأمر بعبادة أخس الأشياء. ثم هددّ الأمة على الشرك مخاطبا نبيه بقوله وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ من الأنبياء مثله لَئِنْ أَشْرَكْتَ فاقتصر على الأول ويجوز أن يراد ولقد أوحى إليك وإلى كل واحد ممن قبلك لئن أشركت كما تقول:
كسانا حلة أي كل واحد منا وقد مر نظير هذه الآية بقوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ [البقرة:
120] وبينا أن ذلك على سبيل الفرض والشرطية لا حاجة في صدقها إلى صدق جزأيها، أو المراد الأمة كما قلنا. وفي قوله وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ إشارة إلى أن منصب النبوة
(6/13)
الذي هو أشرف مراتب الإنسانية وأقربها من الله إذا بدل بضدّه الذي هو البعد عن الحضرة الإلهية لم يكن خسران وراء ذلك.
ثم ردّه صلى الله عليه وسلم إلى ما هو الحق الثابت في نفس الأمر وهو تخصيص الله بالعبادة فقال بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على ذلك لأن توفيق العبادة منه وحده ولذا جعله مظهر اللطف حتى صار سيد ولد آدم. ثم بين أنهم لما جعلوا هذه الأشياء الخسيسة مشاركة في العبادة ما عرفوا الله حق معرفته وقد مر في «الأنعام» و «الحج» . ثم أردفه بما يدل على كمال عظمته قائلا وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ قال جار الله: الغرض من هذا الكلام إذا أخذته كما هو بجملته تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة حقيقة أو إلى جهة مجاز. وكذلك حكم ما
يروى عن عبد الله بن مسعود أن رجلا من أهل الكتاب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم، إن الله يمسك السموات يوم القيامة على أصبع، والأرضين على أصبع، والجبال على أصبع، والشجر على أصبع، والثرى على أصبع، وسائر الخلق على أصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبا مما قال وأنزل الله الآية تصديقا له.
وقال جار الله: وإنما ضحك أفصح العرب وتعجب لأنه لم يفهم منه إلا ما يفهمه علماء البيان من غير تصور إمساك ولا أصبع ولا هز ولا شيء من غير ذلك، ولكن فهمه وقع أول شيء وآخره على الزبدة والخلاصة التي هي الدلالة على القدرة الباهرة، وأن الأفعال العظام التي لا تكتنهها الأوهام هينة عليه، ثم ذكر كلاما آخر طويلا. واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي بأن هذا الكلام الطويل لا طائل تحته لأنه هل يسلم أن الأصل في الكلام حمله على حقيقته أم لا. وعلى الثاني يلزم خروج القرآن بكليته عن كونه حجة فإن لكل أحد حينئذ أن يؤوّل الآية بما شاء.
وعلى الأول وهو الذي عليه الجمهور يلزمه بيان أنه لا يمكن حمل اللفظ الفلاني على معناه الحقيقي لتعين المصير إلى التأويل. ثم إن كان هناك مجازان وجب إقامة الدليل على تعيين أحدهما، ففي هذه الصورة لا شك أن لفظ القبضة واليمين مشعر بهذه الجوارح إلا أن الدلائل العقلية قامت على امتناع الأعضاء والجوارح لله تعالى فوجب المصير إلى التأويل صونا للنص عن التعطيل. ولا تأويل إلا أن يقال: المراد كونها تحت تدبيره وتسخيره كما يقال: فلان في قبضة فلان. وقال تعالى وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [الأحزاب:
50] ويقال: هذه الدار في يد فلان ويمينه، وفلان صاحب اليد. وأنا أقول: هذا الذي ذكره الإمام طريق أصولي، والذي ذكره جار الله طريق بياني، وأنهم يحيلون كثيرا من المسائل إلى الذوق فلا منافاة بينهما. ولا يرد اعتراض الإمام وتشنيعه وقد مر لنا في هذا
(6/14)
الكتاب الأصل الذي كان يعمل به السلف في باب المتشابهات في مواضع فتذكر. ولنرجع إلى الآية. قوله وَالْأَرْضُ قالوا: المراد بها الأرضون لوجهين: أحدهما قوله جَمِيعاً فإنه يجعله في معنى الجمع كقوله كُلُّ الطَّعامِ [آل عمران: 93] وقوله وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ [ق: 10] والثاني قوله وَالسَّماواتُ ولقائل أن يقول: كل ما هو ذو أجزاء حسا أو حكما فإنه يصح تأكيده بالجميع. وعطف السموات على الأرض في القرآن كثير. نعم قيل: إن الموضع موضع تعظيم وتفخيم فهو مقتض للمبالغة وليس ببعيد. والقبضة بالفتح المرة من القبض يعني والأرضون جميعا مع عظمهن لا يبلغن إلا قبضة واحدة من قبضاته فهن ذوات قبضته. وعندي أن المراد منه تصرفه يوم القيامة فيها بتبديلها كقوله يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إبراهيم: 48] وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ كقوله يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء: 104] وقيل: معنى مطويات كونها مستولى عليها استيلاءك على الشيء المطوي عندك بيدك. وقيل: معنى مطويات كونها مستولى عليها بيمينه أي بقسمه لأنه تعالى حلف أن يطويها ويفنيها في الآخرة. وفي الآية إشارة إلى كمال استغنائه، وأنه إذا حاول تخريب الأرض والسموات وتبديلها. وذلك في يوم القيامة سهل عليه كل السهولة، ولذلك نزه نفسه عن الشركاء بقوله سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم ذكر سائر أهوال القيامة وأحوالها بقوله وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ الظاهر أن نفخ الصور مرتان،
وبعضهم روى أنه ثلاث نفخات الأولى للفزع كما جاء في «النمل» ، والثانية للموت وهو معنى الصعق، والثالثة للإعادة.
والأظهر أن الفزع يتقدم الصعق فلا يلزم منه إثبات نفختين، وقد مر في «النمل» تفسير باقي الآية. قال جار الله: تقدير الكلام ونفخ في الصور نفخة واحدة ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى وإنما حذفت لدلالة أخرى عليها ولكونها معلومة بذكرها في غير مكان. ومعنى يَنْظُرُونَ يقلبون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجاه خطب، أو ينظرون ماذا يفعل بهم. ويجوز أن يكون القيام بمعنى الوقوف والجهود تحيرا. ثم وصف أرض القيامة بقوله وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها الظاهر أن هذا نور تجليه سبحانه. وقد مر شرح هذا النور في تفسير قوله اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية: 35] وفي غيره من المواضع. وقال علماء البيان: افتتح الآية بذكر العدل كما اختتم الآية بنفي الظلم. ويقال للملك العادل: أشرقت الآفاق بنور عدلك وأضاءت الدنيا بقسطك، وفي ضدّه أظلمت الدنيا بجوره. وأهل الظاهر من المفسرين لم يستبعدوا أن يخلق الله في ذلك اليوم للأرض نورا مخصوصا. وقيل: أراد أرض الجنة.
ثم إن أهل البيان أكدوا قولهم بأنه أتبعه قوله وَوُضِعَ الْكِتابُ إلى آخره. وكل
(6/15)
ذلك من الأمور الدالة على غاية العدل. والمراد بالكتاب إما اللوح المحفوظ يقابل به صحف الأعمال أو الصحف نفسها ولكنه اكتفى باسم الجنس. وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ ليسألهم ربهم عن تبليغ الرسالة ويجيب قومهم بما يجيبون. والمراد بالشهداء الذين يشهدون للأمم وعليهم من الحفظة والأخيار ومن الجوارح والمكان والزمان أيضا. وقيل: هم الذين قتلوا في سبيل الله ولعله ليس في تخصيصهم بالذكر فائدة. وحين بين أنه يحضر في محفل القيامة جميع ما يحتاج إليه في فصل الخصومات ذكر أنه يوصل أهل النار، وختم السورة بذكر أهل الجنة فقال وَسِيقَ وهو على عادة إخبار الله تعالى. والزمر الأفواج المتفرقة واحدها زمرة وكذلك في صفة أهل الجنة، وذلك أنه يحشر أمة بعد أمة مع إمامها إلى الجنة أو النار، أو بعضهم قبل الحساب وبعضهم بعد الحساب على اختلاف المراتب والطبقات، فلا ريب أن الناس محقين أو مبطلين فرق ذاهبون في طرق شتى جماعة جماعة. والخزنة جمع خازن، والمراد بكلمة العذاب قوله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [السجدة: 13] أو علم الله السابق وكان القياس التكلم إلا أنه عدل إلى الظاهر فقيل على الكافرين ليعلم سبب العذاب.
سؤال السوق في الكفار له وجه لأنهم أهل الطرد والعنف فما وجهه في أهل الجنة؟
الجواب من وجوه: قال جار الله: المضاف هنا محذوف أي وسيق مراكب الذين اتقوا لأنهم لا يذهبون إلا راكبين كالوافدين على ملوك الدنيا، وحثها إسراع لهم إلى دار الكرامة والرضوان. وقيل: طباق. وقيل: أكثر أهل الجنة البله فيحتاجون إلى السوق لأنهم لا يعرفون ما فيه صلاحهم. وقيل: إنهم يقولون لا أدخلها حتى يدخلها أحبائي فيتأخرون لهذا السبب وحينئذ يحتاجون إلى أن يساقوا إلى الجنة. وقال أهل العرفان: المتقون قد عبدوا الله لله لا للجنة فيصير شدة استغراقهم في مشاهدة مطالع الجمال والجلال مانعة لهم عن الرغبة في الجنة، فلا جرم يفتقرون إلى السوق. وقال الحكيم: كل خصلة ذميمة أو شريفة في الإنسان فإنها تجره من غير اختياره شاء أم أبى إلى ما يضاهيه حاله فذاك معنى السوق.
سؤال آخر: لم قيل في صفة أهل النار فُتِحَتْ أَبْوابُها من غير واو وفي صفة أهل الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها بالواو؟ والجواب البحث عن مثل هذه الواو قد يقال له واو الثمانية قد مر في قوله التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [التوبة: 112] وفي سورة الكهف إلا أن الذي اختص بالمقام هو أن بعضهم قالوا: إن أبواب جهنم مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، وأما أبواب الجنة فمتقدم فتحها لقوله جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ [ص: 50] فلذلك جيء بالواو كأنه قيل: حتى إذا جاؤها وقد فتحت أبوابها، وعلى هذا فجواب حَتَّى إِذا محذوف وحق موقعه ما بعد خالِدِينَ أي كان ما كان من أصناف الكرامات
(6/16)
والسعادات. وقيل: حتى إذا جاؤها وفتحت أبوابها أي مع فتح أبوابها. وقيل: لأهل التأويل أن يقولوا: إن أبواب الجنة وهي أسباب حصول الكمالات مفتوحة بمعنى أنها غير ممنوع عنها بل مندوب إليها مرغب فيها، وأبواب جهنم مغلقة بمعنى أن أسبابها ممنوع عنها على لسان الشرع والعقل جميعا. ومعنى تسليم الخزنة الإكرام والتهنئة بأنهم سلموا من أحوال الدنيا وأهوال القيامة. ومعنى طِبْتُمْ قيل: إخبارهم عن كونهم طيبين في الدنيا بالأفعال الصالحة والأخلاق الفاضلة، أو طبتم نفسا بما نلتم من الجنة ونعيمها.
وقيل: إن أهل الجنة إذا انتهوا إلى بابها وجدوا عنده عينين تجريان من ساق شجرة فيتطهرون من إحداهما فتجري عليهم نضرة النعيم فلن تتغير أبشارهم بعدها أبدا، ويشربون من الأخرى فيذهب ما في بطونهم من أذى وقذى فيقول لهم الخزنة: طبتم. وقال جار الله:
أرادوا طبتم من دنس المعاصي وطهرتم من خبث الخطايا، ولهذا عقبه بقوله فَادْخُلُوها خالِدِينَ ليعلم أن الطهارة عن المعاصي هي السبب في دخول الجنة والخلود فيها لأنها دار طهرها الله من دنس فلا يدخلها إلا من هو موصوف بصفتها رزقنا الله تعالى بعميم فضله وحسن توفيقه نسبة توجب ذلك. ثم حكى قول المتقين في الجنة فقال وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ أي الوعد بدخول الجنة وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ أرض الجنة عبر عن التمليك بالإيراث وقد مرّ مرارا نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ لأن لكل متق جنة توصف سعة فيتبوّأ من جنته كما يريد من غير منازع. وقال حكماء الإسلام: الجنات الجسمانية كذلك، أما الروحانية فلا مانع فيها من المشاركة وأن يحصل لغيره ما يحصل لبعض الأشخاص. ثم وصف مآب الملائكة المقربين بعد بعثهم فقال وَتَرَى أيها الرائي أو النبي الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ محدّقين وهو نصب على الحال. قال الفراء: لا واحد له لأنه لا بد فيه من الجمعية. وأقول: لعله عني من حيث الاستعمال. وقيل: الحاف بالشيء الملازم له.
وقوله مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ «من» زائدة أو ابتدائية أي مبتدأ خوفهم من هناك إلى حيث شاء الله أو متصل بالرؤية يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ تلذذا لا تعبدا. وكان جوانب العرش دار ثواب الملائكة وإنها ملاصقة لجوانب الجنة. والضمير في قوله وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ للعباد كلهم لقرائن ذكر القيامة فإن إدخال بغضهم النار وبعضهم الجنة لا يكون الإقضاء بينهم بالحق والعدل. وقيل: بين الأنبياء وأممهم. وقيل: تكرار لقوله وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وقيل: هو حال وقد مقدرة معه أي يسبحون بحمد ربهم وقد قضى بينهم يعني بين الملائكة على أن ثوابهم ليس على سنن واحد. ويحتمل عندي أن يعود الضمير إلى البشر والملائكة جميعا، والقضاء بينهم هو إنزال البشر مقامهم من الجنة أو النار، وإنزال الملائكة حول العرش. ثم ختم السورة بقوله وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ والقائل
(6/17)
المقضي بينهم وهم جميع العباد كقوله وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [يونس: 10] جميع الملائكة حمدوا الله على إنزال كلّ منزلته.
(6/18)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
(سورة المؤمن
وهي مكية إلا آية قوله إن الذين يجادلون حروفها أربعة آلاف وتسعمائة وسبعون كلمها الف ومائتان غير كلمة آياتها خمس وثمانون) .
[سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 22]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14)
رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19)
وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)
(6/19)
القراآت:
حم وما بعده بالإمالة: حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب وذلك طبعا لا اختلافا لمعان مذكورة في «ص» . كلمات ربك على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر لتنذر بالتاء الفوقانية على أن الضمير للروح، وقد تؤنث، أو على خطاب الرسول: يعقوب غير رويس التلاقي بالياء في الحالين: ابن كثير ويعقوب وأفق يزيد وورش وسهل وعباس في الوصل. والذين تدعون على الخطاب: نافع وهشام غير الرازي وابن مجاهد والنقاش وابن ذكوان أشد منكم ابن عامر. الباقون مِنْهُمْ.
الوقوف:
حم ط كوفي الْعَلِيمِ هـ لا الطَّوْلِ ط إِلَّا هُوَ ط الْمَصِيرُ هـ الْبِلادِ هـ مِنْ بَعْدِهِمْ ص لعطف الجملتين المتفقتين فَأَخَذْتُهُمْ ط للإبتداء بالتهديد عِقابِ هـ النَّارِ م لئلا يتوهم أن ما بعده صفة أصحاب النار آمَنُوا ج لحق القول المحذوف الْجَحِيمِ هـ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ط الْحَكِيمُ هـ وقد يوصل للعطف السَّيِّئاتِ ط رَحِمْتَهُ ط الْعَظِيمُ هـ فَتَكْفُرُونَ هـ سَبِيلٍ هـ كَفَرْتُمْ ج للابتداء بالشرط مع العطف تُؤْمِنُوا ط الْكَبِيرِ هـ رِزْقاً ط يُنِيبُ هـ الْكافِرُونَ هـ ذُو الْعَرْشِ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال التَّلاقِ هـ لا بارِزُونَ ج لاحتمال الاستئناف وتعلقه بالظرف شَيْءٌ ط الْيَوْمَ ط فصلا بين السؤال والجواب الْقَهَّارِ هـ كَسَبَتْ ط الْيَوْمَ ط الْحِسابِ هـ كاظِمِينَ ط يُطاعُ هـ ط الصُّدُورُ هـ بِالْحَقِّ ط بِشَيْءٍ ط الْبَصِيرُ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ط واقٍ هـ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ ط الْعِقابِ هـ.
التفسير:
حم اسم الله الأعظم. وقيل: حم ما هو كائن أي قدّر.
وروي أن أعرابيا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: ما حم؟ فقال: أسماء وفواتح سور.
وقد تقدم القول في حواميم في مقدمات الكتاب وفي أول «البقرة» . ومن جملة تلك التقادير أن يقال: السورة المسماة بحم. تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وقد مر نظيره في أول «الزمر» . ثم وصف نفسه بما يجمع الوعد والوعيد فقال غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ قالت المعتزلة: معناه أنه غافر الذنب إذا استحق غفرانه إما بالتوبة إن كان كبيرا، أو طاعة
(6/20)
أعظم منه ثوابا إن كان صغيرا. وقال الأشعري: إنه قد يعفو عن الكبائر بدون التوبة لئلا يلزم التكرار بقوله قابِلِ التَّوْبِ وليفيد المدح المطلق ويؤيده إدخال الواو بين هذين الوصفين فقط كأنه قيل: الجامع بين المغفرة إن كانت بدون توبة وبين القبول إن كانت بتوبة فقد جمع للمذنب بين رحمتين بحسب الحالتين. وقيل: غافر الذنب الصغير وقابل التوب عن الكبير، أو غافر الذنب بإسقاط العقاب وقابل التوب بإيجاب الثواب. ثم إن قبول التوبة واجب على الله أم لا؟ فيه بحث أيضا للفريقين. فالمعتزلة أوجبوه، والأشعري يقول: إنه على سبيل التفضيل وإلا لم بتمدّح به. والظاهر أن التوب مصدر. وقيل: جمع توبة أي ما ذنب تاب منه العبد إلا قبل توبته. وقد ذكر أهل الإعراب هاهنا سؤالا وهو أن غافر الذنب وقابل التوب يمكن بوجيههما بأنهما معرفتان كما سبق في مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 3] وهو أنهما بمعنى الماضي أو الاستمرار فيصح وقوعهما صفتين لله إلا أن قوله شَدِيدِ الْعِقابِ لا يمكن فيه هذا الوجه لأنه في معنى شديد عقابه. فإن قلنا إنه صفة لزم وقوع النكرة صفة للمعرفة، وإن قلنا إنه بدل لزم نبوّ ظاهر للزوم بدل واحد فيما بين صفات كثيرة. وأجيب على تقدير أن لا يكون الكل أبدالا بأن الألف واللام من شديد محذوف لمناسبة ما قبله مع الأمن من اللبس ومن جهالة الموصوف، أو تعمد تنكيره من بين الصفات للإبهام والدلالة على فرط الشدة. وجوزوا أن تكون هذه النكتة سببا لجعله بدلا من بين سائر أخواته. هذا ما قاله صاحب الكشاف. وعندي أنه لا مانع من جعل شَدِيدِ الْعِقابِ أيضا للاستمرار والدوام حتى يصير إضافة حقيقة. قوله ذِي الطَّوْلِ أي ذي الفضل بسبب ترك العقاب وقد مر في قوله وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا [النساء:
25] وإنما أورد هذا الوصف بعد وصفه نفسه بشدة العقاب ليعلم أن خاتمة أمره مبنية على التفضل كما أن فاتحته مبنية على الغفران وقبول التوبة وقد تقع عقوبة في الوسط أعاذنا الله منها، إلا أنه لا يبقى مؤمن في النار خالدا ببركة قوله لا إله إلا الله وهو المبدأ وسبب علمه أنه إليه المصير وهو المعاد. وفيه أن من آمن بالمبدأ والمعاد فإن أخل في الوسط ببعض التكاليف كان مرجوا أن يغفر الله له ويقبل توبته. ثم بين أحوال من لا يقبل هذه التقريرات ولا يخضع لها فقال ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا والجدال في آياته نسبتها إلى الشعر تارة وإلى السحر أخرى إلى غير ذلك من المطاعن وفضول الكلام. فأما البحث عنها لاستنباط حقائقها والوقوف على دقائقها وحل مشكلاتها فنوع من الجهاد في سبيل الله، ولمكان الفرق بين هذين الجدالين
قال صلى الله عليه وسلم «إن جدالا في القرآن كفر» «1»
فنكر الجدال
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (2/ 258، 478، 494)
(6/21)
ليشمل أحد نوعيه فقط وهو الجدال بالباطل كما يجيء في قوله وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ ثم عقب الكلام بقوله فَلا يَغْرُرْكَ ليعلم أن جدالهم الصادر عن البطر والأشر والجاه والخدم لا اعتبار به وكذا تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ للتجارات والمكاسب فإن قريشا كانت أصحاب أموال متجرين إلى الشام واليمن مترفين بأموالهم مستكبرين عن قبول الحق لذلك. ثم مثل حالهم بحال الأمم السالفة الذين تحزبوا على الرسل وكادوا يقتلونهم فأهلكهم الله ودمرهم ونجى الرسل. ثم بين بقوله وَكَذلِكَ حَقَّتْ أنهم في الآخرة أيضا معذبون. وقوله أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ بدل من كَلِمَةُ رَبِّكَ أي مثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم في الآخرة من أصحاب النار. وجوّز جار الله أن يكون أَنَّهُمْ في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل. وقوله الَّذِينَ كَفَرُوا قريش أي كما وجب إهلاك أولئك الأمم كذلك وجب إهلاك هؤلاء لأن العلة الجامعة وهي أنهم أصحاب النار واحدة في الفريقين. ومن قرأ كلمات على الجمع أراد بها علم الله السابق أو معلوماته التي لا نهاية لها، أو الآيات الواردة في وعيد الكفار.
وحين بين أن الكفار بالغوا في إظهار عداوة المؤمنين حكى أن أشرف طبقات أكثر المخلوقات وهم حملة العرش، والحافون حوله يبالغون في محبتهم ونصرتهم كأنه قيل:
إن كان هؤلاء الأراذل يعادونهم فلا تبال بهم ولا تقم لهم وزنا فإن الأشراف يحابونهم.
روى صاحب الكشاف أن حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى ورؤوسهم قد خرقت العرش وهم خشوع لا يرفعون طرفهم.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تتفكروا في عظم ربكم ولكن تفكروا فيما خلق من الملائكة فإن خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله وقدماه في الأرض السفلى وقد مرق رأسه من سبع سموات وإنه ليتضاءل من عظمة الله حتى يصير كأنه الوصع وهو طائر صغير شبه العصفور»
وروى أن الله تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة.
وقيل: خلق الله العرش من جوهرة خضراء وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام، وعدد حملة العرش يوم القيامة ثمانية لقوله عز وجل وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقّة: 17] أما في غير ذلك الوقت فلا يعلم به إلا الله. أما الذين حول العرش فقيل: سبعون ألف صف من الملائكة يطوفون مهللين مكبرين ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير، ومن ورائهم مائة ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وهذه الآثار كلها منقولة من كتاب
(6/22)
الكشاف. سؤال: ما فائدة قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ ولا يخفى أن حملة العرش ومن حوله مؤمنون؟ أجاب في الكشاف بأن فائدته التنبيه على شرف الإيمان والترغيب فيه. وأيضا فيه تكذيب المجسمة فإن الأمر لو كان على زعمهم لكانت الملائكة يشاهدونه فلا يوصفون بالإيمان به لأنه لا يوصف بالإيمان إلا الغائب، فعلم أن إيمانهم كإيمان أهل الأرض والكل سواء في أن إيمانهم بطريق النظر والاستدلال. واستحسن هذا الكلام الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير حتى ترحم عليه وقال: لو لم يكن في كتابه إلا هذه النكتة لكفى به فخرا وشرفا. وأنا أقول: لا نسلم أن الإيمان لا يكون إلا بالغائب وإلا لم يكن الإيمان بالنبي وقت تحديه بالقرآن. وإن شئت فتأمل قوله تعالى الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فلو لم يكن إيمان بالشهادة لم يكن لقوله بِالْغَيْبِ فائدة. على أنه يحتمل أن يشاهد الرب وينكر كونه إلها، ويمكن أن يكون محمول الشيء محجوبا عن ذلك الشيء فمن أين يلزم تكذيب المجسمة؟ وقال بعضهم في الجواب: أراد أنهم يسبحون تسبيح تلفظ لا تسبيح دلالة.
وزعم فخر الدين أن في الآية دلالة أخرى على إبطال قول أهل التجسيم إن الإله على العرش فإنه لو كان كما زعموا وحامل الشيء حامل لكل ما على ذلك الشيء لزم أن تكون الملائكة حاملين لإله العالم حافظين له، والحافظ أولى بالإلهية من المحفوظ. قلت: لا شك أن هذه مغالطة فإن جاز الحمل لأجل العظمة وإظهار الكبرياء على ما يزعم الخصم في المسألة كيف يلزم منه ذلك؟ وهل يزعم عاقل أن الحمار أشرف من الإنسان الراكب عليه من جهة الركوب عليه؟ وإنما ذكرت ما ذكرت لكونه واردا على كلام الإمامين مع وفور فضلهما وبعد غورهما، لا لأني مائل في المسألة على ما يزعم الخصم إلى غير معتقدهما. قال جار الله: وقد روعي التناسب في قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا كأنه قيل: ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم، وفيه أنهم بعد التعظيم لأمر الله يقبلون على الشفقة على خلق الله ولا سيما المؤمنين لأن الإيمان جامع لا أجمع منه يجذب السماوي إلى الأرضي، والروحاني إلى العنصري. احتج كثير من العلماء بالآية على أفضلية الملك قالوا: لأنها تدل على أنه لا معصية للملائكة وإلا لزم بحكم «ابدأ بنفسك» أن يستغفروا أوّلا لأنفسهم قال الله تعالى وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: 19] وقال نوح رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً [نوح: 28] قلت: لا نزاع بالنسبة إليهم وإلى غير المعصومين من البشر وإنما النزاع بينهم وبين المعصومين فلا دليل في الآية، ولا يلزم من طلب الاستغفار لأحد. لو سلم أن قوله لِلَّذِينَ آمَنُوا عام أن يكون المستغفر له عاصيا على أنه قد خص الاستغفار في قوله
(6/23)
فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وهذا فيه بحث يجيء. وفي قولهم رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً ولو بإعطاء الوجود وَعِلْماً وقد مر في «الأنعام» إشارة إلى أن الحمد والثناء ينبغي أن يكون مقدما على الدعاء. وفي لفظ رَبَّنا خاصية قوية في تقديم الدعاء كما ذكرنا في آخر «آل عمران» كأن الداعي يقول: كنت نفيا صرفا وعدما محض فأخرجتني إلى الوجود وربيتني فاجعل تربيتك لي شفيعا إليك، ولا ريب أن ذكر الله أول كل شيء بمنزلة الإكسير الأعظم للنحاس من حيث إنه يقوّي جوهر الروح ويكسبه إشراقا وصفاء. وفي تقديم الرحمة على العلم فائدة هي أن مطلوب الملائكة في هذا المقام هو أن يرحم المؤمنين فكأنهم قالوا: ارحم من علمت منه التوبة واتباع الدين. قالت علماء المعتزلة: الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون، طلب مزيد الكرامة والثواب فهو بمنزلة الشفاعة، وإذا ثبت شفاعة الملائكة لأهل الطاعة فكذلك شفاعة الأنبياء ضرورة أنه لا قائل بالفرق.
وقال علماء السنة: إن مراد الملائكة فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا عن الكفر وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ الإيمان وهذا لا ينافي كون المستغفر لهم مذنبين ومما يؤيد ما قلنا أن الاستغفار طلب المغفرة والمغفرة لا تذكر إلا في إسقاط العذاب، أما طلب النفع الزائد فإنه لا يسمى استغفارا. قال أهل التحقيق: هذا الاستغفار من الملائكة يجري مجرى الاعتذار من قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] أما قوله وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ فتصريح بالمطلوب بعد الرمز لأن دلالة المغفرة على الوقاية من العذاب كالضمنية.
وحين طلبوا لأجلهم إسقاط العذاب ضمنا وصريحا طلبوا إيصال الثواب إليهم بقولهم رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ قال علماء السنة: كل أهل الإيمان موعودون بالجنة وإن كانوا من أهل الكبائر غاية ذلك أنهم يعذبون بالنار مدّة إن لم يكن عفوا وشفاعة ثم يخرجون إلى الجنة. قال الفراء والزجاج: قوله وَمَنْ صَلَحَ يجوز أن يكون معطوفا على الضمير في وَأَدْخِلْهُمْ فيكون دعاء من الملائكة بإدخال هؤلاء الأصناف الجنة تكميلا لأنس الأولين وتتميما لابتهاجهم وإشفاقا على هؤلاء أيضا. ويجوز أن يكون عطفا على الضمير في وَعَدْتَهُمْ لأنه تعالى قال في سورة الرعد أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ [الآية: 23] وعلى هذا لا يشمل دعاء الملائكة هؤلاء الأصناف اللهم إلا ضمنا. قال أهل السنة: المراد بمن صلح أهل الإيمان منهم وإن كانوا ذوي كبائر. ثم ختم الآية بقوله إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لأنه إن لم يكن غالبا على الكل لم يصح منه وقوع المطلوب كما يراد، وإن لم يكن حكيما أمكن منه وضع الشيء في غير موضعه. ثم قالوا وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ فقيل:
(6/24)
يعني العقوبات أو عذاب السيئات على حذف المضاف. واعترض بأنهم قالوا مرة وقهم عذاب الجحيم فيلزم التكرار. وأجيب بأن الأوّل دعاء للأصول وهذه لفروعهم وهم الأصناف الثلاثة، أو الأول مخصوص بعذاب النار وهذا شامل لعذاب الموقف وعذاب الحساب وعذاب السؤال، أو المراد بالسيئات العقائد الفاسدة والأعمال الضارة، وعلى هذا يكون يَوْمَئِذٍ في قوله وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ إشارة إلى الدنيا. وقوله فَقَدْ رَحِمْتَهُ يجوز أن يكون في الدنيا وفي الآخرة. قال في الكشاف: السيئات هى الصغائر والكبائر المتوب عنها، والوقاية منها التكفير أو قبول التوبة. ثم إنه تعالى عاد إلى شرح أحوال الكفرة المجالدين في آياته وأنهم سيعترفون يوم القيامة بما كانوا ينكرونه في الدنيا من البعث، وذلك إذا عاينوا النشأة وتذكروا النشأة الأولى فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ أي يوم القيامة.
وفي الآية حذف وفيها تقديم وتأخير. أما الحذف فالتقدير لمقت الله أنفسكم أكبر من مقتكم أنفسكم، فاستغنى بذكرها مرة. وأما التقديم والتأخير فهو أن قوله إِذْ تُدْعَوْنَ منصوب بالمقت الأول. وفي المقت وجوه: الأول كان الله يمقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حين كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأبون، وذلك أشد من مقتكم أنفسكم اليوم في النار إذ أوقعتكم فيها باتباعكم هواهنّ وفيه توبيخ. ولا ريب أن سخط الله وبغضه الشديد لا نسبة له إلى سخط غيره ولهذا أوردهم النار. الثاني عن الحسن: لما رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم فنودوا بلسان خزنة جهنم لمقت الله وهو قريب من الأول.
الثالث قال محمد بن كعب: إذا خطبهم إبليس وهم في النار بقوله وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إلى قوله وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم: 22] وفي هذه الحالة مقتوا أنفسهم. فلعل المعنى. لمقت الله إياكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض ومن لعنه إياه. وأما قول الكفرة في الجواب رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ أي إماتتين اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا إحياءتين اثْنَتَيْنِ فللعلماء في تعيين كل من الاثنتين خلاف. أما في الكشاف فذهب إلى أن الإماتتين إحداهما خلقهم أوّلا أمواتا ثم نطفة ثم علقة إلخ كما في الآية الأخرى كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً [البقرة: 28] ونسب هذا القول إلى ابن عباس ووجهه بأنه كقولك للحفار:
ضيق فم الركية ووسع أسفلها وليس ثم نقل من كبر إلى صغر أو بالعكس، وإنما أردت الإنشاء على هذه الصفة. والسبب في صحته أن كلا النعتين جائز على المصنوع الواحد وللصانع أن يختار أحدهما. قلت: ومما يؤيد قوله أنه بدأ بالإماتة وإلا كان الأظهر أن يبدأ بالإحياء. قال: والإماتة الثانية هي التي في الدنيا والإحياءة الأولى هي التي في الدنيا، والثانية هي التي بعد البعث. وأورد على هذا القول أنه يلزم أن لا تكون الإحياءة في القبر
(6/25)
والإماتة فيه مذكورتين في القرآن بل تكونان منفيتين مع ورودهما في الحديث. أجاب بعضهم بأن حياة القبر والإماتة ممنوعة لأنه تعالى لم يذكرها، والأحاديث الواردة فيها آحاد، ولأن الذي افترسه السبع لو أعيد حيا لزم نقصان شيء من السبع وليس بمحسوس، ولأن الذي مات لو تركناه ظاهره بحيث يراه كل أحد لم يحس منه حياة وتجويز ذلك مع عدم الرؤية سفسطة وفتح لباب الجهالات. وزيف هذا الجواب أهل الاعتبار بأن عدم ذكر الشيء لا يدل على عدمه، والأحاديث في ذلك الباب صحيحة مقبولة. وإذا كان الإنسان جوهرا نورانيا مشرقا مدبرا للبدن في كل طور على حد معلوم كما ورد في الشريعة الحقة زالت سائر الإشكالات، ولا يلزم قياس ما بعد الموت على ما قبله وللشرع في إخفاء هذه الأمور عن نظر المكلفين حكم ظاهرة حققناها لك مرات. وقال بعضهم: في الجواب هذا كلام الكفار فلا يكون حجة. وضعف بأنه لو لم يكن صادقا لأنكر الله عليهم. وقيل: إن مقصودهم تعديد أوقات البلاء والمحنة وهي أربعة: الموتة الأولى، والحياة في القبر، والموتة الثانية، والحياة في القيامة. فأما الحياة في الدنيا فإنها وقت ترفههم وتنعمهم فلهذا السبب لم يذكروها. وقيل: أهملوا ذكر حياة القبر لقصر مدتها أو لأنهم لم يموتوا بعد ذلك بل يبقون أحياء في الشقاوة حتى اتصل بها حياة القيامة وكانوا من جملة المستثنين في قوله فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] ولا يخفى أن أكثر هذه الأقوال متكلفة ولا سيما الأخير فإن قوله الَّذِينَ كَفَرُوا عام. ولو فرض أنه مخصوص بكفار معهودين فتخصيصهم بالحياة في القبر حتى يكونوا من المستثنين بعيد جدا. وقد يدور في الخلد أن هذا النداء يحتمل أن يكون في القبر، وعلى هذا لا يبقى إشكال لأن الإماتة والإحياء التي بعد ذلك تخرج من غير تكلف وثبت سؤال القبر كما جاء في الحديث والله تعالى أعلم بمراده. وقوله فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ أي إلى نوع من الخروج والرد من القبر إلى الدنيا خروج سريع أو بطيء من سبيل قط أم اليأس الكلي واقع، وهذا كلام من غلب عليه اليأس والقنوط. وكان الجواب الصريح أن يقال: لا أو نعم إلا أنه سبحانه رمز إلى عدم الخروج بقوله ذلِكُمْ أي ذلكم اليأس وأن لا سبيل لكم إلى خروج قط بسبب كفركم في وقت التمكن من التوحيد أوان التكليف فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ حيث حكم عليكم بالعذاب السرمدي وكما يناسب عظمته وكبرياءه. قيل: إن تحكيم الحرورية وهو قولهم «لا حكم إلا لله» مأخوذ من هذه الآية. ثم أراد أن يذكر طرفا من دلائل وحدانيته وكماله فقال هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ من الريح والسحاب والرعد والبرق وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماء هو سبب الرزق وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ أي ما يعتبر إلا الذي أناب إلى الله وأعرض
(6/26)
عن الشرك لينفتح عليه أبواب الأنوار والمكاشفات. ثم قال للمنيبين فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ قال جار الله: قوله رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ ثلاثة أخبار لقوله هو مترتبة على الأول وهو قوله الَّذِي يُرِيكُمْ أو أخبار مبتدأ محذوف وهي مختلفة تعريفا وتنكيرا أوسطها معرفة. ثم إن الرفيع إما أن يكون بمعنى الرافع أو بمعنى المرتفع، وعلى الأول فإما أن يراد رافع درجات الخلق في العلم والأخلاق الفاضلة كما قال يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة: 11] وكذا في الرزق والأجل بل جعل للملائكة مقامات معينة وللأجسام البسيطة العلوية والسفلية درجات معينة كما يشهد به علم الهيئة، وقد أشرنا إلى ذلك في أثناء هذا الكتاب. أو يراد رافع درجات الأنبياء والأولياء في الجنة. وأما على الثاني
فلا ريب أنه سبحانه أشرف الموجودات وأجلها رتبة من جهة استغنائه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه، وافتقار كل ما سواه إليه في الوجود وفي توابع الوجود.
واعلم أن كمال كبرياء الله لا يصل إليه عقول البشر فالطريق في تعريفه أن يؤيد المعقول بنحو من المحسوس، فلهذا عقب الله تعالى هذه الصفة بصفتين أخريين، وذلك أن ما سوى الله إما جسمانيات وإما روحانيات. أما الجسمانيات فأعظمها العرش فأشار بقوله ذُو الْعَرْشِ إلى استيلائه على كلية عالم الأجسام، وأما الروحانيات فأشار إلى كونها تحت تسخيره بقوله يُلْقِي الرُّوحَ أي الوحي مِنْ أَمْرِهِ أي من عالم أمره عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وقد مر نظيره في الآية في أول سورة النحل. وقيل: من أمره حال ثم بين الغرض من الإلقاء بقوله لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ ووجه التسمية ظاهر لتلاقي الأجساد والأرواح فيه، أو لتلاقي أهل السماء والأرض كما قال عز من قائل وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا [الفرقان: 25] ولأن كل واحد يلاقي جزاء عمله. وقال ميمون بن مهران: يوم يلتقي فيه الظالم والمظلوم، فربما ظلم رجل رجلا وانفصل عنه ولم يمكن التلاقي أو استضعف المظلوم ففي يوم القيامة لا بد أن يتلاقيا. وقوله يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ بدل من الأول. ومعنى البروز ما مر في آخر سورة إبراهيم في قوله وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [الآية: 48] وقوله لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ تأكيد لذلك وهذا، وإن كان عاما في جميع الأحوال وشاملا للدنيا والآخرة إلا أنه خصص بالآخرة لأنهم في الدنيا كانوا يظنون أن بعض الأعمال تخفى على الله عند الاستتار بالحجب كما قال وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ فهو نظير قوله مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 3] ثم أكد تفرّده في ذلك اليوم بالحكم والقضاء بقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ولا ريب
(6/27)
أن الكلام مشتمل على جواب وسؤال وليس في لفظ الآية ما يدل على تعيين السائل ولا المجيب. فقال جم من المفسرين ومن أرباب القلوب: إذا هلك كل من في السموات ومن في الأرض يقول الرب تعالى: لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد. فهو سبحانه يجيب عن نفسه فيقول: لله الواحد القهار. وأما الذين ألغوا صرف المعقول من أهل الأصول فقد أنكروا هذا القول إنكارا شديدا لأنه تعالى بين أن هذا النداء في يوم التلاقي والبروز يوم تجزى كل نفس بما كسبت، وكل هذا ينافي في كون الخلق هالكين وقتئذ، ولأن التكلم من غير سامع ولا مجيب عبث إلا أن يكون هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء لكن المفروض فناء كل المخلوقين، فأما أن يكون حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم ولما يجاب به وذلك أن ينادي مناد فيقول: لمن الملك اليوم؟ فيجيبه أهل المحشر لله الواحد القهار، يقوله المؤمن تلذذا والكافر هوانا وتحسرا على أن فاتتهم هذه المعرفة في الدنيا فإن الملك كان له من الأزل إلى الأبد. وفائدة تخصيص هذا النداء يوم القيامة كما عرفت في مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 3] يحكى أن نصر بن أحمد لما دخل نيسابور وضع التاج على رأسه ودخل عليه الناس فخطر بباله شيء فقال: هل فيكم من يقرأ آية؟ فقرأ رجل روّاس رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ فلما بلغ قوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ نزل الأمير عن سريره ورفع التاج عن رأسه وسجد لله تعالى وقال: لك الملك لا لي. فلما توفي الروّاس رؤي في المنام فقيل له ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي وقال لي إنك عظمت ملكي في عين عبدي فلان يوم قرأت تلك الآية فغفرت لك وله. ومما يدل على تفرده سبحانه قوله لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فإن كل واحد من الأسماء الثلاثة ينبىء عن غاية الجلال والعظمة كما مر مرارا، وباقي الآية أيضا مما سلف تفسيره مرات. ثم وصف يوم القيامة بأنواع أخر من الصفات الهائلة فقال وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ وهي فاعلة من أزف الأمر أزوفا إذا دنا، ولا ريب أن القيامة قريبة وإن استبعد الناس مداها لأن كل ما هو كائن فهو قريب. قال جار الله: يجوز أن يريد بيوم الآزفة وقت لحظة الآزفة وهي مشارفتهم دخول النار فعند ذلك ترتفع قلوبهم عن مقارّها فتلصق بحناجرهم فلا هي تخرج فيموتوا ولا ترجع إلى مواضعها فيتنفسوا.
وقال أبو مسلم: يوم الآزفة يوم المنية وحضور الأجل لأنه تعالى ذكر يوم القيامة في قوله يَوْمَ التَّلاقِ يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ فناسب أن يكون هذا اليوم غير ذلك اليوم، ولأنه تعالى وصف يوم الموت بنحو هذه الصفة في مواضع أخر قال فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة: 83] كَلَّا إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ [القيامة: 26] ولا ريب أن الرجل عند معاينة
(6/28)
أمارات الموت يعظم خوفه، فلو جعلنا كون القلوب لدى الحناجر كناية عن شدّة الخوف جاز، ولو حملناه على ظاهره فلا بأس. وقوله كاظِمِينَ أي مكروبين. والكاظم الساكت حال امتلائه غما وغيظا قال عز من قائل وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ [آل عمران: 134] وانتصابه على أنه حال عن أصحاب القلوب كأنه قيل: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها، أو عن القلوب. وجمع جمع السلامة بناء على أن الكظم من أفعال العقلاء كقوله فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ [الشعراء: 4] أو عن ضمير المفعول في وَأَنْذِرْهُمْ أي وأنذرهم مقدّرين أو مشارفين الكظم فيكون حالا مقدّره. وفي قوله ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ بحث بين الأشاعرة والمعتزلة حيث حمله الأوّلون على أهل الشرك، والآخرون على معنى أعم حتى يشمل أصحاب الكبائر. وقد مرّ مرارا ولا سيما في قوله وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [آل عمران: 192] ومعنى قوله يُطاعُ يجاب أي لا شفاعة ولا إجابة كقوله:
ولا ترى الضب بها ينجحر وذلك أنه لا يشفع أحد في ذلك اليوم إلا بإذن الله، فإن أذن له أجيب وإلا فلا يوجد شيء من الأمرين. والفائدة في ذكر هذه الصفة أن يعلم أن الغرض من الشفيع منتف في حقهم وإن فرض شفيع على ما يزعم أهل الشرك من أن الأصنام يشفعون لهم. وقوله يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ خبر آخر لقوله هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ إلا أنه فصل بالتعليل وهو قوله لِيُنْذِرَ وذكر وصف القيامة استطرادا، قال جار الله: هي صفة للنظرة أو مصدر بمعنى الخيانة كالعافية، والمراد استراق النظر إلى ما لا يحل كما يفعل أهل الريب. قال:
ولا يحسن أن تكون الخائنة صفة للأعين مضافة إليها نحو «جرد قطيفة» أي يعلم العين الخائنة لأن قوله وَما تُخْفِي الصُّدُورُ لا يساعد عليه. قلت: يعني أن عطف العرض على الجوهر والمعنى على العين غير مناسب. وقيل: هي قول الإنسان رأيت ولم ير وما رأيت ورأى. ومضمرات الصدور أي القلوب فيها لأنها فيها. قيل: هي ما يستره الإنسان من أمانة وخيانة. وقيل: الوسوسة. وقال ابن عباس: ما تخفي الصدور بعد النظر إليها أيزني بها أم لا. أقول: والحاصل أنه تعالى أراد أن يصف نفسه بكمال العلم فإن المجازاة تتوقف على ذلك. ففي قوله يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ إشارة إلى أنه عالم بجميع أفعال الجوارح، وفي قوله وَما تُخْفِي الصُّدُورُ دلالة على أنه عالم بجميع أفعال القلوب. وإذا علمت هذه الصفة وقد عرفت من الأصناف السابقة كمال قدرته واستغنائه لم يبق شك فى حقيّة قضائه فلذلك قال وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ ثم وبخهم على عبادة من لا قضاء له ولا سمع ولا بصر
(6/29)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27) وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37) وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40) وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46) وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
بقوله وَالَّذِينَ يَدْعُونَ إلخ. ثم وعظهم بالنظر في أحوال الأمم السالفة وقد مر نظير الآية في مواضع. وإنما قال في هذه السورة ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ وفي «التغابن» ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ [الآية: 6] موافقة لضمير الفصل في قوله كانُوا هُمْ أَشَدَّ.
التأويل:
الحاء والميم حرفان من وسط اسم الرحمن ومن وسط اسم محمد ففي ذلك إشارة إلى سر بينه وبين حبيبه صلى الله عليه وسلم لا يسعه فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل غافِرِ الذَّنْبِ للظالم وَقابِلِ التَّوْبِ للمقتصد شَدِيدِ الْعِقابِ للكافر ذِي الطَّوْلِ للسابق وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ أي عن موجباتها كالرياء واتباع الهوى لَمَقْتُ اللَّهِ إياكم حين حكم عليكم بالبعد والحرمان أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ لو كنتم تمقتونها في الدنيا فإنها أعدى عدوّكم. ومقتها منعها من هواها، ولا ريب أن عذاب البعد الأبديّ أشدّ من رياضة أيام معدودة قلائل. ذُو الْعَرْشِ عرش القلوب استوى عليها بجميع الصفات وهم العلماء بالله المستغرقون في بحر معرفته.
[سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 50]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)
وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32)
يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37)
وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42)
لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50)
(6/30)
القراآت:
ذروني بفتح الياء: ابن كثير إني أخاف بفتح الياء: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو. أو بصيغة الترديد: عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب. الباقون: بواو العطف. يُظْهِرَ بضم الياء وكسر الهاء من الإظهار الفساد بالنصب: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب والمفضل وحفص. الآخرون:
بفتحهما ورفع الفساد عُذْتُ مدغما: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف ويزيد وإسماعيل وهشام التنادى بالياء في الحالين: ابن كثير ويعقوب وأفق يزيد وورش وسهل وعباس في الوصل قلب متكبر بالتنوين فيهما عل الوصف: أبو عمرو وقتيبة وابن ذكوان.
الباقون: على الإضافة. لعلي أبلغ الأسباب بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر فَأَطَّلِعَ بالنصب: حفص. اتبعوني بالياء في الحالين: سهل
(6/31)
وابن كثير ويعقوب وأفق أبو عمرو ويزيد والأصفهاني عن ورش وإسماعيل وأبو نشيط عن قالون في الوصل. ما لي بفتح الياء: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع أمري إلى الله بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو تَقُومُ بتاء التأنيث: الرازي عن هشام أَدْخِلُوا من الإدخال: أبو جعفر ونافع ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وحفص. وعلى هذه القراءة الخطاب للزبانية. وانتصب آلَ وأَشَدَّ على أنهما مفعول بهما. وعلى القراءة الأخرى هو لآل فرعون، وانتصب آلَ على النداء لا على أنه مفعول به.
الوقوف:
مُبِينٍ هـ لا كَذَّابٌ هـ نِساءَهُمْ ط ضَلالٍ هـ رَبَّهُ ج لاحتمال اللام مؤمن قف قد قيل: بناء على أن الجار يتعلق بالفعل بعده والوصل أصح لأنه كان من القبط، ولو فرض أنه لم يكن منهم فالجملة وصف له من ربكم ج لانتهاء الاستفهام إلى الابتداء بالشرط كَذِبُهُ ج للعطف والشرط يَعِدُكُمْ ط كَذَّابٌ هـ فِي الْأَرْضِ ز لابتداء الاستفهام والوجه الوصل لأن المقصود الوعظ به جاءَنا ط الرَّشادِ هـ الْأَحْزابِ هـ لا لأن ما بعده بدل بَعْدِهِمْ ط لِلْعِبادِ هـ التَّنادِ هـ ط لأجل البدل مُدْبِرِينَ ج لأن ما بعده يصلح حالا واستئنافا مِنْ عاصِمٍ ج لاحتمال كون ما بعده ابتداء إخبار من الله سبحانه وكونه من كلام المؤمن مِنْ هادٍ هـ جاءَكُمْ بِهِ ط رَسُولًا ط مُرْتابٌ هـ ج لاحتمال البدل فإن «من» في معنى الجمع أو الاستئناف أي هم الذين أو أعني أنهم آمَنُوا ط جَبَّارٍ هـ الْأَسْبابَ هـ لا كاذِباً ط السَّبِيلِ ط تَبابٍ هـ الرَّشادِ ج لأن النداء يبدأ به مع أنه تكرار للأول مَتاعٌ ز للفصل بين تنافي الدارين مع اتفاق الجملتين الْقَرارِ هـ مِثْلَها ج لعطف جملتي الشرط حِسابٍ هـ النَّارِ هـ ج لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار ولاحتمال ابتداء استفهام آخر الْغَفَّارِ هـ النَّارِ هـ لَكُمْ ط إِلَى اللَّهِ ط بِالْعِبادِ هـ الْعَذابِ هـ ج لاحتمال البدل والابتداء وَعَشِيًّا ج لاحتمال ما بعده العطف والاستئناف السَّاعَةُ قف لحق القول المحذوف أي يقال لهم أو للزبانية الْعَذابِ هـ مِنَ النَّارِ هـ الْعِبادِ هـ مِنَ الْعَذابِ هـ بِالْبَيِّناتِ ط بَلى ط فَادْعُوا ج لاحتمال أن ما بعده من قول الخزنة أو ابتداء إخبار من الله تعال ضَلالٍ هـ.
التفسير:
لما وبخ الكفار بعدم السير في الأرض للنظر والاعتبار أو بعدم النظر في أحوال الماضين مع السير في الأقطار وقد وصف الماضين بكثرة العدد والآثار الباقية، أراد أن يصرح بقصة واحدة من قصصهم تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وزيادة توبيخ وتذكير لهم. وكان في قصة موسى وفرعون من العجائب ما فيها، فلا جرم أوردها هاهنا مع فوائد زائدة على ما في
(6/32)
المواضع الأخر منها: ذكر مؤمن من آل فرعون وما وعظ ونصح به قومه. ولأن القصة قد تكررت مرارا فلنقتصر في التفسير على ما يختص بالمقام. قوله بِالْحَقِّ أي بالمعجزات الظاهرة. وقوله اقْتُلُوا يريد به إعادة القتل كما مر في «الأعراف» في قوله سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ [الآية: 127] قوله إِلَّا فِي ضَلالٍ أي في ضياع واضمحلال. فإن كان اللام في الْكافِرِينَ للجنس فظاهر لأن وبال كيدهم يعود بالآخرة عليهم حين يهلكون ويدخلون النار، وإن كان للعهد وهم فرعون وقومه فأظهر كما قص عليك من حديث إغراقهم واستيلاء موسى وقومه على ديارهم. قوله ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى ظاهره مشعر بأن قومه كانوا يمنعونه من قتله وفيه احتمالات: الأول لعله كان فيهم من يعتقد نبوّة موسى فيأتي بوجوه الحيل في منع فرعون. الثاني قال الحسن: إن أصحابه قالوا لا تقتله فإنما هو ساحر ضعيف ولا يمكنه أن يغلب سحرتك، وإن قتلته أدخلت الشبهة على الناس وقالوا: إنه كان محقا وعجزوا عن جوابه فقتله. الثالث: لعل مراد أمرائه أن يكون فرعون مشغول القلب بأمر موسى حتى إنهم يكونون في أمن وسعة. قال جار الله: إن فرعون كان فيه خب وجريرة وكان قتالا سفاكا للدماء في أهون شيء فكيف لا يقصد قتل من أحس بأن في وجوده هدم ملكه وتغيير ما هو عليه من عبادة أصنامه كما قال إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ الآية. ولكنه كان قد استيقن أنه نبي وكان يخاف إن همّ بقتله أن يعاجل بالهلاك. قال:
وقوله وَلْيَدْعُ رَبَّهُ شاهد صدق على فرط خوفه من دعوة ربه. وقال غيره: هو على سبيل الاستهزاء يعني إن أقتله فليقل لربه الذي يدّعي وجوده حتى يخلصه. ومعنى تبديل الدين تغيير عبادة الأصنام كما مر في «الأعراف» في قوله وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الآية: 127] والفساد التهارج والتنازع واختلاف الآراء والأهواء، أراد أنه يحدث لا محالة من إبقائه فساد الدين والدنيا جميعا، أو أحد الأمرين على القراءتين. ثم حكى ما ذكره موسى في دفع شر فرعون وهو العوذ بالله. وفي تصدير الجملة بان دلالة على أن الطريق المعتبر في دفع الآفات الاستغاثة والاستعاذة برب الأرض والسموات. وفي قوله بِرَبِّي إشارة إلى أن الذي رباني وإلى درجات الخير رقاني سيعصمني من شر هذا المارد الجاني. وفي قوله وَرَبِّكُمْ احتراز عن أن يظن ظانّ أنه يريد به فرعون لأنه رباه في صغره أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء: 18] وفيه بعث لقوم موسى على أن يقتدوا به في الاستعاذة فإن اجتماع النفوس له تأثير قوي. وفي قوله مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ أي متكبر عن قبول الحق على سبيل العموم فائدتان: إحداهما شمول الدعاء فيدخل فيه فرعون بالتبعية. والثانية أن فرعون رباه في الصغر فلعله راعى حسن الأدب في عدم تعيينه. وأما وصف المتكبر بقوله
(6/33)
لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ فلأن الموجب لإيذاء الناس أمران: أحدهما قسوة القلب. والثاني عدم اعتقاد بالجزاء والحساب. ولا ريب أنه إذا اجتمع الأمران كان الخطب أفظع لاجتماع المقتضى وارتفاع المانع. ثم شرع في قصة مؤمن آل فرعون. والأصح أنه كان قبطيا ابن عم لفرعون آمن بموسى سرا واسمه سمعان أو حبيب أو خربيل. وقيل: كان إسرائيليا.
وزيف بأن المؤمنين من بني إسرائيل لو يعتلوا ولم يعزوا لقوله اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ فما الوجه في تخصيصه؟ ولقائل أن يقول: الوجه تخصيصه بالوعظ والنصيحة إلا أن قوله: فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ وقوله يا قَوْمِ على رأس كل نصيحة يغلب على الظن أنه يتنصح لقومه. ومعنى أَنْ يَقُولَ لأجل قوله أو وقت أن يقول كأنه قال منكرا عليهم أترتكبون الفعلة الشنعاء وهي قتل نفس محرمة أي نفس كانت لأجل كلمة حقة وهي قوله رَبِّيَ اللَّهُ والدليل على حقيقتها إظهار الخوارق والمعجزات. وفي قوله مِنْ رَبِّكُمْ استدراج لهم إلى الاعتراف بالله. ثم احتج عليهم بالتقسيم العقلي أنه لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا. على الأول يعود وبال كذبه عليه، وعلى الثاني أصابكم ما يتوعدكم به من العقاب. واعترض على الشق الأوّل بأن الكاذب يجب دفع شره بإمالته إلى الحق أو بقتله، ولهذا أجمع العلماء على أن الزنديق الذي يدعو الناس إلى دينه يجب قتله. وعلى الشق الثاني بأنه أوعدهم بأشياء والنبي صادق في مقالته لا محالة فلم قال يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ ولم يقل «كل الذي» ؟ والجواب عن الأوّل أنه إنما ردّد بين الأمرين بناء على أن أمره مشكوك فيما بينهم، والزمان زمان الفترة والحيرة، فأين هذا من زماننا الذي وضح الحق فيه وضوح الفجر الصادق بل ظهور الشمس في ضحوة النهار؟ وعن الثاني أنه من كلام المنصف كأنه قال: إن لم يصبكم كل ما أوعد فلا أقل من أن يصيبكم بعضه، أو أراد عذاب الدنيا وكان موسى أوعدهم عذاب الدنيا والآخرة جميعا. وعن أبي عبيدة: أن البعض هاهنا بمعنى الكل وأنشد قول لبيد:
ترّاك أمكنه إذا لم أرضها ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
وخطأه جار الله وكثير من أهل العربية وقالوا: إنه أراد ببعض النفوس فقط. ثم أكد حقية أمر موسى بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ وقد هداه الله إلى المعجزات الباهرة فهو إذن ليس بمتجاوز عن حدّ الاعتدال ولا بكذاب. وقيل: إنه كلام مستأنف من الله عز وجل، وفيه تعريض بأن فرعون مسرف في عزمه على قاتل موسى كذاب في ادّعاء الإلهية فلا يهديه الله إلى شيء من خيرات الدارين ويزيل ملكه ويدفع شره،
(6/34)
وقد يلوح من هذه النصيحة وما يتلوها من المواعظ أن مؤمن آل فرعون كان يكتم إيمانه إلى أن قصدوا قتل موسى وعند ذلك أظهر الإيمان وترك التقية مجاهدا في سبيل الله بلسانه. ثم ذكرهم نعمة الله عليهم وخوّفهم زوالها بقوله يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ أي غالبين على أرض مصر ومن فيها من بني إسرائيل والقبط فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ من يخلصنا من عذابه إِنْ جاءَنا وذلك لشؤم تكذيب نبيه قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى أي ما أشير عليكم برأي إلا بما أرى من قبله وَما أَهْدِيكُمْ بهذا الرأي إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ وصلاح الدين والدنيا، أو ما أعلمكم من الصواب ولا أسر خلاف ما أظهر. قال جار الله: وقد كذب فقد كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى ولكنه كان يتجلد. وحكى أبو الليث أن الرشاد اسم من أسماء أصنامه. قوله مِثْلَ دَأْبِ قال جار الله صاحب الكشاف: لا بد من حذف مضاف أي مثل جزاء دأبهم وهو عادتهم المستمرة في الكفر والتكذيب. ثم قال: إنه عطف بيان للأوّل لأن آخر ما تناولته الإضافة قوم نوح. ولو قلت أهلك الله الأحزاب قوم نوح وعاد وثمود لم يكن إلا عطف بين لإضافة قوم إلى أعلام فسرى ذلك الحكم إلى أوّل المضافات. قلت: لا بأس من جعله بدلا كما مرّ. وقوله وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ أبلغ من قوله وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:
46] لأن نفي الإرادة آكد من نفي الفعل ولتنكير الظلم في سياق النفي. وفيه أن تدميرهم كان عدلا وقسطا. وقيل: معناه أنه لا يريد لهم أن يظلموا فدمرهم لكونهم ظالمين. وحين خوّفهم عذاب الدنيا خوّفهم عذاب الآخرة أيضا فقال وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ أما اليوم فيمكن انتصابه على الظرفية كأنه أخبر عن خوفه في ذلك اليوم لما يلحقهم من العذاب، والأولى أن يكون مفعولا به أي أحذركم عذاب ذلك اليوم. وفي تسمية يوم القيامة يوم التناد وجوه منها: أن أهل الجنة ينادون أهل النار وبالعكس كما مر في سورة الأعراف. ومنها أنه من قوله يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: 71] ومنها أن بعض الظالمين ينادي بعضا بالويل والثبور قائلين يا ويلنا. ومنهما أنهم ينادون إلى المحشر.
ومنهما أنه ينادي المؤمن هاؤم اقرؤا كتابيه والكافر يا ليتني لم أوت كتابيه. ومنها أنه يجاء بالموت على صورة كبش أملح ثم يذبح وينادي في أهل القيامة لا موت فيزداد أهل الجنة فرحا على فرح، وأهل النار حزنا على حزن. وقال أبو علي الفارسي: التناد مخفف من التنادّ مشددا وأصله من ندّ إذا هرب نظيره يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ [عبس: 34] إلخ. ويؤيده قراءة ابن عباس مشددا وتفسيره بأنهم يندون كما تند الإبل. وقوله بعد ذلك يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ أنهم إذا سمعوا زفير النار ندّوا هاربين فلا يأتون قطرا من الأقطار إلا وجدوا ملائكة صفوفا فيرجعون إلى المكان الذي كانوا فيه. وقال قتادة: معنى تولون
(6/35)
مدبرين انصرافهم عن موقف الحساب إلى النار. ثم أكد التهديد بقوله ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ الآية. ثم ذكر مثالا لمن لا يهديه الله بعد إضلاله وهو قوله وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ وفيه أقوال ثلاثة أحدها: أنه يوسف بن يعقوب، وفرعون موسى هو فرعون يوسف، والبينات إشارة إلى ما
روي أنه مات لفرعون فرس قيمته ألوف فدعا يوسف فأحياه الله. وأيضا كسفت الشمس فدعا يوسف فكشفها الله
، ومعجزاته في باب تعبير الرؤيا مشهورة، فآمن فرعون ثم عاد إلى الكفر بعد ما مات يوسف. والثاني هو يوسف بن ابن إبراهيم بن يوسف ابن يعقوب، أقام فيهم عشرين سنة قاله ابن عباس. والثاني هو يوسف بن ابن إبراهيم بن يوسف إليهم رسولا من الجن اسمه يوسف وأورده أقضى القضاة أيضا وفيه بعد. قال المفسرون في قوله لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ليس إشارة إلى أنهم صدّقوا يوسف لقوله فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ وإنما الغرض بيان أن تكذيبهم لموسى مضموم إلى تكذيب يوسف ولهذا ختم الآية بقوله كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ قلت: هذا إنما يصح إذا لم يكن فرعون يوسف قد آمن به لكنه مروّي كما قلنا اللهم إلا أن يقال: لولا شكه في أمره لما كفر بعد موته قال جار الله: فاعل كبر ضمير عائد إلى من هو مسرف لأنه موحد اللفظ وإن كان مجموع المعنى. وجوّز أن يكون الَّذِينَ يُجادِلُونَ مبتدأ على تقدير حذف المضاف أي جدال الذين يجادلون كبر. وجوّز آخرون أن يكون التقدير الذين يجادلون كبر جدالهم على حذف الفاعل للقرينة. وفي قوله وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا إشارة إلى أن شهادة المؤمنين عند الله بمكان حتى قرنها إلى شهادة نفسه. والمقصود التعجب والاستعظام لجدالهم وخروجه عن حدّ أشكاله من الكبائر، ووصف القلب بالتكبر والتجبر لأنه مركزهما ومنبعهما، أو باعتبار صاحبه. ومن قرأ بالإضافة فظاهر إلا أنه قيل: فيه قلب والأصل على قلب كل متكبر كما يقال: فلان يصوم كل يوم جمعة أي يوم كل جمعة. ثم أخبر الله سبحانه عن بناء فرعون ليطلع على السماء وقد تقدّم ذكره في سورة القصص. قال أهل اللغة: الصرح مشتق من التصريح الإظهار، وأسباب السموات طرقها كما مر في أوّل «ص» فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ [الآية: 10] فائدة بناء الكلام على الإبدال هي فائدة الإجمال ثم التفصيل والإبهام ثم التوضيح من تشويق السامع وغيره. من قرأ فَأَطَّلِعَ بالرفع فعلى العطف أي لعلي أبلغ فأطلع. ومن قرأ بالنصب فعلى تشبيه الترجي بالتمني. والتباب الخسران والهلاك كما مر في قوله وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ [هود: 101] استدل كثير من المشبهة بالآية على أن الله في السماء قالوا: إن بديهة فرعون قد شهدت بأنه في ذلك الصوب وأنه سمع من موسى أنه يصف الله بذلك وإلا لما رام بناء الصرح. والجواب أن بديهة فرعون لا حجة فيها، وسماعه ذلك من موسى ممنوع. وقد يطعن بعض اليهود بل كلهم في الآية بأن
(6/36)
تواريخ بني إسرائيل تدل على أن هامان لم يكن موجودا في زمان موسى وفرعون وإنما ولد بعدهما بزمان طويل، ولو كان مثل هذا الشخص موجودا في عصرهما لنقل لتوفرت الدواعي على نقله. والجواب أن الطعن بتاريخ اليهود المنقطع الوسط لكثرة زمان الفترة أولى من الطعن في القرآن المعجز المتواتر أولا ووسطا وآخرا.
ثم عاد سبحانه إلى حكاية قول المؤمن وأنه أجمل النصيحة أوّلا بقوله اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ ثم استأنف مفصلا قائلا إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ يتمتع به أياما قلائل ثم يترك عند الموت إن لم يزل نعيمها قبل ذلك وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ المنزل الذي يستقر فيه. ثم بين أنه كيف تحصل المجازاة في الآخرة وفيه إشارة إلى أن جانب الرحمة أرجح. ومعنى الرزق بغير حساب أنه لا نهاية لذلك الثواب، أو أنه يعطى بعد الجزاء شيئا زائدا على سبيل التفضل غير مندرج تحت الحساب. ثم صرح بأنهم يدعونه إلى النار وهو يدعوهم إلى الخلاص عنها وفسر هذه الجملة بقوله تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ الآية. ليعلم أن الشرك بالله أعظم موجبات النار والتوحيد ضدّه. وفي قوله ما لِي أَدْعُوكُمْ من غير أن يقول «ما لكم» مع أن الإنكار يتوجه في الحقيقة إلى دعائهم لا إلى المجموع ولا إلى دعائه سلوك لطريق الإنصاف. ووجه تخصيص العزيز الغفار بالمقام أنه غالب على من أشرك به غفور لمن تاب عن كفره. قوله لا جَرَمَ لا ردّ لكلامهم، وجرم بمعنى كسب أو وجب أو لا بد وقد سبق في «هود» و «النحل» . ومعنى لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ أنه لا يقدر في الدنيا على أن يدعو الناس إلى نفسه لأنه جماد، ولا في الآخرة لأنه إذا أنطقه الله فيها تبرأ من عابديه.
ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي ليس له استجابة دعوة كقوله وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ [الرعد: 14] عن قتادة:
المسرفين هم المشركون. ومجاهد: السفاكون للدماء بغير حلها. وقيل: الذين غلب شرهم خيرهم. وقيل: الذين جاوزوا في المعصية حدّ الاعتدال كما بالدوام والإصرار وكيفا بالشناعة وخلع العذار فَسَتَذْكُرُونَ أي في الدنيا عند حلول العذاب أو في الآخرة عند دخول النار وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ قاله لأنهم توعدوه. وفيه وفي قوله فَوَقاهُ اللَّهُ دليل واضح على أنه أظهر الإيمان وقت هذه النصائح. قال مقاتل: لما تمم هذه الكلمات قصدوا قتله فهرب منهم إلى الجبل فطلبوه فلم يقدروا عليه. قوله وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ معناه أنه رجع وبال مكرهم عليهم فأغرقوا ثم أدخلوا نارا. ولا يلزم منه أن يكونوا قد هموا بإيصال مثل هذا السوء إليه، ولئن سلّم أن الجزاء يلزم فيه المماثلة لعل فرعون قد همّ
(6/37)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59) وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
بإغراقه أو بإحراقه كما فعل نمرود. قوله يُعْرَضُونَ عَلَيْها أي يحرقون بها. يقال: عرض الإمام الأسارى على السيف إذا قتلهم به. وقوله غُدُوًّا وَعَشِيًّا إما للدوام كما مر في صفة أهل الجنة وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] وإما لأنه اكتفى في القبر بإيصال العذاب إليهم في هذين الوقتين. وفي سائر الأوقات إما أن يبقى أثر ذلك وألمه عليهم، وإما أن يكون فترة وإما أن يعذبوا بنوع آخر من العذاب الله أعلم بحالهم. وفي الآية دلالة ظاهرة على إثبات عذاب القبر لأن تعذيب يوم القيامة يجيء في قوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد بعرض النار عرض النصائح عليهم في الدنيا لأن سماع الحق مرّ طعمه؟ قلنا: عدول عن الظاهر من غير دليل. ولما انجر الكلام إلى شرح أحوال أهل النار عقبة بذكر المناظرات التي تجري فيها بين الرؤساء والأتباع والمعنى: اذكر يا محمد وقت تحاجهم وقد مر نظير ذلك مرارا. وفي قولهم إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ أي قضى لكل فريق بما يستحقه إشارة إلى الإقناط الكليّ، ولهذا رجعوا عن محاجة المتبوعين إلى الالتماس من خزنة النار أن يدعوا الله بتخفيف العذاب عنهم زمانا. قال المفسرون:
إنما لم يقل لخزنتها لأن جهنم اسم قعر النار فكأن لخزنتها قربا من الله وهم أعظم درجة من سائر الخزنة فلذلك خصوهم بالخطاب. أما قول الخزنة لهم ف ادْعُوا ودعاء الكافر لا يسمع، فالمراد به التوبيخ والتنبيه على اليأس كأنهم قالوا: الشفاعة مشروطة بشيئين: كون المشفوع له مؤمنا والشافع مأذونا له فيها، والأمر إن هاهنا مفقودان على أن الحجة قد لزمتهم والبينة ألجأتهم. ثم أكدوا ذلك بقولهم وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ أي لا أثر له البتة.
[سورة غافر (40) : الآيات 51 الى 85]
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55)
إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70)
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75)
ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80)
وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)
(6/38)
القراآت
لا يَنْفَعُ على التذكير: نافع وحمزة وعلي وخلف وعاصم تَتَذَكَّرُونَ بتاء الخطاب: عاصم وحمزة وعلي وخلف. ادْعُونِي أَسْتَجِبْ بفتح الياء: ابن كثير.
سيدخلون من الإدخال مجهولا: ابن كثير ويزيد وعباس ورويس وحماد وأبو بكر غير الشموني شيوخا بكسر الشين: ابن كثير وابن عامر وحمزة وعلي وهبيرة والأعشى ويحيى وحماد.
الوقوف
الْأَشْهادُ هـ لا لأن يَوْمَ بدل من الأول الدَّارِ هـ الْكِتابَ هـ لا الْأَلْبابِ هـ وَالْإِبْكارِ هـ أَتاهُمْ لا ن ما بعده خبر «إن» ما هُمْ بِبالِغِيهِ ج لاختلاف الجملتين بِاللَّهِ ط الْبَصِيرُ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ وَلَا الْمُسِيءُ ط يتذكرون هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ أَسْتَجِبْ لَكُمْ ط داخِرِينَ هـ مُبْصِراً ط لا يَشْكُرُونَ هـ شَيْءٍ لا لئلا يوهم أن ما بعده صفة شيء وخطؤه ظاهر إِلَّا هُوَ ز لابتداء الاستفهام ورجحان الوصل لفاء التعقيب ولتمام مقصود الكلام يؤفكون هـ يَجْحَدُونَ هـ الطَّيِّباتِ ط الْعالَمِينَ هـ الدِّينَ هـ الْعالَمِينَ هـ شُيُوخاً ج لاختلاف الجملتين تَعْقِلُونَ هـ وَيُمِيتُ ج لأجل الفاء مع الشرط فَيَكُونُ هـ فِي آياتِ اللَّهِ ط لانتهاء الاستفهام وابتداء آخر يُصْرَفُونَ هـ ج لاحتمال كون الَّذِينَ بدلا من الضمير في يُصْرَفُونَ رُسُلَنا قف إن لم تقف على يُصْرَفُونَ. يَعْلَمُونَ هـ لا لتعلق الظرف وَالسَّلاسِلُ ط لأن ما بعده مستأنف. وقيل: وَالسَّلاسِلُ مبتدأ والعائد محذوف أي والسلاسل يجرون بها في الحميم يُسْجَرُونَ هـ ج للآية مع العطف مِنْ دُونِ اللَّهِ ط شَيْئاً ط الْكافِرِينَ هـ تَمْرَحُونَ هـ خالِدِينَ فِيها ج الْمُتَكَبِّرِينَ هـ حَقٌّ هـ للشرط مع الفاء يُرْجَعُونَ هـ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ط بِإِذْنِ اللَّهِ ج الْمُبْطِلُونَ هـ تَأْكُلُونَ هـ ز للآية مع العطف وشدّة اتصال المعنى تُحْمَلُونَ هـ ط لأن ما بعده مستأنف ولا وجه للعطف. نْكِرُونَ
هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ط للفصل بين الاستخبار والأخبار يَكْسِبُونَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ مُشْرِكِينَ هـ بَأْسَنا الثاني ط فِي عِبادِهِ ج لأن الفعل المعطوف عليه مضمر وهو سن الْكافِرُونَ هـ.
التفسير:
هذا من تمام قصة موسى وعود إلى مقام انجر الكلام منه وذلك أنه لما قيل فَوَقاهُ اللَّهُ وكان المؤمن من أمة موسى علم منه ومما سلف مرارا أن موسى وسائر قومه قد نجوا وغلبوا على فرعون وقومه فلا جرم صرح بذلك فقال إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا الآية.
ونصرتهم في الدنيا بإظهار كلمة الحق وحصول الذكر الجميل واقتداء الناس بسيرتهم إلى مدة ما شاء الله، وقد ينصرون بعد موتهم كما أن يحيى بن زكريا لما قتل به سبعون
(6/40)
ألفا. وأما نصرهم في الآخرة فمن رفع الدرجات والتعظيم على رؤوس الأشهاد من الحفظة والأنبياء والمؤمنين وقد مر باقي تفسير الأشهاد في أوائل «هود» . ثم بين أن يوم القيامة لا اعتذار فيه لأهل الظلم والغواية وإن فرض اعتذار فلا يقبل وسوء الدار عذاب الآخرة. ثم أخبر عن إعطاء موسى التوراة وإيراثها قومه بعده. والمراد بكون الكتاب هدى أنه دليل في نفسه، وبكونه ذكرى أن يكون مذكرا للشيء المنسيّ. وحين فرغ من قصة موسى وما تعلق بها خاطب نبيه صلى الله عليه وسلم مسليا له بقوله فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالنصر وإعلاء كلمة الحق حَقٌّ كما قص عليك من حال موسى وغيره. ثم أمره باستغفار لذنبه وقد سبق البحث في مثله مرارا. والعشيّ والإبكار صلاتا العصر والفجر أو المراد الدوام. قوله إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ عود إلى ما انجر الكلام إليه من أول السورة إلى هاهنا. وفيه بيان السبب الباعث لكفار قريش على هذا الجدال وهو الكبر والحسد وحب الرياسة، وأن يكون الناس تحت تصرفهم وتسخيرهم لا أن يكونوا تحت تصرف غيرهم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا بد أن تكون الأمة تحت أمره ونهيه وذلك تخيل فاسد لأن الغلبة لدين الإسلام ولهذا قال ما هُمْ بِبالِغِيهِ ثم أمره أن يستعيذ في دفع شرورهم بالله السميع لأقوالهم البصير بأحوالهم فيجازيهم على حسب ذلك. ثم إنهم كانوا أكثر ما يجادلون في أمر البعث فاحتج الله تعالى عليهم بقوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ومن قدر على الأصعب في نظر المخالف وقياسه كان على الأسهل أقدر، فظاهر أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات الله بغير سلطان ولا برهان بل لمجرد الحسد والكبير بل لا يعرفون ما البرهان وكيف طريق النظر والاستدلال ولهذا قال وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ.
ثم نيه على الفرق بين الجدال المستند على العناد والتقليد وبين الجدال المستند إلى الحجة والدليل قائلا وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وحين بين التفاوت بين الجاهل والعالم أراد أن يبين التفاوت بين المحسن والمسيء ثم قال قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ وفيه مزيد توبيخ وتقريع، وفيه أن هذا التفاوت مما يعثر عليه المكلف بأدنى تأمل لو لم يكن معاندا مصرا. ثم صرح بوجود القيامة قائلا إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ أدخل اللام في الخبر بخلاف ما في «طه» لأن المخاطبين هاهنا شاكون بخلاف المخاطب هناك وهو موسى، وهذه الآية كالنتيجة لما قبلها. ومعنى لا يُؤْمِنُونَ لا يصدّقون بالبعث. ثم إنه كان من المعلوم أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بالطاعة فلا جرم أشار إليها بقوله وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ أكثر المفسرين على أن الدعاء هاهنا بمعنى العبادة، والاستجابة بمعنى الإنابة بقوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي والدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن
(6/41)
كقوله إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً [النساء: 117]
روى النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «الدعاء العبادة» وقرأ هذه الآية.
وجوّز آخرون أن يكون الدعاء والاستجابة على ظاهرهما، ويراد بعبادتي دعائي لأن الدعاء باب من العبادة يصدّقه قول ابن عباس: أفضل العبادة الدعاء. وقد مرّ تحقيق الدعاء في سورة البقرة في قوله أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ [الآية: 186] وقد فسره ابن عباس بمعنى آخر قال: وحدوني أغفر لكم. وفي الدعاء. قال جار الله: وهذا تفسير للدعاء بالعبادة ثم للعبادة بالتوحيد. ومعنى داخِرِينَ صاغرين. وقال أهل التحقيق: كل من دعا الله وفي قلبه مثقال ذرة من المال والجاه وغير ذلك فدعاؤه لساني لا قلبي ولهذا قد لا يستجاب لأنه اعتمد على غير الله. وفيه بشارة هي أن دعاء المؤمن وقت حلول أجله يكون مستجابا البتة لانقطاع تعلقه وقتئذ عما سوى الله.
ثم إنه تعالى ذكر نعمته على الخلائق بوجود الليل والنهار وقد مر نظير الآية مرارا ولا سيما في أواخر «يونس» وأواسط «البقرة» . وكرر ذكر الناس نعيا عليهم وتخصيصا لكفران النعمة بهم من بين سائر المخلوقات. وأما وجه النظم فكأنه يقول: إني أنعمت عليك بهذه النعم الجليلة قبل السؤال فكيف لا أنعم عليك بما هو أقل منه بعد السؤال؟ ففيه تحريض على الدعاء. وأيضا الاشتغال بالدعاء مسبوق بمعرفة المدعوّ فلذلك ذكر في عدّة آيات دلائل باهرة من الآفاق والأنفس على وحدانيته واتصافه بنعوت الكمال. قوله ذلِكُمُ اللَّهُ إلى قوله إِلَّا هُوَ قد مر في «الأنعام» . قوله كَذلِكَ يُؤْفَكُ أي كل من حجد بآيات الله ولم يكن طالبا للحق فإنه مصروف عن الحق كما صرفوا. قوله فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ كقوله وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70] لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4] قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ إما استئناف مدح من الله تعالى لنفسه، وإما بتقدير القول أي فادعوه مخلصين قائلين الحمد لله. قوله لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ شامل لأدلة العقل والنقل جميعا. قوله ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ متعلق بمحذوف أي ثم يبقيكم لتبلغوا وكذلك لتكونوا. وأما قوله وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى فمتعلق بفعل آخر تقديره ونفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى هو الموت أو القيامة، ورجاء منكم أن تعقلوا ما في ذلك من العبر.
وحيث انجر الكلام إلى ذكر الأجل وصف نفسه بأن الإحياء والإماتة منه، ثم أشار بقوله فَإِذا قَضى إلخ إلى نفاذ قدرته في الكائنات من غير افتقار في شيء ما إلى آلة وعدّة. وأشار إلى أن الإحياء والإماتة ليسا من الأشياء التدريجية ولكنهما من الأمور الدفعية المتوقفة على أمر كن فقط، وذلك أن الحياة تحصل بتعلق النفس الناطقة بالبدن، والموت يحدث من قطع ذلك التعلق، وكل من الأمرين يحصل في آن واحد. ويمكن أن
(6/42)
يكون فيه إشارة إلى خلق الإنسان الأوّل وهو آدم كقوله خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] ثم عاد إلى ذم المجادلين وذكر وعيدهم قائلا أَلَمْ تَرَ الآية والكتاب القرآن. وما أرسل به الرسل سائر الكتب. وقوله فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ليس كقول القائل: سوف أصوم أمس. بناء على أن سوف للاستقبال وإذ للمضي، لأن «إذ» هاهنا بمعنى «إذا» إلا أنه ورد على عادة أخبار الله نحو وَسِيقَ [الزمر:
73] وَنادى [الأعراف: 48] وقال المبرد: إذ صارت زمانا قبل سوف لأن العلم وقع منهم بعد ثبوت الأغلال. والمعنى علموا من الأغلال الذي كانوا أو عدوه من بعد أن حق بالوجود. ومعنى يُسْجَرُونَ قال جار الله: هو من سجر التنور إذا ملأه بالوقود، ومعناه أنهم في النار فهي محيطة بهم وهم مسجورون بها مملوءة أجوافهم منها. والحاصل أنهم يعذبون مرة بالماء الشديد الحرارة ومرة بالنار. وقال مقاتل: في الحميم يعني في حر النار ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ على سبيل التوبيخ أَيْنَ ما كُنْتُمْ «ما» موصولة مبتدأ و «أين» خبرها. ومعنى ضَلُّوا غابوا وضاعوا ولم يصل إلينا ما كنا نرجوه من النفع والشفاعة، وأكدوا هذا المعنى بقوله بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً يعتدّ به كما تقول: حسبت أن فلانا شيء فإذا هو ليس بشيء أي ليس عنده خير. ومن جوّز الكذب على الكفار لم يحتج إلى هذا التأويل وقال: إنهم أنكروا عبادة الأصنام. ثم قال كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ قالت الأشاعرة: أي عن الحجة والإيمان. وقالت المعتزلة: عن طريق الجنة بالخذلان. وقال في الكشاف:
أي مثل ضلال آلهتهم عنهم يضلهم عن آلهتهم حتى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يجد أحدهما الآخر. واعترض عليه بأنهم مقرونون بآلهتهم في النار لقوله إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] والجواب أن كون الجميع في النار لا ينافي غيبة أحدهما عن الآخر. وأجاب في الكشاف باختلاف الزمان وبتفسير الضلال بعدم النفع.
ذلِكُمْ العذاب بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح أي النشاط بِغَيْرِ الْحَقِّ وهو الشرك وعبادة الصنم. ويجوز أن يكون القول محذوفا أي يقال لهم ادخلوا أبواب جهنم السبعة المقسومة لكل طائفة مقدّرين الخلود فيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ يعني الذين مر ذكرهم في قولهم إن في صدوركم إلّا كبر والمخصوص بالذم محذوف وهو مثواكم أو جهنم. قال جار الله: إنما لم يقل «فبئس مدخل المتكبرين» حتى يكون مناسبا لقوله ادْخُلُوا كقولك: زر بيت الله فنعم المزار. لأن الدخول المؤقت بالخلود في معنى الثواء. وحين زيف طريقة المجادلين مرة بعد مرة أمر رسوله بالصبر على إيذائهم وإيحاشهم إلى إنجاز الوعد بالنصرة قال فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من عذاب الدنيا فذاك أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ هذا التقدير ذكره جار الله، وقد مر في «يونس» مثله.
(6/43)
وأقول: لا بأس أن يعطف قوله أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ على نُرِيَنَّكَ ويكون الرجوع إلى الله جزاء لهما جميعا ومعناه: إنا نجازيهم على أعمالهم يوم القيامة سواء عذبوا في الدنيا أو لم يعذبوا. ثم سلاه بحال الأنبياء السابقة ليقتدي بهم في الصبر والتماسك فقال وَلَقَدْ أَرْسَلْنا الآية. ذهب بعض المفسرين إلى أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا.
وقيل: ثمانية آلاف، نصف ذلك من بني إسرائيل والباقي من سائر الناس. ولعل الأصح أن عددهم لا يعلمه الا الله لقوله تعالى أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ [إبراهيم: 9] لكن الإيمان بالجميع واجب.
عن علي رضى الله عنه: بعث الله نبيا أسود لم يقص علينا قصته.
ثم إن قريشا كانوا يقترحون آيات تعنتا كما مر في أواخر «سبحان» وأول «الفرقان» وغيرهما فلا جرم قال الله تعالى وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بعذاب الدنيا أو بالقيامة. وقال ابن بحر:
أمر الله الآية التي اقترحوها وذلك أنه يقع الاضطرار عندها وَخَسِرَ هُنالِكَ أي في ذلك الوقت استعير المكان للزمان الْمُبْطِلُونَ وهم أهل الأديان الباطلة. ثم عاد إلى نوع آخر من دلائل التوحيد قائلا اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا قال جار الله: ظاهر النظم يقتضي إدخال لام الغرض في القرائن الأربع أو خلو الكل عنها فيقال: لتركبوا ولتأكلوا ولتصلوا إلى منافع ولتبلغوا. أو يقال: منها تركبون ومنها تأكلون وتصلون وتبلغون إلا أنه ورد على ما ورد لأن الركوب قد يجب كما في الحج والغزو، وكذلك السفر من بلد إلى بلد لهجرة أو طلب علم لا أقل من الندب فصح أن يكونا غرضين. وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباح الذي لا تتعلق به إرادته كثير تعلق شرعا. وإنما قال عَلَى الْفُلْكِ ولم يقل «وفي الفلك» مع صحته إذ هي كالوعاء إزدواجا لقوله عَلَيْها
[المؤمنون: 22] والحمل محمول على الظاهر. وقيل: هو من قول العرب: حملت فلانا على الفرس إذا وهب له فرسا. ثم وبخهم بقوله يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ.
ثم حرضهم وزاد توبيخهم بقوله أَفَلَمْ يَسِيرُوا الآية. وقد سبق. وقوله فَما أَغْنى عَنْهُمْ «ما» نافية أو استفهامية ومحلها النصب. وقوله ما كانُوا مصدرية أو موصولة أي كسبهم أو الذي كسبوا. قوله فَرِحُوا لا يخلو إما أن يكون الضمير عائدا إلى الكفار أو إلى الرسل. وعلى الأول فيه وجوه منها: أنه تهكم بعلمهم الذي يزعمون كقولهم وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً [الكهف: 36] اإذا كنا ترابا وعظاما اانا لفي خلق جديد [ق: 4] ومنها أنه أراد بذلك شبهات الدهرية وبعض الفلاسفة كقولهم وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] وكانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وحقروا علم الأنبياء بالنسبة إلى علمهم
(6/44)
كما يحكى عن سقراط أنه سمع بموسى عليه السلام فقيل له: لو هاجرت إليه؟ فقال: نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا. ويروى أن جالينوس قال لعيسى عليه السلام:
بعثت لغيرنا. ومنها أن يراد علمهم بظاهر المعاش كقوله يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا [الروم: 7] وذلك مبلغهم من العلم فرحوا به وأعرضوا عن علم الديانات. وعلى الثاني يكون معناه أن الرسل لما رأوا جهل قومهم وسوء عاقبتهم فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم. ووجه آخر وهو أن يكون ضمير فَرِحُوا للكفار وضمير عِنْدَهُمْ للرسل أي فرحوا بما عند الرسل من العلم فرح ضحك واستهزاء. ثم بين أن إيمان البأس وهو حالة عيان العذاب أو أمارات نزول سلطان الموت غير نافع وقد مر مرارا. ومعنى فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ لم يصح ولم يستقم لأن الإلجاء ينافي التكليف. وترادف الفاءات في قوله فَما أَغْنى فَلَمَّا جاءَتْهُمْ فَلَمَّا رَأَوْا فَلَمْ يَكُ لترتيب الأخبار ولتعاقب المعاني من غير تراخ. وقال جار الله: فما أغنى نتيجة قوله كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وقوله فَلَمَّا جاءَتْهُمْ جار مجرى البيان والتفسير لقوله فلما أغنى وقوله فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا تابع لقوله فَلَمَّا جاءَتْهُمْ كأنه قال: فكفروا كقولك: رزق زيد المال فمنع المعروف فلم يحسن إلى الفقراء. وقوله فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا آمنوا وكذلك فَلَمْ يَكُ تابع لإيمانهم بعد البأس. قال أهل البرهان: وإنما قال هاهنا وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ وفيما قبل الْمُبْطِلُونَ لأنه قال هناك قُضِيَ بِالْحَقِّ ونقيض الحق الباطل، وهاهنا ذكر أن إيمان البأس غير مجد ونقيضه الكفر والله أعلم.
(6/45)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
(سورة فصلت)
(وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمسون كلمها سبعمائة وأربع وتسعون آياتها 54)
[سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 24]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)
وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9)
وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14)
فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19)
حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
(6/46)
القراآت:
سواء بالرفع: يزيد. وقرأ يعقوب بالجر. الباقون: بالنصب نحسات بسكون الحاء: ابن كثير وأبو عمرو ونافع وسهل ويعقوب وأما ثمود بالنصب: المفضل نحشر بالنون أعداء بالنصب: نافع ويعقوب. الآخرون: بالياء مجهولا أَعْداءُ مرفوعا.
الوقوف:
حم كوفي الرَّحِيمِ هـ ج لأن قوله كِتابٌ يصلح أن يكون بدلا من تَنْزِيلٌ وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب. ويجوز أن يكون تَنْزِيلٌ هو مع وصفه مبتدأ وكِتابٌ خبره يَعْلَمُونَ هـ ج لأن وبَشِيراً صفة أخرى ل قُرْآناً وَنَذِيراً هـ ج لاختلاف الجملتين لا يَسْمَعُونَ هـ عامِلُونَ هـ وَاسْتَغْفِرُوهُ ج لِلْمُشْرِكِينَ هـ لا كافِرُونَ هـ مَمْنُونٍ هـ وأَنْداداً ط الْعالَمِينَ هـ لا للآية مع العطف أَيَّامٍ ط لمن نصب سَواءً أو رفع ومن خفض لم يقف لِلسَّائِلِينَ هـ كَرْهاً ط طائِعِينَ هـ أَمْرَها ج للعدول بِمَصابِيحَ ج لحق المحذوف أي وحفظناها حفظا ولعل الوصل أولى لما يجيء وَحِفْظاً هـ الْعَلِيمِ هـ وَثَمُودَ هـ بناء على أن «إذ» يتعلق بمحذوف هو أذكر أو بمعنى الفعل في الصاعقة أي يصعقون إذ ذاك، ولا يجوز أن يتعلق ب أَنْذَرْتُكُمْ إِلَّا اللَّهَ ط كافِرُونَ هـ مِنَّا قُوَّةً ط مِنْهُمْ قُوَّةً ط للفصل بين الإخبار والاستخبار يَجْحَدُونَ هـ الدُّنْيا ج لا يُنْصَرُونَ هـ يَكْسِبُونَ هـ يَتَّقُونَ هـ يُوزَعُونَ هـ يَعْمَلُونَ هـ عَلَيْنا ط تُرْجَعُونَ هـ تَعْمَلُونَ هـ الْخاسِرِينَ هـ مَثْوىً لَهُمْ ط الْمُعْتَبِينَ هـ
التفسير:
حم قال بعضهم: الحاء من الحكمة، والميم من المنة أي منّ على عباده بتنزيل الحكمة من الرحمن في الأزل، الرحيم في الأبد وهي كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ أي ميزت أمثالا ومواعظ وأحكاما وقصصا إلى غير ذلك. وقد مر في أوّل «هود» . وانتصب قُرْآناً على المدح والاختصاص أو على الحال الموطئة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لقوم عرب يفهمون معانيه يعنى بالإصالة وللباقين بعدهم، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم منهم فالدعوة تحصل أوّلا لهم. والأظهر عندي أنه كقوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] وذلك أنه لا ينتفع بالقرآن إلا أهل العلم به. قال أهل السنة: الصفات المذكورة هاهنا للقرآن توجب شدة
(6/47)
الاهتمام بمعرفته. والوقوف على معانيه بيانه أن كونه نازلا من الرحمن الرحيم دليل على أن تنزيله رحمة للعالمين، وفيه شفاء لأمراض القلوب، وكونه كتابا. والتركيب يدور على الجمع كما سبق في أول الكتاب يدل على أن فيه علوم الأوّلين والآخرين. وقوله فُصِّلَتْ آياتُهُ دليل على أنه في غاية الكشف والبيان وكونه قُرْآناً عَرَبِيًّا ولغة العرب أفصح اللغات مما يوجب أن تتوفر عليه الرغبات ولا سيما للعرب ومن داناهم. وكونه بَشِيراً وَنَذِيراً يدل على أن الاحتياج إليه من أهم المهمات لأنه سعي في معرفة ما يوصل إلى الثواب الأبديّ، ويخلص من العقاب السرمدي. فإذا علم المخاطبون هذه الفوائد ثم أعرض أكثرهم عن القرآن ولم يسمعوه سماع قبول دل ذلك على أن المهديّ من هداه الله ومن يضلله فلا هادي له. ثم أكد بيان إعراضهم بقوله وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ ولا يخفى أنه سبحانه ذكر هذا في معرض الذم فوجه الجمع بينه وبين قوله وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [الأنعام: 25] هو أن الذم إنما يتوجه على اعتقادهم أنهم إذا كانوا كذلك لم يجز تكليفهم ولا خطابهم بالأمر والنهي، أو أنهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء. قال جار الله: فائدة «من» في قوله وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ دون أن يقول «وبيننا» هو أن العبارة الثانية تدل على مطلق الحجاب، ولكن العبارة الواردة في القرآن تفيد أن المسافة التي بينهم وبين رسول الله مملوءة من الحجاب لا فراغ فيها كأنه قيل: إن الحجاب ابتدأ منا ومنك. ثم حكى عنهم ما قالوا على سبيل التهديد أو التحلية فَاعْمَلْ أي على دينك أو في إبطال ديننا إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا أو في إبطال أمرك. ثم أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن شبهتهم بقوله إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وتوجيه النظم إني لا أقدر أن أحملكم على الإيمان جبرا فإني بشر مثلكم ولا امتياز إلا أني أوحي إليّ التوحيد والأمر به، فعليّ البلاغ وحده. ثم إن قبلتم قولي أثابكم الله وإلا عاقبكم. قال في الكشاف: أراد إن نبوّتي صحت بالوحي وإذا صحت وجب اتباعي ومن جملة ذلك القول بالتوحيد. ثم بين أن خلاصة الوحي ترجع إلى أمرين: الاستقامة والإقامة على التوحيد المتوجهين إلى الله والاستغفار من تقصير قد يقع في الطاعة. ثم هددّ أهل الشرك بقوله وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ وقرن منع الزكاة بالكفر بالله أوّلا وبالآخرة ثانيا، لأن المال شقيق الروح، وبه وببذله في سبيل الله يعرف الموافق من المنافق، ففيه بعث شديد لأهل الإيمان على أداء الزكاة، وفيه أن الشفقة على خلق الله قرينة التعظيم لأمر الله. وقيل: كانت قريش يطعمون الحاج ولا يطعمون المؤمنين فنزلت قاله الفراء. وقيل: أراد بالزكاة هاهنا الإيمان لأنه يزكي النفس من دون الشرك. ثم ذكر جزاء المطيعين وهو ظاهر. والممنون المقطوع. وقيل: هو من المنة. قال جمع من المفسرين: نزلت في المرضى والزمنى والهرمى إذا عجزوا عن
(6/48)
الطاعة كتب لهم الأجر كأصح ما كانوا يعملون.
لما حكى بعض قبائح المشركين وسائر الكفرة أراد أن يورد دليلا على التوحيد فأمر رسوله أن يوبخهم بقوله أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي سمعتم ممن تصدّقونهم من أهل الكتاب غيركم أنه خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً عمم الكفر أوّلا ثم خصص بنوع الشرك وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ ومعنى مِنْ فَوْقِها أي بالنسبة إلى سكان المعمورة تذكيرا لنعمة فوق نعمة فإن الجبال منافعها أكثر من أن تحصى يعرف بعضها أهلها ولعلنا قد عددنا في أوّل «البقرة» طرفا منها. وَبارَكَ فِيها بوضع الخيرات الكثيرة فيها. قال ابن عباس:
يريد شق الأنهار وخلق الجبال والأشجار والحيوانات وكل ما يحتاج إليه وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها عن مجاهد: يعني المطر فإنه بمنزلة الغذاء للأرض به حياتها. وعن محمد بن كعب: أراد أقوات أهلها ومعايشهم وما يصلحهم. وقيل: لا حاجة إلى الإضمار فإن الإضافة تحسن لأدنى ملابسة أي وقدر فيها أقواتها التي يختص حدوثها بها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ يعني مع اليومين الأوّلين فيكون إيجاد نفس الأرض في يومين وإيجاد هذه الأشياء في يومين آخرين والمجموع أربعة أيام وخلق السماء في تتمة ستة فتكون هذه الآية موافقة لسائر الآيات، وقد سبق هذا المعنى في أوّل سورة البقرة. من قرأ سَواءً بالرفع فعلى أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو سواء. ثم إن كان الضمير للأربعة فمعناه أن تلك الأيام مستوية في الطول والقصر كأيام خط الاستواء، أو هي تامة غير ناقصة بشيء فقد يطلق لفظ الكل على الأكثر، وهذه إحدى فوائد العدول عن العبارة الصريحة وهي أن لو قال في يومين آخرين. وقال بعضهم: من فوائده أنه لا يجوز عطف قوله وَجَعَلَ على خَلَقَ لأن قوله وَتَجْعَلُونَ معطوف على لَتَكْفُرُونَ ولا يجوز أن يحال بين صلة الموصول وما يعطف عليه بأجنبي لا يقال: جاءني الذي يكتب وجلس ويقرأ فلا بدّ من إضمار فعل مثل الأول فتقدير الكلام: ذلك أن رب العالمين خلق الأرض وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدّر فيها أقواتها في أربعة أيام، وهو كلام لا يرد عليه سؤال أصلا. ومن قرأ بالجر فعلى وصف الأربعة بالاستواء والمعنى كما مر. ومن قرأ بالنصب فعلى المصدر أي استوت استواء. ثم إن كان الضمير للأربعة فالمعنى كما قلنا، وإن كان للأقوات. وكذا في قراءة الرفع احتمل أن يكون لِلسَّائِلِينَ متعلقا به أي الأقوات والأرزاق سواء لمن سأل ولمن لم يسأل لما
روى عن ابن عباس قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا رديفه يقول: خلق الله الأرواح قبل الأجساد بأربعة آلاف سنة، وخلق الأرزاق قبل الأرواح بأربعة آلاف سنة سواء لمن سأل ولمن لم يسأل، وأنا من الذين لم يسألوا الله الرزق، ومن سأل فهو جهل منه.
(6/49)
واحتمل أن يكون قوله لِلسَّائِلِينَ متعلقا بقوله وَقَدَّرَ أي قدّر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها المحتاجين إليها وهم في الاحتياج سواء. وقيل: إنه متعلق بمحذوف كأنه قيل: هذا الحصر والبيان لأجل من سأل في كم خلقت الأرض وما فيها، لأن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. قوله ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي توجه بداعي الحكمة بعد خلق الأرض لا دحوها إلى خلق السماء، وقد مر في أول «البقرة» . قوله وَهِيَ دُخانٌ ذكر أصحاب الأثر وجاء في أوّل توراة اليهود أن عرش الله قبل خلق السموات والأرض كان على الماء فأحدث في ذلك الماء سخونة فارتفع زبد ودخان، أما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله منه الأرض، وأما الدخان فارتفع وعلا فخلق الله منه السموات. وزعم المتكلمون أن الله سبحانه خلق الأجزاء التي لا تتجزأ فكانت مظلمة عديمة النور، ثم ركبها وجعلها سموات وكواكب وشمسا وقمرا وأحدث صفة الضوء فيها فحينئذ صارت مستنيرة فصحت تسمية تلك الأجزاء قبل استنارتها بالدخان، لأنه لا معنى للدخان إلا أنها أجزاء متفرقة غير متواصلة عديمة النور. واعلم أن ظاهر قوله ثُمَّ اسْتَوى يدل على أن خلق السماء متأخر عن خلق الأرض وقد جاء مثله في آيات أخر. وفي الآثار، إلا أن الواحدي نقل في البسيط عن مقاتل أنه قال: خلق الله السماء قبل الأرض فتأوّل الآية بأن لفظة كان مضمرة أي ثم كان قد استوى كما في قوله تعالى إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ [يوسف: 77] أي إن يكن يسرق.
وزيف بأن الجمع بين «ثم» الدال على التأخر وبين إضمار «كان» الدال على التقدم جمع بين النقيضين. ويمكن أن يجاب بأن «ثم» هاهنا لترتيب الأخبار. وقال الإمام فخر الدين الرازي: المختار عندي أن تكوين السماء مقدم على تكوين الأرض والخلق الوارد في الآية بمعنى التقدير كقوله خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران: 59] فإن إيجاد الموجود محال. فمعنى الآية أنه قضى بحدوث الأرض في يومين أي حكم بأنه سيحدث كذا في مدة كذا. قلت: لو لم يكن قوله تعالى وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها إلى قوله أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لكان هذا التأويل له وجه. وقال بعض الصوفية: خلق أرض البشرية في يومي الهواء والطبيعة وهما من الأنداد، وجعل لها رواسخ العقل من فوقها لتستقر بها، وبارك فيها بالحواس الخمسة، وقدر فيها أقواتها من سائر القوى البشرية في تتمة أربعة أيام يعني في يومي الروح الحيواني والطبيعي، ثم استوى إلى سماء القلب وهي دخان نار الروحانية فقضى سماء القلب أطوارا سبعة كقوله وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً [نوح: 15] أوّلها الوسوسة ثم الهواجس ثم الرؤية ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] ثم الحكمة
«ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه»
ثم ظهور المغيبات ثم المحبة ثم التجلي في يومي الروح والإلهام
(6/50)
الرباني. قوله فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا الآية. للمفسرين فيه قولان: الأول إجراء الكلام على ظاهره فإنه ليس بمستبعد من الله إنطاق أيّ جسم فرض بل إيداع الحياة والفهم فيه ولهذا قال طائِعِينَ على لفظ جمع المذكر السالم، فإن جمع المؤنث السالم لا يختص بالعقلاء. ووجه الجمع أن أقل الجمع اثنان أو لأن كل واحد منهما سبع. ومن هؤلاء من قال: نطق من الأرض موضع الكعبة، ومن السماء ما بحذائها، فجعل الله لها حرمة على سائر الأرض. وعلى هذا القول لا بد أن يكون هذا التخاطب بعد الوجود فقالوا: معناه ائتيا بما خلقت فيكما أما أنت يا سماء فأطلعي الشمس والقمر والنجوم، وأما أنت يا أرض فاخرجي ما خلقت فيك من النبات فقالتا: جئنا بما أحدثت فينا مستجيبين لأمرك. ومعنى الإتيان الحصول والوقوع كما يقال: أتى عمله مرضيا. ويجوز أن يراد لتأت كل منكما صاحبتها الإتيان الذي تقتضيه الحكمة من كون الأرض قرارا والسماء سقفا لها. وقوله طَوْعاً أَوْ كَرْهاً إظهار لكمال القدرة والتقدير أبيتما أو شئتما كما يقول الجبار لمن تحت يده: لتفعلن هذا شئت أو أبيت، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو كارهين. والقول الثاني أن هذا تمثيل لنفوذ قدرته فيهما ولا قول ثمة، وعلى هذا لا يبعد أن يكون المقصود إيجادهما على وفق إرادته وهما في حيز العدم، وأن يكون المراد ما تقدم. وقال بعضهم:
الطوع يرجع إلى السماء لأن أحوالها على نهج واحد لا يختلف. وشبه مكلف مطيع والكره يعود إلى الأرض لأنها مكان تغيير الأحوال ومحل الحوادث والمكاره. قلت: لعل هذين الوصفين لهما باعتبار سكانهما. قوله فَقَضاهُنَّ قضاء الشيء إتمامه والفراغ منه مع الإتقان. والضمير إما راجع إلى السماء على المعنى لأنها سموات سبع. وانتصب سَبْعَ سَماواتٍ على الحال. وإما مبهم مميز بما بعده.
يروى أنه خلق الأرض في يوم الأحد والاثنين، وخلق سائر ما في الأرض في يوم الثلاثاء والأربعاء، وخلق السموات وما فيها في يوم الخميس والجمعة، وفرغ في آخر ساعة من يوم الجمعة، فخلق فيها آدم وأسكنه الجنة وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة.
وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها أي أمر أهلها من العبادة والتكليف الخاص بكل منهم، فبعضهم وقوف وبعضهم ركوع وبعضهم سجود، وعلى هذا احتمل أن يكون خلق الملائكة مع السموات وقبلها. وقيل: الإيحاء هاهنا التكوين والإيجاد وأمرها شأنها وما يصلحها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ أي بالنيرات المضيئة كالمصباح وَحَفِظْناها حفظا من الشياطين المسترقة للسمع كما مرّ مرارا. وجوّز جار الله أن يكون حِفْظاً مفعولا له على المعنى كأنه قال: وخلقنا المصابيح زينة وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ فلكمال عزته قدر على خلق ما خلق ولشمول علمه دبر ما دبر.
(6/51)
ثم قال لنبيه عليه السلام فَإِنْ أَعْرَضُوا عن التوحيد بعد هذا البيان الباهر والبرهان القاهر فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً لأن الإصرار على الجهل بعد وضوح الحق عناد، ولا علاج للمعاند سوى التأديب بما يناسبه.
يروى أن أبا جهل قال في ملأ من قريش: قد التبس علينا أمر محمد فلو التمستم لنا رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان عن أمره. فقال عتبة بن ربيعة: أنا ذاك. فأتاه وقال: أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فبم تشتم آلهتنا وتضللنا. وعرض عليه الرياسة والنساء والأموال إن ترك ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم إلى قوله مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فهال عتبة بذاك وناشده بالرحم ورجع ولم يأت قريشا. فلما احتبس عنهم قالوا: ما نرى عتبة إلا قد صبأ. فانطلقوا إليه فقال: والله لقد كلمته فأجابني بشيء، والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر
ولما بلغ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ ناشدته بالرحم أن يكف. ولقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب فخفت أن ينزل بكم العذاب. فإن قيل: كيف يصح هذا الإنذار وقد أخبر الله سبحانه في قوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] وإن هذه الأمة آمنون من العذاب؟ قلنا: الأنفال مدينة وهذه مكية.
قوله إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ قيل: الضميران عائدان إلى الرسل أي جاءهم رسل بعد الرسل. وقيل: من بين أيديهم أي حذروهم الدنيا وَمِنْ خَلْفِهِمْ الآخرة.
وقيل: من بين أيديهم الذين عاينوهم، ومن خلفهم الذين وصل إليهم خبرهم وكتبهم.
وحقيقة بين يديه أن يستعمل للشيء الحاضر، ومجازه أن يستعمل للشيء الماضي بزمان قريب. وقال بعض المحققين: معناه أتاهم الرسل من كل جهة وأعملوا في إرشادهم كل حيلة أَلَّا تَعْبُدُوا ويجوز أن تكون «أن» مفسرة أو مخففة وضمير الشأن مقدر. والفاء في قوله فَإِنَّا للجزاء كأنه قيل: فإذا أنتم بشر ولستم بملائكة فانا لا نؤمن بكم. وقولهم رَبُّنا وكذا بما أرسلتم أي على زعمكم، أو أرادوا التهكم. ثم فصل حال كل فريق قائلا فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وهذا إخلال بالشفقة على الخلق وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً لأن الفاعل والعلة أقوى من القابل والمعلول، والقوة في الإنسان نتيجة صحة البنية والاعتدال وحقيقتها زيادة القدرة فلذلك جاز أن يقال: الله أقوى منهم كما صح أن يقال: الله أقدر، الله أكبر. وإن كان لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي.
وقوله وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ معطوف على قوله فَاسْتَكْبَرُوا وقالوا: إن التوبيخ المذكور وقع اعتراضا في البين. ثم أخبر عن إهلاكهم والصرصر الريح الباردة الشديدة
(6/52)
ضوعفت من الصر بالكسر وهو البرد الذي يصر أي يجمع ويقبض، أو من صرير الباب.
والتركيب يدور على الضم والجمع. عن ابن عباس أن الله تعالى ما أرسل على عاد من الريح إلا قدر خاتمي ومع ذلك أهلكت الكل. والأيام النحسات هي التي فسرها الله سبحانه في الحاقة سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ [الآية: 7] والنحس بالسكون ضد السعد وهو إما مخفف نحس بالكسر أو هو أصل في نفسه كضخم، أو وصف لمصدر.
واستدل به بعض الأحكاميين على أن بعض الأيام يصح وصفه بالسعادة وبعضها يضدها.
وأجاب بعض المتكلمين بأن المراد بالنحوسة كونها ذات غبار وتراب وبرد. والإنصاف أنه تكلف خارج عن قانون اللغة. والإضافة في قوله عَذابَ الْخِزْيِ كهي في قولك: رجل صدق. وقوله وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى من الإسناد المجازي فإن الذل والهوان لصاحبه.
قوله وَأَمَّا ثَمُودُ مرتفع على الابتداء. قوله فَهَدَيْناهُمْ خبره قال سيبويه: هذا أفصح لأن أما من مظان وقوع المبتدأ بعده. وقرىء بالنصب إضمارا على شريطة التفسير. واتفقوا على أن المراد بالهداية هاهنا الدلالة المجردة لقوله بعده فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى يعني عمى البصيرة وهي الضلالة عَلَى الْهُدى إلا أن المعتزلة تأوّلوه بأنه إنما شاع استعماله في الدلالة المجردة لأنه مكنهم وأزاح علتهم فكأنه حصل البغية فيهم بتحصيل ما يوجبها. على أن المراد المعقولة ونقيضها، وقد مر هذا البحث في أول «البقرة» في قوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الآية: 2] وصاعقة العذاب داهيته وقارعته، والهون مصدر بمعنى الهوان وصف به العذاب مبالغة، أو أبدله منه وكسبهم شركهم وتكذيبهم صالحا وعقرهم الناقة. ثم بين أحوال الذين آمنوا واتقوا المعاصي بقوله وَنَجَّيْنَا الآية. وحين بين عقوبتهم في الدنيا أخبر عن عذابهم وعذاب أمثالهم في الآخرة فقال وَيَوْمَ يُحْشَرُ الآية. والعامل فيه «اذكر» محذوفا، أو هو ظرف لما يدل عليه يُوزَعُونَ كأنه قيل: يمنعون يوم يحشر فيحبس أوائلهم حتى يلحق بهم أواخرهم. قال جار الله: هو عبارة عن كثرة أهل النار. قلت: وذلك لأن الإيزاع لا يحتاج إليه إلا عند كثرة العدد كما مر في «النحل» . وما الإبهامية في قوله حَتَّى إِذا ما جاؤُها تفيد التأكيد. وهو أن عند وقت مجيئهم لا بد أن تحصل هذه الشهادة وشهادة الجلود بملامسة ما هو محرم. وعن ابن عباس: المراد شهادة الفروج فيكون كناية.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أوّل ما يتكلم من الآدميّ فخذه وكفه» «1»
وفيه وعيد شديد في فعل الزنا لأن مقدمته تحصل بالكف ونهايته تكون بمساعدة الفخذ. قوله أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ من العمومات المخصوصة أي ممن يصح النطق منه. والمراد أن القادر على خلقكم
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (4/ 151)
(6/53)
وإنطاقكم في المرة الأولى في الدنيا، ثم خلقكم وإنطاقكم مرة أخرى، وثالثة في القبر وفي القيامة، كيف يستبعد منه إنطاق الجوارح والأعضاء؟ وقد مر تمام البحث في «يس» .
عن ابن مسعود قال: كنت مستترا بأستار الكعبة فدخل ثلاثة نفر ثقفيان وقرشيّ فقال أحدهم:
أترون الله يسمع ما نقول؟ فقال آخر: إذا رفعنا أصواتنا يسمع وإلا لم يسمع. وقال الآخر:
إن كان يسمع إذا رفعنا أصواتنا يسمع إذا خفضنا. فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزل وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ الآية.
وذلك أنهم كانوا يستترون بالحيطان والحجب عند ارتكاب القبائح فقيل لهم: ما كان استتاركم ذلك خفية أن تشهد عليكم جوارحكم هذه، لأن ذلك غير ممكن فإنها متصلة بكم وهي أعوانكم ومع ذلك لم يكن استتاركم في اعتقادكم أنها تشهد عليكم ولكنكم استترتم لظنكم أن الله لا يعلم كثيرا مما كنتم تعملون وهو الخفيات من أعمالكم.
وفيه ردّ على بعض الجهلة الذين يستخفون من الناس ولا يمكنهم الاستخفاء من الله، وفيه تنبيه على أن المؤمن يجب عليه أن يكون في أوقات خلواته أهيب لربه وأوفر احتشاما ومراقبة. ثم أخبر فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ ولا ينتج الصبر لهم فرجا وخلاصا وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا يطلبوا من الله الرضا عنهم فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ أي من المرضيين. والمراد أنهم باقون في مكروههم أبدا، سكتوا أو نطقوا. قال الضعيف مؤلف الكتاب: إذا كان هذا وعيد من ظن أنه يمكن إخفاء بعض الأعمال من الله بالأستار والحجب فما ظنكم بوعيد من جزم أنه سبحانه غير عالم بالجزئيات نعوذ بالله من هذا الاعتقاد والله أعلم.
تم الجزء الرابع والعشرون ويليه الجزء الخامس والعشرون أوله: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ ...
(6/54)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الخامس والعشرون من أجزاء القرآن الكريم
[سورة فصلت (41) : الآيات 25 الى 54]
وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)
وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49)
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
(6/55)
القراآت:
ربنا أرنا بسكون الراء: ابن كثير وابن عامر وأبو بكر ورويس أبو عمرو بالاختلاس. الآخرون: بكسر الراء. الذين بتشديد النون: ابن كثير. يلحدون بفتح الياء والحاء: حمزة. الباقون: بضم الياء وكسر الحاء أعجمي بهمزة واحدة: هشام.
وقرأ بتحقيق الهمزتين: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص إلا الخزاز. الباقون: بالمد ثَمَراتٍ على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص والمفضل. شركاي مثل من وراي على وزن عَصايَ قد مر في سورة مريم إلى ربي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وَنَأى بِجانِبِهِ وقد مر في سورة سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى.
الوقوف:
وَالْإِنْسِ ج للإبتداء بأن مع احتمال كونه جواب القسم في حق خاسِرِينَ هـ تَغْلِبُونَ هـ يَعْمَلُونَ هـ النَّارُ ج لأن ما بعده يصلح مستأنفا وحالا أي كائنا لهم فيها دارُ الْخُلْدِ ج يَجْحَدُونَ
هـ الْأَسْفَلِينَ هـ تُوعَدُونَ هـ وَفِي الْآخِرَةِ
ج لانقطاع النظم بتقدير الجار مع اتحاد المقول تَدَّعُونَ
هـ ط لحق المحذوف أي أصبتم أو وجدتم نزلا رَحِيمٍ هـ الْمُسْلِمِينَ هـ السَّيِّئَةُ ط حَمِيمٌ هـ صَبَرُوا ج لاتفاق الجملتين مع تكرارها للتوكيد عَظِيمٍ هـ بِاللَّهِ ط الْعَلِيمُ هـ وَالْقَمَرُ ط
(6/56)
تَعْبُدُونَ هـ يَسْأَمُونَ هـ سجدة اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ط الْمَوْتى ط قَدِيرٌ هـ عَلَيْنا ط الْقِيامَةِ ط شِئْتُمْ هـ لا ليكون ما بعده دالا على أنه أمر تهديد بَصِيرٌ هـ لَمَّا جاءَهُمْ ج لأن خبر أن محذوف فيتقدر هاهنا أو بعد قوله مِنْ خَلْفِهِ كما يجيء عَزِيزٌ هـ لا لاتصال الصفة مِنْ خَلْفِهِ ط حَمِيدٍ هـ مِنْ قَبْلِكَ ط أَلِيمٍ هـ آياتُهُ ط وَعَرَبِيٌّ ط وَشِفاءٌ ط عَمًى ط بَعِيدٍ هـ فِيهِ ط بَيْنَهُمْ ط مُرِيبٍ هـ فَعَلَيْها ط لِلْعَبِيدِ هـ السَّاعَةِ ط بِعِلْمِهِ ط ج شُرَكائِي لا لأن قالُوا عامل يَوْمَ آذَنَّاكَ لا لأنه في معنى القول وقع على الجملة بعده مِنْ شَهِيدٍ هـ ج للآية مع العطف مَحِيصٍ هـ الْخَيْرِ ز لاختلاف الجملتين إلا أن مقصود الكلام يتم بهما قَنُوطٌ هـ هذا لِي لا تحرز إعمالا يقوله مسلم قائمة كذلك لَلْحُسْنى هـ ج لابتداء الأمر بالتوكيد مع فاء التعقيب عَمِلُوا إمهالا للتذكر في الحالتين مع اتفاق الجملتين غَلِيظٍ هـ بِجانِبِهِ ج فصلا بين تناقض الحالين مع اتفاق الجملتين عَرِيضٍ هـ بَعِيدٍ هـ الْحَقُّ ط شَهِيدٌ هـ رَبِّهِمْ ج مُحِيطٌ هـ.
التفسير:
لما ذكر وعيد الكفار أردفه بذكر السبب الذي لأجله وقعوا في ذلك الكفر.
ومعنى قَيَّضْنا سببنا لهم من حيث لا يحتسبون أو قدرنا أو سلطنا وأصله من القيض وهو البدل، والمقايضة المعاوضة كأن القرينين يصلح كل منهما أن يقوم مقام الآخر. والقرناء إخوانهم من الشياطين جمع قرين فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وهو الدنيا وما فيها من الشهوات وَما خَلْفَهُمْ وهو الآخرة بأن لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب وقيل: ما بين أيديهم أعمالهم التي عملوها، وما خلفهم ما عزموا على فعله وزينوا لهم فعل مفسدي زمانهم والذين تقدم عصرهم. والآية على مذهب الأشاعرة واضحة. وقالت المعتزلة:
معناها أنه خذلهم ومنعهم التوفيق لتصميمهم على الكفر فلم يبق لهم قرناء سوى الشياطين. ومعنى فِي أُمَمٍ كائنين في جملة أمم وقد مر في أوائل لاعراف كانوا يقولون إذا سمعتم القرآن من محمد فارفعوا أصواتكم باللغو وهو الساقط من الكلام فنزلت وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية. يقال: لغى بكسر الغين يلغى بالفتح، ولغا يلغو فلهذا قرىء بالضم أيضا، والمقصود أنهم علموا أن القرآن كلام كامل لفظا ومعنى، وكل من سمعه ووقف على معانيه وأنصف حكم بأنه واجب القبول فدبروا هذا التدبير الفاسد وهو قول بعضهم لبعض لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ إذا قرىء وتشاغلوا عن قراءته برفع الصوت بالمكاء والهذيان والرجز لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ القارئ على قراءته فلا يحصل غرضه من التفهيم والإرشاد. وحين حكى حيلتهم ذكر وعيدهم بقوله فَلَنُذِيقَنَّ الآية. والمضاف في قوله
(6/57)
أَسْوَأَ محذوف أي جزاء أسوأ الذي ولذلك أشار اليه بقوله ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ وقوله النَّارُ بدل من الجزاء أو خبر مبتدأ مضمر. ودارُ الْخُلْدِ موضع المقام. قال الزجاج: هو كما يقول لك في هذه الدار دار السرور وأنت تعني الدار بعينها وقد وضع قوله بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ موضع أن لو قال بما كانوا يلغون إقامة للسبب مقام المسبب ثم حكى عنهم ما سيقولون في النار وهو قولهم رَبَّنا أَرِنَا أي أبصرنا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وذلك أن الشياطين ضربان: جني وإنسي، وقد ورد في القرآن كثيرا، وقيل: هما إبليس الذي سن الكفر، وقابيل الذي سن القتل. ومن قرأ بسكون الراء فلثقل الكسرة. وقد يقال: معناه إذ ذاك أعطناه. وحكوا عن الخليل أنك إذا قلت أرني ثوبك بالكسر فمعناه بصرنيه، وإذا قلت بالسكون فهو بمعنى الإعطاء ونظيره اشتهار الإيتاء في معنى الإعطاء وأصله الإحضار. نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا أي نطأهما إذلالا وإهانة لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ الأذلين وقيل: في الدرك الأسفل. وتأوله بعض حكماء الإسلام بأنهما الشهوة والغضب المشار إليهما في قوله أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: 30] كأنهم سألوا توفيق أن يجعلوا القرينين تحت قدم النفس الناطقة.
وحين أطنب في الوعيد أردفه بالوعد على العادة المستمرة فقوله رَبُّنَا اللَّهُ إشارة إلى العلوم النظرية التي هذه المسألة رأسها وأصلها. وقوله ثُمَّ اسْتَقامُوا إشارة إلى الحكمة العملية وجملتها الاستقامة على الوسط دون الميل إلى أحد شقي الإفراط والتفريط كما سبق تقرير ذلك في تفسير قوله اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة: 5] ومعنى «ثم» تراخي الاستقامة في الرتبة عن الإقرار، وفيه أن حصول العلوم النظرية بدون القسم العملي كشجرة بلا ثمرة. وقال أهل العرفان: قالوا ربنا الله يوم الميثاق في عالم الأرواح، ثم استقاموا على ذلك في عالم الأشباح. وعن أبي بكر الصديق: معناه لم يلتفتوا إلى إله غيره. تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت أو عنده وفي القبر وفي القيامة. و «أن» مفسرة أو مخففة. ولقد فسرنا الخوف والحزن مرارا والإبشار لازم. قال الجوهري: يقال بشرته بمولود فأبشر إبشارا. وقوله أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا إشارة إلى رفع المضار في المآل وفي الحال. وقوله وَأَبْشِرُوا إخبار عن حصول المنافع. وقوله نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
يقابل قوله وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فللملائكة تأثيرات في الأرواح بالإلهامات الحسنة والخواطر الشريفة كما للشياطين تأثيرات بإلقاء الوساوس والهواجس، وقد تقدم في أول الكتاب في تفسير الاستعاذة. وإذا كانت هذه الولاية ثابتة في الدنيا بحكم المناسبة النورية كانت بعد الموت أقوى وأظهر لزوال العلائق الجسمانية. وقيل: في الحياة الدنيا
(6/58)
بالاستغفار. وَفِي الْآخِرَةِ
بالشفاعة. وقيل: كنا نحفظكم في الدنيا ولا نفارقكم في الآخرة حتى تدخلوا الجنة وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
يعني الحظوظ الجسمانية وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
أي تمنون من المواهب الروحانية، وقد مر في «يس» سائر الوجوه. والنزل ما يهيأ للضيف وقد مر. وفي ذكر الغفور الرحيم هاهنا مناسبة لا تخفى.
قال أهل النظم إن القوم لما أتوا بأنواع السفاهة والإيذاء كقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ [البقرة:
88] لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ حرض سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم على مواظبة التبليغ والدعوة واحتمال أعباء الرسالة والتزام السيرة الفاضلة إظهارا لمزيته على الجهال وتحصيلا للغرض بالرفق واللطف ما أمكن فقال وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا ووجه آخر في النظم وهو أنه لما مدح الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا وذكر جزاءهم وهم أهل الكمال، أراد أن يبين حال المشتغلين بتكميل الناقصين. زعم بعض المفسرين أن المراد بهذا الدعاء الأذان، والعمل الصالح الصلاة بين الأذان والإقامة، ورفعوه إلى عائشة. والأصح أنه عام لجميع الأئمة والدعاة إلى طاعة الله وتوحيده، ولا ريب أن مصطفاهم ومقتداهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وبعده العلماء بالله وهم الحكماء المتألهون، وبعدهم العلماء بصفات الله وهم الأصوليون، ثم العلماء بأحكام الله وهم الفقهاء، ثم الملوك العادلون الذين يدعون إلى الله بالسيف والسبب. وفي الاستفهام الإنكاري دلالة على أنه لا قول أحسن من الدعاء إلى الله فمن زعم أنه الأذان ذهب إلى أنه واجب وإلا لكان الواجب أحسن منه. ونوقض بأنا نعلم بالدلائل اليقينية أن الدعوة إلى الدين القويم بالحجة أو السيف أحسن من الأذان فلا يدخل الأذان تحت الآية. قال جار الله: ليس معنى قوله وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ أنه تكلم بهذا الكلام، ولكن المراد أنه جعل دين الإسلام مذهبه ومعتقده كما تقول: هذا قول أبي حنيفة. وقال آخرون: أراد به التلفظ به تفاخرا بالإسلام وتمدحا. وزعموا أن فيه إبطال قول من جوز: أنا مسلم إن شاء الله. فإنه لو كان ذلك معتبرا لورد في الآية كذلك ولا يخفى ضعفه، فإن التجويز غير الإيجاب. ثم صبر رسوله صلى الله عليه وسلم على سفاهة الكفار وعلمه الأدب الجميل في باب الدعاء أي الدين بل في مطلق أمور التمدن فقال وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ «لا» زائدة لتأكيد نفي الاستواء، والمعنى لا تستوي الحسنة والسيئة قط ومثالهما الإيمان والشرك والحلم والغضب والطاعة والمعصية واللطف والعنف ثم إن سائلا كأنه سأل:
فكيف نصنع؟ فأجيب ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فإن الحسنة أحسن من السيئة كما يقال: الصيف أحر من الشتاء وذهب صاحب الكشاف إلى أن «لا» غير مزيدة والمعنى أن الحسنة والسيئة متفاوتتان في أنفسهما فخذ بالحسنة التي هي أحسن إذا اعترضتك حسنتان فادفع بها السيئة.
مثاله: رجل أساء إليك فالحسنة أن تعفو عنه والتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إسائته. قال:
(6/59)
ومن جعل «لا» مزيدة فالقياس على تفسيره أن يقال: ادفع بالتي هي حسنة. ولكنه وضع أحسن موضع الحسنة ليكون أبلغ لأن من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما هو دونها. قال العارفون: الحسنة التوجه إلى الله بصدق الطلب، والسيئة الالتفات إلى غيره. فَإِذَا الَّذِي إذا فعلت ذلك انقلب عدوك وليا مصافيا.
قال مقاتل: نزلت في أبي سفيان وكان مؤذيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصار يتحاب بعد ذلك لما رأى من لطف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعطفه.
ثم مدح هذه السيرة وأهلها بقوله وَما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا أي لا يعمل بها إلا كل صبار على تجرع المكاره. وَما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من قوة جوهر النفس الناطقة بحيث لا يتأثر من الواردات الخارجية، وقد يفسر الحظ العظيم بالثواب الجزيل. وعن الحسن: ما عظم حظ دون الجنة. ثم ذكر طريقا آخر في دفع الغضب والانتقام قائلا وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ وقد مر في آخر الأعراف. والمعنى إن صرفك الشيطان عما أمرت به فاستعذ بالله من شره وإنما قال هاهنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بالفصل وتعريف الخبر ليكون مناسبا لما تقدّمه من قوله وَما يُلَقَّاها مؤكدا بالتكرار وبالنفي والإثبات ولم يكن هذا المقتضى في الأعراف فجاء على أصل الاسم معرفة والخبر نكرة. وحين ذكر أن أحسن الأقوال هو الدعوة إلى الله بين الدلائل على وجوده فقال وَمِنْ آياتِهِ إلخ. والضمير في خَلَقَهُنَّ للآيات أو الليل وما عطف عليه. ولم يغلب المذكر لأن ذلك قياس مع العقلاء. وفي قوله إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ تزييف لطريقة الصابئين وسائر عبدة الكواكب جهلا منهم وزعما أنها الواسطة بين الخلق والإله، فنهوا عن هذا التوسيط لأن ذلك مظنة العبادة المستقلة لرفعة شأنها وارتفاع مكانها، وهذا بخلاف التوجه في الصلاة إلى القبلة فإن الحجر قلما يظن به أنه معبود بالحق والجزم حاصل بأنه لتوحيد متوجهات المصلين عند صلاتهم مع أن للبيت شرفا ظاهرا في نفسه فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا عن قبول قولك يا محمد في النهي عن السجود للشمس والقمر فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ عندية بالشرف والرتبة وهم الملائكة المقربون يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي على الدوام والاستمرار وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ من السامة والملالة. والحاصل أنهم إن لم يمتثلوا ما أمروا به ونهوا عنه وأبوا إلا الواسطة فدعهم وشأنهم فإن ربك لا يعدم عابدا مخلصا.
ولما فرغ من تقرير الآيات السماوية شرع في الدلائل الأرضية فقال وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً وأصل الخشوع التذلل فاستعير للأرض التي لا خضرة بها ولا نفع كما وصفها بالهمود وقد مرّ في سورة الحج، وذلك أنها إذا اهتزت وربت أي انتفخت حين يهم النبت بالخروج منها كانت بمنزلة المختال في زيه وهي قبل ذلك كالفقير الكاسف البال
(6/60)
المتلبس بثوب أطمار. وبعد تقرير الدلائل الباهرة ذكر وعيد الملحدين في آياته المنحرفين عن الجادة والوعيد قوله لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا وكفى به وعيدا. ثم أكده بالاستفهام على سبيل التقرير وهو قوله أَفَمَنْ يُلْقى إلخ. وقوله يَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف لآمنا أو ليأتي. ثم هددهم بقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إلخ. ثم أبدل من قوله إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ أي القرآن لأنهم بكفرهم به طعنوا فيه وحرفوا معانيه، وعلى هذا فالخبر هو ما تقدم من قوله لا يَخْفَوْنَ وإنه كلام مستأنف. وعلى هذا فاختلفوا في خبر «إن» . فالأكثرون على أنه أُولئِكَ يُنادَوْنَ وما بينهما اعتراض من تتمة الذكر. وقيل: خبره ما يقال إذ التقدير ما يقولون لك. وقيل: هو محذوف. ثم اختلفوا فقال قوم: إن الذين كفروا بالذكر كفروا لما جاءهم. وقال آخرون: هلكوا أو يجازون بكفرهم ونحو ذلك، وهذا يمكن تقديره بعد قوله لَمَّا جاءَهُمْ وبعد قوله مِنْ خَلْفِهِ وبعد قوله حَمِيدٍ والعزيز معناه الغالب القاهر بقوة حجته على ما سواه من الكتب، والمراد أنه عديم النظير لأن الأولين والآخرين عجزوا عن معارضته. ثم أكد هذا الوصف بقوله لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ قال جار الله: وهو تمثيل أي لا يتطرق البطلان إليه بجهة من الجهات فلا ينقص منه شيء ولا يزاد عليه شيء. وقيل: أراد أنه لا تكذبه الكتب المتقدمة كالتوراة والإنجيل ولن يجيء بعده ما يخالفه. وقد يحتج أبو مسلم بالآية على عدم وقوع النسخ في القرآن زعما منه أن النسخ نوع من البطلان، ولا يخفي ضعفه فإن بيان انتهاء حكم لا يقتضي إبطاله فإنه حق في نفسه ومأمور به في وقته. تَنْزِيلٌ أي هو منزل مِنْ إله حَكِيمٍ في جميع أفعاله حَمِيدٍ إلى جميع خلقه بسبب كثرة نعمه. ثم سلى نبيه عليه السلام بقوله ما يُقالُ لَكَ وفيه وجهان: أحدهما ما يقول لك كفار قريش إلا مثل ما قال للرسل كفار قومهم من المطاعن فيهم وفي كتبهم. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ للمحقين وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ للمبطلين، ففوض الأمر إلى الله واشتغل بما أمرت به من الدعاء إلى دينه. وثانيهما ما يقول لك الله إلا مثل ما قال لغيرك من الرسل من الصبر على سفاهة الأقوام وإيذائهم. ويجوز أن يكون المقول هو قوله إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ فمن حقه أن يرجوه أهل طاعته ويخشاه أهل عصيانه. كانوا يقولون: لولا أنزل القرآن بلغة العجم تعنتا منهم فأجابهم الله بقوله وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا معترضين منكرين لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ أي بينت بلسان نفهمه. أقرآن أعجمي ورسول عربي أو مرسل إليه عربي؟ وإنما جاز هذا التقدير الثاني مع أن المرسل إليهم كثيرون وهم غير أمة العرب، لأن الغرض بيان تنافر حالتي القرآن، والذين أنزل القرآن إليهم من العجمية والعربية لا بيان أنهم جمع أو واحد كما تقول: وقد
(6/61)
رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة اللباس طويل واللابس قصير. ولو قلت: واللابسة قصيرة جئت بما هو أفضل. ومن قرأ بغير همزة الاستفهام فعلى حذفها أو على الإخبار بأن القران أعجمي والرسول أو المرسل إليه عربي، والغرض أنهم لعنادهم لا ينفكون عن المراء والاعتراض سواء كان القرآن عربيا أو أعجميا. وفيه إفحام لهم وجواب عن قولهم قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ فإن القرآن إذا كان بلغتهم وهم فصحاء وبلغاء فكيف لا يفهمونه إلا إذا كان هناك مانع إلهي ولذلك قال قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ لداء الجهل وَالَّذِينَ أي وللذين لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وهذا التقدير عند من يجوز العطف على عاملين، ومن لم يجوز زعم أن الرابط محذوف تقديره: والذين لا يؤمنون هو في آذانهم وقر أو في آذانهم منه. وقرأ والذين لا يؤمنون به إلخ. والحاصل أنهم لعدم انتفاعهم بالقرآن كأنهم صم عمي. ثم أكد هذا المعنى بقوله
أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فلهذا لا يسمعون النداء أي مثلهم كمثل الشخص الذي ينادي من بعد فلا يسمع، وإن سمع لم يفهم. ثم شبه حال القرآن بحال الكتب المتقدمة في أنها اختلف فيها كما اختلف فيه إلا أنه خص كتاب موسى بالذكر لكثرة أحكامه وعجيب قصته. والكلمة السابقة هي العدة بالقيامة وتأخر العذاب والقضاء بين المصدقين والمكذبين إلى وقتئذ. ثم ذكر أن جزاء كل أحد يختص به سواء كان له أو عليه وأن الله لا يظلم أحدا ثم كان لسائل أن يسأل: متى القيامة التي يتعلق بها الجزاء فقال إِلَيْهِ لا إلى غيره يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي إذا سأل عنها. قيل: لا يعلمها إلا هو. ثم عمم بعد هذا التخصيص وذكر مثالين يعرف منهما أن علم جميع الحوادث المستقبلة في أوقاتها المعينة ليس إلا له سبحانه. والكم بكسر الكاف وعاء الثمرة. ثم ذكر من أحوال القيامة طرفا آخر فقال وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي وهو نداء تهكم أو توبيخ كما مر مرارا قالُوا آذَنَّاكَ قال ابن عباس: أي أسمعناك من أذن بالكسر أذنا بالفتح إذا استمع. وقال الكلبي: أعلمناك قال الإمام فخر الدين الرازي: هو بعيد لأن أهل القيامة يعلمون أنه تعالى يعلم الأشياء علما واجبا، فالإعلام في حقه محال. قلت: لو أريد أظهرنا معلومك أين الاستبعاد؟ والمعنى ظهر وحصل في الواقع من جهة قولنا ما كان ثابتا في علمك القديم أنا سنقوله كقوله وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا [آل عمران: 142] أي لم يحصل بعد معلومه في الواقع وقد مر. وقولهم آذَنَّاكَ ماض في معنى المستقبل على عادة القرآن أو إنشاء للإيذان أو إخبار عما قيل لهم قبل ذلك فإنه يمكن أن يعاد عليهم هذا الاستفهام مرات لمزيد التوبيخ. ومعنى ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ ليس منا من يشهد اليوم بأنهم شركاؤك لأنا عرفنا عيانا أنه لا شريك لك. أو هو كلام الشركاء أحياها الله وأنطقها فتبرأ مما
(6/62)
أضيف إليها من الشركة. ومعنى الضلال على هذا التفسير عدم النفع، ويجوز أن يراد ما منا من أحد يشاهدهم لأنهم غابوا عنا. ومعنى يَدْعُونَ يعبدون. والظن بمعنى اليقين، والمحيص المهرب. وحين بين أن الكفار تبرؤا في الآخرة من شركائهم بعد أن كانوا مصرين في الدنيا على عبادتهم، بين أن الكفار تبدله في حالاته كلي أو أكثري. ففي حالة الإقبال لا يسأم من طلب الجاه والمال، في حالة الإدبار يصير في غاية اليأس والانكسار، وإن عاودته النعمة بعد يأسه فلا بد أن يقول هذا إنما وجدته باستحقاق لي وهذا لا يزول عني ويبقى علي وعلى عقبي وأنكر البعث، وعلى فرض وجوده زعم بل جزم أن له عند الله الحالة الحسنى قائسا أمر الآخرة على أمر الدنيا، ونظير الآية ما سبق في سورة الكهف وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً [الآية: 36] فلا جرم خيب الله أمله وعكس ما تصوره بقوله فَلَنُنَبِّئَنَّ وحين حكى قول الكافر أخبر عن أفعاله بقوله وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ أي تعظم وتجبر. وقد سلف في «سبحان» .
واستعير العرض لكثرة الدعاء ودوامه، وقد يستعار الطول لكثرة الدعاء ودوامه أيضا وإن لم يكن الشيء ذا جزم كما استعير الغلظ لشدة العذاب. فإن قيل: كيف قال أولا فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ ثم قال فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ؟ قلنا: أراد أنه يؤس بالقلب دعاء باللسان، أو قنوط من الصنم دعاء الله، أو الأول في قوم والثاني في آخرين.
ولما ذكر مرات في السورة مبالغة الكفار في العداوة والنفرة من اتباع الرسول والقرآن أرشدهم إلى طريق أحوط مما فيه فقال قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية. وتقريره أنكم كما سمعتم القرآن أعرضتم عنه ثم كفرتم به حتى قلتم قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ [فصلت: 5] لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ ومن المعلوم أن هذا ليس ببديهي فقبل الدليل يحتمل أن يكون صحيحا وحينئذ يلزم أن يكون بعدم قبوله العقاب الأبدي. وقوله مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ من وضع الظاهر مقام المضمر وهو منكم بيانا لبعد شوطهم في الشقاق والخلاف قاله في الكشاف. وأقول: جواب الشرط بالحقيقة محذوف وهو قوله مثلا فمن أضل منكم. وإنما قال في الأحقاف وَكَفَرْتُمْ [الآية: 10] بالواو لأن معناه في السورة كان عاقبة أمركم بعد الإمهال للنظر الكفر فحسن دخول «ثم» مع أنها تفيد التراخي في الرتبة، وهناك عطف عليه قوله وَشَهِدَ شاهِدٌ فلم يحسن إلا الواو. ثم بين أن الإسلام يعلو ولا يعلى وأن الغلبة والنصرة تكون لذويه فقال سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وهي الفتوح الواقعة على أيدي الخلفاء الراشدين والتي ستقع على أيدي أنصار دينه إلى يوم القيامة. وَفِي أَنْفُسِهِمْ وهي فتح مكة وسائر الفتوح التي وجدت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ أي محمدا أو
(6/63)
القرآن أو الدين الْحَقُّ ووجه التبين أن هذا إخبار عن الغيب فإذا وقع مطابقا دل على صدق المخبر بل إعجازه. وواحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض والسماء.
وعند المحققين الآيات الآفاقية هي الخارجة عن حقيقة الإنسان وبدنه كالأفلاك والكواكب والظلم والأنوار والعناصر والمواليد سواه. ولا ريب أن العجائب المودعة في هذه الأشياء مما لا نهاية لها، وإنما يوقف عليها حينا بعد حين. وقد أكثر الله تعالى من تقرير تلك الدلائل في القرآن، بعضها في السور المكيات وكثير منها في المدنيات، والآيات النفسية هي التي أودعها في تركيب الإنسان وفي ربط روحه العلوي ببدنه السفلي كقوله وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات: 21] وفي قوله سَنُرِيهِمْ دلالة على أن رؤية الأدلة إنما تكون بإراءة الله. قال جار الله: معنى قوله أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ هو أن هذه الآيات الموعودة تكفيهم دلالة على أن القرآن منزل من عالم الغيب المطلع على كل شيء. وقال حكماء الإسلام: أراد بقوله أَوَلَمْ يَكْفِ توبيخ من ليس له رتبة الاستدلال بنفس الوجود على واجب الوجود، فإن هذا هو طريقة الصديقين، وأما غيرهم فإنهم يستدلون بالممكن على الواجب فيفتقرون إلى النظر في الآفاق. وقال أهل المعرفة: النظر في الآفاق لأجل العوام والأنفس للخواص وقوله أَوَلَمْ يَكْفِ لخواص الخواص. وقيل: أو لم يكف الإنسان من الزاجر والرادع عن المعاصي كون الله شهيدا عليهم. وقيل: أراد أنه لا يخلف ما وعد لاطلاعه على الأشياء كلها. ثم ختم السورة بتوبيخ الشاكين في أمر البعث وبالنعي عليهم وأوعدهم بأنه عالم بكل شيء فيجازي كلا على حسب ما يستحقه والله أعلم.
(6/64)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
(سورة حمعسق
وهي مكية إلا أربع آيات قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إلى آخرهن حروفها ثلاثة آلاف وثمانية وثمانون كلمها ثمانمائة وست وستون آياتها ثلاث وخمسون)
[سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 23]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)
تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9)
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19)
مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)
(6/65)
القراآت:
يوحي على البناء للمفعول: ابن كثير وعباس يكاد بالياء التحتانية:
نافع وعلي تنفطرن بالنون: أبو عمرو وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد والمفضل إبراهام كنظائره. يبشر الله مخففا من البشارة: ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعلي.
الوقوف:
حم عسق كوفي مِنْ قَبْلِكَ ط لمن قرأ يوحى مجهولا كأنه قيل:
من الموحي فقال الله أي هو الله الْحَكِيمُ هـ فِي الْأَرْضِ ط الْعَظِيمُ هـ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ ط الرَّحِيمُ هـ عَلَيْهِمْ ز والوصل أوجه لأن نفي ما بعده تقرير لإثبات ما قبله بِوَكِيلٍ هـ لا رَيْبَ فِيهِ ط السَّعِيرِ هـ رَحْمَتِهِ ط نَصِيرٍ هـ أَوْلِياءَ ج للفصل بين الاستخبار والأخبار مع دخول الفاء الْمَوْتى ط فصلا بين المقدور المخصوص وبين القدرة على العموم مع اتفاق الجملتين قَدِيرٌ هـ إِلَى اللَّهِ ط أُنِيبُ هـ وَالْأَرْضِ ط أَزْواجاً الثاني ط لأن ضمير فِيهِ يحتمل أن يعود إلى الأزواج الذي في مدلول الأزواج أو إلى التدبير وإن لم يسبق ذكره فِيهِ ط شَيْءٌ ج لعطف الجملتين المختلفتين الْبَصِيرُ هـ وَالْأَرْضِ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال والعامل معنى الفعل في له أو في الملك. وَيَقْدِرُ ط عَلِيمٌ هـ فِيهِ ط إِلَيْهِ ط يُنِيبُ هـ بَيْنَهُمْ ط كذلك ما بعده ط مُرِيبٍ هـ فَادْعُ ج كَما أُمِرْتَ ج أَهْواءَهُمْ ج كِتابٍ ج كل ذلك للترتيل في القراءة وإن اتفقت الجملتان بَيْنَكُمُ ط وَرَبُّكُمْ ط أَعْمالُكُمْ ط وَبَيْنَكُمُ ط بَيْنَنا ج الْمَصِيرُ هـ شَدِيدٌ هـ وَالْمِيزانَ ط قَرِيبٌ هـ بِهَا ج لعطف الجملتين المختلفتين مِنْها ج للعطف أو الحال الْحَقُّ
(6/66)
ط بَعِيدٍ هـ مَنْ يَشاءُ ج لاحتمال عطف وهو على جملة قوله اللَّهُ لَطِيفٌ وهما متفقتان الْعَزِيزُ هـ فِي حَرْثِهِ ج لعطف جملتي الشرط نَصِيبٍ هـ بِهِ اللَّهُ ط بَيْنَهُمْ ط أَلِيمٌ هـ بِهِمْ ط الْجَنَّاتِ ط لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال رَبِّهِمْ ط الْكَبِيرُ هـ الصَّالِحاتِ ط فِي الْقُرْبى ط حُسْناً ط شَكُورٌ هـ.
التفسير:
الكلام في حم كما سبق وأما عسق فقد قيل: إنه مع حم اسم للسورة. وقيل: رموز إلى فتن كان عليّ يعرفها. وقيل: الحاء حكم الله، والميم ملكه، والعين علمه، والسين سناؤه، والقاف قدرته. وقيل: الحاء حرب علي ومعاوية، والميم ولاية المروانية، والعين ولاية العباسية، والسين ولاية السفيانية، والقاف قدرة المهدي.
وهذه الأقاويل مما لا معول عليها. وقال أهل التصوف: حاء حبه، وميم محبوبية محمد، وعين عشقه، وقاف قربه إلى سيده. أقسم أنه يوحي إليه وإلى سائر الأنبياء من قبله أنه محبوبه في الأزل وبتبعيته خلق الكائنات. والأولى تفويض علمها إلى الله كسائر الفواتح.
وإنما فصل حم من عسق حتى عدا آيتين خلاف كهيعص [مريم: 1] لتقدم حم قبله واستقلالها بنفسها، ولأن جميعها ذكر الكتاب بعدها صريحا إلا هذه فإنها دلت عليه دلالة التضمن بذكر الوحي الذي يرجع إلى الكتاب. روي عن ابن عباس أنه لا نبي صاحب كتاب إلا أوحى الله إليه حم عسق والله أعلم بصحة هذه الرواية. والأظهر أن يقال: مثل الكتاب المسمى بحم عسق يوحي الله إليك والى الأنبياء قبلك. والمراد المماثلة في أصول الدين كالتوحيد والعدل والنبوة والمعاد وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في الآخرة كقوله إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى [الأعلى: 18، 19] وفي ورود لفظ يُوحِي مستقبلا لا ماضيا إشارة إلى أن إيحاء مثله عادته. ثم بين سعة ملكه وأخبر عن غاية جلاله بقوله لَهُ ما فِي السَّماواتِ إلخ. ثم أخبر عن فظاعة ما ارتكبه أهل الشرك فقال تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ وقد سبق في آخر سورة مريم. ومعنى مِنْ فَوْقِهِنَّ أن الانفطار يبتدىء من أعلى السموات أو ما فوقها من العرش والكرسي إلى أن ينتهي إلى السفلي، وفي الابتداء من جهة الفوق زيادة تفظيع وتهويل. قال جار الله:
كأنه قيل يتفطرن من الجهة التي فوقهن دع الجهة التي تحتهن. وقيل: معناه من الجهة التي حصلت هذه السموات فيها وفيه ضعف لأنه كقول القائل: السماء فوقنا. وقيل:
الضمير للأرض وقد تقدم ذكرها أي من فوق الأرضين وروى عكرمة عن ابن عباس:
يتفطرن من ثقل الرحمن. فإن صحت الرواية كان في الظاهر دليل المجسمة. ولأهل السنة أن يتأولوا الثقل بالهيبة والجلال أو يقدروا مضافا محذوفا أي من ثقل ملائكة الرحمن
(6/67)
كقوله صلى الله عليه وسلم «أطت السماء أطا وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد.» «1»
ثم انتقل من وصف الجسمانيات إلى ذكر الروحانيات، وأنهم بالوجه الذي لهم إلى عالم الأرواح يسبحون وبالوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام يستغفرون فقال وَالْمَلائِكَةُ قيل: هو عام. وقيل: حملة العرش كما مر في أول سورة المؤمن إلا أنه عمم هاهنا فقال لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أي يطلبون أم لا يعاجل الله أهل الأرض بالعذاب طمعا في توبة الكفار والفساق منهم. وقيل: هو مخصوص بما مر أي يستغفرون للمؤمنين منهم.
ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن المشركين إنما يحاسبهم الله وما عليك إلا البلاغ. قوله وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا قال ابن بحر: هو الكلام الأول أعيد لما اعترض بين الكلامين ما اعترض. وقال جار الله: الكاف مفعول به لأوحينا، وَكَذلِكَ إشارة إلى المذكور قبله من أن الله هو عليهم الرقيب وما أنت عليهم برقيب. وقد كرر الله هذا المعنى في كتابه في مواضع. وقُرْآناً عَرَبِيًّا حال. والمعنى مثل ذلك المذكور أوحينا إليك وهو قرآن عربي بين لا لبس فيه ليفهم معناه ولا يتجاوز حد الإنذار. ويجوز أن يكون كَذلِكَ إشارة إلى الإيحاء أي كما أوحينا إلى الرسل قبلك وأوحينا إليك، فيجوز أن تكون المماثلة بالحروف المفردة وأن تكون بأصول الدين كما مر. قال أهل اللغة: يقال أنذرته كذا وبكذا. فمن الاستعمال الثاني قوله لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أي أهل مكة على حذف المضاف، والمفعول الثاني وهو القرآن محذوف.
ومن الاستعمال الأول قوله وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ والمفعول الأول محذوف وتنذر الناس يوما تجمع فيه الخلائق أو يجمع فيه بين الأرواح والأجساد أو بين كل عامل وعمله. قلت: ومن الجائز أن يكون الكل من الاستعمال الأول ولا حذف إلا ان قوله وَتُنْذِرَ يكون مكررا للمبالغة والتقدير الأصلي: لتنذر أم القرى يوم الجمع. وقد مر في القصص في قوله حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها [الآية: 59] أن مكة لم سميت أم القرى. وقوله وَمَنْ حَوْلَها يحتمل عموم أطراف الأرض لأن مكة في وسطها، ويحتمل أن يكون المراد به سائر جزيرة العرب ويدخل باقي الأمم بالتبعية أو بنص آخر كقوله وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ: 28] وقوله لا رَيْبَ فِيهِ اعتراض لا محل له أو صفة للجمع بناء على أن التعريف الجنسي قريب من النكرة. وقوله فَرِيقٌ مبتدأ محذوف الخبر أي منهم فريق كذا ومنهم فريق كذا، أي هذا مآل حالهم بعد الحشر والاجتماع.
ثم بين بقوله وَلَوْ شاءَ اللَّهُ إلخ. أن السعادة والشقاوة والهداية والضلالة متعلق
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 9 ابن ماجه في كتاب الزهد باب 19 أحمد في مسنده (5/ 173)
(6/68)
بمشيئته وإرادته. وهذا على مذهب أهل السنة ظاهر، وتأوله المعتزلة بمشيئة القسر والإلجاء، وقد مر نظائره مرارا. والظاهر أن المراد بكونهم أمة واحدة أن يكونوا مسلمين كلهم. وقيل: أن يكونوا أهل ضلالة قياسا على قوله وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [الزخرف: 33] ثم أنكر على أهل الشرك بأم المنقطعة قائلا أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ إن أرادوا أولياء بحق فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ الذي يجب أن يعتقد أنه المولى والسيد لا ولي سواه ومن شأنه أنه يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وهو الحقيق بأن يتخذ وليا.
وحين منع الرسول صلى الله عليه وسلم من التحزن على من كفر أراد أن يمنع المؤمنين من الاختلاف والتنازع فقال وَمَا اخْتَلَفْتُمْ والتقدير: قل يا محمد كذا بدليل قوله ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي الآية. والمراد أن الذي اختلفتم أنتم والكفرة فيه من أمور الدين فحكم ذلك المختلف فيه مفوض إلى الله وهو إثابة المحقين ومعاقبة المبطلين. وقيل: وما اختلفتم فيه فتحاكموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء: 59] وقيل:
وما اختلفتم فيه من الآيات المتشابهات فارجعوا في بيانه إلى المحكمات أو إلى الظاهر من السنة. وقيل: ما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم التي لا تتصل بالتكاليف فقولوا: الله أعلم كمعرفة الروح وغيره. قال في الكشاف: ولا يندرج فيه اختلاف المجتهدين لأن الاجتهاد لا يجوز بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم. قلت: إن لم يجز بحضرته فإنه جائز بعده. وقوله وَمَا اخْتَلَفْتُمْ شامل لجميع الأمة إلى يوم القيامة مثل يا أَيُّهَا النَّاسُ ومثل أَقِيمُوا الصَّلاةَ والأظهر أن اختلافهم يدخل فيه، وأن المراد بحكمه تعريفه من بيان الله سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس أو بالاجتهاد. فإن قيل: المقصود من التحاكم قطع الاختلاف ولا قطع مع القياس ولا مع الاجتهاد. قلنا: إذا كان القياس مأمورا به وكذا الاجتهاد بل يكون كل مجتهد مصيبا، كانت المخالفة في حكم الموافقة ولهذا قال
«اختلاف أمتي رحمة»
ثم وصف نفسه بأوصاف الكمال ونعوت الجلال تأكيدا لصحة أحكامه فقال فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهو أحد أخبار ذلكم أو خبر مبتدأ محذوف.
ومعنى وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أنه خلق للأنعام أيضا من أنفسها أزواجا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ يكثركم في هذا التدبير وهو أن جعل للناس والأنعام أزواجا حتى حصل بين الذكور والإناث التوالد والتناسل. والضمير في يَذْرَؤُكُمْ راجع إلى المخاطبين وإلى الأنعام وهو من الأحكام ذوات العلتين، وذلك أن فبه تغليبين تغليب المخاطبين على الغائبين وهم من سيوجد إلى يوم القيامة، وتغليب العقلاء على غيرهم. وعلة الأول الخطاب، وعلة الثاني العقل.
وإنما قال يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ولم يقل به لأنه جعل التدبير منبعا ومعدنا للتكثير كقوله وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: 179] ولأن حروف الجر يقام بعضها مقام البعض ومعنى
(6/69)
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ نفي المثلية عنه بطريق الالتزام وذلك أنه لو كان له مثل والله تعالى شيء لكان مثل مثله شيء وهو خلاف نص المخبر الصادق وهذا المحال إنما لزم من فرض وجود المثل له فوجود المثل محال وهو المطلوب، ولعل هذا التقرير مختص بنا. قال في الكشاف: إنه من باب الكناية كقولهم: مثلك لا يبخل. يعنون أنت لا تبخل. وكذا هاهنا يريد ليس كالله شيء. وجوز أن يكون تكرير حرف التشبيه للتأكيد. وقد يستدل بالآية على نفي الجسمية ولوازمها عنه تعالى لأن الأجسام متماثلة في حقيقة الجسمانية. قوله لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي له مفاتيح خزائنها وقد مر في الزمر والباقي واضح وقد سبق أيضا. وحين عظم وحيه إلى محمد صلى الله عليه وسلم بقوله كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ إلى آخره ذكر تفصيل ذلك فقال شَرَعَ لَكُمْ أي أوجب وبين لأجلكم مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وهو أقدم الأديان بعد الطوفان وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وهو ختمها وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى وهي الملل المعتبرة المتوسطة. ثم فسر المشروع الذي اشترك هؤلاء الأكابر من رسله فيه بقوله أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ الحنيفي ومحله نصب بدلا من مفعول شَرَعَ أو رفع على الاستئناف كأنه قيل: وما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين. يعني إقامة أصوله من التوحيد والنبوة والمعاد ونحو ذلك دون الفروع التي تختلف بحسب الأوقات لقوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48] وفي بناء الكلام على الغيبة ثم الالتفات إلى التكلم في أَوْحَيْنا والخطاب في إِلَيْكَ تفخيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم ثم حكى حسد أهل الشرك بقوله كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ أي شق وعظم عليهم ما تدعوهم إليه من الدين المبرأ من عبادة غير الله. ثم أجاب عن شبهتهم بأن الاجتباء والاصطفاء يتعلق بمشيئة الله لا بتمني كل واحد ولا بكثرة المال والجاه. يقال: اجتباه إليه أي اصطفاه لنفسه، والتركيب يدل على الجمع والضم، ويحتمل أن يراد يجتبي إلى الدين.
ثم أخبر عن وقت تفرق كلمة أهل الكتاب وعن سبب ذلك فقال وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ ببعث محمد صلى الله عليه وسلم وصحة نبوته كقوله في آل عمران وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [الآية: 19] وقيل: وما تفرق الأمم الذين تقدم ذكرهم إلا بعد العلم بصحة ما أمروا به. قال أهل البرهان: لما ذكر مبدأ كفرهم وهو قوله إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ حسن ذكر نهاية إمهالهم وهو قوله إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ليكون محدودا من الطرفين. وإنما ترك ذكر النهاية في السورة المتقدمة لعدم ذكر البداية وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ هم العرب ورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتابين كتابهم أوهم أهل الكتاب المعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: جاءهم أسباب العلم فلم ينظروا فيها
(6/70)
لأنه حكم عليهم في آخر الآية بأنهم في شك من كتابهم وهو مع العلم غير مجتمعين فَلِذلِكَ أي فلأجل تشعب الملل وتفرق الكلم فَادْعُ إلى الملة الحنيفية. وقيل: اللام بمعنى «إلى» والإشارة إلى القرآن وَاسْتَقِمْ عليها كما أمرت وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ المختلفة وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ أي كِتابٍ كان وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ أي في التبليغ أو إذا تحاكمتم إليّ حتى لا أفرق بين نفسي ونفس غيري. ثم أشار إلى ما هو أصل في الدين فقال اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا جزاء أَعْمالُنا وَلَكُمْ جزاء أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ وليس المراد منه تحريم المحاجة فإنه لولا الأدلة لما توجه التكليف بل المراد أنهم بعد أن وقفوا على الحجج الباهرة والدلائل الظاهرة على حقية دين الإسلام لم يبق معهم حجة لسانية وإنما بقي السيف. وقيل: إنه منسوخ بآية القتال وقوله اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا إشارة إلى المهاجرة التي اقتضاها إصرارهم على الباطل وتفويض للأمر إلى المجازي المنتقم. ثم أخبر عن وعيد المخاصمين في أمر دين الله مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ أي من بعد ما استجاب له الناس وقبلوا دينه، أو بعد ما استجاب الله لرسوله ونصره يوم بدر حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ أي باطلة زائلة عِنْدَ رَبِّهِمْ وذلك أن اليهود والنصارى كانوا يقولون:
كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فأنتم أولى باتباعنا. وأيضا أنتم تقولون الأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، ونبوة موسى وحقية التوراة متفق عليها ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم مختلف فيها. والجواب أن نبوّة موسى إنما صحت بالمعجزة فإن كانت المعجزة في حقه مصححة للنبوة ففي حق محمد صلى الله عليه وسلم كذلك وإلا فأنتم القادحون في نبوة نبيكم أيضا. ثم حث على سلوك طريقة العدل حذرا من عقاب يوم القيامة فقال اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ أي جنسه متلبسا بالغرض الصحيح وَالْمِيزانَ أي أنزل العدل والسوية في كتبه أو ألهم اتخاذ الميزان. وقيل: هو العقل. وقيل: الميزان نفسه وذلك في زمن نوح. وقيل: هو محمد صلى الله عليه وسلم يقضي بينهم بالكتاب وَما يُدْرِيكَ يا محمد أو أيها المكلف لَعَلَّ السَّاعَةَ أي مجيئها قَرِيبٌ أو ذكر بتأويل البعث أو الحشر ونحوه، أو أراد شيء قريب. ومتى كان الأمر كذلك وجب على العاقل أن يجتهد في أداء ما عليه من التكاليف. ولا يتأنى في سلوك سبيل الإنصاف مع الخالق والخلق فإنه لا يعلم أن القيامة متى تفاجئه. ثم قبح طريقة منكري الساعة فقال يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها يقولون على سبيل السخرية: متى تقوم الساعة؟ وليتها قامت حتى تظهر لنا جلية الحال. ثم مدح المقربين بأنهم يخافون القيامة هيبة من الله وإجلالا له أو حذرا من تقصير وخلل وقع في العمل إلا أن خوفهم يجب أن يكون ممتزجا بالرجاء، وقد مر تحقيقه مرارا. ثم هدد الشاكين المجادلين في أمر
(6/71)
البعث بقوله أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ وأصله من المرية الشك لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الصواب لأن استيفاء حق المظلوم من الظالم واجب على فضله أو في حكمه، ولأن في إنكاره نسبة الله سبحانه إلى ضد العلم والقدرة. ثم إنه لا ريب في أن إنزال الكتاب والميزان لطف من الله على خلقه فلذلك قال اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ عمم البر ثم خصص بقوله يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ يعني الزائد على مقدار الضرورة، فلكم من إنسان فاق أقرانه في المال أو الجاه أو الأولاد أو في العلم أو في سائر أسباب المزية إلا أن أحدا منهم لا يخلو من بره الذي يتعيش به كقوله أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] وقيل: معنى لطيف يرزقهم من حيث لا يعلمون، أو يلطف بهم فلا يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا. وقد مر معناه في الأنعام بوجه آخر في قوله وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الآية: 103] وأما قوله الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ففيه إشارة إلى أن لطفه مقرون بقهره. وحين ذكر أنه يرزق من يشاء الزائد على مقدار كفايته وكان فيه كسر قلوب أرباب الضنك والضيق جبر كسرهم بقوله مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ سماه حرثا تشبيها للعامل الطالب لثواب الآخرة أضعافا مضاعفة بالزارع الذي يلقي البذر في الأرض طلبا للزيادة والنماء، ومن فضائل حرث الآخرة أن طالبها قد يحصل له الدنيا بالتبعية ويرى ثواب عمله أضعافا مضاعفة، وطالب الدنيا لا تحصل له المطالب بأسرها ولهذا قال نُؤْتِهِ مِنْها أي بعض ذلك وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ قط وفي زيادة لفظ الحرث فائدة أخرى وهي أن يعلم أن شيئا من القسمين لا يحصل إلا بتحمل المتاعب والمشاق.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «من أصبح وهمه الدنيا شتت الله عليه همه وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن أصبح وهمه الآخرة جمع الله همه وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة» «1»
هذا لفظه أو لفظ هذا معناه. وعن قتادة إن الله يعطي الدنيا على نية الآخرة ولا يعطي الآخرة على نية الدنيا.
وفي ظاهر اللفظ دلالة على أن من صلى لطلب الثواب أو لدفع العقاب فإنه تصح صلاته لأنه صلى لأجل ما يتعلق بالآخرة. قال بعض أصحاب الشافعي: إذا توضأ بغير نية لم يصح لأن هذا الإنسان غفل عن الآخرة وعن ذكر الله، والخروج عن عهدة الصلاة من باب منافع الآخرة فلا يحصل بالوضوء العاري عن النية، وحيث بين القانون الأعظم والقسطاس الأقوم في أعمال الدارين نبه على أحوال الضلال بقوله أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ وهي المنقطعة عند بعضهم. وقال آخرون: هي المعادلة لألف الاستفهام تقديره أفيقبلون ما شرع الله لهم
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 30 ابن ماجه في كتاب الزهد باب 2 الدارمي في كتاب المقدمة باب 32 أحمد في مسنده (4/ 183) [.....]
(6/72)
من الدين أم لهم آلهة. شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ أي لم يأمرهم به أو لم يعلمه كقوله أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ [يونس: 18] والأذن بالفتح العلم بالمسموعات وتحقيقه شرعوا ما ليس بشريعة إذ لو كان شريعة لعلمها الله وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي القضاء السابق بتأخير الجزاء لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ والضمير للمؤمنين والكافرين أو المشركين والشركاء تَرَى الظَّالِمِينَ في القيامة مُشْفِقِينَ خائفين مِمَّا كَسَبُوا من الجرائم وَهُوَ أي وبال ذلك واقِعٌ بِهِمْ واصل إليهم لا محالة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ أي منتزهاتها. قالت الأشاعرة: فيه دليل على أن غيرها من الأماكن في الجنة لغير المذكورين وغيرهم ليس إلا الذي آمن ولم يعمل صالحا وهو الفاسق. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون إضافة الروضات إلى الجنات من إضافة العام إلى الخاص فيكون الجنات كلها روضات، ولكن الروضات قد لا تكون في الجنة لثبوتها في الدنيا. والفضل الكبير قد تقدم في «فاطر» . ذلِكَ المذكور أو الثواب أو التبشير هو الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ به عِبادَهُ ثم حذف الجار، ثم الراجع إلى الموصول، ثم أمر رسوله بأن يقول لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على هذا التبليغ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ الكائنة فِي الْقُرْبى جعلوا مكانا للمودة ومقرا لها ولهذا لم يقل «مودة القربى» أو «المودة للقربى» وهي مصدر بمعنى القرابة أي في أهل القربى وفي حقهم. فإن قيل: استثناء المودة من الأجر دليل على أنه طلب الأجر على تبليغ الوحي وذلك غير جائز كما جاء في قصص سائر الأنبياء ولا سيما في «الشعراء» . وقد جاء في حق نبينا صلى الله عليه وسلم أيضا قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ: 47] وقُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص: 86] والمعقول منه أن التبليغ واجب عليه وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بالمروءة.
وأيضا أنه يوجب التهمة ونقصان الحشمة. قلنا: إن من جعل الآية منسوخة باللتين لا استثناء فيهما فلا إشكال عليه، وأما الآخرون فمنهم من قال: الاستثناء متصل ولكنه من قبيل تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
والمعنى لا أطلب منكم أجرا، إلا هذا وهو في الحقيقة ليس أجرا لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب ولا سيما في حق الأقارب كما قال عز من قائل وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ [الرعد: 21] ومنهم من قال: الاستثناء منقطع أي لا أسألكم عليه أجرا البتة، ولكن أذكركم المودة في القربى، وفي تفسير الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أربعة أقوال: الأول قال الشعبي: أكثر الناس علينا في هذه الآية فكتبنا إلى ابن عباس نسأله عن
(6/73)
ذلك فأجاب بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان واسطة النسب في قريش ليس بطن من بطونهم إلا وقد كان بينهم وبينه قرابة فقال الله: قل لا أسألكم على ما أدعوكم إليه أجرا إلا أن تودوني لقرابتي منكم يعني أنكم قومي وأحق من أجابني وأطاعني فإذ قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذونني ولا تهيجوا عليّ. القول الثاني:
روى الكعبي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت تنوبه نوائب وحقوق وليس في يده سعة فقال الأنصار: إن هذا الرجل قد هداكم الله على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم، فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا. ثم أتوه فرده عليهم ونزلت الآية بحثهم على مودة أقاربهم وصلة أرحامهم.
القول الثالث: عن الحسن: إلا أن توددوا إلى الله وتتقربوا إليه بالطاعة والعمل الصالح. الرابع:
عن سعيد بن جبير: لما نزلت هذه الآية قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين وجبت علينا مودتهم لقرابتك؟ فقال: علي وفاطمة وابناهما. ولا ريب أن هذا فخر عظيم وشرف تام،
ويؤيده ما
روي أن عليا رضي الله عنه شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حسد الناس فيه فقال: أما ترضى أن تكون رابع أربعة أول من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين وأزواجنا عن أيماننا وشمائلنا وذرياتنا خلف أزواجنا
وعنه صلى الله عليه وسلم «حرمت الجنة على من ظلم أهل بيتي وآذاني في عترتي ومن اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطلب ولم يجازه عليها فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة»
وكان يقول «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» «1»
وثبت بالنقل المتواتر أنه كان يحب عليا والحسن والحسين،
وإذا كان ذلك وجب علينا محبتهم لقوله فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] وكفى شرفا لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخرا ختم التشهد بذكرهم والصلاة عليهم في كل صلاة.
قال بعض المذكرين: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلف عنها غرق»
وعنه صلى الله عليه وسلم «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم»
فنحن نركب سفينة حب آل محمد صلى الله عليه وسلم ونضع أبصارنا على الكواكب النيرة أعني آثار الصحابة لنتخلص من بحر التكليف وظلمة الجهالة ومن أمواج الشبه والضلالة. ثم أكد إيصال الثواب على المودة بقوله وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً أي يكتسب طاعة، قال بعض أهل اللغة: الاقتراف مستعمل في الشر فاستعاره هاهنا للخير. عن السدي أنها المودة في آل رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت في أبي بكر الصديق ومودته فيهم، والظاهر العموم في كل حسنة ولا شك أن هذه مرادة قصدا أوليا لذكرها عقيبها. ومعنى زيادة حسنها تضعيف ثوابها إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن أذنب شَكُورٌ لمن أطاع الله والله أعلم.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب 12، 16 مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 93، 94 أبو داود في كتاب النكاح باب 12 الترمذي في كتاب المناقب باب 60 ابن ماجه في كتاب النكاح باب 56 أحمد في مسنده (4/ 5، 326)
(6/74)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
[سورة الشورى (42) : الآيات 24 الى 53]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)
أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38)
وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
(6/75)
القراآت:
ما تَفْعَلُونَ على الخطاب: حمزة وعلي وحفص يُنَزِّلُ الْغَيْثَ بالتشديد: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعاصم ينزل بالتخفيف: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بما كسبت بدون فاء الجزاء: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون فَبِما كَسَبَتْ بالفاء الجواري بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وأفق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو في الوصل. وقرأ قتيبة ونصير وأبو عمرو بالإمالة. الرياح نافع. على الجمع: أبو جعفر ونافع. ويعلم الذين بالرفع: ابن عامر وأبو جعفر ونافع. الباقون:
بالنصب كبير الإثم على التوحيد: حمزة وعلي وخلف. أو يرسل بالرفع فَيُوحِيَ بالإسكان: نافع وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. الآخرون: بالنصب فيهما.
الوقوف:
كَذِباً ج للشرط مع فاء التعقيب قَلْبِكَ ط لأن ما بعده مستأنف بِكَلِماتِهِ ط الصُّدُورِ هـ تَفْعَلُونَ هـ لا فَضْلِهِ ط شَدِيدٌ هـ يَشاءُ ط بَصِيرٌ هـ رَحْمَتَهُ ط الْحَمِيدُ هـ دابَّةٍ ط قَدِيرٌ هـ كَثِيرٍ هـ فِي الْأَرْضِ ط وَلا نَصِيرٍ هـ كَالْأَعْلامِ هـ ط عَلى ظَهْرِهِ ط شَكُورٍ هـ لا كَثِيرٍ هـ لا لمن رفع وَيَعْلَمَ ومن نصب فوقفه مجوز آياتِنا ط مَحِيصٍ هـ الدُّنْيا ج لعطف جملتي الشرط، ويحتمل أن يكون الوقف مطلقا بناء على أن الثانية أخبار مستأنف يَتَوَكَّلُونَ هـ ط يَغْفِرُونَ هـ ج الصَّلاةَ ص لانقطاع النظم واتصال المعنى واتحاد المقول بَيْنَهُمْ ص لذلك يُنْفِقُونَ هـ ج يَنْتَصِرُونَ هـ مِثْلُها ج عَلَى اللَّهِ ط الظَّالِمِينَ هـ سَبِيلٍ هـ ط الْحَقِّ ط أَلِيمٌ هـ الْأُمُورِ هـ بَعْدِهِ ط مِنْ سَبِيلٍ هـ ج للآية مع العطف خَفِيٍّ ط الْقِيامَةِ ط مُقِيمٍ هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ ط سَبِيلٍ ط مِنَ اللَّهِ ط نَكِيرٍ هـ حَفِيظاً ط الْبَلاغُ ط بِها ج كَفُورٌ هـ وَالْأَرْضِ ط ما يَشاءُ ط الذُّكُورَ هـ لا وَإِناثاً ج لاحتمال ما بعده العطف والاستئناف أي وهو يجعل عَقِيماً هـ قَدِيرٌ هـ ما يَشاءُ ط حَكِيمٌ هـ أَمْرِنا ط عِبادِنا ط مُسْتَقِيمٍ هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط الْأُمُورُ هـ.
التفسير:
لما ذكر في أول السورة أن هذا القرآن إنما حصل بوحي الله وانجر الكلام
(6/76)
إلى هاهنا حكى شبهة القوم وهي زعمهم أنه مفترى وليس بوحي فقال أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى قال جار الله: «أم» منقطعة، ومعنى الهمزة فيه التوبيخ كأنه قيل: أيتمالكون أن ينسبوا مثله إلى أعظم أنواع الفرية وهو الافتراء على الله، ثم أجابهم بقوله فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ أي يجعلك من المختوم على قلوبهم فإنه لا يجترىء على افتراء الكذب على الله إلا من كان في مثل حالهم. والغرض المبالغة في استبعاد الافتراء من مثله والتعريض بأن من ينسبه إلى الافتراء فهو مختوم على قلبه. وقيل: لأنساك ما أتاك من القرآن ولكنه لم يشأ فأثبته فيه، وقيل: لأماتك فإن قلب الميت كالمختوم عليه ومثله لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 46] قاله قتادة. وقال مجاهد ومقاتل: يربط على قلبك بالصبر على أذاهم فلا يدخل قلبك حزن مما قالوه. ثم استأنف فقال وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ أي من عادته ذلك فلو كان محمد صلى الله عليه وسلم مبطلا لفضحه وكشف عن باطله، وحذف الواو من الخط لا للجزم كما في قوله وَيَدْعُ الْإِنْسانُ [الإسراء: 11] سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ [العلق: 18] وفي تفسير الجبائي أن الواو حذف للجزم، والمعنى إن افتريت ختم على قلبك ومحا الباطل المفترى، فالاستئناف على هذا من قوله وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ [يونس: 82] أي يثبت ما هو الحق في نفسه بوحيه أو بقضائه. ويجوز أن يكون وعدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والتكذيب ويظهر الحق الذي أنت عليه وهو القرآن بحكمه السابق وبعلمه القديم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فيجازي المبطل والمحق على حسب حاليهما وحين وبخهم على البهت والتكذيب ندبهم إلى التوبة وعرفهم أنه يقبلها من كل مسيء والآية واضحة مما سلف تارات ولا سيما في أوائل البقرة في توبة آدم. أما الضمير في قوله وَيَسْتَجِيبُ فعائد إلى الله سبحانه وأصله ويستجيب لهم فحذف الجار، والمراد أنه إذا دعوه استجاب لهم وأعطاهم ما طلبوا وزادهم على مطلوبهم تفضلا. وقيل: لا ضمير فيه وإنما الظاهر بعده فاعله. قال سعيد بن جبير: أراد أن المؤمنين يجيبونه إذا دعاهم. وعن إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه أنه قيل: ما بالنا ندعو فلا نجاب؟ قال: لأنه دعاكم فلم تجيبوه وقرأ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا [يونس: 25] وحيث وعد الاستجابة للمؤمنين كان لسائل أن يقول: إنا نرى المؤمن في شدة وبلية وفقر ثم إنه يدعو الله فلا يشاهد أثر الإجابة فلا جرم قال وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ أي ظلم بعضهم بعضا وعصوا الله. وهذه ليست بقضية كلية دائمة ولكنها أكثرية، فإن المال معين قوي على تحصيل المطالب ودفع ما لا يلائم النفس، وإذا كانت الآلة موجودة وداعية الشر في طبع الإنسان مجبولة فقلما لا يقع مقتضاه في الخارج وأيضا إن أكثر الناس إنما يخدم مثله ويتسخره طمعا في ماله أو جاهه التابع للمال غالبا، فلو تساويا
(6/77)
في المال استنكف كل منهما من الانقياد لصاحبه فارتفعت رابطة التعاون وانقطعت سلسلة التمدن، وقيل: إن الآية نزلت في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا وأغار بعضهم على بعض ولبعضهم شعر
قوم إذا نبت الربيع بأرضهم ... نبتت عداوتهم مع البقل
وقال محمد بن جرير: نزلت في أصحاب الصفة تمنوا سعة الرزق والغنى. وقوله بِقَدَرٍ أي على قدر المصلحة ووفق حال الشخص كقوله وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [الحجر:
21] وحين بين أن حكمته اقتضت عدم توسيع الرزق على كل الخلق أراد أن يبين أنه لا يترك ما يحتاجون إليه وإن بلغ أمرهم إلى حد اليأس والقنوط فقال وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ الآية. ونشر الرحمة عموم المطر الأرض أو هي عامة في كل رحمة سوى المطر وَهُوَ الْوَلِيُّ الذي يتولى أمور عباده الْحَمِيدُ على كل ما يفعله. ولا ريب أن هذه من جملة دلائل القدرة فلذلك عطف عليها قوله وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ومحل قوله وَما بَثَّ إما مجرور عطفا على السموات أو مرفوع عطفا على خلق. وإنما قال فِيهِما مِنْ دابَّةٍ مع أن الدواب في الأرض وحدها لأن الشيء قد ينسب إلى جميع المذكور وإن كان متلبسا ببعضه كما يقال: «بنو فلان فعلوا كذا» ولعله قد فعله واحد منهم فقط. ويجوز أن يكون للملائكة مع الطيران مشى فيتصفوا بالدبيب كالإنسان، أو يكون في السموات أنواع أخر من الخلائق يدبون كما يدب الحيوان في الأرض. وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ أي إحيائهم بعد الموت إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ وإذا يدخل على الماضي ومعنى الاستقبال في يَشاءُ يعود إلى تعلق المشيئة لا إلى نفس المشيئة القديمة. ثم بين حال المكلفين وأن ما يصيبهم من ألم ومكروه وبلاء فهو عقوبة للمعاصي التي اكتسبوها، وأن الله يعفو عن كثير من الذنوب أو الناس فلا يعاجلهم بالعقوبة رحمة أو استدراجا. قال الحسن: أراد إقامة الحدود على المعاصي وأنه لم يجعل لبعض الذنوب حدا. وقيل: إن هذه في يوم القيامة فإن الدنيا دار تكليف لا دار جزاء. ولقائل أن يقول: كون الجزاء الأوفى على الإثم مخصوصا بالقيامة لا ينافي وصول بعض الجزاء إلى المكلف في الدنيا، ولهذا
قال علي رضي الله عنه: هذه أرجى آية للمؤمنين في كتاب الله.
وذلك أنه تعالى قسم ذنوب المؤمنين صنفين: صنف يكفره عنهم بالمصائب، وصنف يعفو وهو كريم لا يرجع في عفوه، نعم لو عكست القضية وقيل ما كسبت أيديكم فإنه يصيبكم به ألم وعذاب في الدنيا لكان هذا منافيا لكون الجزاء في الآخرة ولحصول العفو أيضا.
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: ما عفا الله عنه.
فهو أعز وأكرم من
(6/78)
أن يعود إليه في الآخرة وما عاقب عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يعيد عليه العذاب في الآخرة. قال أهل التناسخ: لولا أن الأطفال والبهائم لهم حالة كانوا عليها قبل هذه الحالة ما كانوا ليتألموا فإنهم لا ذنوب لهم الآن. وأجيب بالتزام أنهم لا يتألمون من المصائب والآلام وفيه بعد، وبأن الخطاب في الآية لذوي العقول البالغين، وبأنها في البالغين عقوبة أو زيادة درجة، وفي الأطفال مثوبة لهم أو لوالديهم. ثم خاطب المشركين بقوله وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ الآية ثم ذكر دليلا آخر قائلا ومن آياته الجواري أي السفن الجواري فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ أي كالجبال في العظم. ولا شك أن جريانها بواسطة هبوب الرياح فلذلك قال إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ أي فيصرن واقفة على ظهر ماء البحر إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على البلاء شَكُورٍ على الآلاء أو صبار في السفينة شكور إذا خرج منها أَوْ أن يشأ يُوبِقْهُنَّ أي يهلك السفينة بما فيها بالغرق أو الكسر لعصوف الريح وغيره بِما كَسَبُوا من كفران نعم الله وعصيانه وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ من الذنوب فلا يجازي عليها في الدنيا ولا في الآخرة. والحاصل أنه إن يشأ يسكن الريح فتبقى الجواري واقفة على متن البحر، أو أن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا على طريق العفو عنهم. من رفع وَيَعْلَمَ فعلى الاستئناف، ومن نصب فللعطف على تعليل محذوف أي لينتقم منهم ويعلم قاله في الكشاف. وقال الكوفيون ومنهم الزجاج: النصب بإضمار «أن» لأن قبلها جزاء. تقول: ما تصنع أصنع وأكرمك. ووجهه أن هذا في تأويل المصدر معطوف على مصدر أصنع مقدرا. ثم استأنف قوله ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ أي لا مهرب للمجادلين عن عقابه. ثم رغب المكلفين عن الدنيا وفي الدنيا وفي الآخرة وقد مر نظيره في القصص إلا أنه ذكر هاهنا أن هذه الخيرية تحصل للموصوفين بصفات إحداها الإيمان، والثانية التوكل على الرب، والثالثة الاجتناب عن الكبائر والفواحش كقوله إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: 31] إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ [الأعراف: 33] ومن قرأ كبير على التوحيد فللجنس، وفسره ابن عباس بالشرك، الرابعة الغفران عند الغضب «وهم» تأكيد للضمير أو مبتدأ ما بعده خبره. قال بعض العلماء: يحتمل أن يراد بالكبائر ما يتعلق بالبدع والعقائد الفاسدة وهي من فساد القوة العقلية، وبالفواحش فساد القوة الشهوية، وبالأخيرة ما يتعلق بالقوة الغضبية. قال المفسرون: نزل قوله وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ في الأنصار دعاهم الله ورسوله إلى التوحيد فأطاعوا ورضوا بقضائه وواظبوا على الصلوات الخمس، وكانوا قبل الإسلام متشاورين في كل أمر دهمهم غير منفردين برأي، والشورى مصدر كالفتيا، والمضاف محذوف أي ذو التشاور. وليس بين
(6/79)
قوله هُمْ يَنْتَصِرُونَ أي ينتقمون وبين قوله يَغْفِرُونَ منافاة، فإن هذه أخص من الأولى إذ البغي هو الذي يؤدي إلى الفساد ولا يصير عفوه سببا لتسكين ثائرة الفتنة ولرجوع الجاني عن جنايته، ويجوز أن يتوجه المدح في الانتصار إلى كون المظلوم بحيث يراعي حد الشرع ولا يتجاوزه حتى لو زاد عليه لم يكن منتصرا ولا يستحق المدح، فهذه خمس صفات أخرى للراغبين في الدار الآخرة. ثم بين أن شرعة الانتصار مشروطة برعاية المماثلة فقال وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها حتى لو قال أخزاه الله لا يزيد في الجواب عليه شيئا. وسمى الثاني سيئة ازدواجا للكلام أو لأن السيئة هي التي يكرهها الإنسان طبعا كالقصاص والقطع وسائر الحدود. وقد لا يمكن رعاية المماثلة كما في قتل الأنفس بنفس واحدة أو كقطع الأيدي بواحدة إذا تعاونوا على قطعها ذلك في الفقه. وإنما عرف ذلك بنص آخر أو بقياس جلي. ثم حث مع ذلك على العفو والصبر قائلا فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ ما بينه وبين خصمه بالإغضاء والعفو فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فإن الانتصار حسن في نفسه ولا سيما إذا كان فيه مصلحة دينية كزجر وارتداع إلا أن العفو أحسن لأنه لا يكاد يؤمن في الانتصار والتجاوز عن حد الاعتدال ولهذا حذر منه بقوله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من كان له أجر على الله فليقم فيقوم خلق فيقال لهم: ما أجركم على الله؟ فيقولون: نحن الذين عفونا عمن ظلمنا. فيقال لهم: ادخلوا الجنة بإذن الله»
ثم كرر أن الانتصار لا يؤاخذ به ولا سبيل للوم إليه لئلا يظن أن وعد الأجر على العفو يقتضي قبح الانتصار في نفسه فقال وَلَمَنِ انْتَصَرَ الآية. وقوله بَعْدَ ظُلْمِهِ من إضافة المصدر إلى المفعول والباقي واضح إلى قوله الْأُمُورِ وإنما أدخل اللام في الخبر خلاف ما في لقمان لأن الصبر على المكروه الذي هو ظلم أشد من الصبر على الذي ليس بظلم، وتكرير الحث على الصبر لمزيد التأكيد أيضا، ثم ذكر أن الإضلال والهداية التي هي نقيضه إنما تتعلق بمشيئته. والمعتزلة يتأولون الإضلال بالخذلان أو بالإضلال عن طريق الجنة. ثم حكى أن الكفار عند معاينة عذاب النار يتمنون الرجعة إلى الدنيا، ثم عقبه بذكر حالهم حين يعرضون على النار. الخشوع بمعنى الهوان ولهذا علق بقوله مِنَ الذُّلِّ وقد يعلق ب يَنْظُرُونَ أي لهذا السبب يبتدىء نظرهم من تحريك أجفانهم وهو ضعيف فإن الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها، وقد يفسر الطرف الخفي بمعنى البصيرة بناء على أن الكفار يحشرون عميا فلا ينظرون إلا بقلوبهم والأكثرون أجابوا عنه فقالوا:
لعلهم يكونون في الابتداء هكذا ثم يجعلون عميا، أو لعل هذا في قوم وذاك في قوم. ثم حكى قول المؤمنين فيهم ويَوْمَ الْقِيامَةِ ظرف ل خَسِرُوا كما في «الزمر» فيحتمل أن
(6/80)
يكون قول المؤمنين فيه أو في الدنيا. وجوز في الكشاف أن يكون ظرفا لقال. والنكير الإنكار أي ما لكم من مخلص ولا من قدرة أن تنكروا شيئا مما دوّن في صحائف أعمالكم أو مالكم من ينكر علينا حتى يغير شيئا من أحوالكم. ثم سلى نبيه بقوله فَإِنْ أَعْرَضُوا ثم ذكر سبب إصرارهم على عقائدهم الفاسدة وهو الضعف الذي جبل عليه الإنسان من البطر عند الغنى، والفراغ في زمن الصحة، والأمن في زمن الكفران، ونسيان نعم الله عند البلاء. وإنما جمع قوله وَإِنْ تُصِبْهُمْ لأن الإنسان جنس يشمل أهل الغفلة كلهم. وقوله فَإِنَّ الْإِنْسانَ من وضع الظاهر موضع الضمير وفائدته التسجيل على أن هذا الجنس من شأنه ذلك إلا إذا أدّب النفس وراضها. ثم بين كمال قدرته بقوله لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية. والمقصود أن الإنسان لا يغتر بما يملكه من الجاه والمال ولا يعتقد أنه حصل بجد أوجده فيعجب به ويعرض عن طاعة ربه. ثم ذكر من أقسام تصرفه في ملكه أنه يخص البعض من الحيوان بالأولاد الإناث، والبعض بالذكور، والبعض بالصنفين، والبعض يجعله عديم الولد. وقدم ذكر الإناث تطييبا لقلوب آبائهن أو لأنهن مكروهات عند العرب فناسب أن يقرن اللفظ الدال عليهن باللفظ الدال على البلاء. أو لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء الإنسان فكان ذكر الإناث التي هي من جملة ما لا يشاء الإنسان أهم. وفيه نقل الإنسان من الغم إلى الفرح. ولا ريب أن هذا أولى من العكس. وفيه أن الإنسان إذا رضي بالأنثى فإذا أعطاه الذكر علم أنه فضل من الله. وفيه أن العجز كلما كان أتم كانت عناية الله بحاله أوفر. ثم أراد أن يتدارك تأخيرهم وهم أحقاء بالتقديم فعرف الذكور لأنه مع رعاية الفاصلة تنويه وتشهير كأنه قال: ويهب لمن يشاء الفرسان الأعلام.
ثم قال أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً فأعطى كلا الجنسين حقه. ونصبهما على الحال، والضمير للأولاد أو على المفعولية، والضمير لمن يشاء أي يجمع لهم كلا الصنفين سواء كانا متساويين في العدد أم لا. وقيل: معناه أن تلد ذكرا وأنثى في بطن واحد قاله ابن الحنفية. وعن ابن عباس أن الآية نزلت في الأنبياء، وهب لشعيب ولوط أناثا، ولإبراهيم عليه السلام ذكورا، ولمحمد صلى الله عليه وسلم ذكورا وهم القاسم والطاهر وعبد الله وإبراهيم، وإناثا هن فاطمة وزينب ورقية وأم كلثوم، وجعل يحيى وعيسى عقيما. والحق أن هذا التقسيم وإن كان مطابقا لحال هؤلاء الأنبياء إلا أن في التخصيص ضيق عطن. وإن صحت الرواية عن ابن عباس فالعبرة بعموم اللفظ والمعنى لا بخصوص السبب، وحمل بعض أهل التأويل الإناث على أمور الدنيا والذكور على أمور الآخرة، وتزويج الصنفين على الجامع بين الأمرين، والعقيم على
(6/81)
من لا دين له ولا دنيا ثم أكد كمال القدرة بقوله وَما كانَ لِبَشَرٍ أي وما صح لأحد أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا على أحد ثلاثة أنحاء: الأول الوحي وهو الإلهام أو المنام كما أوحى إلى أم موسى وإلى إبراهيم عليه السلام في ذبح ولده. وعن مجاهد أن داود عليه السلام ألهمه الزبور فكتبه حفظا. الثاني التكليم بلا واسطة ولكن من وراء حجاب. والمجسمة استدلوا به على أنه تعالى في جهة فإن الاحتجاب لا يصح إلا من ذي جهة ومكان. وأجيب بأن هذا مثل لأنه إذا سمع الصوت ولا يرى الشخص كان بمنزلة ما يسمع من وراء حجاب كما كلم موسى ويكلم الملائكة. وقيل: حجاب عن إدراك ذلك الكلام لا المتكلم. وقيل: حجاب لموضع الكلام. الثالث أن يرسل رسولا كجبرائيل فيوحي الملك بإذن الله إلى النبي ما يشاؤه الله. والأقسام الثلاثة كلها من قبيل الوحي ولكنه سبحانه جعل الوحي في الآية خاصا بالأول، وتقدير الكلام: وما صح أن يكلم أحدا إلا موحيا أو مسمعا من وراء حجاب أو مرسلا أو إلا وحيا أو إسماعا أو إرسالا، أو إلا أن يوحى أو يسمع أو يرسل.
ومن قرأ بالرفع فعلى الاستئناف بمعنى أو هو يرسل أو على الحال بمعنى مرسلا عطفا على وَحْياً بمعنى موحيا. وقيل: الوحي هو الوحي إلى الرسل بواسطة الملائكة، وإرسال الرسل إرسال الأنبياء إلى الأمم، فإن الصحيح عند أهل الحق أن الشيطان لا يقدر على إلقاء الباطل في أثناء الوحي. وقد يقال: إن توجيه التكليف إلى العبد لا يتم إلا بثلاث مراتب من المعجزات، وذلك أن التسلسل محال فلا بد من سماع الملك كلام الله بلا واسطة. فالملك يحتاج إلى معجزة تدل على أن ذلك الكلام كلام الله، وإذا بلغ الملك ذلك الكلام إلى النبي فلا بد للنبي من مشاهدة معجزة تدل على صدقه، وإذا بلغ الرسول لأمته فالأمر كذلك. وهذا الثالث مشهور متفق عليه، وأما الأولان فعلهما يعرفان بنور الباطن ولا يفتقر إلى المعجزة لا في أول الأمر ولا كل مرة. قال أهل التصديق: إن الأقسام الثلاثة اجتمعت لنبينا صلى الله عليه وسلم، لأنه في بدء الإسلام كان يرى الرؤيا الصادقة كفلق الصبح، وسمع الكلام من وراء الحجاب ليلة المعراج، وكان يأتيه جبرائيل إلى آخر عمره فلهذا قال عز من قائل وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ويحتمل أن يراد كما أوحينا إلى سائر الأنبياء أوحينا إليك يعني بالطريق الأكثري وهو القسم الثالث. ومعنى رُوحاً مِنْ أَمْرِنا قرآنا من عندنا أو من عالم أمرنا كقوله يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ [غافر: 15] وما كُنْتَ تَدْرِي في المهد أو قبل البلوغ أو قبل الوحي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ يعني ما يتعلق بكمال الإيمان مما لا يكفي في معرفته مجرد العقل والنظر ويتوقف على النقل وإذن الشرع. وقيل: أراد أهل الإيمان يعني من الذي يؤمن ومن الذي لا يؤمن. والضمير في جَعَلْناهُ للقرآن أو الإيمان أولهما جميعا. ووحد كقوله وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة:
(6/82)
11] وهداية الله خاصة، وهداية النبي عامة وهي الدعوة، وصراط الله دينه، ومصير الكل إليه عبارة عن رجوعهم إلى حيث لا حكم لأحد سواه والله أعلم.
(6/83)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30)
(سورة الزخرف)
(وهي مكية حروفها ثلاثة آلاف وأربعمائة كلمها ثمانمائة وثلاث وثلاثون آياتها تسع وثمانون آية)
[سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 30]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)
أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19)
وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29)
وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)
(6/84)
القراآت:
في إم الكتاب بكسر الهمزة: حمزة وعلي إن كنتم بالكسر:
أبو جعفر ونافع وعلي وحمزة وخلف. الآخرون: بالفتح أي لأن كنتم مَهْداً: عاصم وحمزة وعلي وخلف وروح. الباقون مهاد ميتا بالتشديد: يزيد. يخرجون من الخروج:
حمزة وعلي وخلف وابن ذكوان. الآخرون: من الإخراج يُنَشَّؤُا من باب التفعيل: حمزة وعلي وخلف وحفص. الباقون: بالتخفيف والياء مفتوحة والنون ساكنة عِبادُ الرَّحْمنِ جمع عبد أو عابد: أبو عمرو وعاصم وحمزة وعلي وخلف، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر عند الرحمن بالنون كقوله فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [فصلت: 38] الآخرون: عبيد الرحمن أو شهدوا بقلب همزة الإشهاد واوا مضمومة: ورش وإسماعيل. وقرأ يزيد وقالون مثله ولكن بالمد. وقرأ المفضل بتحقيق الهمزتين. الباقون: بهمزة واحدة للاستفهام والشين مفتوحة قالَ أَوَلَوْ بالألف: ابن عامر وحفص والمفضل جئناكم يزيد.
الوقوف:
حم هـ كوفي الْمُبِينِ هـ لا ومن لم يقف على حم وقف على الْمُبِينِ لأن القسم متعلق بما قبله وهو هذه حم تَعْقِلُونَ هـ ج حَكِيمٌ هـ ط مُسْرِفِينَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ الْعَلِيمُ هـ لا بناء على أن ما بعده وصف ولو كان نصبا أو رفعا على المدح فالوقف تَهْتَدُونَ هـ بِقَدَرٍ ج للالتفات مع الفاء مَيْتاً ج لانقطاع النظم مع تعلق التشبيه تُخْرَجُونَ هـ تَرْكَبُونَ هـ لا مُقْرِنِينَ هـ لا لأن ما بعده من تمام المقول لَمُنْقَلِبُونَ هـ جُزْءاً ط مُبِينٌ هـ ط بِالْبَنِينَ هـ كَظِيمٌ هـ مُبِينٍ هـ إِناثاً ط خَلْقَهُمْ ط وَيُسْئَلُونَ هـ ما عَبَدْناهُمْ ط يَخْرُصُونَ هـ ط مُسْتَمْسِكُونَ هـ مُهْتَدُونَ هـ مُقْتَدُونَ هـ آباءَكُمْ ط كافِرُونَ هـ الْمُكَذِّبِينَ هـ تَعْبُدُونَ هـ لا سَيَهْدِينِ هـ يَرْجِعُونَ هـ مُبِينٌ هـ كافِرُونَ هـ
التفسير:
أقسم بجنس الكتاب أو بالقرآن الظاهر الإعجاز أو المفصح عن كل حكم يحتاج المكلف إليه أنه جعل القرآن بلغة العرب ليعقلوه. وفي نسبة الجعل إلى نفسه إشارة
(6/85)
إلى أنه ليس بمفترى كما زعمه الكفرة. وقيل: أراد ورب الكتاب وقيل: الكتاب اللوح المحفوظ. وقال ابن بحر: هو الخط أقسم به تعظيما لنعمته فيه، وقال ابن عيسى: البيان ما يظهر به المعنى للنفس عند الإدراك بالبصر والسمع وذلك على خمسة أوجه: لفظ وخط وإشارة وعقد وهيئة، كالأعراض وتكليح الوجه. وأم الكتاب بكسر الهمزة وبضمها اللوح المحفوظ لأنه أصل كل كتاب والتقدير: وإنه لعلي حكيم في أم الكتاب لدينا. والعلو علو الشأن في البلاغة والإرشاد وغير ذلك والحكيم المشتمل على الحكمة. ثم أنكر على مشركي قريش بقوله أَفَنَضْرِبُ قال جار الله: أراد أنهملكم فنضرب عَنْكُمُ الذِّكْرَ يقال: ضرب عنه الذكر إذا أمسك عنه وأعرض عن ذكره من ضرب في الأرض. إذا أبعد وصَفْحاً مصدر من غير لفظ الفعل والأصل فيه أن تولي الشيء صفحة عنقك، وجوز جار الله أن يكون بمعنى جانبا من قولهم: «نظر إليه بصفح وجهه» فينتصب على الظرف ويكون الذكر بمعنى الوعظ والقرآن والفحوى أفننحيه عنكم. وقيل: ضرب الذكر رفع القرآن عن الأرض أي أفنرفع القرآن عن الأرض أي أفنرفع القرآن من بين أظهركم لإشراككم مع علمنا بأنه سيأتي من يقبله ويعمل به. قال السدي: أفنترككم سدى لا نأمركم ولا ننهاكم وهو قريب من الأول. وقيل: الذكر هو أن يذكروا بالعقاب ولا يخلو من مناسبة لقوله فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً ومن قرأ إن كنتم بالكسر فكقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفني حقي. يخيل في كلامه أن تفريطه في الخروج عن عهدة الأجر فعل من يشذ في الاستحقاق مع تحققه في الخارج. ثم سلى نبيه بقوله وَكَمْ أَرْسَلْنا الآيتين. قوله أَشَدَّ مِنْهُمْ قيل: «من» زائدة والمراد أشدهم بَطْشاً كعاد وثمود وقيل: الضمير لقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصله أشد منكم إلا أنه ورد على طريقة الالتفات كقوله حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ [يونس: 22] قوله وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ أي سلف ذكرهم وقصتهم العجيبة في القرآن غير مرة ويحتمل أن يكون معناه كقوله وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ [الحجر: 13] ثم بين بقوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ أن كفرهم كفر عناد ولجاج لأنهم يعرفون الله ثم ينكرون رسوله وكتابه وقدرته على البعث. وهذه الأوصاف من كلام الله لا من قول الكفار بدليل قوله لَكُمُ ولم يقل «لنا» ولقوله فَأَنْشَرْنا والمراد لينسبن خلقها إلى الذي هذه أوصافه وقد مر في «طه» مثله. وقوله تَهْتَدُونَ أي في الأسفار أو إلى الإيمان بالنظر والاعتبار. وقوله بِقَدَرٍ أي بمقدار الحاجة لا مخربا مغرقا كما في الطوفان. وقوله مَيْتاً تذكيره بتأويل المكان. والأزواج الأصناف وقد مر في قوله سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ
[يس: 36] والعائد إلى ما في قوله ما تَرْكَبُونَ محذوف فلك أن تقدره مؤنثا أو مذكرا باعتبارين.
قال في الكشاف: يقال: ركبت الأنعام وركبت في الفلك إلا أنه غلب المتعدي بغير
(6/86)
واسطة على المتعدي بواسطة. قلت: يجوز أن يكون كقوله «ويوم شهدناه» والضمير في ظهوره عائد إلى ما. والاستواء في الآية بمعنى التمكن والاستقرار وذكر النعمة بالقلب ويحتمل كونه باللسان وهو تقديم الحمد لله.
يروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع رجله في الركاب قال:
الحمد لله على كل حال سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا إلى قوله لَمُنْقَلِبُونَ وكبر ثلاثا وهلل ثلاثا. وإذا ركب في السفينة قال بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [هود: 41]
ومعنى مُقْرِنِينَ مطيقين أو ضابطين مع صعوبة خلقه وخلقه. وقيل: لا يطيق أن يقرن بعضها ببعض حتى يسيرها إلى حيث يريد وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي في آخر عمرنا كأنه يتذكر ركوب الجنازة أو عثور الدابة أو انكسار السفينة فليستعد للقاء الله عز وجل بخلاف من يركب الخيول والزوارق لأجل التنزه والاشتغال بالملاهي والمناهي فيكون غافلا عن المبدأ والمعاد. عن بعضهم أنه أدخل في الخبر هاهنا خلاف ما في «الشعراء» لأن ركوب الدابة أو السفينة أو الجنازة عام لكل أحد. وما في «الشعراء» خاص بالسحرة.
ثم عاد إلى ما انجر الكلام منه وهو قوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ والمقصود التنبيه على سخافة عقولهم وقلة محصولهم فإنهم مع الإقرار بأن خالق السموات والأرض هو الله جعلوا له من عباده جزءا أي أثبتوا له ولدا، وذلك أن ولد الرجل جزء منه.
قال صلى الله عليه وسلم «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» »
وفي قوله مِنْ عِبادِهِ إشارة إلى أن ما عداه ممكن الوجود فإن الولد متأخر في الوجود عن الأب والمتأخر عن الواجب ممكن، والممكن مفتقر إلى الواجب في الوجود والبقاء والذات والصفات. وقيل: هو إنكار على مثبتي الشركاء لأنهم جعلوا بعض العبادة لغير الله، وفيه نوع تكلف. والكفور البليغ الكفران لأنه يجحد ربه وخالقه ولا يجتهد في تنزيهه وتقديسه. وحين وبخهم على إثبات الولد زاد في توبيخهم وتجهيلهم والتعجيب من حالهم حيث جعلوا ذلك الولد بنتا مع أنها مكروهة عندهم فقال أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ وفائدة تنكير بَناتٍ وتعريف البنين كما مر في آخر السورة المتقدمة في تنكير إِناثاً وتعريف الذُّكُورَ [الشورى: 49] وقوله بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا أي بالجنس الذي جعله شبها لله لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد، والمراد أنه إذا بشر بالأنثى كما سبق في «النحل» اغتم ويسود وجهه وملىء غيظا وكربا. ثم زاد في الإنكار بتعديد طرف من نقصان الإناث قائلا أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا والتقدير أهو كضده.
قال جار الله: تقديره أو يجعل للرحمن من الولد من له هذه الصفة الدنيئة الذميمة وهي أنه
__________
(1) المصدر السابق.
(6/87)
يربى أو يتربى في الزينة والنعومة، وهو إذا احتاج إلى المخاصمة لا يبين ولا يعرف عما في ضميره لعجزه عن البيان ولقلة عقله. قالت العقلاء: قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تعرب عن حجتها إلا نطقت بما هو حجة عليها. وفيه أن النشء في الزينة والإمعان في التنعم من خصائص ربات الحجال لا من خواص الرجال. وإنما ينبغي أن يكون تلبسهم بلباس التقوى وتزينهم باستعداد الزاد للدار الأخرى. ثم خصص أن البنات التي نسبن إليه تعالى من أي جنس من بعد ما عمم في قوله مِمَّا يَخْلُقُ فقال وَجَعَلُوا أي سموا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً وفي إثبات العبودية لهم نفي الجزئية عنهم كما مر آنفا. وقوله أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ كقوله ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الكهف: 51] وفيه تهكم بهم لأنه لم يدل على ذلك عقل ولا نقل صحيح فلم يبق إلا الإخبار عن المشاهدة يعني مشاهدتهم خلق الله إياهم أو مشاهدة صور الملائكة. ثم أوعدهم بقوله سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ على أنوثية الملائكة وَيُسْئَلُونَ ثم حكى نوعا آخر من كفرهم وشبهاتهم وهو أنهم قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ أي الملائكة والأصنام نظير ما مر في آخر الأنعام سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [الآية: 148] . واستدلال المعتزلة به ظاهر لأنه ذمهم بقوله ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ أجاب الزجاج عنه بأن قوله ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ عائد إلى قولهم الملائكة بنات الله، والمراد لو شاء الرحمن ما أمرنا بعبادتهم كقولهم وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف: 28] فلهذا أنكر الله عليهم قاله الواحدي في بسيطه. وقيل:
قالوها استهزاء، وزيفه جار الله بأنه لا يتمشى في أقوالهم المتقدمة وإلا كانوا صادقين مؤمنين. وجعل هذا الأخير وحده مقولا على وجه الهزء دون ما قبله تعويج لكتاب الله.
وتمام البحث بين الفريقين مذكور في «الأنعام» وإنما قال في الجاثية إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ لأن هذا كذب محض وهناك خلطوا الصدق بالكذب، صدقوا في قولهم نَمُوتُ وَنَحْيا وكذبوا في قولهم وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ [الجاثية: 24] وكانوا شاكين في أمر البعث، ثم زاد في الإنكار عليهم بقوله أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن أو الرسول فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ثم أضرب عن ذلك وأخبر أنه لا مستند لهم في عقائدهم وأقوالهم الفاسدة الا التقليد. والأمة الدين والطريقة التي تؤم أي تقصد. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هذا دأب أسلافهم وداء قديم في جهال بني آدم. وإنما قال أولا مُهْتَدُونَ وبعده مُقْتَدُونَ لأن العرب كانوا يخاصمون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويزعمون الاهتداء، ولعل الأمم قبلهم لم يزعموا إلا الاقتداء بالآباء دون الاهتداء. ثم أخبر أن النذير قالَ أو أمر النذير أو محمدا أن يقول أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ أي أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم فأصروا على التكذيب ولم يقبلوا فانتقم الله منهم.
(6/88)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
ثم بين بقصة إبراهيم عليه السلام أن القول بالتقليد يوجب المنع من التقليد، وذلك أن إبراهيم عليه السلام كان أشرف آباء العرب وأنه ترك دين الآباء لأجل الدليل، فلو كانوا مقلدين لآبائهم وجب أن يتبعوه في الاعتماد على الدليل لا على مجرد التقليد. والبراء بالفتح مصدر أي ذو براء. وقوله إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي قيل: متصل، وكان فيهم من يعبد الله مع الأصنام. وقيل: منقطع بمعنى لكن، ويحتمل أن يكون مجرورا بدلا من ما أي إلا من الذي وجوز في الكشاف أن تكون «إلا» صفة بمعنى غير و «ما» موصوفة تقديره إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي يثبتني على الهداية أو يرشدني إلى طريق الجنة، ولا ريب أن قوله إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ بمنزلة لا إله وقوله إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي بمثابة «إلا الله» وهي كلمة التوحيد فلذلك أنّث الضمير في قوله وَجَعَلَها أي وجعل إبراهيم أو الله كَلِمَةً التوحيد باقِيَةً فِي عَقِبِهِ فلا يزال في ذريته من يوحد الله عز وجل ويدعو إلى توحيده نظيره وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ [البقرة: 132] لَعَلَّهُمْ أي لعل من أشرك منهم يرجع إلى التوحيد أو عن الشرك بدعاء الموحدين منهم.
ثم أضرب عن رجاء الرجوع منهم إلى أن تمتيعهم بالعمر وسعة الرزق صار سببا لعظم كفرهم وشدة عنادهم. قال جار الله: أراد بل اشتغلوا عن التوحيد حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وهو القرآن وَرَسُولٌ مُبِينٌ الرسالة واضحها فخيل بهذه الغاية أنهم تنبهوا عندها من غفلتهم لاقتضائها التنبيه. ثم ابتدأ قصتهم عند مجيء الحق قائلا وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ جاؤا بما هو شر من غفلتهم وهو أن ضموا إلى شركهم معاندة الحق ومكابرة الرسول وإنكار القرآن والله أعلم.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 31 الى 56]
وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40)
فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55)
فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)
(6/89)
القراآت:
سقفا بالفتح فالسكون: ابن كثير وأبو عمرو ويزيد. الباقون: بضمتين على الجمع كرهن ورهن. قال أبو عبيدة: لا ثالث لهما (لما) بالتشديد: عاصم وحمزة بمعنى إلا ف إِنْ نافية. الآخرون: بالتخفيف ف «إن» مخففة واللام فارقة كما مر في آخر هود يقيض على الغيبة والضمير للرحمن: يعقوب وحماد. الآخرون: بالنون جاءَنا على الوحدة والضمير للعاشي: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد ويعقوب.
الباقون: بألف التثنية والضمير للعاشي والقرين أنكم في العذاب بالكسر: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان أيه الساحر بضم الهاء مثل أيه المؤمنون وقد مر في «النور» تحتي بفتح الياء: أبو عمرو وابن كثير ونافع وأبو جعفر أَسْوِرَةٌ كأجربة: حفص وسهل ويعقوب. الآخرون أساورة كأشاعرة وهو جمع أسوار بمعنى السوار. وأصله أساوير. إلا أنه عوض من الياء هاء في آخره سلفا بضمتين: حمزة وعلي وهو جمع سليف. الباقون: بفتحتين جمع سالف كخادم وخدم.
الوقوف:
عَظِيمٍ هـ رَحْمَتَ رَبِّكَ ط سُخْرِيًّا ط يَجْمَعُونَ هـ يَظْهَرُونَ هـ لا يَتَّكِؤُنَ هـ لا وَزُخْرُفاً ط الدُّنْيا ط لِلْمُتَّقِينَ هـ قَرِينٌ هـ مُهْتَدُونَ هـ الْقَرِينُ هـ مُشْتَرِكُونَ هـ مُبِينٍ هـ مُنْتَقِمُونَ هـ لا مُقْتَدِرُونَ هـ إِلَيْكَ ط لاحتمال التعليل مُسْتَقِيمٍ هـ وَلِقَوْمِكَ ج للتعليق مع سين التهديد تُسْئَلُونَ هـ
(6/90)
يُعْبَدُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ يَضْحَكُونَ هـ مِنْ أُخْتِها ز لنوع عدول يَرْجِعُونَ هـ لَمُهْتَدُونَ هـ يَنْكُثُونَ هـ تَحْتِي ج للاستفهام مع اتحاد الكلام تُبْصِرُونَ هـ لأن «أم» منقطعة مُقْتَرِنِينَ هـ فَأَطاعُوهُ ط فاسِقِينَ هـ أَجْمَعِينَ هـ لِلْآخِرِينَ هـ.
التفسير:
هذه حكاية شبهة لكفار قريش، وذلك أنهم ظنوا أن الفضيلة في المال والجاه الدنيوي فقالوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ وفي الإشارة هاهنا نوع استخفاف منهم لكتاب الله عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ أي من إحداهما يعنون مكة أو الطائف. قال المفسرون:
الذي بمكة هو الوليد بن المغيرة، والذي بالطائف هو عروة بن مسعود الثقفي. ومنهم من قال غير ذلك. وأرادوا بعظم الرجل رياسته وتقدمه في الدنيا فألزمهم الله تعالى بأجوبة أوّلها قوله على سبيل الإنكار أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي النبوّة فيضعوها حيث شاؤا نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا أي خدما وتابعا ومملوكا. واللام لام العاقبة فإن الإنسان خلق مدنيا بالطبع. وقالت المعتزلة: للغرض وإذا كانت المعايش الدنيوية مع حقارتها وخساستها مفوّضة إلى تدبير الله وتسخيره وتقديره دون أحد من خلقه، فالأمور الدينية والمناصب الحقيقية الأخروية أولى بذلك. وقيل: الرحمة الرزق. ومعنى الآية إنكار أن الرزق منهم فكيف تكون النبوّة منهم؟ واستدلال السني بالآية ظاهر في أن كل الأرزاق من الله حلالا كانت أو حراما. وقالت المعتزلة: الله تعالى قاسم ولكن العباد هم الذين يكسبونها صفة الحرمة بسوءتنا ولهم. والجواب أنه كما قسم الرزق عين الجهة التي بها يصل الرزق إليه فكل بقدره. وثانيها قوله وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ لأن الدنيا منقضية فانية ودين الله وما يتبعه من السعادات باق لا يزول، فكيف يجعل العاقل ما هو الأخس أفضل مما هو الأشرف؟ وثالثها قوله وَلَوْلا كراهة أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً مجتمعين على الكفر لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ هو بدل اشتمال وقيل: هما كقولك: وهبت له ثوبا لقميصه في أن اللام للغرض. والمعارج المصاعد أو المراقي جمع معرج كمخلب عَلَيْها أي على المعارج يَظْهَرُونَ يعلون السطوح. والزخرف الزينة أي جعلنا لهم زينة عظيمة في كل باب. وقيل: الذهب أي جعلنا لهم مع ذلك ذهبا كثيرا. أو وجه آخر على هذا التفسير وهو أن يكون معطوفا على قوله مِنْ فِضَّةٍ إلا أنه نصب بنزع الخافض أي بعضها من فضة وبعضها من ذهب. والحاصل أنه سبحانه إن وسع على الكافرين كل التوسعة أطبق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها مع حقارة الدنيا عند الله تعالى، وفي معناه
قول نبينا صلى الله عليه وسلم «لو كانت الدنيا تزن عند الله تعالى جناح بعوضة ما سقى
(6/91)
كافرا منها شربة ماء» «1»
وإنما لم يوسع على المسلمين كلهم لتكون رغبة الناس في الإسلام لمحض الإخلاص لا لأجل الدنيا. ثم بشر المؤمنين بقوله وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ إلى آخره.
قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن اللطف من الله تعالى واجب، وفيه أنه تعالى لما لم يفعل بالناس التوسعة لئلا يجتمعوا على الكفر، فلأن لا يخلق فيهم الكفر أولى. والجواب أن وقوع كل الناس في طريق القهر محذور، وأما وقوع البعض فضروري كما مر في أول البقرة، فشتان بين الممتنع الوجود والضروري الوجود فكيف يقاس أحدهما على الآخر؟
ثم بين أن مادة كل الآفات وأصل جميع البليات هو السكون إلى الدنيا والركون إلى أهلها فإن ذلك بمنزلة الرمد للبصر ويصير بالتدريج كالعشى ثم كالعمى فقال وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أي عن القرآن أي يعرف أنه الحق ولكنه يتجاهل. قال جار الله: قرىء بفتح الشين أيضا. والفرق أنه إذا حصلت آفة في بصره يقال عشي بالكسر أي عمى يعشى بالفتح، وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل عشا أي تعامى. وفيه معنى الإعراض فلهذا عدي ب «عن» ومعنى نُقَيِّضْ نقدر كما مر في «حم السجدة» وَإِنَّهُمْ أي الشياطين لَيَصُدُّونَهُمْ أي العشي عن دين الله وَيَحْسَبُونَ أي الكفار أن الشياطين والكافرين مُهْتَدُونَ وإنما جمع الضميرين لأن مَنْ عام وشَيْطاناً تابع له. ولا شك أن هذا القرين ملازم له في الآخرة لقوله حَتَّى إِذا جاءَنا الآية وأما في الدنيا فمحتمل بل لازم
لقوله صلى الله عليه وسلم «كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون»
ويروى أن الكافر إذا بعث يوم القيامة من قبره أخذ شيطان بيده ولم يفارقه حتى يصيرهما الله إلى النار فذلك حيث يقول يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ
أي بعد ما بين المشرق والمغرب فغلب كالقمرين. وقيل:
المغرب أيضا مشرق بالنسبة إلى الحركة الثانية وهذا قول أهل السنة. وقيل: مشرق الصيف ومشرق الشتاء وفيه ضعف لأنه لا يفيد مبالغة، فبين الله تعالى أن ذلك التمني لا ينفعهم وعلله بقوله أَنَّكُمْ من قرأ بالكسر فظاهر، ومن قرأ بالفتح فعلى حذف اللام أي لن ينفعكم تمنيكم لأن حقكم أن تشتركوا أنتم وقرناؤكم في العذاب كما كنتم مشتركين في سببه وهو الكفر، ويحتمل أن يكون أن في قراءة الفتح فاعل ينفع أي لن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب. وإن قيل: المصيبة إذا عمت طابت وذلك أن كل أحد مشغول في ذلك اليوم عن حال غيره بحال نفسه. وإِذْ بدل من اليوم ومعناه إذ ظلمكم تبين ووضح لكل أحد.
__________
(1) رواه البخاري في تفسير سورة 18 باب 6 مسلم في كتاب المنافقين حديث 18 ابن ماجه في كتاب الزهد باب 3
(6/92)
ثم إنه صلى الله صلى الله عليه وسلم كان يتحزن على فقد الإيمان منهم فسلاه بقوله أَفَأَنْتَ إلى آخره. وقوله فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ أراد به قبض روحه كقوله في «يونس» وفي «المؤمن» فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ [الآية: 77] الانتقام إما في الآخرة وهو قول الجمهور أو في الدنيا.
عن جابر أنه قال: لما نزلت فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ قال النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أورده في تفسير اللباب.
وقيل: فأما نذهبن بك من مكة فإنا منهم منتقمون يوم بدر. والحاصل أنه تعالى توعد الكفار بعذاب الدنيا والآخرة جميعا. ثم قال لنيه صلى الله عليه وسلم سواء عجلنا لك الظفر والغلبة أو أخرناه إلى الآخرة فكن متمسكا بما أوحينا إليك فإنه الدين الذي لا عوج له، وإنه لشرف لك ولقومك أي لجميع أمتك أو لقريش وسوف تسألون هل أديتم شكر هذه النعمة أم لا. قال أهل التحقيق: في الآية دلالة على أن الذكر الجميل أمر مرغوب فيه لعموم أثره وشموله كل مكان وكل زمان خلاف الحياة المستعارة فإن أثرها لا يجاوز مسكن الحي. قلت: الذكر الجميل جميل ولكن الذكر الحاصل من القرآن أجمل رزقنا الله طرفا من ذلك بعميم فضله. ثم إن السبب الأقوى في بغض الكفار وعداوتهم للنبي صلى الله عليه وسلم إنكاره لأصنامهم، فبين تعالى أنه غير مخصوص بهذه الدعوة وهذا الإنكار ولكنه دين أطبق كل الأنبياء على الدعاء إليه. وفي الآية أقوال: أحدها أن المضاف محذوف تقديره واسأل يا محمد أمم من أرسلنا. وقال القفال: المحذوف صلة التقدير واسأل من أرسلنا إليهم من قبلك رسولا من رسلنا. والمراد أهل الكتابين لأنهم كانوا يرجعون إليهم في كثير من أمورهم نظيره فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ [يونس: 94] ثانيها أن حقيقة السؤال هاهنا ممتنعة ولكنه مجاز عن النظر في أديانهم والفحص عن مللهم. وثالثا أن التقدير: واسأل جبرائيل عمن أرسلنا. ورابعها
أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع له الأنبياء ليلة المعراج في السماء أو في بيت المقدس فأمهم. وقيل له صلى الله عليه وسلم: سلهم. فلم يسأل. وقد قال صلى الله عليه وسلم «إني لا أشك في ذلك» قاله ابن عباس.
وعن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاني ملك فقال: يا محمد سل من أرسلنا من قبلك من رسلنا علام بعثوا؟ قال: قلت علام بعثوا؟ قال: على ولايتك وولاية علي بن أبي طالب رضي الله عنه رواه الثعلبي.
ولكنه لا يطابق قوله سبحانه أَجَعَلْنا الآية. وجوز بعضهم أن يكون مَنْ مبتدأ والاستفهامية خبره والعائد محذوف أي على ألسنتهم، ومعنى الجعل التسمية والحكم. واعلم أن كفار قريش إنما طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة كونه فقيرا خاملا وكان فرعون اللعين قد طعن في موسى بمثل ذلك حيث قال أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ إلى قوله مَهِينٌ [الزخرف: 52] فلا جرم أورد قصة موسى هاهنا تسلية
(6/93)
للنبي صلى الله عليه وسلم. قوله فَلَمَّا جاءَهُمْ معطوف على محذوف تقديره فقال إني رسول رب العالمين. فطالبوه إقامة البينة على دعواه فلما جاءهم إلى آخره. قال جار الله: فعل المفاجأة مع إذا مقدر وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل: فلما جاءهم بآياتنا فاجأ وقت ضحكهم استهزاء أو سخرية. قوله وَما نُرِيهِمْ حكاية حال ماضية. وفي قوله هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وجهان: أحدهما أن كلا منها مثل شبيهتها التي تقدمت، وكل من رأى واحدة منها حكم بأنها حكم كبراها لتكافؤ كل منها في الكبر. وإذا كان هذا الحكم صادقا على كل منها فكلها كبار كما قال الحماسي: من تلق منهم تقل لا قيت سيدهم. مثل النجوم التي يسري بها الساري وثانيها أن يقال: إن الآية الأولى كبيرة والتي تليها أكبر من الأولى، والثالثة أكبر من الثانية، وكذلك ما بعدها. هذا القدر مستفاد من الآية، وأما تفصيل هذا التفضيل فلعله لا يطلع عليه إلا خالقها ومظهرها. وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ السنين ونقص من الثمرات إلى سائر ما ابتلوا به. قالت المعتزلة: لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي إرادة أن يرجعوا فورد عليهم أنه لو أراد رجوعهم لكان. وأجابوا بأنه لو أراد قسرا لكان ولكنه أراد مختارا، وزيف بأنه لو أراد أن يقع طريق الاختيار لزم أن يقع أيضا مختارا. أما الفرق فالصواب أن يقال:
«لعل» للترجي ولكن بالنسبة إلى المكلف كما مر مرارا. وقالوا يا أيه الساحر أي العالم الماهر ولم يكن السحر عندهم ذما بل كانوا يستعظمونه ولهذا قالوا إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ وقيل:
كانوا بعد على كفرهم فلهذا سموه ساحرا. وقولهم إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ وعد منوي إخلافه.
وقولهم ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بعهده عندك من أن دعوتك مستجابة وققد مر في «الأعرف» وَنادى فِرْعَوْنُ أي أمر بالنداء فِي مجامع قَوْمِهِ أو رفع صوته بذلك فيما بين خواصه فانتشر في غيرهم. والأنهار أنهار النيل. قال المفسرون: كانت ثلاثمائة وستين نهرا ومعظمها أربعة: نهر الملك ونهر طالوت ونهر دمياط ونهر منفيس. كانت تجري تحت قصره وقيل: تحت سريره لارتفاعه. وقيل: بين يدي في جناتي وبساتيني. وعن عبد الله ابن المبارك الدينوري في تفسيره: أنه أراد بالأنهار الجياد من الخيل وهو موافق لما جاء في الحديث في فرس أبي طلحة «وإن وجدناه لبحرا» وقال الضحاك: معناه وهذه القواد والجبابرة تحت لوائي. قال النحويون: إما أن تكون الواو عاطفة للأنهار على ملك مصر وتَجْرِي نصب على الحال، أو الواو للحال وما بعده جملة محلها نصب. وفي «أم» أقوال منها قول سيبويه إنها متصلة تقديره أفلا تبصرون أم تبصرون إلا أنه وضع قوله أَنَا خَيْرٌ موضع تُبْصِرُونَ لأنهم إذا قالوا له أنت خير فهم عنده بصراء، فهذا من إنزال السبب منزلة المسبب لأن الإبصار سبب لهذا القول بزعمه. ومنها أنها منقطعة لأنه عدد عليهم أسباب الفضل ثم أضرب عن ذلك ثانيا. أثبت عندكم أني خير. ومنها أن التقدير
(6/94)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
أفلا تبصرون أني خير أم أبصرتم ثم استأنف فقال أنا خير، والمهين من المهانة أي الحقارة والضعف أراد أنه فقير ولا عدد معه ولا عدد وَلا يَكادُ يُبِينُ الكلام لأن عقدته لم تزل بالكلية كما شرحنا في «طه» . وإلقاء الأسورة عليه عبارة عن تفويض مقاليد الملك إليه، كانوا إذا أرادوا تشريف الرجل سوروه بسوار وطوقوه بطوق من ذهب وغيره أي ليس معه آلات الملك والسياسة، أو ليس معه حلية وزي حسن كما أن الملوك يشهرون رسلهم بالخلع والمكرمات وبأشخاص يتبعونهم فلذلك قالوا أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ
به أو يقترن بعضهم ببعض فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ أي حملهم على أن يخفوا له في الطاعة أو استخف عقولهم واستجهلهم فَأَطاعُوهُ وهذه من عادة اللئام كما قيل: العبد لا يردعه إلا العصا:
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا ومعنى آسَفُونا أغضبونا وأغضبوا رسلنا فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً أي متقدمين وعبرة للمتأخرين ليعتبروا من حالهم فلا يقدموا على مثل أفعالهم وإليه المآب.
[سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 89]
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)
وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71)
وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76)
وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81)
سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
(6/95)
القراآت:
يا عبادي بالياء في الحالين: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو.
وقرأ حماد وأبو بكر بفتح الياء. الباقون بغير ياء في الحالين تَشْتَهِيهِ بهاء الضمير:
ونافع وأبو جعفر وابن عامر وحفص. الآخرون: بحذفها وإليه يرجعون بياء الغيبة: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بتاء الخطاب. وَقِيلِهِ بالكسرة: حمزة وعاصم غير المفضل: الآخرون: بالنصب. تعلمون على الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن عامر.
الوقوف:
يَصِدُّونَ هـ أَمْ هُوَ ط جَدَلًا ط خَصِمُونَ هـ إِسْرائِيلَ هـ ط يَخْلُفُونَ هـ وَاتَّبِعُونِ ط مُسْتَقِيمٌ هـ الشَّيْطانُ ج للابتداء بان مع اتصال المعنى مُبِينٌ هـ فِيهِ ج لعطف الجملتين مع الفاء وَأَطِيعُونِ هـ فَاعْبُدُوهُ ط مُسْتَقِيمٌ هـ مِنْ بَيْنِهِمْ ج للابتداء مع الفاء أَلِيمٍ هـ لا يَشْعُرُونَ هـ الْمُتَّقِينَ هـ تَحْزَنُونَ هـ ج لاحتمال كون ما بعده وصفا مُسْلِمِينَ هـ ج لاحتمال أن يكون الَّذِينَ إلى آخر الآية مبتدأ وقوله ادْخُلُوا إلى آخره خبرا، والقول محذوف لا محالة تُحْبَرُونَ هـ وَأَكْوابٍ ج الْأَعْيُنُ ج للعدول مع العطف خالِدُونَ هـ تَعْمَلُونَ هـ تَأْكُلُونَ هـ خالِدُونَ هـ ج لأحتمال ما بعده صفة أو حالا له لا مستأنفا مُبْلِسُونَ هـ ج لاحتمال أن يكون ما بعده مستأنفا أو حالا الظَّالِمِينَ هـ رَبُّكَ ط ماكِثُونَ هـ ج كارِهُونَ هـ مُبْرِمُونَ هـ ج لأن «أم» يصلح جواب الأولى ويصلح استفهاما آخر وَنَجْواهُمْ ط يَكْتُبُونَ هـ الْعابِدِينَ هـ يَصِفُونَ هـ يُوعَدُونَ هـ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ ط الْعَلِيمُ هـ بَيْنَهُما ج السَّاعَةِ ج تُرْجَعُونَ هـ يَعْلَمُونَ هـ يُؤْفَكُونَ هـ ج فالوقف بناء على قراءة النصب، والوصل بناء على قراءة الجر وسيأتي تمام البحث عن إعرابها لا يُؤْمِنُونَ هـ لئلا يوهم أن ما بعده من قيل الرسول سَلامٌ ط للابتداء بالتهديد. قال السجاوندي: من قرأ تعلمون على الخطاب فوقفه لازم لئلا يصير التهديد داخلا في الأمر
(6/96)
بقوله قُلْ قلت: لا محذور فيه لأن السلام سلام توديع لا تعظيم.
التفسير:
هذا نوع آخر من قبائح أقوال كفرة قريش. وفي تفسير المثل وجوه للمفسرين: أحدها أن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا: إذا جاز أن يكون عيسى ابن الله جاز أن تكون الملائكة بنات الله. وانتصب مَثَلًا على أنه مفعول ثان لضرب أي جعل مثلا فالضارب للمثل كافرو إِذا قَوْمُكَ أي المؤمنون مِنْهُ أي من المثل أو من ضربه يَصِدُّونَ أي يجزعون ويضجون وَقالُوا أي الكفار أهذا خير أم هو يعنون الملائكة خير من عيسى. وثانيها ما مر في آخر الأنبياء أنه حين نزل إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ
[الآية: 98]
قال ابن الزبعري للنبي صلى الله عليه وسلم: قد علمت أن النصارى يعبدون عيسى وأمه وعزيرا، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم وخرج القوم وضحكوا وصيحوا فأنزل الله تعالى قوله إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الأنبياء: 101] ونزلت هذه الآية أيضا.
والمعنى ولما ضرب ابن الزبعري عيسى ابن مريم مثلا إذا قومك قريش من هذا المثل يصدون بالكسر والضم أي يرتفع لهم جلبة وصياح فرحا وسرورا بما رأوا من سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العادة قد جرت بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الآخر الفرح. وَقالُوا أَآلِهَتُنا وهي الأصنام خَيْرٌ أَمْ عيسى فإذا كان عيسى من حصب النار كان أمر آلهتنا أهون.
وقيل: من قرأ بالضم فمن الصدود أي من أجل هذا المثل يمنعون عن الحق. وثالثها أنه صلى الله عليه وسلم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح إلها وأن مثله عند الله كمثل آدم، قال كفار مكة: إن محمدا يريد أن نتخذه إلها كما اتخذ النصارى المسيح إلها وضجروا وضجوا وقالوا: آلهتنا خير أم هو يعنون محمدا، وغرضهم أن آلهتهم خير لأنها مما عبدها آباؤهم وأطبقوا عليها فأبطل الله تعالى كلامهم بقوله ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي لم يضربوا هذا المثل لأجلك إلا للجدال والغلبة دون البحث عن الحق بَلْ هُمْ قَوْمٌ من عادتهم الخصومة واللدد. ثم قرر أمر عيسى عليه السلام بقوله إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بأن خلقناه من غير أب وصيرناه عبرة وحاله عجيبة وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ أي بدلا منكم مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ يقومون مقامكم. وقيل: أراد لولدنا منكم يا رجال ملائكة يخلفونكم في الأرض كما يخلفكم أولادكم. والغرض بيان كمال القدرة وأن كون الملائكة في السموات لا يوجب لهم الإلهية ولا نسبا من الله. ثم بين مآل حال عيسى عليه السلام بقوله وَإِنَّهُ يعني عيسى لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ لعلامة من علامات القيامة كما
جاء في الحديث «أنا أولى الناس بعيسى ليس بيني وبينه نبي وأنه أول نازل يكسر الصليب ويقتل الخنزير
(6/97)
ويقاتل الناس على الإسلام» «1»
وقيل: إذا نزل عيسى رفع التكليف. وقيل: ان عيسى كان يحيي الموتى فعلم بالساعة والبعث. وقيل: الضمير في وَإِنَّهُ للقرآن أي القرآن يعلم منه وفيه ثبوت الساعة فَلا تَمْتَرُنَّ بِها فلا تشكن فيها واتبعوني هذه حكاية قول النبي صلى الله عليه وسلم، أو المراد واتبعوا رسولي وشرعي والباقي واضح إلى قوله هَلْ يَنْظُرُونَ وقد مر في آل عمران وفي «مريم» . وقوله أَنْ تَأْتِيَهُمْ بدل من الساعة والْأَخِلَّاءُ جمع خليل ويَوْمَئِذٍ ظرف عَدُوٌّ وهو كقوله إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:
166] ولكن خلة المتقين ثابتة لأن المحبة في الله لا تزول. ومعنى تُحْبَرُونَ تسرون والحبور السرور، والصحاف جمع صحفة وهي القصعة فيها طعام، والأكواب جمع كوب وهو الإبريق لا عروة له. وقد يدور في الخلد أن العروة للكوز أمر زائد على مصلحة الشرب وإنما هو لدفع حاجة كتعليق وتعلق وأهل الجنة فيها براء من أمثال ذلك فلهذا كانت أكوازها أكوابا والله أعلم بأسراره. وَفِيها أي في الجنة. قال القفال: جمع بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الخلق كلهم على تفصيله لم يخرجوا عنه. ثم يقال لهم وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ إلى آخره. ثم وصف حال أهل الجرائم من الكفار أو منهم ومن الفساق على اختلاف بين السني والمعتزلي. ومعنى لا يُفَتَّرُ لا يخفف من الفتور ومبلسون آيسون ساكتون تحيرا ودهشا. ولما أيسوا من فتور العذاب نادَوْا يا مالِكُ وهو اسم خازن النار لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي ليمتنا كقوله فَقَضى عَلَيْهِ [القصص: 15] قال مالك: بعد أربعين عاما أو بعد مائة أو ألف أو قال الله بدليل قوله لَقَدْ جِئْناكُمْ فإنه ظاهر من كلام الله وإن كان يحتمل أن يكون قول الملائكة. قال أهل التحقيق: سمى خازن النار مالكا لأن الملك علقة والتعلق من أسباب دخول النار كما سمى خازن الجنة رضوانا لأن الرضا بحكم الله سبب كل راحة وسعادة وصلاح وفلاح. ثم عاد إلى توبيخ قريش وتجهيلهم والتعجيب من حالهم فقال أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً والإبرام الإحكام والمعنى أنهم كلما أحكموا أمرا في المكر بمحمد صلى الله عليه وسلم فإنا نحكم أمرا في مجازاتهم. وقال قتادة: أجمعوا على التكذيب وأجمعنا على التعذيب، وذلك أنهم اجتمعوا في دار الندوة وأطبقوا على الاغتيال بمحمد صلى الله عليه وسلم وتناجوا في ذلك فكف عنه شرهم وأوعدهم عليه بأنه يعلم سرهم وهو ما حدّث
__________
(1) رواه البخاري في كتاب المظالم باب 31 مسلم في كتاب الإيمان حديث 242، 343 أبو داود في كتاب الملاحم باب 14 الترمذي في كتاب الفتن باب 54 ابن ماجه في كتاب الفتن باب 33 أحمد في مسنده (2/ 240، 272)
(6/98)
به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال. ونجواهم وهي ما تكلموا به فيما بينهم على سبيل الخفية أيضا.
ثم أكد علمه بأن حفظة الأعمال يكتبونه، ثم برهن على نفي الولد عن نفسه فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ وهذه قضية شرطية جزآها ممتنعان إلا أن الملازمة صادقة نظيره قولك: إن كانت الخمسة زوجا فهي منقسمة بمتساويين.
وهذا على سبيل الفرض والتقدير، وبيان الملازمة أن الولد يجب محبته وخدمته لرضا الوالد وتعظيمه، فلو كان المقدم حاصلا في الواقع لزم وقوع التالي عادة وإنما ادعى أوليته في العبادة لأن النبي متقدم في كل حكم على أمته خصوصا فيما يتعلق بالأصول كتعظيم المعبود وتنزيهه، لكن التالي غير واقع فكذا المقدم وهذا الكلام ظاهر الإلزام، واضح الإفحام، قريب من الأفهام، لا حاجة فيه إلى تقريب المرام. وأما المفسرون الظاهريون لا دراية لهم بالمعقول فقد ذكروا فيه وجوها متكلفة منها: إن كان للرحمن ولد في زعمكم فأنا أول الموحدين لله. ومنها إن كان له ولد في زعمكم فأنا أول الآنفين من أن يكون له ولد. يقال: عبد بالكسر يعبد بالفتح إذا اشتد أنفه. ومنها جعل «إن» نافية أي ما كان للرحمن ولد فأنا أول من قال بذلك، ووحد ثم نزه نفسه عما لا يليق بذاته، ثم أمر نبيه أن يتركهم في باطلهم واللعب بدنياهم حتى يلاقوا القيامة. ثم مدح ذاته بقوله وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ أي معبود كما مر في قوله وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ [الأنعام: 3] والتقدير وهو الذي هو في السماء إله إلا أنه حذف الراجع لطول الكلام. ثم أبطل قول الكفرة إن الأصنام تنفعهم. وقوله إِلَّا مَنْ شَهِدَ استثناء منقطع أي لكن من شهد بالتوحيد عن علم وبصيرة هو الذي يملك الشفاعة، ويجوز أن يكون متصلا لأن من جملة من يدعونهم الملائكة وعيسى وعزيزا. وجوز أن تكون اللام محذوفة لأن الشفاعة تقتضي مشفوعا له أي لمن شهد بالحق وهم المؤمنون قال بعض العلماء وَهُمْ يَعْلَمُونَ دلالة على أن إيمان المقلد وشهادته غير معتبر. ثم كرر ما ذكر في أول السورة قائلا وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ والغرض التعجيب من حالهم أنهم يعترفون بالصانع ثم يجعلون له أندادا. وقيل:
الضمير في سَأَلْتَهُمْ للمعبودين. من قرأ وَقِيلِهِ بالنصب فعن الأخفش أنه معطوف على سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ أو المراد وقال قيله أي قوله، والضمير للنبي صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكره بالكناية في قوله قُلْ إِنْ كانَ وعن أبي علي أنه يعود إلى عيسى، وفيه تسلية لمحمد صلى الله عليه وسلم.
ويحتمل أن يكون النصب بالعطف على محل الساعة أي وعنده علم الساعة وعلم قيله كقراءة من قرأ بالجر. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بأعمال الخلق الحسن معهم إلى أوان النصر وهو ظاهر والله أعلم بالتوفيق.
(6/99)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
(سورة الدخان)
(مكية حروفها ألف وأربعمائة وأربعون كلماتها ثلاثمائة وأربعون آياتها تسع وخمسون)
[سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 59]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)
فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)
إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19)
وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)
وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34)
إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44)
كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54)
يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
(6/100)
القراآت:
رَبِّ السَّماواتِ بالجر على البدل مِنْ رَبِّكَ: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بالرفع أني آتيكم بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو ترجموني فاعتزلوني بالياء في الحالين: يعقوب وأفق ورش وسهل وعباس في الوصل لي بالفتح: ورش فكهين بغير الألف: يزيد يَغْلِي على التذكير والضمير للطعام: ابن كثير وحفص والمفضل ورويس وابن مجاهد عن ابن ذكوان. الباقون: بتاء التأنيث والضمير للشجرة فاعتلوه بضم التاء: ابن كثير ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب. الآخرون: بالكسر ذق أنك بفتح الهمزة على حذف لام التعليل. في مقام بضم الميم من الإقامة: أبو جعفر ونافع وابن عامر.
الوقوف:
حم كوفي هـ الْمُبِينِ هـ لا ومن لم يقف على حم وقف على الْمُبِينِ مُنْذِرِينَ هـ حَكِيمٍ هـ ط بناء على أن التقدير أمرنا أمرا مِنْ عِنْدِنا ط مُرْسِلِينَ هـ ج لاحتمال أن رَحْمَةً مفعول له أو به أو التقدير رحمنا رحمة مِنْ رَبِّكَ ط الْعَلِيمُ هـ لا لمن خفض رَبِّ بَيْنَهُما ط مُوقِنِينَ هـ وَيُمِيتُ ط الْأَوَّلِينَ هـ يَلْعَبُونَ هـ مُبِينٍ هـ ط النَّاسَ ط أَلِيمٌ هـ مُؤْمِنُونَ هـ مُبِينٌ هـ لا للعطف مَجْنُونٌ هـ لئلا يوهم أن ما بعده من قول الكفار عائِدُونَ هـ م لئلا يظن أن ما بعده ظرف للعود الْكُبْرى ج لاحتمال التعليل مُنْتَقِمُونَ هـ كَرِيمٌ هـ لا عِبادَ اللَّهِ ط أَمِينٌ هـ عَلَى اللَّهِ ج مُبِينٍ هـ ج تَرْجُمُونِ هـ فَاعْتَزِلُونِ هـ مُجْرِمُونَ هـ مُتَّبَعُونَ هـ لا رَهْواً ط مُغْرَقُونَ هـ وَعُيُونٍ هـ لا كَرِيمٍ هـ لا فاكِهِينَ هـ لا لأن المعنى تركوها مهيأة كما كانت آخَرِينَ هـ مُنْظَرِينَ هـ الْمُهِينِ
(6/101)
هـ لا مِنْ فِرْعَوْنَ ط الْمُسْرِفِينَ هـ الْعالَمِينَ هـ ج مُبِينٌ هـ لَيَقُولُونَ هـ لا بِمُنْشَرِينَ هـ صادِقِينَ هـ تُبَّعٍ لا للعطف مِنْ قَبْلِهِمْ ط لتناهي الاستفهام إلى ابتداء الأخبار أَهْلَكْناهُمْ ج لأن التعليل أوضح مُجْرِمِينَ هـ لاعِبِينَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ أَجْمَعِينَ هـ لا لأن ما بعده بدل وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ هـ لا رَحِمَ اللَّهُ ط الرَّحِيمُ هـ الْأَثِيمِ هـ ج لاحتمال أن يكون كَالْمُهْلِ خبرا بعد خبر أو خبر مبتدأ محذوف فِي الْبُطُونِ لا الْحَمِيمِ هـ الْجَحِيمِ هـ الْحَمِيمِ هـ ط لأن التقدير قولوا أو يقال له ذق الْكَرِيمُ هـ تَمْتَرُونَ هـ أَمِينٍ هـ لا عُيُونٍ
هـ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال مُتَقابِلِينَ هـ ج لاحتمال أن يراد كما ذكرنا من حالهم قبل أو يكون التقدير الأمر كذلك عِينٍ هـ ج لئلا يوهم أن ما بعده صفة للحور آمِنِينَ هـ لا لأن ما بعده صفة فإن الأمن لا يتم إلا به الْأُولى ج لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا بإضمار قد الْجَحِيمِ هـ لا لأن فَضْلًا مفعول له مِنْ رَبِّكَ ط الْعَظِيمُ هـ يَتَذَكَّرُونَ هـ مُرْتَقِبُونَ هـ.
التفسير:
أقسم بالقرآن إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ لأن من شأننا الإنذار والتخويف من العقاب وإنما أنزل في هذه الليلة خصوصا لأن إنزال القرآن أشرف الأمور الحكمية، وهذه الليلة يفرق فيها كل أمر ذي حكمة فالجملتان- أعني قوله إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ كالتفسير لجواب القسم قال صاحب النظم: ليس من عادتهم أن يقسموا بنفس الشيء إذا أخبروا عنه فجواب القسم إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ وقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ اعتراض.
والجمهور على الأول ولا بأس لأن المعنى إنا أنزلنا القرآن على محمد ولم يتقوله، ويحتمل أن القسم وقع على إنزاله في ليلة مباركة. وأكثر المفسرين على أنها ليلة القدر لقوله إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر: 1] وليلة القدر عند الأكثرين من رمضان. ونقل محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن قتادة أنه قال: نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان، والتوراة لست ليال منه، والزبور لاثنتي عشرة مضت، والإنجيل لثمان عشرة منه، والفرقان لأربع وعشرين مضت، والليلة المباركة هي ليلة القدر. وزعم بعضهم كعكرمة وغيره أنها ليلة النصف من شعبان. وما رأيت لهم دليلا يعوّل عليه. قالوا: وتسمى ليلة البراءة أيضا وليلة الصك لأن الله تعالى يكتب لعباده المؤمنين البراءة من النار في هذه الليلة.
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى في هذه الليلة مائة ركعة أرسل الله تعالى إليه مائة ملك ثلاثون يبشرونه بالجنة وثلاثون يؤمنونه من عذاب النار وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا وعشرا يدفعون عنه مكايد الشيطان.»
وقال «إن الله يرحم أمتي في هذه الليلة بعدد
(6/102)
شعر أغنام بني كلب.»
وقال: «إن الله يغفر لجميع المسلمين في تلك الليلة إلا لكاهن أو ساحر أو ساخر أو مدمن خمر أو عاق للوالدين أو مصر على الزنا»
ومما أعطى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم تمام الشفاعة وذلك أنه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمته فأعطى الثلث منها، ثم سأل ليلة الرابع عشر منها فأعطى الثلثين، ثم سأل ليلة الخامس عشر فأعطى الجميع إلا من شرد على الله شراد البعير. ومن عادة الله عز وجل في هذه الليلة أن يزيد فيها ماء زمزم زيادة ظاهرة. وبعضهم أراد أن يجمع بين القولين فقال: ابتدئ بانتساخ القرآن من اللوح المحفوظ ليلة البراءة ووقع الفراغ في ليلة القدر. والمباركة الكثيرة الخير ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة. ومعنى يُفْرَقُ يفصل ويكتب كُلُّ أَمْرٍ هو ضد النهي أو كل أمر له شأن من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم إلى العام القابل، فيدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، ونسخة الحروب والزلازل والصواعق والخسوف إلى جبرائيل، ونسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا، ونسخة المصائب إلى ملك الموت. وقيل: يعطى كل عامل بركات أعماله فيلقى على ألسنة الخلق مدحه وعلى قلوبهم هيبته. وفي انتصاب أَمْراً وجوه: إما أن يكون حالا من أَمْرٍ حَكِيمٍ لأنه قريب من المعرفة أو من الهاء في أَنْزَلْناهُ أو من الفاعل أي آمرين، أو على المصدر لأمر، أو على الاختصاص لأن كونه من عند الله يوجبه مزيد شرف وفخامة، أو يكون مصدرا من غير لفظ الفعل وهو يُفْرَقُ لأنه إذا حكم بالشيء وفصله وكتبه فقد أوجبه وأمر به قوله إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ يجوز أن يكون بدلا من قوله تعالى إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ أي أنزلنا القرآن لأن من شأننا إرسال الرسل وإنزال الكتب إلى عبادنا لأجل الرحمة، ويحتمل كونه تعليلا ليفرق، أو لقوله أَمْراً مِنْ عِنْدِنا وقوله مِنْ رَبِّكَ وضع للظاهر موضع الضمير إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة. ثم حقق ربوبيته بقوله إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ إلى قوله الأولين. ومعنى الشرط في قوله إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ نظير ما هو في أول الشعراء وذلك أنهم كانوا مقرين بأنه رب السموات والأرض. قيل لهم: إن كنتم على بصيرة وإيقان من ذلك فلا تشكوا فيه، أو إن كنتم موقنين بشيء فأيقنوا بما أخبرتكم، أو إن كنتم تريدون اليقين فاعلموا ذلك. وقيل: إن نافية ثم رد أن يكونوا موقنين بقوله بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ في الدنيا أو يستهزؤن بنا فلا جرم أوعدهم بقوله فَارْتَقِبْ ويَوْمَ مفعول به أي انتظره. والأكثرون على أن هذا الدخان من أمارات القيامة فإن الدنيا ستصير كبيت لاخصاص له مملوء دخانا يدخل في أنوف الكفار وآذانهم فيكونون كالسكارى، ويصيب المؤمن فيه كالزكام فيبقى ذلك أربعين.
وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(6/103)
«أول الآيات الدخان ونزول عيسى ابن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر» «1»
أبين بكسر الهمزة وفتحها اسم رجل بنى هذه البلدة ونزل بها. وقيل: الدخان يكون في القيامة إذا خرجوا من قبورهم يحيط بالخلائق ويغشاهم. وقيل: الدخان الشر والفتنة. وعن ابن مسعود: خمس قد مضت الروم والدخان والقمر والبطشة واللزام. وذلك
أن قريشا لما استصعبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني ويوسف.
فأصابهم اللزام وهو القحط حتى أكلوا الجيف، وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان فيسمع كلام صاحبه ولا يراه من الدخان.
فمشى إليه صلى الله عليه وسلم أبو سفيان ونفر معه وناشدوه الله والرحم، وواعدوه إن دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا. فلما كشف عنهم من الدخان رجعوا إلى شركهم وذلك قوله هذا عَذابٌ أي قائلين هذا إلى آخره.
ثم استبعد منهم الاتعاظ بقوله أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ ما هو أعظم من كشف الدخان وهو القرآن المعجز وغيره فلم يتذكروا وتَوَلَّوْا عَنْهُ واتهموه صلى الله عليه وسلم بأنه إنما يعلمهن بشر ونسبوه إلى الجنون. ومعنى «ثم» تبعيد الحالتين. ثم بين أنهم يعودون إلى الكفر عقيب كشف العذاب عنهم زمانا قليلا. واعلم أن ارتدادهم إلى الكفر أمر ممكن سواء يجعل الدخان من أمارات القيامة أو يقال إنه قد مضى. والبطشة الكبرى القيامة أو يوم بدر على التفسيرين. ويَوْمَ ظرف لما دل عليه منتقمون فإن ما بعد «أن» لا يعمل فيما قبله.
وقيل: بدل من يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقصة موسى. ومعنى فَتَنَّا امتحنا وقد وصفه بالكرم لأنه كان حبيبا في قومه أو بكرم خلقه، أو المراد أنه لم يخاشنهم في التبليغ كما قال فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] و «أَنْ» مفسرة لأن مجيء الرسول يتضمن القول، أو مخففة من الثقيلة، أو مصدرية والياء محذوف. وعِبادَ اللَّهِ مفعول به لقوله فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ [طه: 47] أو منادى والمعنى أدوا إليّ يا عباد الله ما هو واجب عليكم من الإيمان والطاعة. والقصة مذكورة في «الشعراء» وغيرها وأَنْ تَرْجُمُونِ أن تقتلون أو تشتمون بالنسبة إلى الكذب والسحر وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي أي لم تصدقوني ففارقوني وكونوا بمعزل عني لا عليّ ولا لي فَدَعا رَبَّهُ شاكيا أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ مصرون على الكفر فَأَسْرِ أي فأجبنا دعاءه وقلنا له أسر وكان من دعائه اللهم عجل لهم
__________
(1)
رواه مسلم في كتاب الفتن باب 39 أبو داود في كتاب الملاحم باب 12 ابن ماجه في كتاب الفتن باب 28 أحمد في مسنده (4/ 6) بلفظ «ترون عشر آيات: الدخان والدجال.... ونزول عيسى....»
(6/104)
ما يستحقونه بإجرامهم. ويحتمل أن يكون الدعاء وهو ما في «يونس» رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ [الآية: 88] وفي رَهْواً وجهان: أحدهما ساكنا أي لا تضربه. ثانيا واتركه على هيئته من انتصاب الماء وكون الطريق يبسا. وذلك أن موسى أراد أن يضربه ثانيا حتى ينطبق ويزول الانفاق خوفا من أن يدركهم قوم فرعون، والله تعالى أراد أن يدخل القبط البحر ثم يطبقه عليهم، وثانيهما أن الرهو الفجوة الواسعة أي اتركه مفتوحا منفجرا على حاله. والنعمة بفتح النون التنعم والباقي مذكور في «الشعراء» . وقوله فَما بَكَتْ كان إذا مات الرجل الخطير قالوا في تعظيم مصيبته بكت عليه السماء والأرض وأظلمت الدنيا، ومنه
الحديث «وما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء»
وفيه تمثيل وتخييل وتهكم بهم أنهم كانوا يستعظمون أنفسهم ويعتقدون أنهم لو ماتوا لقال الناس فيهم ذلك، فأخبر ما كانوا في هذا الحد بل كانوا أنهم دون ذلك. وجوز كثير من المفسرين أن يكون البكاء حقيقة وجعلوا الخسوف والكسوف والحمرة التي تحدث في السماء وهبوب الرياح العاصفة من ذلك.
قال الواحدي في البسيط: روي أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «ما من عبد إلا له في السماء بابان باب يخرج منه رزقه وباب يدخل فيه عمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه وتلا هذه الآية.»
ثم إن هؤلاء الكفار لم يكن لهم عمل صالح يصعد إلى السماء فلا جرم لم تبك عليهم. وعن الحسن: أراد أهل السماء والأرض أي ما بكت عليهم الملائكة والمؤمنون بل كانوا بهلاكهم مسرورين وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ أي لما جاء وقت هلاكهم لم يمهلوا إلى الآخرة بل عجل لهم في الدنيا. قوله مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من العذاب بل جعل في نفسه عذابا مهينا لشدة شكيمته وفرط عتوه.
وقيل: المضاف محذوف أي من عذابه. وقيل: تقديره المهين الصادر من فرعون، وفي قراءة ابن عباس مِنْ فِرْعَوْنَ على الاستفهام أي ما ظنكم بعذاب من تعرفونه أنه عال قاهر عات مجاوز حد الاعتدال. ثم ثنى على بني إسرائيل بقوله وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ بإيتاء الملك والنبوة عَلى عِلْمٍ منا باستحقاقهم ذلك وقيامهم بالشكر عليه على عالمي زمانهم. ولا ريب أن هذا قبل التحريف. وقيل: أي على علم منا بأنه يبدو منهم بوادر وتفريطات والبلاء النعمة أو المحنة، والآيات هي التسع وغيرها.
ثم عاد إلى ما انجر الكلام فيه وهو قوله بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ فقال إِنَّ هؤُلاءِ يعني كفار قريش لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى قال المفسرون: يؤل إلى ما حكى عنهم في موضع آخر إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا [المؤمنون: 37] وذلك أن النزاع إنما وقع في موتة تعقبها حياة فأنكروا أن تكون موتة بهذا الوصف إلا الموتة الأولى وهو
(6/105)
حال كونهم نطفا. ويحتمل أن يراد إن هي أي الصفة أو النهاية أو الحالة أو العاقبة إلا الموتة الأولى، وليست إثباتا لموتة ثانية إنما هو كقولك: حج فلان الحجة الأولى، ومات وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ أنشر الله الموتى أحياهم فَأْتُوا أيها النبي والذين آمنوا معه بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ
يروى أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل الله لهم إحياء الموتى فينشر كبيرهم قصي بن كلاب ليشاوروه في صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصحة البعث،
فلم يجبهم الله تعالى إلى ذلك ولكنه أوعدهم بقوله أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ أي ليسوا بخير منهم في العدد والعز والمنعة. ابن عباس: تبع نبي.
أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا أدري تبع نبيا كان أم غير نبي»
رواه الثعلبي عن عائشة كان رجلا صالحا ذم الله قومه ولم يذمه. وإنما خصهم بالذكر لقربهم من العرب زمانا ومكانا. وعن سعيد بن جبير كسا البيت. وقال قتادة: كان من حمير سار فبنى الحيرة وسمرقند. وقال أبو عبيدة: هم ملوك اليمن يسمى كل واحد منهم تبعا لكثرة تبعه، أو لأنه يتبع صاحبه وهو بمنزلة الخليفة للمسلمين، وكسرى للفرس، وقيصر للروم، وجمعه تبابعة، وكان يكتب إذا كتب بسم الذي ملك برا وبحرا. ثم برهن على صحة البعث بقوله وما خَلَقْناهُما إلى آخره، وقد مر في «الأنبياء» وفي «ص» نظيره.
وإنما جمع السموات هاهنا لموافقة قوله في أول السورة رَبِّ السَّماواتِ وسمى يوم القيامة يوم الفصل لأنه يفصل بين عباده في الحكم والقضاء، أو يفصل بين أهل الجنة وأهل النار، أو يفصل بين المؤمنين وبين ما يكرهون وللكافرين بينهم وبين ما يشتهونه فيفصل بين الوالد وولده والرجل وزوجته والمرء وخليله. والمولى في الآية يحتمل الولي والناصر والمعين وابن العم، والمراد أن أحدا منهم بأي معنى فرض لا يتوقع منه النصرة.
والضمير في لا هُمْ يُنْصَرُونَ للمولى الثاني لأنه جمع في المعنى لعمومه وشياعه. وقوله إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ في محل الرفع على البدل أو في محل النصب على الاستثناء إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على من عصى الرَّحِيمُ لمن أطاع. ثم أراد أن يختم السورة بوعيد الفجار ووعد الأبرار فقال إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ وقد مر تفسيرها في الصافات. والْأَثِيمِ مبالغة الآثم ولهذا يمكن أن يقال: إنه مخصوص بالكافر. والمهل دردي الزيت وقد مر في «الكهف» . ولعل وجه التشبيه هو بشاعة الطعم كما أن الوجه في قوله طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصافات: 65] هو كراهة المنظر ثم وصفه بشدة الحرارة قائلا يَغْلِي إلى آخره. ثم أخبر أنه سبحانه يقول للزبانية خُذُوهُ أي خذوا الأثيم فَاعْتِلُوهُ جروه بعنف وغلظة كأن يؤخذ بتلبيبه فيجر إلى وسط النار. ومنه العتل للجافي الغليظ. وقوله مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ دون أن يقول «من الحميم» تهويل سلوك لطريق الاستعارة لأنه إذا صب عليه الحميم فقد صب عليه عذابه وشدته.
يروي أن أبا جهل قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما بين
(6/106)
جبليها أعز ولا أمنع مني فو الله ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي «شيئا» فنزلت الآية.
أي يقال له ذق لأنك أنت العزيز الكريم عند نفسك وفيه من التهكم ما فيه إِنَّ هذا العذاب ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ تشكون. ثم شرع في وعد الأبرار والمقام الأمين ذو الأمن، أو أصله من الأمانة لأن المكان المخيف كأنما يخوف صاحبه بما يلقى فيه من المكاره.
وقوله وَزَوَّجْناهُمْ اختلفوا في أن هذا اللفظ هل يدل على حصول عقد التزوج أم لا.
والأكثرون على نفيه، وأن المراد قرناهم بهن. وقيل: زوجته امرأة وزوجته بامرأة لغتان.
وهكذا اختلفوا في الحور. فعن الحسن: هن عجائزكم ينشئهن الله خلقا آخر. وقال أبو هريرة: لسن من نساء الدنيا. يَدْعُونَ أي يحكمون ويأمرون في الجنة بإحضار ما يشتهون من الفواكه في أي وقت ومكان آمِنِينَ من التخم والتبعات، ثم أخبر عن خلودهم بقوله لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى قال جار الله: هو من باب التعليق بالمحال كأنه قيل: إن كانت الموتة الأولى يستقيم ذوقها في المستقبل فإنهم يذوقونها. وقيل: الاستثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى قد ذاقوها. وقال أهل التحقيق:
إن الجنة حقيقتها ابتهاج النفس وفرحها بمعرفة الله وبمحبته. فالإنسان الكامل هو في الدنيا في الجنة. وفي الآخرة أيضا في الجنة فقد صح أنه لم يذق في الجنة إلا الموتة الأولى. ثم ختم الكلام بفذلكته والمعنى ذكرناهم بالكتاب المبين فأسهلناه حيث أنزلناه بلغتك إرادة تذكرهم فانتظر ما يحل فإنهم يتربصون بك الدوائر.
(6/107)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
(سورة الجاثية)
(مكية حروفها ألفان ومائة وأحد وستون كلمها أربعمائة وثمان وثمانون آياتها سبع وثلاثون)
[سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 37]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)
وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9)
مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15) وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)
هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34)
ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
(6/108)
القراآت:
وَفِي خَلْقِكُمْ مدغما: عباس. آيات بالنصب في الموضعين: حمزة وعلي ويعقوب الريح على التوحيد: حمزة وعلي وخلف يُؤْمِنُونَ على الغيبة:
أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل وحفص أَلِيمٌ مذكور في «سبأ» لنجزي بالنون: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف لِيَجْزِيَ بالياء مبنيا للمفعول قوم بالرفع:
يزيد. الباقون: مبنيا للفاعل قَوْماً سواء بالنصب: حمزة وعلي وخلف وحفص وروح وزيد غشاوة بفتح الغين وسكون الشين من غير ألف: حمزة وعلي وخلف 3 كل أمة تدعي بالنصب على الإبدال من الأول: يعقوب الساعة بالنصب: حمزة لا يُخْرَجُونَ من الخروج حمزة وعلي وخلف.
الوقوف:
حم كوفي هـ الْحَكِيمِ هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ ط ومن نصب، آياتٌ لم يقف لأنه عطف المفردين على المفردين وهما الخبر واسم أن المفردين يُوقِنُونَ هـ لا للعطف على عاملين كما يجيء يَعْقِلُونَ هـ بِالْحَقِّ ج للاستفهام مع الفاء يُؤْمِنُونَ هـ أَثِيمٍ هـ يَسْمَعْها ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب أَلِيمٍ هـ هُزُواً ط مُهِينٌ هـ ط لأنه لو وصل اشتبه بأنها وصف عَذابٌ جهنم ج لعطف المختلفين أَوْلِياءَ ج لذلك عَظِيمٌ هـ هُدىً ط لأن ما بعده مبتدأ مع العاطف أَلِيمٌ هـ
(6/109)
تَشْكُرُونَ هـ ج للآية مع العطف مِنْهُ ط يَتَفَكَّرُونَ ج يَكْسِبُونَ هـ فَلِنَفْسِهِ ج فَعَلَيْها ز لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع اتحاد القصة تُرْجَعُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ ج للآية والعطف مِنَ الْأَمْرِ ج لعطف المختلفين بَيْنَهُمْ ط يَخْتَلِفُونَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ شَيْئاً ج بَعْضٍ ج للتمييز بين الحالين المختلفين مع اتفاق الجملتين الْمُتَّقِينَ هـ يُوقِنُونَ هـ الصَّالِحاتِ
قف ومن نصب سَواءً
لم يقف. وَمَماتُهُمْ
ط يَحْكُمُونَ
هـ لا يُظْلَمُونَ هـ غِشاوَةً ط مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ط تَذَكَّرُونَ هـ الدَّهْرُ ج لاحتمال الواو الحال مِنْ عِلْمٍ ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى يَظُنُّونَ هـ صادِقِينَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط الْمُبْطِلُونَ هـ جاثِيَةً قف لمن قرأ كُلَّ بالرفع كِتابِهَا ط تَعْمَلُونَ هـ بِالْحَقِّ هـ ط تَعْمَلُونَ هـ فِي رَحْمَتِهِ ط الْمُبِينُ هـ مُجْرِمِينَ هـ مَا السَّاعَةُ لا تحرزا عن الابتداء بقول الكفار بِمُسْتَيْقِنِينَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ ناصِرِينَ هـ الدُّنْيا ج للعدول عن الخطاب إلى الغيبة يُسْتَعْتَبُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ وَالْأَرْضِ ص لعطف الجملتين المتفقتين الْحَكِيمُ هـ.
التفسير:
إعراب أول السورة وتفسيرها كإعراب أول «المؤمن» وتفسيره وقوله إِنَّ فِي السَّماواتِ إما أن يكون على ظاهره وآياتها الشمس والقمر والنجوم وحركاتها وأوضاعها وكذا العناصر والمواليد التي في الأرض مما يعجز الحاصر عن إدراك أعدادها، وإما أن يراد إن في خلق السموات والأرض فالآيات تشمل ما عددنا مع زيادة هيئتهما وما يتعلق بتشخيصهما. استدل الأخفش بالآية الثالثة على جواز العطف على عاملين مختلفين وهما في قراءة النصب «أن» وفي أقيمت الواو مقامهما فعملت الجر في اختلاف الليل، والنصب في آيات وهما في قراءة الرفع الابتداء وفي. وخرج لسيبويه في جوابه وجهان: أحدهما أن قوله لَآياتٍ تكرار محض للتأكيد فقط من غير حاجة إلى ذكرها كما تقول: إن في الدار زيدا وفي الحجرة زيدا والمسجد زيدا، وأنت تريد أن في الدار زيدا والحجرة والمسجد.
والثاني إضمار في لدلالة الأول عليه، ويحتمل أن ينتصب لَآياتٍ على الاختصاص.
ويرتفع بإضمار هي. وتفسير هذه الآيات قد مر في نظائرها مرارا ولا سيما في أواسط «البقرة» ومما يختص بالمقام أنه خص المؤمنين بالذكر أولا ثم قال لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ثم يَعْقِلُونَ فما سبب هذا الترتيب؟ قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: أراد إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإلا فإن كنتم طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل، وقال جار الله: معناه إن المنصفين من العباد إذا نظروا في السموات
(6/110)
والأرض النظر الصحيح علموا أنها لا بد لها من صانع فآمنوا به وأقروا، فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال. وفي خلق ما بث من الدواب على ظهر الأرض، ازدادوا إيمانا وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس، وإذا نظروا في سائر الحوادث كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار التي هي سبب الأرزاق وحياة الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح جنوبا وشمالا وقبولا ودبورا، عقلوا واستحكم عقلهم وخلص يقينهم. وأقول: الدلائل المذكورة في هذه الآيات قسمان: نفسية وخارجية. فالنفسية أولى بالإيقان لأنه لا شيء أقرب إلى الإنسان من نفسه، والخارجية بعضها فلكية وبعضها آثار علوية. فالفلكية لبعدها عن الإنسان اكتفى فيها بمجرد التصديق، وأما الآثار العلوية فكانت أولى بالنظر والاستدلال لقربها وللإحساس بها فلا جرم خصت بالتعقل والتدبر، وأما تقديم السموات على الأرض فلشمولها ولتقدمها في الوجود. تِلْكَ مبتدأ والتبعيد للتعظيم والمشار إليها الآيات المتقدمة ونَتْلُوها في محل الحال. وقوله بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ كقولهم: أعجبني زيد وكرمه. وأصله بعد آيات الله. والمعنى أن من لم يؤمن بكلام الله فلن يؤمن بحديث سواه.
وقيل: معناه القرآن آخر كتب الله، ومحمد آخر رسله. فإن لم يؤمنوا به فبأي كتاب بعده يؤمنون ولا كتاب بعده ولا نبي. ثم أوعد الناس المبالغين في الإثم وقد مر ما في الآية في سورة لقمان. قوله وَإِذا عَلِمَ أي شعر وأحس بأنه من جملة القرآن المنزل خاض في الاستهزاء، وإذا وقف على آية لها محل في باب الطعن والقدح افترضه وحمله على الوجه الموجب للطعن كاعتراض ابن الزبعري في قوله إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء: 98] وإنما أنّث الضمير في قوله اتَّخَذَها لأن الشيء في معنى الآية أو لأنه أراد أن يتخذ جميع الآيات هزوا ولا يقتصر على الاستهزاء بما بلغه. قوله مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ كل ما توارى عنك فهو وراء تقدم أو تأخر، وقد مر في سورة إبراهيم عليه السلام هذا هُدىً أي هذا القرآن كامل في باب الهداية والإرشاد. ثم ذكر دليلا آخر على الوحدانية وهو تسخير البحر لبني آدم وقد سبق وجه الدلالة مرارا. وقوله وَلِتَبْتَغُوا أي بسبب التجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان أو باستخراج اللحم الطري. ثم عمم بعد التخصيص وقوله مِنْهُ في موضع الحال أي سخر جميع ما في السموات والأرض كائنة منه، يريد أنه أوجدها بقدرته وحكمته ثم سخرها لخلقه، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه النعم كلها منه.
عن ابن عباس برواية عطاء أن الصحابة نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر- يقال لها المريسيع- فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر قعد على رأس البئر فما ترك أحدا يستقي حتى ملأ قرب النبي
(6/111)
وقرب أبي بكر وملأ لمولاه. فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك فبلغ قوله عمر فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يعني عمر يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لا يتوقعون وقائعه بأعداء الله أو لا يأملون قوة المؤمنين في أيام الله الموعودة لهم، والمراد الصفح والإعراض. عن عبد الله بن أبي وفي رواية ميمون بن مهران عن ابن عباس: لما نزلت مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ [البقرة: 245] قال اليهودي فنحاص بن عازوراء: احتاج رب محمد فبلغ ذلك عمر فأخذ سيفه فخرج في طلبه، فجاء جبرائيل وأنزل الآية هذه. وليس المقصود أن لا تقتلوا ولا تقاتلوا حتى يلزم نسخها بآية القتال كما ذهب إليه كثير من المفسرين، ولكن الأولى أن يحمل على ترك المنازعة في المحقرات وفي أفعالهم الموحشة المؤذية، وإنما نكر قَوْماً مع أنه أراد بقوم الذين آمنوا وهم معارف ليدل على مدحهم والثناء عليهم كأنه قيل: لنجزي قوما كاملين في الصبر والإغضاء على أذى الأعداء بما يكسبون من الثواب العظيم بكظم الغيظ واحتمال المكروه، وقيل: القوم هم الكافرون الكاملون في النفاق. ثم فصل الجزاء وعمم الحكم بقوله مَنْ عَمِلَ صالِحاً الآية.
ثم بين أن للمتأخرين من الكفار أسوة بالمتقدمين منهم والكتاب التوراة والحكم بيان الشرائع والبينات من الأمر أدلة أمور الدين. وقال ابن عباس: يريد أنه تبين لهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مهاجر من تهامة إلى يثرب. وقيل: هي المعجزات القاهرة على صحة نبوة موسى. فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ فيه احتمالان: أحدهما علموا ثم عاندوا، والثاني جاءهم أسباب المعرفة التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق ولكنهم أظهروا النزاع حسدا. ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ أي منهاج وطريقة مِنَ الْأَمْرِ أمر الدين وقيل:
من الأمر الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا. قال الكلبي: إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ارجع إلى ملة آبائك وهم كانوا أفضل منك وأسن فزجره الله تعالى عن ذلك بقوله وَلا تَتَّبِعْ إلى آخره أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة لصرت مستحقا للعذاب وهم لا يقدرون على دفعه عنك. ثم أشار بعد النهي عن اتباع أهوائهم بقوله وَلا تَتَّبِعْ أتباعهم إلى الفرق بين ولاة الظالمين وهم أشكالهم من الظلمة، وبين ولي المتقين وهو الله سبحانه. ومن جملة آثار ولايته وبركة عنايته هذا القرآن. وقيل: ما تقدم من اتباع الشريعة وترك طاعة الظالم وجعل القرآن مشارا إليه أولى لقوله بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ إلى آخره. وقد مر في آخر «الأعراف» مثله. ثم بين الفرق بين الظالمين والمتقين من وجه آخر قائلا أَمْ حَسِبَ
قال جار الله: «أم» منقطعة والآية نظيرة ما سلف في «ص» أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ [الآية: 28] والاجتراح الاكتساب. من قرأ
(6/112)
سَواءً
بالنصب فمعناه مستويا والظاهر بعده فاعله ويكون انتصابه على البدل من ثاني مفعولي نَجْعَلَهُمْ
وهو الكاف. ومن قرأ بالرفع فخبر ومَحْياهُمْ
مبتدأ والجملة بدل أيضا لأن الجملة تقع مفعولا ثانيا. والمعنى إنكار أن يستوي الفريقان حياة وموتا، لأن المحسنين عاشوا على الطاعة وإنهم عاشوا على المعصية ومات أولئك على البشرى والرحمة، ومات هؤلاء على الضد. وقيل: معناه إنكار أن يستويا في الممات كما استووا في الحياة من حيث الصحة والرزق، بل قد يكون الكافر أرجح حالا من المؤمن. فالفرق المقتضي لسعادة المؤمن وشقاوة الكافر إنما يظهر بعد الوفاة. وقيل: إنه كلام مستأنف، والمراد أن كلا من الفريقين يموت على حسب ما عاش عليه
لقوله صلى الله عليه وسلم «كما تعيشون تموتون»
وحين أفتى بأن المؤمن لا يساويه الكافر في درجات السعادات استدل على صحة هذه الدعوى بقوله وَخَلَقَ اللَّهُ الآية. قال جار الله: وَلِتُجْزى معطوف على بِالْحَقِّ لأنه في معنى التعليل أي للعدل، أو ليدل بها على قدرته وللجزاء. ويجوز أن يكون المعلل محذوفا وهو فعلنا ونحوه. والحاصل أن الغاية من خلق السماء والأرض كان هو الإنسان الكامل فكيف يترك الله جزاءه وجزاء من هو ضده والتميز بينهما بموجب العدالة. ثم قرر أسباب ضلال المضلين قائلا أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أي يتبع ما تدعو إليه نفسه الأمارة وقد مر في الفرقان وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ بحاله أنه من أهل الخذلان والقهر، أو على علم الضلال في سابق القضاء، أو على علم بوجوه الهداية وإحاطته بالألطاف المحصلة لها. وقيل: أراد به المعاند لأن ضلاله عن علم فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ إضلال اللَّهُ قال بعض العلماء: قدم السمع على القلب في هذه الآية وبالعكس في «البقرة» لأن كفار مكة كانوا يبغضونه بقلوبهم وما كانوا يستمعون إليه وكفار المدينة، كانوا يلقون إلى الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة، فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه. ففي هذه الصورة على هذا التقدير كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس، وفي الصورة الأولى كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن، فورد ما في كل سورة على ترتيبه. ثم ذكر من أسباب الضلال سببا آخر وهو إنكارهم البعث معتقدين أن لا حياة إلا هذه. وليس قولهم الدنيا تسلما لثانية وإنما هو قول منهم على لسان المقرين وبزعمهم نَمُوتُ وَنَحْيا فيه تقديم وتأخير على أن الواو لا توجب الترتيب. وقيل: يموت الآباء وتحيا الأبناء وحياة الأبناء حياة الآباء، أو يموت بعض، ويحيا بعض، أو أرادوا بكونهم أمواتا حال كونهم نطفا، أو هو على مذهب أهل التناسخ أي يموت الرجل ثم تجعل روحه في بدن آخر. ثم إنهم لم يقنعوا بإنكار المعاد حتى ضموا إليه إنكار المبدأ قائلين وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ اعتقدوا أن تولد الأشخاص وكون
(6/113)
الممتزجات وفسادها ليس إلا بسبب مزاوجات الكواكب. ولا حاجة في هذا الباب إلى مبدىء المبادئ فأجاب الله عن شبهتهم بقوله وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي ليس لهم على ما قالوه دليل وإنما ذكروا ذلك ظنا تخمينا واستبعادا فلا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى قولهم، لأن الحجة قامت على نقيض ذلك وهي دليل المبدأ والمعاد المذكور مرارا وأطوارا. وليس قولهم ائْتُوا بِآبائِنا من الحجة في شيء لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال فإنه يمتنع حصوله في الاستقبال بدليل الحادث اليومي الممتنع حصوله في الأمس، فوجه الاستثناء أنه في أسلوب قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع وحين بكتهم وسكتهم صرح بما هو الحق وقال قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ إلى آخره. ثم أراد أن يختم السورة بوصف يوم القيامة وما سيجري على الكفار فيه فقال وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ العامل فيه يخسر وقوله يَوْمَئِذٍ بدل من يَوْمَ وفيه تأكيد للحصر المستفاد من تقديم الظرف. قال ابن عباس: الجاثية المجتمعة للحساب المترقبة لما يعمل بها. وقيل: باركة جلسة المدعي عند الحاكم. وقيل: مستوفزا لا يصيب الأرض إلا ركبتاه وأطراف أنامله.
والجثو للكفار خاصة. وقيل: عام بدليل قوله بعد ذلك فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا تُدْعى إِلى كِتابِهَا يريد كتاب الحفظة ليقرؤه. وقال الجاحظ: إلى كتاب نبيها فينظر هل عملوا به أم لا. ويقال: يا أهل التوراة يا أهل القرآن. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ بتقدير القول ومما يؤيد القول الأول قوله هذا كِتابُنا إلى قوله إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ أي نأمر بالنسخ. وإضافة الكتاب تارة إليهم وأخرى إلى الله عز وجل صحيحة لأن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة، فأضيف إليهم لأن أعمالهم مثبتة فيه، وأضيف إلى الله سبحانه لأنه أمر ملائكته بكتبه. قوله أَفَلَمْ تَكُنْ القول فيه مقدر أي فيقال لهم ذلك قوله إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا قال أبو علي والأخفش: هذا الكلام جار على غير الظاهر لأن كل من يظن فإنه لا يظن إلا الظن، فتأويله أن ينوي به التقديم أي ما نحن إلا نظن ظنا. وقال المازني: تقديره إن نظن نحن إلا ظنا منكم أي أنتم شاكون فيما تزعمون وما نحن بمستيقنين أنكم لا تظنون. وقال جار الله: أصله نظن ظنا ومعناه إثبات الظن فحسب. فأدخل أداة الحصر ليفيد إثبات الظن مع نفي ما سواه وأقول: الظن قد يطلق على ما يقرب من العلم، ولا ريب أن لهذا الرجحان مراتب وكأنهم نفوا كل الظنون إلا الذي لا ثبوت علم فيه وأكدوا هذا المعنى بقوله وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ وباقي السورة واضح مما سلف والله أعلم.
تم الجزء الخامس والعشرون ويليه الجزء السادس والعشرون أوله تفسير سورة الأحقاف.
(6/114)