إذا تأمل فأنصف أَوْ يَخْشى فيقل: إنكاره وإصراره. قالت المعتزلة: جدوى إرسالهما إليه مع العلم بأنه لن يؤمن قطع المعذّرة وإلزامه الحجة. وقالت الأشاعرة: العقول قاصرة عن معرفة سر القدر ولا سبيل إلا التسليم وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان.
قالوا: إنه كمن يدفع سكينا إلى من علم قطعا أنه يمزق بطن نفسه ثم يقول: إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان. ويروى عن كعب أنه قال: والذي يحلف به كعب إنه مكتوب في التوراة «فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً وسأفسي قلبه فلا يؤمن» قالا رَبَّنا فيه دليل على أن هارون أيضا كان حاضرا وقتئذ كما روينا. وسئل أن انشرح صدره وتيسر أمره فكيف قالا إِنَّنا نَخافُ فإن حصول الخوف ينافي شرح الصدر؟ وأجيب بأن المراد من شرح الصدر ضبط الأوامر والنواهي وحفظ الشرائع والأحكام بحيث لا يتطرق إليها خلل وتحريف، وهذا شيء آخر مغاير لزوال الخوف. قلت: لعلهما خافا أن لا يتمكنا من أداء الرسالة بدليل قوله أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أي يسبق رسالتنا ويبادرنا بالعقوبة أَوْ أَنْ يَطْغى أي يجاوز الحد بأن يقول فيك ما لا ينبغي أو يجاوز حد الاعتدال في معاقبتنا إن لم يعاجل بنا فلا نتمكن من إقامة وظائف الأداء. وأيضا الدليل النقلي السمعي إذا انضاف إلى الدليل العقلي زاده إيقانا وطمأنينة ولهذا قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أي بالنصرة والتأييد أَسْمَعُ وَأَرى ما يجري بينكما وبينه من قول وفعل فأفعل بكما ما يوجب عنايتي وحراستي، فلا يذهب وهمكما إلى أن مواد كرامتي انقطعت عنكما إذا فارقتما مقام المكالمة فصار هذا الوهم سبب خوفكما. ويجوز أن يكون الفعلان متروكي المفعول كأنه قيل: أنا سامع مبصر وإذا كان الحافظ والناصر كذلك تم الحفظ وكملت النصرة. قال بعض الأصوليين: في الآية دلالة على أن الأمر لا يقتضي الفور وإلا كان تعللهما بالخوف معصية وإنها غير جائزة على الرسل في الأصح. وقال بعض المتكلمين: فيها دليل على أن السمع والبصر صفتان زائدتان عن العلم والإلزام التكرار فإن معيته هي بالعلم. ولقائل أن يقول: الخاص يغاير العام ولكن لا يباينه.
ثم كرر الأمر قائلا: فَأْتِياهُ فَقُولا فسئل إنهما أمرا بأن يقولا له قولا لينا فكيف غلظاه أوّلا بقوله إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ ففيه إيجاب انقياده لهما وإكراهه على طاعتهما وهذا مما يعظم على الجبار. وثانيا بقوله فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وفيه إدخال النقص في ملكه لأنه كان يستخدمهم في الأعمال الشاقة. وثالثا بقوله وَلا تُعَذِّبْهُمْ وفيه منعه عما يريده بهم؟ وأجيب بأن هذا القدر من التغليظ ضروري في أداء الرسالة. قيل: أليس الأولى أن يقولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ(4/548)
فيكون ذكر المعجز مقرونا بادعاء الرسالة. والجواب أن قوله فَأَرْسِلْ من تتمة الدعوى، وإنما وحد قوله بِآيَةٍ ومعه آيتان بل آيات لقوله اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي لأنه أراد الجنس كأنه قيل: قد جئناك ببيان من عند الله وبرهان. قال في الكشاف: قلت: وفيه أيضا نوع من الأدب كما لو قلت: أنا رجل قد حصلت شيئا من العلم ولعل عندك علوما جمة على أن تخصيص عدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد عليه. وأيضا الأصل في معجزات موسى كان هي العصا ولهذا وقعت في معرض المعارضة كما أن الأصل في معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم كان هو القرآن فوقع لذلك في حيز التحدي وَالسَّلامُ أي جنس السلامة أو سلام خزنة الجنة عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى يحتمل أن يكون هذا أيضا مما أمر بأن يقولاه لفرعون، ويحتمل أن تكون الرسالة قد تمت عند قوله بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ ويكون هذا وعدا بالسلامة من عقوبات الدارين لمن آمن وصدق. قالت الأشاعرة: في قوله أَنَّ الْعَذابَ أي جنسه أو كل فرد منه عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى دليل على أنه لا يعاقب أحدا من المؤمنين ترك العمل به في بعض الأوقات، فوجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام على أن العقاب المتناهي لا نسبة له إلى النعيم المقيم الذي لا نهاية له فكأنه لم يعاقب أصلا. وأيضا العارف بالله قد اتبع الهدى فوجب أن يكون من أهل السلامة قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى خاطب الاثنين ووجه النداء إلى موسى لأنه الأصل في ادعاء الرسالة وهارون وزيره، ويجوز أنه خص موسى عليه السلام بالنداء لما عرف من فصاحة هارون والرتة التي كانت في لسان موسى. فأراد أن يعجز عن الجواب. قال أهل الأدب: إن فرعون كان شديد البطش جبارا ومع ذلك لم يبدأ بالسفاهة والشغب بل شرع في المناظرة وطلب الحجة، فدل على أن الشغب من غير حجة شيء ما كان يرتضيه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم؟! وفي اشتغال موسى بإقامة الدلالة على المطلوب دليل على فساد التقليد وفساد قول القائل بأن معرفة الله تستفاد من قول الرسول، وفيه جواز حكاية كلام المبطل مقرونا بالجواب لئلا يبقى الشك. وفيه أن المحق يجب عليه استماع شبهة المبطل حتى يمكنه الاشتغال بحلها. واعلم أن العلماء اختلفوا في كفر فرعون فقيل: كان عارفا بالله إلا أنه كان معاندا بدليل قوله لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الاسراء: 102] وقوله وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: 14] وقوله في سورة القصص وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ [الآية: 39] وليس فيه إلا إنكار المعاد دون إنكار المبدأ. وقوله في الشعراء وَما رَبُّ الْعالَمِينَ إلى قوله إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27](4/549)
يعني أنا أطلب منه الماهية وهو يشرح الوجود فدل على أنه اعترف بأصل الوجود.
وأيضا إن ملك فرعون لم يتجاوز القبط ولم يبلغ الشام لأن موسى لما هرب إلى مدين قال له شعيب لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص: 25] فكيف يعتقد مثل هذا الشخص إنه إله العالم بل كل عاقل مكلف يعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم فلا يكون واجب الوجود. وأيضا إنه سأل هاهنا بمن طالبا للكيفية، وفي «الشعراء» بما طالبا للماهية فكأن موسى لما أقام الدلالة على الوجود ترك المناظرة والمنازعة معه في هذا المقام لظهوره وشرع في مقام أصعب لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر. وأيضا إنه قال في الجواب رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وصلة الذي لا بد أن تكون جملة معلومة الانتساب. ومن الناس من قال: إنه كان جاهلا بالله بعد اتفاقهم على أن العاقل لا يجوز أن يعتقد في نفسه أنه خالق السموات والأرض وما فيهما. فمنهم من قال: إنه كان دهريا نافيا للمؤثر أصلا. ومنهم من قال: إنه فلسفي قائل بالعلة الموجبة أو هو من عبدة الكواكب، أو من الحلولية والمجسمة. وأم ادعاء الالهية والربوبية فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد لحكمه. قال بعض العلماء: إنما قال فَمَنْ رَبُّكُما [طه: 49] ولم يقل «فمن إلهكما» تعريضا بأنه رب موسى كما قال أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً [الشعراء: 18] قلت: يحتمل أن يكون تخصيص موسى بالنداء تنبيها على هذا المعنى. ولم يعلم الكافر أن الربوبية التي أدعاها موسى لله في قوله إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ غير هذه في الحقيقة ولا مشاركة بينهما إلا في اللفظ، وهذا كما عارض نمرود إبراهيم صلوات الرحمن عليه في قوله أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ [البقرة: 258] ولم يعلم أن إحياءه وإماتته ليسا من الإحياء والإماتة في شيء ثم شرع موسى، في الدلالة على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات، وفيه دلالة على أن موسى كان أصلا في النبوة وأن هارون راعى الأدب فلم يشتغل بالجواب قبله لأن الأصل في النبوة هو موسى، ولأن فرعون خصص موسى بالنداء. من قرأ خلقه بسكون اللام فإما بمعنى الخليقة أي أعطى الخلائق ما به قوامهم من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها فيستخرجون الحديد من الجبال واللآلئ من البحار ويركبون الأغذية والأدوية والأسلحة والأمتعة ونظير هذا الكلام قوله الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: 2، 3] وقوله حكاية عن إبراهيم الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: 78] وإما أن يكون الخلق بمعنى الصورة والشكل أي أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به فأعطى العين هيئتها التي تطابق الإبصار، والأذن(4/550)
ما يوافق الاستماع، والأنف للشم، واليد للبطش، بل أعطى رجل الآدمي شكلا يوافق سعيه، ورجل الحيوانات الأخر شكلا يطابق مشيها، بل أعطى ذوات القرون رجلا توافق حاجتهن، وكذا الخف والحافر وذوات المخالب. وقيل: أراد وأعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة فجعل الحصان والحجر زوجين، وكذا البعير والناقة والرجل والمرأة. ومن قرأ خلقه بفتح اللام صفة للمضاف أو المضاف إليه والمفعول الثاني متروك أي كل شيء خلقه الله لم يخله من عطائه وإنعامه.
واعلم أن عجائب حكمة الله تعالى في مخلوقاته بحر لا ساحل له، وقد دون العلماء طرفا منها في كتب التشريح وخواص الأحجار والنبات والحيوان، ولنذكر هاهنا واحدا منها هي أن الطبيعي يقول: الثقيل هابط والخفيف صاعد، فالماء لذلك فوق الأرض والهواء فوق الماء والنار فوق الكل. ثم إنه سبحانه جعل العظم والشعر أصلب الأعضاء على طبيعة الأرض وجعل مكانهما فوق البدن. وجعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء وجعل تحته النفس الذي هو الهواء، وجعل تحته الحرارة الغريزية في القلب كالنار ليكون دليلا على وجود الفاعل المختار خلاف ما يقوله الدهري والطبيعي وسائر الكفار. وأيضا اختصاص كل جسم بقوة وتركيب وهداية إما أن يكون واجبا أو جائزا، والأول محال وإلا لم يقع فيها تغير. والثاني يستدعي مرجحا فإن كان ذلك المرجح واجب الوجود لذاته فهو المطلوب، وإن كان جائز الوجود افتقر في اتصافه بالوجود إلى موجد، ولا بد من الانتهاء إلى موجد يجب وجوده لذاته. ثم إنه يستغني عن سمات النقص وشوائب الافتقار وليس إلا الله الواحد القهار.
قال أهل النظم: إن موسى عليه السلام لما قرر عليه أمر المبدأ قالَ فرعون إن كان وجود الواجب في هذا الحد من الظهور فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى لم يؤمنوا وجحدوا فعارض الحجة بالتقليد والبال الحال؟ أو أنه لما هدده بالعذاب في قوله أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قال فما بالهم كذبوا فما عذبوا؟ فأجاب بأن هذا مما استأثر الله بعلمه وما أنا إلا عبد مثلك لا أعلم منه إلا ما يخبرني به علام الغيوب. أو أنه سأله عن أحوال القرون الخالية وعن شقاء من شقي منهم وسعادة من سعد ليصرف موسى عن المقصود ويشغله بالحكايات خوفا من أن يميل قلوب ملته إلى حجته الباهرة ودلائله الظاهرة، فلم يلتفت موسى إلى حديثه بل قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي ولا يتعلق غرضي بأحوالهم. ويجوز أن يكون الكلام قد انجر ضمنا أو صريحا إلى إحاطة الله سبحانه بكل شيء فنازعه الكافر قائلا: ما بال سوالف القرون في تمادي كثرتهم وتباعد أطرافهم كيف أحاط بهم وبأجزائهم(4/551)
وجواهرهم؟ فأجاب بأن كل كائن محيط به علمه ولا يجوز عليه الخطأ والنسيان كما يجوز عليك أيها العبد الذليل والبشر الضئيل. وقوله عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي مع قوله فِي كِتابٍ لا يتنافيان، بل المراد أنه تعالى عالم بجميع المغيبات مطلع على الكليات والجزئيات من أحوال الموجودات والمعدومات، ومع ذلك فإن جميع الأحوال ثابتة في اللوح المحفوظ ثم كان لقائل أن يقول: لعلها أثبتت في اللوح لاحتمال الخطأ والنسيان فتدارك ذلك بقوله لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى قال مجاهد: هما واحد المراد أنه لا يذهب عنه شيء ولا يخفى عليه. والأكثرون على الفرق فقال القفال: الأول إشارة إلى كونه عالما بالكل، والثاني إشارة إلى بقاء ذلك العلم أي لا يضل عن معرفة الأشياء، وما علم من ذلك لا ينساه ولا يتغير علمه، يقال: ضللت الشيء إذا أخطأته في مكانه فلم تهتد له. وقال مقاتل: لا يخطىء ذلك الكتاب ربي ولا ينسى ما فيه. وقال الحسن: لا يخطىء وقت البعث ولا ينساه.
وقال أبو عمر: ولا يغيب عنه شيء ولا يغرب عنه شيء. وقال ابن جرير: لا يخطىء في التدبير فيعتقد غير الصواب صوابا وإذا عرفه لا ينساه والوجوه متقاربة. والتحقيق ما قاله القفال. وعن ابن عباس: لا يترك من كفر به حتى ينتقم منه ولا يترك من وحده حتى يجازيه.
ولما ذكر الدليل العام المتناول لجميع المخلوقات السماويات والأرضيات من الإنسان وسائر الحيوانات وأنواع النباتات والجمادات ذكر الدلائل الخاصة فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً أي كالمهد وهو ما يمهد للصبي. قال أبو عبيدة: الذي أختاره مهاد لأنه اسم لما يمهد والمهد مصدر. وقال غيره: المهد اسم والمهاد جمع. وقال المفضل: هما مصدران وَسَلَكَ أي حصل لَكُمْ فِيها سُبُلًا ووسطها بين الجبال والأودية والبراري. يقال: سلكت الشيء في الشيء سلكا بالفتح أي أدخلته فيه فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بواسطة إنزال الماء. ومن المتكلمين الأقدمين من أنكر تأثير الوسائط رأسا وأَزْواجاً أي أصنافا فأسميت بذلك لأنها مزدوجة مقترن بعضها ببعض. وشَتَّى صفة للأزواج جمع شتيت كمريض ومرضى، أو صفة للنبات لا مصدر سمي به النابت كما سمي بالنبت فاستوى فيه الواحد والجمع يعني أنها مختلفة النفع والطبع والطعم واللون والرائحة والشكل. ثم هاهنا إضمار والتقدير وقلنا أو قائلين كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ وذلك أن بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم، وإباحة الأكل تتضمن إباحة سائر وجوه الانتفاع كقوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ [البقرة: 188] ومن نعم الله تعالى أن أرزاق العباد إنما تتحصل بعمل الأنعام وقد جعل الله علفها مما يفضل عن حاجتهم ولا يقدرون على أكله. قال الجوهري: النهية بالضم واحدة النهى وهي العقول لأنها تنهى عن القبيح.
وجوز أبو علي الفارسي أن يكون مصدرا كالهدى وخص أرباب العقول بذلك لأنهم هم(4/552)
المنتفعون بالنظر فيها والاستدلال بها على وجود صانعها. مِنْها خَلَقْناكُمْ لأن آدم مخلوق من الأرض. أو لأن بني آدم خلقوا من النطفة ودم الطمث المتولدين من الأغذية المنتهية إلى العناصر الغالبة عليها الأرضية، أو لما ورد في الخبر أن الملك يأخذ من تربة المكان الذي يدفن فيه الآدمي فيذرّها على النطفة. وَفِيها نُعِيدُكُمْ لأن الجسد يصير ترابا فيختلط بالأرض إلا من رفعه الله إلى السماء، وهو أيضا يحتمل أن يعاد إليها بعد ذلك. وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى بالحشر والبعث، أو بأن نخرجكم ترابا وطينا ثم نحييكم بعد الإخراج، أو المراد الإحياء في القبر. وهاهنا بحث وهو أن يكون قوله:
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ إلى هاهنا من تتمة كلام موسى، أو هو ابتداء كلام من الله تعالى. وعلى الأول يمكن أن يوجه قوله: فَأَخْرَجْنا بأن المراد فأخرجنا نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراثة والزرع أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى إلا أن قوله: كُلُوا وَارْعَوْا إلى قوله: وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ لا يطابقه. وإن قيل: إن كلام موسى يتم عند قوله:
وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لم يصلح قوله: فَأَخْرَجْنا ابتداء كلام من الله لمكان فاء التعقيب، فالصواب أن يتم كلام موسى عند قوله: وَلا يَنْسى. ثم إنه تعالى ابتدأ فقال:
الَّذِي أي هو الذي جعل إلى آخره، وعلى هذا يكون قوله: فَأَخْرَجْنا من قبيل الالتفات؟؟؟ للكلام وإيذانا بأنه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره تخصيصا بأن مثل هذا لا يدخل تحت قدرة أحد سواه. والحاصل أنه تعالى عدد عليهم ما علق بالأرض من المنافع حيث جعلها لهم فراشا يتقلبون عليها عند الإقامة، وسوّى لهم فيها مسالك يتقلبون بها في أسفارهم، وأنبت فيها أصناف النبات متاعا لهم ولأنعامهم. ثم إن الأرض لهم كالأم التي منها أنشئوا وهي التي تجمعهم وتضمهم إذا ماتوا. ثم يخرجون من الأجداث خروج الأجنة من الأرحام، ومن ثم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تمسحوا بالأرض»
أي ارقدوا واسجدوا عليها من غير حائل، أو تيمموا بها فإنها بكم برة أي إنها لكم كالأم. ومنها خلقناكم وفيها معايشكم وهي بعد الموت كفاتكم.
قوله عز وعلا: وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا أي عرفناه صحتها. ثم إن كان التعريف يستلزم حصول المعرفة فيكون كفره كفر جحود وعناد كقوله: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [النمل: 14] وإلا كان كفر جهالة وضلالة. سؤال الجمع المضاف يفيد العموم ولا سيما إذا أكد بالكل، لكنه تعالى ما أراه جميع الآيات لأن من جملتها ما أظهرها على الأنبياء الأقدمين ولم يتفق لموسى مثلها. الجواب هذا التعريف الإضافي محذوّ به حذو التعريف العهدي لو قيل الآيات كلها وهي التي ذكرت في قوله: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ(4/553)
بَيِّناتٍ [الإسراء: 101] ولو سلم العموم فالمراد أنه أراه الآيات الدالة على التوحيد في قوله: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ وعلى النبوة بإظهار المعجزات القاهرة وعلى المعاد لأن تسليم القدرة على الإنشاء يستلزم تسليم القدرة على الإعادة بالطريق الأولى، أو أراد أنه أراه آياته المختصة به وعدد عليه سائر آيات الأنبياء وإخبار النبي الصادق جار مجرى العيان، أو إراءة بعض الآيات كإراءة الكل كما أن تكذيب بعض الآيات يستلزم تكذيب الكل كما قال: فَكَذَّبَ أي الآيات كلها وَأَبى قول الحق. قال القاضي: الإباء الامتناع وإنه لا يوصف به إلا من يتمكن من الفعل والترك وإلا لم يتوجه الذم. وجواب الأشاعرة أنه لا يسأل عما يفعل ثم إن فرعون خاف أن تميل قلوب ملته إلى قول موسى فذكر ما يوجب نفار القوم عنه مع القدح في نبوته لادعاء إمكان معارضته قائلا أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا فإن الإخراج من الديار قرينة القتل بدليل قوله: أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ [النساء: 66] ثم طالب للمعارضة موعدا فإن جعلته زمان الوعد بدليل قوله:
مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ بالرفع كان الضمير في لا نُخْلِفُهُ عائدا إلى الوعد المعلوم من الموعد أو إلى زمان الوعد مجازا. وانتصب مَكاناً على أنه ظرف للوعد المقدر، وإن جعلته مكان الوعد ليكون قوله: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ مطابقا له معنى، لأنه لا؟؟؟ من أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان مشتهر عندهم وكأنه قيل: موعدكم مكان الاجتماع في يوم الزينة.
وإن جعلته مصدرا ليصح وصفه بعدم الإخلاف من غير ارتكاب إضمار، أو؟؟؟ انتصب مَكاناً على أنه ظرف.
ثم من قرأ يَوْمُ الزِّينَةِ بالنصب فظاهر أي وعدكم أو انجاز وعدكم في يوم الزينة، أو وقت وعدكم في يوم الزينة. وفي يوم يُحْشَرَ النَّاسُ هو ضحى؟؟؟ ذلك اليوم. ومن قرأ بالرفع فيقدر مضاف محذوف أي وعدكم وعد يوم الزينة. و؟؟؟ سُوىً بالكسر والضم عدلا ووسطا بين الفريقين وهو معنى قول مجاهد. فوصف المكان بالاستواء باعتبار المسافة. وقال ابن زيد: أي مستويا لا يحجب شيئا بارتفاعه وانخفاضه ليسهل على كل الحاضرين ما يجري بين الفريقين. وقال الكلبي: مَكاناً سُوىً هذا المكان الذي نحن فيه الآن. قال القاضي: الأظهر أن قوله: مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ من قول فرعون لأنه الطالب للاجتماع. وقال الإمام فخر الدين الرازي: الأقرب أنه من كلام موسى ليكون الكلام مبنيا على السؤال والجواب، ولأن تعيين يوم الزينة يقتضي إطلاع الكل على ما سيقع وهذا إنما يليق بالمحق الواثق بالغلبة لا بالمبطل المزور، على أن(4/554)
موعدكم خطاب الجمع وليس هناك إلا موسى وهارون، فإما أن يرتكب أن أقل الجمع اثنان وهو مذهب مرجوح، وإما أن يقال الجمع للتعظيم ولم يكن فرعون ليعظمهما، ويوم الزينة يوم عيد لهم يتزينون فيه. وعن مقاتل يوم النيروز، وعن سعيد بن جبير يوم سوق لهم.
وعن ابن عباس: هو يوم عاشوراء. وإنما قال: وَأَنْ يُحْشَرَ من غير تسمية الفاعل لأنهم يجتمعون ذلك اليوم بأنفسهم من غير حاشر لهم. ومحل أَنْ يُحْشَرَ رفع أو جر عطفا على اليوم أو الزينة عين اليوم. ثم الساعة وهي ضُحًى ذلك اليوم. وإنما واعدهم ذلك اليوم ليكون علو كلمة الله وزهوق الباطل على رؤوس الأشهاد ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حيى عن بينة، وليشيع أمره العجيب في الأقطار والأعصار والأطراف والأكناف، ففي ذلك تقوية دين الحق وتكثير راغبيه وقلة شوكة المخالف وتوهين عزائمهم فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ انصرف إلى مقام تهيئة الأسباب المعارضة فإن صاحب السحر يحتاج في تدبير السحر إلى طول الزمان ولهذا طلب الموعد وقال مقاتل: أعرض وثبت على إعراضه عن الحق فَجَمَعَ كَيْدَهُ أي أسباب الكيد وأدوات الحيلة والتمويه من مهرة السحر وغير ذلك ثُمَّ أَتى الموعد. عن ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحرا مع كل واحد منهم حبل وعصا. وقيل: أربعمائة. وقيل: أكثر من ذلك فضرب لفرعون قبة طولها سبعون ذراعا فجلس فيها ينظر إليهم فبين الله تعالى أن موسى قدم قبل كل شيء الوعيد والتحذير على عادة الصالحين من أهل النصح والإشفاق، ولا سيما الأنبياء المبعوثين رحمة للأمم وَيْلَكُمْ نصب على المصدر الذي لا فعل له أو على النداء لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تدعوا آياته ومعجزاته سحرا فَيُسْحِتَكُمْ السحت لغة أهل الحجاز والإسحات لغة أهل نجد وبني تميم، ومعناه الاستئصال. حذرهم أمرين: أحدهما عذاب الدارين والتنوين للتعظيم، والآخر الخيبة والحرمان عن المقصود فإن التمويه لا بقاء له فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كقوله في الكهف: إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ [الكهف: 21] أي وقع التنازع بينهم وَأَسَرُّوا النَّجْوى الضمير لفرعون وقومه. وقيل: للسحرة ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه. وعن قتادة: إن كان ساحرا فسنغلبه، وإن كان من السماء فله أمر. وعن وهب: لما قال وَيْلَكُمْ الآية قالوا: ما هذا بقول ساحر.
والأكثرون على الأول وذلك أنهم تفاوضوا وتشاوروا حتى استقروا على شيء واحد وهو أنهم.
قالوا إن هذان ساحران إلى آخر الآية: لا إشكال في قراءة أبي عمرو وكذا في قراءة ابن كثير وحفص، لأنه كقولك «إن زيدا لمنطلق» واللام فارقة بين المخففة والنافية.(4/555)
وأما من قرأ «إن» بالتشديد وهذانِ بالألف فأورد عليه أن «إن» لم يعمل في المثنى.
وأجيب بأنه على لغة الحرث بن كعب وخثعم وبعض بني عذرة، ونسبها الزجاج إلى كنانة، وابن جني إلى بعض بني ربيعة، جعلوا التثنية كعصا وسعدى مما آخره ألف فلم يقلبوها ياء في الجر والنصب. وقيل: «إن» بمعنى «نعم» واعترض أن ما بعده حينئذ يصير كقوله:
أم الحليس لعجوز شهربة ولا يجوز مثله إلا في ضرورة الشعر. وإنما موضع لام الابتداء في السعة هو المبتدأ. والجواب أن القرآن حجة على غيره، وذكر الزجاج في جوابه أن التقدير لهما ساحران فاللام داخلة على صدر الجملة الصغرى. قال: وقد عرضت هذا القول على محمد بن يزيد وعلي وإسماعيل بن إسحق فارتضاه كل منهم وذكروا أنه أجود ما سمعنا في هذا الباب، وضعفه ابن جنى بأن المبتدأ إنما يجوز حذفه لو كان أمرا معلوما جليا وإلا كان تكليفا بعلم الغيب للمخاطب، وإذا كان معروفا فقد استغنى بمعرفته عن تأكيده باللام. وأيضا إن الحذف من باب الاختصار والتأكيد من باب الإطناب، فالجمع بينهما محال مع أن ذكر المؤكد وحذف التأكيد أحسن في العقول من العكس. وأيضا امتنع البصريون من جعل النفس في قولك: «زيد ضرب نفسه» تأكيدا للمستكن فدل ذلك على أن تأكيد المنوي غير جائز. وأيضا لو كان ما ذهب إليه الزجاج جائزا لحمل النحويون قول الشاعر على ذلك ولم يحملوه على الاضطرار، ولمن تبصر قول الزجاج أن يجيب عن الأول بأن التأكيد إنما هو لنسبة الخبر إلى المبتدأ لا للمبتدأ وحده، ولو سلم فذكر اللام يدل على المبتدأ المنوي وذكر المبتدأ لا يدل على التأكيد فكان حذف المبتدأ أولى. وعن الثاني بأن الكلام قد يكون موجزا من وجه مطنبا من وجه آخر فلا منافاة، وإنما المنافاة إذا كانت الجهتان واحدة. وعن الثالث بأنهم امتنعوا من حمل النفس على التأكيد في المثال المذكور لأنهم رأوا أن إسناد الفعل إلى المظهر أولى من إسناده إلى المضمر، لا لأن تأكيد المنوي ممتنع على أنا بينا أن المؤكد ليس بمحذوف في الآية مطلقا فإن أحد طرفي الكلام مذكور. وعن الرابع بأن ذهول المتقدمين عن هذا الوجه لا يقتضي كونه باطلا فكم ترك الأول للآخر.
ولنرجع إلى التفسير قال الفراء: الطريقة اسم لوجوه الناس وأشرافهم الذين هم قدوة لغيرهم. ويقال: هم طريقة قومهم وهو طريقة قومه، قبح أمر موسى في أعين الحاضرين(4/556)
ونفرهم عنه بأنه ساحر، والطباع نفور عن السحر وبأنه يقصد إخراجكم من دياركم- وهذا أيضا مما يبغض القاصد إليهم- وبأنه يريد أن يذهب بأشراف قومكم وأكابركم قالوا وهم بنو إسرائيل لقول موسى أرسل معنا بني إسرائيل وجعلها الزجاج من باب حذف المضاف أي بأهل طريقتكم المثلى وسموا مذهبهم الطريقة المثلى والسنة الفضلى لأن كل حزب بما لديهم فرحون. والمثلى تأنيث الأمثل أي الأشبه بالحق، ومنهم من فسر الطريقة هاهنا بالجاه والمنصب والرياسة وكان الأمر على ما يقال به. من قرأ فَأَجْمِعُوا من الجمع فظاهر، ومن قرأ من الإجماع فمعناه اجعلوا كيدكم مجمعا عليه حتى لا تختلفوا نظيره ما مر في سورة يونس فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ [الآية: 71] سماه كيدا لأنه علم أن السحر لا أصل له. وقال الزجاج: معناه ليكن عزمكم كلكم كالكيد مجمعا عليه. ثم أمرهم بأن يأتوا صفا أي مصطفين مجتمعين ليكون أهيب في الصدور وأوقع في النفوس.
وعن أبي عبيدة أنه فسر الصف بالمصلى أي مصلى من المصليات أو هو علم لمصلى بعينه لأن الناس يصطفون فيه لعيدهم وصلواتهم. وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى أي فاز من غلب وهو اعتراض. واعلم أن قصة السحرة أكثرها يشبه ما مر في «الأعراف» وقد فسرناها هنالك فنحن الآن نقتصر ونذكر ما هو المختص بهذه السورة. إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أي اختر أحد الأمرين إلقاءك أو إلقاءنا فَإِذا حِبالُهُمْ هي «إذا» المفاجأة وأصلها الوقت أي فاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم وعصيهم. قال وهب: سحروا أعين موسى عليه السلام حتى تخيل ذلك. وقيل: أراد أنه شاهد شيئا لولا علمه بأنه لا حقيقة لذلك الشيء لظن فيها أنها تسعى فيكون تمثيلا فَأَوْجَسَ أضمر فِي نَفْسِهِ خِيفَةً هو مفعول فَأَوْجَسَ ومُوسى فاعله أخر للفاصلة. وذلك الخوف إما من جبلة البشرية حين ذهل عن الدليل وهو قول الحسن، وإما لأنه خاف أن يخالج الناس شك فلا يتبعوه قاله مقاتل، أو خاف أن يتأخر نزول الوحي عليه في ذلك الوقت، أو خاف أن يتفرق بعض القوم قبل أن يشاهدوا غلبته، أو خاف تمادي الأمر عليه وتكرره فأزال الله تعالى خوفه مجملا بقوله إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وفيه من أنواع التأكيد ما لا يخفى وهي الاستئناف والتصدير بأن، والتوسيط بالفصل، وكون الخبر معرفا ولفظ العلو ومعناه الغلبة وصورة التفضيل ولا فضل لهم ومفصلا بقوله وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ لم يقل عصاك لما علم في الأعراف ولما في هذه السورة وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ وقال جار الله: هو تصغير لشأن العصا وتهوين لأمر السحرة أي ألق العويد الفرد الصغير الجرم الذي في يمينك فإنه بقدرة الله يبتلع ما صَنَعُوا أي زوّروا وافتعلوا على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها، أو هو تعظيم لشأنها أي لا تحفل بهذه الأجرام الكبيرة الكثيرة لأن في يمينك شيئا أعظم شأنا من كلها إِنَّما صَنَعُوا إن(4/557)
الذي افتعلوه كيد سحر أي ذي سحر، أو ذوي سحر، أو هم في توغلهم في سحرهم كأنهم السحر بعينه، أو الإضافة للبيان أي كيد هو سحر كقولك «علم فقه» وإنما وجد ساحر فيمن قرأ على الوصف ليعلم أن المقصود هو الجنس كما قال.
وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أي هذا الجنس ولو جمع لأوهم أن المراد هو العدد وإنما نكر أولا لأن المراد تنكير الكيد كأنه قال: هذا الذي أتوا به قسم واحد من أقسام السحر أو من أفعال السحرة وجميع أقسام السحر، وأفراد السحرة لا فلاح فيها ومن نظائره «إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللا لا في أمر دنيا ولا في أمر آخرة» . ومعنى سبهللا أنه يجيء ويذهب في غير شيء. ومعنى حَيْثُ أَتى أينما كان وأية سلك فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قال جار الله: سبحان الله ما أعجب أمرهم قد ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر في السجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!. وروي أنهم لم يرفعوا رءوسهم حتى رأوا الجنة والنار أو أثواب أهلها، وعن عكرمة: لما خروا سجدا أراهم الله في سجودهم منازلهم التي يصيرون إليها في الجنة. واستبعده القاضي لأنه كالإلجاء إلى الإيمان وأنه ينافي التكليف. وقلت: إذا كان الإيمان مقدما على هذا الكشف فلا منافاة ولا إلجاء. ثم إن فرعون لعب لعب الحجل وأنكر عليهم إيمانهم وألقى شبهته في البين أنه كبيرهم أي أسحرهم وأعلاهم درجة في الصناعة، أو معلمهم وأستاذهم من قول أهل مكة للمعلم «أمرني كبيري» أي أستاذي في العلم أو غيره، وأوعدهم بقطع الأيدي والأرجل مِنْ خِلافٍ قال في الكشاف: «من» لابتداء الغاية لأن القطع مبتدأ وناشيء من مخالفة العضو والعضو لا من وفاته إياه. قلت: الأولى أن يقال الخلاف هاهنا بمعنى الجهة المخالفة حتى يصح معنى الابتداء أي لأقطعن أيديكم وأرجلكم مبتدأ من الجهتين المتخالفتين يمينا وشمالا، فيكون الجار والمجرور في موضع الحال أي لأقطعنها مختلفات الجهات. قيل فِي جُذُوعِ النَّخْلِ أي عليها والأصوب أن يقال: هي على أصلها شبه تمكن المصلوب في الجذع بتمكن المظروف في الظرف أَيُّنا أَشَدُّ أراد نفسه وموسى وفيه صلف باقتداره وقهره وما ألفه من تعذيب الناس واستخفاف بموسى مع الهزء به، لأن موسى لم يكن قط من التعذيب في شيء قاله في الكشاف. قلت: يحتمل أن يريد بقوله أَيُّنا الله تعالى ونفسه لنقدم ذكر رب هارون وموسى، وقد سبق عذاب الله في قوله أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى وفي قوله فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ ويؤيده قول السحرة في جوابه وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى لَنْ نُؤْثِرَكَ لن نختارك عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ المعجزات الظاهرات وَعلى الَّذِي فَطَرَنا أو الواو للقسم وعلى هذا يجوز أن يكون(4/558)
على ما جاءنا بمعنى فيما جاءنا أي لن نميل إليك والحالة هذه. وعلى الوجه الأول ففحوى الكلام لن نترك طاعة خالقنا والتصديق بمعجزات نبيه لأجل هواك فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ بما شئت من العذاب إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا أي في مدة الحياة العاجلة. وقرىء تَقْضِي مبنيا للمفعول هذه الحياة بالرفع إجراء للظرف مجرى المفعول به اتساعا مثل صيم يوم الجمعة. والحاصل أن قضاءك وحكمك منحصر في مدة حياتنا الفانية، والإيمان وثمرته باق لا يزول، والعقل يقتضي تحمل الضرر الفاني للفوز بالسعادة الباقية وللخلاص من العقاب الأبدي وذلك قولهم إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا قال الحسن: سبحان الله قوم كفار ثبت في قلوبهم الإيمان طرفة عين فلم يتعاظم عندهم أن قالوا في ذات الله تعالى فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ والله إن أحدهم ليصحب القرآن ستين عاما ثم ليبيع دينه بثمن غبن.
ولما كان أقرب خطاياهم عهدا ما أظهروه من السحر قالوا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وفي هذا الإكراه وجوه: عن ابن عباس أن الفراعنة كانوا يكرهون فتيانهم على تعلم السحر ليوم الحاجة فكانوا من ذلك القبيل. وروي أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائما ففعل فوجده تحرسه عصاه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر لأن الساحر إذا نام بطل سحره فأبوا أن يعارضوه. وعن الحسن أنهم حشروا من المدائن مكرهين، وزعم عمر بن عبيد أن دعوة السلطان إكراه، وليس بقوي فلا إكراه إلا مع الخوف فحيثما وجد حكم بالإكراه وإلا فلا. وباقي الآيات ابتداء إخبار من الله أو هي من تتمة كلامهم فيه قولان، ولعل الأول أولى إِنَّهُ أي الشأن مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ أي حيث لا حكم إلا هو فيسقط استدلال المجسمة حال كون الآتي مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها موتة مريحة وَلا يَحْيى حياة ممتعة. قالت المعتزلة: صاحب الكبيرة مجرم وكل مجرم فإن له جهنم بالآية لعموم «من» الشرطية بدليل صحة الاستثناء فيحصل القطع بوعيد أصحاب الكبائر. أجابت الأشاعرة بأن المجرم كثيرا ما يجيء في القرآن بمعنى الكافر كقوله يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ إلى قوله وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ [المدثر: 46] ولا ريب أن التكذيب بالبعث والجزاء كفر، وكقوله إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين: 29] إلى آخر السورة. فلم قلتم: إن المجرم هاهنا ليس بمعنى الكافر فتبطل المقدمة الأولى؟ سلمنا لكن المقدمة الثانية كليتها ممنوعة على الإطلاق وإنما هي كلية بشرط عدم العفو، وحينئذ لا يحصل القطع بالوعيد على الإطلاق. سلمنا المقدمتين والنتيجة لكنه معارض بعموم الوعد في قوله وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً فإن قيل:(4/559)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82) وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98) كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
صاحب الكبيرة لم يأته مؤمنا عندنا. قلنا: يصدق عليه المؤمن لأن الإيمان صدر عنه في الزمان الماضي كالضارب على من قد ضرب أمس وليس بين الحال والزمان الماضي منافاة كلية ولهذا صح «جاءني زيد قد قام» بل صح قوله قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ وأنه حال آخر فكأنه قيل: ومن يأته قد آمن قد عمل. ولئن قيل: إن عقاب المعصية يحبط ثواب الطاعة.
قلنا: ممنوع بل العكس أولى لأن الدفع أسهل من الرفع وإقامة الحد على التائب في بعض الصور لأجل المحنة لا لأجل التنكيل. وقوله نَكالًا مِنَ اللَّهِ في حق من لم يتب بعد من السرقة سلمنا أن قوله وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً لا يعم صاحب الكبيرة إلا أن قوله فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى من الجنة لمن أتى بالإيمان والأعمال الصالحات أي الواجبات، لأن الزائد عليها غير محصور فسائر الدرجات التي غير عالية لا بد أن تكون لغيرهم وما هم إلا العصاة من أهل الإيمان. ثم عظم شأن المذكور بقوله وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى أي قال «لا إله لا إلا الله» قاله ابن عباس. وفيه دليل على أن قوله وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً يشمل صاحب الكبيرة، وقال آخرون تَزَكَّى أي تطهر من دنس الذنوب وعلى هذا يقع صاحب الكبيرة خارجا.
[سورة طه (20) : الآيات 77 الى 114]
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81)
وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86)
قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91)
قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96)
قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106)
لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)(4/560)
القراآت:
لا تخف دركا بالجزم: حمزة الباقون لا تَخافُ بالرفع أنجيتكم وواعدتكم ورزقتكم على التوحيد: حمزة وعلي وخلف ووعدناكم من الوعد.
أبو عمرو وسهل ويعقوب فَيَحِلَّ وَمَنْ يَحْلِلْ بالضم فيهما: عليّ. الآخرون بالكسر بِمَلْكِنا بفتح الميم: أبو جعفر ونافع، وعاصم غير المفضل بضمها حمزة، وعلي وخلف بكسرها الباقون والمفضل حملنا بفتح الحاء والميم مخففة: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف سوى حفص. الآخرون بضم الحاء وكسر الميم مشددة تتبعني بالياء الساكنة في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وأفق أبو عمرو ونافع غير إسماعيل في الوصل، وقرأ يزيد وإسماعيل بفتح الياء. الباقون بحذفها. ابْنَ أُمَ
بكسر الميم: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. لم تبصروا بتاء الخطاب:
حمزة وعلي وخلف الباقون على الغيبة فَنَبَذْتُها مدغما: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف ويزيد وهشام وسهل لَنْ تُخْلَفَهُ بكسر اللام: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. الآخرون بفتحها لنحرقنه بفتح النون وضم الراء: يزيد. الآخرون من الحريق. فلا يخف بالجزم على النهي: ابن كثير أن نقضي بالنون مبنيا للفاعل وحيه بالنصب: يعقوب الباقون بالياء مضمومة وبفتح الضاد وَحْيُهُ بالرفع.(4/561)
الوقوف:
يَبَساً ج لأن قوله لا تَخافُ يصلح صفة للطريق مع حذف الضمير العائد أي لا تخاف فيه، ويصلح مستأنفا. ومن قرأ لا تخف فوقفه أجوز لعدم العاطف ووقوع الحائل مع تعقب النهي الأمر إلا أن يكون جوابا للأمر فلا يوقف وَلا تَخْشى هـ ما غَشِيَهُمْ ط لأن التقدير وقد أضل من قبل على الحال الماضية دون العطف لأنه عند ما غشيه لم يتفرغ للإضلال. وَما هَدى هـ وَالسَّلْوى هـ غَضَبِي ج هَوى هـ اهْتَدى هـ يا مُوسى هـ لِتَرْضى هـ السَّامِرِيُّ هـ أَسِفاً ج لانتساق الماضي على الماضي بلا ناسق حَسَناً ط مَوْعِدِي هـ السَّامِرِيُّ هـ لا فَنَسِيَ هـ ط قَوْلًا لا للعطف وَلا نَفْعاً هـ ط فُتِنْتُمْ بِهِ ج للابتداء بأن مع اتصال العطف أَمْرِي ج مُوسى هـ أَلَّا تَتَّبِعَنِ ط أَمْرِي هـ رَأْسِي
ج للابتداء (بأن) مع اتصال المعنى واتحاد القائل وْلِي
هـ يا سامِرِيُّ هـ نَفْسِي هـ لا مِساسَ ص لَنْ تُخْلَفَهُ ج لاختلاف الجملتين عاكِفاً ط للقسم المحذوف نَسْفاً هـ إِلَّا هُوَ ط عِلْماً هـ سَبَقَ ج للإستئناف والحال ذِكْراً ج هـ لأن الشرطية تصلح صفة للذكر وتصلح مبتدأ بها وِزْراً هـ لا لأن قوله خالِدِينَ حال من الضمير في يَحْمِلُ وهو عائد إلى «من» ومن للجمع معنى فِيهِ ط حِمْلًا هـ لا لأن يَوْمَ يُنْفَخُ بدل من يوم القيامة. زُرْقاً هـ ج لأن ما بعده يصلح للصفة وللاستئناف عَشْراً هـ يَوْماً هـ نَسْفاً هـ لا صَفْصَفاً هـ لا أَمْتاً هـ لا عِوَجَ لَهُ ج لاختلاف الجملتين هَمْساً هـ قَوْلًا هـ عِلْماً هـ الْقَيُّومِ ط ظُلْماً هـ هَضْماً هـ ذِكْراً هـ الْحَقُّ ج وَحْيُهُ ز لعطف الجملتين المتفقتين مع اعتراض الظرف وما أضيف إليه عِلْماً هـ.
التفسير:
هذا شروع في قصة إنجاء بني إسرائيل وإهلاك عدوّهم وقد تقدم في «البقرة» وفي «الأعراف» وفي «يونس» ومعنى فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً اجعل لهم من قولهم «ضرب له في ماله سهما وضرب اللبن عمله» أو أراد بين لهم طريقا فِي الْبَحْرِ بالضرب بالعصا حتى ينفلق فعدي الضرب إلى الطريق، ثم بين أن جميع أسباب الأمن حاصلة في ذلك الطريق. واليبس مصدر وصف به ومثله اليبس ونحوهما العدم والعدم ويوصف به المؤنث لذلك فيقال: ناقتنا يبس إذا جف لبنها. والدرك. والدرك اسمان من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده ولا يلحقونك. وفي لا تَخْشى إذا قرىء لا تخف أوجه الاستئناف أي وأنت لا تخشى، وجوز في الكشاف أن يكون الألف للإطلاق من أجل الفاصلة كقوله وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب: 10] وأن يكون كقول الشاعر:
كأن لم ترى قبلي أسيرا يمانيا(4/562)
أراد لم تر لأن ما قبله:
وتضحك مني شيخة عبشمية قلت: لعل هذا إنما يجوز في الضرورة ولا ضرورة وفي الآية فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ الحق بهم جنوده أو تبعهم ومعه جنوده كما مر في «يونس» فَغَشِيَهُمْ أي علاهم ورهقهم مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ وهذا من جملة ما علم في باب الإيجاز لدلالته على أنه غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله، وقد سلف منه في السور المذكورة ما حكي في الأخبار وروي في الآثار. ونسبة الإضلال إلى فرعون لا تنافي انتهاء الكل إلى إرادة الله ومشيئته. وقوله وَما هَدى تأكيد للإضلال وفيه تهكم به في قوله وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ [غافر: 38] ثم عدد ما أنعم به على بني إسرائيل، ويجوز أن يكون خطابا لليهود المعاصرين لأن النعمة على الآباء نعمة في حق الأبناء ومثله قوله وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ أي الواقع على يمين من انطلق من مصر إلى الشام لأن منفعة المواعدة عادت إليهم وإن كانت المواعدة لنبيهم فبكتب التوراة في ألواح قام شرعهم واستقام أمر معاشهم ومعادهم. كُلُوا من تتمة القول. وطغيانهم في الرزق هو شغلهم باللهو والتنعم عن القيام بشكرها وتعدي حدود الله فيها بالإسراف والتقتير والغصب. ومن قرأ فَيَحِلَّ بالكسر فبمعنى الوجوب من قولهم «حل الدين يحل» إذا وجب أداؤه، ومن قرأ بالضم فبمعنى النزول ونزول الغضب نزول نتائجه من العقوبات والمثلات. ومعنى هَوى هلك وأصله السقوط من مكان عال كالجبل. وقيل: هوى أي وقع في الهاوية.
سؤال: كيف أثبت المغفرة في حق من استجمع التوبة والإيمان والعمل الصالح، والمغفرة إنما تتصور في حق من أذنب؟ وأيضا ما معنى قوله ثُمَّ اهْتَدى بعد الأمور المذكورة والاهتداء إنما يكون قبلها لا أقل من أن يكون معها؟ الجواب أراد وإني لغفار لمن تاب من الكفر وآمن وعمل صالحا. وفيه دليل لمن ذهب إلى وجوب تقديم التوبة من الكفر على الإيمان. والحاصل أن الغفران يعود إلى الذنوب السابقة على هذه الأمور، ويجوز أن يراد أنه إذا تاب من الكفر وأقبل على الإيمان والعمل الصالح فإن الله يغفر الصغائر التي تصدر عنه في خلال ذلك كقوله إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [النساء: 31] وأما الاهتداء فالمراد به الاستقامة والثبات على الأمور المذكورة كقوله إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت: 30] ومعنى «ثم» الدلالة على تباين المرتبتين، فإن المداومة على الخدمة أصعب من الشروع فيها كما قيل:
لكل إلى شأو العلى حركات ... ولكن عزيز في الرجال ثبات
ونظير هذا العطف قوله أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف: 4] وقد مر البحث(4/563)
فيه. ويروى أن موسى قد مضى مع النقباء السبعين إلى الطور على الموعد المضروب، ثم تقدمهم شوقا إلى كلام ربه وتنجز ما وعد به بناء على اجتهاده وظنه أن ذلك أقرب إلى رضا الله فأنكر الله تعالى تقدمه قائلا وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ أيّ شيء عجل بك عنهم؟
فالمراد بالقوم النقباء لا جميع قومه على ما توهم بعضهم يؤكده قوله هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي ولم يكن جميع قومه على أثره. قال جار الله: قد تضمن ما واجهه به رب العزة شيئين: أحدهما إنكار العجلة في نفسها، والثاني السؤال عن سبب التقدم فكان أهم الأمرين إلى موسى تمهيد العذر من العجلة نفسها فاعتل بأنه لم يوجد مني إلا تقدم يسير وليس بيني وبينهم إلا مسافة يتقدم بمثلها الوفد رأسهم ومقدمهم، ثم عقبه بجواب السؤال عن السبب فقال وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى أي طلبت دوم رضاك عني أو مزيد رضاك بناء على اجتهادي أن التعجيل إلى مقام المكالمة والحرص على ذلك يوجب مزيد الثواب والكرامة. وقيل: لما أنكر عليه الاستعجال دهش خوفا من العقاب فتحير في الجواب قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ يعني جميع قومه الذين خلفهم مع هارون وكانوا ستمائة ألف ما نجا من عبادة العجل إلا اثنا عشر ألفا. يروى أنهم أقاموا بعد مفارقته عشرين ليلة وحسبوها أربعين مع أيامها وقالوا: قد أكملنا العدة. ثم كان أمر العجل بعد ذلك فسئل أنه تعالى كيف قال لموسى عنه مقدمه فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ؟ وأجيب بأنه على عادة الله تعالى في إخباره عن الأمور المترقبة بلفظ الماضي تحقيقا للوقوع، أو أراد بدء الفتنة لأن السامري افترض غيبة موسى فعزم على إضلال قومه غب انطلاقه. ولقائل أن يمنع كون هذه الأخبار عند مقدم موسى عليه السلام بل لعله عند رجوعه بدليل فاء التعقيب في قوله فَرَجَعَ مُوسى قال جار الله إنه رجع بعد ما استوفى الأربعين ذا القعدة وعشر ذي الحجة وأوتي التوراة. وسامري منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة. وقيل:
السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم. وقيل: كان علجا من كرمان واسمه موسى بن ظفر وكان منافقا وكان من قوم يعبدون البقر. قالت المعتزلة: الفتنة بمعنى الإضلال لا يجوز أن تنسب إلى الله تعالى لأنه يناقض قوله وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ وإنما الفتنة بمعنى الامتحان بتشديد التكليف ومنه «فتنت الذهب بالنار» وبيان ذلك أن السامريّ لما أخرج لهم العجل صاروا مكلفين بأن يستدلوا بحدوث جملة الأجسام على أن العجل لا يصلح للإلهية. وقالت الأشاعرة: الشبهة في كون الشمس والقمر إلها أعظم من العجل الذي له خوار وهو جسد من الذهب وحينئذ لا يكون حدوث ذلك العجل تشديدا في التكليف، فلا يكون فتنة من هذا الوجه فوجب حمله على خلق الضلال فيهم. وأجابوا عن إضافة الضلال إلى السامري بأن جميع المسببات العادية تضاف إلى أسبابها في الظاهر وإن(4/564)
كان الموجد لها في الحقيقة هو الله تعالى. قال بعضهم: الأسف المغتاظ، وفرق بين الاغتياظ والغضب لأن الغيظ تغير يلحق المغتاظ فلا يصح إلا على الأجسام، والغضب قد يراد به الإضرار بالمغضوب عليه فلهذا صح إطلاقه على الله سبحانه.
ثم عاتب موسى عليه السلام قومه بأمور منها: قوله أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً كأنهم كانوا معترفين بالرب الأكبر لكنهم عبدوا العجل على التأويل الذي تذكر عبدة الأصنام أو على تأويل الحلول. والوعد الحسن هو إنزال التوراة التي فيها هدى ونور.
وقيل: هو الثواب على الطاعات ومثله ما روي عن مجاهد أن العهد المذكور من قوله وَلا تَطْغَوْا فِيهِ إلى قوله ثُمَّ اهْتَدى وقيل: وعدهم إهلاك فرعون ووعدهم أرضهم وديارهم وقد فعل. ومنها قوله أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي الزمان يريد مدة مفارقته لهم وعدوه أن يقيموا على أمره وما تركهم عليه من الإيمان فاخلفوا موعده بعبادتهم العجل.
وقيل: أراد عهدهم بنعم الله تعالى من الإنجاء وغيره. والأكثرون على الأول لما روي أنه وعدهم ثلاثين كما أمر الله تعالى وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً [الأعراف: 142] فجاء بعد الأربعين لقوله تعالى وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ ولما روي أنهم حسبوا العشرين أربعين ومنها قوله أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ قالوا: هذا لا يمكن إجراؤه على الظاهر لأن أحدا لا يريد هلاك نفسه ولكن المعصية- وهو خلاف الموعد- لما كانت توجب ذلك صح هذا الكلام لأن مريد السبب مريد للمسبب بالعرض. احتج العلماء بالآية وبما مر من قوله فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي أن الغضب من صفات الأفعال لا من صفات الذات لأن صفة ذات الله تعالى لا تنزل في شيء من الأجسام. وموعد موسى هو ما ذكرنا من أنهم وعدوه الإقامة على دينه إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل: وعدوه اللحاق به والمجيء على أثره قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا بالحركات الثلاث أي بأن ملكنا أمرنا أي لو ملكنا أمرنا وخلينا ورأينا لما أخلفناه ولكن غلبنا من جهة السامري وكيده. والظاهر أن القائلين هم عبدة العجل. وقيل: إنهم الذين لم يعبدوا العجل وقد يضيف الرجل فعل قرينه إلى نفسه فكأنهم قالوا: الشبهة قوبت على عبدة العجل فلم يقدر على منعهم ولم يقدروا أيضا على مخالفتهم حذرا من التفرقة وزيادة الفتنة. ثم إن القوم بينوا ذلك العذر المجمل فقالوا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ أي أثقالا من حلي القبط كما مر في «الأعراف» .
وقيل: الأوزار الآثام وإنها في الحقيقة أثقال مخصوصة معنوية سموا بذلك لأن المغانم لم تحل حينئذ أو لأنهم كانوا مستأمنين في دار الحرب وليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربي.
وقيل: إن تلك الحلي كان القبط يتزينون بها في مجامع الكفر ومجالس المعاصي فلذلك(4/565)
وصفت بأنها أوزار كما يقال في آلات المعاصي. فَقَذَفْناها أي في الحفرة، كان هارون أمرهم بجمع الحلي انتظارا لعود موسى، أو في موضع أمرهم السامري بذلك بعد أن أوقد النار فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ مثل فعلنا أراهم أنه يلقي حليا في يده مثل ما ألقوه. وإنما ألقى التربة التي أخذها من موطىء حافر فرس جبريل كما يجيء في قوله فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ قد مر في «الأعراف» فَقالُوا أي السامري ومن تبعه هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ موسى أن يطلبه هاهنا فذهب يطلبه عند الطور، أو فنسي السامري وترك ما كان عليه من الإيمان الظاهر، أو نسي الاستدلال على أن العجل لا يجوز أن يكون إلها بقوله أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ «أن» مخففة من الثقيلة ولهذا لم تعمل. وقرىء بالنصب على أنها الناصبة. قال العلماء: ظهور الخوارق على يد مدعي الإلهية جائز لأنه لا يحصل الالتباس، وهاهنا كذلك فوجب أن لا يمتنع خلق الحياة في صورة العجل.
وروى عكرمة عن ابن عباس أن هارون مر بالسامري وهو يصنع العجل فقال: ما تصنع؟ فقال: أصنع ما ينفع ولا يضر فادع لي. فقال: اللهم أعطه ما سألك. فلما مضى هارون قال السامري: اللهم إني أسألك أن يخور فخار.
وعلى هذا التقدير يكون معجزا للنبي لا السامري. ثم إنه سبحانه أخبر أن هارون لم يأل نصحا وإشفاقا في شأن نفسه وفي شأن القوم قبل أن يقول لهم السامري ما قال. أما شفقته على نفسه فهي أنه أدخلها في زمرة الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر، أما الامتثال فإنه امتثل في نفسه وفي شأن القوم أمر أخيه حين قال لهم يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ قال جار الله: كأنهم أول ما وقعت عليه أبصارهم حين طلع من الحفرة فتنوا به واستحسنوه فقبل أن ينطق السامري بادرهم هارون فزجرهم عن الباطل أولا بأن هذا من جملة الفتن.
ثم دعاهم إلى الحق بقوله وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ ومن فوائد تخصيص هذا الاسم بالمقام أنهم إن تابوا عما عزموا عليه فإن الله يرحمهم ويقبل توبتهم. ثم بين أن الوسيلة إلى معرفة كيفية عبادة الله هو اتباع النبي وطاعته فقال فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي وهذا ترتيب في غاية الحسن. واعلم أن الشفقة على خلق الله أصل عظيم في الدين وقاعدة متينة.
روى النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» «1»
ويروى أن
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأدب باب: 27. مسلم في كتاب البر حديث 66. أحمد في مسنده (4/ 268، 270) .(4/566)
رسول الله صلى الله عليه وسلم بينا هو جالس إذا نظر إلى شاب على باب المسجد فقال:
من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه. فسمع الشاب ذلك فولى وقال: إلهي وسيدي هذا رسولك يشهد عليّ بأني من أهل النار وأنا أعلم أنه صادق، فإذا كان الأمر كذلك فأسألك أن تجعلني فداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم وتشعل النار بي حتى يبر يمينه ولا تسفع النار أحدا. فهبط جبريل وقال: يا محمد بشر الشاب بأني قد أنقذته من النار بتصديقه لك وفداء أمتك بنفسه وشفقته على الخلق.
قال أهل السنة هاهنا: إن الشيعة تمسكوا
بقوله صلى الله عليه وسلم «أنت مني بمنزلة هارون من موسى» «1» .
ثم إن هارون ما منعته التقية في مثل ذلك الجمع بل صعد المنبر وصرح بالحق ودعا الناس إلى متابعته، فلو كانت أمة محمد صلى الله عليه وسلم على الخطأ لكان يجب على عليّ كرم الله وجهه أن يفعل ما فعل هارون من غير تقية وخوف. وللشيعة أن يقولوا: إن هارون صرح بالحق وخاف فسكت ولهذا عاتبه موسى بما عاتب فاعتدر ب إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي [الأعراف: 15] وهكذا علي رضي الله عنه امتنع أولا من البيعة فلما آل الأمر إلى ما آل أعطاهم ما سألوا. وإنما قلت هذا على سبيل البحث لا لأجل التعصب. ثم إن القوم قابلوا حسن موعظة هارون بالتقليد والجحود قائلين لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى ولا يخفى ما في هذا الكلام من أنواع التوكيد من جهة النفي ب «لن» ، ومن لفظ البراح والعكوف، ومن صيغة اسم الفاعل، ومن تقديم الخبر. ثم حكى ما جرى بين موسى وهارون بعد الرجوع وقوله ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ كقوله ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] في أن «لا» هذه مزيدة أم لا؟. وقد مر في «الأعراف» . وفي هذا الإتباع قولان: فعن ابن عباس ما منعك من اتباعي بمن أطاعك واللحوق بي وترك المقام بين أظهرهم. وقال مقاتل: أراد الإتباع في وصيته كأنه قال: هلا قاتلت من كفر بمن آمن ومالك لا تباشر الأمر كما كنت أباشره. قال الأصوليون: في قوله أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي دلالة على أن تارك المأمور به عاص والعاصي يستحق العقاب لقوله وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ [الجن: 22] فيعلم منه أن الأمر للوجوب. واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بأن موسى عليه السلام هل أمر هارون باتباعه أم لا؟ وعلى التقدير فهارون أتبعه أم لا؟ فإن لم يأمره أو أمره ولكن اتبعه فملامته لهارون من غير جرم تكون ذنبا، وإن أمره ولم يتبعه كان هارون عاصيا. وأيضا قوله أَفَعَصَيْتَ بمعنى الإنكار. فإما أن يكون موسى
__________
(1) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب: 9. الترمذي في كتاب المناقب باب: 20. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب: 11. أحمد في مسنده (1/ 170، 177، 185) .(4/567)
كاذبا في نسبة العصيان إلى هارون، وإما أن يكون هارون عاصيا. وأيضا أخذه بلحية هارون وبرأسه إن كان بعد البحث والتفتيش فهارون عاص وإلا فموسى. وأجيب بأن كل ذلك أمور اجتهادية جائزة الخطأ أو هي من باب الأولى وقد مر في أوائل «البقرة» في قصة آدم ما يتعلق بهذه المسألة.
قوله: لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي
أي وصيتي لك بحفظ الدهماء واجتماع الشمل يؤيده قوله: نِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ
قال الإمام أبو القاسم الأنصاري: الهداية أنفع من الدلالة فإن السحرة ما رأوا إلا آية واحدة فآمنوا وتحملوا في الدين ما تحملوا، وأما قوم موسى فقد رأوا ذلك مع زيادة سائر الآيات التسع ومع ذلك اغتروا بصوت العجل وعكفوا على عبادته، فعرفنا أن الغرض لا يحصل إلا بهداية الله تعالى. ولما فرغ موسى من عتاب هارون أقبل على السامري، ويمكن أن يكون بعيدا ثم حضر أو ذهب إليه موسى ليخاطبه.
قال جار الله: الخطب مصدر خطب الأمر إذا طلبه. فإذا قيل: لمن يفعل شيئا ما خطبك؟
فمعناه ما طلبك له والغرض منه الإنكار عليه وتعظيم صنيعه قالَ أي السامري بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ قال ابن عباس ورواه أبو عبيدة: علمت بما لم يعلموا به من البصارة يعني العلم. وقال الآخرون: رأيت بما لم تروه فالباء للتعدية، رجح العلماء قراءة الغيبة على الخطاب احترازا من نسبة عدم البصارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والقبضة بالفتح مصدر بمعنى المفعول وهو المقبوض بجميع الكف. عامة المفسرين على أن المراد بالرسول جبريل عليه السلام وأثره التراب الذي أخذه من موقع حافر دابته واسمها حيزوم فرس الحياة. ومتى رآه؟ الأكثرون على أنه رآه يوم فلق البحر كان جبريل على الرمكة وفرعون على حصان وكان لا يدخل البحر، فتقدم جبريل فتبعه فرس فرعون.
وعن علي رضي الله عنه أن جبريل لما نزل ليذهب بموسى إلى الطور أبصره السامري من بين الناس وكان راكب حيزوم فقال: إن لهذا شأنا فقبض من تربة موطئه.
فمعنى الآية فقبضت من أثر فرس المرسل إليك يوم حلول الميعاد. ثم من المفسرين من جوز أن السامري لم يعرف أنه جبريل ومنهم من قال: إنه عرفه. عن ابن عباس: إنما عرفه لأنه رباه في صغره وحفظه من القتل حين أمر فرعون بقتل أولاد بني إسرائيل. فكانت المرأة تلد وتطرح ولدها حيث لا يشعر به آل فرعون فتأخذ الملائكة الولدان فيربونهم حتى يترعرعوا ويختلطوا بالناس. فكان السامري أخذه جبريل وجعل كف نفسه في فيه وارتضع منه العسل واللبن فلم يزل يختلف إليه حتى عرفه. وقال أبو مسلم: إطلاق الرسول على جبريل في(4/568)
المقام من غير قرينة تكليف بعلم الغيب. وأيضا تخصيص السامري من بين الناس برؤية جبريل وبمعرفة خاصية تراب حافر دابته لا يخلو عن تعسف، ولو جاز اطلاع بعض الكفرة على تراب هذا شأنه فلقائل أن يقول: لعل موسى اطلع على شيء آخر لأجله قدر على الخوارق. فالأولى أن يراد بالرسول موسى فقد يواجه الحاضر بلفظ الغائب كما يقال: ما قول الأمير في كذا؟ ويكون إطلاق الرسول منه على موسى نوعا من التهكم لأنه كان كافرا به مكذبا. وأراد بأثره سنته ورسمه من قولهم «فلان يقفو أثر فلان» أي عرفت أن الذي عليه ليس بحق وقد كنت قبضت شيئا من سنتك فطرحتها. فعلى قول العامة يكون قوله:
وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي إشارة إلى ما أوحي إليه وليه الشيطان أن تلك التربة إذا نبذت على الجماد صار حيوانا. وعلى قول أبي مسلم يشير إلى أن اتباع أثرك كان من تسويلات النفس الأمارة فلذلك تركته. ثم بين موسى أن له عقوبة في الدنيا وعقوبة في الآخرة.
يروى أنه أراد أن يقتله فمنعه الله من ذلك وقال: لا تقتله فإنه سخيّ.
وفي قوله:
لا مِساسَ وجوه: الأوّل إنه حرم عليه مماسة الناس لأنه إذا اتفق أن هناك مماسة فأحدهم الماس والثاني الممسوس فلذلك إذا رأى أحدا صاح لا مساس. ويقال: إن قومه باق فيهم ذلك إلى الآن الثاني: أن المراد منع الناس من مخالطته. قال مقاتل: إن موسى أخرجه من محلة بني إسرائيل وقال له: اخرج أنت وأهلك طريدا إلى البراري. اعترض الواحدي عليه بأن الرجل إذا صار مهجورا فلا يقول: هو لا مساس. وإنما يقال له ذلك.
وأجيب بأن هذا على الحكاية أي أجعلك يا سامري بحيث إذا أخبرت عن حالك لم تقل إلا لا مساس. والثالث: قول أبي مسلم إن المراد انقطاع نسله وأن يخبر بأنه لا يمكن له مماسة المرأة أي مجامعتها. وأما حاله في الآخرة فلذلك قوله: وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ قال جار الله: من قرأ بكسر اللام فهو من أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا. ثم بين مآل حال إلهه فقال: وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً أي ظللت فحذف إحدى اللامين تخفيفا لَنُحَرِّقَنَّهُ من الإحراق ففيه دليل على أنه صار لحما ودما لأن الذهب لا يمكن إحراقه بالنار ونسفه في الميم. قال السدي: أمر موسى بذبحه فسال منه الدم ثم أحرق ثم نسف. والنسف النقض ومن جعله من الحرق أي لنبردنه بالمبرد ففيه دلالة على أنه لم ينقلب حيوانا إلا إذا أريد برد عظامه. ومن جعله من التحريق فإنه يحتمل الوجهين والمراد إهدار السامري وإبطال كيده ومحق صنيعه والله خير الماكرين. ثم ختم الكلام ببيان الدين الحق فقال: إِنَّما إِلهُكُمُ أي المستحق للعباد والتعظيم اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً قد مر مثله في «الأنعام» قال مقاتل: أي يعلم من يعبده.(4/569)
وحين فرغ من قصة موسى شرع في تثبيت رسولنا صلى الله عليه وسلم فقال:
كَذلِكَ أي نحو اقتصصنا عليك قصة موسى وفرعون والسامري نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ سائر أخبار الرسل مع أممهم تكثيرا لمعجزاتك. ثم عظم شأن القرآن بقوله: وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً أي ما ذكر فيه كل ما يحتاج إليه المكلف في دينه وفي دنياه والوزر العقوبة الثقيلة التي تنقض ظهر صاحبها، أو المراد جزاء الوزر وهو الإثم خالِدِينَ فِيهِ أي في ذلك الوزر أو في احتماله وَساءَ فيه ضمير مبهم يفسره حِمْلًا والمخصوص محذوف للقرينة أي ساء حملا وزرهم. واللام في لَهُمْ للبيان كما في هَيْتَ لَكَ [يوسف:
23] ويجوز أن يكون «ساء» بمعنى «قبح» ويكون فيه ضمير الوزر. وانتصب حِمْلًا على التمييز ولَهُمْ حال من حِمْلًا ولا أدري لم أنكره صاحب الكشاف، اللهم إلا أن يمنع وقوع الحال من التمييز وفيه نظر. قال ابن السكيت: الحمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس. وفي الصور قولان:
أشهرهما أنه القرن يؤيده قوله: فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر: 8] وإنه تعالى يعرّف أمور الآخرة بأمثال ما شوهد في الدنيا ومن عادة الناس النفخ في البوقات عند الأسفار وفي العساكر فجعل الله تعالى النفخ في تلك الآلة علامة لخراب الدنيا ولإعادة الأموات.
وأقربهما من المعقول أن الصور جمع صورة يؤكده قراءة من قرأ بفتح الواو. يقال: صورة وصورة كدرة ودرر. والنفخ نفخ الروح فيها ولكنه يرد عليه أن النفخ يتكرر لقوله تعالى:
ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى [الزمر: 68] والإحياء لا يتكرر بعد الموت إلا ما ثبت من سؤال القبر وليس هو بمراد من النفخة الأولى بالاتفاق وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ. عن ابن عباس:
هم الذين اتخذوا مع الله إلها آخر. وقال المعتزلة: هم الكفار والعصاة. وفي الزرق وجوه: قال الضحاك ومقاتل: إن الزرقة أبغض شيء من ألوان العيون إلى العرب، لأن الروم أعداؤهم وإنهم زرق العيون، ومن كلامهم في صفة العدوّ «أسود الكبد أصهب السبال أزرق العين» . وقال الكلبي: زُرْقاً أي عميا. قال الزجاج: يخرجون بصراء في أول أمرهم لقوله: لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم: 42] ولقوله: اقْرَأْ كِتابَكَ [الإسراء: 14] ثم يؤل حالهم إلى العمى وإن حدقة من يذهب نور بصرة تزرق. وقيل:
زُرْقاً أي عطاشا لقوله: وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً [مريم: 86] فكأنهم من شدة العطش يتغير سواد عيونهم حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي يَتَخافَتُونَ يتسارون بَيْنَهُمْ من شدة خوفهم أو لأن صدورهم امتلأت رعبا، وهؤلاء يستقصرون مدة لبثهم في الدنيا إما لأنها أيام سرورهم وهن قصار، وإما لأنها قد انقضت والذاهب قليل وإن طال ولا سيما بالنسبة إلى الأبد السرمدي كأن ظنينهم يقول: قدر لبثنا في الدنيا بالقياس إلى(4/570)
لبثنا في الآخرة كعشرة أيام. فقال أعقلهم: بل كاليوم الواحد. وإنما قال: عَشْراً لأن المراد عشر ليال. وقال مقاتل: أراد عشر ساعات أي بعض يوم. وعلى هذا فأفضلهم رد عليهم استقصارهم وتقالهم. وقيل: المراد لبثهم في القبور.
قال أهل النظم: كأن سائلا سأل: كيف يصح التخافت بين المجرمين والجبال حائلة مانعة؟ فلذلك قال: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ وقال الضحاك: إن مشركي مكة قالوا على سبيل الاستهزاء: يا محمد كيف يكون حال الجبال يوم القيامة؟ فنزلت. ويحتمل أن يكون هذا جواب شبهة تمسك بها منكرو البعث- منهم جالينوس- زعم أن الأفلاك لا تفنى لأنها لو فنيت لابتدأت بالنقصان حتى تنتهي إلى البطلان، وكذا الجبال وغيرها من الأجرام الكلية، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم هذه المسألة الأصولية من غير تأخير ولهذا أدخل فاء التعقيب في الجواب. والنسف القلع. وقال الخليل: التطيير والإذهاب كأنه يجعلها كالرمل ثم يرسل عليها الرياح فتفرقها. وحاصل الجواب أن كل بطلان لا يلزم أن يكون ذبوليا بل قد يكون رفعيا. والضمير في فَيَذَرُها للمضاف المحذوف أي فيدع مقارها ومراكزها وهو للأرض للعلم بها كقوله: ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها [فاطر: 45] والقاع المستوي من الأرض. وقيل: المكان المطمئن. وقيل: مستنقع الماء.
والصفصف الأرض الملساء المستوية. وقيل: التي لا نبات فيها. والأمت النتوّ اليسير.
وقيل: التلال الصغار. قالوا: العوج بالكسر في المعاني وكأنه سبحانه نفى العوج الذي يدق عن الإحساس ولا يدرك إلا بالقياس الهندسي، وإذا كان هذا النوع من العوج الاعتباري منتفيا فكيف بالعوج الحسي! وقد يستدل بالآية على أن الأرض يومئذ تكون كرة حقيقة إذ لو كانت مضلعة وقعت بين الأضلاع فصول مشتركة فيعوج الامتداد القائم عليها هناك. ثم إنه تعالى وصف ذلك اليوم بأن الخلائق فيه يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ قيل: هو النفخ في الصور. وقوله: لا عِوَجَ لَهُ أي لا يعدل عن أحد بدعائه بل يحشر الكل. وقيل: إن إسرافيل أو ملكا آخر يقوم على صخرة بيت المقدس ينادي: أيها العظام النخرة والأوصال المتفرقة واللحوم المتمزقة، قومي إلى ربك للحساب والجزاء فلا يعوج له مدعوّ بل يتبعون صوته من غير انحراف. وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ خفضت من شدة الفزع فَلا تَسْمَعُ أيها السامع إِلَّا هَمْساً وهو الصوت الخفي. وذلك أن الجن والإنس علموا أن لا مالك لهم سواه، وحق لمن كان الله محاسبه أن يخشع طرفه ويضعف صوته ويختلط قوله ويطول غمه. وعن ابن عباس والحسن وعكرمة وابن زيد الهمس وطء الأقدام إلى المحشر. قوله: إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ يصلح أن يكون «من» منتصبا على(4/571)
المفعولية وأن يكون مرفوعا على البدلية بتقدير حذف المضاف أي لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن وَرَضِيَ لَهُ أي لأجله قَوْلًا.
قال الإمام فخر الدين الرازي: الاحتمال الأول أولى لعدم التزام الإضمار، ولأن درجة الشافع درجة عظيمة فلا تصلح ولا تحصل إلا لمن أذن له فيها وكان عند الله مرضيا. فلو حملنا الآية على ذلك كان من إيضاح الواضحات بخلاف ما لو حملت على المشفوع. وأقول: الاحتمالان متقاربان متلازمان لأن المشفوع لا تقبل الشفاعة في حقه إلا إذا أذن الرحمن لأجله فيعود إلى الثاني. قالت المعتزلة: الفاسق غير مرضي عند الله تعالى فوجب أن لا ينتفع بشفاعة الرسول. وأجيب بأنه قد رضي لأجله قولا واحدا من أقواله وهو كلمة الشهادة. قالوا: هب أن الفاسق قد رضي الله قولا لأجله، فلم قلتم إن الإذن حاصل للشافع في حقه؟ والجواب أنا أيضا نمنع من أن الإذن غير حاصل في حقه على أنه قال في موضع آخر وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى [الأنبياء: 28] فلم يعتبر إلا أحد القيدين. ثم أخبر عن نهاية علمه بقوله: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ. الضمير للذين يتبعون الداعي أي يعلم ما يقدمهم من الأحوال وما يستقبلونه وَلا يُحِيطُونَ بمعلومه عِلْماً.
وقال الكلبي ومقاتل: الضمير للشافعين من الملائكة والأنبياء كما مر في آية الكرسي. وفيه تقريع لمن يعبد الملائكة ليشفعوا له أي يعلم ما كان قبل خلقهم وما كان منهم بعد خلقهم من أمر الآخرة والثواب والعقاب وإنهم لا يعلمون شيئا من ذلك فكيف يصلحون للمعبودية. ثم ذكر غاية قدرته فقال: وَعَنَتِ الْوُجُوهُ أي زلت رقاب الممكنات منقادين لأمره كالأسارى. عنا يعنو عنوّا إذا صار أسيرا. وقيل: أراد وجوه العصاة في القيامة كقوله: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الملك: 27] ولعله خص الوجوه بالذكر لأن أثر الذل والانكسار فيها أبين وأظهر. قال جار الله: وَقَدْ خابَ وما بعده اعتراض أي كل من ظلم فهو خائب خاسر. ولأهل السنة أن يخصوا الظلم هاهنا بالشرك أو يعارضوا هذا العموم بعمومات الوعد. من قرأ فَلا يَخافُ بالرفع فعلى الاستئناف أي فهو لا يخاف كقوله: فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [المائدة: 95] ومن قرأ فلا يخف فمعناه فليأمن له لأن النهي عن الخوف أمر بالأمن. من فسر الظلم بأنه الأخذ فوق حقه بالنقص من حقه كصفة المطففين فيقدر مضافا محذوفا أي فلا يخاف جزاء ظلم ولا هضم لأنه لم يظلم ولم يهضم، ومن فسر الظلم بأنه العقاب لا على جريمة والهضم بأنه النقص من الثواب فلا يحتاج إلى تقدير المضاف. قال أبو مسلم: الظلم أن ينقص من الثواب والهضم أن لا يوفى حقه من التعظيم لأن الثواب مع كونه من اللذات لا يكون ثوابا إلا إذا قارنه التعظيم.(4/572)
قال جار الله: وَكَذلِكَ عطف على قوله: كَذلِكَ نَقُصُّ أي ومثل ذلك الإنزال وعلى نهجه، وكما أنزلنا عليك هؤلاء الآيات المضمنة للوعيد أنزلنا القرآن كله عربيا لأن العرب أصل وغيرهم تبع لأن النبي عربي. وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ كررناه وفصلناه ويدخل في ضمنه الفرائض والمحارم لأن الوعيد يتعلق بترك أحدهما وبفعل الآخر لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً حمل جار الله الأول على إرادة ترك المعاصي والثاني على فعل الخير والطاعة، لأن الذكر قد يطلق على الطاعة والعبادة. قلت: لا ريب أن القرآن ينفر عن السيئات ويبعث على الطاعات من حيث إن فهم معانيه يؤذي إلى ذلك، وإنما قدم الأول على الثاني لأن التخلية مقدمة على التحلية. ويحتمل أن تكون التقوى عبارة عن فعل الخيرات وترك المنكرات جميعا. والذكر يكون محمولا على ضد النسيان أي إن نسوا شيئا من التروك والأفعال أحدث لهم ذكرا إذا تأملوا معانية. وكلمة «أو» على الأول للتخيير والإباحة لا للتنافي، وعلى الثاني يجوز أن تكون للتنافي. وقيل: أراد أنزلنا القرآن ليتقوا فإن لم يحصل ذلك فلا أقل من أن يوجب القرآن لهم ذكرا أي شرفا ومنصبا كقوله:
وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] وعلى التقديرين يكون في إنزال القرآن نفع.
ثم عظم شأن القرآن من وجه آخر وهو عظمة شأن منزلة قائلا فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ارتفع صفاته عن صفات المخلوقين أنزل القرآن ليحترزوا عما لا ينبغي وأنه منزه عن الانتفاع والتضرر بطاعاتهم ومعاصيهم. ومعنى الحق قد مر في البسملة. قال جار الله: فيه استعظام له ولما يصرّف عليه عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده والإدارة بين ثوابه وعقابه وغير ذلك كما يجري عليه أمر ملكوته. قال أبو مسلم: إن قوله: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ إلى هاهنا كلام تام. وقوله: وَلا تَعْجَلْ خطاب مستأنف. وقال آخرون: إنه صلى الله عليه وسلم كان يخاف أن يفوته شيء فيقرأ مع الملك، فإنه تعالى حين شرح كيفية نفع القرآن للمكلفين وبين أنه سبحانه متعال عن الانتفاع والتضرر بالطاعات والمعاصي.
وأنه موصوف بالملك الدائم والعز بالباقي، وكل من كان كذلك وجب أن يصون رسوله عن السهو والنسيان في أمر الوحي وما يتعلق بصلاح العباد في المعاش والمعاد. قال:
وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ لأنه حصل لك الأمان من السهو والنسيان مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي من قبل أن تتم قراءة جبريل ونحوه قوله لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ
[القيامة: 16] قاله مقاتل والسدي وابن عباس في رواية عطاء. وقال مجاهد وقتادة: أراد ولا تعجل بالقرآن فتقرأ على أصحابك من قبل أن يوحي إليك بيان معانية أي لا تبلغ ما كان مجملا حتى يأتيك البيان. وقال الضحاك: إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا:(4/573)
يا محمد، أخبرنا عن كذا وكذا وقد ضربنا لك أجلا ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه وفشت المقالة أن اليهود قد غلبوا فنزلت هذه الآية. أي لا تعجل بنزول القرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه من اللوح المحفوظ إلى إسرافيل ومنه جبرائيل ومنه إليك.
وعن الحسن: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: زوجي لطم وجهي فقال: بينكما القصاص فنزلت الآية فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القصاص.
وإنما نشأت هذه الأقوال لأن قوله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ يحتمل التعجيل بقراءته في نفسه، أو في تأديته إلى غيره، أو في اعتقاده ظاهره، أو في تعريف الغير ما يقتضيه الظاهر. وقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ احتمل أن يراد من قبل أن يقضى إليك تمامه، أو من قبل أن يقضى إليك بيانه فقد يجوز أن يحصل عقيبه استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات والمبينات ويؤكد هذه المعاني قوله: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً لأن معرفة البيان علم زائد على معرفة الإجمال. والظاهر أن هذا الاستعجال كان أمرا اجتهاديا وكان الأولى تركه فلذلك نهى عنه. قال جار الله: هذا الأمر متضمن للتواضع لله والشكر له عند ما علم من ترتيب التعلم أي علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم وأدبا جميلا ما كان عندي فزدنى علما إلى علم. ومن فضائل العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم. وفيه إشارة إلى أن أسرار القرآن غير متناهية، اللهم إن هذا العبد الضعيف معترف بقصوره ونقصانه فأسألك مما سألك به نبيك أن ترزقني بتبعيته علما ينفعني في الدارين.
التأويل:
وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى القلب أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي وهم صفات القلب من الأخلاق الحميدة سر بهم من مصر البشرية إلى بحر الروحانية. فَاضْرِبْ لَهُمْ بعصا الذكر طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً من ماء الهوى وطين الصفات الحيوانية وباقي التأويل كما مر في «يونس» وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ منّ صفاتنا وسلوى أخلاقنا فاتصفوا بطيبات أخلاقنا وَلا تَطْغَوْا فِيهِ بإفشاء أسرار الربوبية إلى غيرنا كمن قال: أنا الحق وسبحاني. فإن الحالات لا تصلح للمقاولات. وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ رجع عن الطغيان وَآمَنَ بالربوبية وَعَمِلَ صالِحاً في مقام العبودية ثُمَّ اهْتَدى فتحقق أن حضرة الربوبية منزهة عن دنس الوهم والخيال ومقام الوصال مباين للقيل والقال. وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ فيه أن الشوق إذا غلب انقطع العلائق وأن مطلوب السائل لا ينبغي أن يكون إلا رضا الله. قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ فيه أن فتنة الأمة والمريد مقرونة بالنبي والشيخ. بِمَلْكِنا أي بإرادتنا ومشيئتنا ولكن بإرادة الله ومشيئته. فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ من غير اختيار منه ولكن باضطرار من(4/574)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132) وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
القدرا بْنَ أُمَ
قيل خاطبه بذلك ليذكره قول الملائكة: يا ابن النساء الحيض ما للتراب ورب الأرباب. فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها فيه أن الكرامة لأهل الكرامة كرامة ولأهل الغرامة استدراج وفتنة فيصرفونها في الباطل والطبيعة لا في الحق والحقيقة.
قوله: لا مِساسَ فيه معارضة بنقيض مقصود من أراد الجمعية والغلبة واتباع الناس إياه، فعدت بالتفرد والتوحش والنفار عن الخلق زُرْقاً إن الوجه أشرف أعضاء الإنسان والعين أشرف أعضاء الوجه، وزرق العين دلالة على خروجها عن الاعتدال، وإذا كان أشرف الأعضاء خارجا عن الاعتدال فما ظنك بغيرها؟ وكذا بالأخلاق التابعة للأمزجة. وَعَنَتِ الْوُجُوهُ أي كل جهة بها يستند الممكن إلى الواجب. يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لأن كل ناس تدعى بإمامهم فيتبعونه البتة وأهل الله لا يفرون إلا إلى الله في قوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ [يونس: 25] وعلى الله المستعان.
[سورة طه (20) : الآيات 115 الى 135]
وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119)
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124)
قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134)
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135)(4/575)
القراآت:
وإنك بالكسر: أبو بكر وحماد والخراز ونافع. الباقون بالفتح عطفا على أَلَّا تَجُوعَ ولا يلزم منه دخول «إن» المكسورة على المفتوحة للفصل بالخبر، ولأنه يجوز في المعطوف ما لا يجوز في المعطوف عليه أَعْمى بالإمالة: حمزة وعلي وخلف حَشَرْتَنِي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير. ترضى مبينا للمفعول:
علي وأبو بكر وحماد والمفضل زَهْرَةَ بفتح الهاء: قتيبة وسهل ويعقوب. الآخرون بسكونها. وقرأ حمزة وعلي وخلف هذه السورة وكل سورة آياتها على الياء بالإمالة المفرطة وإن شاء بين الفتح والكسر.
الوقوف:
عَزْماً هـ إِلَّا إِبْلِيسَ ط أَبى هـ فَتَشْقى هـ وَلا تَعْرى هـ، لمن قرأ وَأَنَّكَ بالكسر وَلا تَضْحى هـ لا يَبْلى هـ الْجَنَّةِ ز لنوع عدول عن ذكر حال اثنين إلى بيان فعل من هو المقصود فَغَوى هـ ص وَهَدى هـ عَدُوٌّ ج لابتداء الشرط مع الفاء وَلا يَشْقى، هـ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى هـ بَصِيراً هـ فَنَسِيتَها ج لعطف المختلفين تُنْسى هـ بِآياتِ رَبِّهِ ط وَأَبْقى هـ مَساكِنِهِمْ ط النُّهى هـ مُسَمًّى هـ ط غُرُوبِها ج لعطف الجملتين مع اختلاف النظم تَرْضى هـ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ط وَأَبْقى هـ عَلَيْها ط رِزْقاً ط نَرْزُقُكَ ط لِلتَّقْوى هـ مِنْ رَبِّهِ ط الْأُولى هـ وَنَخْزى هـ فَتَرَبَّصُوا ج لسين التهديد مع الفاء اهْتَدى هـ.
التفسير:
في تعلق قصة آدم بما قبلها وجوه منها: أنه لما قال: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ ثم عظم شأن القرآن وبالغ فيه ذكر القصة إنجازا للوعد. ومنها أنه لما قال: وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ أردفه بهذه القصة ليعلم أن طاعة بني آدم للشيطان أمر قديم وخلة موروثة، وذلك أنه عهد إلى آدم من قبل هؤلاء الذين صرف لأجلهم الوعيد فنسي وترك العهد. ومنها أن قوله: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ دليل على أنه صلى الله عليه وسلم زاد على قدر الواجب في رعاية أمر الدين وكان مفرطا في أداء الرسالة وحفظ ما أمر به فناسب أن يعطف عليه قصة آدم لأنه كان موسوما بالتفريط والإفراط والتفريط كلاهما من باب ترك الأولى، وإذا كان أوّل الأنبياء وخاتمهم موصوفين بما فيه نوع تقصير فما ظنك بغيرهما! ومن هنا يعرف أفضلية الخاتم فإنه سعى في طلب الكمال إلى أن عوتب بالخروج عن حد الاعتدال، وآدم توسط في حيز النقصان فلا جرم وسم بالظلم والعصيان.
ومنها أن محمدا صلى الله عليه وسلم أمر بأن يقول رَبِّ زِدْنِي عِلْماً ثم ذكر عقيبه قصة آدم تنبيها على أن بني آدم مفتقرون في جميع أحوالهم إلى التضرع واللجأ إلى الله حتى ينفتح عليهم أبواب التيسير في العلم والعمل. ومعنى عَهِدْنا إِلى آدَمَ أمرناه ووصيناه(4/576)
مِنْ قَبْلُ أي من قبل محمد والقرآن. وفي النسيان قولان: أحدهما أنه نقيض الذكر.
عن الحسن: والله ما عصي قط إلا بنسيان. والثاني أن معناه الترك وعلى هذا يحتمل أن يقال: أقدم على الأكل من غير تأويل. وأن يقال: أقدم عليه بتأويل قد مر في «البقرة» .
قال أهل الإشارة: عهد إليه أن لا يعلق نوره فانقاد للشيطان وهو النسيان. والعزم أيضا فيه أقوال: أحدها عزما على الذنب لأنه أخطأ ولم يتعمد. وثانيها عزما في العود إلى الذنب ثانيا. وثالثها رأيا وصبرا أي لم يكن من أهل العزيمة والثبات إذ كان من حقه أن يتصلب في المأمور به تصلبا يؤيس الشيطان من التسويل. قال جار الله: قوله: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ يجوز أن يكون بمعنى العلم ومفعولا هـ لَهُ عَزْماً وأن يكون بمعنى نقيض العدم كأنه قال:
وعد مثاله عزما. قوله: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ سلف في «البقرة» مستقصى قوله: إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ ذكروا في سبب عداوته إياه أنه كان شابا عالما لقوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها وإبليس كان شيخا جاهلا لأنه أثبت فضله بفضيلة أصله، والشيخ الجاهل أبدا يكون عدوّا للشاب العالم. وأيضا الماء والتراب مضادان للنار فَلا يُخْرِجَنَّكُما فلا يكون سببا لإخراجكما لأن الفاعل الحقيقي هو الله سبحانه فَتَشْقى فتتعب في طلب القوت وسائر ما يتعيش به الإنسان أسند الشقاء إليه وحده مع اشتراكهما في الخروج لأن الرجل أصل في باب الإنفاق والكسب والمرأة تابعة له.
ثم بين ذلك الشقاء بقوله: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها إلى آخره. والظمأ العطش وتقول: ضحيت للشمس بالكسر أضحى ضحاء ممدودا إذا برزت لها. والمراد به الكن مع أن الجنة ليس فيها شمس حتى يتصور فيها الضحاء، نفى كون هذه الأمور في الجنة ليثبت حصولها في غيرها. ولا ريب أن أصول المتاعب في الدنيا هي: الشبع والري والكسوة والكن. وأما المنكوح فمشترك إلا أن مؤن النكاح تختص بالدنيا وأنها أيضا ترجع إلى المذكورات.
يروى أنه كان لباسهما الظفر فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما وتركت هذه البقايا في أطراف الأصابع.
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ أنهى إليه وسوسة كما مر في «الأعراف» .
بيان الوسوسة أنه قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ أضافها إلى الخلد وهو الخلود لأن من أكل منها بزعمه كما قيل لحيزوم فرس الحياة لأنه من باشر أثره حيي وَمُلْكٍ لا يَبْلى أي لا ينقطع ولا يزول. قال القاضي: ليس في الظاهر أنه قيل ذلك منه لأنه لا بد أن يحصل بين حال التكليف وحال المجازاة فصل بالموت، والنبي يمتنع أن لا يعلم هذا القدر. وأجيب بالمنع ولو سلم فلم لا يكفي الفصل بغشي أو نوح خفيف. ولو سلم أنه لا يكفي فلم استحال أن يجهل النبي ذلك كما جهل عدم جواز الرؤية زعمكم حين قال: أَرِنِي(4/577)
أَنْظُرْ إِلَيْكَ [الأعراف: 143] ومما يدل على أن آدم قبل وسوسته قوله تعالى: فَأَكَلا بالفاء والفاء مشعر بالعلية كقول الصحابي: «زنى ماعز فرجم» وما في الآية قد مر تفسيره في «الأعراف» إلا قوله: وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى قال بعض الناس: إن آدم ذنبه كبيرة وإلا لم يوصف بالعصيان والغواية فإن العاصي والغاوي اسمان مذمومان عرفا وشرعا وقد ترتب الوعيد عليهما. وأجيب بأن المعصية مخالفة الأمر والأمر قد يكون مندوبا. وزيف بالمنع من أن المندوب غير مأمور به. ثم أن مخالفة عاص وإلا كان الأنبياء كلهم عصاة لأنهم لا ينكفون عن ترك المندوب. قالوا: يقال أشرت إليه في أمر كذا فعصاني وأمرته بشرب الدواء فعصاني. وأجيب بالمنع من أن هذا من مستعملات العرب العاربة، ولو سلم فلعله إنما يقال ذلك إذا عرف أن المستشير لا بد له أن يفعل ذلك، وحينئذ يكون معنى الإيجاب حاصلا وإن لم يكن وجوب شرعي لأن ذلك الإيجاب لم يصدر عن الشارع. ومنهم من زعم أنه ذنب صغير وهم عامة المعتزلة ورد بأن المعاصي اسم من يستحق العقاب وهذا لا يليق بالصغيرة. وأجاب أبو مسلم الأصفهاني بأنه عصى في مصالح الدنيا لا فيما يتصل بالتكاليف ولهذا قال سبحانه فَغَوى أي خاب من نعيم الجنة لأن الرشد هو أن يتوصل بشيء إلى شيء فيصل إلى المقصود والغي ضده، وأنه سعى في طلب الخلود فنال ضد المقصود. وعن بعضهم فَغَوى أي بشم من كثرة الأكل وزيفه جار الله. ورد قول أبي مسلم بأن مصالح الدنيا تكون مباحة فلا يوصف تاركها بالعصيان.
قلت: في هذا نظر، والأحوط في هذا الباب أن يعتقد كون هذه الواقعة قبل النبوة بدليل قوله: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ أي اختاره للرسالة وَهَدى لحفظ أسباب العصمة. أصل الاجتباء هو الجمع كما مر في آخر «الأعراف» . يروى عن أبي أمامة: لو وزنت أحلام بني آدم لرجح حلمه. وقد قال الله تعالى: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً قال العلماء: فيه دليل على أنه لا رادّ لقضائه وما قدره كائن لا محالة، وإذا جاء القضاء عمي البصر والدليل قد يكون في غاية الظهور ومع ذلك يخفى على أعقل الناس كما خفي على آدم عداوة إبليس، وأنه تعرّض لسخط الله في شأنه حين امتنع من سجوده فكيف قبل منه وسوسة لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الأنفال: 68] قال المحققون: الأولى أن لا يطلق لفظ العاصي والغاوي على آدم عليه السلام وإن ورد في القرآن وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى لأنه لم تصدر عنه الزلة إلا مرة واحدة، وصيغة اسم الفاعل تنبىء عن المزاولة، ولأن المسلم إذا تاب عن الشرب أو الزنا وحسنت توبته لا يقال له شارب وزان، ولأن السيد يجوز له أن يشتم عبده بما شاء وليس لغيره ذلك. قالَ اهْبِطا قد مر تفسير مثله في «البقرة» خاطبهما بالهبوط لأنهما أصلا(4/578)
البشر ثم عم الخطاب لهما ولذريتهما في قوله فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ أما قوله: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فقد قال القاضي: يكفي في توفية هذا الظاهر حقه أن يكون إبليس والشياطين أعداء الناس والناس أعداء لهم، فإذا انضاف إلى ذلك عداوة بعض الفريقين لبعض لم يمتنع دخوله في الكلام. عن ابن عباس: ضمن الله لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ثم تلا قوله: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى والسبب فيه أن العقاب في الآخرة لأجل أنه قد ضل عن الدين في مدة التكليف، واتباع كتاب الله يستلزم عدم الضلال عن الدين المستتبع للنجاة من العقاب في الآخرة. وأما الشقاء الذي قد يلحق المؤمن في الدنيا فلا اعتداد به لقصر مدته على أن الرضا بالقضاء يهوّن عليه مصائب الدنيا وآفاتها. ثم ذكر وعيد من أعرض عن ذكره ظاهر الكلام يدل على أن الذكر هاهنا هو الهدى المذكور لأن قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي في مقابلة قوله: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ. وقد مر في أول «البقرة» أن المراد به الشريعة والبيان. وقال كثير من المفسرين: إن الذكر هو القرآن وسائر كتب الله وفيه نوع تخصيص. والضنك الضيق مصدر وصف به. ولهذا استوى فيه المذكر والمؤنث. يقال: منزل ضنك ومعيشة ضنك كأنه قيل: ذات ضنك.
قالت الحكماء: عيش الدنيا ضنك ضيق لانقضائه وقصر مدّته وكثرة شوائبه، وإنما العيش الواسع عيش الآخرة. وهذا الضيق المتوعد به إما في الدنيا أو في القبر أو في الآخرة مال إلى كل طائفة. أما الأول فلأن المسلم الراضي بقضاء ربه معه من التسليم والتوكل والقناعة ما يعيش به عيشا رافغا. والمعرض عن الدين متول عليه الحرص والشح فلا ينفك عن الانقباض ولطموح ما ليس يناله من الفراغ والرفاغ الكلي فلا هم له إلا هم الدنيا. عن ابن عباس: المعيشة الضنك هي أن يضيق عليه أبواب الخير فلا يهتدي لشيء منها، ومن الكفرة من ضربت عليه الذلة والمسكنة. وسئل الشبلي
عن قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا رأيتم أهل البلاء فاسألوا الله العافية»
فقال: أهل البلاء هم أهل الغفلات عن الله تعالى فعقوبتهم أن يردهم الله تعالى إلى أنفسهم وأيّ معيشة أضيق وأشد من أن يرد الإنسان إلى نفسه. قلت: التحقيق أن بعض البليات من العقوبات فطلب العافية منها لازم، وبعضها لمزيد الدرجات ولكن الإنسان خلق ضعيفا فكثيرا ما يؤل أمر المبتلي إلى الجزع والفزع فيحرم الثواب فتطلب العافية من هذا القسم أيضا خوفا من المآل. وأما الثاني
فعن ابن مسعود وأبي سعيد الخدري ورفعه أبو هريرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه: «عذاب القبر للكافر»
وعن ابن عباس أن الآية نزلت في الأسود بن عبد الله المخزومي والمراد ضغطة القبر تختلف فيه أضلاعه. وأما الثالث فعن الحسن وقتادة والكلبي أنه ضيق(4/579)
في الآخرة وفي جهنم، وأن طعامهم فيها الضريع والزقوم والحميم والغسلين، فلا يموتون فيها ولا يحيون.
أما قوله: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى كقوله: وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه: 102] فيمن فسر الزرق بالعمى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً [الإسراء: 97] وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الإسراء: 72] قال الجبائي: أراد أنه لا يهتدي يوم القيامة إلى طريق ينال منه خيرا كالأعمى. وعن مجاهد والضحاك ومقاتل أنه أراد أعمى عن الحجة وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال القاضي: هذا القول ضعيف لأنه لا بد في القيامة أن يعلمهم الله تعالى بطلان ما كانوا عليه بتمييزه لهم الحق من الباطل، ومن هذه حاله لا يوصف بذلك إلا مجازا باعتبار ما كان، لكن قوله: وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ينافيه. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله: ومما يؤكد هذا الاعتراض أنه تعالى علل ذلك العمى بما أن المكلف نسي الدلائل في الدنيا، فلو كان العمى الحاصل في الآخرة عين ذلك النسيان لم يكن للمكلف بسبب ذلك ضرر كما في الدنيا. قال: والتحقيق في الجواب عن الاعتراض هو أن النفوس الجاهلة في الدنيا إذا فارقت أبدانها تبقى على جهالتها في الآخرة فتصير تلك الجهالة سببا لأعظم الآلام الروحانية. وأقول على القاضي: يحتمل أن يكون مجازا باعتبار الغاية. فقد ينفي الشيء باعتبار عدم غايته وثمرته فلا ينافي كونه أعمى في الآخرة بهذا الاعتبار إعلام الله تعالى إياه الحجة، ولا كونه بصيرا في الدنيا كونه أعمى في الآخرة بالاعتبار المذكور لأن المعرض عن الدليل يشبه أن يكون كافرا معاندا، ويكون الغرض من الإعلام التوبيخ والإلزام يؤيده قوله تعالى في جوابه: كَذلِكَ أي مثل ذلك فعلت أنت. ثم فسر ذلك بقوله: أَتَتْكَ آياتُنا أي دلائلنا واضحة مستنيرة فَنَسِيتَها أي تركت العمل بها والقيام بموجبها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى تترك بلا فائدة النظر والاعتبار. وعلى الإمام الرازي: إنه لا يلزم من كون المكلف غير متضرر بنسيان الدلائل في الدنيا كونه غير متضرر به في الآخرة.
وأما قوله في الجواب المحقق بناء على قاعدة الحكيم إن جهل النفس يصير سببا لتعذيبها فإن كان منعا لقول المعتزلة إنه تعالى يعلم المكلف بطلان ما كان عليه في الدنيا فذاك لا يفتقر إلى العدول، وإن كان تسليما لقولهم فمن أين يتحمل الاعتراض هذا وقد رأيت في بعض الآثار أن أشد الناس عمى يوم القيامة هم الذين حفظوا القرآن ثم نسوه. دليله قوله تعالى: أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها اللهم اجعلني ممن يواظب على تلاوة كتابك حتى لا أنساه يوم ألقاك. وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ قيل: عصى ربه. والأظهر أنه أراد أشرك وكفر(4/580)
بدليل قوله: وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ وهو الحشر على العمى أَشَدُّ وَأَبْقى من ضيق المعيشة في العاجل أو أراد، وتركنا إياه في العمى أشد وأبقى من تركه لآياتنا.
ثم وبخ المعرضين عن الدلائل بعدم الاعتبار بأحوال القرون الخالية فقال: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ بالفاء وفي السجدة بالواو، لأن الكلام هاهنا كالمتصل بقوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي وهناك كالمنفصل عن الإعراض لأنه قال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها [السجدة: 22] . وبعد ذلك أورد قصة موسى فناسب الاستئناف بالواو، وأما حذف من هاهنا وإثباته هنالك فلما مر من أن «من» تفيد الاستيعاب وهنالك قد زاد في القرون بشرح قصة بني إسرائيل وما فيهم من الملوك والأنبياء. قال في الكشاف:
فاعل: أَفَلَمْ يَهْدِ الجملة بعده. وأنكر البصريون مثل هذا لأن الجملة لا تقع فاعلا فلهذا قال: يريد أو لم يهد لهم هذا المعنى أو مضمون هذا الكلام. قال القفال: جعل كثرة ما أهلك من القرون مبينا لهم. وقال الزجاج: أراد أو لم نبين لهم ما يهدون به لو تدبروا وتأملوا. وقيل: فيه ضمير الله أو الرسول والجملة بعده تفسره يريد أن قريشا يتقلبون في بلاد عاد وثمود ويمشون في مساكنهم ويعاينون آثار هلاكهم. والنهى العقول وقد مر في السورة. قال بعض أهل اللغة: إن للنبيه مزية على العقل فلا يقال إلا لمن له عقل ينتهي به عن القبائح فقوله: لِأُولِي النُّهى كقوله: أُولُوا الْعَزْمِ [الأحقاف: 35] والحزم ومن هذا فسره بعضهم بأهل الورع والتقوى.
ثم بين الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلا على من كذب من هذه الأمة فقال: وَلَوْلا كَلِمَةٌ هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة كتبها في اللوح المحفوظ وأخبر بها ملائكته ورسله لأن فيهم أو في نسلهم من يؤمن، أو لمصلحة أخرى خفية. قال أهل السنة: إنه بحكم المالكية له أن يفعل ما يشاء من غير علة. واللزام مصدر لازم وصف به.
وقيل: فعال لما يفعل به فهو بمعنى ملزم كأنه آلة اللزوم أي لَكانَ الأخذ العاجل لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى وهو عذاب الآخرة. وقيل: يوم بدر معطوف على كَلِمَةٌ وجوز في الكشاف أن يكون معطوفا على الضمير في كان. ولعله إنما جوز ذلك للفصل أي لكان الأخذ العاجل وأجل مسمى لازمين لهم كما كانا لازمين لعاد وثمود، ولم ينفرد الأجل المسمى دون الأخذ العاجل. وحين بين أنه لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أمره بالصبر على ما يقولون من التكذيب وسائر الأذيات. زعم الكلبي ومقاتل أنها منسوخة بآية القتال وليس بذاك فإن كلا منهما معمول بها في موضعها وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ أي متلبسا بحمده على(4/581)
أن وفقك للتسبيح وأعانك عليه، والأكثرون أنها بمعنى الصلاة ليكون كقوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: 45] ولأنه بين أوقاتها فقيل طلوع الشمس هو صلاة الفجر، وقبل غروبها صلاة الظهر والعصر لأنهما واقعتان في النصف الأخير من النهار وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ المغرب والعتمة. وقوله وَأَطْرافَ النَّهارِ أي في طرفيه فجمع للمبالغة وأمن الإلباس، أو لأن أقل الجمع اثنان. أو أراد طرفي كل نهار تكرار لصلاتي الفجر والعصر لا المغرب على ما ظن اعتناء بشأنهما كقوله وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] وآناء جمع «أنى» وهو الساعة وقد مر في «آل عمران» . وإنما قدم آناء الليل وأدخل الفاء في فَسَبِّحْ المؤذنة بتلازم ما قبلها وما بعدها تنبيها على زيادة الاهتمام بشأن صلاة الليل، لأن الليل وقت السكون والراحة وهدوّ الأصوات فالصلاة فيه أشق على النفس وأدخل صلاة الظهر لأنه خصص قبل الغروب بصلاة العصر. ومنهم من زاد فيها النوافل لأن الآية صلاة الظهر لأنه خصص قبل الغروب بصلاة العصر. ومنهم من زاد فيها النوافل لأن الصلاة في الأوقات المذكورة تشملها والأمر قد يكون للندب لا أقل من التغليب. وقال أبو مسلم: الأقرب حمل التسبيح على التنزيه والإجلال كأنه لما أمره بالصبر على أذية القوم بعثه على الاشتغال بالتقديس والمواظبة عليه في كل الأوقات.
وقوله: لَعَلَّكَ تَرْضى كقوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء:
79] وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى: هـ] ولا ريب أن الأطماع من الكريم واجب الوقوع اللهم ارزقنا شفاعته. ولما حث رسوله على الأمور الدينية نهاه عن الميل إلى الزخارف الدنيوية فقال: وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي نظر عينيك. ومد النظر تطويله استحسانا للمنظور إليه، وفيه أن النظر الغير الممدود معفوّ عنه كما لو نظر فغض. وقال أبو مسلم: المنهي عنه في الآية ليس هو التطويل وإنما هو الأسف أي لا تأسف على ما فاتك مما نالوا من حظ الدنيا.
قال أبو رافع: نزل ضيف بالنبي صلى الله عليه وسلم فبعثني إلى يهوديّ يستقرضه فقال: لا أقرضه إلا برهن. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إني لأمين في السماء وإني لأمين في الأرض، أحمل إليه درعي الحديد فنزلت.
والأزواج الأصناف. وقيل: أي أشكالا وأشباها من الكفار لأنهم أشكال في الذهاب عن الصواب. وقد مر في آخر الحجر. ولقد شدد العلماء المتقون في وجوب غض البصر عن أبنية الظلمة وملابسهم ومراكبهم لأنهم اتخذوها لعيون النظارة. فالناظر إليها محصل لغرضهم فيكون إغراء لهم على اتخاذها. قال جار الله: انتصب زَهْرَةَ على الذم، أو(4/582)
على تضمين متعنا بمعنى خولنا وأعطينا، أو على إبداله من محل بِهِ أو على إبداله من أَزْواجاً والتقدير ذوي زهرة وهي الزينة والبهجة. ومن قرأ بفتح الهاء فبمعناها أيضا أو هي جمع زاهر كأنهم لصفاء ألوانهم وظهور آثار النعومة عليهم زاهر وهذه الدنيا بخلاف ما عليه المؤمنون الصلحاء من شحوب الألوان والتقشف في الثياب. وقوله: لِنَفْتِنَهُمْ أي لنبلوهم كقوله: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ [الكهف: 7] وقيل:
لنعذبهم كقوله: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ [التوبة: 55] .
وقال الكلبي ومقاتل: لنشدد عليهم في التكليف لأن الاجتناب عن المعاصي مع القدرة يكون أشق على النفس. وَرِزْقُ رَبِّكَ هو ثواب الآخرة أو ما رزقت من الإسلام والنبوّة خَيْرٌ وَأَبْقى وقيل: أراد به الحلال الطيب الذي يحق أن ينسب إلى ربك خير من أموالهم التي غلب عليها الغصب والسرقة وسائر وجوه الخيانة، وأبقى بركة ونماء وحسن عاقبة. وَأْمُرْ أَهْلَكَ في سورة مريم وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ [الآية: 55] أي أقبل أنت مع أهلك على عبادة الله. ومن السلف من كان إذا أصاب أهله خصاصة قال: قوموا فصلوا بهذا أمر الله رسوله ثم يتلو هذه الآية. وعن عروة بن الزبير أنه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ الآية. ثم ينادي الصلاة الصلاة رحمكم الله.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية يذهب إلى فاطمة وعليّ كل صباح ويقول: الصلاة وكان يفعل ذلك شهرا.
وقوله: وَاصْطَبِرْ عَلَيْها أراد أنك كما تأمرهم بها فحافظ عليها فإن الوعظ بلسان الفعل أثم منه بلسان القول لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً كما يريد الملوك خراجا من رعيتهم والسادة خرجا من عبيدهم بل نَحْنُ نَرْزُقُكَ كقوله: وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [الذاريات: 57- 58] والحاصل أنا إنما أمرناك بالصلاة فذلك لأجل انتفاعك بثوابها لا لأنا ننتفع بها. وقيل: لا نسألك رزقا لنفسك ولا لأهلك بل نحن نرزقك وإياهم فلا تهتم بأمر الرزق والمعيشة وفرغ بالك لأمر الآخرة وفي معناه قولهم «من كان في عمل الله كان الله في عمله» . وقال أهل الإشارة وَرِزْقُ رَبِّكَ رمز إلى
قوله «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «1»
قال عبد الله بن سلام: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بأهله ضيق أو شدة أمرهم بالصلاة.
وَالْعاقِبَةُ أي الجميلة لِلتَّقْوى.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التمني باب: 9. مسلم في كتاب الصيام حديث 57. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (3/ 8) .(4/583)
ثم عاد إلى قوله: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ فحكى واحدة من شبهاتهم هي قولهم:
لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ كأنهم لم يتعدّوا بالقرآن الذي أخرس شقاشقهم فرد الله عليهم بقوله: أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى لأن القرآن برهان سائر الكتب المنزلة لأنه معجز دونها فهو شاهد لها بالصحة وأنها من عند الله. وقيل: أراد بالبينة ما فيها من بشارة مقدم محمد صلى الله عليه وسلم. وعن ابن جرير أنه ما رأوا فيها من قصص الأمم المكذبة وبيان إهلاكهم بعد اقتراح الآيات وإنما أتاهم هذا البيان في القرآن فلهذا وصف القرآن بكونه بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى ثم بين الحكمة في نزول القرآن فقال: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل البرهان المذكور الدال عليه البينة لَقالُوا أي في القيامة لأن الهالك لا قول له في الدنيا.
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يحتج على الله تعالى يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة يقول لم يأتني رسول وإلا كنت أطوع خلقك» وتلا قوله: «لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا والمغلوب على عقله يقول لم تجعل لي عقلا أنتفع به. ويقول الصبي: كنت صغيرا أعقل. فيرفع لهم نار ويقال لهم ادخلوها فيدخلها من كان في عالم الله أنه سعيد ويتلكأ من كان في علمه أنه شقى. فيقول الله تعالى: عصيتم اليوم فكيف برسولي لو أتاكم؟!» .
وطعن المعتزلة في هذا الخبر قالوا: لا يحسن العقاب على ما لم يفعل. وقال الجبائي: في الآية دلالة على وجوب فعل اللطف والمراد أنه يجيب أن يفعل بالمكلفين ما يؤمنون عنده وإلا كان لهم أن يقولوا: هلا فعلت ذلك بنا لنؤمن. وقال الكعبي: فيها أوضح دليل على أنه تعالى يقبل الاحتجاج من عباده. وليس معنى قوله: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ [الأنبياء: 23] أن الجور منه يكون عدلا بل تأويله أنه لا يقع منه إلا العدل. وإذا ثبت أنه تعالى يقبل الحجة فلو لم يكونوا قادرين على ما أمروا به لكان لهم فيه أعظم حجة. واستدل أهل السنة بها على أن الوجوب لا يتحقق إلا بالشرع وإلا لكان العقاب حاصلا قبل مجيئه. ثم ختم السورة بوعيد إجمالي فقال: قُلْ كُلٌّ أي كل منا ومنكم مُتَرَبِّصٌ عاقبة أمره وهذا الانتظار إما قبل الموت بسبب الأمر بالجهاد أو ظهور الدولة والغلبة، أو بالموت فإن كان واحد من الخصمين ينتظر موت صاحبه، وإما بعد الموت وهو ظهور أثر الثواب والعقاب وتمييز المحق والمبطل ويؤيده قوله: فَسَتَعْلَمُونَ إلى آخره وهذا من كلام المنصف وبالله المستعان. (تم) .
تم الجزء السادس عشر وبه يتم المجلد الرابع من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري، ويليه المجلد الخامس، وأوله تفسير سورة الأنبياء(4/584)
الفهرس
فهرس المجلد الرابع من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان(4/585)
تفسير سورة هود الآيات: 1- 24 3 الآيات: 25- 49 16 الآيات: 50- 68 30 الآيات: 69- 83 35 الآيات: 84- 102 43 الآيات: 103- 123 49 تفسير سورة يوسف الآيات: 1- 20 62 الآيات: 21- 35 74 الآيات: 36- 53 87 الآيات: 54- 68 99 الآيات: 69- 83 108 الآيات: 84- 102 116 الآيات: 103- 111 130 تفسير سورة الرعد الآيات: 1- 11 135 الآيات: 12- 29 146 الآيات: 30- 43 159 تفسير سورة إبراهيم الآيات: 1- 17 169 الآيات: 18- 34 185 الآيات: 35- 52 197(4/587)
تفسير سورة الحجر الآيات: 1- 50 207 الآيات: 51- 99 226 تفسير سورة النحل الآيات: 1- 23 239 الآيات: 24- 42 255 الآيات: 43- 60 263 الآيات: 61- 70 273 الآيات: 71- 83 286 الآيات: 84- 100 295 الآيات: 101- 128 306 تفسير سورة الإسراء الآيات: 1- 21 321 الآيات: 22- 40 337 الآيات: 41- 60 352 الآيات: 61- 72 364 الآيات: 73- 89 372 الآيات: 90- 111 389 تفسير سورة الكهف الآيات: 1- 26 401 الآيات: 27- 46 426 الآيات: 47- 59 435 الآيات: 60- 82 442 الآيات: 83- 110 456 تفسير سورة مريم الآيات: 1- 15 466 الآيات: 16- 40 475 الآيات: 41- 65 489 الآيات: 66- 98 500(4/588)
تفسير سورة طه الآيات: 1- 36 513 الآيات: 37- 76 542 الآيات: 77- 114 561 الآيات: 115- 135 576(4/589)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
[المجلد الخامس]
بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء السابع عشر من أجزاء القرآن الكريم
(سورة الأنبياء
مكية حروفها أربعة آلاف وثمانمائة وتسعون كلمها ألف ومائة وثمان وسبعون آياتها مائة وست عشرة)
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)
بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14)
فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19)
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)(5/3)
القراآت
قالَ رَبِّي بالألف: حمزة وعلي وحفص. الباقون قل على الأمر نُوحِي بالنون مبنيا للفاعل: حفص غير الخراز. الباقون: بالياء مجهولا.
الوقوف:
مُعْرِضُونَ ج للآية مع احتمال كون ما بعده صفة أو استئنافا. يَلْعَبُونَ لا لأن لاهِيَةً حال أخرى مترادفة أو متداخلة من ضمير يَلْعَبُونَ وهي لقلوبهم في المعنى. قُلُوبُهُمْ ط مِثْلُكُمْ ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول تُبْصِرُونَ هـ وَالْأَرْضِ ز لاتفاق الجملتين مع استغناء الثانية عن الأولى الْعَلِيمُ هـ شاعِرٌ ج لاختلاف النظم مع اتحاد المقول الْأَوَّلُونَ هـ أَهْلَكْناها ج لابتداء الاستفهام مع اتحاد المقول يُؤْمِنُونَ هـ لا تَعْلَمُونَ هـ خالِدِينَ هـ الْمُسْرِفِينَ هـ ذِكْرُكُمْ هـ تَعْقِلُونَ هـ آخَرِينَ هـ يَرْكُضُونَ هـ ط لتقدير القول تُسْئَلُونَ هـ ظالِمِينَ هـ خامِدِينَ هـ لاعِبِينَ هـ مِنْ لَدُنَّا هـ على جعل «إن» نافية والأصح أنها للشرط فاعِلِينَ هـ زاهِقٌ لا تَصِفُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط لأن ما بعده مبتدأ يَسْتَحْسِرُونَ هـ ج لأن ما بعده يصلح حالا واستئنافا، لا يَفْتُرُونَ هـ.
التفسير:
قال جار الله: اللام في قوله لِلنَّاسِ إما صلة لاقترب أو تأكيد لإضافة الحساب إليهم كقولك في أزف رحيل الحي أزف للحي الرحيل، فيه تأكيد إن من جهة تقديم الحي ومن جهة إظهار اللام، ثم تزيد تأكيدا آخر من جهة وضع ضمير الحي مضافا إليه الرحيل، موضع لام التعريف فيه فتقول: أزف للحي رحيلهم. والمراد اقترب للناس وقت حسابهم وهو القيامة كقوله اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر: 1] فإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب وغيره، كأنه لما هدد في خاتمة السورة المتقدمة بقوله فَسَتَعْلَمُونَ بين في أول هذه السورة أن وقت ذلك العلم قريب. فإن قيل: كيف وصف بالاقتراب وقد مضى دون هذا القول أكثر من سبعمائة عام فالجواب أن كل ما هو آت قريب، وإنما البعيد الذي دخل في خبر كان قال القائل: شعر
فلا زال ما تهواه أقرب من غد ... ولا زال ما تخشاه أبعد من أمس
على أنه لم يمض بعد يوم من أيام الله وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج: 47] ومما يدل على أن الباقي من مدة التكليف أقل من الماضي
قوله صلى الله عليه وسلم «بعثت أنا والساعة كهاتين» «1»
وقد وعد بعث خاتم النبيين في آخر الزمان، وفي ذكر هذا الاقتراب تنبيه للغافلين وزجر للمذنبين. فالمراد بالناس كل من له مدخل في الحساب وهم جميع
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 39. مسلم في كتاب الجمعة حديث 43. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 7. الدارمي في كتاب الرقاق باب 46. أحمد في مسنده (4/ 309) .(5/4)
المكلفين. وما روي عن ابن عباس أن المراد بالناس المشركون فمن باب إطلاق اسم الجنس على بعضه بالدليل القائم وهو ما يتلوه من صفات المشركين من الغفلة والإعراض وغيرهما. والذكر الطائفة النازلة من القرآن، وقرىء مُحْدَثٍ بالرفع صفة على المحل، واحتجت المعتزلة بالآية على أن القرآن محدث، وأجاب الأشاعرة بأنه لا نزاع في حدوث المركب من الأصوات والحروف لأنه متجدد في النزول، وإنما النزاع في الكلام النفسي الذي لا يصح عليه الإتيان والنزول. وزعم الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه أن حاصل قول المعتزلة في هذا المقام يؤل إلى قولنا القرآن ذكر، وبعض الذكر محدث لأن قوله مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ لا يدل على حدوث كل ما كان ذكرا بل على أن ذكرا ما محدث، كما أن قول القائل: لا يدخل هذا البلد رجل فاضل إلا يبغضونه، لا يدل على أن كل رجل يجب أن يكون فاضلا، وإذا كان كذلك فيصير صورة القياس كقولنا «الإنسان حيوان وبعض الحيوان فرس» وإنه لا ينتج شيئا لأن كلية الكبرى شرط في إنتاج الشكل الأول كما عرف في علم الميزان. قلت: إن المعتزلة لا يحتاجون في إثبات دعواهم إلى تركيب مثل هذا القياس لأن مدعاهم يثبت بتسنيم إحدى مقدمتي القياس الذي ركبه وهي قوله «بعض الذكر محدث» لأنه نقيض ما يدعيه الأشاعرة وهو لا شيء من القرآن بمحدث. وإذا صدق أحد النقيضين كذب بالضرورة، فظهر أن الإمام غلطهم في هذا القياس الذي ركبه، ثم لقائل أن يقول تتميما لقول المعتزلة: إذا ثبت أن بعض القرآن محدث لزم أن يكون كله محدثا لأن القائل قائلان: أحدهما ذهب إلى قدم كله، والثاني إلى حدوث كله، ولم يذهب أحد إلى قدم بعضه وحدوث بعضه. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ لموافقة قوله بعد هذا قالَ رَبِّي يَعْلَمُ وقال في الشعراء مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ [الآية: 5] لكثرة ذكر الرحيم فيها. فكان «الرحمن بالرحيم» أنسب.
قوله تعالى يَلْعَبُونَ اللعب الاشتغال بما لا يعني قوله لاهِيَةً هي من لهى عنه بالكسر إذا ذهل وغفل. وفيه إن هم إلا كالأنعام بل هم لا يحصلون من الاستماع والتذكير إلا على مثل ما تحصل هي عليه آذانهم تسمع وقلوبهم لا تعي ولا تفقه.
ومعنى وَأَسَرُّوا النَّجْوَى بالغوا في إخفائها وجعلوها بحيث لا يفطن أحد لها ولا يعلم أنهم متناجون وفي «واو» أسروا وجهان: أحدهما أنه على لغة من يجوز إلحاق علامة(5/5)
التثنية والجمع بالفعل إذا كان مقدما على فاعله، وثانيهما وهو الأقوى أن الواو ضمير راجع إلى الناس المقدم ذكرهم والَّذِينَ ظَلَمُوا بدل منهم. أو هو منصوب المحل على الذم، أو هو مبتدأ خبره أَسَرُّوا النَّجْوَى مقدما عليه. وعلى التقادير أراد وأسروا النجوى هؤلاء فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلا على فعلهم بأنه ظلم ثم أبدل من النجوى قوله هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ إلى قوله وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ أي أتقبلون سحره وتحضرون هناك وأنتم ترون أنه رجل مثلكم، أو تعلمون أنه سحر وأنتم من أهل البصر والعقل؟ وجوز بعضهم أن يكون قوله هَلْ هذا إلى آخره مفعولا لقالوا مضمرا، وإنما أسروا نجوى هذا الحديث لأنهم أرادوا شبه التشاور فيما بينهم تحريا لهدم أمر النبي كما جاء في كلام الحكماء. ويرفع أيضا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
«استعينوا على حوائجكم بالكتمان»
ويجوز أن يسروا بذلك ثم يقولوا للرسول والمؤمنين: إن كان ما تدعون حقا فأخبرونا بما أسررنا. من قرأ قالَ رَبِّي فعلى حكاية الرسول صلى الله عليه وسلم كأنه قال: إنكم وإن أخفيتم قولكم وطعنكم فإن ربي عالم بذلك، وإنه من وراء عقابه يصف نفسه في بعض المواضع بأنه يعلم السر وذلك حين يريد تخصيصه بعلم الغيب، ووصف نفسه هاهنا بأنه يعلم القول. قال جار الله: هذا آكد لأنه عام يشمل السر والجهر، فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة، وأقول هذا إذا كان اللام في القول للاستغراق، أما إذا كان للجنس فلا يلزم زيادة العلم إذ لا دلالة للعام على الخاص. بل نقول: العلم بالسر يستلزم العلم بالجهر بالطريق الأولى فلا مزية لإحدى العبارتين على الأخرى وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ خصص علمه بالمسموعات أولا ثم عمم وقال الإمام قدم «السميع» على «العليم» لأنه لا بد من استماع الكلام أولا ثم من حصول العلم بمعناه. قلت: هذا قياس للغائب على الحاضر قوله بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ معنى هذه الإضرابات مع ملاحظة ما قبلها أنهم أنكروا أولا كون الرسول من جنس البشر، ثم كأنهم قالوا: سلمنا ذلك ولكن الذي ادعيت أنه معجز ليس بمعجز غايته أنه خارق للعادة، وليس كل ما هو خارق للعادة معجزا فقد يكون سحرا هذا إذا ساعدنا على أن فصاحة القرآن خارجة عن العادة، لكنا عن تسليم هذه المقدمة بمراحل فإنا ندعي أنه في غاية الركاكة وسوء النظم كأضغاث أحلام وهي الأحلام المختلطة التي لا أصل لها وقد مر في سورة يوسف. سلمنا ولكنه من جنس كلام الأوساط افتراه من عنده؟ سلمنا أنه كلام فصيح ولكنه لا يتجاوز فصاحة الشعراء، وإذا كان حال هذا المعجز هكذا. فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ لا يتطرق إليها شيء من هذه الاحتمالات كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي كما أتى الأولون بالآيات لأن إرسال الرسل متضمن لإتيانهم بالآيات. ومن تأمل في هذه الأقوال المحكية عن أولئك الكفرة علم أنها كلام مبطل متحير هائم في أودية الضلال وألا يكفي في إعجاز القرآن أنهم عدلوا حين تحدوا به عن(5/6)
المعارضة بالحروف إلى المقارعة بالسيوف. ثم بين أن الآيات التي يقترحونها لا فائدة لهم فيها لأنهم أعتى من الأمم السالفة وأنهم ما آمنوا عند مجيء الآيات المقترحة فأهلكوا لأجل ذلك أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ مع شدة شكيمتهم فيه معنى الإنكار أي لا يؤمنون البتة وحينئذ يجب إهلاكهم، ولكن قد سبق القول من الله أن هذه الأمة أمنوا من عذاب الاستئصال.
ثم أجاب عن شبهتهم الأولى وهي قولهم هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بقوله وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا وقد مر مثله في آخر سورة يوسف وفي النحل. وإنما جاز الأمر بالرجوع إلى أهل الكتاب وإن كانوا من الكفرة، لأن هذا الخبر قد تواتر عندهم وبلغ حد الضرورة على أن أهل الكتاب كانوا يتابعون المشركين في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان قولهم عندهم حجة. وقيل: أهل الذكر أهل القرآن. وضعف بأنهم كانوا طاعنين في القرآن وفي محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف يؤمرون بالرجوع إلى قولهم؟ واستدل كثير من الفقهاء بالآية في أن للعاميّ أن يرجع إلى فتيا العلماء، وللمجتهد أن يأخذ بقول مجتهد آخر وأجيب بأنها خطاب مشافهة وارد في الواقعة المخصوصة، وفي السؤال عن أهل الكتاب فلا يتعدى عن مورد النص وقد مر في آخر سورة يوسف الفرق بين قوله وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ وقوله وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ بغير «من» وليس إلا هاهنا وفي أوائل الفرقان وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ [الآية: 20] ثم أكد كون الرسل من جنس البشر بقوله وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً الآية كأنهم قالوا: إنه بشر يأكل كما نأكل ويموت كما نموت، فلعلهم اعتقدوا خلود الملائكة لا أقل من العمر الطويل، ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي وما جعلنا الأنبياء قبلك ذوي جسد غير طاعمين وإلا قيل: وما جعلنا لهم جسدا. ووحد الجسد لإرادة الجنس أي ذوي ضرب من الأجساد وأراد كل واحد منهم قوله: صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ أصله في الوعد فنصب بنزع الخافض، ثم فسر الوعد بقوله فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وهم المؤمنون، ثم نبههم على عظيم نعمه عليهم بقوله، لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أي شرفكم وصيتكم، أو فيه بيان مكارم الأخلاق التي بها يبقى الذكر الجميل مع الثواب الجزيل، ثم أوعدهم وحذرهم ما جرى على الأمم المكذبة فقال وَكَمْ قَصَمْنا والقصم القطع الكبير وهو الذي يبين تلاؤم الأجزاء، وإذا لم يبين فهو الفصم بالفاء، وذلك أن القاف حرف شديد والفاء رخو لوحظ جانب المعنى في اللفظ ومعنى مِنْ قَرْيَةٍ من أهل قرية لقوله وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ وللضمائر في قوله فَلَمَّا أَحَسُّوا إلى آخر القصة. والمراد بالإحساس الإدراك بحاسة اللمس أو علم لا شك فيه كالمحسوس المشاهد. والركض ضرب الدابة بالرجل كأنهم ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم حين أدركتهم مقدمة العذاب، قال الجوهري:(5/7)
الركض تحريك الرجل على الدابة استحثاثا لها ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا، فعلى هذا يجوز أن القوم كانوا يعدون على أرجلهم فقيل لهم لا تركضوا. والقائل إما من الملائكة أو من المؤمنين أو يجعلون أحقاء بأن يقال لهم ذلك، أو أسمع رب العزة ملائكته هذا القول لينفعهم في دينهم، أو ألهم الله الكفار ذلك فحدثوا به أنفسهم: وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ من العيش الهنيء والإتراف إبطار النعمة لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ غدا عما جرى عليكم وعلى أموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة، أو أجلسوا في مجالسكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم بما تأمرون وماذا ترسمون فينفذ فيهم أمركم ونهيكم، أو يسألكم الناس مستعينين بتدابيركم بآرائكم، أو يسألكم الوافدون وأرباب الطمع مستمطرين سحاب أكفكم إما لأنهم كانوا أسخياء ولكن سمعة ورياء، إما لأنهم بخلاء وفي كل هذه الوجوه تهكم بهم وتوبيخ لهم فَما زالَتْ تِلْكَ الدعوى وهي قولهم يا وَيْلَنا لأن المولول كأنه يدعو الويل دَعْواهُمْ الأول اسم «ما زال» والثاني خبره أو بالعكس.
والدعوى بمعنى الدعوة وقد مر في قوله وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] والحصيد المحصود كقوله مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ شبهوا بالزرع المستأصل والنار التي تخمد فتصير رمادا أي جعلناهم مشبهين بالمحصود والخامد، ووحد حَصِيداً لأن المراد زرعا حصيدا، ولأن «فعيلا» قد يستوي فيه الواحد والجمع، عن ابن عباس أن الآية نزلت في حضور وسحول قريتين باليمن تنسب إليهما الثياب.
وفي الحديث كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين سحوليين.
وروى حضوريين بعث الله إليهم نبيا فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم فكأن القوم حصدوا بالسيف
وروي أنه لما أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء بالثارات الأنبياء.
قال أهل النظم: لما بين إهلاك كثير من القرى لأجل ظلمهم وتكذيبهم منها اللتان رواهما ابن عباس، أتبعه ما يدل على أنه فعل ذلك عدلا ومجازاة لا عبثا ولا مجازفة فقال:
وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ الآية أي وما سوينا هذا السقف المرفوع والمهاد الموضوع وَما بَيْنَهُما من الأركان والمواليد كما تسوّي الجبابرة سقوفهم وفرشهم وسائر زخارفهم للهو أو اللعب، وإنما سويناهما لغايات صحيحة ومنافع للخلق دينية ودنيوية كما مر طرف منها في أول «البقرة» ويمكن أن يقال: المقصود من سياق الآية تقرير نبوة محمد والرد على منكريه لأنه ظهر المعجز عليه، فإن كان صادقا فهو المطلوب، وإن كان كاذبا كان إظهار المعجز عليه من باب اللعب وهو منفي عنه سبحانه. قال القاضي عبد الجبار: فيه دليل على أنه لا يخلق اللعب وكل قبيح وإلا كان لاعبا وعورض بمسألتي العلم والداعي. ثم بين أن(5/8)
السبب في ترك اتخاذ اللهو واللعب ليس هو العجز والضعف ولكن لأن الحكمة تنافيه، معنى مِنْ لَدُنَّا من جهة قدرتنا وقيل: اللهو الولد بلغة اليمن أو المرأة، وقيل: من لدنا أي من الملائكة لا من الإنس ردا على من قال: عزير ابن الله والمسيح ابن الله. ويحتمل أن يقال من لدنا أي من عندنا على سبيل الخفية فلا تعرفونه ولا تسمعون اسمه فيكون الرد شاملا لكل من ادعى لله ولدا ولو من الملائكة. ثم أضرب عن اتخاذ اللهو واللعب فوصف نفسه بما يضاد فعل العبث قائلا بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ يعني الباطل زاهِقٌ أي ففاجأ الدمغ زهوق الباطل، قال علماء المعاني: هذا من باب استعارة المحسوس للمعقول بجامع عقلي: فأصل استعمال القذف والدمغ في الأجسام لأن القذف الرمي بنحو الحجارة، والدمغ من دمغه إذا شجه حتى بلغت الشجة الدماغ، ثم استعير القذف لإيراد الحق على الباطل، والدمغ لإذهاب الباطل بجامع الزهوق، ثم وبخهم ونعى عليهم بما وصفوه بالولد وغير ذلك مما لا يجوز عليه وينافي وجوب الوجود بما وصفوا رسوله به من السحر والشعر وغير ذلك من الأوصاف المضادة للرسالة فقال وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ أي تصفونه به. ثم بين كمال قدرته ونهاية حلمه وحكمته فقال وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والمراد بمن عنده الملائكة المقربون والمقصود عندية الشرف والرتبة. فأما عندية المكان ففيها بحث طويل. قال الزجاج: لا يَسْتَحْسِرُونَ أي لا يتعبون ولا يمسهم الإعياء. قال جار الله: كان الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور ولكنه ذكر بلفظ المبالغة وهو «استفعل» لبيان أن ما هم فيه يوجب غاية الحسور، وأنهم أحقاء بتلك العبادات الشاقة بأن يستحسروا ومع ذلك لا يعدّونها تعبا عليهم. ثم أكد ذلك بقوله يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ منصوبان على الظرفية لا يَفْتُرُونَ لا يلحقهم الفتور والكلال. وحاصل الآية أؤن الملائكة مع غاية شرفهم ونهاية قربهم لا يستنكفون عن طاعة الله، فكيف يليق بالبشر مع ضعفهم ونقصهم أن يتمردوا عن طاعته؟ وقد مر في أول سورة البقرة استدلال مفضلي الملائكة على الأنبياء بهذه الآية وبغيرها فلا حاجة إلى إعادته عن عبد الله بن الحرث بن نوفل قال: قلت لكعب الأحبار: أرأيت قول الله عز وجل يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ ثم قال:
جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ [البقرة: 161] أليس الرسالة واللعن مانعين لهم عن التسبيح؟ أجاب كعب بأن التسبيح لهم كالنفس لنا لا يمنعهم عن الاشتغال بشيء آخر. واعترض بأن آلة التنفس فينا مغايرة للسان فلهذا صح اجتماع التنفس والتكلم. وأجيب بأنه لا استبعاد في أن يكون لهم ألسن كثيرة، أو يكون المراد بعدم الفتور أنهم لا يتركون التسبيح في أوقاته اللائقة به.
التأويل:
اقترب لأهل النسيان أن يحاسبوا أنفسهم كقوله أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ [الحديد: 16](5/9)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ وعظ وتذكير من عالم رباني مُحْدَثٍ إلهامه إلا أنكروه عليه ونسبوه إلى التخليط ونحوه وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً فيه أن الله قادر على أن لا يجعل النبي والولي ذا جسد ولكن اقتضت حكمته كونهم ذوي أجساد آكلين للطعام فإن الطعام للروح الحيواني الذي هو مركب الروح الإنساني كالدهن للسراج، وبالقوى الحيوانية تتم الكمالات النفسانية وتدرك المحسوسات وتستفاد العلوم المستندة إلى الإحساس والتجربة وتفصيله أكثر من أن يحصى. قال بعض المشايخ، لولا الهوى ما سلك أحد طريقا إلى الله وَما كانُوا خالِدِينَ والسر فيه أن يعلموا من الموت حقيقة اسم المميت كما علموا من الحياة حقيقة اسم المحيي.
ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ الذي وعدناهم حين أهبطوا إلى الأرض فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ من متابعيهم من هاوية الهوان وعالم الطبيعة وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ الذين أسرفوا على أنفسهم بالركون إلى أسفل سافلين الطبائع. وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ أهل قَرْيَةٍ قالت فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا وهي شدة قطع التعلق عن الكونين فإن الفطام عن المألوف شديد لا تَرْكُضُوا منا بل ففروا إلينا وَارْجِعُوا إلى التنعمات الروحانية وَمَساكِنِكُمْ الأصلية لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ عزة وكرامة وَما خَلَقْنَا سموات الأرواح وأرض الأجساد، وما بينهما من النفوس والقلوب والأسرار من غير غاية، وإنما خلقناها لتكون لطفنا وقهرنا بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ للحق ثلاث مراتب: مرتبة أفعال الحق ومرتبة صفات الحق ومرتبة ذات الحق، ففي كل مرتبة يتجلى الحق فيها للعبد، أرهق باطل تلك المرتبة عن العبد حتى إذا تجلى له بأفعاله ذهب عنه باطل الأفعال، وإذا تجلى له بصفاته ذهب باطل صفاته، وإذا تجلى له بذاته في ذاته فيقول: أنا الحق وسبحاني والويل لمن لم يذهب باطله بإحدى هذه المراتب فيبقى متصفا بالوجود المجازي.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 الى 50]
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30)
وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)
وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45)
وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)(5/10)
القراآت:
إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ بالنون: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد إِنِّي إِلهٌ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو ابن ذكوان. الم ير بغير واو: ابن كثير الآخرون بواو متوسطة بين همزة الاستفهام والفعل ونظائرها كثيرة تُرْجَعُونَ بفتح التاء وكسر الجيم: يعقوب وابن مجاهد عن ابن ذكوان. ولا تسمع من الاسماع خطأ بالنبي صلى الله عليه وسلم الصم بالنصب: ابن عامر. الآخرون على الغيبة من السماع. الصُّمُّ بالرفع مِثْقالَ حَبَّةٍ بالرفع على «كان» التامة وكذلك في سورة لقمان: أبو جعفر ونافع. الباقون بالنصب.(5/11)
الوقوف:
يُنْشِرُونَ هـ لَفَسَدَتا ج للابتداء ب فَسُبْحانَ للتعظيم مع فاء التعقيب تعجيلا للتنزيه يَصِفُونَ هـ يُسْئَلُونَ هـ آلِهَةً ط بُرْهانَكُمْ ج لاتحاد المقول من غير عاطف قَبْلِي ط لا يَعْلَمُونَ هـ لا لأن ما بعده مفعول مُعْرِضُونَ هـ فَاعْبُدُونِ هـ سُبْحانَهُ ط مُكْرَمُونَ هـ ط لأن ما بعده صفة بعد صفة يَعْمَلُونَ هـ وَلا يَشْفَعُونَ هـ لا للاستثناء مُشْفِقُونَ هـ جَهَنَّمَ ط الظَّالِمِينَ هـ فَفَتَقْناهُما ط لانتهاء الاستفهام إلى الإخبار حَيٍّ ط يُؤْمِنُونَ هـ يَهْتَدُونَ هـ مَحْفُوظاً ج لاحتمال الواو الاستئناف والحال مُعْرِضُونَ هـ وَالْقَمَرَ ط يَسْبَحُونَ هـ الْخُلْدَ ط الْخالِدُونَ هـ الْمَوْتِ ط فِتْنَةً ط تُرْجَعُونَ هـ هُزُواً ط آلِهَتَكُمْ ج لاحتمال الواو الاستئناف والحال كافِرُونَ هـ مِنْ عَجَلٍ ط فَلا تَسْتَعْجِلُونِ هـ صادِقِينَ هـ يُنْصَرُونَ هـ يُنْظَرُونَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ ط مِنَ الرَّحْمنِ ط مُعْرِضُونَ هـ مِنْ دُونِنا ط فصلا بين الاستفهام والإخبار يُصْحَبُونَ هـ الْعُمُرُ ط مِنْ أَطْرافِها ط الْغالِبُونَ هـ بِالْوَحْيِ ط لاستئناف ولا يسمع بالياء التحتانية والوصل أجوز لتتميم المقول، ومن قرأ على الخطاب وقف لأنه خرج عن المقول يُنْذَرُونَ هـ ظالِمِينَ هـ شَيْئاً ط أَتَيْنا بِها ط حاسِبِينَ هـ لِلْمُتَّقِينَ هـ لا لاتصال الصفة ولا يخفى أنه يحتمل النصب أو الرفع على المدح فيجوز أن لا يوصل. مُشْفِقُونَ هـ أَنْزَلْناهُ ط مُنْكِرُونَ.
التفسير:
إنه سبحانه بدأ في أول السورة بذكر المعاد ثم انجر الكلام إلى النبوات وما يتصل بها سؤالا وجوابا فختم الكلام بالإلهيات لأنها المقصود بالذات فقال على سبيل الإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها بواسطة «أم» المنقطعة أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ نسبت إلى الأرض كما يقال «فلان من مكة» لأنها أصنام تعبد من الأرض، لأن الآلهة على ضربين أرضية وسماوية. أو أراد أنها من جنس الأرض لأنها تنحت من حجر أو تعمل من جوهر آخر أرضي. ويقال: أنشر الله الموتى ونشرها أي أحياها. ومن أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات كأنهم بادعائهم لها الإلهية أدعوا لها الإنشار وإن كانوا منكرين البعث فضلا عن قدرة الأصنام عليه لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور.
والإنشار من جملة المقدورات بالدلائل الباهرة وفيه باب من التهكم والتسجيل وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده، لأن الاقتدار على الإبداء والإعادة من لوازم الإلهية.
ومعنى هُمْ أفادت الخصوصية كأنه قيل: أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم، وفيه رمز إلى أن الأمر المختص بالاهتداء هو وحده. ولما قدم الإنكار شرع في دليل التوحيد فقال: لَوْ كانَ فِيهِما أي في السموات والأرض وقد مر ذكرهما آلِهَةٌ إِلَّا(5/12)
اللَّهُ
أي غير الله. قال النحويون: إلا هاهنا بمعنى غير لتعذر حمل إلا على الاستثناء لأنها تابعة لجمع منكور غير محصور، والاستثناء لا يصح إلا إذا كان المستثنى داخلا في المستثنى منه لولا الاستثناء وقد يقال: إن «إلا» في هذه المادة لا يمكن أن تكون للاستثناء لأنا لو حملناها على الاستثناء لصار المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله لم يحصل الفساد. وللمفسرين في تفسير الآية طريقان: أحدهما حمل الغائب على الشاهد والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة غير الواحد الذي هو فاطرهما لَفَسَدَتا وفيه دلالة على أمرين: الأول وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدا، والثاني أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه لقوله غير الله وإنما وجب الأمر أن لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف. وثانيهما طريق التمانع بأن يقال: لو فرضنا إلهين وأراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه، فإن وقع مرادهما لزم اجتماع الضدين في محل واحد، وإن لم يقع مرادهما لزم عجزهما، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر فذلك الآخر عاجز لا يصلح للإلهية.
والاعتراض على هذا التقدير من وجهين: الأول أن اختلافهما في الإرادة أمر ممكن والممكن لا يجب أن يقع.
والثاني أن الفساد في السموات والأرض كيف يترتب على اختلافهما وفي الجواب طريقان: أحدهما الرجوع إلى التفسير الأول وهو إحالة الأمر على ما هو الغالب المعتاد من أن الملك عقيم ولا يجتمع فحلان على شول، والشول جماعة النوق التي جف لبنها وارتفع ضرعها وأتي عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية، فلا بد من وقوع التنازع والاختلاف وحدوث الهرج والمرج عند ذلك. الطريق الثاني العدول إلى ضرب آخر من البيان، وهو أن اتفاق الإلهين على مقدور واحد محال لأن كلّا منهما مستقل بالتأثير كامل في القدرة، فإذا وقع المقدور بأحدهما استحال أن يقع بالآخر مرة أخرى على أنه لو أراد كل واحد منهما أن يوجده هو فهذا أيضا اختلاف. ولو قيل: إنه يريد كل واحد منهما أن يكون الموجد له أحدهما لا بعينه فهذه إرادة مبهمة لا تصلح للتأثير، فلا بد من الاختلاف وقد عرفت حاله ولزوم الفساد حينئذ ظاهر، لأن كل ما يصدر عن إلهين عاجزين أو إله عاجز لم يكن على الوجه الأصلح والنمط الأصوب، بل العاجز لا يصلح للإيجاد أصلا فلا يوجد على ذلك التقدير شيء من الممكنات وهو الفساد الكلي. ومنهم من يقرر دليل التمانع على وجوه أخر منها: أنا لو قدرنا إلهين فهل يقدر كل واحد منهما على أن يمنع صاحبه عن مراده أم لا؟ فإن قلت: يقدر. كان كل منهما مقهورا للآخر، وإن قلت: لا يقدر فقد ثبت عجز كل واحد(5/13)
منهما. ومنها أن أحدهما هل يقدر على أن يستر شيئا من أفعاله عن الآخر أو لا؟ فإن قدر فالمستور عنه جاهل عاجز وإلا فالأول عاجز. ولا يخفى ما في أمثال هذين الوجهين من الضعف لأن عدم القدرة على المحال لا يسمى عجزا ولهذا لا يمكن أن يقال: إنه تعالى عاجز عن خلق مثله أو إنه إذا أوجد شيئا نفذت قدرته عن خلق ذلك الشيء وحصل له عجز. ومن الطاعنين في دليل التمانع من فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله كما تزعم عبدة الأصنام لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على وجوه التدبير والتصرف لأنفسها فضلا عن غيرها. ولقائل أن يقول: إن الآلهة لو كانت منفردة بالتدبير يلزم الفساد. أما أنها لو كانت وسائط أو معاونة للإله الأعظم كما تزعم عبدة الأوثان فمن أين يلزم الفساد. واعلم أنا قد بينا دلائل التوحيد في مواضع من هذا الكتاب ولا سيما في سورة البقرة في تفسير قوله وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الآية: 163] ولنا في هذا المقام طريقة أخرى ما أظنها وطئت قبلي فأقول وبالله التوفيق: إن الوحدة من صفات الكمال وقد ركز ذلك في العقول حتى إن كل عامل مهما تم له أمر بواحد لم يتعد فيه إلى اثنين، وإذا اضطر إلى الشركة والتعاون راعى فيه الأبسط فالأبسط لا يزيد العدد إلا بقدر الافتقار وعلى هذا مدار الأمور السياسية والمنزلية هذا في المؤثر. وأما في الأثر فلا ريب أنه استند إلى ما هو بسيط حقيقي لم يكن فيه إلا جهة واحدة افتقارية وإذا استند إلى ما فوق ذلك كان فيه من الجهات الافتقارية بحسب ذلك فيكون النقص تابعا لقلة جهات الافتقار وكثرتها، وكل مرتبة للممكنات تفرض من العقول والنفوس والأفلاك والعناصر والمواليد، فإن كان مبدأ تلك السلسلة الطويلة واحدا كانت الجهات الاعتبارية الافتقارية فيها أقل مما لو كان المبدأ أزيد من واحد. وهذه قضية يقينية إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه سبحانه أراد أن يدفع هذا النقص من الممكنات و «لو» هذه بمعنى «أن» والمراد أن هذا النقص والفساد لازم لوجود آلهة غير الله سواء كان الله من جملتهم أم لا، ولن يرضى العاقل بما فيه نقصه وفساده فوجب أن لا يعتقد إلها غير الله وهذه النتيجة هي المراد بقوله فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ من الأنداد والشركاء فتكون هذه الآية نظيرة قوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا [الزمر: 29] وفيه قول زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق قومه:
أربا واحدا أم ألف رب ... أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا ... كذلك يفعل الرجل البصير
ثم أكد تفرده بالإلهية بقوله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وفيه رد على الثنوية والمجوس(5/14)
الذين أثبتوا لله شريكا فاعلا للشرور والآلام، وذلك أنهم طلبوا الحكمة في أفعال الله تعالى فقالوا: لو كان مدبر العالم واحدا لم يخص هذا بأنواع الخيرات من الصحة والغنى وذلك بأصناف الشرور من المرض والفقر، فذكر سبحانه أن الاعتراض على أفعاله ينافي الديانة وأن له أن يفعل ما يشاء ولا مجال للسؤال عن أفعاله، فكل من الأشاعرة والمعتزلة سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت، ولكنهم حملوا عدم جواز السؤال على مأخذ آخر. أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن أفعاله لا تعلل بالمصالح والأغراض وله بحكم المالكية أن يفعل في مخلوقاته ما شاء فإن من تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت، وكيف يتصور في حقه استحقاق الذم واستحقاق المدح له قديم؟ وما يثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات. وكما أن ذاته غير معللة بشيء فكذلك صفاته وأفعاله، وإنه غير محتاج إلى الأسباب والوسائط والأغراض والمقاصد. وأما المعتزلة فقد قالوا: إنه تعالى عالم بقبح المقابح وعالم بكونه غنيا عنها، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح. وإذا عرف المكلف إجمالا أن كل ما يفعله الله فهو حكمة وصواب وجب أن يسكت عن «لم» وإذا كان الملوك المجازيون لا يسألهم من في مملكتهم عما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيبا وإجلالا لهم مع جواز الخطأ والزلل عليهم، فملك الملوك ورب الأرباب أولى بأن لا يسأل عن أفعاله مع ما ركز في العقول من أن كل ما يفعله فهو حسن مشتمل على الغايات الصحيحة. ثم زاد الإلهية تأكيدا بقوله وَهُمْ يُسْئَلُونَ وفيه رد على منكري التكليف الذاهبين إلى أن العباد لا يسألون عما فعلوا في دار الدنيا قالوا: إن التكليف أمر غير معقول لأنه إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك وهو محال لأن صدور الفعل عن المكلف يستدعي الترجيح فالتكليف بالترجيح في حال عدم الترجيح تكليف بالمحال، وإما أن يتوجه حال الرجحان ويكون الفعل حينئذ واجب الوقوع فيكون التكليف عبثا. وأيضا التكليف بما هو معلوم الوقوع لله عبث لأنه واجب الوقوع وبما هو غير معلوم الوقوع تكليف بما لا يطاق، وأيضا سؤال العبد لعبد إن لم يكن فيه فائدة فعبث، وإن كان فيه فائدة فإن عادت إلى الله تعالى كان محتاجا مستكملا، وإن عادت إلى العبد فالله تعالى قادر على إيصالها إليه من غير واسطة التكليف، على أن السؤال إن كان لأجل إيصال الضرر فذلك لا يليق بالكريم الرحيم، وجوابهم أن الأسباب والوسائط معتبرة في كل شيء من عالم الأسباب حتى الثواب والعقاب، على أن حاصل الشبهات يرجع إلى أن المنكر كأنه قال: إنه تعالى لم كلف عباده ولم كلفهم ما لا يطيقون وهو يناقض القاعدة الممهدة أنه لا يسأل عما يفعل. ثم كرر أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استفظاعا لكفرهم وليرتب عليه قوله قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ذلك عقلا أو نقلا. أما العقل فقد مر أنه يقضي بعدم الشريك حذرا من(5/15)
الفساد، وأما النقل فقوله هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ هو من إضافة المصدر إلى المفعول أي عظة لأمتي. عن ابن عباس واختاره القفال والزجاج أنه أراد هذا هو الكتاب المنزل على من معي من الأمة وهذا هو الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وأممهم يعني التوراة والإنجيل والزبور والصحف والكل وارد في معنى التوحيد ونفي الشركاء. وعن سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي صفة للقرآن أيضا لأنه اشتمل على أحوال الأمم الماضية كما اشتمل على أحوال هذه الأمة. ثم ختم الآية بقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ تنبيها على أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد وهو عدم العلم وفقد التمييز بين الحق والباطل، فلذلك أعرضوا عن استماع الحق وطلبه، وفي لفظ الأكثر إشارة إلى أن فيهم من يعلم ولكنه يعاند، أو أجري لفظ الأكثر على الكل على عادة الفصحاء كي لا يكون الكلام بصدد المنع.
ثم قرر آي التوحيد خصوصا قوله هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي على أحد التفسيرين بقوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية. ثم رد على خزاعة وأمثالهم القائلين بأن الملائكة بنات الله بقوله وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ثم نزه نفسه عن ذلك بقوله سُبْحانَهُ ثم أخبر عما هم عليه في الواقع وهو أن الملائكة عباد الله مُكْرَمُونَ مقربون لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي بقولهم أي يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ فهم التابعون لأمر الله في أقوالهم وأفعالهم يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وقد مر تفسيره في «طه» وفي آية الكرسي وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى كقوله في طه لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه: 109] وقد مر البحث فيه. قال في الكشاف وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أي متوقعون من أمارة ضعيفة. قلت: لعله أراد أنهم يتوقعون ما هو سبب لخشيته وهو العقاب من أدنى أمارة بخلاف البشر فإنهم لا يتوقعون ذلك إلا من أمارة قوية.
ويحتمل أن يقال: إنهم يخشون الله ومع ذلك يحذرون من أن تلك الخشية يقع فيها تقصير.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبرئيل عليه السلام ليلة المعراج ساقطا كالحلس من خشية الله عز وجل.
ثم نبه على غاية عظمته ونهاية جبروته بقوله وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فيحتمل أن يدعي الإلهية لنفسه دون الله أو يدعي أنه إله مع الله أي بعد مجاوزة إلهيته وهذا على سبيل الفرض والتقدير كقوله وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:
88] وفي قوله فَذلِكَ دون أن يقول فهو تبعيد للمشرك الجاحد عن ساحة عزته وفيه تفظيع لأمر الشرك وتهديد عظيم لمن أشرك، وأراد بالظلم هاهنا الشرك، والمعتزلة عمموه والأول أظهر. ثم عدل في أدلة التوحيد إلى منهج آخر من البيان وهو الاستدلال بالآفاق(5/16)
والأنفس قائلا أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي جماعة السموات وجماعة الأرض كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما الرتق بالسكون السد. رتقت الشيء فارتتق أي التأم ومنه امرأة رتقاء ومصدرها الرتق بالتحريك، والفتقاء ضدها أي كانتا مرتوقتين فجعلناهما مفتوقتين. عن ابن عباس في رواية عكرمة وهو قول الحسن، وقتادة أن المراد كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض. ومثله قول كعب: خلق الله السموات والأرض ملتصقتين، ثم خلق ريحا توسطتهما فحصل الفتق، وقال أبو صالح ومجاهد: كانت السموات متلاصقات لا فرج بينها ففتقها الله بأن جعلها سبعا وكذلك الأرضون. وعن ابن عباس في رواية أخرى وعليه كثير من المفسرين، أن السموات والأرض كانتا رتقا بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر.
ويشبه أن يراد بالسماوات على هذا التفسير السحب نظيره قوله وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [الطارق: 12] ويؤيده قوله عقيبه وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وقيل: إنهما جمع السموات وإن كان نزول المطر من السماء الدنيا فقط باعتبار الجهة لأن جهتها هي جهتهن، أو باعتبار أن كل قطعة منها سماء فيكون كقولهم «ثوب أخلاق» «وبرمة أعشار» وقريب من هذا قول من قال: المعنى أن السموات والأرض كانتا مظلمتين ففتقهما الله تعالى بإظهار النور فيهما كقوله وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] وقال أبو مسلم الأصفهاني: الرتق حالة العدم إذ ليس فيها ذوات متميزة فكأنها أمر واحد متصل متشابه، والفتق الإيجاد لحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض فيكون كقوله فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: 14] والفطر الشق. وعن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثانية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة، والفتق افتراقهما المقتضي لإمكان العمارة ولتغير الفصول وفيه بعد.
وهاهنا سؤال: وهو أن الكفار متى رأوهما رتقا حتى صح هذا الاستفهام للتقرير؟ كيف وقد قال الله تعالى ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ [الكهف: 51] والجواب على الأقوال الأخيرة ظاهر فإن فتق السماء بالمطر والأرض بالنبات أو فتقهما بتنفيذ النور فيهما وإظهاره عليهما أمور محسوسة، وكذا إدخالهما من العدم إلى الوجود مما يشهد به الحس السليم والعقل المستقيم. وأما على القولين الأولين فلعلهم علموا ذلك من أهل الكتاب وكانوا يقبلون قولهم لما بينهما من التوافق في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال صاحب الكشاف في الجواب: إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد، أو أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من(5/17)
مخصص وهو القديم سبحانه. قوله وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ قال السكاكي صاحب المفتاح: أي جعلنا مبدأ كل حي من هذا الجنس الذي هو جنس الماء. واعترض عليه بأنه كيف يصح ذلك وآدم من تراب والجن من نار والمشهور أن الملائكة ليست أجساما مائية؟ وأجاب بأنه يأتي في الروايات أنه جل وعز خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، والجن من نار خلقها منه، وآدم من تراب خلقه منه. وقال صاحب الكشاف: إنما قال خلقنا كل شيء حي من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ وجوز أن لا يكون الجعل بمعنى الخلق بل يكون بمعنى التصيير متعديا إلى مفعولين، فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه. وقال في التفسير الكبير: اللفظ وإن كان عاما إلا أن القرينة قائمة فإن الدليل لا بد أن يكون مشاهدا محسوسا ليكون أقرب إلى المقصود، فبهذا الطريق تخرج الملائكة والجن وآدم لأن الكفار لم يروا شيئا من ذلك: قلت: فعلى هذا يكون قوله وَجَعَلْنا داخلا في حيز الاستفهام كأنه قيل:
ألم يروا أنا فتقنا السموات والأرض بعد رتقهما وجعلنا من الماء كل حيوان. ومن المفسرين من جعل الحي شاملا للنبات أيضا كقوله فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الجاثية: 5] قوله وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ قد مر تفسيره في أول «النحل» وباقي الآية كقوله في طه وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا [الآية: 53] والفجاج جمع الفج وهو الطريق الواسع وهي صفة سُبُلًا قدمت عليه فصارت حالا عنه أراد أنه حين خلقها جعلها على تلك الصفة فهذا كالبيان لما أبهم في قوله لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نوح: 20] والاهتداء إما حسي أي تهتدون إلى البلاد، وإما عقلي وهو الاهتداء إلى وحدانية الله تعالى. ومنهم من زعم أن الضمير في قوله وَجَعَلْنا فيها عائد إلى الجبال وهذا قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس. وروي عن ابن عمر أنه قال: كانت الجبال منضمة فلما أغرق قوم نوح فرقها فجاجا وجعل فيها طرقا. قال علماء الإسلام: ليس في قوله وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً إن السماء للأرض كالسقف للبيت لأنها فوق لا يقابله مثله، ولكنه أطلق عليها اسم السقف لأنها كذلك في النظر بالنسبة إلى سكان كل بقعة. وفي المحفوظ وجهان: أي مَحْفُوظاً بقدرته من أن يقع على الأرض أو محفوظ بالشهب عن الشياطين. وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ فلا يتدبرون في ترتيبها ومسيراتها وطلوع أجرامها وغروبها واتصالاتها وانصرافاتها وتأثيراتها فيما دونها بإذن خالقها ومبدعها. قوله كُلٌّ فِي فَلَكٍ من مقلوب الكل. والفلك في اللغة كل شيء دائر وجمعه أفلاك. وزعم الضحاك أنه ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم. والأكثرون على أن الفلك جسم تدور النجوم عليه. ثم اختلفوا في حقيقته فقال الكلبي: ماء مكفوف أي مجموع تجري فيه الكواكب بدليل قوله يَسْبَحُونَ(5/18)
والسباحة لا تكون إلا في الماء. ورد بأنه يقال فرس سابح إذا امتد في الجري. وقالت الحكماء: هو جسم كروي لا ثقيل ولا خفيف غير قابل للخرق والالتئام والنمو والذبول، ولذلك منعوا من كون الفلك ساكنا، والكواكب متحركة فيه كالسمك في الماء واعتذروا عن السباحة بأنها في النظر كذلك.
قال صاحب الكشاف: التنوين في كل عوض من المضاف إليه أي كلهم فورد عليه إشكالان: أحدهما أنه لم يسبق إلا ذكر الشمس والقمر فكيف يعود ضمير الجمع إليهما؟
وأجاب بأن ذلك باعتبار كثرة مطالعهما كما يجمع بالشموس والأقمار لذلك. ويمكن أن يقال: أقل الجمع اثنان أو أنه جعل النجوم تبعا لذكرهما. الثاني أن كلهم ليسوا في فلك ولكن كل منهم في فلك آخر على ما يشهد به علم الهيئة، وأجاب بأنه أراد جنس الفلك كقولك «كسانا الأمير حلة» ، أو أراد كل واحد. قلت: لو صح هذا التقدير الثاني لم يرد الإشكال الأول ولكنه ينافي قوله يَسْبَحُونَ مجموعا. قال بعض الحكماء في هذا الجمع دلالة على أن الكواكب أحياء ناطقة. وأجيب بأنه إنما جمع جمع العقلاء لأن السباحة من فعلهم. قلت: قد يسبح كثير من الحيوانات، فلعل المختص بالعقلاء هو السباحة الصناعية المكتسبة. وهاهنا بحث وهو أن الإمام فخر الدين الرازي استحسن قول بعض الأوائل أن الحركة السماوية صنف واحد وهي الآخذة من المشرق إلى المغرب إلا أن بعضها أبطأ من البعض كالحركات الغربية، وكذا اختلافات تلك الحركات بسبب تلك المختلفات. قال:
وهذا أقرب ليكون غاية سرعة الحركة للفلك الأعظم وغاية السكون للجرم الذي هو أبعد عن المحيط وهو الأرض، ولئلا يلزم بسبب حركة ما دون الفلك الأعظم بحركته وبحركاتها الخاصة تحرك الجرم الواحد في زمان واحد بحركتين مختلفتين إلى جهتين فإنه يستلزم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين. قلت: أما حديث كون ما هو أبعد عن المركز أسرع حركة فإقناعي، وأما لزوم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين فممنوع لأن التي تظهر في المتحرك هي الحركة المركبة الحاصلة من فضل الأسرع على الأبطأ لا كل من الحركتين، وهذا مشاهد من حركة النملة إلى خلاف جهة حركة الرحى، ومن حركة راكب السفينة فيها إلى خلاف جهة حركتها. وأما الذي استحسنه من كلام الأوائل فباطل لأنه لو كان كذلك لحصلت الاظلال اللائقة بكل جزء من أجزاء فلك البروج في يوم بليلة، وكذا الارتفاعات المناسبة لها في البلاد المتفقة العرض وليس كذلك، وقد ذكرنا هذا المعنى في كتبنا النجومية أيضا. وحين فرغ من بيان طرف من هيئة الأجرام السماوية ومنافعها الدنيوية نبه بقوله وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ على أن هذه الآثار لا تدوم ولا تخلق للبقاء وإنما(5/19)
خلقت للابتلاء والامتحان ولكي يتوصل بها المكلفون إلى السعادات المدخرة لهم في الآخرة وهي دار الخلود. وبوجه آخر لما فرغ من دلائل الآفاق شرع في دلائل الأنفس فقال:
وَما جَعَلْنا الآية، عن مقاتل أن ناسا كانوا يقولون إن محمدا لا يموت فنزلت وقيل:
لعلهم ظنوا أنه لو مات لتغير الشرع وهذا ينافي كونه خاتم الأنبياء، فبين الله سبحانه أن حاله كحال من تقدمه من الأنبياء في المفارقة من دار الدنيا. والأكثرون على أن سبب النزول هو أنهم كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله عنه الشماتة لهذه وفي معناه قول القائل:
فقل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كما لقينا.
قوله كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ قد تقدم في آخر آل عمران تفسيره.
قوله وَنَبْلُوكُمْ أي نعاملكم معاملة المختبر بما نسوق إليكم من الشرور والخيرات فيظهر عندهما صبركم وشكركم. وقدم الشر لأن الموت من باب الشرور في نظر أهل الظاهر. وفِتْنَةً مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه. وحين أثبت الموت الذي هو الفراق عن دار التكليف بين بقوله وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أن الجزاء على الأعمال ثابت مرئي البتة بعد المفارقة. استدلت المجسمة بقوله وَإِلَيْنا أنه تعالى جسم ليمكن الرجوع إلى حيث هو، والتناسخية بأن الرجوع مسبوق بالكون في المكان المرجوع إليه، وجواب الأولين أنه أراد الرجوع إلى حيث لا حكم إلا له، وجواب الآخرين التسليم لكنه لا يفيد مطلوبهم لأن الرجوع إلى المبدأ غير الرجوع إلى دار الدنيا، واعلم أن مثل هذه الآية سيجيء في سورة العنكبوت إلا أنه قال هناك ثُمَّ إِلَيْنا ولم يذكر قوله وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً فكأن هذه الفاصلة قامت مقام التراخي في «ثم» .
قال السدي ومقاتل: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي جهل وأبي سفيان فقال أبو جهل لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف. فقال أبو سفيان: وما تنكر أن يكون نبيا في بني عبد مناف! فسمع النبي صلى الله عليه وسلم قولهما فقال لأبي جهل: ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة، وأما أنت يا أبا سفيان فإنما قلت ما قلت حمية فأنزل الله تعالى وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ
أي ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً ثم فسر ذلك بقوله أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ والذكر أعم من أن يكون بالخير أو بالشر إلا أنه إذا كان من العدو يفهم منه الذم لا الثناء، والمعنى أنه يبطل معبوديتها وينكر عبادتها ويقبح أمرها ثم بين غاية جهالتهم وتعكيس قضيتهم بقوله وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ قدم الجار والمجرور وكرر الضمير ليفيد أنهم عاكفون هممهم على ذكر آلهتهم من(5/20)
كونها شفعاء وشهداء، ولو ذكرها ذاكر بخلاف ذلك ساءهم. وأما ذكر الرحمن الذي منه جلائل النعم ودقائقها وأصولها وفروعها فلا يخطر منهم ببال، ولو ذكره ذاكر استهزؤا به حتى إن بعضهم يقولون: ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة فهم أحق أن يتخذوا هزوا. ويحتمل أن تكون الباء للسببية أي هم كافرون بسبب ذكرهم الرحمن لا على ما ينبغي، فيكون الذكر في الموضعين بمعنى واحد. وقيل بِذِكْرِ الرَّحْمنِ أي بما أنزل إليك من القرآن وكانوا يستعجلون بعذاب الله كما يجيء من قوله وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ فقدم لذلك أولا مقدمة هي قوله خُلِقَ الْإِنْسانُ أي هذا الجنس مِنْ عَجَلٍ أراد أنه مجبول على إفراط العجلة كما مر في قوله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الإسراء: 11] وعن ابن عباس أنه آدم أراد أن يقوم حين بلغ الروح صدره، وعن مجاهد أن آدم لما دخل الروح رأسه وعينيه رأى الشمس قاربت الغروب فقال: يا رب عجل خلقي قبل أن تغيب الشمس. وعن ابن عباس أيضا أنه النضر بن الحرث والأول أظهر. وقيل: العجل الطين بلغة حمير، وقال الأخفش: أي من العجل في الأمر وهو قوله كُنْ وقيل: هو على القلب أي خلق العجل من الإنسان سَأُرِيكُمْ آياتِي وهي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فإنها كائنة لا محالة في وقتها وقيل: هي أدلة التوحيد وصدق الرسول. وقيل: آثار القرون الخالية بالشام واليمن.
سؤال: قوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فيه أن الآدمي معذور على الاستعجال لأنه له كالأمر الطبيعي الذي لا بد منه، فلم رتب عليه النهي بقوله فَلا تَسْتَعْجِلُونِ؟ وأجيب بأن فيه تنبيها على أن ترك العجلة حالة شريفة وخصلة عزيزة. وقال جار الله: هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها.
آخر: القوم استعجلوا الوعد على جهة التكذيب، ومن هذا حاله لا يكون مستعجلا في الحقيقة؟ أجيب بأن الاستعجال على هذا الوجه أدخل في الذم لأنه استعجال على أمر موهوم عندهم لا معلوم لَوْ يَعْلَمُ جواب «لو» محذوف وحِينَ مفعول به ل يَعْلَمُ والمعنى لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه وهو وقت إحاطة النار بهم، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال. ويجوز أن يكون يَعْلَمُ متروك المفعول أي لو كانوا من أهل العلم لما كانوا مستعجلين، وعلى هذا يكون حِينَ منصوبا بمضمر أي حين لا يكفون يعلمون أنهم كانوا على الباطل، وخص الوجوه والظهور بالذكر لأن نكاية النار في هذين العضوين أشد مع أن الإحاطة التامة تفهم منهما. ثم بين أن وقت مجيء العذاب غير(5/21)
معلوم لهم فإن مجيء الساعة مخفي عن المكلفين ليكونوا أقرب إلى تلافي الذنوب فقال بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ قال جار الله: أي لا يكفونها بل تفجؤهم فتغلبهم. قلت: فائدة «بل» في هذه المقامات للانتقال من جملة إلى أخرى أهم من الأولى، ويحتمل أن تكون «لو» لظاهر التمني والضمير للنار. وقيل: للساعة. وفي قوله وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ تذكير بإمهالهم في دار الدنيا أي ثم يهلكون بعد طول الإمهال. ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ الآية. وقد مرت في أول الأنعام. ولما بين أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجوههم النار ذكر أنهم في الدنيا أيضا مفتقرون إلى حراسة الله وكلاءته فقال قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إذا نمتم وَالنَّهارِ إذا تقلبتم في وجوه المصالح مِنَ الرَّحْمنِ أي من بأسه وعذابه كالقتل والسبي ونحوهما. قيل: إنما خص الرحمن بالذكر تلقينا للجواب حتى يقول العاقل أنت الكالئ يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك ونظيره ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الإنفطار: 6] ثم أضرب عن الأمر بالاستفهام قائلا بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ لا يخطرونه ببالهم فضلا أن يخافوا بأسه كأنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكالئ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. أما قوله أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ فذكر في الكشاف أنه إضراب عن الكلام السابق بما في «أم» من معنى «بل» . وقال غيره: الميم زائدة وإنه استفهام مستأنف والتقدير ألهم آلهة تمنعهم من دوننا من العذاب، ومعنى مِنْ دُونِنا أن تلك الآلهة لا تتجاوز منعنا وحفظنا ثم استأنف فقال لا يَسْتَطِيعُونَ ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي تلك الآلهة ليست تقدر على نصر أنفسها فكيف تحفظ غيرها وتنصرها.
وقوله وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ قال المازني: هو من أصحبت الرجل إذا منعته. والأكثرون على أنه من الصحبة بمعنى النصرة والمعونة ومنه قولهم «صحبك الله» . والحاصل أن من لا يكون قادرا على دفع الآفات ولا يكون مصحوبا من الله بالإعانة والنصرة كيف يتوقع منه دفع ضر أو جلب نفع! ولما أبطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلا إلى بيان أن ما هم فيه من الحفظ والكلاءة والتمتع بالحياة العاجلة هو من الله لا من مانع يمنعهم من الإهلاك ولا من ناصر يعينهم على أسباب التمتع سوى الله. وفي قوله حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ إشارة إلى أنه لما امتدت أيام الروح والطمأنينة حسبوا أن ذلك لن يزول عنهم فاغتروا به ونسوا المنعم فاستأهلوا العقاب كما أشار إليه بقوله أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وفي لفظ الإتيان تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين الذين هم حزب الله من نقص ديار الكفر وتخريبها وعمارة حوزة الإسلام وتشييد مبانيه وقد مر مثله في آخر سورة الرعد. والاستفهام في قوله أَفَهُمُ الْغالِبُونَ للتقرير أي لنحن الغالبون وهم المغلوبون.(5/22)
ثم بين أن هذه الإنذارات ليست من قبل الرسول ولكنه بالوحي، ثم مهد عذر الرسول إن لم تنجع فيهم رسالته بأن الصم لا يسمعون دعاء المنذر. واللام في الصُّمُّ للعهد أي لا يسمع هؤلاء الإنذار فوضع الصُّمُّ في موضع اسم الإشارة إيذانا بأنهم هم الموسومون بالصمم عن استماع الحق، ولو كان اللام للجنس لكان الأنسب إطلاق الدعاء لأن الصم لا تسمع الدعاء بشروا أو أنذروا. ثم ذكر أنهم لا يعترفون بالتقصير والظلم إلا عند معاينة العذاب فقال: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ وفي ذكر المس وبناء المرة من النفح الذي هو بمعنى القلة والنزارة. منه قولهم «نفحه بعطية» أي رضخه، «ونفحته الدابة» وهو رمح يسير دليل على أنهم في غاية الضعف يجزعون من أدنى أثر من عذاب الله. قوله وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ المراد من الوضع الإحضار والقسط أي العدل صفة الموازين وإن كان موحدا كقولهم للقوم «إنهم عدل» قاله الفراء. وعن الزجاج أراد ذوات القسط. واللام في لِيَوْمِ الْقِيامَةِ بمعنى الوقت كما يقال «جئت لتاريخ كذا» . وقيل: أراد لأجل الحساب يوم القيامة. وقد مر تحقيق الوزن وما يتعلق به من الأبحاث في أول سورة الأعراف.
يروى أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فلما رآه غشي عليه ثم أفاق فقال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة.
وفي قوله فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً بحث بين المعتزلة والأشاعرة وقد مر مرارا وَإِنْ كانَ أي الوزن والعمل مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها أنت ضمير المثقال باعتبار إضافته إلى الحبة. قيل: الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال: حبة من خردل؟ وأجيب بأن الوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار، والظاهر أنه أراد الحبة من حيث اللغة. وقوله مِنْ خَرْدَلٍ بيان لها لأن الحبة أعم من أن تكون من الخردل أو من الحنطة أو من غيرهما ولكن المبالغة في الأول أكثر، وذلك أن الخردلة سدس شعيرة وهي نصف سدس ثمن الدينار عند الحساب ونصف سدس سدسه في الشرع، والحبة ثمن تسع الدينار في عرف حساب فارس والعراق، فمثقال حبة من خردل يكون على الوجه الأول ثمن تسع خردلة، وعلى ما قلنا يكون هو الخردل بعينه. والحاصل أن شيئا من الأعمال صغيرا كان أو كبيرا غير ضائع من علم الله وأنه يجازي عليه. رؤي الشبلي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال:
حاسبوني فدققوا ... ثم منوا فأعتقوا.
قال في التفسير الكبير: زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة(5/23)
يستحق بها خمسين جزءا من الثواب فهذا الأقل منحبط بالأكثر كما كان. والآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط، ولو كان الأمر كما قاله الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة. قلت: للجبائي أن يقول: الإتيان بالطاعة مشروط عندي بعدم الإحباط كما أن العقاب على المعصية مشروط عندكم بعدم العفو. وَكَفى بِنا حاسِبِينَ كقوله وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [النساء: 6] وحين فرغ من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في قصص الأنبياء تسلية لنبيه وتثبيتا وعظة لأمته وتذكيرا، وقد مر قصة موسى إلا أنه أوجز فيها هاهنا والموجز تقدمه الفصحاء غالبا، ولأن موسى أقوى حالا ومعجزة، ولأن ذكر التوراة يناسب ما تقدم من قوله قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وصف التوراة بأنها جامعة لكونها فرقانا يفرق به بين الحق والباطل، وقد مر سائر تفاسير الفرقان في أول البقرة وَضِياءً كقوله فِيها هُدىً وَنُورٌ [المائدة: 44] وذكر للمتقين أي شرفا وموعظة، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم وقوله بِالْغَيْبِ إما حال من الرب أي حال كونه غائبا عن حسهم والله لا يغيب عنه شيء فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «1» وإما حال منهم أي حال كونهم غائبين عن عذاب الآخرة وأهوالها، أو غائبين عن الناس أي يخشون ربهم في الخلوات. ثم عظم شأن القرآن بقوله وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أي كثير البركة أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي أنتم دون سائر الناس مع علمكم بفصاحته وإعجازه تخصونه بالإنكار. ولا يخفى ما فيه من التوبيخ للعرب ومن داناهم.
التأويل أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً من أرض البشرية ثم هم يحيون القلوب الميتة بل الله يحييها بنور ذكره وطاعته لو كان في سماء الروحانية وأرض البشرية آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ كالعقل والهوى لَفَسَدَتا كما فسد سماء أرواح الفلاسفة حين أثبتت عقولهم للواجب صفات لا تليق به، وفسد أرض بشرية الطبائعية حين زلت قدمهم عن استعمال قوانين الشريعة بمقتضى هوى الطبيعة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لأن أفعاله تعالى صادرة عن الحكمة والقدرة وَهُمْ يُسْئَلُونَ لأن أفعالهم منشؤها الظلومية والجهولية لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ لأنه ليس فيهم ما يخالف داعية العقل وهو الطبع الذي يجذب صاحبه إلى السفل، ولهذا وصفهم بالإكرام ووصف بني آدم بالتكريم في قوله وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70] ففي التكريم تكثير ليس في
__________
(1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 31 باب 2. مسلم في كتاب الإيمان حديث 57 أبو داود في كتاب الإيمان باب 4. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 9. أحمد في مسنده (1/ 27) (2/ 107) (4/ 129) . [.....](5/24)
الإكرام والسبب أن أمر بني آدم أشكل وحالهم أصعب يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من خجالة قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] وَما خَلْفَهُمْ من الأمر بسجود آدم والاستغفار لمن في الأرض أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أنهم رأوها في عالم الأرواح لأنها خلقت قبل الأجساد بألفي عام، وفي رواية بأربعة آلاف سنة كانَتا رَتْقاً أي كانت سموات الأرواح متعلقة بأرض القوالب فَفَتَقْناهُما بالمفارقة وقطع التعلق وَجَعَلْنا مِنَ ماء حياة العلم كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ بالحياة الأبدية وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ أرض القالب رَواسِيَ هي هموم العلائق البدنية أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ فلولاها لمالت كل نفس إلى عالمها وبطل الغرض من التكليف، ويمكن أن يكون الرواسي إشارة إلى الأبدال الذين هم أوتاد الأرض بهم يرزق ويمطر الناس فِجاجاً سُبُلًا هي طرق الإرشاد والتسليك وَجَعَلْنَا سماء القلب سَقْفاً مَحْفُوظاً من وساوس شياطين الإنس والجن وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ ليل البشرية ونهار الروحانية وشمس المعرفة وقمر الإسلام كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فأهل الإسلام في فلك الشريعة، وأهل الإيمان في فلك الطريقة، وأهل الولاية في فلك أطوار الحقيقة كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أما النفس الحيوانية فلأن من خواصها أن تصير الغذاء من جنسها فلا جرم إذا عجز الغذاء عن التشبيه بها لعجز القوة الغاذية حل أجلها، وأما النفس الناطقة فلأن من خواصها أنها تصير من جنس غذائها وهو الكمالات العلمية والعلمية التي هي فيوض ربانية يتجوهر الروح بجوهرها فيحصل له الفناء عن وجوده والبقاء بشهود ربه وَنَبْلُوكُمْ بالمكروهات التي تسمونها شرا بالمحبوبات التي تحسبونها خيرا فِتْنَةً فربما كان الأمر عكس ما تصورتم وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ اختيارا وقهرا وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه أن الأغيار لا ينظرون إلى الأخيار إلا بعين الإنكار خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ بالنسبة إلى خلق السموات والأرض وما بينهما فإنها خلقت في ستة أيام وخمرت طينة آدم أربعين صباحا مع أن فيها أنموذجا من الكل واستعدادا لقبول الخلافة وقابلية تجلي الذات والصفات ومظهرية الكنز الخفي وأشار إلى هذه المعاني بقوله سَأُرِيكُمْ آياتِي أي في مظاهر الآفاق ومرايا أنفسكم بالتدريج وبالتربية في كل طور فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فإن حد الاستكمال من المهد إلى اللحد بل من الأزل إلى الأبد وهذا منطق الطير لا يفهمه إلا سليمان الوقت. ويمكن أيضا أن يقال:
إن الروح الإنساني أول شيء تعلقت به القدرة وهذا معنى العجلة قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ فيه أن ملوك الأرض لو حرسوهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ من الخصوم والأعداء فمن لهم حتى يحفظوهم في ليل البشرية ونهار الروحانية من سطوات قهر الجلال الذي الرحمانية من صفاته كما أن الرحيمية من صفات الجمال، فلو وكلهم بالخذلان إلى ظلمة البشرية بقوا في الجهل، ولو وكلهم بالإضلال في نور المعقولات تاهوا في أودية الحيرة والحجب النورية، والمنع من(5/25)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
الحجب الظلمانية والجهل البسيط أسرع من إزالة الجهل المركب بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ الجهال وَآباءَهُمْ الذين علموهم تلك المعقولات التي صارت حجبا نورية لهم حتى اغتروا بظاهر الحال وأنكروا المعاد والشريعة. ثم بين أن الحق يغلب على الباطل البتة فقال أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ البشرية وَنَضَعُ الْمَوازِينَ ميزان الفضل قد نصب في الأزل نَحْنُ قَسَمْنا تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا وميزان العدل ينصب في الأبد وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فالأول كالبزرة والثاني كالثمرة.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 91]
وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55)
قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60)
قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)
قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80)
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85)
وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91)(5/26)
القراآت
جُذاذاً بكسر الجيم: علي. الآخرون بضمها أف بفتح الفاء: ابن كثير وابن عامر وسهل ويعقوب أُفٍّ بالكسر والتنوين: أبو جعفر ونافع وحفص. الباقون بالكسر من غير تنوين لنحصنكم بالنون: أبو بكر وحماد ورويس وبالتاء الفوقانية والضمير للصنعة أو للدرع لأنها مؤنثة سماعا: ابن عامر ويزيد وحفص والمفضل وروح وزيد. الباقون بالياء التحتانية والضمير لداود عليه السلام أو للبوس والكل بتخفيف الصاد والرياح على الجمع: يزيد بطريق المفضل الآخرون على التوحيد. مَسَّنِيَ الضُّرُّ وعِبادِيَ الصَّالِحُونَ في آخر السورة مرسلة الياء: حمزة. الباقون بفتحها وأن لن يقدر بالياء مجهولا: يعقوب ننجي بضم النون الواحدة وتشديد الجيم وتسكين الياء: ابن عامر وعباس وأبو بكر وحماد. الآخرون من الإنجاء مخففا.
الوقوف:
عالِمِينَ ج هـ لأن «إذ» يصلح ظرفا لآتينا أو ل رُشْدَهُ أو للعلم به مفعولا لأذكر محذوفا عاكِفُونَ هـ عابِدِينَ هـ مُبِينٍ هـ اللَّاعِبِينَ هـ فَطَرَهُنَّ ز لواو الابتداء والحال أولى الشَّاهِدِينَ هـ يَرْجِعُونَ هـ الظَّالِمِينَ هـ إِبْراهِيمُ هـ(5/27)
يَشْهَدُونَ هـ يا إِبْراهِيمُ هـ ط فَعَلَهُ ز وفيه بعد ويجيء في التفسير يَنْطِقُونَ هـ الظَّالِمُونَ هـ لا للعطف عَلى رُؤُسِهِمْ ج لاتحاد المقصود مع إضمار القول يَنْطِقُونَ هـ وَلا يَضُرُّكُمْ ط لاستئناف الدعاء عليهم مِنْ دُونِ اللَّهِ ط تَعْقِلُونَ هـ فاعِلِينَ هـ عَلى إِبْراهِيمَ هـ لا بناء على أن التقدير وقد أرادوا الْأَخْسَرِينَ ج هـ للعطف والآية لِلْعالَمِينَ هـ إِسْحاقَ ط بناء على أن المراد ووهبنا له يعقوب حال كونه نافلة نافِلَةً ط صالِحِينَ هـ الزَّكاةِ ج لاحتمال الاستئناف والحال عابِدِينَ هـ وكان ينبغي أن لا يوقف للعطف ولكنهم حكموا بالوقف لتمام القصة وكذلك أمثالها الْخَبائِثَ ط فاسِقِينَ هـ لا بناء على أن التقدير وقد أدخلناه رَحْمَتِنا ط الصَّالِحِينَ هـ الْعَظِيمِ هـ ج للعطف مع الآية بِآياتِنا ط أَجْمَعِينَ هـ غَنَمُ الْقَوْمِ ج لاحتمال الواو بعده الاستئناف والحال شاهِدِينَ هـ لا للعطف بالفاء سُلَيْمانَ ج لانقطاع النظم بتقديم المفعول مع اتحاد الكلام وَعِلْماً ز لعطف المتفقين مع نوع عدول وَالطَّيْرَ ط فاعِلِينَ هـ مِنْ بَأْسِكُمْ ج للاستفهام مع الفاء شاكِرُونَ هـ فِيها ط عالِمِينَ هـ دُونَ ذلِكَ ج لاحتمال الاستئناف والحال حافِظِينَ هـ الرَّاحِمِينَ هـ ط للفاء وللآية لِلْعابِدِينَ هـ وَذَا الْكِفْلِ ط الصَّابِرِينَ هـ وقد يوصل لعطف وَأَدْخَلْناهُمْ على نَجَّيْناهُ للقدرة فِي رَحْمَتِنا ط الصالحين هـ سُبْحانَكَ قد يوقف لأجل «أن» ولكنه داخل في حكم النداء الظَّالِمِينَ ج هـ على ما ذكر في الوجهين فَاسْتَجَبْنا لَهُ لا لاتفاق الجملتين واتصال النجاة بالاستجابة مِنَ الْغَمِّ ط الْمُؤْمِنِينَ هـ الْوارِثِينَ هـ فَاسْتَجَبْنا لَهُ هـ لا مكان الفصل بين الاستجابة المعجلة وحصول الولد الموهوب على المهلة زَوْجَهُ ط وَرَهَباً ط خاشِعِينَ ط لِلْعالَمِينَ هـ.
التفسير:
الرشد الاهتداء لوجوه المصالح في الدين والدنيا وقد يخص هاهنا بالنبوة لقوله رُشْدَهُ ومعنى الإضافة أن لهذا الرشد شأنا ولقوله وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ وفيه أنه علم منه أسرارا عجيبة وأحوالا بديعة حتى اتخذه خليلا واصطفاه نبيا نظيره اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] وعلى هذا فمعنى قوله مِنْ قَبْلُ أي من قبل موسى وهارون قاله ابن عباس. وعلى الأول يحتمل هذا وأن يراد من قبل البلوغ حين استدل بالكواكب قاله مقاتل. وعن ابن عباس في رواية الضحاك حين أخذ الله ميثاق النبيين في صلب آدم. قالت الأشاعرة: أراد بإيتاء الرشد خلق ذلك فيه إذ لو حمل على أسباب ذلك تناول الكفار. أجاب الكعبي بأن هذا إنما يقال فيمن قبل لا فيمن رد، نظيره بأن يعطي الأب كل واحد من ولديه ألفا فقبله أحدهما وثمره ورده الآخر أو أخذه ثم ضيعه فيقال: أغنى(5/28)
فلان ابنه فيمن ثمر المال، ولا يقال مثله فيمن ضيع. واعترض بأن قبوله على هذا التقدير يكون جزءا من مسمى الرشد وحينئذ لا يصح استناد إيتاء الرشد إلى الله وحده، وهذا بخلاف نص القرآن. والتمثال اسم للشيء المصنوع مشبها بخلق من خلق الله تعالى من مثلت الشيء بالشيء شبهته به، واسم ذلك الممثل تمثال جعل إبراهيم عليه السلام هذا التجاهل والتغابي ابتداء كلامه لينظر فيما عساهم يوردونه من شبهة فيحلها لهم مع ما في هذا السؤال من تحقير آلهتهم وتسفيه أخلافهم. وفي قوله أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ دون أن يقول عليها كقوله يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ [الأعراف: 138] نوع آخر من التجهيل والتوبيخ لأنه ادعى عليهم أنهم جعلوا العكوف مختصا بها دون خالقها وخالق كل شيء قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ لا يمكن لهم أن يتمسكوا بشيء آخر سوى التقليد فزيف طريقتهم بالتنبيه على خطئهم وخطأ أسلافهم فقال: لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لأن كل مذهب لا يستند إلى دليل كان صاحبه ضالا أو في حكم ذلك. ثم إن القوم تعجبوا من تضليلهم مع كثرتهم ووحدته ومنعهم عما ألفوه وضروا به فقالوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أي بما ليس بهزل ودعابة أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ فحينئذ عدل إبراهيم عن مجرد التنبيه إلى إثبات الدعوى بالبينة والدليل وجاهدهم أولا باللسان قائلا بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ الظاهر أن الضمير للسموات والأرض إلا أنه قيل: كونه للتماثيل أدخل في تضليلهم وأثبت للاحتجاج عليهم. وقوله وأنا على ذلكم من الشهداء فيه تأكيد وتحقيق لما قاله كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه «أشهد إنه كريم أو لئيم» لأن الشهادة خبر قاطع. وفيه أنه قادر على إثبات ما ادعاه بالحجج والبينات كما شاؤا ثم أخبر أنه سيجاهدهم جهادا بالفعل من غير تقية وخوف قال وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ قال جار الله: في تاء القسم مع أنه عوض عن الباء زيادة معنى وهو التعجب كأنه تعجب من سهولة الكيد على يده لأن ذلك لصعوبته كان كالمقنوط منه خصوصا في زمن نمرود مع شدة شكيمته وقوة سلطانه. قلت:
لا ريب أن هذا مستبعد عادة ولكنه سهل لمن أيده الله ونصره كما قال علي رضي الله عنه:
والله ما قلعت باب خيبر بقوة جسدانية ولكن بقوة رحمانية.
سؤال: الكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به فكيف يتصور ذلك في حق الأصنام؟ وجوابه أنه قال ذلك بناء على زعمهم أنه يجوز ذلك عليها، أو أراد لأكيدنكم في أصنامكم لأنه بذلك الفعل أهمهم وأحزنهم. قال السدي: كانوا إذا رجعوا من عيدهم دخلوا على الأصنام فسجدوا ثم عادوا إلى منازلهم، فلما كان هذا الوقت قال آزر لإبراهيم: لو خرجت معنا؟ فخرج معهم. فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه وقال إني سقيم أشتكي(5/29)
رجلي، فلما بقي هو وضعفاء الناس نادى وقال الله لأكيدن أصنامكم. وروى الكلبي أن إبراهيم كان من أهل بيت ينظرون في النجوم وكانوا إذا خرجوا إلى عيدهم لم يتركوا إلا مريضا، فلما هم إبراهيم بالذي هم به من كسر الأصنام نظر قبل يوم العيد إلى السماء فقال لأصحابه: إني أراني أشتكي عدا فذلك قوله في الصافات فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 88، 89] وأصبح من الغد معصوبا رأسه، فخرج القوم لعيدهم ولم يتخلف أحد غيره فقال سرا: أما والله لأكيدن أصنامكم، فسمعه رجل واحد وأخبر به غيره وانتشر الخبر. وعلى الوجهين يصح قوله فيما بعد قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ وروي أن آزر خرج به في عيد لهم فبدأوا ببيت الأصنام فدخلوه وسجدوا لها ووضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم وقالوا: إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا، فذهبوا وبقي إبراهيم فنظر إلى الأصنام وكانت سبعين صنما مصطفة وثمة صنم عظيم مستقبل الباب وكان من ذهب وفي عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلها بفأس في يده حتى إذا لم يبق إلا الكبير علق الفأس في عنقه فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً قال الجوهري: جذذت الشيء جذا قطعته وكسرته، والجذاذ ما كسر منه وضمه أفصح من كسره. قلت: فعلى هذا هو اسم جمع لا جمع إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ أي في الخلقة كما روينا. وقيل: في التعظيم. ويحتمل أن يكون جامعا للأمرين. أما الضمير الواحد في قوله لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ فيحتمل عوده إلى إبراهيم أي جعلهم جذاذا واستبقى الكبير رجاء أنهم يرجعون إلى دينه أو إلى السؤال عنه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم فيبكتهم بقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ ويحتمل عوده الكبير كما ذهب إليه الكلبي. والمعنى لعلهم يرجعون إليه كما يرجع إلى العالم في حل المشكلات فيقولون ما لهؤلاء مكسورة وما لك صحيحا والفأس على عاتقك، وهذا بناء على ظنهم أن الأصنام قد تتكلم وتجيب، على أن نفس ذلك الكبير كان دليلا على فساد مذهبهم لأن الإله يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء لأنهم كانوا يعظمونها ويقولون: إن المستخف بها يلحقه ضرر عظيم، فحين كسرها إبراهيم ولم ينله ضرر من تلك الجهة بطل ما اعتقدوه. فلما انكشفت لهم جلية الحال وقالُوا مَنْ فَعَلَ هذا الكسر والحطم والاستخفاف بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ المعدودين في جملة من يضع الشيء في غير موضعه لأنه وضع الإهانة مكان التعظيم قالُوا سَمِعْنا احتمل أن يكون القائل واحدا، ونسب القول إلى الجماعة لأنه منهم، واحتمل أن يكون جمعا على الوجهين اللذين رويناهما، أو لأنهم سمعوا منه قوله على وجه الاستهزاء ما هذِهِ التَّماثِيلُ والفعلان بعد فَتًى صفتان له إلا أن الأول ضروري ذكره لأنك لا تقول «سمعت زيدا» وتسكت حتى تذكر شيئا مما يسمع، والثاني ليس كذلك. والأصح أن قوله إِبْراهِيمُ فاعل يُقالُ لأن(5/30)
المراد الاسم لا المسمى وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف أو منادى. قالُوا أي فيما بينهم فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ الجار والمجرور في محل الحال أي بمرأى منهم ومنظر أو معاينا ومشاهدا قال. في الكشاف: معنى الاستعلاء في «على» أنه يثبت إتيانه في الأعين ويتمكن ثبات الراكب على المركوب وتمكنه منه لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه بما سمع منه وبما فعله فيكون حجة عليه قاله الحسن وقتادة والسدي وعطاء عن ابن عباس. وقال محمد بن إسحق: معناه لعلهم يحضرون عقوبتنا له ليكون ذلك زاجرا لهم عن الإقدام على مثل فعله.
وهاهنا إضمار أي فأتوا به ثم قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا الظلم والاستخفاف بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ طلبوا منه الاعتراف ليقدموا على إيذائه ف قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وقوله هذا صفة كبيرهم.
زعم الطاعنون في عصمة الأنبياء أن هذا القول من إبراهيم كذب وأكدوا قولهم بما
جاء في الحديث «إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات»
وللعلماء في جوابهم طريقان:
أحدهما تسليم أنه كذب ولكنهم قالوا: الكذب ليس قبيحا لذاته وإنما يقبح لاشتماله على مفسدة. وقد يحسن الكذب إذا اشتمل على مصلحة كتخليص نبي ونحوه، وزيف هذا الطريق بأنا لو جوزنا أن يكذب النبي لمصلحة لبطل الوثوق بالشرائع، فلعل الأنبياء أخبروا عما أخبروا لمصلحة المكلفين في باب المعاش مع أنه ليس للمخبر عنه وجود كما في الواقع. الطريق الثاني وعليه جمهور المحققين المنع من أنه كذب وبيانه من وجوه: الأول أنه من المعاريض التي يقصد بها الحق وهو إلزام الخصم وتبكيته كما لو قال لك صاحبك وقد كتبت كتابا بخط في غاية الحسن، أنت كتبت هذا وصاحبك أمي لا يحسن الخط فقلت له: بل كتبته أنت. كان قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع استهزاء به لا نفيه عنك وإثباته للأمي. الثاني أن إبراهيم عليه السلام غاظته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفة مزينة، وكأن غيظ كبيرها أشد لما رأى من زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو الذي تسبب لاستهانته بها. الثالث أن يكون ذلك حكاية لما يؤل إليه مذهبهم كأنه قال: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم فإن من حق من يعبدو يدعى إلها أن يقدر على أمثال هذه الأفعال، ويؤيد هذا الوجه ما يحكى أنه قال فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا غضب أن تعبد معه هذه الصغار، الرابع ما يروى عن الكسائي أنه كان يقف عند قوله بَلْ فَعَلَهُ ثم يبتدىء كَبِيرُهُمْ هذا أي فعله من فعله. الخامس عن بعضهم أنه يقف عند قوله كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ وأراد بالكبير نفسه لأن الإنسان أكبر من كل صنم. السادس أن في الكلام تقديما وتأخيرا والتقدير «بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فاسألوهم» . فيكون إضافة الفعل إلى كبيرهم مشروطا(5/31)
بكونهم ناطقين، فلما لم يكونوا ناطقين امتنع أن يكونوا فاعلين، السابع قراءة محمد بن السميفع فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ بالتشديد أي فلعل الفاعل كَبِيرُهُمْ وفيه تعسف. وأما قول إبراهيم عليه السلام إِنِّي سَقِيمٌ فلعله كان به سقم قليل وسوف يجيء تمام البحث فيه.
وأما قوله لسارة «إنها أختي» فالمراد أنها أخته في الدين فلم يكن وقتئذ على وجه الأرض مسلم سواهما فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ حين نبههم على قبح طريقتهم فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ لأنكم تعبدون من لا يستحق العبادة. وقال مقاتل: معناه فلاموا أنفسهم فقالوا:
إنكم أنتم الظالمون لإبراهيم حيث تزعمون أنه كسرها مع أن الفأس بين يدي الصنم الكبير.
وقيل: أنتم الظالمون لأنفسكم إذ سألتم منه ذلك حتى أخذ يستهزىء بكم في الجواب.
يقال: نكسته أي قلبته فجعلت أسفله أعلاه، وانتكس انقلب، وانتكاس الإنسان هو أن يكون رأسه من تحت فلهذا قال ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ والمراد أنهم استقاموا حين رجعوا إلى أنفسهم وجاؤا بالفكرة الصالحة، ثم انقلبوا عن تلك الحالة فأخذوا في المجادلة قائلين لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ وفيه أنهم رضوا بإلهيتها مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق.
وقال ابن جرير: المعنى نكست حجتهم فأقيم الخبر عنهم مقام الخبر عن حجتهم وبيان انتكاس الحجة قولهم لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فإن هذه حجة عليهم لا لهم. وقيل:
المراد بانتكاس رؤوسهم إطراقهم خجلا وانكسارا. ثم زاد إبراهيم في توبيخهم قائلا أَفَتَعْبُدُونَ الآية وقد مر في سورة سبحان أن «أف» صوت يدل على التضجر، واللام لبيان المتأفف به، أي لكم ولآلهتكم هذا التأفف وذلك أنه أضجره ما رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم. قالُوا حَرِّقُوهُ المشهور أن الذي أشار بتحريقه هو نمرود بن كنعان ابن سنجاريب بن نمرود بن كوش بن حام بن نوح. وقال مجاهد: سمعت ابن عمر يقول:
إنه رجل من أعراب العجم يريد الأكراد. وعن ابن جريج عن وهب أن الذي قال هذا القول قد خسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
روى مقاتل أن نمرود وقومه أجمعوا على إحراقه فحبسوه ثم بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى وهي من قرى الأنباط وذلك قوله ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: 97] ثم جمعوا له الحطب الكثير أربعين يوما حتى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عافاني الله لأجمعن حطبا لإبراهيم. فلما اشتعلت النار اشتدت وصار الهواء بحيث لو مر الطير في أقصى الهواء لاحترق ثم أخذوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مقيدا مغلولا فضجت السماء والأرض ومن فيهما من الملائكة إلا الثقلين ضجة واحدة: أي ربنا ليس في أرضك أحد يعبدك غير إبراهيم وإنه يحرق فيك، فأذن لنا في نصرته، فقال سبحانه: إن استغاث بأحد(5/32)
منكم فأغيثوه وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه فخلوا بيني وبينه. فلما أرادوا إلقاءه في النار أتاه خازن الرياح وقال: إن شئت طيرت النار في الهواء فقال إبراهيم: لا حاجة لي إليك. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال: أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض، ليس في الأرض أحد يعبدك غيري حسبي الله ونعم الوكيل.
وروي أنه قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك لا شريك لك. ثم أتاه جبرائيل في الهواء فقال: يا إبراهيم هل لك من حاجة؟ قال: أما إليك فلا. قال: فسل ربك. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي: فأرسل الله ملائكة أخذوا بضبعيه وأقعدوه في الأرض، فإذا عين ماء عذب وورد أحمر ونرجس ولم تحرق النار منه إلا وثاقه. وأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة وقال: يا إبراهيم إن ربك يقول: أما علمت أن النار لا تضر أحبائي. قال المنهال بن عمرو: أخبرت أن إبراهيم مكث في النار أربعين يوما أو خمسين. وقال: ما كنت أياما أطيب عيشا مني إذ كنت فيها قلت: وذلك لاستغراقه في بحر الفيوض والآثار الربانية ولو لم يكن فيه إلا القرب من لطف خليله والبعد من قهر عدوه لكفى. ثم نظر نمرود من صرح له مشرف على إبراهيم فرآه جالسا في روضة ومعه جليس له من الملائكة والحطب يحترق حواليه فناداه يا إبراهيم: هل تستطيع أن تخرج منها؟ قال: نعم. فقام يمشي حتى خرج.
فقال نمرود: إني مقرب إلى ربك قربانا فذبح أربعة آلاف بقرة وكف عن إبراهيم، وكان إبراهيم عليه السلام إذ ذاك ابن ست عشرة سنة.
قال العلماء: اختاروا العقاب بالنار لأنها أهول ما يعاقب به وأفظعه ولهذا
جاء في الحديث «لا يعذب في النار إلا خالقها» «1»
ومن ثم قالوا وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ أي إن كنتم ناصرين آلهتكم نصرا قويا فاختاروا له أشد العقاب وهو الإحراق وإلا كنتم مقصرين في نصرتها قُلْنا عن السدي أن القائل هو جبرائيل عليه السلام والأكثرون على أنه سبحانه. وذهب أبو مسلم الأصفهاني إلى أنه لا قول هناك بل أراد به الجعل لأن النار جماد فلا فائدة في خطابه. ويمكن أن يجاب بأن الله قادر على أن يخلق لها فهما يصح به التخاطب، ولو سلم فلعل في ذلك الخطاب مصلحة للملائكة. والظاهر أن قوله يا نارُ خطاب لتلك النار المخصوصة فإن الغرض يتعلق ببردها فقط وفي النار منافع للخلائق، فلا يحسن من الكريم إبطالها. وقيل: المذكور اسم الماهية فلا بد من حصول البرد في تلك الماهية أينما وجدت، ويناسبه رواية مجاهد عن ابن
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 164. الدارمي في كتاب السير باب 23. بلفظ «لا ينبغي أن يعذب بالنار إلّا رب النار» .(5/33)
عباس أنه لم يبق يومئذ في الدنيا ونار إلا طفئت. واختلفوا في أن النار كيف بردت؟ فقيل:
إنه تعالى أزال عنها ما فيها من الحر والإحراق وأبقى ما فيها من الإضاءة والإشراق والله على كل شيء قدير. وقيل: خلق في جسد إبراهيم كيفية مانعة من وصول أذى النار كما يفعل بخزنة جهنم، وكذلك في النعامة لا يضرها ابتلاع الحديدة المحماة، والسمندل ولا يؤذيه المقام في النار. وقيل: جعل بينه وبين النار حائلا منع من وصول أثر النار إليه. والمحققون على القول الأول لأن النص دل ظاهره على أن نفس النار صارت باردة، وليست الحرارة جزءا من مسمى النار حتى يمتنع كونها نارا وهي باردة، وأما على القولين الآخرين فيلزم أن لا يحصل البرد فيها وهو خلاف النص قوله وَسَلاماً أي ذات برد وسلام فبولغ في ذلك حتى كأن ذاتها برد وسلام. والمعنى ابردي حتى يسلم منك إبراهيم، أو ابردي بردا غير ضار ويناسبه ما روي عن ابن عباس لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها. وقوله عَلى إِبْراهِيمَ حال من فاعل الكون أو متعلق بالبرد والسلام، ولولا هذا القيد لكانت النار بردا على كافة الخلق، قوله فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ وفي الصافات فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ [الآية: 98] لأن في هذه السورة كادهم إبراهيم لقوله لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وكادوه لقوله وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فغلبهم إبراهيم لأنه كسر أصنامهم وسلم من نارهم فكانوا هم الأخسرين. وفي الصافات قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [الصافات: 97] فأججوا نارا عظيمة وبنوا بناء عاليا ورفعوه إليه ورموا به إلى أسفل فرفعه الله وجعلهم في الدنيا من السافلين وفي العقبى في السافلين.
ويروى أنهم بنوا لإبراهيم بنيانا وألقوه فيه، ثم أوقد عليه النار سبعة أيام ثم أطبقوا عليه، ثم فتحوا عنه فإذا هو غير محترق يعرق عرقا. فقال لهم حارث أبو لوط: إن النار لا تحرقه لأنه سحر النار ولكن اجعلوه على شيء وأوقدوا تحته فإن الدخان يقتله، فجعلوه فوق بئر وأوقدوا تحته فطارت شرارة فوقعت في لحية أبي لوط فأحرقته فآمن له لوط كما يجيء في العنكبوت، وهاجر إلى أرض الشام
فذلك قوله وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها أي بالخصب وسعة الأرزاق أو بالمنافع الدينية لأن أكثر الأنبياء بعثوا فيها.
وقيل: ما من ماء أرض عذب إلا وينبع أصله من تحت صخرة بيت المقدس.
يروى أنه نزل بفلسطين ولوط بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة.
وقيل: الأرض مكة وَوَهَبْنا لَهُ أي لإبراهيم إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً هي ولد الولد وهي حال من يعقوب فقط، وقيل: النافلة العطية الزائدة ومنه الصلاة النافلة. ونوفل للرجل الكثير العطاء، وعلى هذا احتمل أن يكون حالا من يعقوب فقط أي سأل إسحق فأعطيه وأعطى يعقوب زيادة وفضلا من غير سؤال.(5/34)
واحتمل أن يكون حالا من كليهما أي وهبناهما له عطية منا، والأول قول مجاهد وعطاء، والثاني وهو أن النافلة العطية قول ابن عباس وأبي بن كعب وقتادة والفراء والزجاج وَكُلًّا من إبراهيم وإسحق ويعقوب جَعَلْنا صالِحِينَ قال الضحاك: أي مرسلين وقال غيره:
عالمين عاملين. وفي قوله جَعَلْنا صالِحِينَ وكذا قوله وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً دلالة الأشاعرة على أن الصلاح بجعل الله وكذا الإمامة وغيرها من الأفعال أجاب الجبائي بأنه أراد تسميتهم بذلك ومدحهم وأنه حكم به لهم كما يقال: إن الحاكم عدل فلانا وجرحه إذا حكم بالعدالة والجرح، وضعف بأنه خلاف الظاهر. وقوله يَهْدُونَ بِأَمْرِنا أي يدعون الناس إلى دين الله بأمرنا وإرادتنا. قال أهل السنة: فيه أن الدعوة إلى الحق والمنع من الباطل لا يجوز إلا بأمر الله تعالى. وقالت المعتزلة: فيه أن من صلح لأن يقتدى به في الدين فالهداية واجبة عليه ليس له أن يخل بها ويتثاقل عنها. ولا خلاف في أن الهادي إذا كان مهتديا بنفسه كان الانتفاع بهداه أعم والنفوس إلى الاقتداء به أميل فلذلك قال وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ أي أن يفعلوها لأن المراد هو إيحاء أن يحدثوا الخيرات من أنفسهم ونفس الفعل الخير لا يمكن إيحاؤه فرد إلى فعل الخيرات تخفيفا، فإن المقصود معلوم، ثم أضيف المصدر إلى المفعول لإفادة تخفيف آخر في اللفظ وكذلك إِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ أي أوحينا إليهم أن يقيموا ويؤتوا، قال الزجاج: حذف الهاء من إقامة لأن المضاف إليه عوض منها. وقال غيره: الإقام والإقامة مصدران. ولا ريب أن تخصيص هاتين الخصلتين بالذكر دليل على شرفهما والأولى أصل التعظيم لأمر الله، والثانية أصل الشفقة على خلق الله. وَكانُوا لَنا عابِدِينَ فيه أنه سبحانه لما وفى بعهد الربوبية فآتاهم النبوّة والدرجات العالية فهم أيضا وفوا بعهد العبودية فلم يغفلوا عنها طرفة عين.
قوله وَلُوطاً عن الزجاج أنه معطوف على أَوْحَيْنا وعن أبي مسلم أنه معطوف على قوله وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ والحكم الحكمة، وقيل الفصل بين الخصوم، وقيل النبوة والقرية سذوم والمراد أهلها وخبائثهم مشهورة قد عددت في «الأعراف» وفي «هود» .
وقَوْمَ سَوْءٍ نقيض رجل صدق وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا أي أهل رحمتنا أو في الجنة والثواب. عن ابن عباس والضحاك. وقال مقاتل: هي النبوة أي أنه لما كان من الصالحين آتيناه النبوة كي يقوم بحقها. وقال أهل التحقيق: حين آتاه الحكم والعلم وتخلص من جلساء السوء فتحت عليه أبواب المكاشفات وتجلت له أنوار الذات والصفات وإنها هي الرحمة في الحقيقة. قوله وَنُوحاً وكذا نظائره معطوف على قوله وَلَقَدْ آتَيْنا أو المراد واذكر نوحا. وإِذْ نادى بدل منه أي اذكر وقت ندائه مِنْ قَبْلُ هؤلاء المذكورين والنداء(5/35)
هو دعاؤه على قومه بنحو قوله رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ [القمر: 10] . وقوله رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] بدليل قوله فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أي أهل دينه وهم من معه في الفلك مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وهو الطوفان وما كان فيه من تكذيب قومه وإيذائهم. وفي لفظ الكرب وهو الغم الذي يأخذ بالنفس، ثم وصفه بالعظم إشعار بأنه عليه السلام لقي من قومه أذى شديدا لا يكتنه كنهه. ثم زاده بيانا بقوله وَنَصَرْناهُ الآية. تقول: نصرته منه فانتصر إذا جعلته منتصرا منه أي منتقما. وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي شأن الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ ظرف ل يَحْكُمانِ وهو حكاية حال ماضية. قال ابن السكيت. النفش بالتحريك أن ينتشر الغنم بالليل من غير راع وعليه جمهور المفسرين. وعن الحسن: إنه يكون ليلا ونهارا. وليس في قوله وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ دلالة على أن أقل الجمع اثنان لاحتمال أنه أرادهما والمتحاكمين إليهما. والضمير في فَفَهَّمْناها للحكومة أو الفتوى.
ويروى أنه دخل رجلان على داود عليه السلام أحدهما صاحب حرث. أي زرع. وقيل كرم- والآخر صاحب غنم. فقال صاحب الحرث: إن غنم هذا دخلت حرثي وأكلت منه شيئا. فقال داود: اذهب فإن الغنم لك. فخرجا فمرا على سليمان وهو ابن إحدى عشرة سنة فقال: كيف قضى بينكما؟ فأخبراه. فقال: لو كنت أنا القاضي لقضيت بغير هذا. فأخبر بذلك أبوه فدعاه وقال: كيف كنت تقضي بينهما؟ قال:
أدفع الغنم إلى صاحب الحرث فتكون له منافعها من الدر والنسل والوبر حتى إذا عاد الحرث من العام القابل كهيئته يوم أكل دفعت الغنم إلى أهلها وقبض صاحب الحرث حرثه.
قال أبو بكر الأصم: الحكمان واحد لأن الثاني بيان للأول. والمشهور عن الصحابة ومن بعدهم أنهما متغايران لقوله وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ ولقوله: فَفَهَّمْناها والفاء للتعقيب فدل على أنه فهم حكما خلاف الأول. وعلى تقدير الاختلاف فهما بالوحي أو بالاجتهاد، فيه خلاف بين العلماء، فمنهم من لم يجوز الاجتهاد على الأنبياء أصلا كالجبائي لقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [الأنعام: 50] ولأن النبي قادر على تحصيل حكم الواقعة بالنص، ولأن مقتضى الاجتهاد مظنون وخلاف المظنون لا يوجب الكفر وخلاف الرسول يوجب الكفر، ولما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوقف في بعض الأحكام انتظارا للوحي ولو جاز له الاجتهاد لم يتوقف، ولأنه لو جاز على النبي لجاز على جبرائيل أيضا وحينئذ يرتفع الأمان عن الوحي فلعل هذه الشرائع من مجتهدات جبرائيل. وأجيب بأنه إذا أوحي إليه جواز الاجتهاد له صح قوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى [النجم: 3- 4] وبأن الحكم الحاصل عن الاجتهاد مقطوع لا مظنون لأنه تعالى إذا قال له(5/36)
مهما غلب على ظنك كون الحكم في الأصل معللا بكذا ثم غلب على ظنك قيام ذلك المعنى في صورة أخرى فاحكم بذلك فهذا الحكم مقطوع به والظن واقع في طريقه. سلمنا جواز المخالفة لكنه مشروط بصدوره عن غير معصوم، ولهذا لو اجتمعت الأمة على مسألة اجتهادية امتنع خلافهم. وكان الرسول أوكد، وبأن التوقف لعله وجد منه حين لم يظهر له وجه الاجتهاد وبأن الأمة أجمعوا على عدم جواز اجتهاد جبرائيل. ومما يدل على جواز الاجتهاد لنا أنه إذا غلب على ظن المجتهد أحد الطرفين فإن عمل بهما كان جمعا بين النقيضين، وان أهملهما لزم ارتفاع النقيضين، وإن عمل بالمرجوح دون الراجح فذلك باطل بالاتفاق فلم يبق إلا العمل بالراجح. قال الجبائي: ولئن سلمنا أن الاجتهاد على الأنبياء جائز لكن هذه المسألة غير اجتهادية لأن الذي أتلفه صاحب الماشية مجهول المقدار، فكيف يجعل الغنم في مقابلة ذلك؟ وأيضا إن اجتهاد داود إن كان صوابا فالاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وإن كان خطأ فكيف لم يذكر الله توبته بل مدحه بقوله وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وأيضا لو حكم بالاجتهاد لم يسم ذلك علما، وأيضا قوله فَفَهَّمْناها يدل على أنه من الله لا من سليمان. وأجيب بأن الجهالة بعد تسليمها قد تكون معفوا عنها كما في حكم المصراة، ولعل الخطأ في اجتهاده كان من الصغائر فلهذا أهمل ذكره والاجتهاد من باب العلوم والظن في الطريق كما مر، والذي يحصل في نظر المجتهد مستند إلى الله. أما الذين منعوا من الاجتهاد مطلقا أو في هذه المسألة، فذهبوا إلى أن حكومة داود نسخت بحكومة سليمان، ولا استبعاد في أن يوحي الناسخ إلى غير من أوحى إليه المنسوخ. قال الفقهاء:
مثال حكومة داود في شرعنا قول أبي حنيفة في العبد إذا جنى على النفس خطأ يدفعه المولى بذلك أو يفديه، وعند الشافعي يبيعه في ذلك ويفديه، ولعل قيمة الغنم كانت على قدر النقصان في الحرث. ومثال حكومة سليمان قول الشافعي فمن غصب عبدا فأبق من يده فإنه يضمن القيمة فينتفع به المغصوب منه بإزاء ما فوته الغاصب من منافع العبد، فإذا ظهر العبد يرد ويقال له ضمان الحيلولة. هذا ولو وقعت هذه القضية في شرعنا فلا ضمان عند أبي حنيفة وأصحابه لا بالليل ولا بالنهار، لأن جرح العجماء جبار. إلا أن يكون معها راع.
والشافعي يوجب الضمان بالليل دون النهار لأن الليل وقت الهدوء وجمع الماشية، فتسريحها تقصير من صاحبها بخلاف النهار.
وعن البراء بن عازب أنه كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدته، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها، وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، لأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل.
قال بعض الأصوليين: كل مجتهد مصيب لقوله وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وقال(5/37)
بعضهم: المصيب واحد لقوله فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ولو كان كلاهما مصيبا لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم فائدة. وضعف بعضهم كلا الاستدلالين بعد تسليمهما بأن ما ثبت في شرعهم لا يلزم أن يكون ثابتا في شرعنا.
ولما مدح داود على سبيل الاشتراك ذكر ما يختص بكل منهما فبدأ بداود قائلا:
وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ أي حال كونهن مسبحات أو هو استئناف كأنه قيل:
كيف سخرهن؟ فقال: يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وهو معطوف على الجبال أو مفعول معه، وتسبيح الجبال إما حقيقة أو مجاز وعلى الأول قال مقاتل: كان إذا سبح داود سبح الجبال والطير معه. وقال الكلبي: إذا سبح داود أجابته الجبال. وقال سليمان بن حيان: كان داود إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطا واشتياقا. وعلى الثاني قيل: كانت الجبال تسير معه حيث سار فكل من رآها كان يسبح الله تعالى، فلما حملت على التسبيح وصفت به وهذا القول اختيار كثير من أصحاب المعاني والمعتزلة، لأن الجماد غير قابل للحياة والفهم عندهم، ولأن المتكلم هو الذي يفعل الكلام لا الذي يكون محلا للكلام، ولهذا يقال: إن المتكلم هو الله حين كلم موسى لا الشجرة. وإنما قدم تسبيح الجبال على الطير لأن ذلك أدل على القدرة وأدخل في الإعجاز، فإن الطير أقرب إلى الحيوان الناطق من الجماد ولا يلزم من نطق الطير أو الجبل أن يكونا مكلفين فليس كل ناطق مكلفا كالأطفال والمجانين. وَكُنَّا فاعِلِينَ أي قادرين على أن نفعل أمثال هذه الخوارق على أيدي الأنبياء لأجلهم وإن كانت عجيبة عندكم. واللبوس اللباس يقال: البس لكل حالة لبوسها والمراد الدرع. عن قتادة أنها كانت صفائح فسردها وحلقها داود فجمعت الخفة والتحصين وتوارث الناس منه وعمت النعمة بها لكل المحاربين فلذلك قال فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ قال علماء المعاني: هذا التركيب أدخل في الإنباء عن طلب الشكر من قولنا «فهل أنتم تشكرون» إذ المختار فيه أن يقدر مفسر محذوف أي هل تشكرون تشكرون. ومن قولنا «أفأنتم شاكرون» لأنه وإن كان ينبىء عن عدم التجدد لمكان الجملة الاسمية إلا أنه دون المذكور في القرآن فإن «هل» أدعى للفعل من الهمزة، فترك الفعل معه يكون أدخل في الإنباء عن استدعاء المقام عدم التجدد لأن تخلف المعلول عن العلة القوية يدل على وجود مانع أقوى منه إذا تخلف عن العلة الضعيفة.
ثم حكى ما أنعم به على سليمان فقال وَلِسُلَيْمانَ أي وسخرنا له الرِّيحَ حال كونها عاصِفَةً ولا ينافي هذا قوله في فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ [ص: 36] لأن المراد أنها مع كونها في نفسها رخية طيبة كالنسيم كانت في عملها(5/38)
عاصفة تحمل كرسيه من إصطخر إلى الشام، أو أنها كانت في وقت رخاء وفي وقت عاصفا لهبوبها على حسب إرادته وأمره. وفي قوله وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ إشارة أنه فعل كل ما فعل بالأنبياء المذكورين عن حكمة بالغة وتدبير محكم وإحاطة بأحوالهم وعلم باستئهالهم.
قوله وَمِنَ الشَّياطِينِ أي سخرنا من الشياطين مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ ويجوز أن يكون الكلام خبر أو مبتدأ و «من» موصولة أو موصوفة. كانوا يغوصون لأجله في البحار فيستخرجون الجواهر وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ أي متجاوزا ما ذكر من بناء المدائن والقصور وسائر الصنائع العجيبة. قالت العلماء: الظاهر أن التسخير لكفارهم دون المؤمنين منهم لإطلاق الشياطين ولقوله: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يوجد منهم فساد في الجملة إذ كان من دأبهم أن يفسدوا بالليل ما عملوا بالنهار. والحفظ إما بسبب الملائكة أو مؤمني الجن الموكلين بهم، أو بأن حبب إليهم طاعته وخوفهم مخالفته. قال ابن عباس في تفسيره: يريد أن سلطانه مقيم عليهم يفعل بهم ما يشاء. قال الجبائي: كيف تتهيأ منهم هذه الأعمال وأجسامهم رقيقة وإنما تمكنهم الوسوسة فقط، فلعل الله تعالى كثف أجسامهم خاصة وقواهم على تلك الأعمال الشاقة وزاد في عظمهم معجزة لسليمان فلما مات سليمان ردهم إلى الخلقة الأولى. إذ لو أبقاهم على الخلقة الثانية لكان شبهة على الناس، فلعل بعض الناس يدعي النبوة ويجعله دلالة عليها. واعترض عليه الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه بأنك لم قلت: إن الجن أجسام فلعلهم من الموجودات التي ليست متحيزة ولا حالة في المتحيز. ولا يلزم منه الاشتراك مع الباري فإن الاشتراك في اللوازم الثبوتية لا يدل على الاشتراك في الملزومات فضلا عن اللوازم السلبية. سلمنا أن الجن أجسام لكن لم قلت: إن البنية شرط للقدرة وليس في يدكم إلا الاستقراء الضعيف؟ سلمنا أنه لا بد من تكثيف أجسامهم فمن أين يلزم ردهم إلى الخلقة الأولى؟ فإن قال: لئلا يفضي إلى التلبيس. قلنا: إذا ثبت أن ذلك كان معجزة لنبي قبله لم يتمكن المتنبي من الاستدلال ومن عجيب قدرة الله سبحانه أن أصلب الأجسام في هذا العالم الحجارة والحديد، وقد سخرهما الله تعالى لداود فأنطق الحجر ولين الحديد، وفي ذلك دلالة باهرة على أنه تعالى قادر على إحياء العظام الرميمة. ومن الغرائب أن الشياطين مخلوقة من النار وكان يأمرهم بالغوص في الماء، وفيه إظهار الضد بالضد فتبارك الله رب العالمين.
ومن عجائب القصص والأخبار حكاية أيوب عليه السلام وصبره على بلائه حتى صار مثلا.
عن وهب بن منبه أنه كان من الروم من ولد عيص بن إسحاق وكانت أمه من ولد لوط اصطفاه الله وجعله نبيا، ومع ذلك بسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله وكان له سبعة بنين وسبع(5/39)
بنات وله أصناف المواشي وخمسمائة فدان يتبعها خمسمائة عبد لكل عبد امرأة وولد ونخيل. وكان إبليس لا يحجب عن السموات حين أخرجه الله من الجنة حتى رفع عيسى عليه السلام فحجب عن أربع حتى إذا ولد نبينا صلى الله عليه وسلم حجب عن جميع السموات إلا من استرق السمع. قال: فسمع إبليس تحاور الملائكة في شأن أيوب فأدركه الحسد فقال: يا رب إنك أنعمت على عبدك أيوب فشكرك وعافيته فحمدك ثم لم تجرّبه بشدة ولا بلاء، وأنا زعيم إن ضربته بالبلاء ليكفرن بك. فقال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ماله. فجمع إبليس عفاريت الجن وقال لهم: ماذا عندكم من القوة فإني سلطت على مال أيوب. فقال عفريت أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصارا من النار فأحرقت كل شيء فقال إبليس: فأت الإبل ورعاتها. فذهب ولم يشعر الناس حتى ظهر من تحت الأرض، إعصار لا يدنو منها شيء إلا احترق، فلم يزل يحرقها ورعاتها حتى أتى على آخرها. فذهب إبليس على شكل أولئك الرعاء إلى أيوب فوجده قائما يصلي، فلما فرغ من الصلاة قال: يا أيوب هل تدري ما الذي صنع ربك؟ وأخبره بحال الإبل ورعاتها. فقال أيوب: إنها ماله إذا شاء نزعه. فقال إبليس: إن الناس منهم من يقول ما كان أيوب يعبد شيئا وما كان إلا في غرور، ومنهم من يقول: لو كان إلهه يقدر على شيء لمنع من وليه. ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ما فعل ليشمت به أعداءه ويفجع به أصدقاءه فقال أيوب: الحمد لله حين أعطاني وحين نزع مني، خرجت من بطن أمي عريانا وأضجع في التراب عريانا وأحشر إلى الله عريانا، ولو علم الله عريانا، ولو علم الله فيك أيها العبد خيرا لنقل روحك مع تلك الأرواح وصرت شهيدا وأوجر فيك. فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئا فقال عفريت آخر: عندي من القوة ما إذا شئت صحت صوتا لا يسمعه ذو روح إلا خرجت روحه. فقال إبليس: فأت الغنم ورعاءها فانطلق فصاح بها فماتت ومات رعاؤها، فخرج إبليس متمثلا بقهرمان الرعاة إلى أيوب فقال له القول الأول، ورد عليه أيوب الرد الأول، فرجع إبليس صاغرا فقال له عفريت آخر: عندي من القوة إذا شئت تحولت رياحا عاصفة أقلع كل شيء أتيت عليه قال: فاذهب إلى الحرث والثيران، فأتاهم فأهلكهم وأخبر إبليس به أيوب فرد عليه مثل الرد الأوّل، فجعل إبليس يصيب أمواله شيئا فشيئا حتى أتى على جميعها. فلما رأى إبليس صبره على ذلك صعد إلى السماء وقال: يا إلهي هل أنت مسلطي على ولده فإنها الفتنة الكاملة. فقال الله: انطلق فقد سلطتك، فأتى أولاد أيوب في قصرهم فقلب القصر عليهم ثم جاء إلى أيوب متمثلا بالمعلم وهو جريح مشدوخ الرأس يسيل دمه ودماغه فقال: لو رأيت بنيك كيف انقلبوا منكوسين على رؤوسهم تسيل جميع أدمغتهم من أنوفهم لتقطع قلبك! فلم يزل يقول هذا ويرققه حتى رق أيوب وبكى وقبض قبضة من التراب فحثاها على رأسه، فاغتنم ذلك(5/40)
إبليس. ثم لم يلبث أيوب حتى استغفر واسترجع فصعد إبليس ووقف موقفه وقال: إلهي إنما هون أيوب خطب المال والولد لعلمه أنك تعيد له المال والولد، فهل أنت مسلطي على جسده وإني لك زعيم لو ابتليته في جسده ليكفرن بك. فقال تعالى: انطلق فقد سلطتك على جسده وليس لك سلطان على عقله وقلبه ولسانه. فأتاه فنفخ في منخره حين هو ساجد فاشتعل منه جسده وخرج من فرقه إلى قدمه ثآليل، وقد وقعت فيه حكة لا يملكها فكان يحك بأظفاره حتى كشطت أظفاره، ثم حكها بالمسوح الخشنة ثم حكها بالفخار والحجارة، ولم يزل يحكها حتى تقطع لحمه وتغير وأنتن فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة وجعلوا له عريشا، ورفضه الناس كلهم غير امرأته رحمة بنت إفرايم بن يوسف عليه السلام فكانت تصلح أموره. ثم إن وهبا طول في الحكاية إلى أن قال: إن أيوب عليه السلام أقبل على الله تعالى مستغيثا متضرعا إليه قائلا: يا رب لأي شيء خلقتني يا ليتني كنت حيضة ألقتني أمي، يا ليتني كنت
عرفت الذي أذنبته والعمل الذي عملت حتى صرفت وجهك الكريم عني. ألم أكن للغريب دارا وللمسكين قرارا ولليتيم وليا وللأرملة قيما. إلهي أنا عبد ذليل فإن أحسنت فالمن لك وإن أسأت فبيدك عقوبتي. جعلتني للبلاء غرضا وسلطت عليّ ما لو سلطته على جبل لضعف عن حمله. إلهي تقطعت أصابعي وسقطت لهواتي وتناثر شعري وذهب المال وصرت أسأل اللقمة فيطعمني من يمن بها عليّ ويعيرني بفقري وهلاك أولادي.
قال الإمام أبو القاسم الأنصاري في جملة هذا الكلام: ليتك لو كرهتني لم تخلقني. ثم قال: ولو كان ذلك صحيحا لاغتنمه إبليس فإن قصده أن يحمله على الشكوى وأن يخرجه من زمرة الصابرين.
قلت: إن غرض إبليس لا يحصل بمجرد الشكوى وإنما كان غرضه أن يرتد أيوب عليه السلام ولهذا قال سفيان بن عيينة: من شكا إلى الله تعالى فإنه لا يعد ذلك جزعا إذا كان في شكواه راضيا بقضاء الله تعالى إذ ليس من شرط الصبر استحلاء البلاء. ألم تسمع قول يعقوب عليه السلام: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
[يوسف: 86] .
ومما حكاه الله سبحانه من شكوى أيوب قوله أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ الضر بالفتح الضرر في كل شيء، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال.
قال جار الله: ألطف في السؤال حيث ذكر نفسه بما يوجب الرحمة عليه وذكر ربه بما يجب أن يصدر دعاء الرحمة عنه ولم يصرح بالمطلوب، وحسن الطلب باب من أبواب الأدب.
يحكى أن عجوزا تعرضت لسليمان بن عبد الملك فقالت: يا أمير المؤمنين مشت جرذان بيتي على العصا. فقال لها: ألطفت في السؤال لا جرم لأردنها تثب وثبة الفهود وملأ بيتها(5/41)
حبا. وفي قوله: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ رمز إلى أنه جواد مطلق لا يرحم لمنفعة تعود إليه، ولا لمضرة يدفعها عنه، ولا يطلب شيئا، ولا يجلب مدحا وكل رحيم سواه. فأما رحمته لغرض من الأغراض أو لرقة طبع ونحو ذلك على أن تلك الرحمة أيضا تتوقف على داعية يخلقها الله فيه، والآفات والآلام التي تراها في هذا العالم كلها مستندة إلى صفة قهره التي لا بد لكل ملك منه أو مستتبعة لمصالح وغايات لا يعلمها إلا هو، وإنها ضرورية في الوجود لاشتمالها على خيرات أكثر من الشرور. واختلف العلماء في السبب الذي لأجله دعا الله أيوب
فعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن أيوب عليه السلام بقي في البلاء ثماني عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان فدخلا عليه ذات يوم فوجدا ريحا فقالا: لو كان أيوب عند الله خير ما بلغ إلى هذه الحالة. قال: فما شق على أيوب شيء مما ابتلي به مثل ما سمع منهما. فقال: اللهم إن كنت تعلم إني لم أبت شبعان وأنا أعلم بمكان جائع فصدق وهما يسمعان ثم خر أيوب ساجدا. وقال: اللهم إني لا أرفع رأسي حتى تكشف ما بي فكشف الله ما به.
وقال الحسن: مكث أيوب بعد ما ألقي على الكناسة سبع سنين وأشهرا ولم يبق له مال ولا ولد ولا صديق غير امرأته صبرت معه وكانت تأتيه بالطعام. وكان أيوب مواظبا على حمد الله والثناء عليه والصبر على ما ابتلاه فصرخ إبليس صرخة جزعا من صبر أيوب فاجتمع جنوده من أقطار الأرض وقالوا له:
ما خبرك؟ قال: أعياني هذا العبد الذي سألت الله أن يسلطني عليه وعلى ماله وولده فإنه لا يزيد بالبلاء إلّا صبرا وحمدا لله تعالى. فقالوا له: أين مكرك أين عملك الذي أهلكت به من مضى؟ من أين أتيت آدم حين أخرجته من الجنة؟ قال: من قبل امرأته. قالوا: فشأنك بأيوب من قبل امرأته فإنه لا يستطيع أن يعصيها لأنه لا يقربه أحد غيرها. قال: أصبتم.
فانطلق حتى إذا أتى امرأته فتمثل لها في صورة رجل فقال: أين بعلك يا أمة الله؟ قالت: هو هذا يحك قروحه وتتردد الدواب في جسده. فظن إبليس أنها جزعت فطمع فيها ووسوس إليها وذكر لها ما كان بها من النعم والمال، وذكرها جمال أيوب وشبابه. قال الحسن: فصرخت فلما صرخت علم أن قد جزعت فأتاها بسخلة وقال: لتذبح هذه باسم أيوب ويبرأ. قال:
فجاءت تصرخ يا أيوب حتى متى يعذبك ربك أين المال وأين الماشية؟ أين الولد؟ أين الصديق؟ أين اللون؟ أين الحسن؟ أين جسمك الذي قد بلى وقد صار مثل الرماد وتتردد فيه الدواب؟ اذبح هذه السخلة واسترح، فقال أيوب: أتاك عدوّ الله ونفخ فيك ويلك من أعطانا الذي تذكرين من المال والولد والصحة؟ قالت: الله. قال: كم متعنا به؟ قالت: ثمانين سنة. قال: فمنذ كم ابتلانا الله بهذا البلاء؟ قالت: منذ سبع سنين وأشهر. قال: ويلك ما(5/42)
أنصفت ربك ألا صبرت في البلاء ثمانين سنة! والله لئن شفاني الله لأجلدنك مائة جلدة، أمرتني أن نذبح لغير الله وحرام عليّ أن أذوق بعد هذا شيئا من طعامك وشرابك الذي تأتيني به فطردها. فلما نظر أيوب في شأنه وليس عنده لا طعام ولا شراب ولا صديق وقد ذهبت امرأته خر ساجدا وقال أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فقال: أرفع رأسك فقد استجبت لك ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص: 42] فركض برجله فنبعت عين ماء فاغتسل منها فلم يبق في ظاهر بدنه دابة. إلا سقطت ثم ضرب رجله مرة أخرى فنبعت عين أخرى فشرب منها فلم يبق في جوفه داء إلا خرج وقام صحيحا، وعاد إليه شبابه وجماله حتى صار أحسن مما كان حتى ذكر أن الماء الذي اغتسل منه تطاير على صدره جرادا من ذهب فجعل يضمه بيده فأوحي إليه: يا أيوب ألم أغنك؟ قال: بلى ولكنها بركتك فمن يشبع منها. قال: فخرج حتى جلس على مكان مشرف. ثم إن امرأته قالت: هب أنه طردني أفأتركه حتى يموت وتأكله السباع لأرجعن إليه. فلما رجعت ما رأته في تلك الكناسة ولا تلك الحالة فجعلت تطوف وتبكي فدعاها أيوب وقال: ما تريدين يا أمة الله؟ فقالت: أردت ذلك المبتلى الذي كان ملقى على الكناسة. فقال: تعرفينه إذا رأيته؟ قالت: وهل يخفى على أحد يراه. فتبسم قائلا: أنا هو.
فعرفته بضحكه فاعتنقته ثم قال: إنك أمرتني أن أذبح لإبليس وإني أطعت الله وعصيت الشيطان فعافاني الله ببركة ذلك.
الرواية الثالثة:
قال الضحاك ومقاتل: بقي في البلاء سبع سنين وسبعة أشهر وسبعة أيام وسبع ساعات، فلما غلب أيوب إبليس ذهب إبليس إلى امرأته على هيئة ليست كهيئة بني آدم في العظم والجسم والجمال على مركب ليس كمراكب الناس وقال لها: أنت صاحبة أيوب؟ قالت: نعم. قال: فهل تعرفيني؟ قالت: لا. قال: أنا إله الأرض، أنا صنعت بأيوب ما صنعت وذلك أنه عبد إله السماء وتركني فأغضبني ولو سجد لي سجدة واحدة رددت عليه وعليك جميع ما لكما من مال وولد فإن ذلك عندي. قال وهب: وسمعت أنه قال: لو أن صاحبك أكل طعاما ولم يسم الله تعالى لعوفي مما فيه من البلاء. وأيضا قال لها: لو شئت فاسجدي لي سجدة واحدة حتى أرد عليك المال والولد وأعافي زوجك. فرجعت إلى أيوب فأخبرته فقال: أتاك عدوّ الله ليفتنك عن دينك، ثم أقسم لئن عافاني الله لأجلدنك مائة جلدة وقال عند ذلك مَسَّنِيَ الضُّرُّ
يعني من طمع إبليس في سجودي وسجود زوجتي له.
الرواية الرابعة
قال إسماعيل السدي: إن إبليس تمثل للقوم في صورة بشر وقال:
تركتم أيوب في قريتكم أعدى إليكم ما به من العلة، فأخرجوه إلى باب البلد ثم قال لهم:(5/43)
إن امرأته تدخل عليكم وتعمل وتمس زوجها أما تخافون أن تعدي إليكم علته، فحينئذ لم يستعملها أحد فتحيرت وكان لها ثلاث ذوائب فعمدت إلى إحداها وقطعتها وباعتها فأعطوها بذلك خبزا ولحما فقال أيوب: من أين هذا؟ قالت: كل فإنه حلال. فلما كان من الغد لم تجد شيئا فباعت الثانية، وكذلك فعلت في اليوم الثالث وقالت: كل فإنه حلال. فقال: لا آكل أو تخبريني فأخبرته فبلغ ذلك من أيوب ما الله به عليم فقال: رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ.
والرواية الخامسة قيل: سقطت دودة من فخذه فرفعها وردها إلى موضعها وقال: قد جعلني الله طعمة لك فعضته عضة شديدة فقال: مَسَّنِيَ الضُّرُّ فأوحى الله إليه: لولا أني جعلت في كل شعرة منك صبرا لما صبرت. واعلم أن مس الضر هاهنا مطلق إلا أنه ورد في «ص» مقيدا وذلك قوله أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ [ص: 41] فصح أن يكون سندا لهذه الروايات إلا أن الجبائي طعن فيها بأن الشيطان كيف يقدر على إحداث الأمراض والأسقام والقادر على ذلك قادر على خلق الأجسام وحينئذ يكون إلها. وأيضا إن هذه التأثيرات تنافي قوله سبحانه حكاية عنه وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ [إبراهيم: 22] والجواب أنه كان بإذن من الله كما حكينا فلا محذور ولا تنافي. وقال: ومن البعيد أنه لم يسأل الله إلا عند أمور مخصوصة والجواب أن الأمور مرهونة بأوقاتها. وقال:
انتهاء أمراض الأنبياء إلى حد التنفير من القبول غير جائز. والجواب المنع ولا سيما بشرط العافية في العاقبة. قوله سبحانه فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ مجمل يقتضي إعادته إلى ما كان في بدنه وأحواله. وقوله: وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ تفصيل لذلك المجمل وفيه قولان:
الأول قال ابن عباس وابن مسعود وقتادة ومقاتل والكلبي: إن الله تعالى أحيا له أهله يعني أولاده بأعيانهم. والثاني قال الليث: أرسل مجاهد إلى عكرمة وسئل عن الآية فقال: أراد أهلك لك في الآخرة وآتيناك مثلهم في الدنيا. فقد روي أن زوجته ولدت بعد ذلك ستة وعشرين ابنا له. ثم بين الحكمة في ذلك الابتلاء ثم الاستجابة بقوله رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا لأيوب وَذِكْرى لغيره من العابدين للرحمن أو الرحمة والذكرى كلاهما لِلْعابِدِينَ لكي يتفكروا فيصبروا كما صبر حتى يتابوا في الدارين كما أثيب. وإنما خص الرحمة والتذكرة بالعابدين لأنهم هم المنتفعون بذلك لا الذين يعبدون الهوى والشيطان. قال أهل البرهان:
إنما قال في هذه السورة رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وقال في «ص» رَحْمَةً مِنَّا [ص: 43] لأنه بالغ هاهنا في الدعاء بزيادة قوله: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فبالغ في الاستجابة لأن لفظ «عند» يدل على مزيد التخصيص وأنه سبحانه تولى ذلك من غير واسطة.
وحين ذكر صبر أيوب وانقطاعه إليه ذكر غيره من الأنبياء المشهورين بالصبر منهم(5/44)
إسماعيل عليه السلام، صبر على الانقياد للذبح وعلى الإقامة بواد لا زرع فيه ولا ضرع، وصبر على بناء البيت ورفع قواعده، فلا جرم أخرج الله ببركة ذلك من صلبه خاتم النبيين، ومنهم إدريس وقد مر ذكره في سورة مريم. قال ابن عمر: بعث إلى قومه داعيا لهم إلى الله فأبوا فأهلكهم الله ورفع إدريس إلى السماء. ومنهم ذو الكفل قيل: هو زكريا وعلى هذا فقد تقدمت قصته أيضا. وفي هذا القول نظر، لأن قصة زكريا تجيء عن عقيب فيلزم التكرار.
وقيل: هو إلياس وكان خمسة من الأنبياء ذوي اسمين: إسرائيل ويعقوب، وإلياس وذو الكفل، وعيسى والمسيح، ويونس وذو النون، ومحمد وأحمد. وقيل: يوشع بن نون سمي بذلك لأنه ذو الحظ من الله دينا ودنيا، أو لأنه كان له ضعف عمل الأنبياء في زمانه وضعف ثوابهم. وقال أبو موسى الاشعري ومجاهد: إنه لم يكن نبيا ولكن كان عبدا صالحا، وقال الحسن والأكثرون: إنه من الأنبياء وهذا أقرب لأنه معطوف عليهم معدود فيما بينهم.
يروى عن ابن عباس أن اليسع أو نبيا آخر في بني إسرائيل قربت وفاته فأراد أن يستخلف رجلا على الناس فقال: من يقبل مني خلافتي على أن يصلي بالليل ويصوم بالنهار ويقضي بين الناس فلا يغضب؟ فقام رجل وقال: أنا أتكفل لك هذه الثلاثة فدفع إليه ملكه ووفى بما ضمن، فحسده إبليس فأتاه وقت القيلولة فقال: إن لي غريما قد ظلمني حقي وقد دعوته إليك فأبى فأرسل معي من يأتيك به، فأرسل معه وقعد حتى فاتته القيلولة وعاد إلى صلاته وصلى ليله إلى الصباح، ثم أتاه من الغد وقال مثل ذلك حتى شغله عن القيلولة وهكذا في اليوم الثالث. وقيل: إنه في اليوم الثالث قال للبواب: قد غلب عليّ النعاس فجاء إبليس فلم يأذن له البواب فدخل من كوة البيت ودق الباب من داخل، فاستيقظ الرجل وعاتب البواب فقال:
أما من قبلي فلم تؤت فقام إلى الباب، فإذا هو مغلق وإبليس على صورة شيخ في البيت فقال له: أتنام والخصوم على الباب فعرفه وقال: إبليس؟ قال: نعم. أعييتني في كل شيء فعلت هذه الأفعال لأغضبك فعصمك الله مني فسمي ذا الكفل لأنه قد وفى بالكفالة.
ولا خلاف أن ذا النون هو يونس لأن النون هو السمكة والاسم إذا دار بين أن يكون لقبا محضا وبين أن يكون مقيدا فحمله على المقيد أولى. واختلفوا في أن وقوعه في بطن الحوت كان قبل اشتغاله بأداء الرسالة أو بعد.
أما القول الأوّل
فعن ابن عباس أن يونس وقومه كانوا من فلسطين فغزاهم ملك وسبى منهم تسعة أسباط ونصفا وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله تعالى إلى شعيب عليه السلام أن اذهب إلى حزقيل الملك وقل له حتى يوجه نبيا قويا فإني ألقي في قلوب أولئك أن يرسلوا معه بني إسرائيل. فقال له الملك: من ترى وكان في مملكته خمسة من الأنبياء؟ فقال:(5/45)
يونس بن متى. فإنه قويّ أمين. فدعاه الملك وأمره أن يخرج فقال له يونس: هل أمرك الله بإخراجي؟ قال: لا. قال: فههنا أنبياء غيري فألحوا عليه فخرج مغاضبا للملك ولقومه فأتى بحر الروم فوجد قوما هناك وسفينة فركب معهم فاضطربت السفينة حتى كادوا أن يغرقوا فقال الملاحون: هاهنا رجل عاص أو عبد آبق لأن السفينة لا تفعل هذا من غير ريح، إلا وفيها رجل عاص، ومن عادتنا في مثل هذا البلاء أن نقترع فمن خرجت له القرعة ألقيناه في البحر حتى تسلم السفينة. فاقترعوا ثلاث مرات فوقعت القرعة كلها على يونس. فقال: أنا الرجل العاصي والعبد الآبق وألقى نفسه في البحر فابتلعه حوت، فأوحى الله تعالى إلى الحوت لا تؤذ منه شعرة فإني جعلت بطنك سجنا له ولم أجعله طعاما لك. ثم نجاه الله من بطن الحوت فنبذه بالعراء كالفرخ المنتوف ليس عليه شعر ولا جلد، فأنبت الله عليه شجرة من يقطين يستظل بها ويأكل من ثمرتها حتى اشتد، فلما يبست الشجرة حزن عليها يونس فقيل له: أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو يزيدون حيث لم تذهب إليهم ولم تطلب سلامتهم؟. فتوجه يونس نحوهم حتى دخل أرضهم وهم منه غير بعيد فقال لملكهم: إن الله أرسلني إليك لترسل معي بني إسرائيل. فقالوا: ما نعرف ما تقول ولو علمنا أنك صادق لفعلنا ولقد أتيناكم في دياركم وسبيناكم، فلو كان كما تقول لمنعنا الله منكم. فطاف فيهم ثلاثة أيام يدعوهم إلى ذلك فأبوا عليه فأوحى الله إليه قل لهم: إن لم تؤمنوا جاءكم العذاب. فأبلغهم فأبوا فخرج من عندهم فلما فقدوه ندموا على فعلهم فانطلقوا يطلبونه فلم يقدروا عليه. فقال علماؤهم: اطلبوه فإن كان في المدينة فليس ما ذكره بشيء، وإن كان قد خرج فهو كما قال. فطلبوه فلم يجدوه، فلما أيسوا أغلقوا باب مدينتهم فلم يدخلها بقرهم وغنمهم وعزلوا الوالدة عن ولدها وكذا الصبيان والأمهات، فلما طلع الصبح رأوا العذاب ينزل من السماء فشقوا جيوبهم ووضعت الحوامل ما في بطونها وصاح الصبيان وثغت المواشي فرفع الله عنهم فبعثوا إلى يونس وآمنوا به وبعثوا معه بني إسرائيل.
القول الثاني وعليه أكثر المفسرين: أن قصة الحوت كانت بعد دعائه أهل نينوى وتبليغه رسالة الله إليهم كما مر في سورة يونس. واحتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه القصة من وجوه: الأوّل أنه ذهب مغاضبا لربه هكذا فسره ابن عباس وابن مسعود والحسن والشعبي وسعيد وابن جبير ووهب واختاره ابن قتيبة ومحمد بن جرير، ومن المعلوم أن مغاضبة الله من أعظم الذنوب. ولئن سلم أنه كان مغاضبا لقومه فذلك أيضا محظور لأنه كان يجب أن يصبر معهم. الثاني قوله فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ وهو شك في قدرة الله. الثالث:
اعترافه بأنه من الظالمين والظلم من صفات الذم. الرابع: إخبار الله تعالى في موضع آخر(5/46)
بقوله فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [الصافات: 142] والمليم ذو الملامة. الخامس: قوله للنبي صلى الله عليه وسلم وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [القلم: 42] وقال في موضع آخر فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ [الأحقاف: 35] والجواب أنه عليه السلام غضب لأجل ربه أنفة لدينه وبغضا للكفر وأهله، وغاضب قومه بمفارقته كي يخوّفهم حلول العقاب عليهم عندها. فغاية ما في الباب أن تلك المغاضبة ترك الأولى وهو الصبر على مشاق الرسالة بعد أدائها إلى أن يأذن الله له في المهاجرة. وعن الثاني أن معنى. لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ لن نضيق كقوله اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد: 26] وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [الطلاق: 7] فهو من القدر لا من القدرة، ويجوز أن يكون من القدر بمعنى القضاء. قال الزجاج: يقال قدر الله الشيء قدرا وقدره تقديرا. والمعنى فظن أن لن نقضي عليه بشدة وهو قول مجاهد وقتادة والضحاك والكلبي وابن عباس في رواية واختاره الفراء والزجاج. يقال: قدر الله عليه الضراء وقدر له السراء كما يقال: قدر القاضي على فلان أوله. ولئن سلمنا أنه من القدرة فالمراد القدرة بالفعل أي فظن أن لن نعمل فيه قدرتنا، فالقدرة غير وإعمالها غير، فظن انتفاء الأول كفر دون الثاني أو هو وارد على سبيل التمثيل والاستعارة أي كانت حاله ممثلة بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمر الله، أو هو استفهام بمعنى التوبيخ معناه أفظن أن لن نقدر عليه: عن ابن زيد. سلمنا الكل لكن هذه الواقعة لعلها قبل رسالته كما حكينا ومثل هذا الظن في حق غير الأنبياء لا يبعد بوسوسة الشيطان، ولكن المؤمن يرده بعد ذلك بالبرهان. وعن البواقي أن الكل راجع إلى ترك الأولى ونحن لا ننكر ذلك وكفى بذكر يونس في عدد الأنبياء الصابرين الصالحين دليلا على أنه لم يصدر عنه شيء ينافي عصمته والله تعالى أعلم.
أما قوله فَنادى فِي الظُّلُماتِ فمعنى الجمع راجع إلى شدة الظلمة وتكاثفها أي في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت كقوله يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [البقرة: 257] وقيل: ظلمات بطن الحوت والبحر والليل. وقيل: ابتلع حوته حوت أكبر منه فحصل في ظلمتي بطن الحوتين وظلمة البحر. وقيل: إن الحوت إذا عظم غوصه في البحر كان ما فوقه من البحر ظلمة في ظلمة. ومعنى أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ أي لا إله إلا أنت أو بأنه لا إله إلا أنت سُبْحانَكَ تنزيه له عن كل النقائص. منها الظن المذكور على أي وجه فرض، ومنها العجز عن تخليصه، ومنها خلو ذلك الفعل عن حكمة كاملة. إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ بالفرار من غير إذن وأنا الآن من التائبين وفيه من حسن الطلب ما فيه فلذلك قال فَاسْتَجَبْنا لَهُ ثم بين الاستجابة بقوله وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ أي من غمه بسبب كونه في(5/47)
بطن الحوت وبسبب خطيئته وَكما أنجينا يونس من كرب الحبس إذ دعانا كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من كل كرب إذا استغاثوا بنا.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له» .
وعن الحسن: ما نجاه والله إلا إقراره على نفسه بالظلم. وقد بقي في الآية بحث لفظي وهو أن بعض أهل العربية غلطوا عاصما في قراءته نجي بالتشديد والنون لا تدغم في الجيم. واستخرج بعضهم له وجها وهو أن يكون نجي فعلا ماضيا مجهولا من التنجية لكنه أرسل الياء وأسند الفعل إلى المصدر المضمر ونصب المؤمنين بذلك المصدر أي نجى نجاء المؤمنين كقولك «ضرب الضرب زيدا» ثم ضرب زيدا على إضمار المصدر، وأنشد ابن قتيبة حجة لهذه القراءة:
ولو ولدت فقيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا
وقال أبو علي الفارسي وغيره من الأئمة المحققين: إن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر وإنما الوجه الصحيح في قراءة عاصم أن يحمل ذلك على الإخفاء، فلعل الراوي التبس عليه فظنه إدغاما. ثم بين انقطاع زكريا وتبتله إليه رغبة فيمن يؤنسه ويعينه في أمر دينه ودنياه وإن انتهى الحال به وبزوجته في الكبر إلى حد اليأس من ذلك عادة. وفي قوله وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ وجهان: أحدهما أنه ثناء على الرب بأن مآل كل الأمور إليه فيكون مؤكدا لما فوض إليه أمر الولد. والثاني أنه أراد إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي فإنك خير وارث. وفي إصلاح زوجه وجوه: منها أنها جعلت صالحة للولادة بعد عقرها.
ومنها أنها جعلت حسنة الخلق وكانت سيئة الخلق، ولا شك أن حسن خلق الزوج نعمة عظيمة. ومنها أن الإصلاح يتعلق بأمر الدين كأنه سأل ربه المعونة على الدين والدنيا بالولد والأهل جميعا. ويرد على الوجه الأول أن إصلاح الزوج مقدم على هبة الولد، والجواب أن الواو لا تفيد الترتيب أو أراد بالهبة إرادة الهبة. أما الضمير في قوله إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ فقد قيل: إنه عائد إلى زكريا وولده وأهله. وقال جار الله: إنه للمذكورين من الأنبياء عليهم السلام يريد أنهم ما استحقوا الإجابة إلى طلباتهم إلا لمسارعتهم في تحصيل الخيرات، وهذا من أجلّ ما يمدح به المؤمن لأنه يدل على الجد والرغبة في الطاعة.
وَيَدْعُونَنا رَغَباً في ثوابنا وَرَهَباً عن عقابنا. ومعنى خاشِعِينَ قال الحسن: ذللا لأمر الله. وقيل: متواضعين. وعن مجاهد: الخشوع الخوف الدائم في القلب. وفي تقديم الجار والمجرور على خاشِعِينَ إشارة إلى أنهم لا يخشون أحدا إلا الله. وروى الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه الذي إذا أرخى ستره وأغلق بابه رأى الله منه خيرا ليس هو الذي يأكل خشبا أي علقا ويلبس خشنا ويطأطىء رأسه. ولما فرغ من ذكر الرجال الكاملين ذكر من هي(5/48)
سيدة نساء العالمين فمدحها بإحصان فرجها إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا حتى إنها منعت جبرائيل جيب درعها قبل أن عرفته. والنفخ فيها عبارة عن إحياء عيسى في بطنها أي فنفخنا الروح في عيسى فيها كقول الزامر «فنفخت في بيت فلان» أي نفخت في المزمار في بيته، أو المراد وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا- وهو جبرائيل- لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها. وهذا البيان هو المراد في سورة التحريم فلذلك قال فَنَفَخْنا فِيهِ [التحريم: 12] أراد فرج الجيب أو غيره. وإنما قال وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ لأنه أراد أن مجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير أب.
التأويل:
الإشارات المفهومة من قصص الأنبياء أكثرها مرّ فلنذكر ما يختص بالمقام.
منها قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ أي الله الكبير لأن كسر الأصنام ليس من طبيعة الإنسانية بل من طبيعتها أن تنحتها، فإن صدر من أحدهم كسرها فإنما ذلك بتوفيق الله وتأييده. فقوله هذا بدل الكل من الضمير في فعله: قالوا أحرقوه إذا أراد الله أن يكمل عبدا من عباده المخلصين فداه خلقا عظيما كما لو أراد استكمال حوت في البحر فداه كثيرا من الحيتان الصغار، فلما أراد تخليص جسد الخلة من غش البشرية جعل نمرود وقومه فداء له حتى أجمعوا على تحريقه ولم يعلموا أن تلك النار له نور. وذلك العذاب له روح وريحان، لأن نار العشق قد أحرقت أنانيته حتى لم ير غير الله بل لم يبق إلا هو فلم يمكن للنار أن تتصرف فيه فوقع قوله: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ تمثيلا لهذا المعنى.
بالنار خوفني قومي فقلت لهم ... النار ترحم من في قلبه نار
ونجينا إبراهيم الروح ولوط القلب من أرض البشرية إلى أرض الروحانية المتبركة المشرفة المشرقة لتجلي الذات والصفات. وَنَجَّيْناهُ من قرية القالب. الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ بالأوصاف البهيمية والسبعية وَداوُدَ الروح وَسُلَيْمانَ القلب إِذْ يَحْكُمانِ فِي شأن حرث الدنيا إِذْ نَفَشَتْ أي دخلت فيه في ظلمة ليل البشرية غَنَمُ الْقَوْمِ أي الصفات البشرية من غير راعي العقل فأفسدت الحرث بالإفراط والإسراف. فحكم الروح بانجذابه إلى عالمه بالكلية أن يمنع الأوصاف عن التصرف فيها مطلقا. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ القلب لكونه متقلبا في طودي الروح والجسد أن يحكم بمنع التصرف فيها إلى أن يعود الحرث من حالة الإسراف فيه المؤدي إلى الفساد إلى حالة التوسط والاعتدال الذي هو المعتبر في باب الكمال والإكمال جمعا بين المصلحتين ورعاية للجانبين. وَسَخَّرْنا مَعَ(5/49)
داوُدَ الْجِبالَ
وهي الأعضاء والجوارح التي فيها ثقل وكثافة يُسَبِّحْنَ بتسبيحه وَالطَّيْرَ وهن القوى الحيوانية السيارة بل الطيارة بين فضاء القلب والقالب. هذا في الباطن، وأما في الظاهر فإذا استولى سلطان الذكر على أجزاء البدن انعكس نوره في مرآة القلب إلى ما يحاذيها من الجمادات والحيوانات فيذكر ما يذكره كالحصاة سبحت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن بعض الصحابة أنه قال: كنا نأكل الطعام ونسمع تسبيحه وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ إن الله تعالى ألهم داود الروح كيفية إلانة القلب الذي هو في القساوة بمنزلة الحديد حتى يتولد من ذلك القلب أوصاف حميدة تحصن الإنسان من بأس الأعداء التي هي النفس والهوى والشيطان. وسخرنا لِسُلَيْمانَ القلب ريح الروح الحيواني فإنه مركب الروح الإنساني به يتهيأ له السير إلى مقام بورك له فيه وَمِنَ الشَّياطِينِ وهم الأوصاف النفسية مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ في بحر الحديد فيستخرجون درر الفضائل الإنسية وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ من الوسائط والوسائل إلى تلك الفضائل: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ من أن يزيغوا عن سواء السبيل ويميلوا عن جادة الشريعة وقانون الطريقة. قال أهل التحقيق: إذا بلغ الإنسان مبلغ الرجال البالغين سخر الله له بحسب مقامه السفليات والعلويات كما سخر لسليمان الريح والجن والشياطين والطير ومن العلويات الشمس حين ردت لأجل صلاته، وسخر لداود عليه السلام الجبال والطير والحديد والأحجار التي قتل بها جالوت، وسخر لنبينا جميع السفليات والعلويات حتى
قال «زويت لي الأرض» «1»
وقال «أوتيت مفاتيح خزائن الأرض» «2»
وكان الماء ينبع من بين أصابعه.
وقال «نصرت بالصبا»
وكانت الأشجار تسلم عليه وتسجد له وتنقلع بإشارته من مكانها وترجع، والحيوانات تتكلم معه وتشهد بنبوته.
وقال «أسلم شيطاني على يدي» «3» .
وأما من العلويات فقد انشق القمر بإشارته وسخر له البراق وجبرائيل، وعبر السموات والجنة والنار والعرش والكرسي إلى مقام قاب قوسين أو أدنى.
وَأَيُّوبَ القلب المبتلى بديوان الهواجس والوساوس الذي فارقه أوصافه الحميدة وأخلاقه الشريفة لشدة تألمه بالعلائق البدنية وعوائق الأمور الدنيوية فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ بأن قلنا
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الفتن حديث 19. أبو داود في كتاب الفتن باب 1 الترمذي في كتاب الفتن باب 14. ابن ماجة في كتاب الفتن باب 9. أحمد في مسنده (5/ 278) .
(2) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 122. مسلم في كتاب المساجد حديث 6، 7. النسائي في كتاب الجهاد باب 1. الدارمي في كتاب المقدمة باب 14. أحمد في مسنده (2/ 264، 450) .
(3)
رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث 69، 70. الترمذي في كتاب الرضاع باب 17. النسائي في كتاب النساء باب 4. الدارمي في كتاب الرقاق باب 35، 66. أحمد في مسنده (1/ 257) بلفظ «إلا أن الله أعانني عليه فأسلم» .(5/50)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94) وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
له ارْكُضْ بِرِجْلِكَ [ص: 42] نظيره وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ [طه: 69] لينبع ماء حياة العلم والمعرفة فتسلم من تعلقات الكونين المؤذية للقلب والروح إِذْ ذَهَبَ من عالمه مُغاضِباً لغيره من المجردات فألقي في بحر الدنيا فالتقمه حوت النفس الأمارة بالسوء، وابتلع حوت النفس حوت القالب فَنادى في ظلمات حجب النفس والقالب والدنيا وَزَكَرِيَّا الروح وَهَبْنا لَهُ يَحْيى القلب وَأَصْلَحْنا لَهُ زوج القالب وَيَدْعُونَنا رَغَباً في الفناء فينا وَرَهَباً من البقاء بأنانيتهم وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ أما القالب فبأعمال الشريعة، وأما النفس فبتهذيب الأخلاق، وأما القلب فبالاطمئنان بذكر الله، وأما السر فباجتهاده في كشف الأسرار، وأما الروح فببذل الوجود في طلب المعبود، وأما الخفي فبإفنائه في الله وبقائه بالله. وَمَرْيَمَ النفس الَّتِي أَحْصَنَتْ قلبها عن تصرفات الكونين فأحييناها بالحياة الأبدية.
[سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 الى 112]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96)
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101)
لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106)
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)
قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112)(5/51)
القراآت:
وحرم بكسر الحاء: حمزة وعلي وعاصم غير حفص وأبي زيد عن المفضل فتحت بالتشديد: ابن عامر ويزيد ويعقوب. لا يحزنهم بضم الياء وكسر الزاء يزيد نَطْوِي بضم التاء الفوقانية وفتح الواو والسَّماءَ بالرفع: يزيد. لِلْكُتُبِ على الجمع: حمزة وعلي وخلف وحفص بَدَأْنا مثل أَنْشَأْنا قال بالألف على حكاية قول الرسول رَبِّ بحذف الياء اكتفاء بالكسرة: حفص غير الخراز رب بضم الباء على أنه مبتدأ احكم على صيغة التفضيل. يزيد عن يعقوب الباقون رَبِّ احْكُمْ يصفون على الغيبة: المفضل وابن ذكوان في رواية.
الوقوف:
واحِدَةً ز لأن المقصود من قوله أَنَا رَبُّكُمْ قوله فَاعْبُدُونِ وكان الكلام متصلا فَاعْبُدُونِ هـ بَيْنَهُمْ ط راجِعُونَ هـ لِسَعْيِهِ ج لاختلاف الجملتين كاتِبُونَ هـ لا يَرْجِعُونَ هـ يَنْسِلُونَ هـ كَفَرُوا ط لإضمار القول ظالِمِينَ هـ جَهَنَّمَ ط وارِدُونَ هـ ما وَرَدُوها ط خالِدُونَ هـ فِيها ط لا يَسْمَعُونَ هـ الْحُسْنى لا لأن ما بعده خبر «إن» مُبْعَدُونَ هـ لا لأن ما بعده خبر بعد خبر حَسِيسَها ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف خالِدُونَ هـ ج لاحتمال الجملة بعده أن تكون صفة أو استئنافا الْمَلائِكَةُ ط لأن التقدير قائلين هذا يومكم تُوعَدُونَ هـ لِلْكُتُبِ ط لأن الجار يتعلق بما بعده نُعِيدُهُ ط لحق المضمر أي وعدنا وحقا عَلَيْنا ط فاعِلِينَ هـ الصَّالِحُونَ هـ عابِدِينَ هـ ط لاختلاف الجملتين لِلْعالَمِينَ هـ واحد ج للاستفهام مع الفاء مُسْلِمُونَ هـ عَلى سَواءٍ ط لابتداء النفي تُوعَدُونَ هـ تَكْتُمُونَ هـ حِينٍ هـ بِالْحَقِّ ط لأن ما بعده مبتدأ خارج عن المقول، ومن قرأ ربي احكم فوقفه مجوز لنوع عدول من الواحد إلى الجمع تَصِفُونَ هـ.
التفسير:
لما فرغ من قصص الأنبياء أراد أن يذكر ما استقر عليه أمر الشرائع في آخر الزمان فقال إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ وسيرتكم، فالأمة الدين والطريقة لأنه أصل وقانون يرجع إليه. وللتركيب دلالة على ذلك وهذا إشارة إلى ملة الإسلام أي إن هذه الملة هي طريقتكم وسيرتكم التي يجب أن تكونوا عليها حال كونها طريقة واحدة غير مختلفة. وَأَنَا رَبُّكُمْ لا غيري فَاعْبُدُونِ والخطاب للناس كافة، وكان الظاهر أن يقال بعده وتقطعتم أمركم بينكم أي جعلتم أمر دينكم بينكم قطعا كما يقسم الشيء بين الجماعة فيصير لهذا نصيب ولهذا نصيب فصرتم فرقا مختلفة وأحزابا شتى، إلا أنه عدل من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه يقبح أمرهم إلى غيرهم فيقول: ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء؟
عن(5/52)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال «تفرقت بنو إسرائيل على إحدى وسبعين فرقة فهلكت سبعون وخلصت فرقة وأن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة وتخلص فرقة واحدة قالوا: يا رسول الله ومن الفرقة الناجية؟ قال: الجماعة الجماعة» «1»
فهذا الحديث مفسر للآية من حيث إن هذه الأمة يجب أن يكونوا على كلمة واحدة. طعن بعضهم في الحديث أنه إن أراد بالاثنتين والسبعين فرقة أصول الأديان فإنها لا تبلغ هذا العدد، وإن أراد الفروع فإنها أضعاف هذا العدد.
وأجيب بأنه أراد ستفترق أمتي هذا العدد في حال ما، وهذا لا ينافي كون العدد في بعض الأحوال أنقص أو أزيد. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا بالواو وفي «المؤمنين» فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا [الآية: 53] بالفاء لأن الخطاب هاهنا أعم والعبادة أعم من التقوى. وأيضا الخطاب يتناول الكفار وقد وجد منهم التقطع قبل هذا القول، وفي سورة المؤمنين الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بدليل قوله يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ [الآية: 51] ثم قال: فَتَقَطَّعُوا [الآية: 53] أي ظهر منهم أي من أمتهم التقطع بعد هذا القول ولأن التقطع منهم أغرب أكده هناك بقوله زُبُراً وفي قوله كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ وعيد عظيم للفرق المختلفة. ثم فصل مآل لهم بقوله فَمَنْ يَعْمَلْ الآية والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه في قوله فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء: 19] وإنما لم يقل «فلا يكفر سعيه» لأن نفي الجنس أبلغ فإن نفي الماهية يستلزم نفي جميع أفرادها. وفي قوله وَإِنَّا لَهُ أي لذلك السعي كاتِبُونَ مبالغة أخرى فإن المثبت في الصحيفة أبعد من النسيان والغلط كما قيل: قيدوا العلم بالكتابة. ولا سيما إذا كان الكاتب ممن لا يجوز عليه السهو والنسيان. قال المفسرون:
معناه حافظون لنجازي عليه. وقيل: مثبتون في أم الكتاب أو في صحف الأعمال. هذا حال السعداء وأما أحوال أضدادهم فذلك قوله وَحَرامٌ ومن قرأ حرم فإنه فعل بمعنى مفعول. والتركيب يدور على المنع أي ممتنع أو ممنوع وهذا خبر لا بد له من مبتدأ وذلك قوله أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ أو غير ذلك. والرجوع إما الرجوع عن الشرك إلى الإسلام أو الرجوع إلى الدنيا أو إلى الآخرة. وعلى الأول إما أن تكون «لا» زائدة أقحمت للتأكيد ومعنى الآية ممتنع على أهل قرية عزمنا على إهلاكها أو قدرنا إهلاكها أن يرجعوا أو يتوبوا إلى أن تقوم الساعة والمراد تصميمهم على الكفر. وإما أن تكون معيدة ولكن الحرام بمعنى الواجب تسمية لأحد الضدين باسم الآخر باشتراكهما في المنع إلا أن الوجوب منع عن
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب السّنة باب 1. الترمذي في كتاب الإيمان باب 18. ابن ماجة في كتاب الفتن باب 17. أحمد في مسنده (2/ 322) (3/ 120) .(5/53)
الترك والحرمة منع عن الفعل، وقد ورد في الاستعمال مثل ذلك قال سبحانه قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا [الأنعام: 151] وترك الشرك واجب وليس بمحرم، وقالت الخنساء:
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوه إلا بكيت على عمرو
وعلى الثاني فالإهلاك على أصله، والمعنى أن رجوعهم إلى الدنيا ممتنع أو عدم رجوعهم واجب إلى قيام الساعة نظيره قوله فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس: 67] وعلى الثالث فقوله «حتى» غاية لقوله لا يَرْجِعُونَ أي ممتنع عدم رجوع المهلكين إلى عذاب الآخرة حتى الساعة، وذلك أن رجوعهم إلى عذاب النار قبل الساعة واجب بقوله النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر: 46] وقال أبو مسلم: أراد أن رجوعهم إلى الآخرة واجب إلى هذه الغاية أي أنهم يكونون أول الناس حضورا في محفل القيامة. وعلى الرابع فالمعنى وحرام عليهم ذلك وهو المذكور من السعي المشكور غير المكفور لأنهم لا يرجعون عن الكفر إلى أن تقوم الساعة.
قوله تعالى حَتَّى إِذا فُتِحَتْ «حتى» هي التي يقع بعدها الجملة وهي هاهنا مجموع الشرط والجزاء و «إذا» المفاجأة تسد مسد فاء الجزاء، وقد يجمع بينهما للتعاون على وصل الجزاء بالشرط فيتأكد وإنما احتيج إلى هذا التأكيد لأن الشرط يحصل في آخر أيام الدنيا والجزاء إنما يحصل يوم القيامة، ولعل بينهما فاصلة بالزمان إلا أن التفاوت القليل كالمعدوم والمضاف محذوف أي سد يأجوج ومأجوج وتأنيث الفعل لأنهما قبيلتان وهما ومن جنس الأنس كما مر في آخر الكهف. يقال: الناس عشرة أجزاء تسعة منها يأجوج ومأجوج.
وفي الحديث «إن منكم واحدا ومن يأجوج ومأجوج ألف» .
قوله وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ قال أكثر المفسرين: الضمير ليأجوج ومأجوج يخرجون حين يفتح السد. وعن مجاهد أنه لجميع المكلفين الذين يساقون إلى المحشر. والحدب ما ارتفع من الأرض والنسل الإسراع. وَاقْتَرَبَ عطف على فُتِحَتْ وهو داخل في الشرط. والْوَعْدُ الْحَقُّ القيامة وقوله فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ كقوله في سورة إبراهيم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ [إبراهيم: 42] وقال في الكشاف: هِيَ ضمير مبهم توضحه الأبصار وتفسره. قلت: فعلى هذا هِيَ مبتدأ وشاخِصَةٌ خبره وأَبْصارُ بدل هِيَ ولو قيل: هِيَ ضمير القصة مبتدأ والجملة التي هي أبصار الذين كفروا شاخصة خبره جاز وهو قول سيبويه. ثم هاهنا إضمار أي يقولون يا وَيْلَنا وهو في موضع الحال من الذين كفروا والعامل شاخصة قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا الوعد أو الأمر بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ أنفسنا بتلك الغفلة وبتكذيب الرسل وعبادة الأوثان. ثم بين حال معبوديهم يوم(5/54)
القيامة فقال: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أي محصوبها بمعنى محصوب فيها، والحصب الرمي ومنه الحصباء لأنه يرمى بها الشيء وقرىء حطب. واللام في قوله أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ كاللام في قوله «هو لزيد ضارب» وذلك لضعف عمل اسم فيما تقدم عليه. والمعنى لا بد لكم أن تردوها ولا معدل لكم عن دخولها. ثم ألزمهم الحجة بقوله لَوْ كانَ هؤُلاءِ المعبودون آلِهَةً في الحقيقة ما وَرَدُوها لكنهم واردوها للخبر الصادق الذي يتنبه لصدقه من يتأمل في إعجازه فينتج أن هؤلاء ليسوا بآلهة وأنها لا تستحق تعظيما أصلا. ثم أخبر أنهم بعد ورودهم النار لا يخلصون منها أبدا فقال وَكُلٌّ أي من العابدين والمعبودين فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ قد سبق معانيه في آخر سورة هود وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ شيئا إما لأنهم يجعلون في توابيت من نار عن ابن مسعود، وإما لأنه تعالى يصمهم كما يعميهم. والصمم في بعض الأوقات لا ينافي كونهم سامعين أقوال أهل الجنة في غير ذلك الوقت، أو المراد أنهم لا يسمعون ما يسرهم، أو الضمير للمعبودين والسماع سماع إجابة، وعلى هذا فالضمير في لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ للعابدين وجاز اعتمادا على فهم السامع حيث يرد كلا من الضميرين إلى ما يناسبهما كأنه قيل: العابد يدعو والمعبود لا يجيب، ويجوز أن يكون للمعبودين أيضا لأن فيهم من يتأتى منه الزفير كالشياطين فغلب، أو لأن الجماد ينطقه الله وقتئذ والزفير بمعنى اللهيب والله أعلم.
يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد وصناديد قريش في الحطيم وحول الكعبة ثلاثمائة وستون صنما، فجلس إليهم فعرض له النضر بن الحرث وكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ثم تلا عليهم إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية.
فأقبل عبد الله بن الزبعري فأخبره الوليد بن المغيرة بما جرى فقال معترضا: أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة؟ فقال عليه السلام: بل هم عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك وأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ الآية. فخرج من الحديث. والآية جواب ابن الزبعري على أتم وجه وأكمله كأنه قيل أولا إن الآية باقية على عمومها لأن الذين عبدوا عزيرا والمسيح والملائكة لم يعبدوهم في الحقيقة، وانما عبدوا الشياطين التي دعتهم إلى ذلك، ولئن سلم أنهم عبدوهم في الحقيقة لكنهم مخصوصون بما سبقت لهم منا الخصلة الحسنى وهي السعادة أو البشرى بالثواب أو بتوفيق الطاعة وكل ميسر لما خلق له. ومن المفسرين من أجاب عن اعتراض ابن الزبعري بوجوه أخر منها: أن قوله إِنَّكُمْ خطاب لمشركي قريش وإنهم لم يعبدوا سوى الأصنام. ولقائل أن يقول: حمل الآية على العموم أتم فائدة. ومنها أن قوله وَما تَعْبُدُونَ لا يتناول العقلاء فيسقط الاعتراض. ولقائل أن يقول: ما أعم لا مباين فيشمل ذوي العقول(5/55)
وغيرهم ولهذا جاء وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: 5] سبحان ما سخركن لنا. ومنها أنه تعالى يصور لهم في النار ملكا على صورة من عبدوه، وضعف بأن القوم لم يعبدوا تلك الصورة، وبأن الملك لا يتعذب بالنار كخزنة جهنم. واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فقوله إِنَّ الَّذِينَ لا يبعد أن يكون عاما لكل المؤمنين ويؤيده ما
روي أن عليا قرأ هذه الآية ثم قال: أنا منهم وأبوبكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف.
وزعم مثبتوا لعفو أن الحسنى في الآية هي الوعد بالعفو لأنه قال أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ بأزاء قوله أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ والورود الدخول فالإبعاد الإخراج من النار بعد أن كانوا فيها. وأيضا إبعاد البعيد محال. وقوله لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها إذ الصوت الذي يحس به مخصوص بما بعد الإخراج. وأيضا قوله لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ يفهم منه أنه يحزنهم الفزع الأصغر، فالأكبر عذاب الكفار والأصغر عذاب صاحب الكبيرة، والأكثرون على أن المراد من قوله مُبْعَدُونَ أنهم لا يدخلون النار ولا يقربونها البتة لأن ما جعل بعيدا عن شيء ابتداء يحسن أن يقال: إنه أبعد عنه، وهؤلاء لم يفسروا الورود في قوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها [مريم: 71] بالدخول كما مر في سورة مريم. وفي قوله لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها تأكيد للإبعاد فقد لا يدخل النار ويسمع حسيسها. ثم بين أنهم مع البعد عن المنافي منتفعون بالقرب من الملائم ملتذون به على سبيل التأبيد فقال وهم فيما اشتهته أَنْفُسُهُمْ أي فيما تطلبه للالتذاذ به خالِدُونَ هذا نصيب أهل الجنة، وأما أهل الله فهم فيما اشتهت قلوبهم وأرواحهم وأسرارهم خالدون. والفزع الأكبر قيل: النفخة الأخيرة لقوله وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [النمل: 87] وعن الحسن هو الانصراف إلى النار فإنه لافزع أكبر مما إذا شاهدوا النار، وهذا أمر يشترك فيه أهل النار جميعا، ثم مراتب التعذيب بعد ذلك متفاوتة. وعن الضحاك وسعيد بن جبير هو حين تطبق النار على أهلها فيفزعون لذلك فزعة عظيمة، وقيل: حين يذبح الموت على صورة كبش أملح فعند ذلك يستقر أهل النار في النار وأهل الجنة في الجنة وتستقبلهم الملائكة مهنئين قائلين هذا يَوْمُكُمُ أي وقت ثوابكم الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ذلك قال الضحاك: هم الحفظة الذين كتبوا أعمالهم. والعامل في يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ: لا يَحْزُنُهُمُ أو تَتَلَقَّاهُمُ. والسجل اسم للطومار الذي يكتب فيه.
وعن ابن عباس أنه ملك يطوي كتب بني آدم إذا رفعت إليه وهو مروي أيضا عن علي رضي الله عنه.
وروى أيضا أبو الجوزاء عن ابن عباس أنه كاتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بمعروف. قال الزجاج: هو الرجل بلغة الحبش. فعلى هذه الوجوه فالطي وهو المصدر مضاف إلى الفاعل وعلى الوجه(5/56)
الأول هو مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف كطي الطاوي للسجل وهو قول الأكثرين.
واشتقاقه من السجل الدلو العظيم وقد قرىء به والتركيب يدل على الامتلاء والاجتماع ولهذا لا يسمى الدلو سجلا إلا إذا كان فيه ماء ومنه «أسجلت الحوض ملأته.» وقوله لِلْكُتُبِ أي للكتابة ومعناه ليكتب فيه أو لما يكتب فيه لأن الكتاب أصله المصدر كالبناء ثم يوقع على المكتوب. ومن جمع فمعناه للمكتوبات أي ما يكتب فيه من المعاني الكثيرة، وكيفية هذا الطي لا يعلمها إلا من أخبر عن ذلك أما قوله كَما بَدَأْنا فمن المفسرين من قال: أنه ابتداء كلام ومنهم من قال: إنه وصف قوله هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بقوله يَوْمَ نَطْوِي ثم عقبه بوصف آخر فقال كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ وهو مفعول نعيد الذي يفسره نُعِيدُهُ و «ما» كافة أي نعيد أول الخلق كما بدأناه تشبيها للإعادة بالابتداء في تناول القدرة لهما على السواء. فكما أوجده أولا عن عدم يعيده ثانيا عن عدم. ومنهم من قال: الإعادة إنما تتعلق بالضم والتركيب بعد تفريق الأجزاء الأصلية والآية لا تطابقه كل المطابقة. وأول خلق كقولك «هو أول رجل» أي إذا فضلت رجلا رجلا فهو أولهم، وإنما خص أول الخلائق بالذكر تصويرا للإيجاد عن العدم ودفعا للاعتراض. وجوز جار الله أن تنتصب الكاف بفعل مضمر يفسره نعيده و «ما» موصولة أي نعيد مثل الذي بدأنا نعيده وأَوَّلَ خَلْقٍ ظرف ل بَدَأْنا أي أول ما خلق أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ وقوله وَعْداً مصدر مؤكد لأن قوله نعيد عدة للإعادة وقيل: أراد حتما عَلَيْنا لسبب الإخبار عن ذلك وتعلق العلم بوقوعه فإن وقوع ما علم الله وقوعه واجب ثم حقق ذلك بقوله إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ أي سنفعل ذلك لا محالة فإنا قادرون عليه. عن سعيد بن جبير ومجاهد والكلبي ومقاتل وابن زيد أن الزبور جنس للكتب المنزلة كلها، والذكر أم الكتاب يعني اللوح ففيه كتابة كل ما سيكون اعتبارا للملائكة، وكتب الأنبياء كلهم منتسخة منه، وعن قتادة أن الزبور هو القرآن، والذكر هو التوراة. وعن الشعبي أن الزبور هو كتاب داود عليه السلام والذكر التوراة. وجوز الإمام فخر الدين أن يراد بالذكر العلم أي كتبنا فيه بعد أن كنا عالمين غير ساهين. والمراد تحقيق وقوع المكتوب فيه، والأرض أرض الجنة، والعباد الصالحون هم المؤمنون العالمون بما يجب عليهم نظيره قوله وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر: 74] قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والسدي وأبو العالية. وإنما ذهبوا إلى هذا القول لأن أرض الدنيا تعم الصالح وغير الصالح، ولأن الآية وردت بعد ذكر الإعادة.
وعن ابن عباس أيضا في رواية الكلبي أنها أرض الدنيا يرثها المؤمنون بعد إجلاء الكفار نظيره وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور: 55](5/57)
وقيل: الأرض المقدسة يرثها أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسلم عند نزول عيسى بن مريم إِنَّ فِي هذا الذي ذكر في السورة من الأخبار والوعد والوعيد وغير ذلك لَبَلاغاً لكفاية لِقَوْمٍ عابِدِينَ عاملين بما ينبغي عمله من الخيرات بعد ما عملوا من كيفية أدائها. والبلاغ ما يبلغ به المرء مطلوبه من الوسائط والوسائل، ولا مطلوب أجل من سعادة الدارين فكل من كان وسيلة إلى نيل هذا المطلوب على الوجه الأتم الأكمل كان وجوده رحمة من الله للطالب المتحير وما ذاك إلا خاتم النبيين فلهذا قال وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وكونه رحمة للكل لا ينافي قتله بعض الكفرة والتعرض لأموالهم وأولادهم كما أن كي بعض أعضاء المريض بل قطعه لا ينافي حذق الطبيب وإشفاقه على المريض ومن هنا قيل: آخر الدواء الكي. والعاقل لا ينسب التقصير إلى الفاعل لقصور في القابل. قالت المعتزلة: لو كان كفر الكافر بخلق الله لم يكن إرسال الرسول رحمة له لأنه لا يحصل له حينئذ إلا لزوم الحجة عليه. وأجيب بأن كونه رحمة للفجار هو أنهم أمنوا بسببه عذاب الاستئصال، ولا يلزم أن يكون الرسول رحمة للمؤمنين من جهة كونه رحمة للكافرين، والجواب المحقق أن كونه رحمة عامة بالنسبة إلى أمة الدعوة لا ينافي كونه رحمة خاصة بالنسبة إلى أمة الإجابة وهو قريب مما ذكرناه أولا، والحجة وتبعتها لازمة على الكافر وإن لم يبعث النبي غايته أنها بعد البعثة ألزم. وفي الآية دلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الملائكة لأنه رحمة لهم فإنهم من العالمين وعورض بقوله وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ [الشورى: 5] والاستغفار رحمة.
والجواب أن الرحمة بمعنى كونه في نفسه مكملا في الغاية غير الرحمة بمعنى الدعاء، فلا يلزم من كون الأول سببا للأفضلية كون الثاني كذلك، ثم بين أن أصل تلك الرحمة وأسها هو دعاؤه إلى التوحيد والبراءة عن الشرك فقال قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ إن كانت «ما» موصولة فمعناه أن الذي يوحي إليّ هو أن وصفه تعالى مقصور على الوحدانية لا يتجاوزه إلى ما يناقضها أو يضادها بأي قسمة فرضت وإن كانت كافة المعنى أن الوحي مقصور على استئثار الله بالوحدة، وذلك أن القصر يكون أبدا لما يلي إنما وفي قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ بعث لهم على قبول هذا الوحي الذي هو أصل التكاليف كلها، وفيه نوع من التهديد فلذلك صرح به قائلا فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ أي أعلمتكم والمراد هاهنا أخص من ذلك وهو الإنذار عَلى سَواءٍ هو الدعاء إلى الحرب مجاهرة كقوله فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58] إلى وقت أي حال كونكم مستوين في ذلك لا فرق بين القريب والأجنبي والقاصي والداني والشريف والوضيع ولهذا قال أبو مسلم: الإيذان على سواء هو الدعاء إلى الحرب مجاهرة كقوله فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ [الأنفال: 58] وقيل: أراد أعلمتكم ما هو(5/58)
الواجب عليكم من أصول التكاليف ولا سيما التوحيد على السوية من غير فرق في الإبلاغ بين مكلف ومكلف. ولست أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أم بعيد والموعود قيل: هو عذاب الآخرة. واعترض بأنه ينافي قوله وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ وقيل: هو الأمر بالقتال لأن السورة مكية وكان الأمر بالجهاد بعد الهجرة. وقيل: هو إعلاء شأن الإسلام وغلبة ذويه فإنه لا بد أن يلحق للكفار حينئذ ذلة وصغار. ولما أمره أن ينفي عن نفسه علم الغيب أمره أن يقول لهم إن الله سبحانه هو العالم بالسر والعلن فيعلم ما تجاهرون به من المطاعن في الإسلام وما تكتمونه في صدوركم من الإحن والضغائن فيجازيكم على القبيلين وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ أي ما أدري لعل تأخير هذا الوعد أو إبهام وقته أو تأخير الأمر بالجهاد امتحان لكم لينظر كيف تعملون وتمتيع لكم إِلى حِينٍ حضور وقت الموعد. وقال الحسن: لعل ما أنتم عليه من الدنيا ونعيمها بلية لكم. وقيل: أراد لعل ما بينت وأعلمت وأوعدت ابتلاء لكم لأن المعرض عن الإيمان مع البيان حالا بعد حال يكون عذابه أشد. ومعنى رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ أقض بيني وبين من يكذبني بالعذاب. قال قتادة: أمره الله تعالى أن يقتدي بالأنبياء في هذه الدعوة وكانوا يقولون رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف: 89] فاستجيب له فعذبوا ببدر، وقال جار الله: بالحق لا تحابهم وشدد عليهم كما هو حقهم كما
قال «أشدد وطأتك على مضر» «1»
وقيل: معناه وافعل بيني وبينهم بما يظهر الحق للجميع تنصرني عليهم كأنه سبحانه قال له: قل داعيا إليّ رب احكم بالحق وقل متوعد للكفار وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ الذي يستعان به عَلى ما تَصِفُونَ من الشرك والكفر وما تعارضون به دعوتي من الأباطيل، وكانوا يطمعون أن يكون لهم الغلبة والدولة فقلب الله الأمر عليهم. وفي هذا الأمر تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ورفع عن مقداره حيث أمر بالانقطاع إلى الرب في دفع أذية القوم ليحصل له مع الخلاص من أذيتهم شرف الاستجابة وهذه غاية العناية.
التأويل:
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ فيه إشارة إلى أن السالك إذا عبر المقامات التي ذكرنا تصير متفرقات شمله مجتمعة في الفناء بالله والبقاء به، فيكون أمة واحدة في ذاته كما أن إبراهيم كان أمة فيعرفه الله نفسه ويقول أَنَا رَبُّكُمْ الذي بلغتكم هذه الرتبة فَاعْبُدُونِ أي فاعرفون وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ فمنهم من سكن إلى الدنيا، ومنهم من سكن إلى الجنة، ومنهم من فر إلى الله كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ أما طالب الدنيا فيرجع إلى صورة قهرنا وهي جهنم،
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأذان باب 128. مسلم في كتاب المساجد حديث 294، 295. أبو داود في كتاب الوتر باب 10. النسائي في كتاب التطبيق باب 27. الدارمي في كتاب الصلاة باب 216.(5/59)
وأما طالب الآخرة فيرجع إلى صورة رحمتنا وهي الجنة، وأما الذي يطلبنا فإنه يرجع إلينا بالحقيقة وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ في الأزل من أهل السعادة حتى إذا فتح سد يَأْجُوجُ النفس ومَأْجُوجُ الهوى، والسد أحكام الشريعة وفتحها مخالفاتها وموافقات الطبع وهم أعني دواعي النفس من كل معدن شهوة من الحواس الظاهرة والباطنة يَنْسِلُونَ فيفسدون ما يمرون عليه من القلب والسر والروح وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ إهلاك القلوب الغافلة فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ بصائرها بالانهماك في الأهواء إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى العناية الأزلية لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها أعني مقالات أهل البدع والأهواء وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ المطمئنة المجذوبة بجذبة ارْجِعِي في مقامات السير في الله خالِدُونَ الفزع الأكبر
قوله في الأزل «هؤلاء في النار ولا أبالي»
يَوْمَ نَطْوِي سماء وجود الإنسان بتجلي صفات الجلال في إفناء مراتب الوجود من الانتهاء إلى الابتداء وذلك قوله كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ يعني أن الرجوع يكون بالتدريج كما أن البدء كان بالتدريج خلق النطفة علقة ثم خلق العلقة مضغة ثم خلق المضغة عظاما ثم كسا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر. ففي الإعادة يجب أن يمر السالك من الإحساس على الحيوانية ثم النباتية ثم المعدنية ثم البسائط العنصرية ثم الملكوتية ثم الروحانية ثم إلى صفات الربوبية بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ أي في أم الكتاب مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أي بعد أن قلنا للقلم أكتب نظيره كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] أن أرض جنة الوجود الحقيقي يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ وهم الذين طويت سماء وجودهم المجازي. فالوجود المجازي لكونه غير ثابت ولا مستقر كالسماء، والوجود الحقيقي لكونه ثابتا ومستقرا على حالة واحدة كالأرض لِقَوْمٍ عابِدِينَ عارفين. وَما أَرْسَلْناكَ من كتم العدم إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ فلولاك لما خلقت الأفلاك
«أول ما خلق الله روحي»
ولولا الأزل لم تنته الهوية إلى الآخر والله أعلم.(5/60)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14) مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18) هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
(سورة الحج)
(مكية إلا قوله هذان خصمان إلى صراط الحميد حروفها خمسة آلاف ومائة وخمسة وسبعون كلمها ألف ومائتان وإحدى وتسعون آياتها ثمان وسبعون)
[سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 22]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9)
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14)
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19)
يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22)(5/61)
القراآت:
سُكارى
في الحرفين على تأويل الجماعة: حمزة وعلي وخلف وَنُقِرُّ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ بالنصب فيهما: المفضل وربأت بالهمزة حيث كان. يزيد ليضن بفتح الياء: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب خاسر الدنيا اسم فاعل منصوبا على الحالية. روح وزيد ثم ليقطع ثم ليقضوا بكسر اللام فيهما: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن عامر وورش وافق القواس في لْيَقْضُوا وزاد ابن عامر وَلْيُوفُوا وَلْيَطَّوَّفُوا وقرأ الأعشى وَلْيُوفُوا بالتشديد، وقرأ أبو بكر وحماد وَلْيُوفُوا بالتشديد وسكون اللام. الباقون بالتخفيف والسكون هذان بتشديد النون: ابن كثير.
الوقوف:
رَبَّكُمْ ج على تقدير فإن عَظِيمٌ هـ شَدِيدٌ
هـ مَرِيدٍ هـ لا لأن ما بعده صفة السَّعِيرِ هـ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ط لأن التقدير ونحن نقر ومن قرأ بالنصب لم يقف أَشُدَّكُمْ ج لانقطاع النظم في اتحاد المعنى شَيْئاً ط بَهِيجٍ هـ قَدِيرٌ هـ لا للعطف فِيها لا الْقُبُورِ هـ مُنِيرٍ هـ لا لأن ما بعده حال عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ط الْحَرِيقِ هـ لِلْعَبِيدِ هـ حَرْفٍ ج للشرط مع الفاء بِهِ لا للعطف مع الفاء مع الاستقلال عَلى وَجْهِهِ ق إلا لمن قرأ خاسر الدنيا ط وَالْآخِرَةَ ط الْمُبِينُ هـ من ينفعه ط الْبَعِيدُ هـ مِنْ نَفْعِهِ ط الْعَشِيرُ هـ الْأَنْهارُ ط ما يُرِيدُ هـ ما يَغِيظُ هـ بَيِّناتٍ ط مَنْ يُرِيدُ هـ يَوْمَ الْقِيامَةِ ط شَهِيدٌ هـ مِنَ النَّاسِ ط وقيل: يوصل ويوقف على الْعَذابُ ط مُكْرِمٍ ط ما يَشاءُ هـ فِي رَبِّهِمْ ز لعطف الجملتين المتفقتين مع أن ما بعده ابتداء بيان حال الفريقين أحدهما فَالَّذِينَ كَفَرُوا والثاني إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ مِنْ نارٍ ج هـ الْحَمِيمُ ج هـ لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا أو وصفا على أن(5/62)
اللام للجنس كما في قوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني. وَالْجُلُودُ هـ ط حَدِيدٍ هـ الْحَرِيقِ هـ.
التفسير:
إنه قد أنجز الكلام من خاتمة السورة المتقدمة إلى حديث الإعادة وما قبلها أو بعدها كوراثة المؤمنين الأرض وما معها كطي السماء، فلا جرم بدأ الله سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها حثا على التقوى التي هي خير زاد إلى المعاد ويدخل في التقوى فعل الواجبات وترك المنكرات، ولا يكاد يدخل فيها النوافل لأن المكلف لا يخاف بتركها العذاب وإنما يرجو بفعلها الثواب. ويمكن أن يقال: إن ترك النوافل قد يفضي إلى إخلال بالواجب فلهذا لا يكاد المتقي يتركها.
يروى أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمع الناس حوله فقرأهما عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول، ولم يطبخوا قدرا وكانوا من بين حزين وباك ومتفكر
وهذه الزلزلة وهي المذكورة في قوله إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: 1] ومعناها شدة التحريك، وتضعيف الحروف دليل على تضعيف المعنى كأنه ضوعف زلل الأشياء عن مقارها ومراكزها. والإضافة إضافة المصدر إلى الفاعل على المجاز الحكمي العائد إلى الإسناد في قولك «زلزلت الساعة الأرض» أو إلى المفعول فيه على الاتساع فلا مجاز في الحكم لأن المراد حينئذ هو أن فاعلها الله في القيامة قاله الحسن. وعن الشعبي هي طلوع الشمس من مغربها فتكون الإضافة بمعنى اللام كقولك «أشراط الساعة» قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن المعدوم شيء لأن الله تعالى سمى زلزلة الساعة شيئا مع أنها معدومة. أجابت الأشاعرة بأن المراد هو أنها إذا وجدت كانت شيئا عظيما. وانتصب يَوْمَ تَرَوْنَها
أي الزلزلة بقوله تَذْهَلُ
أي تغفل عن دهشة كُلُّ مُرْضِعَةٍ
وهي التي ترضع بالفعل مباشرة للإرضاع وإنما يقال لها المرضع من غيرها إذا أريد معنى أعم وهو أنه من شأنها الإرضاع بالقوة أو بالفعل كحائض وطالق. وفي هذا تصوير لهول الزلزلة كأنه بلغ مبلغا لو ألقمت المرضعة الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الخوف. و «ما» في عَمَّا أَرْضَعَتْ
مصدرية أو موصولة أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل. عن الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. وإنما قال كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ
دون كل حامل ليكون نصا في موضع الجنين فإن الحمل بالفتح هو ما كان في بطن أو على رأس شجرة، والثاني خارج بدليل العقل فبقي الأول. قال القفال: ذهول المرضعة ووضع ذات الحمل حملها يحتمل أن يكون على جهة التمثيل كقوله يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [المزمل: 17] وَتَرَى النَّاسَ(5/63)
أفرد بعد أن جمع لأن الزلزلة تراها الناس جميعا، وأما السكر الشامل للناس فإنه يراه من له أهلية الخطاب بالرؤية وقتئذ ولعله ليس إلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى
أثبت السكر أولا على وجه التشبيه فإن الخوف مدهش كالمسكر، ونفاه ثانيا على التحقيق إذ لم يشربوا خمرا وهذه أمارة كل مجاز.
روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار. قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم فقالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد، أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود.» «1»
واختلفوا في أن شدة ذلك اليوم تحصل لكل واحد أو لأهل النار خاصة فقيل: إن الفزع الأكبر يعم وغيره يختص بأهل النار وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون.
وقيل: تحصل للكل ولا اعتراض لأحد على الله.
ثم أراد أن يحتج على منكري البعث فقدم لذلك مقدمة تشمل أهل الجدال كلهم فقال وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ نظيره وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ [البقرة: 8] وقد مر إعرابه في أول البقرة. ومعنى فِي اللَّهِ في شأن الله وفيما يجوز عليه وما لا يجوز من الصفات والأفعال ويفهم من قوله بِغَيْرِ عِلْمٍ أن المعارف كلها ليست ضرورية وأن المذموم من الجدال هو هذا القسم، وأما الجدال الصادر عن العلم والتحقيق فمحمود مأمور به في قوله وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] والشيطان المريد العاتي سمي بذلك لخلوه عن كل خير وقد مر في قوله مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [التوبة: 101] والمراد إبليس وجنوده أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر. عن ابن عباس نزلت في النضر بن الحرث وكان مجادلا يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين والله غير قادر على إحياء من بلي وصار ترابا. ومعنى كُتِبَ عَلَيْهِ قضي على ذلك الشيطان أو علم من حاله وظهر وتبين، والأول يليق بأصول الأشاعرة، والثاني بأصول الاعتزال. وقيل: المراد كتب على من يتبع الشيطان، ولا يخلو عن تعسف أنه من تولى الشيطان أي جعله وليا له أضله عن طريق الجنة
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 7. مسلم في كتاب الإيمان حديث 379. الترمذي في كتاب تفسير سورة 22 باب 1، 2. أحمد في مسنده (1/ 388) (2/ 166) (3/ 32، 33) .(5/64)
وهداه إلى النار، قال صاحب الكشاف إن الأول فاعل كُتِبَ والثاني عطف عليه. وفيه نظر لأن «من» يبقى بلا جواب إن جعلت شرطية وبلا خبر إن جعلت موصولة. والصحيح أن قوله فَأَنَّهُ مبتدأ أو خبر محذوف صاحبه والتقدير من تولاه فشأنه أنه يضله أو أنه يضله ثابت اللهم إلا إذا جعلت «من» موصوفة تقديره كتب على من يتبع الشيطان أنه شخص تولى الشيطان فأنه كذا أي كتب عليه ذلك، وحين نبه عموما على فساد طريقة المجادلين بغير علم خصص المقصود من ذلك، والمعنى إن ارتبتم في البعث فمعكم ما يزيل ريبكم وهو أن تنظروا في بدء خلقكم، فبين التراب والنطفة والماء الصافي كماء الفحل لأنه ينطف نطفانا أي يسيل سيلا تاما مباينة، وكذا بين النطفة والعلقة وهي قطعة الدم الجامد لأنها إذ ذاك تعلق بالرحم، وكذا بين العلقة والمضغة وهي قدر ما يمضغ من اللحم، ولا ريب أن القادر على تقليب الإنسان في هذه الأطوار المتباينة ابتداء قادر على إعادته إلى أحد هذه الأطوار بل هذه أدخل في القدرة وأهون في القياس. قال الجوهري: المخلقة التامة الخلق. وقال قتادة والضحاك: أراد إنه يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، ومنها ما هو على عكس ذلك فلذلك يتفاوت الناس في خلقهم وصورهم وطولهم وقصرهم وتمامهم ونقصهم. وقال مجاهد: المخلقة الولد يخرج حيا، وغير المخلقة السقط لأنه لم يتوارد عليها خلق بعد خلق وقيل: المخلقة المصورة وغير المخلقة ضدها وهو الذي يبقى لحما من غير تخطيط وشكل، ويناسبه ما روى علقمة عن عبد الله قال: إذا وقعت النطفة في الرحم بعث الله ملكا فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟ فإن قال غير مخلقة مجتها الأرحام دما، وإن قال مخلقة قال: يا رب فما صفتها أذكر أم أنثى ما رزقها وأجلها أشقي أم سعيد؟
فيقول سبحانه: انطلق إلى الكتاب فاستنسخ منه هذه النطفة فينطلق الملك فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي اخر صفتها. وقوله لِنُبَيِّنَ لَكُمْ غاية لقوله خَلَقْناكُمْ أي إنما نقلناكم من حال إلى حال ومن طور إلى طور لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا. وفي ورود الفعل غير معدي إلى المبين إشعار بأن ذلك المبين مما لا يكتنه كنهه ولا يحيط به الوصف، وقيل: أراد إن كنتم في ريب من البعث فإنا نخبركم أنا خلقناكم من كذا وكذا لنبيّن لكم ما يزيل ريبكم في أمر بعثكم، فإن القادر على هذه الأشياء كيف يعجز عن الإعادة؟ ولما بين كيفية خلق الإنسان بالتدريج إلى أن تتكامل أعضاؤه أراد أن يبين أن من الأبدان ما تمجه الأرحام، ومنها ما تنطوي هي عليه إلى كمال النضج والتربية، فأسقط القسم الأول اكتفاء بالثاني فاستأنف قائلا وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ أن نقره من ذلك إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو كمال ستة أشهر إلى أربع سنين غايتها عرفت بالاستقراء ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ أي كل واحد منكم طفلا، أو الغرض الدلالة على الجنس فاكتفي بالواحد، ثُمَّ نربيكم شيئا بعد شىء(5/65)
لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ومن قرأ وَنُقِرُّ بالنصب فمعناه خلقناكم مدرجين هذا التدريج لغايتين:
إحداهما أن نبين قدرتنا، والثانية أن نقر في الأرحام من نقر حتى تولدوا وتنسلوا وتبلغوا حد التكليف. والأشد كمال القوة والتمييز كأنه شدة في غير شيء واحد فلذلك بني على لفظ الجمع قوله وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وقد مر في «النحل» شبيهه فليرجع إليه.
ثم أكد أمر البعث بالاستدلال من حال النبات أيضا فقال وَتَرَى أي تشاهد أيها المستحق للخطا الْأَرْضَ حال كونها هامِدَةً ميتة يابسة لا نبات بها، والتركيب يدل على ذهاب ما به قوام الشيء ورواؤه من ذلك. همدت النار همودا طفئت وذهبت بكليتها وهمد الثوب همودا بلي فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ تحركت ولا يكاد يستعمل الاهتزاز إلا في حركة تصدر عن سرور ونشاط وَرَبَتْ انتفخت وزادت كما مر في قوله زَبَداً رابِياً [الرعد: 17] وذلك في «الرعد» والمراد كمال تهيؤ الأرض لظهور النبات منها. ومن قرأ بالهمزة فمعناه ارتفعت من قولهم «ربأ القوم» إذا كان لهم طليعة فوق شرف. ثم أشار إلى كمال حاله في الظهور بقوله وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي بعضا من كل صنف. بَهِيجٍ والبهجة النضارة وحسن الحال ولهذا قال المبرد: هو الشيء المشرق الجميل. وإسناد الإنبات إلى الأرض مجاز لأن المنبت بالحقيقة هو الله ذلِكَ الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض مع ما في تضاعيف ذلك من عجائب الصنع وغرائب الإبداع حاصل (ب) أمور خمسة: الأول بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الثابت الذي لا يزول ملكه وملكه لا حق في الحقيقة إلا هو فما سواه يكون مستندا إلى خلقه وتكوينه لا محالة. الثاني أنه من شأنه إحياء الموتى. الثالث أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وهذا كالبيان لما تقدمه فإن القادر على كل شيء ممكن قادر لا محالة على إحياء الموتى لأنه من جملة الممكنات وبيان إمكانه ظاهر.
فإن كل ما جاز على شيء في وقت ما جاز عليه في سائر الأوقات إذ لو امتنع فإما لغيره فالأصل عدمه، وإما لذاته وهذا يقتضي أن لا يتصف به أولا فإن ما بالذات لا يزول بالغير.
الرابع والخامس قوله وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ قال في الكشاف: معناه أنه حكيم لا يخلف ميعاده، وقد وعد الساعة والبعث فلا بد أن يفي بما وعد. قلت: إن هذا التفسير غير واف فلقائل أن يقول: فحاصل الآيات يرجع إلى قولنا إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ بالتدريج وأحيينا الأرض بسبب أنا وعدنا الساعة ووعدنا صادق. وهذا كلام غير منتظم في الظاهر كما ترى، ولو صح هذا لاستغنى عن التطويل بأن يقال مثلا: لا تشكوا في أمر البعث فإنه كائن لا محالة. والذي يسنح لي في تفسيره أنه سبحانه أزال الشك في أمر البعث بقوله إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فمزيل(5/66)
ريبكم هذان الاستدلالان، ثم لما كان لسائل أن يسأل لم خلق الإنسان وما يترتب عليه معاشه؟ فأجيب بأن لهذا الشأن وهو خلق الإنسان أسبابا فاعلية وأسبابا غائية، أما الأولى فهي أنه تعالى واجب الوجود الحق وأنه قادر على كل مقدور لا سيما إحياء الموتى الذي استدللنا عليه لأنه أهون، وأن قدرته لا تظهر إلا إذا تعلقت بالمقدور، فكمال القدرة بالفعل هو أن يتعلق بكل مقدور يصح في القسمة العقلية، وهذا النوع من المقدور كان ثابتا في القسمة لأنه واسطة بين العالم العلوي والعالم السفلي وله تعلق بالطرفين وانجذاب إلى القبيلين فوجب في الحكمة والقدرة إيجاده ثم إيجاد ما يتوقف عليه بقاؤه واستكماله. وأما علته الغائية فهي أن داره الأولى كانت دار تكليف وقد هيأنا له دارا أخرى لأجل الجزاء وذلك لا يحصل إلا بالبعث والنشور. ولعل هذا الموضع مما لم يفسره على هذا الوجه غيري أرجو أن يكون صوابا والله تعالى أعلم بمراده.
قوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ عن ابن عباس أنه أبو جهل. وقيل: هو النضر أيضا وكرر للتأكيد كما كرر سائر الأقاصيص، وقال أبو مسلم: الأول في المقلدين فإنهم قد يجادلون تصويبا لتقليدهم. وهذا في المقلدين المتبوعين بدليل قوله لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال العلماء: أراد بالعلم العلم الضروري وبالهدي النظري من العلم لأنه يهدي إلى المعرفة وبالكتاب المنير العلم السمعي المتعلق بالوحي. قال بعض أهل اللغة: العطف المنكب.
وقال الجوهري: عطفا الرجل جانباه من لدن رأسه إلى وركه ويقال: «فلان ثنى عطفه عني» أي أعرض. وقيل: هو عبارة عن الكبر والخيلاء كلي الجيد. قال جار الله: لما أدى جداله إلى الضلال جعل كأنه غرضه، ولما كان الهدى معرضا له فتركه وأعرض عنه بالباطل جعل كالخارج بالجدال، وفسر الخزي هاهنا بما أصابه يوم بدر. ذلِكَ الذي مني به شيء من خزي الدنيا وعذاب الآخرة بما قدمت يداه وباقي مباحث الآية قد سلف في آخر «آل عمران» . ثم أخبر عن شقاق أهل النفاق بقوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ أي على طرف من الدين لا في وسطه فهذا مثل لكونه مضطربا في أمر الدين غير ثابت القدم كالذي يكون على طرف العسكر ينهزم بأدنى سبب، وباقي الآية تفصيل لهذا الإجمال. قال الكلبي: نزلت في أعاريب قدموا المدينة فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله وماشيته قال: ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن به وقر. وإن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبت إلا شرا وانقلب عن دينه الذي أظهره بلسانه وفر. وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة. وقيل: نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم الأقرع بن حابس والعباس بن مرداس.
وعن أبي سعيد الخدري أن(5/67)
رجلا من اليهود أسلم فأصابته مصائب كذهاب البصر والمال والولد فتشاءم بالإسلام فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أقلني. فقال: إن الإسلام يسبك كما تسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة والإسلام لا يقال ونزلت الآية.
والفتنة هاهنا مخصوصة بالابتلاء بالشرور والآلام لوقوعها في مقابلة الخير وهذا على الاستعمال الغالب وإلا فالخير أيضا قد يكون سببا للابتلاء كقوله وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] ثم حكى حاله في الدارين بقوله خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ أما خسران الدنيا بعد أن أصابه ما أصاب ففقدان العزة والكرامة والغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء، وكون عرضه وماله ودمه مصونة، وأما الآخرة فحرمان الثواب وحصول العقاب أبد الآباد، ولا خسران أبين من هذا نعوذ بالله منه. وفي قوله يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية. دلالة على أن المذكورة قبلها إنما نزلت في أهل النفاق من المشركين لا من اليهود فإنهم لا يعبدون الأصنام نعم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. قوله يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ الآية. فيه بحث لفظي وبحث معنوي. أما الأول فهو أن يَدْعُوا بمعنى «يقول» والجملة بعده محكية، و «من» موصولة أو موصوفة وعلى التقديرين هو مع تمامه مبتدأ ما بعده وهو لَبِئْسَ الْمَوْلى خبره واللام الثانية في الخبر لتأكيد اللام الأولى، وهذا حسن بخلاف قوله «أم الحليس لعجوز» فإنه أدخل لام الابتداء في الخبر على سبيل الاستقلال ويجوز أن يكون يَدْعُوا تكرارا للأول وما بعده جملة مستأنفة على الوجه المذكور. وفي حرف عبد الله لَمَنْ ضَرُّهُ بغير لام ووجهه ظاهر، وعلى هذا يكون قوله لَبِئْسَ الْمَوْلى جملة مستقلة. والمولى الناصر، والعشير المعاشر أي الصاحب. وأما البحث المعنوي. فهو أنه نفى الضرر والنفع عن الأصنام أولا ثم أثبتهما لها ثانيا حين قال ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فما وجه ذلك؟ والجواب أن المقصود في الآية الثانية رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم في الشدائد مستصوبين آراءهم، لأن وصف المولى والعشير لا يليق إلا بالرؤساء. سلمنا أنه أراد في الموضعين الأصنام إلا أنه أثبت الضر لها مجازا لأنها سبب الضلال الذي هو سبب عذاب النار نظيره رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 36] وأثبت لها النفع بناء على معتقدهم أنها شفعاؤهم عند الله. والمراد يقول:
هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ولا يرى أثر الشفاعة لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ذلك، أو أراد يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه، ثم قال: لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا لبئس المولى.
ثم لما بين حال المنافقين والمشركين أتبعها حال المؤمنين الذين معبودهم قادر على إيصال كل المنافع فقال إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الآية. قالت الأشاعرة: في قوله إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ(5/68)
دليل على أنه خالق الإيمان وفاعله لأنه يريد الإيمان من العبد بالاتفاق. أجاب الكعبي بأنه يفعل ما يريده لا ما يريد أن يفعله غيره، ورد بأن ما يريد أعم من قولنا ما يريده من فعله وما يريد من فعل غيره. قوله سبحانه مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ في هذا الضمير وجهان: الأول وهو قول ابن عباس والكلبي ومقاتل والضحاك وقتادة وابن زيد والسدي واختيار الفراء والزجاج أنه يرجع إلى محمد صلى الله عليه وسلم للعلم به لأن ذكر الإيمان يدل على الإيمان بالله ورسوله، وعلى هذا فالظان من هو؟ قيل: كان قوم من المسلمين لشدة غيظهم على المشركين يستبطئون النصر فنزلت. وعندي في هذا القول بعد. وعن مقاتل نزلت في نفر من أسد وغطفان قالوا: نخاف أن الله لا ينصر محمدا فينقطع الذي بيننا وبين حلفائنا من اليهود والأولى العموم. وكان حساده وأعداؤه يتوقعون أن لا ينصره الله وأن الله لا يغلبه على أعدائه فمتى شاهدوا أن الله ينصره غاظهم ذلك، والسبب الحبل، والسماء سماء البيت، والقطع الاختناق لأن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه، والمراد من كان يظن من حاسديه أن الله تعالى يفعل خلاف النصر والظفر وكان يغيظه نصرة الله إياه فليستفرغ جهده في إزالة ما يغيظه، وليس ذلك إلا بأن يمد حبلا إلى سماء بيته ثم يشده في عنقه ويختنق في عنقه وليصور في نفسه أنه إن يفعل ذلك هل يذهبن كيده ما يغيظه، سمى فعله كيدا حيث لم يقدر على غيره أو على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده وإنما كاد به نفسه. والحاصل ليس في يده إلا ما ليس بمذهب لما يغيظ، ومنهم من قال: السماء هي المظلة لأن الاختناق حينئذ أبعد عن الإمكان فيكون أصعب فيصرف الحاسد عن الغيظ إلى طاعة الله ورسوله.
ومنهم من قال: مع ذلك أن القطع هو قطع المسافة أي فليصعد على الحبل إلى السماء، والغرض تصوير مشقة من غير فائدة، أو القطع قطع الوحي أو النصر أي فليصعد وليقطع الوحي أن ينزل عليه أو النصر أن يأتيه. الوجه الثاني أن الضمير عائد إلى «من» والنصر الرزق. قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصره الله أي من يعطيني أعطاه الله. ووجه النظم من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فلهذا الظن يعدل عن التمسك بدين محمد وينقلب على وجهه كما مر فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق أو غير ذلك مما عددنا، فإن الله لا يقلبه مرزوقا. وحين بين الأحوال وضرب الأمثال أشار إلى هذا المذكور بلفظ البعيد إما للتعظيم وإما لأن كل ما دخل في حيز الذكر وحصل في حيز كان فهو في حكم البعيد فقال وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ حرف التعليل وكذا معلله محذوف للعلم به أي ولأن الله يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ أنزله كذلك مبينا. قالت الأشاعرة: المراد بالهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة والأول غير جائز، لأن الله تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين، ولأن قوله يَهْدِي مَنْ(5/69)
يُرِيدُ
يدل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي معلقة بمشيئته، ووضع الأدلة واجب فتعين أن المراد خلق المعرفة. أجاب القاضي عبد الجبار بأنه أراد تكليف من يريد لأن التكليف لا يخلو من وصف ما كلف به ومن بيانه، أو أراد يهدي إلى الجنة، والإثابة من يريد ممن آمن وعمل صالحا، أو يهدي به الذين يعلم منهم الإيمان أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى، وإلى هذين الوجهين أشار الحسن بقوله أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي من قبل لا من لم يقبل. واعترض بأن الله سبحانه وتعالى ذكر هذا الكلام بعد بيان الأدلة والجواب عن الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف، وأما الوجوه الأخر فخلاف الظاهر مع أن ما ذكرتموه واجب عندكم على الله وقوله مَنْ يُرِيدُ ينافي الوجوب.
ثم أراد أن يميز بين المهدي من الفرق وبين الضال منهم فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية قال مقاتل: الأديان ستة: واحد لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان قلت: فالمؤمنون واليهود والنصارى تشترك في القول بالإله والنبي وتفترق بالاعتراف بعموم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبعدم الاعتراف به، والصابئون قد تجعل من جنس النصارى وقد تجعل من غيرهم، والمجوس قولهم في البابين مضطرب لأن الإله عندهم اثنان ونبيهم ليس بنبي في الحقيقة وإنما هو متنبىء، والمشركون لا نبي لهم ولا كتاب. قال أهل البرهان: قدم النصارى على الصابئين في أوائل البقرة لأنهم أهل كتاب وعكس هاهنا لأن الصابئين مقدمة عليهم بالزمان، وفي المائدة يحتمل الأمران أي والصابئون كذلك أو هم والنصارى إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أي يقضي بين المؤمنين وغيرهم وتكرير إن في الخبر لزيادة التأكيد والفصل مطلق يحتمل الفصل في الأحوال وفي المواطن أيضا إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فلا يجري في قضائه ظلم ولا حيف أَلَمْ تَرَ أي تعلم بإخبار الله والمراد أن هذه الأجسام غير ممتنعة عما يريد الله إحداثه فيها من أنواع تصرفاته وتدبيراته وهذا بين، قال العلماء: قوله وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ليس بمعطوف على ما قبله من المفردات لأن السجود بالمعنى المذكور يتناول كل الناس ولا يختص ببعضهم لدليل العقل، ولأن قوله وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يتناول الثقلين جميعا والعطف يوهم التخصيص بالبعض. ولا يمكن أن يكون السجود بالنسبة إلى كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة وبالنسبة إلى غيرهم بمعنى نفوذ مشيئة الله فيها لأن اللفظ المشترك لا يصح استعماله في مفهوميه معا، فهو إذن مرفوع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة أيضا. وهو مبتدأ محذوف الخبر وهو مثاب لأن الخبر دليل عليه وهو قوله حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ أو هو مبتدأ وخبر أي وكثير من المكلفين من الناس الذين هم الناس على الحقيقة فكأنه أخرج الذين وجب عليهم العذاب(5/70)
من جملة الناس لأنهم أشبه بالنسناس أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: 179] أو قوله ثانيا وَكَثِيرٌ تكرار للأول لأجل المبالغة كأنه قيل: وكثير من الناس حق عليهم العذاب، وباقي الآية دليل على أن الكل بقضائه وقدره والإكرام والإهانة من عنده وبسابق علمه وسابق مشيئته، فمن أهانه في الأزل لم يكرمه أحد إلى الأبد. عن ابن عباس أن قوله هذانِ خَصْمانِ راجع إلى أهل الأديان الستة أي هما فوجان أو فريقان خصمان والخصم صفة وصف بها المحذوف. وإنما قيل اخْتَصَمُوا نظرا إلى المعنى. وقيل: إن أقل الجمع اثنان. ومعنى فِي رَبِّهِمْ أي في دينه وصفاته فقال المؤمنون في شأنه قولا وقال الكافرون قولا. وروي أن أهل الكتاب قالوا للمؤمنين نحن أحق بالله وأقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم. وقال المؤمنون: نحن أحق بالله منكم آمنا بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبنبيكم وبجميع الكتب وأنتم تعرفون كتابنا ونبينا ثم تتركونه حسدا فنزلت. وعن قيس بن عبادة عن أبي ذر الغفاري أنه كان يحلف بالله أنها نزلت في ستة نفر من المسلمين: علي وحمزة وعبيدة بن الحرث، ومن المشركين عتبة وشيبة والوليد بن عتبة.
فقال علي رضي الله عنه: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة.
وعن عكرمة هما الجنة والنار. قالت النار:
خلقني الله لعقوبته. وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته، فقص الله من خبرهما على محمد صلى الله عليه وسلم والأقرب هو الأول. وقوله فَالَّذِينَ كَفَرُوا فصل الخصومة المعني بقوله إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وقوله قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ فيه أنه تعالى يقدر لهم نيرانا على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة، أو المراد أن تلك النيران مظاهرة عليهم كالثياب المظاهرة على اللابس بعضها فوق بعض. وعن سعيد بن جبير أن قوله مِنْ نارٍ أي من نحاس أذيب بالنار كقوله سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: 50] والحميم الماء الحار. عن ابن عباس: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها. ومعنى يُصْهَرُ يذاب صهرت الشيء فانصهر أي أذبته فذاب فهو صهير أي يذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد: 15] لأن تأثير الشيء من الظاهر في الباطن أبلغ من تأثيره في الباطن. قال في الكشاف: المقامع السياط وقال الجوهري: المقمعة واحدة المقامع مِنْ حَدِيدٍ كالمحجن يضرب على رأس الفيل.
وفي الحديث «لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها» «1»
والإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ففي الآية إضمار أي كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ فخرجوا أُعِيدُوا فِيها أو المراد بالإرادة المداناة والمشارفة كقوله يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (3/ 29) .(5/71)
[الكهف: 77] وهذا أقرب كقوله لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ [البقرة: 162] ويؤيده ما يروى عن الحسن أن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهو وافيها سبعين خريفا. وإنما اختصت هذه السورة بقوله مِنْ غَمٍّ وهو الأخذ بالنفس حتى لا يجد صاحبه مخلصا لأنه بولغ هاهنا في أهوال النار بخلاف ما في السجدة وإنما أضمر هاهنا قبل قوله وَذُوقُوا بخلاف «السجدة» . وقيل لهم ذوقوا لأنه وقع الاختصار هاهنا على عَذابَ الْحَرِيقِ وهناك أطنب فقيل ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20] وأيضا قد تقدم ذكر القول في تلك السورة كثيرا بخلافه هنا والله تعالى أعلم.
التأويل:
إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ هلاك الاستعداد الفطري شَيْءٌ عَظِيمٌ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ
هي مواد الأشياء فإن لكل شيء مادة ملكوتية ترضع رضيعها من الملك وتربيه وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ
وهي الهيوليات حَمْلَها
وهو الصور الكمالية التي خلقت الهيوليات لأجلها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
الغفلة والعصيان وحب الدنيا والجاه والرياسة وغيرها وَما هُمْ بِسُكارى
العشق والمحبة والمعرفة فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ أي كنتم ترابا ميتا فبعثنا التراب بأن خلقنا منه آدم، ثم أمتنا منه النطفة، ثم بعثناها بأن جعلناها علقة ثم مضغة ثم خلقا آخر لنبين لكم أمر البعث والنشور وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ أمهات العدم ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت إيجاده بحسب تعلق الإرادة به، وفيه دليل على أنه لا يبعد أن يكون الفاعل كاملا في فاعليته ولكن لا تتعلق إرادته بالمقدور فيبقى في حيز العدم إلى حين تعلق الإرادة به، ومنه يظهر حدوث العالم ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا من أطفال المكونات خارجا من رحم العدم مستعدا للتربية والكمال. وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى عن الشهوات فيحيا بحصول الكمالات وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أسفل سافلين الطبيعة وَتَرَى أرض القالب هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا ماء حياة المعرفة والعلم اهْتَزَّتْ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ في الإلهية وَأَنَّهُ يُحْيِ القلوب الميتة وَأَنَّ السَّاعَةَ قيامة العشق والخدمة للطالبين الصادقين آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ القلوب المحبوسة في قبور الصدور عَذابَ الْحَرِيقِ بنار الشهوات لكنه لا يحس بها في الدنيا لأنه نائم بنوم الغفلة فإذا مات انتبه مَنْ كانَ يَظُنُّ فيه أن العبد يجب أن يكون حسن الظن بالله ثُمَّ لْيَقْطَعْ مادة تقديري في الأزل ونزول أحكامي في القدر فَلْيَنْظُرْ هَلْ ينقطع أم لا هذانِ خَصْمانِ يعني النفس الكافرة والروح المؤمنة قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ بتقطيع خياط القضاء على قدرهم وهي ثياب نسجت من سدى مخالفات الشرع ولحمة موافقات الطبع. يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ حميم الشهوات النفسانية. وفي لفظ الفوق دلالة على أنهم مغلوبون تحتها، وفيه أن الخيالات الفاسدة(5/72)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
تنصب من الدماغ إلى القلب. يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ من الأخلاق الحميدة الروحانية وَالْجُلُودُ أي يفسد أحوالهم الباطنة والظاهرة بفساد تخيلاتهم، ولا مخلص لهم عن دركات تلك الملكات لغاية رسوخها والله أعلم بالصواب.
[سورة الحج (22) : الآيات 23 الى 41]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)(5/73)
القراآت:
وَلُؤْلُؤاً بهمزتين منصوبا: نافع وحفص. مثله ولكن بتخفيف الأولى واوا ساكنة: أبوبكر وحماد وزيد وكذلك في سورة فاطر. وقرأ سهل ويعقوب والمفضل هاهنا بالهمزة والنصب. وفي «فاطر» بالهمز والخفض. الباقون بالهمز والخفض في السورتين سَواءً بالنصب: حفص وروح وزيد. الآخرون بالرفع. والبادي بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن كثير وافق أبو عمرو وأبو جعفر ونافع غير قالون في الوصل. بَوَّأْنا مثل أَنْشَأْنا بَيْتِيَ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وحفص وهشام. فَتَخْطَفُهُ بتشديد الطاء:
أبو جعفر ونافع الرياح يزيد طريق المفضل وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ بالنصب على تقدير النون: عباس مَنْسَكاً ونحوه بكسر السين: حمزة وعلي وخلف لن تنال الله بتاء التأنيث: يعقوب ولكن تناله بالتأنيث أيضا زيد يُدافِعُ من الدفع: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب الباقون يُدافِعُ من المدافعة أُذِنَ مبنيا للمفعول: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم يُقاتَلُونَ مبنيا للمفعول أيضا: أبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص الآخرون مبنيا للفاعل فيهما. دفاع بألف: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب لَهُدِّمَتْ مخففا: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وسهل وحمزة وعلي وخلف مشددا مدغما الباقون مشددا.
الوقوف:
وَلُؤْلُؤاً ط مِنَ الْقَوْلِ ج للعطف مع تكرار وَهُدُوا الْحَمِيدِ هـ وَالْبادِ هـ ط أَلِيمٍ هـ السُّجُودِ هـ عَمِيقٍ هـ لا لتعلق اللام الْأَنْعامِ ج للابتداء بالأمر مع الفاء الْفَقِيرَ هـ للعطف مع العدول الْعَتِيقِ هـ ذلِكَ ق قد قيل: لأن المراد ذلك على ما ذكر أو الأمر والشأن ذلك ثم يبتدأ بالشرط عِنْدَ رَبِّهِ ط الزُّورِ هـ لا مُشْرِكِينَ بِهِ ط سَحِيقٍ هـ ذلِكَ ق الْقُلُوبِ هـ الْعَتِيقِ هـ الْأَنْعامِ ط أَسْلِمُوا ط الْمُخْبِتِينَ هـ لا لاتصال الوصف الصَّلاةِ هـ يُنْفِقُونَ ج هـ خَيْرٌ ق والوصل أحسن للفاء صَوافَّ ج للشرط مع الفاء وَالْمُعْتَرَّ ط تَشْكُرُونَ هـ مِنْكُمْ ط هَداكُمْ ط الْمُحْسِنِينَ هـ آمَنُوا ط كَفُورٍ هـ ظُلِمُوا ط لَقَدِيرٌ هـ لا بناء على أن الَّذِينَ بدل من الضمير في نَصْرِهِمْ رَبُّنَا اللَّهُ ط كَثِيراً هـ يَنْصُرُهُ ط عَزِيزٌ هـ الْمُنْكَرِ ط الْأُمُورِ هـ.
التفسير:
لما ذكر حال أحد الخصمين في الآخرة أراد أن يذكر حال الآخر وهو(5/74)
المؤمن ولهذا ألزم التكرار، إلا أنه يفطن بهذه الآية فائدة أخرى هي بيان أن أهل الجنة يحلون فيها وقد مر مثله في أوائل الكهف. ومن قرأ لُؤْلُؤاً بالنصب فعلى تقدير ويؤتون لؤلؤا لأن السوار من اللؤلؤ غريب إلا أن يكون شيئا منظوما منه. وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ عن ابن عباس هو قولهم الحمد لله الذي صدقنا وعده يلهمهم الله ذلك وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ أي إلى طريق المقام المحمود وهو الجنة أو إلى صراط الله كقوله إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ [إبراهيم: 1] وقال السدي: الطيب من القول هو القرآن. وقيل: شهادة أن لا إله إلا الله وقال حكماء الإسلام:
هو كشف الغطاء عن الحقائق الروحانية والمعارف الربانية، ثم كرر وعيد أهل الكفر ومن داناهم فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ إنما حسن عطف المستقبل على الماضي لأنه أراد به الاستمرار وأنه من شأنهم الصد وكأنه قيل: كفروا واستمروا على الصد. وقال أبو علي الفارسي. كفروا في الماضي وهم الآن يصدون.
عن ابن عباس أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه عام الحديبية عن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهدي.
ومن قرأ سَواءً بالنصب فعلى أنه مفعول ثان لجعلنا أي جعلناه مستويا الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ومن قرأ بالرفع فعلى أن الْعاكِفُ مبتدأ وسَواءً خبر مقدم والجملة مفعول ثان ويجوز أن يكون لِلنَّاسِ مفعولا ثانيا أي جعلناه متعبدا لكل من وقع عليه اسم الناس، وقوله سَواءً إلى آخره الجملة بيان لذلك الجعل أي لا فرق بين الحاضر المقيم به وبين الطارئ من البدو، واختلفوا في أن المكي والآفاقي يستويان في أي شيء. فعن ابن عباس في بعض الروايات أنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها للآية بناء على أن المراد بالمسجد الحرام مكة، ولما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال «مكة مباحة سبق إليها»
وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وهو قول قتادة وسعيد بن جبير أيضا، ولأجل ذلك زعموا أن كراء دور مكة حرام. والأكثرون على أنهما مستويان في العبادة في المسجد ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم «يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» «1»
وعلى هذا فلا منع من بيع دور مكة وإجارتها وهو مذهب الشافعي وقد جرت المناظرة بينه وبين إسحق الحنظلي وكان إسحق لا يرخص في كراء دور مكة فاحتج الشافعي بقوله تعالى الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الحج: 40] بأن عمر اشترى دار السجن فسكت إسحق
__________
(1) رواه البخاري في كتاب مسجد مكة باب 2.(5/75)
وإنما ذهب الأولون إلى أن المراد بالمسجد الحرام هاهنا مكة كلها لأنه جعل العاكف فيه بأزاء البادي. أجاب الأكثرون بأنه أراد بالعاكف المجاور للمسجد المتمكن في كل وقت من التعبد فيه. والإلحاد العدول عن القصد كما مر في قوله وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الأعراف: 180] وقوله بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ حالان ومفعول يُرِدْ متروك ليفيد العموم أي ومن يرد فيه مرادا ما جائرا ظالما. وفائدة الحال الثانية أن العدول عن القصد قد يكون بالحق كقوله وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ [الشورى: 40] واختلفوا في الإلحاد في الحرم فعن قتادة وسعيد بن جبير وابن عباس في رواية عطاء أنه الشرك يعني من لجأ إلى حرم الله ليشرك به عذبه الله.
وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن حنظلة حيث قتل الأنصاري وهرب إلى مكة كافرا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله يوم الفتح وهو العذاب الأليم.
وعن مجاهد أنه الاحتكار.
وقيل: المنع من عمارته. وعن عطاء: هو قول الرجل في المبايعة «لا والله» وبلى والله. ومثله ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فقيل له في ذلك فقال: كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل «لا والله» و «بلى والله» . والأولى التعميم. وفيه أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في مهامه ومقاصده، وهذا وإن كان واجبا في كل مكان إلا أن وجوبه هناك أوكد فللمكان خاصية كما للزمان ولهذا قال مجاهد: تضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات. عن ابن مسعود: أن القصد إلى الذنب يكتب هناك ذنبا وإن لم يخرج إلى الفعل. وعنه لو أن رجلا يهم بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله تعالى عذابا أليما. واعلم أن خبر إن محذوف لدلالة جواب الشرط عليه كأنه قيل: إن الذين كفروا ويصدون نذيقهم من عذاب أليم ومن يرد في الحرم بإلحاد فهو كذلك، وحين انجر الكلام إلى ذكر المسجد الحرام أتبعه ذكر الكعبة وبعض ما يتعلق به من المناسك فقال وَإِذْ بَوَّأْنا أي وأذكر حين جعلنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ مباءة أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة،
ويروى أن موضع البيت كان مطموسا فبعث الله تعالى ريحا كنست ما حوله حتى ظهر أسه القديم فبنى إبراهيم عليه
وقد مر قصة ذلك في «البقرة» . وقيل: بعث غمامة على قدر البيت الحرام في العرض والطول وفيها رأس يتكلم وله لسان وعينان فقال: يا إبراهيم ابن على قدري فأخذ في البناء وذهبت السحابة. وأن في أَنْ لا تُشْرِكْ هي المفسرة وذلك أن المقصود من التوبة هو العبادة فكأنه قيل: تعبدنا لإبراهيم قلنا له: لا تشرك وطهر وقد مر مثله في «البقرة» . وإنما قال هاهنا وَالْقائِمِينَ لأن العاكف ذكر مرة في قوله سَواءً الْعاكِفُ والقائم إما بمعنى القيام في الصلاة بدليل قوله وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أو بمعنى المقيم(5/76)
المتوطن. والظاهر أن الخطاب في وَأَذِّنْ لإبراهيم أيضا أي ناد فِي النَّاسِ وهو أن يقول حجوا أو عليكم بِالْحَجِ
يروى أنه صعد أبا قبيس فقال: أيها الناس حجوا بيت ربكم،
قال مجاهد: فما حج إنسان ولا يحج إلى القيامة إلا وقد سمع ذلك النداء من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فمن أجاب مرة حج مرة ومن أجاب أكثر فأكثر. ولعل الفائدة في قوله يَأْتُوكَ هي هذه لأن الإتيان إلى مكة بسبب ندائه إتيان إليه. وأيضا هو أول من حج وغيره يقتدي به وكأنه يأتيه. وعن الحسن وهو اختيار أكثر العلماء المعتزلة أن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه معطوف على «أذكر» مقدرا، ثم إنه عام لجميع الناس أو خاص بمن حج معه في حجة الوداع قولان. وقيل: إنه ابتداء فرض الحج والرجال المشاة واحده راجل.
وقوله وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ حال آخر كأنه قيل رجالا وركبانا. والضامر البعير المهزول لطول السفر. ويَأْتِينَ صفة ل كُلِّ ضامِرٍ لأنه في معنى الجمع. والفج الطريق الواسع وقد مر في السورة المتقدمة. والعميق البعيد ومثله معيق وبه قرأ ابن مسعود. وفي تقديم المشاة تشريف لهم.
روى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة من حسنات الحرم. قيل: يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة بمائة ألف حسنة»
قال جار الله: نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات وقد كنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله تعالى لأن المسلمين لا ينفكون عن التسمية إذا نحروا أو ذبحوا، وفيه تنبيه على أن التسمية من الأغراض الأصلية المعتبرة خلاف ما كان يفعله المشركون من الذبح للنصب. وفي قوله عَلى ما رَزَقَهُمْ إشارة إلى أن نفس القربان وتيسير ذلك العمل من نعم الله تعالى ولو قيل «لينحروا في أيام معلومات بهيمة الأنعام» لم يكن شيء من هذه الفوائد. والأيام المعلومات عند أكثر العلماء عشر ذي الحجة الأول آخرها يوم النحر لأنها معلومة عند الناس لحرصهم على أعمال الحج فيها. ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة والمعشر الحرام، كذلك للذبح وقت بعينه وهو يوم النحر وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس واختيار الشافعي وأبي حنيفة.
وعن ابن عباس في رواية أخرى أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعدها وهو اختيار أبي مسلم وقول أبي يوسف ومحمد. وعلى الأول يكون قوله فِي أَيَّامٍ متعلقا بكلا الفعلين أعني لِيَشْهَدُوا وَيَذْكُرُوا وعلى الثاني يختص تعلقه بالثاني. ومعنى بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ بهيمة من الأنعام لأن البهيمة تشمل كل ذات أربع في البر والبحر فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز، وقد مر في أول المائدة قال مقاتل: إذا ذبحت فقل «بسم الله والله(5/77)
أكبر اللهم منك وإليك» وتستقبل القبلة. وزاد الكلبي «إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين» . قال القفال: كأن المتقرب بها وبإراقة دمائها متصور بصورة من يفدي نفسه بما يعادلها فكأنه يبذل تلك الشاة بذل مهجته طلبا لمرضاة الله واعترافا بأن تقصيره كاد يستحق مهجته. أما قوله فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ فالبائس الذي أصابه بؤس أي شدة والفقير قد مر في آية الصدقات في «التوبة» وفي غيرها. ثم من الناس من قال: الأمران للوجوب لأن أهل الجاهلية كانوا لا يأكلون منها فأمر المسلمون بمخالفتهم. والأكثرون على أن الأكل ليس بواجب. ثم منهم من قال: يحسن أن يأكل النصف ويتصدق بالنصف رعاية للأمرين. ومنهم من قال: يأكل الثلث ويتصدق بالثلثين لما يجيء من قوله فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ فجعلها على ثلاثة أقسام ومنهم من قال: يأكل الثلث ويدخر الثلث ويتصدق بالثلث لما جاء في الحديث من الأمر بالادخار. والأولى وهو مذهب الشافعي أنه إن أطعم جميعها أجزأه، وإن أكل جميعها لم يجزئه، وإذا تصدق بأقل شيء من لحمها يكفي هذا إذا كان متطوعا. وأما الواجبات كالنذور والكفارات وجبران النقصانات مثل دم القران ودم التمتع ودم الإساءة فلا يأكل منها لا هو ولا أغنياء الرفقة ولا فقراؤها لما
روي عن هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية الخزاعي قال: قلت: يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من البدن؟ قال: أنحرها ثم أغمس نعلها في دمها ثم خل بين الناس وبينها يأكلونها.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم في مثله: لا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك.
قوله ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ لا يبعد أن يكون معطوفا على لِيَشْهَدُوا فإن هذه الأعمال كلها غايات للإتيان إلا أن إسكان هذه اللامات في بعض القراآت يدل على أنها لام الأمر وعلى هذا تكون هذه الأوامر الغائبة معطوفة على الأمرين الحاضرين قبلها والله أعلم. قال أبو عبيدة: لم يجيء في الشعر ما يحتج به في معنى التفث. وقال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير. وقال القفال: قال نفطويه: سألت أعرابيا فصيحا ما معنى قوله ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ؟ فقال: ما أفسر القرآن ولكنا نقول للرجل: ما أتفثك وما أدرنك! ثم زعم القفال أن هذا أولى من قول الزجاج لأن المثبت أولى من النافي. وقال المبرد: أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها. وأجمع أهل التفسير على أن المراد هاهنا إزالة الأوساخ والزوائد كقص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة. فتقدير الآية ثم ليقضوا إزالة تفثهم وليوفوا نذورهم أي الأعمال التي أوجبها الحج بالشروع فيه، أو أعمال البر التي أوجبوها على أنفسهم بالنذر فإن الرجل إذا حج أو اعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدي وغيره ما لولا إيجابه لم يكن الحج يقتضيه. وَلْيَطَّوَّفُوا هو طواف الإفاضة والزيارة(5/78)
التي هي ركن وقد شرحت حاله في البقرة في قوله فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [البقرة:
198] وقيل: هو طواف الوداع والصدر. سمي بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن،
وقال قتادة: لأنه أعتق من تسلط الجبابرة عليه وهو قول ابن عباس وابن الزبير ورووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عيينة لأنه لم يملك قط. وعن مجاهد لأنه أعتق من الغرق أيام الطوفان. وقيل: معناه البيت الكريم من قولهم «عتاق الخيل والطير» . والحرمة ما لا يحل هتكه وجميع التكاليف بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، ويحتمل أن يراد هاهنا ما يتعلق بالحج، عن زيد بن أسلم أن الحرمات خمس: الكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمحرم حتى يحل. وتعظيمها العلم بوجوبها والقيام بحقوقها. وقوله فَهُوَ خَيْرٌ أي فالتعظيم له خير من التهاون بذلك. وقوله عِنْدَ رَبِّهِ إشارة إلى أن ثوابه مدخر لأجله.
قوله وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ قد مر في أول «المائدة» مثله أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه وهي حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] أو قوله غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: 1] أو قوله وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 121] وحين حث على تعظيم الحرمات أتبعه الأمر بما هو أعظم أنواعها وأقدم أصنافها قائلا فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ وبينه بقوله مِنَ الْأَوْثانِ أي الرجس الذي هو الأوثان كقولك «عندي عشرون من الدراهم» . والرجس العمل القبيح في الغاية وقد مر في آخر المائدة في تفسير قوله رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [الآية: 90] والزور من الزور الميل والإضافة كقولهم «رجل صدق» جمع بين القول الزور وبين الشرك لأن عبادة الأوثان هي رأس الزور وملاكه.
قال الأصم: وصف الأوثان بأنها رجس لأن عادتهم في القرابين أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها، والأقرب أنها وصفت بذلك لأن عبادتها فعلة متمادية في القبح والسماجة.
وللمفسرين في قول الزور وجوه منها: أنه قولهم هذا حلال وهذا حرام. ومنها أنه شهادة الزور رفعوا هذا التفسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها أنه الكذب والبهتان. ومنها أنه قول أهل الجاهلية في الطواف «لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.» وقوله حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ حالان مؤكدان والمراد الإخلاص في التوحيد كقوله حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: 120] وفائدة الحالين هي فائدة التولي والتبري وإنما أخر نفي الإشراك وإن كان مقدما في الرتبة إذ التخلية والتبرئة مقدمة على التحلية والتولية ليرتب عليه قوله وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ الآية. قال جار الله: إن كان تشبيها مركبا فمعناه من أشرك بالله فقد أهلك نفسه غاية الإهلاك وذلك بأن صور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفته أي استلبته الطير فتفرق مزعا أي قطعا من اللحم في حواصلها، أو بحال من خر فعصفت به(5/79)
الريح حتى هوت به في بعض المطاوح السحيقة البعيدة. وإن كان مفرقا فقد شبه الإيمان في علوه بالسماء، والذي تركه فأشرك فقد سقط منها والإهواء التي توزع أفكاره بالطير المتخطفة، وفي المثل الآخر شبه الشيطان الذي يطرح به في وادي الضلالة بالريح التي تهوي بالأشياء في المهاوي المتلفة. وتعظيم شعائر الله وهي الهدايا كما مر في أول «المائدة» هي أن يختارها عظام الأجرام غالية الأثمان. وقد مر وصفها الشرعي في «البقرة» في قوله فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [الآية: 196] وقد أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فيها جمل لأبي جهل في أنفه برة من ذهب قال في الكشاف فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ أي فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بد من راجع من الجزاء إلى من ليرتبط به. وأقول: في هذا الوجوب نظر لأنه ليس بشرعي ولا بعقلي على ما تزعم المعتزلة. أما المضاف الأول فلأنه يحتمل أن يعود الضمير إلى التعظيم بمعنى الخلة، وأما الآخران فلأن «من» للعموم فلا يلزم أن يقدر لفظة منه، أو فاعل التعظيم موحدين حتى لا يطابقها لفظ القلوب بل يحتمل أن يقدر لفظة منهم أو يقدر فإن تعظيمهم إياها فيرجع الكلام إلى قولنا وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فإن تلك الخلة منهم من تقوى القلوب أي ناشئة من تقوى قلوبهم، فإن القلوب مراكز التقوى التي منها عيارها وعليها مدارها ولا عبرة بما يظهر من آثارها على سائر الجوارح دونها. ثم كان لسائل أن يسأل: ما بال هذه الحيوانات تذبح فيتقرب بها إلى الله تعالى؟ فلهذا قال لَكُمْ فِيها مَنافِعُ يعني الدنيوية من الدر وركوب الظهر وسيشير إلى الدينية بقوله لَكُمْ فِيها خَيْرٌ ولهذا أطلق ذلك وقيد هذه بقوله إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو أوان النحر. ثم بين أن وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها أو مكان نحرها منته إلى البيت أو إلى ما يجاوره ويقرب منه وهو الحرم كما مر في قوله هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [المائدة: 95] ومثله قوله «بلغنا البلد» إذا شارفوه واتصل مسيرهم بحدوده. قال القفال: هذا إنما يختص بالهدايا التي بلغت مني، فأما إذا عطبت قبل بلوغ مكة فإن محلها هو موضعها.
روى أبو هريرة أنه صلى الله عليه وسلم مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد فقال صلى الله عليه وسلم: اركبها فقال: يا رسول الله إنها هدي. فقال: اركبها ويلك.
وعن جابر أنه صلى الله عليه وسلم قال: اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا.
وهذا هو الذي اختاره الشافعي. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز الانتفاع بها لأنه لا يجوز إجارتها ولو كان مالكا لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها. وضعف بأن أم الولد لا يمكنه بيعها ويمكنه الانتفاع بها. وممن ذهب إلى هذا القول من فسر الأجل المسمى بوقت تسميتها هديا، والمراد أن لكم أن تنتفعوا بهذه الأنعام إلى أن تسموها أضحية وهديا فإذا فعلتم ذلك فليس لكم أن تنتفعوا بها. وقد ينسب هذا القول إلى ابن عباس(5/80)
ومجاهد وعطاء وقتادة والضحاك. أجاب الأولون بأن الضمير في قوله لَكُمْ فِيها مَنافِعُ عائد إلى الشعائر، وتسمية ما سيجعل شعيرة مجاز والأصل عدمه. قال في الكشاف: «ثم» للتراخي في الوقت فاستعيرت للتراخي في الأحوال، والمعنى إن لكم في الهدايا منافع كثيرة في دنياكم ودينكم، وأعظم هذه المنافع وأبعدها شوطا في النفع محلها منتهية إلى البيت.
ومنهم من فسر الشعائر بالمناسك كلها وفسر الأجل المسمى بأوان انقطاع التكليف، وزيفه جار الله بأن محلها إلى البيت يأباه، ثم بين أن القرابين في الشرائع القديمة وإن اختلفت أمكنتها وأوقاتها فقال وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً موضعا أو وقتا يذبح فيه النسائك الذبائح كسر السين سماع وفتحها قياس. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى النسك والمراد شرعنا لكل أمة من الأمم السالفة من زمن إبراهيم إلى من قبله وبعده أن ينسكوا له أي يذبحوا لوجهه على جهة التقرب وجعل الغاية في ذلك هي أن يذكر اسمه على نحرها، ثم بين العلة في تخصيص اسمه بذلك قائلا فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لأن تفرده بالإلهية يقتضي أن لا يذكر على الذبائح إلا اسمه. ويجوز أن يتعلق هذا الكلام بأول الآية، والمعنى إنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح لا لتعدد الإله. ثم ذكر أن تفرده بالإلهية يقتضي اختصاصه بالطاعة قائلا فَلَهُ أَسْلِمُوا أي خصوه بالانقياد الكلي والامتثال لأوامره ونواهيه خالصا لوجهه من غير شائبة إشراك. ثم أمر نبيه عليه السلام بتبشير المخبتين وفسرهم بقوله الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والتركيب يدور على التواضع والخشوع ومنه الخبت للمطمئن من الأرض. وعن عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا. قال الكلبي: هم المجتهدون في العبادة. ثم عطف على المخبتين قوله وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ أي من المكاره في ذات الله كالأمراض والمحن، فأما الذي يصيبهم من قبل الظلمة فقد قال العلماء: إنه لا يجب الصبر عليه ولكن لو أمكن الدفع وجب دفعه ولو بالقتال. ثم خص من أنواع التكاليف التي تشق على النفس وتكرهها نوعين هما أشرف العبادات البدنية والمالية أعني الصلاة والزكاة وقوله وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ عطف على الْمُقِيمِي الصَّلاةِ من حيث المعنى كأنه قيل: والذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. ثم عاد إلى تعظيم شأن الضحايا مرة أخرى وخص منها العظام الجسام بقوله وَالْبُدْنَ جَعَلْناها هي بضم الدال وسكونها جمع بدنة وهي الإبل خاصة لعظم بدنها إلا أن الشارع ألحق البقرة بها حكما. قال أبو حنيفة ومحمد: لو قال: عليّ بدنة يجوز له نحرها في غير مكة. وقال أبو يوسف: لا يجوز إلا بمكة بناء على أن البدنة مختصة بناقة أو بقرة تذبح هناك. واتفقوا فيما إذا نذر هديا أنه يجب ذبحه بمكة، وفيما إذا أنذر جزورا أنه يذبحه(5/81)
حيث شاء. وانتصب قوله والْبُدْنَ بفعل يفسره ما بعده. ومعنى جعلها من شعائر الله أنها من أعلام الشريعة التي شرعها الله. عن بعض السلف أنه لم يملك إلا تسعة دنانير فاشترى بها بدنة فقيل له في ذلك فقال: سمعت ربي يقول لَكُمْ فِيها خَيْرٌ أي ثواب في الآخرة كما ذكرنا. وبعضهم لم يفرق بين الآيتين فحمل كلا منهما على خير الدنيا والآخرة، والأنسب ما فسرناه حذرا من التكرار ما أمكن. ومعنى صَوافَّ قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن، ولعل السر فيه تكثير سوادها للناظرين وتقوية قلوب المحتاجين. فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها أي سقطت على الأرض من وجبت الحائط وجبة سقطت، ووجبت الشمس وجبة غربت. والمعنى إذا زهق روحها حل لكم الأكل منها وإطعام القانع والمعتر فالقانع السائل والمعتر الذي لا يسأل تعففا. وقيل: بالعكس فهما من الأضداد كأن القانع قنع بالسؤال أو قنع بما قسم له فلا يسأل، والمعتر رضي بعرّه أي عيبه فلا يسأل أو يسأل. ثم منّ على عباده بأن سخر لهم البدن أن يحتبسوها صافة قوائمها مطعونا في لباتها مثل التسخير الذي شاهدوا وعلموا يأخذ بخطامها صبي فيقودها إلى حيث يشاء، وليست بأعجز من بعض الوحوش التي هي أصغر جرما وأقل قوة لولا أنه سبحانه سخرها. يروى أن أهل الجاهلية كانوا يلطخون الأوثان وحيطان الكعبة بلحوم القرابين ودمائها فبين الله تعالى ما هو المقصود منها فقال لَنْ يَنالَ اللَّهَ أي لن يصيب رضا الله أصحاب اللحوم والدماء المهراقة بمجرد الذبح والتصدق. وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ بأن يكون القربان حلالا روعي فيها جهات الأجزاء ثم يصرفها فيما آمر. ثم كرر منة التسخير وأن الغاية تكبير الله على الهداية لأعلام دينه ومناسك حجه، وصورة التكبير وما يتعلق بها قد سبق في «البقرة» في آية الصيام. قالت المعتزلة: لما لم ينتفع المكلف بالأجسام التي هي اللحوم والدماء وانتفع بتقواه
وجب أن تكون التقوى فعلا له وإلا كان بمنزلة الأجسام. وأيضا إنه قد شرط التقوى في قبول العمل وصاحب الكبيرة غير متق فوجب أن لا يقبل عمله. والجواب أنه لا يلزم من عدم انتفاعه ببعض ما ليس من أفعاله أن لا ينتفع بكل ما ليس من أفعاله. وأيضا إن صاحب الكبائر اتقى الشرك فيصدق عليه أنه متق وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ إلى أنفسهم بتوفير الثواب عليها. والإحسان بالحقيقة أن تعبد الله كأنك تراه، وفيه ترغيب لما شرط من رعاية الإخلاص في القرابين وغيرها. وحين فرغ من تعداد بعض مناسك الحج ومنافعها وكان الكلام قد انجر إلى ذكر الكفار وصدهم عن المسجد الحرام أتبعه بيان ما يزيل ذلك الصد ويمكن من الحج وزيارة البيت فقال إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ ومن قرأ يُدافِعُ فمعناه يبالغ في الدفع عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا فعل المغالب والمدفوع هو بأس المشركين وما كانوا يخونون الله ورسوله فيه يدل عليه تعليله(5/82)
بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ أي أنه يدفع عن المؤمنين كيد من هذه صفته قال مقاتل: أقروا بالصانع وعبدوا غيره فأي خيانة أعظم من هذا؟ وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقون من المشركين أذى شديدا وكانوا يلقونه من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أومر بالقتال حتى هاجر فنزل أُذِنَ وفاعله الله سبحانه أم لم يسم والمأذون فيه القتال بدليل قوله لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ إن فتح التاء فظاهر لأن المشركين كانوا يقاتلون المؤمنين وإنهم يؤمرون بالصبر، وإن كسرت فمعناه أذن للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل نزل حرصهم على القتال منزلة نفس القتال بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا أي بسبب كونهم مظلومين وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية.
وقيل: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم. وفي قوله إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ ثم في قوله وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ عدة كاملة بإعلاء هذا الدين وإظهار ذويه على أهل الأديان كلهم كما تقول لغيرك إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك. لا تريد مجرد إثبات القدرة بل تريد أنك ستفعل ذلك. ثم وصف ذلك الظلم بأن وصف الموعودين بالنصر بقوله الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ومحل أَنْ يَقُولُوا جر على الإبدال من حَقٍّ أي بغير موجب سوى التوحيد الذي يوجب الإقرار والتمكين لا الإخراج والإزعاج نظيره هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة: 59] وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ قد مر في أواخر البقرة. وللمفسرين فيه عبارات قال الكلبي: يدفع بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين. وعن ابن عباس: يدفع بالمحسن عن المسيء
وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل بيته ومن جيرانه ثم تلا هذه الآية»
وقال الضحاك: يدفع بدين الإسلام وأهله عن أهل الذمة.
وقال مجاهد: يدفع عن الحقوق بالشهود وعن النفوس بالقصاص. أما الصوامع والبيع والصلوات فعن الحسن أنها كلها أسماء المساجد، فقد يتخذ المسلم لنفسه صومعة لأجل العبادة. قال الجوهري: الأصمع الصغير الأذن ويقال أتانا بثريدة مصمعه، إذا دققت وحدد رأسها. وصومعة النصارى «فوعلة» من هذا لأنها دقيقة الرأس، وقد تطلق البيعة على المسجد للتشبيه وكذا الصلوات. وسميت كنيسة اليهود صلاة لأنها يصلى فيها، ويحتمل أن يراد مكان الصلوات أو يراد الصلاة الشرعية نفسها. وصح إيقاع الهدم عليها نظرا إلى قرائنها كقوله: متقلدا سيفا ورمحا. وإن كان الرمح لا يتقلد. هذا كله توجيه تفسير الحسن. والأكثرون على أنها متعبدات مختلفة، فعن أبي العالية أن الصوامع للنصارى والبيع لليهود والصلوات للصابئين والمساجد للمسلمين. وفي تخصيصها بقوله يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً تشريف لها(5/83)
وتفضيل على غيرها لأن الظاهر عود الضمير إليها فقط. وعن قتادة أن الصوامع للصابئين والبيع للنصارى والصلوات لليهود. قال الزجاج: وهي بالعبرانية صلوتا. وقيل: الصوامع والبيع كلتاهما للنصارى ولكن الأولى في الصحراء والأخرى في البلد، وإنما أخر متعبد أهل الإسلام لتأخر زمانهم ولا ضير فإن أول الفكر آخر العمل.
وقال صلى الله عليه وسلم «نحن الآخرون السابقون» «1»
وتفسير الآية على قول الأكثرين لولا دفع الله لهدم في شرع كل نبي المكان المعهود لهم في العبادة، فهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد صلى الله عليه وسلم المساجد. وعلى هذا الوجه إنما رفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف والنسخ، ويحتمل أن يراد لولا ذلك لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان في زمن أمة محمد صلى الله عليه وسلم من المسلمين وأهل الكتاب الذين في ذمتهم، وهدموا المتعبدات بأسرها. وعلى هذا الوجه إنما دفع عن سائر أهل الأديان لأن متعبداتهم يجري فيها ذكر الله في الجملة ليست بمنزلة بيوت الأصنام. ثم عزم على نفسه نصرة من ينصر دينه وأولياؤه وأكد ذلك بقوله إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ومعنى القوة والعزة أنه لا يمتنع شيء من نفاذ أمره فيه مع أنه لا يتأثر عن شيء أصلا. ونصرة الله العبد تقويته على أعدائه ووضع الدلائل على ما يفيده في الدارين ونفث روح القدس بأمره داعية الخير والصلاح في روعه. ثم أتبع قوله الذين أخرجوا قوله. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ وقيل: هو بدل من قوله مَنْ يَنْصُرُهُ وهو إخبار منه عز وجل عما ستكون عليه سيرة المهاجرين إذا مكنهم في الأرض وبسط لهم الدنيا. وعن عثمان: هذا والله ثناء قبل بلاء، أراد أن الله تعالى قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا في شأن الدين وإعلائه ما أحدثوا. قيل: إنه مخصوص من المهاجرين بالخلفاء الراشدين لأنه تعالى لم يعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة غيرهم. وعن الحسن أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا فتمكينهم هو إبقاؤهم إلى أوان التكليف، وقد يشمل الأطفال أيضا إذا ماتوا قبل البلوغ لقوله الله أعلم بما كانوا عاملين. ثم ختم الآية بقوله وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي مرجعها ومصيرها إلى حكمه وتقديره وقد أراد تمكين أهل هذا الدين في كل حين فيقع لا محالة.
التأويل:
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ القلب سواء فيه من سبق إليه مدة طويلة والذي يصل إليه في الحال لأفضل إلا بسبق مقامات القلب ومنازله وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ الروح مكان بيت القلب وَطَهِّرْ بَيْتِيَ عن غيري وهو كل ما فيه حظ النفس دون
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 68. مسلم في كتاب الجمعة حديث 19، 21. النسائي في كتاب الجمعة باب 1. الدارمي في كتاب المقدمة باب 8.(5/84)
الواردات المطيفة والأخلاق الثابتة والأحوال المتوالية كالرغبة والرهبة والقبض والبسط والأنس والهيبة رِجالًا هي النفس وصفاتها وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ هي البدن وجوارحه فإن الأعمال الشرعية قد ركبت الجوارح المرتاضة، فأعمال البدن مركبة من حركات الجوارح ونيات الضمير كما أن أعمال النفس بسيطة. لأنها نيات الضمير فقط مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ هو مصالح الدنيا لأن مصالحها بعيدة عن مصالح الآخرة لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ فمنافع النفس وصفاتها بتبديل الأخلاق، ومنافع القلب والجوارح بظهور أثر الطاعة عليها وَيَذْكُرُوا أي القلب والنفس والقالب شكرا عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ تبديل الصفات البهيمية بالصفات الروحانية فانتفعوا بها وأفيضوا منها على الطالبين فهو خير لأن العبد يصل بالطاعة إلى الجنة ويصل بحرمة الطاعة إلى الله، وترك الخدمة يوجب العقوبة وترك الحرمة يوجب الفرقة. وَأُحِلَّتْ لَكُمُ استعمال الصفات البهيمية بقدر الضرورة إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في قولنا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: 31]
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»
فَاجْتَنِبُوا مقتضيات الهوى وكونوا صادقين في الطلب لا مزورين مائلين إلى الحق غير طالبين معه غيره، وخر من سماء القلب فاستلبه طير الشياطين أو تهوي به ريح الهوى والخذلان إلى أسفل سافلين البعد والحرمان. لكم في شواهد آثار صنع الإرشاد منافع وهي لذة العبور على المقامات ولذة البسط ولذة الأنس إلى أجل مسمى وهو حد الكمال، ثم انتهاء السلوك إلى حضرة القديم. ولكل سالك جعلنا مقصدا وطريقا، منهم من يطلب الله من طريق المعاملات، ومنهم من يطلبه من طريق المجاهدات، ومنهم من يطلبه بطريق المعارف، ومنهم من يطلبه به. فَلَهُ أَسْلِمُوا أي أخلصوا والإخلاص تصفية الأعمال من الآفات، ثم الأخلاق من الكدورات، ثم الأحوال من الالتفات، ثم الأنفاس من الأغيار وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ عنى المستقيمين على هذه الطريقة. وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ الوجل عند الذكر على حسب تجلي الحق للقلب. وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من غير تمني ترحة ولا روم فرحة وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ الحافظين مع الله أسرارهم لا يطلبون إطلاع الخلق على أحوالهم وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يبذلون الموجود في طلب المقصود والوجود بشهود المعبود وَالْبُدْنَ يعني بدن الأبدان الجسام جعلنا قربانها عند كعبة القلب بذبحها عن شهواتها من شعائر أهل الصدق في الطلب، فإذا ماتت عن طبيعتها فانتفعوا بها أنتم وغيركم من الطالبين والقانعين بما أفضتم عليه، والمعترين المتعطشين الذين لا يروون ريا من ماء حياة المعرفة
شربت الحب كأسا بعد كأس ... فما نفد الشراب وما رويت
كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ فيه أن ذبح النفس بسكين الرياضة لا يتيسر إلا بتسخير خالقها(5/85)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)
وتيسير موجدها يؤكده قوله إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ خيانة النفس وهواها عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ فيه أن قتال النفس يجب أن يكون بإذن من الله تعالى وهو أن يكون على وفق الشرع وفي أوان التكليف وعلى حسب ظلم النفس على القلب وإخراجها إياه من ديار الطمأنينة وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النفوس بالقلوب لضيعت صوامع أركان الشريعة، وبيع آداب الطريقة، وصلوات مقامات الحقيقة، ومساجد القلوب التي يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً لاتساعها بإشراق نور الله عليها إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ البشرية أَقامُوا صلاة المواصلة وأتوا زكاة الأحوال وهي إيثار ربع عشر الأوقات على مصالح الخلق، وأمروا بحفظ الحواس عن مخالفات الأمر وبمراعاة الأنفاس مع الله، ونهوا عن مناكير الرياء والإعجاب وإلى الله عاقبة الأمور.
[سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 64]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64)(5/86)
القراآت:
نكيري بإثبات الياء حيث كان في الحالين: يعقوب. وافق ورش وسهل وعباس في الوصل. أهلكتها على التوحيد: أبو عمرو وسهل ويعقوب الآخرون أَهْلَكْناها وبير بالياء: أبو عمرو غير شجاع وأوقية ويزيد والأعشى وورش وربيعة وابن فليح وحمزة في الوقف. يعدون على الغيبة: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف معجزين بالتشديد: حيث كان: ابن كثير وأبو عمرو. ثم قتلوا بالتشديد ابن عامر وَأَنَّ ما يَدْعُونَ بياء الغيبة وكذلك في سورة لقمان: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وحفص.
الوقوف:
وَثَمُودُ هـ ولُوطٍ هـ مَدْيَنَ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى أَخَذْتُهُمْ ج لابتداء التهديد مع فاء التعقيب نَكِيرِ هـ مَشِيدٍ هـ يَسْمَعُونَ بِها هـ للابتداء بأن مع الفاء الصُّدُورِ هـ وَعْدَهُ ط تَعُدُّونَ هـ أَخَذْتُها ط الْمَصِيرُ هـ مُبِينٌ هـ ج للابتداء مع الفاء كَرِيمٌ هـ الْجَحِيمِ هـ أُمْنِيَّتِهِ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى آياتِهِ ط حَكِيمٌ هـ لا لتعلق اللام قُلُوبِهِمْ ط بَعِيدٍ هـ لا قُلُوبُهُمْ ط مُسْتَقِيمٍ هـ عَقِيمٍ هـ لِلَّهِ ط بَيْنَهُمْ ط النَّعِيمِ هـ مُهِينٌ هـ حَسَناً ط الرَّازِقِينَ هـ يَرْضَوْنَهُ ط حَلِيمٌ هـ ذلِكَ ج لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ط غَفُورٌ هـ بَصِيرٌ هـ الْكَبِيرُ هـ ماءً ز لنوع عدول مع العطف مُخْضَرَّةً ط خَبِيرٌ هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط الْحَمِيدُ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه بعد ضمان النصر لنبيه صلى الله عليه وسلم والدفع عن أمته ذكر ما فيه تسليته وهو أنه ليس بأوحدي في التكذيب له والقصص معلومة مما سلف. قال جار الله: إنما لم يقل «وقوم موسى» لأن موسى كذبه غير بني إسرائيل وهم القبط، أو المراد وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره؟ والنكير بمعنى الإنكار عبر به عن الهلاك(5/87)
المعجل لأنه يستلزمه أو لأن الهلاك رادع لغيرهم فكأنه أنكر به عليهم حتى ارتدعوا، أو هو بمعنى التغيير لأنه أبدلهم بالنعمة محنة وبالحياة هلاكا وبالعمارة خرابا. قوله وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ الأولى في محل النصب على أنها حال، والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على أَهْلَكْناها وهذه ليس لها محل. قال أبو مسلم: أراد هي كانت ظالمة فهي الآن خاوية على عروشها وقد مر تفسيرها في البقرة في قوله أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ [الآية: 159] قوله وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ عطف على قَرْيَةٍ أي وكم بئر عطلناها عن سقائها مع أنها عامرة فيها الماء ومعها آلات الاستقاء، وكم قصر مشيد مجصص أو مرتفع أخليناه عن ساكنيه؟ فحذف هذه الجملة لدلالة معطلة عليها. وقد يغلب على الظن من هاتين القرينتين أن «على» في قوله عَلى عُرُوشِها بمعنى «مع» كأنه قيل: هي خاوية أي ساقطة أو خالية مع بقاء عروشها قاله في الكشاف. وأقول: إذا كانت القرى المهلكة غير البئر والقصر فهذا الظن مرجوح أو مساو لا غالب. يروى أنها بئر نزل عليها صالح مع أربعة آلاف نفر ممن آمن به ونجاهم الله من العذاب وهي بحضرموت، سميت بذلك لأن صالحا حين حضرها مات وسميت بلدة عند البئر اسمها حاضوراء بناها قوم صالح وأقاموا بها زمانا ثم كفروا وعبدوا صنما وأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان نبيا فقتلوه فأهلكهم الله وعطل بئرهم وخرب قصورهم. يحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري قال: هذا عجيب لأني زرت قبر صالح بالشام ببلدة يقال لها عكة فكيف قيل: إنه بحضرموت؟ قلت: لا غرو أن يتفق الموت بأرض والدفن بأرض أخرى. ثم أنكر على أهل مكة عدم اعتبارهم بهذه الآثار قائلا أَفَلَمْ يَسِيرُوا حثهم على السفر ليروا مصارع تلك الأمم فيعتبروا. ويحتمل أن يكونوا قد سافروا ولم يعتبروا فلهذا جاء الإنكار كقوله وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ
[الصافات: 137، 138] والمراد بالسماع سماع تدبر وانتفاع وإلا كان كلا سماع كما أن المراد بالإبصار إبصار الاعتبار ولهذا قال فَإِنَّها أي إن القصة لا تَعْمَى الْأَبْصارُ أي أبصارهم وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وفي هذا التصور زيادة التمكين والتقرير لغرابة نسبة العمى إلى القلب، وجوز في الكشاف أن يكون الضمير في فَإِنَّها ضميرا مبهما يفسره الأبصار وفاعل تَعْمَى ضمير عائد إلى الضمير الأول المبهم.
والمعنى على الوجهين أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى بقلوبهم، أو لا تعتدوا بعمى الأبصار وإن فرض لأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب. وزعم بعضهم أن في الآية إبطالا لقول من جعل محل الكفر الدماغ وليس بقوي فقد يتشاركان في ذلك، أو يكون سلطانه في القلب والدماغ كالآلة.(5/88)
ثم حكي من عظيم ما هم عليه من التكذيب أنهم يستهزؤن باستعجال العذاب العاجل والآجل كأنهم جوزوا الفوت فلهذا قال وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ أو لعلهم طلبوا عذاب الآخرة فذكر أن استعجاله في الدنيا كالخلف لأن موعده الآخرة وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ قال أبو مسلم: أراد أن العاقل لا ينبغي أن يستعجل عذاب الآخرة لأن يوما واحدا من أيام عذاب الله في الشدة كألف سنة من سنينكم لأن أيام الشدائد مستطالة، أو كألف سنة من سني العذاب إذا عدها العاد وذلك لشدة العذاب أيضا. وقيل: أراد أن اليوم الواحد وألف سنة بالنسبة إليه على السواء لأنه القادر الذي لا يعجزه شيء، فإذا لم يستبعدوا إمهال يوم فلا يستبعدوا أيضا إمهال ألف سنة. وقد يدور في الخلد أن هذا إشارة إلى لا تناهي طرف الأبد المستتبع لازدياد امتداد الآحاد الاعتبارية لأجل سهولة الضبط، والغرض أن من كانت أيامه في الطول إلى هذا الحد لا يفيد الاستعجال بالنسبة إليه شيئا فالأولى بل الواجب تفويض الأمور إلى أوقاتها المقدرة لها من غير تقدم ولا تأخر ثم كرر قوله وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ وليس بتكرار في الحقيقة لأن الأول سيق لبيان الإهلاك مناسبا لقوله فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ولهذا عطف بالفاء بدلا عتن ذلك، والثاني سيق لبيان الإملاء مناسبا لقوله لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ فكأنه قيل: وكم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين قد أنظرتهم حينا ثم أخذتهم بالعذاب والمرجع للكل إلى حكمي. ثم أمر رسوله بأن يتلو عليهم جملة حاله في الرسالة وهي أنه نذير مبين وجملة حالهم في باب التكليف مآلا، وإنما اقتصر على النذارة لأنها تتضمن البشارة فإن كلام الحكيم لا يخلو عن ترغيب وإن كان مبنيا على الترهيب بدليل يا أَيُّهَا النَّاسُ وهو نداء للكفرة في قول ابن عباس. قال في الكشاف: هم الذين قيل فيهم أَفَلَمْ يَسِيرُوا ووصفوا بالاستعجال، وإنما أقحم المؤمنون وثوابهم ليغاظوا. قالت الأشاعرة: المغفرة إما للصغائر أو للكبائر بعد التوبة أو قبلها. والأولان واجبان عند الخصم وأداء الواجب لا يسمى غفرانا فبقي الثالث ويلزم منه عفو صاحب الكبيرة من أهل القبلة، أما الرزق فلا شك أنه الثواب، وأما الكريم فإما أن يكون أمرا سلبيا وهو أن يكون الإنسان معه بحيث يستغنى عن المكاسب وتحمل المتاعب والذل والدناءة وما ينجر إلى المآثم والمظالم، وإما أن يكون ثبوتيا وهو أن يكون رزقا كثيرا دائما خالصا عن شوائب الضرر مقرونا بالتعظيم والإجلال وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي بذلوا جهدهم في تكذيبها وإرادة إبطالها كمن يسعى سعيا أي يمشي مشيا سريعا. قال أهل اللغة: عاجزه سابقه لأن كل واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل أعجزه وعجزه. والمراد معاجزين الله ورسوله أي مقدرين ذلك ظنا منهم أن كيدهم للإسلام يتم لهم، وأن طعنهم في القرآن وتثبيطهم الناس عن التصديق يبلغ بهم غرضهم.(5/89)
ثم بين أن له أسوة بالأنبياء السالفة والرسل السابقة في كل ما يأتي ويذر فقال وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ خصص أولا ثم عمم، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولا، فقد لا يكون معه كتاب بل يؤمر بأن يدعو إلى شريعة من قبله، وقد لا ينزل عليه الملك ظاهرا وإنما يرى الوحي في المنام أو يخبره بذلك رسول في عصره، ولا بد للكل من المعجزة.
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الأنبياء فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا.
قال عامة المفسرين في سبب نزول الآية: أنه صلى الله عليه وسلم لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم. وكان ذات يوم جالسا في ناد من أنديتهم وقد نزل عليه سورة وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النجم: 1] فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: 19- 20] وكان ذلك التمني في نفسه فجرى على لسانه «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قراءته حتى ختم السورة، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين، فتفرقت قريش مسرورين وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فأتاه جبرائيل وقال: ما صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، فحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاف خوفا شديدا فأنزل الله تعالى هذه الآية.
واعترض المحققون على هذه الرواية بالقرآن والسنة وبالمعقول. أما القرآن فكقوله وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44- 46] وقوله وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] وقوله وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ [الإسراء: 74] نفى القرب من الركون فكيف به؟ وأما السنة فهي ما روي عن ابن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا وضع من الزنادقة، وقد صنف فيه كتابا وقال الإمام أبوبكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم.
وقد روى البخاري في صحيحه أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون الإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق.
وأما المعقول فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لنفي الأوثان فكيف يثبتها؟ وأيضا إنه بمكة لم يتمكن من القراءة والصلاة عند الكعبة ولا سيما في محفل غاص. وأيضا إن معاداتهم إياه كانت أكثر من أن يغتروا بهذا القدر فيخروا سجدا قبل أن يقفوا على حقيقة الأمر. وأيضا منع الشيطان من أصله أولى من تمكنه من الإلقاء ثم نسخه. وأيضا لوجوزنا ذلك لارتفع الأمان من الشرع، ولناقض قوله بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [المائدة: 67] وحال الزيادة في الوحي كحال النقصان منه. إذا عرفت هذا فللأئمة في تأويل الآية قولان: الأول أن التمني بمعنى القراءة كما سلف في البقرة في قوله وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ [الآية:(5/90)
78] وما المراد بهذه القراءة فيه وجهان: أحدهما أنه ما يجوز أن يسهو النبي فيه ويشتبه على القارئ دون ما رووه من قوله «تلك الغرانيق العلى» . وثانيهما أنه قراءة هذه الكلمة وإنها قد وقعت بعينها. وكيف وقعت؟ ذهبت جماعة إلى أنه لما قرأ سورة والنجم اشتبه على الكفار فتوهموا بعض ألفاظه ذلك، وزيف بأن هذا التوهم من الجم الغفير بعيد. وقيل: إن شيطان الجن ألقاها في البين فظنها الحاضرون من قول الرسول. وضعف بأن هذا يفضي إلى ارتفاع الوثوق عن كل ما يتكلم به النبي.
قلت: الإنصاف أنه غير ضعيف ولا يفضي إلى ارتفاع الوثوق لقوله سبحانه فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ وقيل: إن المتكلم به شيطان الإنس وهم الكفرة كانوا يقربون منه في حال صلاته ويسمعون قراءته ويلقون فيها في أثناء وقفاته. وقيل: إن المتكلم به الرسول قاله سهوا كما
روي عن قتادة ومقاتل أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان،
ولا ريب أنه يكون بإلقاء الشيطان. وضعف باستلزامه زوال الأمان عن الشرع وقد عرفت جوابه، وبأن مثل هذا الكلام المطابق لفواصل السورة يستبعد وقوعها في النعاس. وزعم قوم أن الشيطان أجبره على ذلك ورد بنحو قوله تعالى إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [النحل: 99] وذهب جماعة إلى أنه قال ذلك اختيارا. ثم إنها باطلة أم لا فيه وجهان: أما الأول ففيه طريقان: أحدهما
قول ابن عباس في رواية أن «شيطانا» يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل وألقاها إليه فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء جبريل واستعرضه فقرأها، فلما بلغ إلى تلك الكلمة أنكر عليه جبريل فقال: إنه أتاني آت على صورتك فألقاها على لساني.
وثانيهما أنه لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من تلقاء نفسه ثم رجع عنها. والطريقان منحرفان عند المحققين، لأن الأول يقتضي أن النبي لا يفرق بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث. والثاني أنه يؤدي إلى كونه خائنا في الوحي. وأما الوجه الثاني فتصحيحه أنه أراد بالغرانيق الملائكة، وقد كان قرآنا منزلا في وصف الملائكة فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته. أو هو في تقدير الاستفهام بمعنى الإنكار، أو المراد بالإثبات هاهنا النفي كقوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] قال الجوهري: الغرنيق بضم الغين وفتح النون من طير الماء طويل العنق، وإذا وصف به الرجال فواحدهم غرنيق وغرنوق بكسر الغين وفتح النون، وغرنوق وغرانق بالضم وهو الشاب السيد والجمع غرانق بالفتح والغرانيق. القول الثاني أن التمني هو تمني القلب ومعنى الآية ما من نبي إلا وهو بحيث إذا تمنى أمرا من الأمور وسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ما هو(5/91)
الحق. وما تلك الوسوسة؟ قيل: هي أن يتمنى ما يتقرب به إلى المشركين من ذكر آلهتهم بالخير وقد مر فساده. وقال مجاهد: إنه كان يتمنى إنزال الوحي بسرعة دون تأخير فعرفه الله تعالى أن ذلك خاطر غير رحماني، وإنما المصلحة هي إنزال الوحي على وفق الحوادث.
وقيل: كان يتفكر في تأويل المجمل فيلقي الشيطان إلى جملته ما هو غير مراد، وكان رد الله سبحانه إلى المعنى المراد بإنزال المحكمات. وقيل: معناه إذا أراد فعلا يتقرب به إلى الله حال الشيطان بينه وبين مقصوده والله تعالى يثبته على ذلك نظيره إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201] وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: 200] واعترض على هذا القول بأن تمني القلب كيف يكون فتنة للذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون، وللقاسية قلوبهم وهم المشركون؟ وأجيب بأنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة لمن ضعفت عقيدته في النبي. والحاصل أن الرسل لا ينفكون عن السهو وإن كانوا معصومين عن العمد فعليهم أن لا يتبعوا إلا ما يقطعون به لصدوره عن علم وذلك هو المحكم. وذهب أبو مسلم إلى أن حاصل الآية هو أن كل نبي من جنس البشر الذين هم بصدد الخطأ والنسيان من قبل وساوس الشيطان. ووجه النظم بين هذه الآية والتي قبلها أنه أمر بأن يقول إني لكم نذير لكني من البشر لا من الملائكة ولم يرسل الله قبلي ملكا بل أرسل رجالا يوسوس الشيطان إليهم، وعلى هذا فالملائكة لعدم إمكان استيلاء الشيطان عليهم أعظم درجة من الأنبياء وأقوى حالا منهم. وقال صاحب الكشاف: المعنى أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت وهو أن لا ينزل ما ينفر أمته ولا يوافق هواهم، مكن الله الشيطان ليلقي في أمانيهم مثل ما ألقي في أمنيتك حتى سبق لسانك. فقلت «تلك الغرانيق» إلخ. وسبب التمكين إرادة امتحان من حولهم والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين. فهذه جملة أقوال المفسرين في الآية.
وأما قوله فَيَنْسَخُ اللَّهُ فالمراد إزالة تأثير ما يلقي الشيطان وهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام وقوله ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ فالمراد بالآيات هي آيات القرآن أي يجعلها بحيث لا يختلط بها شيء من كلام غيره فتكون ثابتة في مظانها، أو يجعلها بحيث لا يتطرق إليها تأويل فاسد معمول به عند الأمة. ويحتمل أن يكون المراد بأحكام الآيات الإرشاد إلى أدلة الأحكام الشرعية. وقوله وَإِنَّ الظَّالِمِينَ أراد المنافقين والمشركين المذكورين إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم والشقاق(5/92)
البعيد والمعاداة الكاملة. وأعلم أنه سبحانه ذكر لتمكين الشيطان من الإلقاء في الأمنية أثرين: أحدهما في حق غير أهل الإيمان وهم أهل النفاق والشرك وذلك قوله لِيَجْعَلَ الآية. وثانيهما في حق المؤمنين العارفين بالله وصفاته وهو قوله وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ قال مقاتل: يعني القرآن. وعن الكلبي: أي النسخ. قال جار الله: أي تمكين الشيطان من الإلقاء قلت: أما عند الأشاعرة فلأن المالك له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء، وأما عند المعتزلة فلأن أفعاله جارية على وفق الحكمة والتدبير. فَتُخْبِتَ تخضع وتطمئن لَهُ قُلُوبُهُمْ بناء على أصلي الفريقين. والصراط المستقيم هاهنا فسروه بالتأويلات الصحيحة والبيانات المطابقة للأصول. قلت: وتفسيره بمعنى أعم من ذلك غير ضائر. ثم بين أن الأعصار إلى قيام الساعة لا تخلو ممن يكون في شك من القرآن والرسول واليوم العقيم. قيل: يوم بدر لأنه لا مثل له في عظم أمره لقتال الملائكة فيه، أو لأنه لا خير فيه للكفار من قولهم «ريح عقيم» إذا لم تنشئ مطرا ولم تلقح شجرا، أو لأن يوم الحرب يقال له «العقيم» من حيث أن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن، أو من حيث إن المقاتلين يقال لهم «أبناء الحرب» فإذا قتلوا بقي الحرب بلا أبناء. وعن الضحاك أنه يوم القيامة لأنهم لا يرون فيه خيرا، أو لأن كل ذات حمل تضع فيه حملها، أو لأنه لا ليل فيه فيستمر كاستمرار المرأة على عدم الولادة. ولا تكرار على هذا القول لأن المراد بالساعة مقدماته، أو المراد حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذابها، فوضع يوم عقيم مقام الضمير. واستحسن بعض الأئمة قول الضحاك ورجحه لأن الأول يلزم منه أن الكفار ينتهي شكهم في يوم بدر وليس كذلك فإنهم في مرية بعد يوم بدر أيضا. ويمكن أن يقال: «أو» للعطف على أول الآية فيكون المراد بالذين كفروا في الأول الجنس، وفي الثاني العهد.
سلمنا أنه للعطف على تَأْتِيَهُمُ إلا أن اللام في الَّذِينَ كَفَرُوا للجنس فيقع على الذين ما انتهى شكهم إلى يوم القيامة ويحتمل أن يراد بالساعة وقت موت كل واحد وبعذاب يوم عقيم القيامة.
ثم بين أنه لا مالك يوم تأتي الساعة إلا الله وأنه يحكم بين الناس فيميز بين أهل الجنة وأهل النار. ثم أفرد المهاجرين بالذكر تخصيصا لهم بمزيد التشريف.
يروى أن طوائف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله، هؤلاء الذين قتلوا قد عملنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله عز وجل وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا
قال بعض المفسرين هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. وقال بعضهم: هم الذين خرجوا من الأوطان في سرية أو عسكر. ولا يبعد حمل(5/93)
الآية على الفريقين. والرزق الحسن نعيم الجنة. وعن الكلبي: هو الغنيمة لأنها حلال.
وقال الأصم: العلم والفهم كقول شعيب وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً [هود: 88] وضعف الوجهان بأنهما ممتنعان بعد القتل أو الموت. قال العلماء: وإنما تظهر هذه الفضيلة للمهاجرين في مزيد الدرجات وإلا فلا بد من شرط اجتناب الكبائر كما في حق غيرهم.
وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأن رزق غيره ينتهي إليه وغيره لا يقدر على مثل رزقه، ولأن رزقه لا يختلط بالمن والأذى ولا بغرض من الأغراض الفاسدة، ولأنه يرزق ويعطي ما به يتم الانتفاع بالرزق من القوى والحواس وغير ذلك من الشرائط الوجودية والعدمية. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن غير الله يقدر على الفعل وهو الرزق. ويمكن أن يجاب بأنه مجاز أو على سبيل الفرض والتقدير. وليس في الآية دليل ظاهر على أن المهاجر المقتول والمهاجر الميت على فراشه هل يستويان في الأجر أم لا بل المعلوم منها هو الجمع بينهما في الوعد. وقد يستدل على التسوية بما
روي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «المقتول في سبيل الله والمتوفي في سبيل الله بغير قتل هما في الأجر شريكان»
فإن لفظ الشركة مشعر بالتسوية.
وحين بين رزقهم شرع في ذكر مسكنهم. قيل: في المدخل الذي يرضونه خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم، لها سبعون ألف مصراع. وقال أبو القاسم القشيري: هو أن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم. وقال ابن عباس: يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم حَلِيمٌ عن تفريط المفرط منهم فيمهله حتى يتوب فيدخل الجنة. ثم بين أنه مع إكرامه لهم في الآخرة لا يدع نصرهم في الدنيا قبل أن يقتلوا أو يموتوا فقال ذلِكَ قال الزجاج: أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصة إذا قتلوا أو ماتوا. عن مقاتل: أن قوما من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم وثبت لهم المسلمون فنصروا، فوقع في أنفس المسلمين شيء من القتال في الشهر الحرام فنزل وَمَنْ عاقَبَ أي قاتل بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ أي كما ابتدئ بقتاله سمى الابتداء باسم الجزاء للطباق وللملابسة من حيث إن ذلك سبب وهذا مسبب عنه ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أي ثم كان المجازي مبغيا عليه أي مظلوما. ومعنى «ثم» تفاوت الرتبة لأن كونه مبدوأ بالقتال معه نوع ظلم كما قيل «البادي أظلم» وهو موجب لنصرته ظاهرا إلا أن كونه في نفس(5/94)
الأمر مظلوما هو السبب الأصلي في النصرة. وعن الضحاك أن الآية مدنية وهي في القصاص والجراحات. واستدل الشافعي بها في وجوب رعاية المماثلة في القصاص فقال:
من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه. وفي ختم الآية بذكر العفو والمغفرة وجوه منها: أن المندوب للمجني عليه هو أن يعفو عن الجاني كقوله فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: 40] وكأنه قال: أنا ضامن لنصرته إن ترك الانتقام وطلب إكثار ما هو أولى به فإني عفوّ غفور. ومنها أنه ضمن النصر على الباغي ولوح بذكر هاتين الصفتين بما هو أولى بالمجني عليه وهو العفو والصفح. ومنها أنه دل بذكرهما على أنه قادر على العقوبة لأن العفو عند المقدرة. ثم بين أن ذلك النصر بسبب أنه قادر ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وذلك أن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر، أو أراد تحصيل أحد العرضين الظلام والضياء في مكان الآخر وقد مر في أوائل آل عمران. وفيه أن خالق الليل والنهار ومصرف الأدوار والأكوار لا يخفى عليه شيء من الزمانيات خيرا أو شرا إنصافا أو بغيا وأكد هذا المعنى بقوله أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يسمع أقوال الخلائق ويبصر أفعالهم.
ثم بين أن كمال القدرة والعلم هو يقتضي وجوب الوجود فقال ذلِكَ أي الوصف بخلق الملوين وبالإحاطة بما يجري فيهما بسبب أن الحقية منحصرة في ذاته وأن وجود غيره ولا سيما الأوثان موسوم بالبطلان فلا نقص كالإمكان. ويعلم مما ذكر أنه لا شيء أعلى منه شانا وأكبر سلطانا. وإنما قال هاهنا مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ بزيادة هو وفي «لقمان» مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ [الآية: 30] لأن هذا وقع بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين ولهذا أيضا زيدت اللام في قوله وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ بخلاف ما في «لقمان» وأيضا يمكن أن يقال: تقدم في هذه السورة ذكر الشيطان فلهذا ذكرت هذه المؤكدات بخلاف «لقمان» فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان هناك بنحو ما ذكر هاهنا. ثم ذكر أنواعا أخر من دلائل قدرته ونعمته فقال أَلَمْ تَرَ قيل: هي رؤية البصر لأن نزول الماء من جهة السماء أو اخضرار النبات من المبصرات. وقيل: بمعنى العلم لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم لم يعتد بها. وفي قوله فَتُصْبِحُ دون أن يقول فأصبحت مناسبا ل أَنْزَلَ إشارة إلى بقاء أثر المطر زمانا طويلا وإن كان ابتداء الإصباح عقيب النزول نظيره قول القائل: «أنعم فلان عليّ عام كذا فأروح وأغدو شاكرا له» . ولو قال: «فرحت وغدوت» لم يقع ذلك الموقع. وإنما لم ينصب فَتُصْبِحُ جوابا للاستفهام لإيهام عكس ما هو المقصود لأنه يوهم نفي الاخضرار كما لو قلت لصاحبك: ألم تراني أنعمت عليك فتشكر. إن نصبته أوهمت أنك ناف لشكره شاك تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت لشكره بطريق الاستمرار ولا يبعد أن تكون هذه الآية إشارة إلى(5/95)
دليل الإعادة كما في أول السورة وهذا قول أبي مسلم. إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ قال الكلبي:
لطيف في أفعاله خبير بأعمال خلقه، وقال مقاتل: لطيف باستخراج النبت خبير بكيفية خلقه. وقال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط وقد مر مثل هذه في أواسط «الأنعام» . ثم بين أن كل ما في السموات والأرض ملكه وملكه لا يمتنع شيء منها من تصرفاته، وهو غني عن كل ذلك وإنما خلقها لحاجة المكلفين إليها ومن جملتها المطر والنبات خلقها رحمة للحيوانات وإنعاما عليها. وإذا كان إنعامه خاليا عن غرض عائد إليه كان مستحقا للحمد بل هو حميد في ذاته وإن لم يحمده الحامدون.
التأويل:
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ قالب أَهْلَكْناها بضيق الصدر وسوء الخلق واستيلاء الغفلة. وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ هي القلب الفارغ عن أعمال القوى الروحانية في طلب المعارف والحقائق وَقَصْرٍ مَشِيدٍ وهو الرأس الخالي عن نتائج الفكر الصافي والحواس السليمة أَفَلَمْ يَسِيرُوا في أرض البشرية عابرين على منازل السالكين إلى أن يصلوا إلى مقام القلب فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها الرحمن بذاته أَوْ آذانٌ قلوب يَسْمَعُونَ بِها أقواله أو أبصار بصائر يبصرون بها أفعاله. وإذا صح وصف القلب بالسمع والبصر صح وصفه بسائر وجوه الإدراكات، فقد يدرك نسيم الإقبال بمشام السر
كقوله «إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» «1»
وكقول يعقوب إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ [يوسف: 94] وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ليس خلفه في وعيد المؤمنين بخلف في الحقيقة لأنه تصديق
قوله «سبقت رحمتي غضبي» «2»
وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ قيل: لأنه موجد الزمان وليس عنده صباح ولا مساء فوجود الزمان وعدمه وكثرته وقلته سواء عنده والاستعجال وضده إنما يتصور في المتزمنات قلت: ففيه أن الكل بإرادته وإن ما أراد الله فأسبابه متهيئة يحصل في يوم بإرادته ما لا يحصل في ألف سنة بحسب فرضنا وتقديرنا ومن هنا قيل: جذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين أَمْلَيْتُ لَها فيه أنه تعالى يمهل ولكنه لا يهمل لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي ستر فمنهم من يستر زلته، ومنهم من يستر عليه أعماله الصالحة صيانة له عن الملاحظة، ومنهم من يستر عليه حاله لئلا يصيبه من الشهوة فتنة كما قيل:
لا تنكرن جحدي هواك فإنما ... ذاك الجحود عليك ستر مسبل
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (2/ 541) .
(2) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15، 22، 28. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16.
الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242، 258) .(5/96)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
ومنهم من يستره بين أوليائه في باب العزة كما قال «أوليائي تحت قبابي لا يعرفهم غيري» ومنهم من يستر أنانيته بهويته فيقول أنا الحق وسبحاني. والرزق الكريم هو الخالي عن شوائب الحدوث لأنه من القديم الكريم إِلَّا إِذا تَمَنَّى فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بل الولي لا يليق به التمني بل ما على الرسول إلا البلاغ ولا على الولي إلا الرضا والتسليم، فلو بقي في أحدهم أدنى ملاحظة لغير الله كالحرص على إيمان القوم فوق ما أمر به ابتلاه الله ببلاء مجال الشيطان في أمنيته بقول أو بعمل، فتدركه العناية الأزلية ويزيل الخاطر الشيطاني ويثبته على الخاطر الرحماني، ولا يكون لدخان الفتنة تأثير في نور يقينه كما لا تأثير للضباب في شعاع الشمس بخلاف من في قلبه ظلم الشبهات فإن ذلك الدخان يزيدها كدورة ورينا حتى تأتيهم ساعة سلب الاستعداد بالكلية، أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ هو الأبد لأنه لا ليل له وهو عذاب قطيعة لا وصلة بعدها وَالَّذِينَ هاجَرُوا عن أوطان الطبيعة في طلب الحقيقة ثُمَّ قُتِلُوا بسيف الصدق والرياضة حتى تزكوا أنفسهم أَوْ ماتُوا عن أوصاف البشرية لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً فرزق القلوب حلاوة العرفان. ورزق الأسرار مشاهدات الجمال، ورزق الأرواح مكاشفات الجلال. وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأنه يرزق من أوصاف ربوبيته كما
قال صلى الله عليه وسلم «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «1»
وَمَنْ عاقَبَ بالمجاهدة نفسه بِمِثْلِ ما عاقبت النفس بالمخالفة قلبه ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أي غلبت النفس على القلب باستيلاء صفاتها لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ باستئصال النفس وتمحيق صفاتها إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ لما سلف غَفُورٌ لما بقي في نفوس الطالبين من الأنانية. يُولِجُ ليل السر في نهار التجلي وبالعكس، أو يولج ليل القبض في نهار البسط، أو ليل الهيبة في نهار الأنس أَنْزَلَ مِنَ سماء القلب ماء الحكمة فَتُصْبِحُ أرض البشرية مُخْضَرَّةً بالشريعة وأرض القلوب والأرواح والأسرار بالعلوم والكشوف والأنوار والله أعلم بالصواب.
[سورة الحج (22) : الآيات 65 الى 78]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التمني باب 9. مسلم في كتاب الصيام حديث 57، 58. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (3/ 8) (6/ 126) .(5/97)
القراآت:
ما لم ينزل من الإنزال ابن كثير وأبو عمرو وسهل. والآخرون بالتشديد يصطون بالصاد مثل بَصْطَةً [الآية: 247] في البقرة الذين يدعون بياء الغيبة:
سهل ويعقوب.
الوقوف:
بِأَمْرِهِ ط بِإِذْنِهِ ط رَحِيمٌ هـ أَحْياكُمْ ز لأن «ثم» لترتيب الأخبار يُحْيِيكُمْ هـ ط لَكَفُورٌ هـ إِلى رَبِّكَ ط مُسْتَقِيمٍ هـ تَعْمَلُونَ هـ تَخْتَلِفُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط فِي كِتابٍ ط يَسِيرٌ هـ عِلْمٌ ط نَصِيرٍ هـ الْمُنْكَرَ ط آياتُنا ط ذلِكُمُ ط النَّارُ ط كَفَرُوا ط الْمَصِيرُ هـ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ط اجْتَمَعُوا لَهُ ط مِنْهُ ط وَالْمَطْلُوبُ هـ قَدْرِهِ ط وَمِنَ النَّاسِ ط بَصِيرٌ هـ خَلْفَهُمْ ط الْأُمُورُ هـ تُفْلِحُونَ هـ ج للآية مع العطف جِهادِهِ ط حَرَجٍ ط إِبْراهِيمَ ط النَّاسِ ج للعطف مع الفاء بِاللَّهِ ط مَوْلاكُمْ ط النَّصِيرُ هـ.
التفسير:
إن من جملة نعم الله تعالى على عباده تسخير الأرضيات وتذليلها لهم، فلا أصلب من الحديد والحجر، ولا أشد نكاية من النار وقد سخرها للإنسان وسخر لهم الأنعام أيضا ينتفعون بها بالأكل والركوب والحمل عليها والانتفاع بالنظر إليها أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى(5/98)
الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
[الغاشية: 17] وسخر لهم الدواب، وغيرها وسخر لهم الفلك حال كونها جارية بأمره وهو تهيئة الأسباب المعاونة ودفع الأشياء المضادة لسهولة جريها. ولا ريب أن الانتفاع بالأرضيات لا يتأتى إلا بعد الأمن من وقوع السماء على الأرض، فمنّ الله تعالى على المكلفين بأن حفظها كيلا تقع أو كراهة أن تقع على الأرض وذلك بمحض الاقتدار عند أهل الظاهر، أو بأن جعل طبعها هو الإحاطة بما في ضمنها إذ لا خفة فيها ولا ثقل ولهذا خصت بالحركة على المركز. وفي قوله إِلَّا بِإِذْنِهِ إشارة إلى أن الأفلاك ستنخرق وتنشق فتقع على الأرض، ويحتمل أن يقال: توقيف الوقوع على الإذن لا يوجب حصول الإذن، فالانخراق والانشقاق لا يستفاد من هذه الآية. ثم ذكر الإنسان مبدأه ومعاده فقال وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ نظيره قوله في أول البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الآية:
28] وقد سبق هنالك. وفي قوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ زجر لهم عن الكفران بطريق التوبيخ. وعن ابن عباس أنه الكافر. وبعضهم جعله أخص فقال: هو أبو جهل وأضرابه، والأولى إرادة الجنس، ثم عاد إلى بيان أن أمر التكاليف مستقر على ما في هذه الشريعة فقال لِكُلِّ أُمَّةٍ الآية. قال في الكشاف: إنما فقد العاطف هاهنا بخلاف نظرائها في السورة لأن تلك مناسبة لما تقدمها وهذه مباينة لها. قلت: وذلك لأن من هاهنا إلى آخر السورة عودا بعد ذكر المعاد إلى الوسط الذي هو حالة التكليف، والأقرب أن المنسك في هذه الآية هو الشريعة كقوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: 48] وهو قول ابن عباس في رواية عطاء. وقيل: أراد مكانا معينا وزمانا لأداء الطاعات. وقال مجاهد: هو الذبائح ولا وجه للتخصيص هاهنا والأمة أعم من أن تكون قد بقيت آثارهم أو لم تبق. أما الضمير في قوله فَلا يُنازِعُنَّكَ فلا بد من رجوعه إلى الأمم الباقية آثارهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الزجاج: إنه نهي له عن منازعتهم كما تقول «لا يضاربنك فلان» أي لا تضار به. وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمنا. وقال في الكشاف: هو نهي لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي لا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك، أو هو زجر لهم عن التعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالمنازعة في أمر الدين وكانوا يقولون في الميتة «ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله» . ومنه يعلم استقرار أمر الديانة على هذه الشريعة وأن على كل أمة من الأمم التي بقيت منها بقية أن يتبعوه ويتركوا مخالفته فلذلك قال: وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي لا تخص بالدعوة أمة دون أمة فإن كلهم أمتك إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ أي على دين وسط ودليل ظاهر. وإن أبوا إلا الجدال فكل أمرهم إلى الله قائلا اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ وفيه وعيد وإنذار مخلوط برفق ولكن اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أي يفصل بين المؤمنين والكافرين منكم، ويحتمل أن يكون من تتمة المقول وأن يكون ابتداء خطاب من الله سبحانه للأمم. أَلَمْ تَعْلَمْ خطاب لكل(5/99)
عالم أو للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد تقوية قلبه وإلا فالرسالة لا تكون إلا بعد العلم بكونه تعالى عالما بكل المعلومات وإلا اشتبه عليه الصادق بالكاذب. إِنَّ ذلِكَ الذي ذكر وهو كل ما في السماء والأرض فِي كِتابٍ قال أبو مسلم: أراد به الحفظ والضبط كالشيء المكتوب، والجمهور على أنه حقيقة وقد كتبه في اللوح قبل حدوثه. ولعل في تلك الكتابة لطفا للملائكة لأن مطابقة تلك الأشياء المكتوبة لما سيحدث إلى الأبد من أدل دليل على كونه عالم الذات ولذلك قال إِنَّ ذلِكَ الكتب عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ وهذا تصوير لضده وهو صعوبة مثل ذلك على غيره وإلا فلا مدخل لليسر والصعوبة في كمال قدرته.
وحين بين كمال ألوهيته قطع شأن أهل الشرك بقوله وَيَعْبُدُونَ الآية والمراد أنهم لم يتمسكوا في صحة عبادته بدليل سمعي ولا علم ضروري وقوله وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ الظلم الشرك، والنصرة إما بالشفاعة أو بالحجة ولا حجة إلا للحق وهو كقوله في آخر آل عمران وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [الآية: 192] وقد مر. والمنكر دلائل الغيظ والحنق.
وقال جار الله: هو الفظيع من التجهم والبسور أو هو الإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام وقال الكلبي: أراد أنهم كرهوا القرآن مع وضوح دلائله. وقال ابن عباس: هو التجبر والترفع.
وقال مقاتل: أنكروا أن يكون من الله تعالى. السطو الوثب والبطش أي يهمون بالبطش والوثوب لعظم إنكار ما تلي عليهم. وقوله مِنْ ذلِكُمُ إشارة إلى غيظهم على التالين أو إلى همهم. ثم إنه كأن سائلا قائلا ما ذلك الشر فقيل النَّارُ أي هو النار. قلت: وذلك أن حرارة الغيظ والسطو تشبه حرارة النار ولكن هذه أقوى ولا سيما نار جهنم. ثم استأنف للنار حكما فقال وَعَدَهَا الآية. ويحتمل أن تكون النَّارُ مبتدأ ووَعَدَهَا خبرا. ثم ضرب للأصنام مثلا فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ إنما قال بلفظ الماضي لأنه معلوم من قبل لكل ذي عقل. والمثل بمعنى المثل استعاروه لجملة من الكلام مستغربة مستفصحة متلقاة بالرضا والقبول أهل للتسيير والإرسال وذلك أنهم جعلوا مضربها مثلا لموردها، ثم استعاروا هذا المستعار للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لتماثلها في الغرابة وهذا هو الذي قصد في الآية: فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي تدبروه وحق له ذلك فإن السماع المجرد لا نفع له. قال جار الله: محل وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ نصب على الحال كأنه قال مستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم جميعا فكيف لو انفردوا؟ وأقول: الظاهر أن «لو» هذه للمبالغة وجوابه محذوف لدلالة ما تقدم عليه تقديره، ولو اجتمعوا لخلق الذباب لن يخلقوه أيضا، وليس من شرط كل جملة أن يكون لها محل. ثم زاد لعجزهم وضعفهم تأكيدا بقوله وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ الآية. بمعنى أترك أمر الحلق والإيجاد وتكلم فيما هو أسهل من(5/100)
ذلك، إن هذا الحيوان الضعيف الذي لا قدرة لهم على خلقه لو سلب منهم شيئا لم يقدروا أيضا على استخلاص ذلك الشيء منه. عن ابن عباس أنهم كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله. وقيل: سمي الذباب ذبابا لأنه كلما ذب آب. ثم عجب من ضعف الأصنام والذباب بقوله ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فالصنم كالطالب من حيث إنه يطلب خلق الذباب أو يطلب استنقاذ ما سلبه منه. وقيل: الطالب عابد الصنم والمطلوب هو الصنم أو عبادته، ويجوز أن يكون الطالب هو السالب والمطلوب المسلوب منه.
ثم بين أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة بهذه المثابة ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عرفوه حق معرفته وقد مر مثله في «الأنعام» . إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ قادر غالب فكيف يسوّي بينه وبين العاجز المغلوب في العبادة وهي نهاية التعظيم. وذلك أنهم لو اعتقدوا كون تلك الأصنام طلسمات موضوعة على الكواكب فإذا لم تنفع نفسها في المقدار المذكور فلأن لا تنفع غيرها أولى، وإن اعتقدوا أنها تماثيل الملائكة أو الأنبياء فلا يليق بها غاية الخضوع التي يستحقها خالق الكل. وحين رد على أهل الشرك معتقدهم في الإلهيات أراد أن يرد عليهم عقيدتهم في النبوّات وهي أن الرسول لا يكون بشرا فقال اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ فالملك رسول إلى النبي والنبي رسول إلى سائر البشر قاله مقاتل. هاهنا سؤالان: الأول أن «من» للتبعيض فتفيد الآية أن بعض الملائكة رسل فيكون مناقضا لقوله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] والجواب أن الموجبة الجزئية لا تناقض الموجبة الكلية، أو أراد بهذا البعض من هو رسول إلى بني آدم وهم أكابر الملائكة ولا يبعد أن يكون بعض الملائكة رسلا إلى بعض آخر منهم. وثانيهما أنه قال في موضع آخر لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ [الزمر: 4] وقد نص في هذه الآية أن بعض الناس مصطفى فيلزم من مجموع الآيتين أنه قد اصطفى ولدا. والجواب أن تلك الآية دلت على أن كل ولد مصطفى ولكن لا يلزم من هذه الآية أن كل مصطفى ولد فمن أين يحصل ما ادعيت؟ والتحقيق أن الموجبتين في الشكل الثاني لا ينتجان هذا، ويحتمل أن تكون هذه الآية مسوقة للرد على عبدة الملائكة كما كانت الآية المتقدمة للرد على عبدة الأصنام إذ يعلم من هذا أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة بل لأن الله اصطفاهم للرسالة حين كانوا أمناء على وحيه لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ثم بين علو شأنه وكمال علمه وإحاطته بأحوال المكلفين ما مضى منها وما غبر، وأن(5/101)
مرجع الأمور كلها إليه، وفي كل ذلك زجر عن الإقدام على المعصية وبعث على الجد في الطاعة فلا جرم صرح بالمقصود قائلا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا والظاهر أنه خطاب مختص بالمؤمنين ويؤكده قوله بعد ذلك هُوَ اجْتَباكُمْ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ وقيل: عام لكل المكلفين لأن المأمورات بعده لا تختص ببعض الناس دون بعض والتخصيص بالذكر للتشريف فإنهم الذين قبلوا الخطاب. ودل بالركوع والسجود على الصلاة لأنهما ركنان معتبران. وقيل: كان الناس أول ما أسلموا يسجدون بلا ركوع ويركعون بلا سجود، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود ذكره ابن عباس.
قال جار الله: عن عقبة بن عامر قال:
قلت: يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما.
وعن عبد الله بن عمر: فضلت سورة الحج بسجدتين. وهو مذهب الشافعي. وأما أبو حنيفة فلا يرى هذه سجدة لأنه قرن الركوع بالسجود قال: فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة، قدم الصلاة لأنها أشرف العبادات ثم عمم فأمر بالعبادة مطلقا، ثم جعل الأمر أعم وهو فعل الخيرات الشامل للنوعين التعظيم لأمر الله والشفعة على خلق الله كأنه قال:
كلفتكم الصلاة بل كلفتكم ما هو أعم منها وهو العبادة، بل كلفتكم أعم وهو فعل الخيرات على الإطلاق. وقيل: معناه واعبدوا ربكم اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله عز وجل.
وعن ابن عباس أن فعل الخير صلة الأرحام ومكارم الأخلاق. ومعنى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ افعلوا كل ذلك راجين الفلاح وهو الظفر بنعيم الآخرة لا متيقنين ذلك فإن الإنسان قلما يخلو في أداء فرائضه من تقصير والعواقب أيضا مستورة. ثم أمره بخلاف النفس والهوى في جميع ما ذكر وهو الجهاد الأكبر فقال وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ أي في ذاته ومن أجله حَقَّ جِهادِهِ أي حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه فإضافة الجهاد إلى الله من قبيل التوسعة ولأدنى ملابسة من حيث إن الجهاد فعل لوجهه. وقيل: هو أمر بالغزو، أمروا أن يجاهدوا آخرا كما جاهدوا أولا فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنيعهم يوم بدر. وعن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: أما علمت أنا كنا نقرأ وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله؟ فقال عبد الرحمن: ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء. قال العلماء: لو صحت هذه الرواية فلعل هذه الزيادة من تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم ليست من نفس القرآن وإلا لتواترت. وأما عبارات المفسرين فعن ابن عباس: حق جهاده أي لا تخافوا في الله لومة لائم. وقال الضحاك: اعملوا لله حق عمله. وقال آخرون: استفرغوا ما في وسعكم في إحياء دين الله وإقامة حدوده باليد واللسان وجميع ما يمكن، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل. وعن(5/102)
مقاتل والكلبي: أن الآية منسوخة بقوله فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] كما أن قوله اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ [آل عمران: 102] منسوخ بذلك. وضعف بأن التكليف مشروط بالقدرة فلا حاجة إلى التزام النسخ. ثم عظم شأن المكلفين بقوله هُوَ اجْتَباكُمْ أي اختاركم لدينه ونصرته وفيه تشريف كقوله وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة: 143] ثم كان لقائل أن يقول: التكليف وإن كان تشريفا إلا أن فيه مشقة على النفس فقال وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي ضيق وشدة وذلك بأنه فتح باب التوبة ووسع على المكلفين بأنواع الرخص والكفارات والديات والأروش. يروى أن أبا هريرة قال: كيف قال سبحانه وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مع أنا منعنا عن الزنا والسرقة؟ فقال ابن عباس: بلى ولكن الإصر الذي كان على بني إسرائيل وضع عنكم. قالت المعتزلة: لو خلق الله فيه الكفر ثم نهاه عنه كان ذلك من أعظم الحرج. وعورض بأنه نهاه عن الكفر مع أنه علم ذلك منه، وكأنه أمره بقلب علم الله جهلا وهو أعظم الحرج.
ثم أثنى على هذه الأمة بقوله مِلَّةَ أَبِيكُمْ أي أعني الدين ملة أبيكم، ويجوز أن ينتصب بمضمون ما تقدم كأنه قيل: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم فأقام المضاف إليه مقام المضاف، وإنما كان إبراهيم أبا هذه الأمة لأنه أبو الرسول صلى الله عليه وسلم وكل نبي أبو أمته. والمراد أن التوحيد والحنيفية هي مما شرعه إبراهيم. هُوَ أي الله أو إبراهيم سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أي في سائر الكتب أو في قوله وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: 128] وَفِي هذا القرآن أما إن كان المسمى هو الله فظاهر، وأما إن كان هو إبراهيم فلعله أراد أن حكاية دعائه مذكورة في القرآن. وقوله لِيَكُونَ الرَّسُولُ متعلق بقوله هُوَ اجْتَباكُمْ أي فضلكم على الأمم لهذا الغرض نظيره قوله في البقرة وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا [الآية:
143] والأصل تقديم الأمة كما في «البقرة» لأن الخطاب معهم وليقع الختم على شهادة الرسول كما هو الواقع إلا أنه عكس الترتيب في هذه السورة ليناط به قوله فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ والمراد إذ خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه واعتصموا بدلائله العقلية والسمعية أو بألطافه وعنايته. قال ابن عباس: سلوا الله العصمة عن كل المحرمات. وقال آخرون: اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون فهو خير مولى وناصر. استدلت المعتزلة بالآية في قولهم إنه يريد الإيمان من الكل من وجوه: الأول أنه أراد أن يكونوا شهداء ولن يكونوا كذلك إلا إذا آمنوا، الثاني أنه لا يمكن الاعتصام به إلا إذا لم يوجد منه الشر البتة. الثالث أنه لو خلق في عباده الكفر والمعاصي لم يكن نعم المولى. وأجيب بعد تسليم إرادة الإيمان من الكل أن إرادة الشيء إن كانت مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكفار تستلزم أن يكون الله تعالى مريدا(5/103)
لجهل نفسه. وإن لم تستلزم فقد سقط السؤال وأيضا الاعتصام به إنما يكون منه
كقوله «أعوذ بك منك.» «1»
وأيضا إنه خلق الشهوة في قلب الفاسق وخلق المشتهي وقربه منه ودفع المانع وسلط عليه شياطين الإنس والجن، فلو لم تكن كل هذه مقتضية لكونه بئس المولى لم يكن خلق الكفر أيضا مقتضيا لذلك.
التأويل:
سَخَّرَ لَكُمْ ما في أرض البشرية من الصفات الحيوانية والشيطانية، وسخر فلك الواردات المغيبة تجري في بحر القلب، ويمسك سماء القلب أن تقع على أرض النفس بأن تتصف بصفاتها إِلَّا بِإِذْنِهِ بقدر ما أباحه الشرع من ضروريات المأكول والملبوس وغيرهما وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بازدواج الروح إلى القالب ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عن صفات البشرية ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بنور الصفات الرحمانية فَلا يُنازِعُنَّكَ في أمرك فإن لك مع الله وقتا لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولكل قوم رتبة لا يتجاوزونها إن الذين يدعون من دون الله كالأصنام الظاهرة والباطنة لن يطلعوا على كيفية خلق الذباب، وإن يسلبهم ذباب هواجس النفس شيئا من صفاء القلب وجمعية الوقت ضَعُفَ الطَّالِبُ وهو القلب غير المؤيد بنور الإيمان وَالْمَطْلُوبُ وهو النفس والشيطان ارْكَعُوا بالنزول عن مرتبة الإنسانية إلى خضوع الحيوانية: وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [النور: 45] وَاسْجُدُوا بالنزول إلى مرتبة الحيوانية وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن: 6] وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ بجعل الطاعة خالصة له وَافْعَلُوا الْخَيْرَ بمراقبة الله في جميع أحوالكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بالوصال. وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ فجهاد النفس بتزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ، وجهاد القلب بتصفيته وقطع تعلقه عن الكونين، وجهاد الروح بتحليته بإفناء الوجود في وجوده هُوَ اجْتَباكُمْ لهذه الكرامات من بين سائر البريات ولولا أنه اجتباكم ما اهتديتم إليه كما قيل:
فلولاكم ما عرفنا الهوى وما جعل عليكم في دين العشاق. وهو السير إلى الله من ضيق
«من تقرّب إلي شبرا
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 222. أبو داود في كتاب الصلاة باب 148 الترمذي في كتاب الدعوات باب 112. النسائي في كتاب الطهارة باب 119. ابن ماجة في كتاب الدعاء باب 3. أحمد في مسنده (1/ 96) . [.....](5/104)
تقربت إليه ذراعا» «1»
والسير إلى الله من سنة إبراهيم إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ في الأزل وهو في هذا الطور. وإنما قدم الرسول لأن روحه في طرف الأزل مقدم «أول ما خلق الله روحي» فهو مشرف وقتئذ على أرواح أمته وبعد ذلك خلقت أرواح أمته مشرفين على أرواح غيرهم. وفي سورة البقرة اعتبر طرف الأبد فوقع الختم على الرسول وعلى شهادته فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بدوام السير والعروج إلى الله والتعظيم لأمره وَآتُوا الزَّكاةَ بدعوة الخلق إلى الله والشفقة عليهم وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ حتى تصلوا إليه هو متولي أفنائكم عنكم فَنِعْمَ الْمَوْلى في إفناء وجودكم وَنِعْمَ النَّصِيرُ في إبقائكم بربكم والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين وذرياته وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا إلى يوم الدين.
تم الجزء السابع عشر، ويليه الجزء الثامن عشر وأوله تفسير سورة المؤمنون
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15. مسلم في كتاب الذكر حديث 20، 21. الترمذي في كتاب الدعوات باب 131. ابن ماجة في كتاب الأدب باب 58. أحمد في مسنده (2/ 413) .(5/105)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء الثامن عشر من أجزاء القرآن الكريم
(سورة المؤمنون)
(مكية وحروفها 4840 كلمها 1840 آياتها 118
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 30]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4)
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9)
أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14)
ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19)
وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24)
إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)(5/106)
القراآت:
لأمانتهم على التوحيد: ابن كثير على صلاتهم موحدة: حمزة وعلي وخلف. وعِظاماً العظم موحدين على إرادة الجنس أو على وضع الواحد مكان الجمع لعدم اللبس: ابن عامر وأبو بكر وحماد وجبلة الأول موحدا والثاني مجموعا:
زيد عن يعقوب. وروى القطعي عن أبي زيد بالعكس فيهما. الباقون مجموعين سَيْناءَ بكسر السين: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بفتحها. تَنْبُتُ من الإنبات: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب غير روح. الآخرون بفتح التاء وضم الباء من النبات.
تسقيكم بفتح النون: نافع وابن عامر وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد. بالتاء الفوقانية:
يزيد: الباقون بضم النون. مُنْزَلًا بفتح الميم وكسر الزاء: أبو بكر وحماد. الآخرون بضم الميم وفتح الزاء.
الوقوف:
الْمُؤْمِنُونَ هـ لا خاشِعُونَ هـ لا مُعْرِضُونَ هـ لا فاعِلُونَ هـ لا حافِظُونَ هـ مَلُومِينَ هـ لاعتراض الاستثناء بين الأوصاف ولاستحقاق الشرط الابتداء ولطول الكلام وإلا فالآيتان من أوصاف المؤمنين أيضا العادُونَ هـ ج راعُونَ هـ لا يُحافِظُونَ هـ وإلا لأوهم تخصيص الإرث بالمذكورين في الآيتين فقط الْوارِثُونَ هـ لا الْفِرْدَوْسَ ط خالِدُونَ هـ طِينٍ ج هـ للعدول عن المظهر إلى كناية عن غير مذكور فإن المراد من الإنسان آدم، ومن الهاء في جعلناه جنس ولده مع عطف ظاهر مَكِينٍ هـ ج للعطف لَحْماً صلى وقد قيل للابتداء بإنشاء نفخ الروح تعظيما آخَرَ ط الْخالِقِينَ هـ ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار فإن بين الإحياء والإفناء مهلة لَمَيِّتُونَ هـ ط لذلك لَقادِرُونَ هـ للآية مع اتصال المعنى بلفظ الفاء وَأَعْنابٍ لئلا يوهم أن الجار والمجرور وصف أعناب تَأْكُلُونَ هـ لا لأن شجرة مفعول فَأَنْشَأْنا لِلْآكِلِينَ هـ لَعِبْرَةً ط لأن الجملة بعدها ليست بصفة لها تَأْكُلُونَ هـ لاحْمَلُونَ
هـ ط غَيْرُهُ ط تَتَّقُونَ هـ مِثْلُكُمْ لا لأن قوله يُرِيدُ صفة بَشَرٌ عَلَيْكُمْ ط مَلائِكَةً ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول الْأَوَّلِينَ ج هـ للآية مع اجتناب الابتداء بقول الكفار مع اتحاد مقصود الكلام حِينٍ هـ كَذَّبُونِ هـ التَّنُّورُ هـ لا لأن ما بعده جواب فإذا مِنْهُمْ ج لعطف المتفقتين مع اعتراض الاستثناء ظَلَمُوا ج للابتداء بأن مع احتمال(5/107)
إضمار اللام والفاء للتعليل مُغْرَقُونَ هـ الظَّالِمِينَ هـ الْمُنْزِلِينَ هـ لَمُبْتَلِينَ هـ.
التفسير:
لما انجر الكلام في السورة المتقدمة إلى الختم بالصلاة والزكاة بدأ في هذه السورة بذكر فضائلهما وفضائل ما ينخرط في سلكهما من مكارم الأخلاق ومحاسن العادات. «وقد» نقيضة «لما» لأنها تثبت المتوقع و «لما» تنفيه، ولا شك أن المؤمنين كانوا متوقعين لمثل هذه البشارة وهي إخبار بثبوت الفلاح لهم. وقد مر معنى الإيمان والاختلاف فيه بين الأقوام في أول «البقرة» . وأما الخشوع فمنهم من جعله من أفعال القلوب كالخوف والرهبة، ومنهم من جعله من أفعال الجوارح كالسكون، وترك الالتفات، والنظر إلى موضع السجود، والتوقي عن كف الثوب أي جمعه، والعبث بجسده وثيابه، والتمطي والتثاؤب والتغميض وتغطية الفم، والسدل بأن يضع وسط الثوب على رأسه أو على عاتقه ويرسل طرفيه، والاحتراز عن الفرقعة والتشبيك وتقليب الحصى، والاختصار وهو أن يمسك بيده عصا أو سوطا ونحوهما.
قال الحسن وابن سيرين: كان المسلمون يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، فلما نزلت هذه الآية طأطأ وكان لا يجاوز بصره مصلاه،
وهذا الخشوع واجب عند المحققين. نقل الإمام الغزالي عن أبي طالب المكي عن بشر الحافي: من لم يخشع فسدت صلاته. وعن الحسن: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع. وعن معاذ بن جبل: من عرف من على يمينه وشماله متعمدا وهو في الصلاة فلا صلاة له. وروي عنه مرفوعا: إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له سدسها وعشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها. وادعى عبد الواحد بن زيد إجماع العلماء على أنه ليس للعبد إلا ما عقل من صلاته. ومما يدل على صحة هذا القول قوله سبحانه أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ [النساء: 82] والتدبر لا يتصوّر بدون الوقوف على المعنى، وكذا قوله وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه: 14] والغفلة تضاد الذكر ولهذا قال وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ [الأعراف: 205] وقوله حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ [النساء: 43] نهي للسكران إلا أن المستغرق في هموم الدنيا بمنزلته.
وقوله صلى الله عليه وسلم «المصلي يناجي ربه»
ولا مناجاة مع الغفلة أصلا بخلاف سائر أركان الإسلام فإن المقصود منها يحصل مع الغفلة، فإن الغرض من الزكاة كسر الحرص وإغناء الفقير، وكذا الصوم قاهر للقوي كاسر لسطوة النفس التي هي عدوّ الله، وكذا الحج فإن أفعاله شاقة وفيه من المجاهدة ما يحصل به الابتلاء وإن لم يكن القلب حاضرا. والمتكلمون أيضا اتفقوا على أنه لا بد من الحضور والخشوع قالوا: لأن السجود لله تعالى طاعة، وللصنم كفر، وكل واحد منهما يماثل الآخر في ذاته ولوازمه، فلا بد من مميز وما ذاك إلا القصد والإرادة ولا بد فيهما من الحضور.(5/108)
وأما الفقهاء فالأكثرون منهم لا يوجبون ذلك فيقال لهم: هبوا أنه ليس من شرط الإجزاء وهو عدم وجوب القضاء، أليس هو من شرط القبول الذي يترتب عليه الثواب؟ فمن استعار ثوبا ثم ردّه على أحسن الوجوه فقد خرج عن العهدة، وكذا إن ردّه على وجه الإهانة والاستخفاف إلا أنه يستحق المدح في الصورة الأولى والذم في الصورة الثانية.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أبصر رجلا يعبث بلحيته في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه.
ونظر الحسن إلى رجل يعبث بالحصى وهو يقول: اللهم زوّجني الحور العين.
فقال: بئس الخاطب أنت قلت: لا ريب أن الاحتياط إنما هو في رعاية جانب الخشوع كما حكي عن بعض العلماء أنه اختار الإمامة فقيل له في ذلك؟ فقال: أخاف إن تركت الفاتحة أن يعاتبني الشافعي. وإن قرأت مع الإمام أن يعاتبني أبو حنيفة، فاخترت الإمامة طلبا للخلاص عن هذا الخلاف. قال علماء المعاني: سبب إضافة الصلاة إليهم هو أن الصلاة دائرة بين المصلي والمصلى لأجله، فالمصلي هو المنتفع بها وحده وهي عدته وذخيرته، وأما المصلى له فمتعال عن ذلك. ولما كان اللغو هو الساقط من القول أو الفعل احتمل أن يقع في الصلاة، وأيضا كان الإعراض عنه من باب التروك كما أن الخشوع وهو استعمال الآداب وما لا يصح ولا تكمل الصلاة إلا به كان من باب الأفعال وعلى الفعل والترك بناء قاعدة التكليف فلا جرم جعلهما قرينين فقال وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ واللغو على ما قلنا يشمل كل ما كان حراما أو مكروها أو مباحا لا ضرورة إليه ولا حاجة قولا أو فعلا.
فمن الحرام قوله تعالى حكاية عن الكفار لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت:
26] فإن ذلك اللغو كفر والكفر حرام. ومن المباح قوله لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ [البقرة: 225] ولو لم يكن مباحا لم يناسبه عدم المؤاخذة. والإعراض عن اللغو هو بأن لا يفعله ولا يرضى به ولا يخالط من يأتيه كما قال عز من قائل وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان: 72] ثم وصفهم بفعل الزكاة وهو مناسب للصلاة. وليس المراد بالزكاة هاهنا عين القدر المخرج من النصاب لأن الخلق لا قدرة لهم على فعلها فلا يصح المعنى إلا بتقدير مضاف أي لأداء الزكاة فاعلون، بل المراد فعل المزكي الذي هو التزكية.
فقوله للمزكي فاعل الزكاة كقولك للضارب فاعل الضرب. وعن أبي مسلم أنه حمل الزكاة هاهنا على كل فعل محمود مرضي كقوله قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى: 14] والأول أقرب لأنه مناسب لعرف الشرع. الصفة الرابعة قوله وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ قال الفراء: «على» بمعنى «عن» وقال غيره: هو في موضع الحال أي إلا والين أو قوامين على أزواجهم نظيره قولهم «كان زياد على البصرة» أي واليا عليها، والمعنى أنهم(5/109)
مستمرون على حفظ الفروج في كافة الأحوال إلا في حال تزوجهم أو تسريهم. أو تعلق الجار بمحذوف يدل عليه غَيْرُ مَلُومِينَ كأنه قيل: يلامون على كل من يباشرونه إلا على أزواجهم فإنهم غير ملومين عليهن. وجوّز في الكشاف أن يكون صلة لحافظين من قولهم «احفظ عليّ عنان فرسي» على تضمينه معنى النفي أي لا تسلط علي فرسي. وإنما لم يقل «أو من ملكت» لأنه اجتمع في السرية وصفان: الأنوثة التي هي سبب نقصان العقل وكونها بحيث تباع وتشترى كسائر السلع فَمَنِ ابْتَغى حدا وَراءَ ذلِكَ الحد الذي شرع وهو إباحة أربع من الحرائر وما شاء من الإماء وكفى به حدا فسيحا فَأُولئِكَ هُمُ الكاملون في العدوان المتناهون فيه.
قيل: لا دليل فيه على تحريم نكاح المتعة لأنها من جملة الأزواج إذا صح النكاح.
ومنع من أنها من الأزواج ولو كانت زوجة لورث منها الزوج لقوله وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ [النساء: 12] ولورثت منه لقوله وَلَهُنَّ الرُّبُعُ [النساء: 12] ثم الآية من العمومات التي دخلها التخصيص بدلائل أخر فيخرج منها الغلام بل الوطء في الدبر على الإطلاق لأنه ليس موضع حرث، وكذا الزوجة والأمة في أحوال الحيض والعدة والإحرام ونحوها. وقال أبو حنيفة: الاستثناء من النفي ليس بإثبات
فقوله «لا صلاة إلا بطهور» «ولا نكاح إلا بولي»
لا يقتضي حصول الصلاة والنكاح بمجرد حصول الطهور والولي، ولا تخصيص عنده في الآية. والمعنى أنه يجب حفظ الفروج عن الكل إلا في هاتين الصورتين فإني ما ذكرت حكمهما لا بالنفي ولا بالإثبات، وهكذا نقله الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره. الصفة الخامسة رعاية الأمانة والعهد والمراد بهما الشيء المؤتمن عليه والمعاهد عليه لتمكن رعايتهما، والراعي القائم على الشيء بحفظ وإصلاح كراعي الغنم وراعي الرعية.
ويحتمل العموم في كل ما ائتمنوا عليه وعوهدوا من جهة الله تعالى ومن جهة الناس كالعبادات والمعاملات والودائع والقصود والنيات والعقود والنذور والطلاق والعتاق وغيرها، وقد مر في تفسير قوله إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [النساء:
58] وقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ويحتمل الخصوص فيما تحملوه من أمانات الناس وعهودهم. الصفة السادسة محافظة الصلاة كما مر في قوله حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ [البقرة: 238] وذلك في «البقرة» وصفوا أولا بالخشوع في صلاتهم وآخرا بالمداومة عليها وبمراقبة أعدادها وأوقاتها فرائض كانت أو سننا، رواتب أو غيرها. فالمحافظة أعم من الخشوع وأشمل، ومن هنا يعرف فضيلة الصلاة إذ وقع الافتتاح بها والاختتام عليها وإن اختلف الاعتباران والعبارتان. أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الأحقاء بأن(5/110)
يسموا ورّاثا دون من عداهم ممن يرث مالا فانيا أو متاعا قليلا أو ممن يدخل الجنة سواهم كالاطفال والمجانين والفساق بعد العفو وكالولدان والحور. ثم بين الموروث بقوله الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ وقد سبق معنى هذه الوراثة في «الأعراف» في قوله وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها [الأعراف: 43] قال الفقهاء: لا فرق في الميراث بين ما ملكه الميت وبين ما يقدر ملكه فيه ولذلك قالوا للدية إنها ميراث المقتول. وكل من في الجنة فله مسكن مفروض في النار على تقدير كفره، وكل من في النار فله مسكن مفروض في الجنة على تقدير إيمانه كما ورد في الحديث، فإذا تبادل المسكنان كان جميع أهل الجنة وارثين، ولكن كل الفردوس لا يكون ميراثا بل بعضه ميراث وبعضه بالاستحقاق إلا أنه يصدق بالجملة أنهم ورثوا الفردوس أي الجنة ولهذا أنث الضمير في قوله هُمْ فِيها خالِدُونَ وقيل: إن الجنة كانت مسكن أبينا آدم عليه السلام فإذا انتقلت إلى أولاده كان شبيها بالميراث. والفردوس بلسان الحبشة أو الروم هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمر. روي أن الله عز وجل بنى جنة الفردوس لبنة من ذهب ولبنة من فضة وجعل خلالها المسك الأذفر.
وروى أبو موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «الفردوس مقصورة الرحمن فيها الأنهار والأشجار»
وعن أبي أمامة مرفوعا «سلوا الله الفردوس فإنها أعلى الجنان وإن أهل الفردوس يسمعون أطيط العرش»
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «لما خلق الله تعالى جنة عدن قال لها: تكلمي.
فقالت: قد أفلح المؤمنون»
ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «إذا أحسن العبد الوضوء وصلى الصلاة لوقتها وحافظ على ركوعها وسجودها ومواقيتها قالت: حفظك الله كما حافظت علي وتشفع لصاحبها. فإذا أضاعها قالت: ضيعك الله كما ضيعتني وتلف كما يلف الثوب ويضرب بها على وجه صاحبها»
قالت العلماء: أما كلام الجنة فالمراد به أنها أعدت للمتقين كقوله قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] وكذا الكلام في كلام «طوبى» . وأما أنه تعالى خلق الجنة بيده فالمراد تولى خلقها وإيجادها من غير واسطة. وأما حديث الصلاة فلا ريب أنها حركات وسكنات ولا يصح عليها التكلم فالمراد به ضرب المثل كقولك للمنعم عليك «إن إحسانك إليّ ينطق بالشكر» .
ولما حث عباده على العبادات ووعدهم الفردوس على مواظبتها عاد إلى تقرير المبدأ والمعاد ليتمكن ذلك في نفوس المكلفين وهو ثلاثة أنواع: الأول الاستدلال بأطوار خلق الإنسان والسلالة الخلاصة لأنها تسل من بين الكدر وهذا البناء للقلة ولما يسقط عن الشيء كالقلامة. قال ابن عباس وعكرمة وقتادة ومقاتل: المراد آدم لأنه استل من الطين، والكناية في جَعَلْناهُ راجعة إلى الإنسان الذي هو ولد آدم أي جعلنا جوهره نطفة وقال آخرون:(5/111)
الإنسان هاهنا هو ولد آدم والطين اسم آدم والسلالة هي الأجزاء الكلية المبثوثة في أعضائه التي تجتمع منيا في أوعيته، ويحتمل أن يقال: إن كل نسل آدم حاله كذلك لأن غذاءه ينتهي إلى النبات المتولد من صفو الأرض والماء المسمى بالسلالة. ثم إن تلك السلالة تصير منيا وعلى هذا فكلتا لفظي «من» للابتداء. قال في الكشاف: الأولى للابتداء والثانية للبيان وهو موجه على التفسير الأول فقط. والقرار المستقر أراد به الرحم. وإنما وصفت بالمكين لمكانتها في نفسها فإنها مكنت حيث هي وأحرزت، أو على الإسناد المجازي باعتبار المستقر فيها كقولك «طريق سائر» . وترتيب الأطوار كما مر في أول الحج. ومعنى «ثم» في بعض هذه المعطوفات تراخي الرتبة ولا سيما في قوله ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ أي خلقا مباينا للخلق الأول حيث جعله حيوانا وكان جمادا إلى غير ذلك من دقائق اللطف وغرائب الصنع وذلك بعد استكماله ثلاثة أربعينات. ومن هنا ذهب أبو حنيفة فيمن غصب بيضة فأفرخت عنده إلى أنه يضمن البيضة ولا يردّ الفرخ لأنه خلق آخر سوى البيضة. وروى العوفي عن ابن عباس أن ذلك تصريف الله في أطواره بعد الولادة من الطفولية وما بعدها إلى استواء الشباب وخلق الفهم والعقل فيه يؤيده قوله ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ ويروى هذا القول أيضا عن مجاهد وابن عمر فَتَبارَكَ اللَّهُ كثر خيره وبركته أو هو وصف له بالدوام والبقاء أو بالتعالي لأن البركة يرجع معناها إلى الامتداد وكل ما زاد على الشيء فقد علاه.
ومعنى أَحْسَنُ الْخالِقِينَ أحسن المقدّرين تقديرا فحذف المميز للعلم به. قالت المعتزلة:
في الآية دلالة على أن كل ما يفعله الله فهو حسن وحكمة فلا يكون خالقا للكفر والمعاصي.
وأجيب بأن الحسن هاهنا بمعنى الإحكام والإتقان في التركيب والتأليف وبأنه لا يقبح منه شيء لأنه تعالى يتصرف في ملكه. قالوا: لولا أن غيره تعالى خالق لم تحسن هذه الإضافة فيعلم منه أن العبد خالق أفعاله. وعورض بقوله اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] وأجيب بأن المراد أنه أحسن الخالقين في زعمكم واعتقادكم. وبعضهم أجاب بأن وجه حسن الإضافة هو أنه تعالى وصف عيسى بأنه يخلق من الطين كهيئة الطير ولا يخفى ضعف هذا الجواب من أنه يلزم إطلاق الجمع على الواحد ومن حيث إنه يلزم إطلاق الخالق على المصوّرين. والحق أن الخلق لو كان بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد لا يلزم منه شيء من هذه الإشكالات.
روي أن عبد الله بن أبي سرج كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنطق بذلك قبل إملائه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتب هكذا نزلت. فقال عبد الله: إن كان محمد صلى الله عليه وسلم نبيا يوحى إليه فأنا نبي يوحى إليّ فلحق بمكة كافرا ثم أسلم يوم الفتح.
وروي عن عمر أيضا سبق لسانه بقوله فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ قبل أن ينزل.
واعلم أن هذا غير مستبعد ولا قادح في إعجاز القرآن لأنه ليس بمقدار سورة الكوثر التي وقع فيها أقل التحدي به.(5/112)
سؤال: ما الحكمة في الموت وهلا وصل تعيم الدنيا بنعيم الآخرة ليكون في الأنعام أبلغ؟ جواب لو كان كذلك لكان الآتي بالطاعة آتيا بها لمحض الجنة والثواب فلا جرم أوقع الله تعالى الإماتة والإعادة في البين لتكون الطاعات أدخل في الإخلاص وأبعد عن صورة المبايعة. وليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة وهي حياة القبر فتعرف تلك بدليل آخر.
ويمكن إن يقال: بل الآية تتضمنها فإنها أيضا من جنس الإعادة. النوع الثاني: الاستدلال بخلق السموات قال الخليل والفراء والزجاج: سميت السموات طرائق لأنها طورق بعضها فوق بعض كمطارقة النعل. وقال علي بن عيسى: لأنها طرق الملائكة ومتقلباتهم. وقيل:
لأنها طرائق الكواكب فيها مسيرها وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ أي عن السموات وحفظها أن لا تقع على الأرض قاله سفيان بن عيينة. وعن الحسن أراد بالخلق الناس أي ما كنا غافِلِينَ عن مصالحهم فخلقنا الطرائق فوقهم لينزل منها عليهم البركات والأرزاق ولينتفعوا بغير ذلك من منافعها. ويحتمل أن يريد بالأول كمال قدرته وبالثاني كمال علمه بأحوال مخلوقاته وفيه نوع من الزجر. ويمكن أن يراد خلقنا السموات وما كنا عن خلقها ذاهلين فلهذا لم تخرج عن التقدير الذي أردنا كونها عليه نظيره ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [الملك: 3] النوع الثالث: الاستدلال بنزول الأمطار وإخراج النبات وإنشاء الحيوانات. ونزول المطر عند الظاهرين من أهل الشرع لا يبعد أن يكون من نفس السماء، وعند أرباب المعقول منهم يراد به إنزاله من جهة السماء قالوا: إنه سبحانه يصعد الأجزاء المائية من البحر بواسطة التبخير فتصير في الجو صافية عذبة زائلة عنها ملوحة البحر، ثم ينزلها بواسطة السحب وقد سلف في أول البقرة تفصيل ذلك. ومعنى بِقَدَرٍ بتقدير يسلمون معه من المضار ويصلون إلى المنافع، أو بمقدار يوافق حاجاتهم. ومعنى إسكان ماء المطر في الأرض جعله مددا للينابيع والآبار. وقيل: أراد إثباته في الأرض على ما روي عن ابن عباس أن الأنهار خمسة:
سيحون وجيحون ودجلة والفرات والنيل، أنزلها الله من عين واحدة من عيون الجنة واستودعها الجبال وأجراها في الأرض. وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ أي كما قدرنا على إنزاله فنحن قادرون على أن نذهب به بوجه من الوجوه. ولهذا التنكير حسن موقع لا يخفى إذ فيه إيذان على أن الذاهب به قادر على أيّ وجه أراد، وفيه تحذير من كفران نعمة الماء وتخويف من نفاذه إذا لم يشكر.
ثم لما نبه على عظم نعمته بخلق الماء بين المنافع الحاصلة بسببه وخص منها النخيل والأعناب وشجرة الزيتون لأنها أكرم الشجر وأعمها نفعا، ووصف النخل بأن ثمرهما جامع لأمرين: التفكه والتطعم. وجوز في الكشاف أن يكون قوله وَمِنْها تَأْكُلُونَ من(5/113)
قولهم «فلان يأكل من حرفة كذا» كأنه قال: ومن هذه الجنان وجوه أرزاقكم ومعايشكم.
ووصف الزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا. قال جار الله: طور سيناء وطور سينين إما أن يكون الطور فيه مضافا إلى بقعة اسمها سيناء وسينون، وإما أن يكون المجموع اسما للجبل وهو جبل فلسطين على قول والطور الذي منه نودي موسى. من قرأ سَيْناءَ بفتح السين فهو كصحراء، ومن قرأ بكسرها فمنع صرفه للعلمية والعجمة أو التأنيث بتأويل البقعة ولا يكون ألفه حينئذ للتأنيث كعلباء وحرباء. قال في الكشاف بِالدُّهْنِ في موضع الحال والباء للمصاحبة دون التعدية، لأن نبات الدهن أو إنباته لا يكاد يستعمل. فالمعنى تنبت الشجرة وفيها الدهن أو تنبت الشجرة زيتونها وفيه الزيت. ويجوز أن يكون أنبت بمعنى نبت أيضا، والصبغ الإدام لأنه يصبغ الخبز. قلت: لا يبعد أن يريد بالصبغ نفس ثمر الزيتون لا الزيت، وكذا يحتمل أن تكون الباء في بِالدُّهْنِ للتعدية إلا أن يكون الإنبات متعديا. قال المفسرون: إنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل لأنها منه تشعبت في البلاد وتفرقت أو لأن معظمها هنالك. قوله وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً قد مر في «النحل» . ولعل القصد بالأنعام هاهنا الإبل خاصة لأنها هي المحمول عليها في العادة ولأنه قرنها بالفلك وهي سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر. وإنما قال في هذه السورة.
فَواكِهُ كَثِيرَةٌ بالجمع بخلاف ما في «الزخرف» لتناسب قوله هنا مَنافِعُ كَثِيرَةٌ ولتناسب قوله جَنَّاتٍ كما قال هنالك فاكِهَةٌ [الرحمن: 11] على التوحيد لتناسب قوله وَتِلْكَ الْجَنَّةُ [مريم: 63] وإنما قال هنا في الموضعين وَمِنْها تَأْكُلُونَ بزيادة الواو خلاف الزخرف لأن تقدير الآية: منها تدخرون ومنها تأكلون ومنها تبيعون ومنها ومنها، وليس كذلك فاكهة الجنة فإنها للأكل فحسب فافهم. واعلم أنه لما انجر الكلام إلى ذكر الفلك أتبعه قصة نوح لأنه أول من ألهم صنعتها، وفيه أيضا تمزيج القصص بدلائل التوحيد على عادة القرآن لأجل الاعتبار والتنشيط. وقوله ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ جملة مستأنفة تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة. ومعنى أَفَلا تَتَّقُونَ أفلا تخافون أن تتركوا عبادة من هو لوجوب وجوده مستحق العبادة ثم تذهبوا فتعبدوا ما ليس بهذه الصفة بل هو في أخس مراتب الإمكان وهي الجمادية.
ثم حكى الله سبحانه عنهم شبها: الأولى قولهم ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ إنكار كون الرسول من جنس البشر أو إنكار كونه مثلهم في الأسباب الدنيوية من المال والجاه والجمال كأنهم ظنوا أن القرب من الله يوجب المزية في هذه الأمور ويتأكد هذا الاحتمال بالشبهة الثانية وهي قوله يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي يتكلف طلب الفضل والرياسة عليكم نظيره وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ [يونس: 78] ويتأكد الاحتمال الأول بالشبهة الثالثة(5/114)
وهي قوله وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً لعلو شأنهم ووفور علمهم وكمال قوتهم. وقد حكى هذه الشبهة عن أقوام آخرين في «حم السجدة» قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [فصلت:
14] خص هذه السورة باسم الله على الأصل ولتقدم ذكر الله وخص تلك السورة باسم الرب لتقدم ذكر الرب في قوله ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ [فصلت: 9] وهم من جملة العالمين قالوه إما اعتقادا وإما استهزاء. الشبهة الرابعة الاعتصام بحبل التقليد ما سَمِعْنا بِهذا أي بمثل هذا الكلام أو بمثل هذا المدعي فيجوز أن يكونوا صادقين في ذلك للفطرة المتداولة، ويجوز أن يكونوا تجاهلوا وتكذبوا لانهماكهم في الغي وتشمرهم لدفع الحق وإفحام النبي صلى الله عليه وسلم بأيّ وجه يمكنهم يؤيده الشبهة الخامسة وهي نسبتهم إياه إلى الجنون مع علمهم ظاهرا بأنه أرجح الناس عقلا ورزانة. قال جار الله: الجنة الجنون أو الجن أي به جن يخبلونه، وهذا بناء على زعم العوام أن المجنون ضر به الجن. ثم رتبوا على هذه الشبهة قولهم فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ أي اصبروا عليه إلى أن ينكشف جنونه ويفيق أو إلى أن يموت أو يقتل. وهذه الشبهة من باب الترويج على العوام فإنه عليه السلام كان يفعل أفعالا على خلاف عاداتهم. وكان رؤساؤهم يقولون للعوام: إنه مجنون لينفروهم عنه وليلبسوا عليهم أمره. ويحتمل أن يكون هذا كلاما مستأنفا وهو أن يقولوا لقومهم اصبروا فإنه إن كان نبيا حقا فالله ينصره ويقوّي أمره فنحن حينئذ نتبعه، وإن كان كاذبا فالله يخذله ويبطل أمره فحينئذ نستريح منه. واعلم أنه سبحانه لم يذكر جواب شبهاتهم لركاكتها ولأنه قد علم في هذا الكتاب الكريم أجوبتها غير مرة وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الأنعام: 9] قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا [الإسراء: 95] أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ [القصص: 66] أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ [البقرة: 170] وإذا بطل طريقة التقليد صار حديث التربص ضائعا يجب قبول قول من يدعي النبوّة بعد ظهور المعجزة من غير توقف. ثم حكى أن نوحا عليه السلام لما علم إصرارهم على الكفر قالَ رَبِّ انْصُرْنِي أي أهلكهم بسبب تكذيبهم إياي ففي نصرته إهلاكهم، أو انصرني بدل تكذيبهم إياي كقولك «هذا بذاك» والمراد بدلني من غم التكذيب سلوة النصرة أو انصرني بإنجاز ما كذبوني فيه وهو وعد العذاب في قوله إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 59] وباقي القصة إلى قوله إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ قد مر تفسير مثلها في سورة هود.
ومعنى فَاسْلُكْ أدخل فيها وقد مر في أول الحجر في قوله كَذلِكَ نَسْلُكُهُ [الآية: 12] وسَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ نقيض سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى [الأنبياء: 101] لأن «على»(5/115)
تستعمل في الضار كما أن اللام تستعمل في النافع. وقد جاء زيادة منهم هاهنا على الأصل وحذفت في «هود» ليحسن عطف وَمَنْ آمَنَ من غير التباس وبشاعة. قيل: في قوله بِأَعْيُنِنا على الجمع فساد قول المشبهة إن الله خلق آدم على صورته. أما قوله فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أي ركبت واستوليت أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ لم يقل «فقولوا» لأن أول الكلام مبني على خطاب نوح، ولأن قول النبي قول الأمة مع ما فيه من الإشعار بفضله ومن إظهار الكبرياء وأن كل أحد لا يليق لخطاب رب العزة. وفي الأمر بالحمد على هلاكهم تقبيح صورة الظلمة كقوله فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الأنعام: 45] وإنما جعل سبحانه استواءهم على السفينة نجاة من الغرق جزما لأنه كان عرفه أن ذلك سبب نجاتهم من الاشتراك مع الظلمة في حكم الإهلاك. ثم أمره أن يسأل ما هو أهم وأنفع أن ينزله في السفينة بدليل عطف فَقُلِ على جزاء فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أو ينزله في الأرض عند خروجه من السفينة لأنه لا يبعد أن يدعو عند ركوب السفينة بما يتعلق بالخروج منها مُنْزَلًا أي إنزالا أو موضع إنزال يبارك له فيه بزيادة إعطاء خير الدارين وقد أمره أن يشفع بالدعاء الثناء المطابق للمسألة وهو قوله وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ أي إنزالا وذلك أنه أقدر على الحفظ وأعلم بحال النازل بل كل منزل فإنه لا يقدر على إيصال الخير إلى النازل إلا بإقداره وتمكينه وإلقاء تلك الداعية في قلبه إِنَّ فِي ذلِكَ الذي ذكر من القصة لَآياتٍ لعبرا ودلالات لمن اعتبر وادّكر فإن إظهار تلك المياه العظيمة والذهاب بها إلى مقارّها لا يقدر عليها إلا القدير الخبير وَإِنْ كُنَّا هي المخففة من الثقيلة واللام في لَمُبْتَلِينَ هي الفارقة. والمعنى وإن الشأن والقصة كما مبتلين أي مصيبين قوم نوح ببلاء الغرق أو مختبرين بهذه الآيات من يخلفهم لننظر من يعتبر كقوله وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر: 15] وقيل: المراد كما يعاقب بالغرق من كفر فقد يمتحن به من لم يكفر على وجه المصلحة لا التعذيب، فليس الغرق كله على وجه واحد.
التأويل:
الفلاح الظفر والفوز والبقاء أي ظفر المؤمنون بالإيمان الحقيقي المقيد بجميع الشرائط بنفوسهم ببذلها في الله، وفازوا بالوصول إلى الله وبقوا به بعد أن فنوا فيه.
الخشوع في الظاهر انتكاس الرأس وغض العين واستماع الأذن وقراءة اللسان ووضع اليمين على الشمال كالعبيد، واعتدال الظهر في القيام وانحناؤه في الركوع وثبات القدمين.
والخشوع في الباطن سكون النفس عن الخواطر والهواجس وحضور القلب لمعاني القراءة والأذكار ومراقبة السر بترك الالتفات إلى المكوّنات، واستغراق الروح في بحر المحبة وذوبانه عند تجلي صفات الجمال والجلال. واللغو كل ما يشغلك عن الله. والزكاة تزكية(5/116)
النفس عن الأخلاق الذميمة بل عن حب الدنيا لأنه رأس كل خطيئة إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ في كلمة «على» دلالة على أنهم يجب أن يستولوا على الأزواج لا بالعكس وإلا كن عدوّا لهم كقوله إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14] وعلامة الاستيلاء على الأزواج أن يبتغي بالنكاح النسل ورعاية السنة في أوانها لا حظ النفس وإلا كان متجاوزا طريق الكمال لأمانتهم يعني التي حملها الإنسان وَعَهْدِهِمْ هو عهد الميثاق في الأزل يحافظون الفرق بين المحافظة والخشوع، أن الخشوع معتبر في نفس الصلاة، والمحافظة معتبرة فيها وفيما قبلها من الشرائط وفيما بعدها وهو أن لا يفعل ما يحبطها ويضيعها الوارثون لأنهم أحياء القلوب وقد نالوا من المراتب ما خلفتها أموات القلوب مِنْ سُلالَةٍ لأنه سل من جميع أجزاء الأرض فجاء مختلف الألوان والأخلاق حسب اختلاف أجزاء الطين. بل بحسب اختلاف المركبات من الطين. ففيه حرص الفأرة والنملة، وشهوة الحمار والعصفور، وغضب الفهد والأسد، وكبر النمر، وبخل الكلب، وشره الخنزير، وحقد الحية، وغير ذلك من الصفات الذميمة. وفيه شجاعة الأسد، وسخاوة الديك، وقناعة البوم، وحلم الجمل، وتواضع الهرة، ووفاء الكلب، وبكور الغراب، وهمة البازي ونحوها من الأخلاق الحميدة فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ لأنه خلق أحسن المخلوقين. أما من حيث الصورة فلأنه تعالى خلق من نطفة متشابهة الأجزاء بدنا مختلف الأبعاض والأعضاء كاللحم والشحم والعظم والعروق والشعر والظفر والعصب والعروق والمخ والأنف والفم واليد والرجل وغيرها مما يشهد لبعضها علم التشريح. وأما من حيث المعنى فلأنه خلق الإنسان مستعدا لحمل الأمانة التي أبى حملها السموات والأرض والجبال وسيجيء تحقيق ذلك في موضعه ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ إلى قوله تُبْعَثُونَ فيه أن الإنسان قابل لموت القلب ولموت النفس ولحشرهما. وفي موت أحدهما حياة الآخر وحشره. وموت القلب عبارة عن انغماسه وتستره في حجب الغواشي الآتية عليه من طرق الحواس الظاهرة وحاستي الوهم والخيال فلذلك قال وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ هي الأغشية والحجب من الجهات المذكورة وَما كُنَّا عَنِ مصالح الْخَلْقِ غافِلِينَ فلا نترك العبد في تلك الحجب بدليل قوله وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ سماء العناية ماءً الرحمة بِقَدَرٍ استعداد السالك فَأَسْكَنَّاهُ في أرض وجوده فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ المعارف وَأَعْنابٍ الكشوف وشجرة الخفي الذي يخرج من طور سيناء الروح بتأثير تجلي أنوار الصفات تَنْبُتُ بدهن حسن الاستعداد لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة لأنه سر بين الله وبين الروح. وَصِبْغٍ لآكل الكونين بقوة الهمة. ثم أخبر عن نعم الغالب أن فيها منافع(5/117)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50) يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
لأنها آلة تحصيل الكمال عَلَيْها وَعَلَى
فلك الشريعة في سفر السير إلى الله حْمَلُونَ
وتأويل قصة نوح قد مر في سورة هود والله أعلم.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 56]
ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)
هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45)
إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50)
يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55)
نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56)
القراآت:
هَيْهاتَ هَيْهاتَ بكسر التاء فيهما: يزيد والوقف بالتاء لا غير وهو الصحيح عنه. وروى ابن وردان عنه بالكسر والتنوين فيهما. الباقون بفتح التاء فيهما في الحالين إلا الكسائي فإنه يقف بالهاء تَتْرا بالتنوين: ابن كثير وأبو عمرو ويزيد والوقف بالألف لا غير. الباقون بالياء في الحالين وأن هذه بفتح الهمزة وسكون النون: ابن عامر وَإِنَّ بالكسر والتشديد: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون وأن بالفتح والتشديد زبرا بفتح الباء: عباس. الآخرون بضمها.
الوقوف:
آخَرِينَ هـ ج للآية مع الفاء واتصال المعنى غَيْرُهُ ط تَتَّقُونَ هـ الدُّنْيا لا لأن ما بعده مقول القول مِثْلُكُمْ لا لأن ما بعده صفة بشر تَشْرَبُونَ هـ(5/118)
لَخاسِرُونَ هـ مُخْرَجُونَ هـ لِما تُوعَدُونَ هـ بِمَبْعُوثِينَ هـ لأن الكل مقول الكفار وباب رخصة الضرورة وجواز إتيان الآية مفتوح بِمُؤْمِنِينَ هـ ط بِما كَذَّبُونِ هـ نادِمِينَ ج هـ للآية مع حسن الوصل تصديقا لقوله عَمَّا غُثاءً ط تفخيما للكلمة التبعيدية بالابتداء مع فاء التعقيب. الظَّالِمِينَ هـ آخَرِينَ هـ ط لأن الجملة ليست بصفة لها لأن العجز عن سبق الأجل لا يختص بهم يَسْتَأْخِرُونَ هـ ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار. تَتْرا ط منونا قرىء أولا للابتداء بكلما أَحادِيثَ ج لما ذكر في غُثاءً لا يُؤْمِنُونَ هـ مُبِينٍ هـ لا لتعلق الجار عالِينَ هـ ج للآية مع الفاء عابِدُونَ هـ ج لذلك الْمُهْلَكِينَ هـ يَهْتَدُونَ هـ وَمَعِينٍ هـ صالِحاً ط عَلِيمٌ هـ ط لمن قرأ وَإِنَّ بالكسر فَاتَّقُونِ هـ زُبُراً ط فَرِحُونَ هـ حِينٍ هـ وَبَنِينَ هـ لا لأن نُسارِعُ مفعول ثان للحسبان الْخَيْراتِ ط لا يَشْعُرُونَ هـ.
التفسير:
عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن هذه القرون هم عاد قوم هود لمجيء قصتهم على أثر قصة نوح في غير هذا الموضع ولقوله تعالى في الأعراف وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ [الآية: 69] وقيل: إنهم ثمود لأنهم أهلكوا بالصيحة وقد قال الله تعالى في هذه القصة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ومعنى فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ جعلناهم موضع إرسال وإلا فلفظة أرسل لا تعدى إلا «بإلى» وضمن الإرسال معنى القول ولهذا جيء بأن المفسرة أي قلنا لهم على لسان الرسول اعْبُدُوا اللَّهَ قال بعضهم: قوله أَفَلا تَتَّقُونَ غير موصول بما قبله وإنما قاله لهم بعد أن كذبوه وردّوا عليه الحجة. والجمهور على أنه موصول لأنه دعاهم إلى الله وحذرهم عقابه إن لم يقبلوا قوله ولم يتركوا عبادة الأوثان. قال جار الله: إنما قال في هذه السورة وَقالَ الْمَلَأُ بالواو وفي الأعراف قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ [الآية: 66] بغير واو ومثله في سورة هود قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ [الآية: 53] لأنه بنى الأمر في ذينك الموضعين على تقدير سؤال سائل، وفي هذه السورة أراد أنه اجتمع في الحصول هذا الحق وهذا الباطل فعطف قولهم على قوله. وقال السكاكي صاحب المفتاح: إنما قدم الجار والمجرور أعني قوله مِنْ قَوْمِهِ على وصف الملا وهم الذين كفروا لطول الصلة بالمعطوفات، ولأنه لو أخر لأوهم أن قوله مِنْ قَوْمِهِ متعلق بالدنيا. ومعنى لقاء الآخرة لقاء ما فيها من الحساب والثواب والعقاب. وَمعنى أَتْرَفْناهُمْ أنعمناهم بحيث شغلوا بالدنيا عن الأخرى. وقوله مِمَّا تَشْرَبُونَ أي من الذي تشربونه فحذف الضمير أو حذف منه لدلالة ما قبله عليه. ثم أكدوا شبهتهم أن الرسول لا يكون من جنس البشر بقولهم وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ «واذن» واقع في جزاء الشرط وجواب لقومهم(5/119)
أي إنكم إذا قبلتم قول مثلكم وأطعتموه خسرتم عقولكم وأبطلتم آراءكم إذ لا ترجيح لبعض البشر على بعض في معنى الدعوة إلى طريق مخصوص هذا بيان كفرهم. ثم بين تكذيبهم بلقاء الآخرة وطعنهم في الحشر بقوله أَيَعِدُكُمْ الآية. قال جار الله: ثني «أنكم» للتوكيد وحسن ذلك الفصل بالظرف ومُخْرَجُونَ خبر الأول أو أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ مبتدأ معناه إخراجكم وخبره إِذا مِتُّمْ والجملة خبر الأول أو أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ في تقدير وقع إخراجكم وهذه الجملة الفعلية جواب «إذا» والجملة الشرطية خبر الأول وفي حرف ابن مسعود أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ ثم أكدوا الاستفهام الإنكاري بقولهم هَيْهاتَ ومعناه بعد وهو اسم هذا الفعل، وفي التكرير تأكيد آخر وكذا في إضمار الفاعل وتبيينه بقوله لِما تُوعَدُونَ قال جار الله: اللام لبيان المستبعد ما هو بعد التصويت بكلمة الاستبعاد كما جاءت اللام في هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] لبيان المهيت به. وقال الزجاج: هو في تقدير المصدر أي البعد لما توعدون أو بعد لما توعدون فيمن نون. ثم بين إترافهم بأنهم قالوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا أي إلا هذه الحياة لأن «إن» النافية دخلت على «هي» العائدة إلى الحقيقة الذهنية فنفت ما بعدها نفي الجنس، وقد مر في «الأنعام» . وإنما زيد في هذه السورة قوله نَمُوتُ وَنَحْيا لأن هذه الزيادة لعلها وقعت في كلام هؤلاء دون كلام أولئك ولم يريدوا بهذا الكلام أنفس المتكلمين وحدهم بل أرادوا أنه يموت بعض ويولد بعض وينقرض قرن ويأتي قرن آخر، ولو أنهم اعتقدوا أنهم يحيون بعد الموت لم يتوجه عليهم ذم ولناقضه قولهم وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ. ثم حكى أنهم زعموا أن كل ما يدعيه هود من الاستنباء وحديث البعث وغيره افتراء على الله وأنهم لا يصدقونه البتة فلا جرم قالَ هو داعيا عليهم كما دعا نوح على قومه رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ قال الله مجيبا له أي عما زمان قليل قصير لَيُصْبِحُنَّ جعل صيرورتهم نادِمِينَ دليلا على إهلاكهم لأنه علم أنهم لا يندمون إلا عند ظهور سلطان العذاب ووقوع أماراته وذلك وقت إيمان اليأس. وزيادة «ما» لتوكيد قصر المدة والصَّيْحَةُ صيحة جبريل كما سلف في الأعراف وفي «هود» ومعنى بِالْحَقِّ بالعدل كقولك «فلان يقضي بالحق» وعلى أصول الاعتزال بالوجوب لأنهم قد استوجبوا الهلاك. والغثاء حميل السيل مما بلي واسودّ من الأوراق والعيدان وغيرها، شبههم بذلك في دمارهم أو في احتقارهم أو في قلة الاعتناء بهم، وفي ضمن ذلك تشبيه استيلاء العذاب عليهم باستيلاء
السيل على الغثاء يقلبه كيف يشاء. ثم دعا عليهم بالهلاك في الدارين بقوله فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ كما مر في سورة هود. وفيه وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم وعرف الظالمين لكونهم مذكورين صريحا بخلاف ما يجيء من قوله فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ لأنهم غير مذكورين إلا بطريق الإجمال وذلك قوله ثُمَّ أَنْشَأْنا(5/120)
مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ
والظاهر أنهم قوم صالح ولوط وشعيب كما ورد في قصصهم على هذا الترتيب في «الأعراف» وفي «هود» وغيرهما. وعن ابن عباس أنهم بنو إسرائيل. والمعنى إنا بعد ما أخلينا الديار من المكلفين أنشأناهم وبلغناهم حد التكليف حتى قاموا مقام من كانوا قبلهم. ثم بين كمال علمه وقدرته في شأن المكلفين بقوله ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أي كل طائفة مجتمعة في قرن لها آجال مكتوبة في الحياة وفي الموت بالهلاك أو الإهلاك، لا يتقدمها ولا يتأخر عنها، وفيه أن المقتول ميت بأجله. وقال الكعبي: معنى الآية أنهم لا يتقدمون وقت عذابهم إن لم يؤمنوا، ولا يتأخرون عنه ولا يستأصلهم إلا إذا علم منهم أنهم لا يزدادون إلا عنادا، وأنهم لا يلدون مؤمنا، وأنه لا نفع في بقائهم لغيرهم ولا ضرر على أحد في هلاكهم. ثم بين أن رسل الله كانوا بعد هذه القرون متواترين وأن شأنهم في التكذيب كان واحدا، وكانت سنة الله فيهم باتباع بعضهم بعضا في الإهلاك. والتاء في تَتْرا بدل من الواو في الوتر وهو الفرد أي أرسلناهم واحدا بعد واحد، والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه جميعا فلذلك جاء في القرآن «رسلنا» و «رسلهم» و «رسولها» وأحاديث يكون اسم جمع للحديث أو جمعا له من غير لفظه، ومنه أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ويكون جمعا للأحدوثة من لفظها كالأضحوكة والأعجوبة وهو المراد من الآية أي جعلناهم أخبارا يسمعونها ويتعجب منها لأنهم استؤصلوا فلم يبق فيهم عين ولا أثر سوى الحكاية. ثم ذكر طرفا من قصة موسى عليه السلام. عن الحسن بِآياتِنا أي بديننا كيلا يلزم منه تكرار لأن السلطان المبين هو المعجز، والأقرب قول ابن عباس أنها الآيات التسع لأن الآيات عند ذكر الرسل يراد بها المعجزات في عرف القرآن، والسلطان هو العصا لأنها كانت أم آياته وأقدمها فخصت بالذكر لشرفها وقوة دلالتها.
ويجوز أن يراد أنها آيات في أنفسها وحجة بينة بالنسبة إلى المتحدين بها، أو يراد به تسلط موسى عليه السلام في الاستدلال على الصانع وأنه ما كان يقيم لهم وزنا. ثم حكى عن فرعون وقومه صفتهم وشبهتهم. أما الصفة فهي الاستكبار والعلو أي طلبوا الكبر وتكلفوه واستنكفوا عن قبول الحق وكانوا مع ذلك رفيعي الحال في أمور الدنيا غالبين قاهرين مستظهرين بالعدد والعدد، وأما الشبهة فهي إنكار كون الرسول من جنس البشر ولا سيما إذا كان قومهما وهم بنو إسرائيل خدما وعبيدا لهم. قال أبو عبيدة: العرب تسمي كل من دان لملك عابدا له، ويحتمل أن يقال: إنه كان يدعي الإلهية فادعى للناس العبادة وإن طاعتهم عبادة على الحقيقة والبشر يقع على الواحد وعلى الجمع. والمثل يوصف به الاثنان والجمع والمذكر والمؤنث. ويقال أيضا: هما مثلاه وهم أمثاله. ثم بين أنه لما خطرت هذه الشبهة ببالهم صرحوا بالتكذيب فأهلكوا لذلك وكانوا في حكم الله وعلمه كذلك. ثم حكى ما(5/121)
جرى على قوم موسى بعد إهلاك عدوهم وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ومن الناس من ظن أن هذا الضمير راجع إلى فرعون وملئه. والمعنى أنه خص موسى بالكتب لا للتكذيب ولكن ليهتدوا به، فلما أصروا على الكفر مع البيان العظيم استحقوا الإهلاك وهو وهم لأن موسى لم يؤت التوراة إلا بعد إهلاك القبط بدليل قوله وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى [القصص: 43] وفي قوله في أول «البقرة» وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ إلى قوله وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [الآية: 51] والقصة مشهورة. فالصحيح أنه ذكر موسى وأراد قومه كما يقال «هاشم وثقيف» ويراد قومهم نظيره عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ [يونس: 83] وقد مر في آخر «يونس» .
ثم أجمل قصة عيسى بقوله وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وقد مر بيانه في آخر الأنبياء في قوله وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [الآية: 92] قال جار الله: لو قيل آيتين لجاز لأن مريم ولدت من غير مسيس، وعيسى روح من الله ألقى إليها وقد تكلم في المهد وكان يحيى الموتى مع معجزات أخر. واللفظ محتمل للتثنية على تقدير: وجعلنا ابن مريم آية وأمه آية ثم حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها. والأقرب حمل اللفظ على الوجه الذي لا يتم إلا بمجموعهما وهو الولادة على الوجه العجيب الناقص للعادة. والربوة بحركات الراء هي الأرض المرتفعة. عن كعب وقتادة وأبي العالية: هي إيليا أرض بيت المقدس وأنها كبد الأرض وأقرب إلى السماء بثمانية عشر ميلا. وعن الحسن: فلسطين والرملة. ومثله عن أبي هريرة قال: الزموا هذه الرملة رملة فلسطين فإنها الربوة التي ذكرها الله. وقال الكلبي وابن زيد: هي مصر. والأكثرون على أنها دمشق وغوطتها والقرار المستقر من أرض منبسطة مستوية. وعن قتادة: أراد ذات ثمار وماء يعني لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها والمعين الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض من عانه إذا أدركه بعينه فوزنه «معيون» على «مفعول» وقال الفراء والزجاج: إن شئت جعلته «فعيلا» من الماعون وهو ما سهل على معطيه من أثاث البيت ومثله قول أبي علي: المعين السهل الذي ينقاد ولا يتعاصى. وقال جار الله:
ووجه من جعله «فعيلا» أنه نفاع لظهوره وجريه من الماعون وهو المنفعة. قال المفسرون:
سببب الإيواء أنها قرت بابنها عيسى إلى الربوة وبقيت بها اثنتي عشرة سنة، وإنما ذهب بها ابن عمها يوسف ثم رجعت إلى أهلها بعد ما مات ملكهم. قوله سبحانه يا أَيُّهَا الرُّسُلُ ليس على ظاهره لأنهم أرسلوا في أزمنة مختلفة وفي تأويله وجوه: أحدها الإعلام بأن كل رسول في زمانه نودي بذلك ووصى به ليعتقد السامع أن أمرا نودي له جميع الرسل حقيق أن(5/122)
يؤخذ به ويعمل عليه، ويؤيد هذا التأويل ما
روي عن أم عبد الله أخت شداد بن أوس أنها بعثت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح من لبن في شدة الحر عند فطره صلى الله عليه وسلم وهو صائم فرده الرسول إليها وقال: من أين لك هذا؟ فقالت: من شاة لي ثم رده وقال: من أين هذه الشاة؟ فقالت:
اشتريتها بمالي فأخذه. ثم إنها جاءته وقالت: يا رسول الله لم رددته؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بذلك أمرت الرسل أن لا تأكل إلا طيبا ولا تعمل إلا صالحا.
وثانيها وهو قول محمد بن جرير أن المراد به عيسى وقد خاطب الواحد خطاب الجمع لشرفه وكقوله الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران: 173] والمراد نعيم بن مسعود. ووقع هذا الإعلام عند إيواء عيسى ومريم إلى الربوة فذكر على سبيل الحكاية أي آويناهما وقلنا لهما هذا أي أعلمناهما أن الرسل كلهم خوطبوا بهذا الكلام، فكلا مما رزقناكما واعملا عملا صالحا اقتداء بالرسل. وثالثها وهو الأظهر عندي أن المراد نبينا صلى الله عليه وسلم لأنه ذكر ذلك بعد انقضاء أخبار الرسل. ووجه اتصال الكلام بما بعده ظاهر كما نقرره، ووجه اتصاله بما قبله هو انتهاء الكلام إلى ذكر المستلذ وبالحقيقة المراد به الأمة كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] والطيب ما يستطاب ويستلذ من المآكل والفواكه أو هو الحلال. وقيل: طيبات الرزق حلال لا يعصى الله فيه، وصاف لا ينسى الله فيه، وقوام يمسك النفس ويحفظ العقل. وفي تقديم الأكل من الطيبات على الأمر بالعمل الصالح دليل على أن العمل الصالح لا بد أن يكون مسبوقا بأكل الحلال. وفي قوله إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تحذير من مخالفة هذا الأمر. وقال في سورة سبأ إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الآية: 11] وكلاهما من أسمائه تعالى إلا أنه ورد هاهنا على الأصل لأن العلم أعلم وهناك راعى الفاصلة أو خصص لأن الخطاب مخصوص بآل داود.
ومن قرأ وَإِنَّ بالكسر فعلى الاستئناف، ومن قرأ بالفتح مخففا ومشددا فعلى حذف لام التعليل والمعلل فَاتَّقُونِ ثم من قال: الخطاب لجميع الرسل فالمشار إليه بهذه هو أصول الأديان والشرائع التي لا خلاف فيها بين الرسل وجملتها تقوى الله كما ختم به الآية.
والضمير في فَتَقَطَّعُوا راجع إلى أممهم. قال الكلبي ومقاتل والضحاك: يعني مشركي مكة والمجوس واليهود والنصارى. ومن قال: الخطاب لعيسى فهذه إشارة إلى ملته في وقتها.
وعلى القول الأظهر بل على جميع الأقوال المشار إليه ملة الإسلام كما مر مثله في آخر سورة الأنبياء، كأنه أمر هناك بالعبادة التي هي أعم ثم أمر بالتقوى التي هي أخص ولهذا قال فَتَقَطَّعُوا بالفاء ليتوجه الذم أتم فإن المأتي به كلما كان أبعد من المأمور به كان سبب الذم أقوى، فلا يكون ترتيب التقطع على التقوى كترتبه على العبادة ولهذا أكد التقطع بقوله زُبُراً بضم الباء جمع زبور أي حال كونه كتبا مختلفة يعني جعلوا دينهم أديانا ومذاهب(5/123)
شتى. ومن قرأ بفتح الباء فمعناه قطعا استعيرت من زبر الفضة والحديد. ثم أكد الذم بقوله كُلُّ حِزْبٍ بِما أي كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه دينا لنفسه معجب به يرى أنه المحق الرابح وغيره المبطل الخاسر. ثم بالغ في الذم والتهديد بقوله فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ وهذا الأمر مما يدل على أن المخاطب بقوله يا أَيُّهَا الرُّسُلُ هو نبينا صلى الله عليه وسلم وقد يطلق لفظ الجماعة على الواحد تعظيما وتفخيما كقوله إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] والغمرة الماء الذي يغمر القامة. قال جار الله: ضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم وغوايتهم، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل. قلت: وأنت إذا تأملت فيما أسلفنا لك في المقدمة التاسعة من مقدمات الكتاب عرفت الفرق بين الوجهين. قال في الكشاف إلى حين أي إلى أن يقتلوا أو يموتوا. والتحقيق أنه الحالة التي يظهر عندها الحسرة والندامة وذلك إذا عرّفهم الله بطلان ما كانوا عليه وعرّفهم سوء منقلبهم فيشمل الموت والقبر والمحاسبة والنار، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ونهي عن الجزع من تأخير عقابهم. ثم إن القوم كانوا أصحاب نعمة ورفاهية فبين الله تعالى أن ذلك الذي جعله مددا لهم وهو المال والبنون سبب لاستدراجهم إلى زيادة الإثم نظيره في آل عمران إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [الآية: 178] وما في أَنَّما موصولة والرابط محذوف أي نسارع لهم فيه. وفي قوله بَلْ لا يَشْعُرُونَ أنهم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخبر. وفيه أنه سبحانه أعطاهم هذه النعم ليكونوا متمكنين بها من الاشتغال بطلب الحق وحين أعرضوا عن الحق كان لزوم الحجة عليهم أقوى.
التأويل:
يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ لم يعلموا أنهم وإن كانوا يأكلون مما يأكلون ولكنهم لا يأكلون كما يأكلون.
«المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعه أمعاء»
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وأهل الله يأكلون ويشربون من مقام «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «1» وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ أي في حال الطفولية كانت صفات الروح والقلب عون النفس وتربيتها وتربية صفاتها لاستكمال القالب إلى حد البلوغ، والاستعداد لتحمل أعباء تكاليف الشرع وَآوَيْناهُما يعني مريم النفس وعيسى القلب إِلى رَبْوَةٍ القالب الذي فيه قرارهما ويجري فيه ماء معين الحكمة من القلب على اللسان يا أَيُّهَا الرُّسُلُ أي القوى المرسلة إلى القالب.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التمني باب 9. مسلم في كتاب الصوم حديث 57، 58. الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (3/ 8) (6/ 126) .(5/124)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 90]
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61)
وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)
مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71)
أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76)
حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81)
قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86)
سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)
القراآت:
تهجرون بضم التاء وكسر الجيم: نافع. الآخرون بفتح التاء وضم الجيم خرجا فخرج بغير الألف فيهما: ابن عامر كلاهما بالألف حمزة وعلي وخلف. الباقون بحذف الألف من الأول وإثباتها في الثاني فتحنا بالتشديد: يزيد سَيَقُولُونَ لِلَّهِ الثانية والثالثة: أبو عمرو وسهل ويعقوب. الآخرون باللام فيهما كالأول حملا على المعنى لأن قولك «من رب هذا» «ولمن هذا» في معنى واحد.(5/125)
الوقوف:
مُشْفِقُونَ هـ لا يُؤْمِنُونَ لا يُشْرِكُونَ هـ لا راجِعُونَ هـ لا لأن الكل معطوفات على اسم «إن» والخبر أُولئِكَ الجملة سابِقُونَ هـ لا يُظْلَمُونَ هـ عامِلُونَ هـ يَجْأَرُونَ هـ لا لحق القول لا تُنْصَرُونَ هـ تَنْكِصُونَ هـ لا لأن ما بعده حال مُسْتَكْبِرِينَ هـ قد قيل: على جعل الجار والمجرور مفعول سامِراً أو مفعول تَهْجُرُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ مُنْكِرُونَ هـ لصورة الاستفهام وهو العطف جِنَّةٌ ط كارِهُونَ هـ فِيهِنَّ ط مُعْرِضُونَ هـ ط لأن الاستفهام إنكار خَيْرٌ ز وقد قيل: بناء على أن الواو للابتداء والحال أوجه. الرَّازِقِينَ هـ مُسْتَقِيمٍ هـ لَناكِبُونَ هـ يَعْمَهُونَ هـ يَتَضَرَّعُونَ هـ مُبْلِسُونَ هـ وَالْأَفْئِدَةَ ط تَشْكُرُونَ هـ تُحْشَرُونَ هـ وَالنَّهارِ ط تَعْقِلُونَ هـ الْأَوَّلُونَ هـ لَمَبْعُوثُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ تَعْلَمُونَ هـ لِلَّهِ ط تَذَكَّرُونَ هـ الْعَظِيمِ هـ لِلَّهِ ط تَتَّقُونَ هـ تَعْلَمُونَ هـ لِلَّهِ ط تُسْحَرُونَ هـ لَكاذِبُونَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما نفي الخيرات الحقيقية عن الكفرة المتنعمين أتبعه ذكر من هو أهل للخيرات عاجلا وآجلا فوصفهم بصفات أربع: الأولى الإشفاق من خشية ربهم وظاهره ينبىء عن تكرار، لأن الإشفاق يتضمن الخشية فمنهم من قال: جمع بينهما للتأكيد، ومنهم من حمل الخشية على العذاب أي من عذاب ربهم مشفقون وهو قول الكلبي ومقاتل، ومنهم من حمل الإشفاق على أثره وهو الدوام في الطاعة. والمعنى الذين هم من خشيته دائمون على طاعته جادّون في طلب مرضاته. ومنهم من قال: الإشفاق كمال الخوف أي هم من سخط الله عاجلا ومن عقابه آجلا في نهاية الخوف، ويلزم ذلك أن يكونوا في غاية الاحتراز عن المعاصي. وفيه أنهم إذا كانوا خائفين من الخشية فلأن يخافوا من عدم الخشية أولى.
الثانية قوله وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ والظاهر أنها القرآن. وقيل: هي المخلوقات الدالة على وجود الصانع. وليس المراد التصديق بوجودها فقط فإن ذلك معلوم بالضرورة فلا يوجب المدح، بل التصديق بكونها دلائل موصلة إلى العرفان ويتبعه الإقرار اللساني ظاهرا. الثالثة التبري عما سوى الله ظاهرا وباطنا بأن لا يشرك به طرفة عين. الرابعة قوله وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا أي يعطون ما أعطوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ خائفة في شأن ذلك الإعطاء. ثم علل ذلك الوجل بقوله أَنَّهُمْ أي لأنهم إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ
فإن من اعتقد الرجوع إلى الجزاء والمساءلة ونشر الصحف وتتبع الأعمال وعلم أن المجازي هو الذي لا يخفى عليه الضمائر والسرائر لم يخل عمله من حسن النية وخلوص الطوية بحيث يكون أبعد عن الرياء وأدخل في الإخلاص. والظاهر أن هذا الإيتاء مختص بالزكاة والتصدق، ويحتمل(5/126)
أن يراد إعطاء كل فعل أو خصلة أي إتيانها يؤيده ما
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ ويأتون ما أتوا
أي يفعلون ما فعلوا.
وعن عائشة أنها قالت: قلت يا رسول الله هو الذي يزني ويسرق ويشرب الخمر وهو على ذلك يخاف الله؟ قال: لا يا بنت الصديق ولكن هو الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو على ذلك يخاف الله أن لا يقبل منه.
وفي قوله يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ معنيان: أحدهما يرغبون في الطاعات أشد الرغبة فيبادرونها، والثاني أنهم يتعجلون في الدنيا وجوه المنافع والإكرام لأنهم إذا سورع بها لهم فقد سارعوا في نيلها.
قال جار الله: وهذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدمة لأن فيه إثبات ما نفى عن الكفار للمؤمنين. وقال في قوله وَهُمْ لَها سابِقُونَ إنه متروك المفعول أو منويه أي فاعلون السبق لأجلها أو سابقون الناس لأجلها، والمراد إياها سابقون كقولك «هو لزيد ضارب» بمعنى «هو زيدا ضارب» جئت باللام لضعف عمل اسم الفاعل ولا سيما فيما قبله، والمعنى أنهم ينالون الخيرات قبل الأخرى حيث عجلت لهم في الدنيا. وجوّز أن يكون لَها سابِقُونَ خبرين أحدهما بعد الآخر كقولك «هذا هو» لهذا الأمر أي صالح له.
وحين انجر الكلام إلى ذكر أعمال المكلفين ذكر حكمين لها الأوّل قوله وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وفي الوسع قولان: أحدهما أنه الطاقة والآخر أنه دون الطاقة وهو قول المعتزلة ومقاتل والضحاك والكلبي، لأنه اتسع فيه على المكلف ولم يضيق مثاله إن لم يستطيع أن يصلي قائما فليصل قاعدا وإلا فليوم إيماء. وفيه أن هذا الذي وصف به الصالحين غير خارج من وسعهم. الثاني قوله وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ والمراد بنطقه إثبات كل عمل فيه وهو اللوح أو صحيفة الأعمال لا يقرأون منها يوم القيامة إلا ما هو صدق وعدل.
والبحث بين الأشاعرة والمعتزلة في مثل هذا المقام معلوم. أما قوله بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا ففيه طريقان: أحدهما راجع إلى الكفار والمعنى بل قلوب الكفار في غفلة غامرة لها من هذا الذي بيناه في القرآن، أو من هذا الذي ينطق بالحق أو الذي عليه هؤلاء المؤمنون. وَلَهُمْ أَعْمالٌ متجاوزة لذلك الذي وصف به المؤمنون كمتابعة الهوى وطلب الدنيا والإعراض عن المولى. هُمْ لَها عامِلُونَ في الحال على سبيل الاعتياد لا يفطمون عنها حتى يأخذهم العذاب أو في الاستقبال لأنها مبينة في علم الله مكتوبة في اللوح عليهم أن يعملوا بها بحكم الشقاء الأزلي. وثانيهما وهو اختيار أبي مسلم أن هذه الآيات من صفات المشفقين كأنه سبحانه قال بعد وصفهم وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ونهايته ما أتى به هؤلاء. وَلَدَيْنا كِتابٌ يحفظ أعمالهم. بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا الذي وصفناهم به أهو مقبول عند الله أم مردود وَلَهُمْ أَعْمالٌ من دُونِ ذلِكَ الذي وصف هُمْ لَها(5/127)
عامِلُونَ
وهي النوافل السرية والأعمال القلبية. ثم إنه رجع إلى وصف الكفار بقوله حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ وهو عذاب الآخرة أو قتلهم يوم بدر أو الجوع حين
دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف.
فابتلاهم الله بالقحط حتى أكلوا الجيف والكلاب والعظام المحترقة والقدّ والأولاد. والجؤار الصراخ باستغاثة. ثم أخبر أنه يقال لهم حينئذ على جهة التبكيت لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ لا تغاثون من جهتنا أو لا تمنعون منا، ثم عدد عليهم التوبيخ بمقابحهم.
ومعنى النكوص على العقبين التباعد عن الحق والتجافي عنه كمن رجع على ورائه وقد مر في «الأنعام» .
وفي مرجع الضمير في بِهِ أقوال: أحدها أنه للبيت العتيق أو للحرم. والذي سوّغ هذا الإضمار شهرتهم بالاستكبار بالبيت والتفاخر بولايته والقيام به وكانوا يقولون لا يظهر علينا أحد لأنا أهل الحرم. وثانيها مستكبرين بهذا التراجع والتباعد. وثالثها مستكبرين بالقرآن على تضمين الاستكبار معنى التكذيب، أو على أن الباء للسببية لأن سماع القرآن كان يحدث لهم استكبارا وعتوّا. ورابعها أنه يتعلق ب سامِراً أو ب تَهْجُرُونَ والهجر بالضم الفحش وبالفتح الهذيان، وأهجر في منطقه إذا أفحش. والضمير للقرآن أو للنبي أي تسمرون بذكر القرآن وبالطعن فيه أو في النبي، وكانت عامة سمرهم حول البيت ذكر القرآن وتسميته سحرا وشعرا وسب رسول الله صلى الله عليه وسلم والسامر نحو الحاضر في الإطلاق على الجمع.
ثم بين أن سبب إقدامهم على الكفر أحد أمور أربعة: الأوّل عدم التدبر في القرآن لأنهم إن تدبروه وتأملوا مبانيه ومعانيه ظهر لهم صدقه وإعجازه فيصدقوا به وبمن جاء به. الثاني قوله أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ والمراد أمر الرسالة. ثم المقصود تقرير أنه لم يأت آباءهم الأقربين رسول كقوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس: 6] فلذلك أنكروه واستبعدوه، أو تقرير أنه أتى آباءهم الأقدمين رسل وذلك أنهم عرفوا بالتواتر أن رسل الله فيهم كثيرة وكانت الأمم بين مصدق ناج وبين مكذب هالك بعذاب الاستئصال، فما دعاهم ذلك إلى تصديق هذا الرسول وآباؤهم إسماعيل وأعقابه من عدنان وقحطان. وقيل: أراد أفلم يدبروا القرآن فيخافوا عند تدبر آياته وأقاصيصه مثل ما نزل بمن قبلهم من المكذبين، أم جاءهم من الأمن ما لم يأت آباءهم حين خافوا الله فآمنوا به وبكتبه ورسله وأطاعوه؟
عن النبي صلى الله عليه وسلم «لا تسبوا مضر ولا ربيعة فإنهما كانا مسلمين ولا تسبوا قسا فإنه كان مسلما ولا تسبوا الحرث بن كعب ولا أسد بن خزيمة ولا تميم بن مر فإنهم كانوا على الإسلام وما(5/128)
شككتم فيه من شيء فلا تشكوا في أن تبعا كان مسلما» «1»
الثالث قوله أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا نبه بذلك على أنهم عرفوه وعرفوا صحة نسبته وأمانته فكيف كذبوه بعد أن اتفقت كلمتهم على أنه أمين؟ الرابع نسبتهم إياه إلى الجنون وكانوا يعلمون أنه أرجحهم عقلا ولكنه جاء بما يخالف هواهم فتشككوا في أمره أو شككوا العوام إبقاء على مناصبهم ورياستهم. ثم أضرب عن أقوالهم منبها على مصدوقية أمر النبي فقال بَلْ جاءَهُمْ متلبسا بِالْحَقِّ أو الباء للتعدية والحق الدين القويم والصراط المستقيم وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ وأقلهم كانوا لا يكرهونه وإن لم يظهروا الإيمان به خوفا من قالة الأعداء كما يحكى عن أبي طالب، ولهذا جاء الخلاف في صحة إسلامه. ثم بين أن الإلهية تقتضي الاستقلال في الأوامر والنواهي، وأن الحق والصواب ينحصر فيما دبره إله العالمين وقدّره فقال وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ نظيره ما مر في قوله لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: 22] وقيل: الحق الإسلام، والمراد لو انقلب الإسلام شركا كما تقتضيه أهواؤهم لجاء الله بالقيامة، ولأهلك العالم ولم يؤخر. وعن قتادة: الحق هو الله، والمعنى لو كان الله آمرا بالشرك والمعاصي على وفق آرائهم لما كان إلها ولكان شيطانا فلا يقدر على إمساك السموات والأرض، وحينئذ يختل نظام العالم. ثم ذكر أن نزول القرآن عليهم من جملة الحق فقال بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ إن كانت الباء للتعدية فظاهر، وإن كانت للمصاحبة فعلى حذف مضاف أي أتاهم رسولنا متلبسا بالكتاب الذي هو ذكرهم أي وعظهم أوصيتهم وفخرهم، أو الإضافة بدل اللام العهدي أي بالذكر الذي كانوا يتمنونه ويقولون لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: 169] ثم بيّن أن دعوته ليست مشوبة بالطمع الموجب للنفرة فقال أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً أي جعلا وكذا الخراج وقد مر في آخر الكهف. وقيل: الخرج أقل ولذا قرأ الأكثرون خَرْجاً فَخَراجُ يعني أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق فالكثير من عطاء الخالق خير.
وحين أثبت لرسوله مواجب قبول قوله ونفى عنه أضدادها صرح بمضمون أمره ومكنون سره فقال وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو دين الإسلام لا تدعوهم إلى غيره من الطرق المنحرفة عن جادة الصواب، وأشار إلى هذه الطرق بقوله وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ هم المذكورون فيما تقدم أو كل من لا يؤمن بالاخرة عَنِ الصِّراطِ المستقيم المذكور لَناكِبُونَ والتركيب يدور على العدول عن القصد ومنه المنكب لمجمع
__________
(1)
روى أحمد في مسنده (5/ 340) «لا تسبوا تبعا فإنه قد كان أسلم»
ولم يأت على ذكر التبعية.(5/129)
عظم العضد والكتف، والنكباء للريح التي تعدل عن مهاب الرياح للقوم. ثم بين إصرارهم على الكفر بقوله وَلَوْ رَحِمْناهُمْ الآية.
يروى أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة ومنع الميرة عن أهل مكة وأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز، جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال:
بلى. فقال الآباء بالسيف والأبناء بالجوع فادع الله أن يكشف عنا الضر فأنزل الله الآية.
والمعنى لو كشف الله برحمته هذا الهزال والجوع عنهم لأصروا على ما هم فيه من الطغيان.
ثم استشهد على ذلك بقوله وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ أي قبل ذلك بِالْعَذابِ يعني ما جرى عليهم يوم بدر فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ أي ما خضعوا له وقد مر اشتقاقه في «آل عمران» وَما يَتَضَرَّعُونَ عدل إلى المضارع لأنه أراد وما من عادة هؤلاء أن يتضرعوا حتى فتحنا عليهم باب العذاب الشديد وهو الجوع الذي هو أشد من الأسر والقتل، فأبلسوا الساعة أي خضعت رقابهم وجاء أعتاهم وأشدهم شكيمة وأخشنهم عريكة يستعطفك. ويحتمل أن يراد محناهم بكل محنة من القتل والجوع فما شوهد منهم انقياد للحق وهم كذلك إذا عذبوا بنار جهنم فحينئذ يبلسون، والإبلاس السكوت مع تحير أو اليأس من كل خير. ثم نبه بقوله وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ على أن أسباب التأمل في الدلائل موجودة، وأبواب الأعذار بالكلية مسدودة، فما كفر من كفر ولا عند من عند إلا للشقاء الأزلي. وفي قوله قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي تشكرون شكرا قليلا «وما» مزيدة للتوكيد دليل على أن المقر أقل من الجاحد. وعن أبي مسلم أنه قال: أراد بالقلة العدم. وفي الآية ثلاثة معان: أحدها إظهار النعمة. وثانيها مطالبة العباد بالشكر عليها فشكر السمع أن لا يسمع إلا لله وبالله ومن الله، وشكر البصر أن ينظر بنظر العبرة لله وبالله وإلى الله، وشكر الفؤاد تصفيته عن رين الأخلاق الذميمة وقطع تعلقه عن الكونين لشهوده بالله. وثالثها الشكاية أن الشاكر قليل.
ثم بين دلائل أخر على الوحدانية فقال وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ أي خلقكم وبثكم في الأرض للتناسل وإلى حيث لا مالك سواه تحشرون بعد تفرقكم وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وفيه مع تذكر نعمة الحياة بيان أن المقصود منها الانتقال إلى دار الثواب وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أي هو مختص بتصريفهما وأنهما يشبهان الموت والحياة. وفي قوله أَفَلا تَعْقِلُونَ توبيخ وتهديد. ثم نبه بقوله بَلْ قالُوا الآيات على أنه لا شبهة لهم في إنكار البعث إلا التشبث بحبل التقليد والاستبعاد. قال علماء المعاني: قوله لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا وارد على الأصل لأن التأكيد مذكور عقيب المؤكد وبعده المفعول الثاني. وأما في سورة النمل فسبب تقديم المفعول الثاني على الضمير وعلى المعطوف هو أنه اقتصر(5/130)
هناك على قوله تُراباً والتراب أبعد في باب الإعادة من العظام، فقدم ليدل على مزيد الاعتناء به في شأن الاستنكار. ثم رد على منكري الإعادة أو على عبدة الأوثان بقوله قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي إن كان عندكم علم فأجيبوني وفيه استهانة بهم وتجهيل لهم بأمر الديانات حتى جوّز أن يشتبه عليهم مثل هذا المكشوف الجلي. وفي قوله أَفَلا تَذَكَّرُونَ ترغيب في التدبر وبعث على التأمل في أمر التوحيد والبعث، فإن من قدر على اختراع الأرض ومن فيها كان حقيقا بأن لا يشرك به بعض خلقه وكان قادرا على إعادة ما أفناه، وفي قوله أَفَلا تَتَّقُونَ مثل هذا الترغيب مع التخويف وكان أولى بالآية الثانية لأجل التدرج ولتعظيم السموات والعرش، ولأن تذكر واجب الوجود مقدم على اتقاء مخالفته، قال جار الله: أجرت فلانا على فلان إذا أغثته منه ومنعته يعني وهو يغيث من يشاء ممن يشاء ولا يغيث أحد منه أحدا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ بهذه الصفة غيره فأجيبوني به.
ومعنى تُسْحَرُونَ تخدعون عن طاعته والخادع هو الشيطان والهوى. ثم بين بقوله بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ أنه قد بالغ في الحجاج عليهم بهذه الآيات حتى استبان بما هو الحق والصدق وَإِنَّهُمْ مع ذلك لَكاذِبُونَ حيث يدعون له الولد والشريك وينسبون إليه العجز عن الإعادة.
التأويل:
مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ إشارة إلى استيلاء سلطان الهيبة في الحضور والغيبة بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ هي ما يكاشف لهم من شواهد الحق في السر والعلانية بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ هو ترك الملاحظة في رد الناس وقبولهم ومدحهم وذمهم وانقطاع النظر في المضار والضار عن الوسائط والأسباب يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يتوجهون إلى الله وينقطعون عما سواه وَهُمْ لَها سابِقُونَ على قدر سبق العناية وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها كلفهم أن يقولوا لا إله إلا الله وهم قادرون على ذلك، وأمرهم بقبول دعوة الأنبياء وما هم بعد بعاجزين عنه، وقد كتب في اللوح أنهم يقدرون على هذه التكاليف. وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ فلا يكلفون ما ليس في وسعهم واستعدادهم حتى إذا أخذنا أَكابِرَ مُجْرِمِيها مجرميهم بعذاب فساد الاستعداد لفسدت سموات أرواحهم وأرض نفوسهم ومن فيهن من القلب والسر وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فيه أن العلماء بالله عليهم أن لا يدنسوا وجوه قلوبهم الناضرة بدنس الأطماع الفارقة. وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ أولا بعذاب الغبن حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باب عذاب الرين يحيي بنوره قلوب بعض عباده ويميت نفوسهم عن صفاتها الذميمة، أو يحيي بعض النفوس باتباع شهواتها ويميت بعض القلوب باستيلاء ظلمات الطبيعة عليها وَلَهُ اخْتِلافُ ليل البشرية ونهار الروحانية أو طول ليل الفراق وقصر نهار الوصال قالُوا(5/131)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111) قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
أَإِذا مِتْنا
فيه أن اليأس من الوصول والوصال ليس من شيم أهل الكمال فقد تقوم قيامة العشق فيبعث القلب الميت أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ ملكوت كل شيء هي جهة روحانيته وَهُوَ يُجِيرُ الأشياء بقيوميته عن الهلاك ولا مانع له ممن أراد به أن لا يجيره.
[سورة المؤمنون (23) : الآيات 91 الى 118]
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95)
ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105)
قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110)
إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115)
فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
القراآت:
عالم بالرفع: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وعاصم غيره حفص إلا الخزاز. وقرأ رويس بالخفض إذا وصل وبالرفع إذا ابتدأ، الآخرون بالخفض لَعَلِّي أَعْمَلُ بسكون الياء: عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وابن مجاهد عن ابن ذكوان. شقاوتنا حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون شِقْوَتُنا بكسر الشين وسكون القاف في غير ألف. سِخْرِيًّا بضم السين وكذلك في صاد: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي(5/132)
وخلف والمفضل والخزاز عن هبيرة. الآخرون بكسرها إنهم بالكسر: حمزة وعلي والخزاز عن هبيرة. قل كم قل إن لبثتم على الأمر فيهما: حمزة وعلي وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل وافق ابن كثير في الأول. لا تُرْجَعُونَ على البناء للفاعل يعقوب وحمزة وعلي وخلف.
الوقوف:
عَلى بَعْضٍ ط يَصِفُونَ هـ ط لمن قرأ بالرفع إلى هو عالم ومن خفض لم يقف لأنه بدل أو وصف يُشْرِكُونَ هـ ما يُوعَدُونَ هـ لا لأن قوله «فلا» جواب للشرط وهو إما والنداء عارض الظَّالِمِينَ هـ لا لَقادِرُونَ هـ السَّيِّئَةَ ط يَصِفُونَ هـ الشَّياطِينِ هـ لا يَحْضُرُونِ هـ ارْجِعُونِ هـ لا لتعلق لعل كَلَّا ط لأنها للردع عما قبلها أي لا يرجع. وقيل: مبتدأ بها بمعنى حقا والأول أحسن قائِلُها ط يُبْعَثُونَ هـ وَلا يَتَساءَلُونَ هـ الْمُفْلِحُونَ هـ خالِدُونَ هـ كالِحُونَ هـ تُكَذِّبُونَ هـ ضالِّينَ هـ ظالِمُونَ هـ وَلا تُكَلِّمُونِ هـ الرَّاحِمِينَ هـ ج للآية والوصل أجوز لشدة اتصال المعنى وللفاء تَضْحَكُونَ هـ صَبَرُوا ط لمن قرأ أَنَّهُمْ بالكسر الْفائِزُونَ هـ سِنِينَ هـ الْعادِّينَ هـ تَعْلَمُونَ هـ لا تُرْجَعُونَ هـ الْحَقُّ هـ لا لأن ما بعده يصلح مستأنفا وحالا أي تعالى متوحدا غير مشارك إِلَّا هُوَ هـ لا لأن قوله رَبُّ الْعَرْشِ يصلح بدلا من هو وخبر مبتدأ محذوف الْكَرِيمِ ط آخَرَ لا لأن الجملة بعده صفة بِهِ لا لأن ما بعده جواب عِنْدَ رَبِّهِ ط الْكافِرُونَ هـ الرَّاحِمِينَ هـ.
التفسير:
لما أثبت لنفسه الإلهية بالدلائل الإلزامية في الآيات المتقدمة نفى عن نفسه الأنداد والأضداد بقوله مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ بقوله وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ وفيه ردّ على القائلين بأن الملائكة بنات الله وإبطال لأقوال اليهود والنصارى والثنوية. ثم ذكر شبه دليل التمانع بقوله إِذاً لَذَهَبَ وهو جواب لمن معه المحاجة من أهل الشرك وجواب الشرط محذوف دل عليه الكلام السابق تقديره: ولو كان معه آلهة لذهب كل إله بما خلق لا نفرد كل واحد منهم بالخلق الذي خلقه واستبد به، لأن اجتماعهم على خلق واحد لا يتصور فإن ذلك يقتضي عجز الواحد عن ذلك الخلق، وحينئذ يكون ملك كل واحد منهم متميزا عن ملك الآخرين. وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ أي لغلب بعضهم على بعض كما ترون حال ملوك الدنيا من تمايز الممالك ومن التغالب، وعدم اللازم يدل على عدم الملزوم فلذلك ختم الآية بقوله سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ إلى قوله عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ومحاسن العادات قائلا قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي أي إن كان لا بد من أن تريني ما تعدهم من العذاب في الدنيا أو في الآخرة فَلا تَجْعَلْنِي قريبا لهم. وقد يجوز أن يستعيذ(5/133)
العبد بالله مما علم أنه لا يفعله إظهارا للعبودية واستكانة له ويؤيده تكرار رب مرتين. وكانوا ينكرون العذاب ويسخرون منه فأكد وقوعه بقوله وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ قيل: فيه دليل على أن القدرة تصح على المعدوم لأنه أخبر أنه قادر على تعجيل عقوبتهم ثم لم يفعل ذلك ثم أمره بالصفح عن سيئاتهم ومقابلتها بما يمكن من الإحسان حتى إذا اجتمع الصفح والإحسان وبذل الاستطاعة فيه كان أحسن لأنها حسنة مضاعفة بإزاء سيئة. أو نقول: المكافأة حسنة ولكن العفو أحسن. عن ابن عباس هي شهادة أن لا إله إلا الله والسيئة الشرك. وعن مجاهد هي أن يسلم عليه إذا لقيه. قيل: هي منسوخة بآية السيف والأولى أن يقال: هي محكمة لأن المداراة مستحبة ما لم تؤد إلى محذور نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ مما ليس فيك من المثالب والمراد أنه أقدر على جزائهم فعليه أن يفوض أمرهم إلى الله ويدفع أذاهم بالكلام الجميل والسلام وبيان الأدلة على أحسن الوجوه. ثم أتبع هذا التعليم ما يقويه على ذلك وهو الاستعاذة بالله من همزات الشياطين. والهمز النخس ومنه «مهماز الرائض» وذلك أنهم يحثون الناس على المعاصي بأنواع الوساوس كما يحث الرائض الدابة على المشي بالمهماز وهي حديدة تكون في مؤخر خفه.
عن الحسن أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول بعد استفتاح الصلاة «اللهم إني أعوذ بك من همزات الشياطين همزه ونفخه ونفثه» «1»
فهمزه الجنون ونفثه الشعر ونفخه الكبر. ثم أمره بالتعوّذ من أن يحضروه أصلا كما يقال: أعوذ بالله من خصومتك بل أعوذ بالله من لقائك. وعن ابن عباس أراد الحضور عند تلاوة القرآن. وعن عكرمة عند النزع والأولى العموم
عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد اشتكى إليه رجل أرقا به فقال: إذا أردت النوم فقل أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون.
قوله حَتَّى إِذا جاءَ قيل: متعلق بقوله وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وقيل:
ب يَصِفُونَ أي لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت وما بينهما اعتراض وتأكيد للإغضاء عنهم مستعينا بالله على الشيطان أن يستزله عن الحلم. والمراد بمجيء الموت أماراته التي تحقق عندها الموت وصارت المعرفة ضرورية فحينئذ يسأل الرجعة ولا ينافي هذا السؤال الرجعة عند معاينة النار كقوله وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ [الانعام: 27] والأكثرون على أنهم الكفار. وروى الضحاك عن ابن عباس أنها تشمل من لم يزك ولم يحج لقوله وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي [المنافقون: 10] وأما وجه الجمع في قوله ارْجِعُونِ مع وحدة المنادي
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الطب باب 19. الترمذي في كتاب الدعوات باب 93. الموطأ في كتاب الشعر حديث 9. أحمد في مسنده (2/ 181) (4/ 57) .(5/134)
فقيل: إن الجمعية راجعة إلى الفعل كأنه قال: ارجع مرات ونظيره أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ [ق:
24] أي ألق ألق. وقيل رَبِّ للقسم والخطاب للملائكة القابضين للأرواح أي بحق الله ارجعون والأقرب أن الجمع للتعظيم كقول الشاعر:
ألا فارحموني يا إله محمد وقوله:
فإن شئت حرمت النساء سواكم
عن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا نرجعك إلى الدنيا فيقول: إلى دار الهموم والأحزان بل قدوما إلى الله. وأما الكافر فيقول: رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت»
قال جار الله: أي لعلي آتي بما تركته من الإيمان وأعمل فيه صالحا كما تقول لعلي أبني على أس تريد أؤسس أسا وأبني عليه. وقيل: أي فيما خلفت من المال والأولى العموم فيدخل فيه العبادات البدنية والمالية والحقوق كأنهم تمنوا الرجعة ليصلحوا ما أفسدوه ويطيعوا فيما عصوا. قيل: كيف سألوا الرجعة وقد علموا صحة الدين بالضرورة ومن الدين أن لا رجعة؟ والجواب بعد تسليم أنهم عرفوا كل الدين أن الإنسان قد يتمنى شيئا مع علمه بتعذره كقول القائل «ليت الشباب يعود» والاستغاثة بجنس هذه المسألة قد تحسن.
قولهم لَعَلِّي ليس المراد به الشك وإنما هو كقول المقصر «مكنوني لعلي أتدارك» مع كونه جازما بأنه سيتدارك. ويحتمل أنهم وإن كانوا جازمين بذلك إلا أن أمر المستقبل مبني على الظن والتخمين دون اليقين فلذلك أوردوا الكلام بصورة الترجي. ثم ردعهم بقوله كَلَّا أي ليس الأمر على ما توهموه من إمكان الرجعة إِنَّها كَلِمَةٌ والمراد بها طائفة من الكلام منتظم بعضها مع بعض وهي قوله ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً هُوَ قائِلُها لا محالة لا يخليها ولا يسكت عنها لاستيلاء الحسرة والحيرة عليه وهو قائلها وحده لإيجاب إليها ولا تسمع منه وَمِنْ وَرائِهِمْ الضمير لكل المكلفين أي أمامهم بَرْزَخٌ حائل بينهم وبين الجنة أو النار وبين الجزاء التام إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وذلك البرزخ هو مدة ما بين الموت إلى البعث، ولعل بعض الحجب من الأخلاق الذميمة يندفع في هذه المدة. وقال في الكشاف: حائل بينهم وبين الرجعة ومعناه الإقناط الكلي لما علم أنه لا رجعة يوم البعث إلا إلى الآخرة. ثم وصف يوم البعث بقوله فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ قد مر معناه في أواخر «طه» . وقوله فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ليس المراد به نفي النسب لأن ذلك ثابت بالحقيقة فإذن المراد حكمه وما يتفرع عليه من التعاطف والتراحم والتواصل، فقد يكون أحد القريبين في(5/135)
الجنة والآخر في النار ويكون بكل مكلف من اشتغال نفسه ما يمنعه من الالتفات إلى أحوال نسبه. عن قتادة: لا شيء أبغض إلى الإنسان من أن يرى من يعرفه مخافة أن يثبت له عليه شيء. وأما الجمع بين قوله وَلا يَتَساءَلُونَ وبين قوله وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ [المؤمنون: 10] فظاهر لأن هذا في صفة أهل الموقف وذاك في صفة أهل الجنة. ولو سلم أن كليهما في وصف أهل الموقف فلن نسلم اتحاد المواطن والأزمنة وغيرها من الاعتبارات التي يقع فيها التساؤل كحقوق النسب ونحوها.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «ثلاثة مواطن تذهل فيها كل نفس: حين يرمي إلى كل إنسان كتابه، وعند الموازين وعلى جسر جهنم»
وقد مر مثل اية الموازين في أول «الأعراف» فليرجع إلى هنالك. وقوله فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ بدل من خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ ولا محل له كالمبدل فإن الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف. ومعنى خسران أنفسهم امتناع انتفاعهم بها. وقال ابن عباس: خسروها بأن صارت منازلهم للمؤمنين. ومعنى تَلْفَحُ تسفع أي تضرب وتأكل لحومهم وجلودهم النار، قاله ابن عباس. وعن الزجاج أن اللفح والنفح واحد إلا أن اللفح أشد تأثيرا والكلوح أن يتقلص الشفتان عن الأسنان كالرؤوس المشوية. يروى أن عتبة الغلام مر في السوق برأس أخرج من التنور فغشي عليه ثلاثة أيام ولياليهن.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: تشويه النار فتتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته.
وقال الجوهري: الكلوح تكشر في عبوس.
ثم بيّن سبحانه أنه يقال لهم حينئذ تقريعا وتوبيخا أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالت المعتزلة: لو كان فعل التكذيب بخلق الله تعالى لم يكن لهذا التقريع وجه وعورض بالعلم والداعي. وفسرت المعتزلة الشقاوة بسوء العاقبة التي علم الله أنهم يستحقونها لسوء أعمالهم. وتفسرها الأشاعرة بما كتب الله عليهم في الأزل من الكفر وسائر المعاصي أن يعلموها حتى يؤل حالهم إلى النار. ومعنى غلبة الشقاوة على هذا التفسير ظاهر، وأما على تفسير المعتزلة فقد قال جار الله: معناه ملكتنا وأخذت منا. وقال الجبائي:
أراد طلبنا اللذات المحرمة وحرصنا على العمل القبيح ساقنا إلى هذه الشقاوة، فأطلق اسم المسبب على السبب. وليس هذا باعتذار منهم لعلمهم بأن لا عذر لهم فيه، ولكنه اعتراف بقيام حجة الله تعالى عليهم في سوء صنيعهم. وأجيب بأن طلب تلك اللذات لا بد أن ينتهي إلى داعية يخلقها الله فيه بدليل قوله وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ أي في علم الله وسابق تقديره.
وحمله المعتزلة على الاعتراف بأنهم اختاروا الضلال قالوا: ولو كان الكفر بخلق الله لكانوا بأن يجعلوا ذلك عذرا لهم أولى. وأجيب بأن فحوى الكلام يؤل إلى هذا كما قررنا. عن ابن(5/136)
عباس: أن لهم ست دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا [السجدة: 12] فيجابون حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة: 13] فينادون ألفا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ [غافر: 11] فيجابون ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [غافر: 12] فينادون ألفا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ فيجابون إِنَّكُمْ ماكِثُونَ [الزخرف: 77] فينادون ألفا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ [إبراهيم: 44] فيجابون أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ [إبراهيم: 44] فينادون ألفا رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً فيجابون أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ [فاطر: 37] فينادون ألفا رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فيجابون اخْسَؤُا فِيها [المؤمنون: 108] وهو آخر كلام يتكلمون به، ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب أي لا يفهمون ولا يفهمون ولهذا قال جار الله وَلا تُكَلِّمُونِ أي في رفع العذاب وليس نهيا عن الكلام فإنها ليست بدار تكليف ولكنه تنبيه على أن العذاب لا يرفع ولا يخفف. ومعنى اخْسَؤُا انزجروا صاغرين كما تنزجر الكلاب إذا طردت. يقال: خسأ الكلب وخسأ نفسه يتعدى ولا يتعدى وهو المراد في الآية. ثم عدد عليهم بعض قبائحهم في الدنيا بقوله إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي هم الصحابة. وقيل: أهل الصفة خاصة. عن الخليل وسيبويه أن السخري بالضم والكسر مصدر سخر إلا أن في ياء النسب زيادة تأكيد. وعن الكسائي والفراء أن المكسور من الهزء والمضموم من التسخير والاستعباد والمعنى اتخذتموهم هزؤا وتشاغلتم بهم ساخرين حَتَّى أَنْسَوْكُمْ بتشاغلكم بهم على تلك الصفة ذِكْرِي فلم تذكروني حتى تخافوني.
ثم ذكر من حال المؤمنين ما أوجب الحسرة والندامة للساخرين. فمن قرأ أَنَّهُمْ بالكسر على الاستئناف فمعناه ظاهر أي قد فازوا حيث صبروا، ومن قرأ بالفتح فعلى أنه مفعول جزيتهم أي جزيتهم فوزهم. ومن قرأ قالَ فالضمير لله أو لمن أمر بسؤالهم من الملائكة، ومن قرأ قل فالخطاب للملك أو لبعض رؤساء أهل النار. والغرض من هذا السؤال التوبيخ والتبكيت فقد كانوا لا يعدّون اللبث إلا في الدنيا ويظنون أن الفناء يدوم بعد الموت ولا إعادة، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنهم فيها خالدون سئلوا كَمْ لَبِثْتُمْ تنبيها لهم على أن ما ظنوه دائما طويلا فهو يسير بالإضافة إلى ما أنكروه إذ لا نسبة للمتناهي إلى غير المتناهي ولا سيما إذا كان الأول أيام سرور والثاني أيام غم وحزن. واختلفوا في الأرض فقيل: وجه الأرض حين ما كانوا أحياء فإنهم زعموا أن لا حياة سواها، فلما أحياهم الله تعالى وعذبوا في النار سئلوا عن ذلك توبيخا. وقال آخرون: المراد جوف الأرض وهو القبر لظاهر لفظة «في» ولقوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ(5/137)
[الروم: 55] وقوله عَدَدَ سِنِينَ بدل من مميزكم. وقيل: تمييز. احتج بعض من أنكر عذاب القبر بأن قوله فِي الْأَرْضِ يتناول زمان كونهم أحياء فوق الأرض وزمان كونهم أمواتا في بطن الأرض. فلو كانوا معذبين في القبر لعلموا أن مدة مكثهم في الأرض طويلة فما كانوا يقولون لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وأجيب بأن الجواب لا بد أن يكون على حسب السؤال وإنما سئلوا عن موت لا حياة بعده إلا في الآخرة وذلك لا يكون إلا بعد عذاب القبر. ويحتمل أن يكونوا سئلوا عن قدر اللبث الذي اجتمعوا فيه فلا يدخل في ذلك تقدم موت بعضهم على البعض، فصح أن يكون جوابهم لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ عند أنفسنا.
وليس هذا من قبيل الكذب إذ لعلهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال فقالوا: إلا نعرف من عدد السنين إلا أنا نستقله ونحسبه يوما أو بعض يوم. وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا فَسْئَلِ الْعادِّينَ أي ليس من شأننا أن نعدّها لما نحن فيه من العذاب فاسأل من يقدر أن يلقى إليه فكره، أو اسأل الملائكة الذين يعدّون أعمال العباد ويحصون أعمالهم.
وعن ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين. وقيل: أرادوا بقولهم لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ تصغير لبثهم وتحقيره بالإضافة إلى ما وقعوا فيه وعرفوه من داوم العذاب. وقد صدّقهم الله في ذلك حيث قال إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ووبخهم على غفلتهم التي كانوا عليها بقوله لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي لو علمتم البعث والحشر لما كنتم تعدونه طويلا. ثم زاد في التوبيخ بقوله أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً أي عابثين أو لأجل العبث وهو الفعل الذي لا غاية له صحيحة. وجوّزوا أن يكون قوله وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ معطوفا على عَبَثاً أي للعبث ولترككم غير مرجوعين وفيه دلالة على وجوب وقوع القيامة فلولاها لم يتميز المطيع من العاصي والمحسن من المسيء. ثم نزه ذاته عن كل عيب وعبث قائلا فَتَعالَى الآية ووصف العرش بالكريم لنزول الرحمة أو الخير منه أو باعتبار من استوى عليه كما يقال «بيت كريم» إذا كان ساكنوه كراما. وقرىء الْكَرِيمِ بالرفع وهو ظاهر. ثم زيف طريقة المقلدة من أهل الشرك وقوله لا برهان له به كقوله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً [آل عمران: 151] وهو صفة جيء بها للتأكيد لا أن بعض الآلهة قد يقوم على وجوده برهان. وجوّز جار الله أن يكون اعتراضا بين الشرط والجزاء كقول القائل: من أحسن إلى زيد لا أحق بالإحسان إليه منه فالله مثيبه. ومعنى حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ أنه بلغ عقابه إلى حيث لا يقدر أحد على حسابه إلا الله. وقرىء إِنَّهُ لا يُفْلِحُ بفتح الهمزة أي حسابه عدم فلاحه فوضع الْكافِرُونَ موضع الضمير. جعل فاتحة السورة قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ وأورد في خواتيهما إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ فشتان ما بين الفريقين. وحين أثنى على المؤمنين في أثناء الكلام بأنهم يقولون رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ نبه(5/138)
في آخر السورة على أنه قول ينبغي أن يواظب المكلف عليه ففيه الانقطاع إلى الله والإعراض عمن سواه والله المستعان.
التأويل:
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فيه أن نفخة العناية الأزلية إذا نفخت في صور القلب قامت القيامة وانقطعت الأسباب فلا يلتفت إلى أحد من الأنساب، لا إلى أهل ولا إلى ولد لاشتغاله في طلب الحق واستغراقه في بحر المحبة، فلا يقع بينهم التساؤل عما تركوا من أسباب الدنيا ولا عن أحوال أهاليهم وأخدانهم وأوطانهم إذا فارقوها لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ
في طلب الحق شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس: 37] عن طلب الغير فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لأنهم إذا خفت موازينهم عن طلب الحق وانقطع عليه الطريق بنوع من التعلقات ورجع القهقرى بطل استعداده في الطلب، فإن الإنسان كالبيضة المستعدة لقبول تصرف دجاجة الولاية فيه وخروج الفرخ فيها، فما لم تتصرف فيها الدجاجة يكون استعداده باقيا، فإذا تصرفت الدجاجة فيها وانقطع تصرفها عنها بإفساد البيضة فلا ينفعها التصرف بعد ذلك لفساد الاستعداد ولهذا قالت المشايخ: مرتد الطريقة شر من مرتد الشريعة. ولهذا قال فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ وأجيبوا بقوله اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ لأنه ليس من سنتنا إصلاح الاستعداد بعد إفساده إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي هم العلماء بالله النصحاء لأجله فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا فضربتم أنفسكم على سيوف هممهم العلية حَتَّى أَنْسَوْكُمْ بهممهم وبيد الرد ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ لأن قلوبكم قد ماتت وكثرة الضحك تميت القلب جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا فيه أن أهل السعادة كما ينتفعون بمعاملاتهم الصالحة مع الله ينتفعون بإنكار منكريهم، ومثله حال أهل الشقاء في الجانب الآخر وهو الاستضرار لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ أي لا يظهر عليه برهان العبادة وهو النور والضياء والبهاء والصفاء وإن تقرب إلى ذلك الذي عبده من دون الله بأنواع القربات.(5/139)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
(سورة النور)
(مدنية حروفها 5330 كلامها 1316 آياتها 64)
[سورة النور (24) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4)
إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9)
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
القراآت:
فرضناها بالتشديد: ابن كثير وأبو عمرو ورأفة بفتح الهمزة: ابن كثير عن ابن فليح ورفعه الباقون بالإسكان وكلاهما مصدر. وكذلك روى الخزاعي عن أصحابه، وروى ابن شنبوذ عن البزي هاهنا وفي الحديد متحركة الهمزة، وعن قنبل هاهنا بالفتح وفي الحديد بالسكون. وقرأ أبو عمر وغير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف بغير همز أربع شهادات بالرفع: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الآخرون بالنصب على إعمال المصدر فيما في حكم المصدر والتقدير فواجب شهادة أحدهم شهادات أربعا أن مخففة لعنة الله بالرفع: نافع وسهل ويعقوب والمفضل. الباقون بالتشديد والنصب والخامسة الثانية بالنصب: حفص على معنى وتشهد الشهادة الخامسة. أن مخففا غضب فعلا ماضيا اللَّهِ بالرفع: نافع(5/140)
والمفضل أن بالتخفيف غضب الله بالرفع: سهل ويعقوب. الباقون أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ بالتشديد والنصب.
الوقوف:
تَذَكَّرُونَ هـ جَلْدَةٍ ص الْآخِرِ هـ للعدول واعتراض الشرط مع اتفاق الجملتين الْمُؤْمِنِينَ هـ مُشْرِكَةً هـ للتفصيل بين الحالتين مع اتفاق الجملتين مُشْرِكٌ ج لاختلاف الجملتين الْمُؤْمِنِينَ هـ أَبَداً هـ الْفاسِقُونَ هـ وَأَصْلَحُوا ج للفاء وإن رَحِيمٌ هـ بِاللَّهِ ط في الموضعين لأن ما بعده جواب لما في حكم القسم الصَّادِقِينَ هـ الْكاذِبِينَ هـ الصَّادِقِينَ هـ حَكِيمٌ هـ.
التفسير:
لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاتمة السورة المتقدمة بطلب المغفرة والرحمة وطلبه يستلزم مطلوبه لا محالة بدليل سل تعط، أردفه بذكر ما هو أصل كل رحمة ومنشأ كل خير فقال سُورَةٌ أي هذه سورة أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها أو فيما أوحينا إليك سورة أنزلناها.
وقرىء بالنصب على «دونك سورة» أو «اتل سورة» أو على شريطة التفسير. وعلى هذا لا يكون لقوله أَنْزَلْناها محل من الإعراب لأنها ليست بصفة وإنما هي مفسرة للمضمر فكانت في حكمه. ومعنى إنزال الوحي قد سلف في أول البقرة. والفرض القطع والتقدير:
ولا بد من تقدير مضاف لأن السورة قد دخلت في الوجود فلا معنى لفرضها فالمراد: فرضنا أحكامها التي فيها. ومن شدد فللمبالغة أو للتكثير ففي أحكام هذه السورة كثرة. ويجوز أن يرجع معنى الكثرة إلى المفروض عليهم فإنهم كل المكلفين من السلف والخلف. وأما الآيات البينات فإنها دلائل التوحيد التي يذكرها الله تعالى بعد الأحكام والحدود ويؤيده قوله لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فإن الأحكام والشرائع ما كانت معلومة لهم ليؤمروا بتذكرها بخلاف دلائل التوحيد فإنها كالمعلومة لظهورها فيكفي فيها التذكر. وقال أبو مسلم: هي الحدود والأحكام أيضا ولا بعد في تسميتها آيات كقول زكريا رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً [مريم: 10] سأل ربه أن يفرض عليه عملا. وقال القاضي: أراد بها الأشياء المباحة المذكورة في السورة بينها الله تعالى لأجل التذكر. فمن جملة الأحكام حكم الزنا. قال الخليل وسيبويه: رفعهما على الابتداء والخبر محذوف ولا بد من تقدير مضاف أي فيما فرض عليكم جلد الزانية والزاني، أو فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني وقال آخرون: الخبر فَاجْلِدُوا والفاء لتضمن معنى الشرط فإن الألف واللام بمعنى الموصول تقديره: التي زنت والذي زنى فاجلدوا. وقرىء بالنصب على إضمار فعل يفسره الظاهر وهو أحسن من نصب سُورَةٌ أَنْزَلْناها لأجل الأمر فإن الطلب من مظان الفعل والجلد ضرب الجلد كما يقال «رأسه» أي(5/141)
ضرب رأسه وكذلك في سائر الأعضاء بعد ثبوت السماع، وفيه إشارة إلى أن إقامة هذا الحد ينبغي أن يكون على الاعتدال بحيث لا يتجاوز الألم من الجلد إلى اللحم. فعلى الإمام أن ينصب للحدود رجلا عالما بصيرا يعقل كيف يضرب. فالرجل يجلد قائما على تجرده ليس عليه إزاره ضربا وسطا لا مبرحا ولا هينا على الأعضاء كلها إلا الوجه والفرج، والمرأة تجلد قاعدة ولا ينزع من ثيابها إلا الحشو والفرو. والصحيح أن الزنا من الكبائر ولهذا قرنه الله تعالى بالشرك وقتل النفس في قوله وَلا يَزْنُونَ [الفرقان: 68] وقد وفى فيه عقد المائة بكماله بخلاف حدّ القذف وشرب الخمر وشرع فيه الرجم الذي هو أشنع أنواع القتل، ونهى المؤمنين عن الرأفة بهما وأمر بشهود طائفة للتشهير.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «اتقوا الزنا فإن فيه ست خصال: ثلاث في الدنيا وثلاث في الآخرة. فأما التي في الدنيا فيذهب البهاء ويورث الفقر وينقص العمر، وأما التي في الآخرة فيوجب السخطة وسوء الحساب والخلود في النار» .
واعلم أن البحث في هذه الآية يقع عن أمور أحدها عن ماهية الزنا، وثانيها عن أحكام الزنا، وثالثها في الشرائط المعتبرة في كون الزنا موجبا لتلك الأحكام، ورابعها في الطريق الذي به يعرف حصول الزنا، وخامسها عن كيفية إقامة هذا الحد الأول. قد حده علماء الشافعية بأنه عبارة عن إيلاج فرج في فرج مشتهى طبعا محرم شرعا. قالوا: فيدخل فيه اللواطة لأنها مثل الزنا صورة وذلك ظاهر لحصول معنى الانفراج في الدبر أيضا، ومعنى لأنهما يشتركان في المعاني المتعلقة بالشهوة من الحرارة واللين وضيق المدخل، ولذلك لا يفرق أهل الطبائع بين المحلين. والأكثرون على أن اللواط لا يدخل تحت الزنا للعرف ولهذا، لو حلف لا يزني فلاط أو بالعكس لم يحنث، ولأن الصحابة اختلفوا في حكم اللواط مع كونهم عالمين باللغة. وما
روى عن أبي موسى الأشعري أنه صلى الله عليه وسلم قال «أذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان»
محمول على اشتراكهما في الإثم بدليل
قوله أيضا «إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان»
وقوله «اليدان تزنيان والعينان تزنيان» «1»
والقياس المذكور بعيد لأنه لا يلزم من تسمية القبل فرجا لانفراجه أن يسمى كل منفرج كالفم والعين فرجا.
واعلم أن للشافعي في اللائط قولين أصحهما أن عليه حد الزنا إن كان محصنا فيرجم، وإن لم يكن محصنا فيجلد ويغرب. والثاني قتل الفاعل والمفعول. والقتل إما بجز الرقبة كالمرتد، أو بالرجم وهو قول مالك وأحمد وإسحق، أو بالهدم عليه. ويروى عن أبيّ: أو بالرمي من شاهق.
ويروى عن علي رضي الله عنه وذلك أن قوم لوط عذبوا كل هذه الوجوه
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (2/ 342، 344) .(5/142)
قال عز من قائل فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [هود: 82] وأما المفعول فإن كان صغيرا أو مجنونا أو مكروها فلا حد عليه ولا مهر لأن بضع الرجل لا يتقوّم، وإن كان مكلفا طائعا فهو كالفاعل في الأقوال وإن أتى امرأة في دبرها ولا ملك ولا نكاح فالأظهر أنه لواط وحكمه ما مر، وقيل زنا لأنه وطء أنثى فأشبه الوطء في القبل، وإذا لاط بعبده فهو كالأجنبي على الأصح. ولو أتى امرأته أو جاريته في الدبر فالأصح القطع بمنع الحد لأنها محل استمتاعه وبالجملة جميع ذلك مما ذهب إليه الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن اللائط لا يحدّ بل يعزر. حجة الشافعي خبر أبي موسى الأشعري فإنه يدل على اشتراك اللواط والزنا في الاسم والحقيقة لا أقل من اشتراكهما في اللوازم. وأيضا
إنه صلى الله عليه وسلم قال: «من عمل عمل قوم لوط فأقتلوا الفاعل منهما والمفعول به» «1»
وقال صلى الله عليه وسلم «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير حق» «2»
وليس اللواط من قبيل الثاني والثالث فهو من الأول. وأيضا قاس اللواط على الزنا بجامع كون الطبع داعيا إليه فيناسب الزاجر. وفرق بأن الزنا أكثر وقوعا وكان الاحتياج فيه إلى الزاجر أشد، وبأن الزنا يقتضي فساد الأنساب دون اللواط، وألغى الفرق بوطء العجوز الشوهاء. حجة أبي حنيفة أنه وطء لا يتعلق به المهر فلا يتعلق به الحد وضعف بفقد الجامع قال: إنه لا يساوي الزنا في الحاجة إلى شرع الحد لأن اللواط لا يرغب فيه المفعول طبعا، ولأنه ليس فيه إضاعة النسب. وأجيب بأن الإنسان حريص على ما منع، فلو لم يشرع الحد شاع اللواط وأدى إلى إضاعة النسب بل إلى إفناء الأشخاص وانقطاع طريق التوالد والتناسل. وللشافعي في إتيان البهيمة أقوال: أحدها أنه كالزنا في أحكامه، وثانيها القتل مطلقا لما
روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه» «3»
فقيل لابن عباس: ما شأن البهيمة؟ قال: لأنه كره أن يؤكل لحمها. وأصحها وهو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد والثوري أن عليه التعزير لأنه غير مشتهي طبعا. والحديث ضعيف
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 28. الترمذي في كتاب الحدود باب 24. ابن ماجة في كتاب الحدود باب 12. أحمد في مسنده (1/ 269) .
(2) رواه البخاري في كتاب الديات باب 6. مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26 أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15. النسائي في كتاب التحريم باب 5، 11.
الدارمي في كتاب السير باب 11. أحمد في مسنده 1/ 61، 63) .
(3) رواه الترمذي في كتاب الحدود باب 23، 24. أبو داود في كتاب الحدود باب 108. ابن ماجة في كتاب الحدود باب 13. أحمد في مسنده (1/ 217، 269) .(5/143)
الإسناد وبتقدير صحته معارض بما
روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان إلا لأكله.
ولا خلاف في أن السحق وإتيان الميتة والاستمناء باليد لا يشرع فيها الا التعزير. البحث الثاني قد مر في أول سورة النساء أن حكم الزاني في أوائل الإسلام كان الحبس في البيوت في حق الثيب، والإيذاء بالقول في حق البكر، ثم نسخ بآية الزنا
وبقوله صلى الله عليه وسلم «الثيب بالثيب جلد مائه ورجم بالحجارة والبكر بالبكر جلد مائه وتغريب عام» «1»
والخوارج أنكروا الرجم لأنه لا يتنصف وقد قال تعالى فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: 25] ولأنه تعالى أطنب في أحكام الزنا بما لم يطنب في غيره، فلو كان الرجم مشروعا لكان أولى بالذكر، ولأن قوله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يقتضي وجوب الجلد على كل الزناة وإيجاب الرجم على البعض يقتضي تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. وجمهور المجتهدين خالفوهم في ذلك فأجابوا عن الأول بأن الرجم حيث لم يتنصف لم يشرع في حق العبد فخصص العذاب بغير الرجم للدليل العقلي. وعن الثاني بأن الأحكام الشرعية كانت تنزل بحسب تجدد المصالح فلعل المصلحة التي اقتضت وجوب الرجم حدثت بعد نزول هذه الآيات. وعن الثالث بأن تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد جائز عندنا لأن القرآن وإن كان قاطعا في متنه إلا أن العام غير قاطع الدلالة فأمكن تخصيصه بالدليل المظنون. سلمنا إلا أن الرجم ثبت بالتواتر رواه أبوبكر وعمر وعلي رضي الله عنهم وجابر والخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة.
وما نقل عن علي أنه جمع بين الجلد والرجم
وهو اختيار أحمد وإسحق وداود محمول على مثل ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا زنى بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان محصنا فأمر به فرجم.
وقوله صلى الله عليه وسلم «الثيب بالثيب جلد مائة» «2»
ورجم بالحجارة متروك العمل بما روي في قصة العسيف أنه قال: يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. ولو وجب الجلد إذ ذاك لذكره. وأن قصة ما عز رويت من جهات مختلفة وليس فيها ذكر الجلد مع الرجم وكذا قصة الغامدية. وروى الزهري بإسناده عن ابن عباس أن عمر قال: قد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائل: لا نجد الرجم في كتاب الله تعالى فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله تعالى وقد قرأنا «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» فرجم النبي صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الحدود حديث 12- 14. أبو داود في كتاب الحدود باب 23. الترمذي في كتاب الحدود باب 8. ابن ماجة في كتاب الحدود باب 7. الدارمي في كتاب الحدود باب 19.
أحمد في مسنده (3/ 476) (5/ 313) .
(2) المصدر السابق.(5/144)
فأخبر أن الذي فرضه الله تعالى هذا الرجم ولو كان الجلد واجبا مع الرجم لذكره. قال الشافعي: يجمع بين الجلد والتغريب في حد البكر. وقال أبو حنيفة: يجلد.
وأما التغريب فمفوّض إلى رأي الإمام.
وقوله صلى الله عليه وسلم «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» «1»
وكذا ما يروى عن الصحابة أنهم جلدوا ونفوا منسوخ أو محمول على وجه التعزير والتأديب من غير وجوب. وقال مالك: يجلد الرجل ويغرب وتجلد المرأة بلا تغريب.
حجة الشافعي
حديث عبادة «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام» «2»
وقد ورد مثله في قصة العسيف. حجة أبي حنيفة أن إيجاب التغريب يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد. بيانه أن إيجاب الجلد مرتب على الزنا بالفاء التي هي للجزاء، ومعنى الجزاء كونه كافيا في ذلك الباب منه
قوله صلى الله عليه وسلم «يجزيك ولا يجزي أحدا بعدك» «3»
وإيجاب شيء آخر غير الجلد يقتضي نسخ كونه كافيا ولو كان النفي مشروعا لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم توقيف الصحابة عليه عند تلاوة هذه الآية ولو فعل لاشتهر.
وقد روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الأمة «إذا زنت فاجلدها فإن زنت فاجلدها فإن زنت فبعها» «4»
والاستدلال به أنه لم يذكر النفي مع الجلد ونظيره ما
روي أن شيخا وجد على بطن جارية، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اجلدوه مائة.
فقالوا: إنه أضعف من ذلك. فقال: خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها وخلوا سبيله.
لا يقال: إنه إنما لم ينفه لأنه كان عاجزا عن الحركة لأنا نقول: كان ينبغي أن يأمر له بدابة يركبها. ولا يقال: لعله كان ضعيفا عن الركوب أيضا لأنا نقول: القادر على الجماع كيف لا يقدر على الاستمساك. وأيضا الأمر بالنفي لو كان مشروعا لزم في حق العبد الإضرار بسيده في مدة غيبته، وفي حق المرأة الإضرار بزوجها، وكذا لمن يؤمر أن يكون معها من محارمها أو من النسوة الثقات مع انفتاح باب الزنا عليها في الغربة، لهذا
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في البكرين: إذا زنيا يجلدان ولا ينفيان فإن نفيهما من الفتنة.
وعن ابن عمر أن امرأة زنت فجلدها ولم ينفها. وأيضا النفي نظير القتل لقوله تعالى اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ [النساء: 66] فإذا لم يشرع القتل في حد البكر وجب أن لا
__________
(1، 2) المصدر السابق.
(3) رواه البخاري في كتاب العيدين باب 5، 8، 10. مسلم في كتاب الأضاحي حديث 5، 7، 9 أبو داود في كتاب الأضاحي باب 5.
(4) رواه البخاري في كتاب العتق باب 17. مسلم في كتاب الحدود حديث 31، 32. أبو داود في كتاب الحدود باب 32. الترمذي في كتاب الحدود باب 8. ابن ماجة في كتاب الحدود باب 14. الموطأ في كتاب الحدود حديث 14. أحمد في مسنده (4/ 343) .(5/145)
يشرع نظيره وهو التغريب. وأجيب بأن إيجاب الجلد مفهوم مشترك بين إيجاب الجلد مع إيجاب التغريب وبين إيجابه مع نفي التغريب فلا إشعار في الآية بأحد القسمين إلا أن عدم التغريب موافق للبراءة الأصلية. فإيجابه بخبر الواحد لا يزيل إلا محض البراءة فلا يلزم نسخ القرآن به وهو قول الأدباء إن الجزاء سمي جزاء لأنه كاف في الشرط لا يصلح حجة في الأحكام. ولا استبعاد في عدم اشتهار بعض الأحكام كأكثر المخصصات والأخبار الواردة في نفي التغريب معارضة بما
روى أبو علي في جامعه أنه صلى الله عليه وسلم جلد وغرّب.
ولا بعد في أن يكون القادر على الزنا عاجزا عن الاستمساك على الدابة والإضرار بالسيد قد يجوز للضرورة كالعبد المرتد يقتل، وعلى هذا يغرّب نصف سنة على الأصح لأنه يقبل التنصيف. وقيل:
سنة كاملة لأن التغريب للإيحاش وهذا معنى يرجع إلى الطبع فيستوي فيه الحر والعبد كمدة الإيلاء والعنة. وأما المرأة فلا تغرّب وحدها
لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل لامرأة أن تسافر إلا ومعها ذو محرم» «1»
فإن تبرع المحرم أو نسوة ثقاة فذاك وإلا أعطي أجرتهم من مالها أو من بيت المال فيه قولان، وتنتفي التهمة حينئذ مع أن أكثر الزنا إنما يقع بالألف والمؤانسة وفراغ القلب، وفي التغريب الأغلب هو الوحشة والتعب. وأما أن النفي يشبه القتل فمسلم من بعض الوجوه لا من كلها. واعلم أن قولنا الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إما مطلق دال على الجنسين المنافيين لجنس العفيفة والعفيف أو عام يشمل كل من اتصف بهذه الفعلة الشنعاء فلا بد من تقييد أو تخصيص وهو البحث الثالث فنقول: أجمعت الأمة على أنه لا بد فيه من العقل والبلوغ فلا حد على مجنون ولا على صبي لأنهما ليسا من أهل التكليف. هذا في غير الرجم وأما في الرجم فلا بد من شروط أخر منها: الحرية بالإجماع. ولا فرق بين القن والمدبر والمكاتب والمستولدة وحر البعض، والسبب أن الحرية توسع طريق الحلال لأن الرقيق يحتاج في النكاح إلى إذن السيد. ولا يجوز له أن ينكح إلا امرأتين، وجناية من ارتكب الحرام مع اتساع طريق الحلال أغلظ. ومنها الإصابة في نكاح صحيح وقد يعبر عن هذا الشرط بشرطين: أحدهما التزويج بنكاح صحيح، والآخر الدخول. وكيفما كان فوجه الاعتبار أنه قضى الشهوة واستوفى اللذة فحقه أن يمتنع من الحرام. ويكفي في الإصابة تغيب الحشفة بلا إنزال، ولا يقدح وقوعها في حالة الحيض والإحرام وعدة الوطء بالشبهة، ولا يحصل الإحصان بالإصابة في ملك اليمين كما لا يحصل التحليل. وفي الإصابة بالشبهة وفي النكاح
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الحج حديث 413- 424. البخاري في كتاب التقصير باب 4. أبو داود في كتاب المناسك باب 2. الترمذي في كتاب الرضاع باب 10. ابن ماجة في كتاب المناسك باب 7.
الموطأ في كتاب الاستئذان حديث 27. أحمد في مسنده (1/ 222) (2/ 13، 19) . [.....](5/146)
الفاسد قولان: أحدهما أنه يفيد الإحصان لأن الفاسد كالصحيح في العدة والنسب، وأصحهما المنع لأن الفاسد لا أثر له في إكمال طريق الحلال.
وهل يشترط أن تكون الإصابة في النكاح بعد التكليف والحرية؟ الأصح عند إمام الحرمين لا، فإنه وطء يحصل به التحليل فكذا الإحصان. والأرجح عند معظم الأصحاب نعم، لأن شرط الإصابة أن تحصل بأكمل الجهات وهو النكاح الصحيح فيعتبر حصولها من كامل، وعلى هذا فهل يشترط كمال الواطئين جميعا؟ قال أبو حنيفة: نعم وهو أحد قولي الشافعي فلو كان أحدهما كاملا دون الآخر لم يصر الكامل محصنا أيضا. وقال الشافعي في أصح قوليه: لا بل لكل منهما حكم نفسه. ومنها الإسلام عند أبي حنيفة
لقوله صلى الله عليه وسلم «من أشرك بالله فليس بمحصن»
دون الشافعي
لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا قبلوا الجزية فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين»
ولحديث مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا.
فلو حكم بشرعه فظاهر، ولو حكم بشريعة من قبله فقد صار شرعا له، ولأن زنا الكافر مثل زنا المسلم في الحاجة إلى الزاجر ولهذا قلنا: إذا أقر الذمي بالزنا أقيم عليه الحد جبرا بخلاف الشرب فإنه لا يعتقد تحريمه. ومما احتج به لأبي حنيفة أن النعمة في حق المسلم أعظم فكانت جنايته أغلظ كقوله يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: 30] وعورض بأن الإسلام من كسب العبد. وزيادة الخدمة إن لم تكن سببا للعذر فلا أقل من أن لا تكون سببا لزيادة العقوبة. قالوا: إحصان القذف يعتبر فيه الإسلام بالإجماع فكذا إحصان الرجم والجامع كمال النعمة. وأجيب بأن حد القذف لرفع العار كرامة للمقذوف والكافر لا يكون محلا للكرامة وصيانة للعرض. والجواب عن الحديث بأنا لا نسلم أن الذمي مشرك، سلمنا لكن الإحصان قد يراد به التزويج كقوله فَإِذا أُحْصِنَّ [النساء: 25] والذمي الثيب محصن بهذا التفسير فوجب رجمه
لقوله صلى الله عليه وسلم «وزنا بعد إحصان» «1»
وبقوله «عليهم ما على المسلمين»
قال بعض أهل الظاهر: عموم قوله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي يقتضي وجوب المائة على العبد والأمة إلا أنه ورد النص بالتنصيف في حق الأمة، فلو قسنا العبد عليها لزم تخصيص عموم الكتاب بالقياس. ومنهم من قال: الأمة إذا تزوّجت فعليها خمسون لقوله فَإِذا أُحْصِنَّ [النساء: 25] أي تزوّجن فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ [النساء: 25] فإذا لم تتزوّج فعليها المائة لعموم قوله
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الديات باب 6. مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15.(5/147)
الزَّانِيَةُ واتفاق الجمهور على حذف هذين. وقال الشافعي وأبو حنيفة: الذمي يجلد للعموم ولأنه صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين فالجلد أولى. وقال مالك: لا يجلد بناء على أن الكفار ليسوا مخاطبين بالفروع.
البحث الرابع في طريق معرفة الزنا وأنه ثلاثة: الأول أن يراه الإمام بنفسه فيجيء الخلاف في أن القاضي هل له أن يقضي بعلمه أم لا؟ رجح كلا مرجحون. وجه القضاء أنه يقضي بالظن وذلك عند شهادة شاهدين فلأن يقضي بالعلم أولى. ووجه عدم القضاء أن فيه تهمة والتهمة تمنع القضاء ولهذا لا يقضي القاضي لولده ووالده. وهذا الوجه في حدود الله تعالى أرجح لأن الحاكم فيه مأمور بالستر ولهذا
قال النبي في قضية اللعان «لو كنت راجما بغير بينة لرجمتها»
ولا فرق على القولين أن يحصل العلم للقاضي في زمان ولايته ومكانها أو في غيرهما. وعن أبي حنيفة أنه إن حصل له العلم فيهما قضى بعلمه وإلا فلا. الطريق الثاني الإقرار ويكفي عند الشافعي مرة واحدة. وقال أبو حنيفة: لا بد من أربع مرات في أربع مجالس. وجوّز أحمد أن يكون المجلس واحدا. حجة الشافعي قصة العسيف
«فإن اعترفت فارجمها»
والقياس على الإقرار بالقتل والردة مع أن الصارف عن الإقرار بالزنا قويّ وهو العار في الحال والقتل أو الألم الشديد في المآل، فالإقدام على الإقرار مع هذا الصارف لا يكون إلا عن صدق ويقين. حجة أبي حنيفة قصة ما عز وإعراضه صلى الله عليه وسلم عنه مرات حتى قال أبو بكر له بعد ما أقر ثلاث مرات: لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم والقياس على الشهادة. وأجيب بأنه لا منافاة بين القضيتين فإن الأولى محمولة على أقل المراتب، والثانية على كمالها. والفرق أن المقذوف لو أقر بالزنا مرة سقط الحد عن القاذف، ولو شهد اثنان بزناه لم يسقط. الطريق الثالث الشهادة وأجمعوا على أنه لا بد من شهود أربعة من الرجال لقوله تعالى فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء: 15] ولقوله ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ والشهادة على الإقرار بالزنا كالشهادة على الزنا في أنه لا بد من شهود أربعة. وفي قول يكفي فيه اثنان لأن الفعل مما يعسر الاطلاع عليه فلزم الاحتياط فيه باشتراط الأربعة والإقرار أمر ظاهر فيكفي فيه رجلان.
البحث الخامس: أجمعت الأمة على أن المخاطب بقوله فَاجْلِدُوا هو الإمام حتى احتجوا به على وجوب نصب الإمام فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقال الشافعي: السيد يملك إقامة الحد على مملوكه وهو قول ابن مسعود وابن عمر وفاطمة وعائشة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يملك. حجة الشافعي
أنه صلى الله عليه وسلم قال «أقيموا الحدود(5/148)
على ما ملكت أيمانكم» «1»
وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال «إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها» «2»
وحمل الأول على رفع القضية إلى الإمام حتى يقيموا عليهم الحدود، وحمل الثاني على التعزير خلاف الظاهر. وأيضا إن ولاية السيد على العبد فوق الولاية بالبيعة فكان أولى.
وأيضا الإجماع على أن السيد يملك التعزير مع أنه في محل الاجتهاد فلأن يملك الحد مع التنصيص عليه أولى. حجة أبي حنيفة في قوله فَاجْلِدُوا الخطاب للأمة بالاتفاق ولم يذكر فرق بين الأحرار المحدودين وبين العبيد. وأيضا لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه، فلو رجعوا عن شهادتهم لوجب أن يتمكن من تضمين الشهود وليس له ذلك بالاتفاق لأنه ليس لأحد أن يحكم لنفسه. وأيضا المالك في محل التهمة لأنه قد يشفق على ملكه فلا يستوفي الحد. أجابت الشافعية بأن عدم ذكر الفرق لا يدل على عدم الفرق مع أن الكلام في جواز إقامة السيد الحد لا في وجوبه. فالإمام يملك حد العبد في الجملة وذلك كاف في بقاء الآية على عمومها. وعن الثاني بأن للشافعي في القطع والقتل قولين: أحدهما يجوز لما روي أن ابن عمر قطع عبدا له سرق. وثانيهما لا، وهو قول مالك أن القطع للإمام بخلاف الجلد لأن المولى يملك جنس الجلد وهو التعزير. وفي سماع المولى الشهادة أيضا وجهان: فإذا فقد الإمام فليس لآحاد الناس إقامة هذه الحدود بل ينبغي أن يعينوا واحدا من الصلحاء ليقوم بها، وفي الخارجي المتغلب خلاف.
البحث السادس في كيفية إقامة الحد: إنه سبحانه قد أشار إلى أن هذا الحد يجب أن لا يكون في غاية العنف بلفظ الجلد كما مر، وإلى أنه يجب أن لا يكون في غاية الرفق بقوله وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ وذلك إما بأن يترك الحد رأسا، أو ينقص شيء منه، أو يخفف بحيث لا يحس الزاني بالألم. وفي معناه أن يفرق على الأيام كأن يضرب كل يوم سوطا أو سوطين، وإن ضرب كل يوم عشرين مثلا كان محسوبا لحصول التكليف. والأولى أن لا يفرق وأكد هذا المعنى بقوله إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قال الجبائي: فيه دلالة على أن الاشتغال بأداء الواجبات من الإيمان لأن التقدير: إن كنتم مؤمنين فلا تتركوا إقامة الحدود. وأجيب بأن الرأفة لا تحصل إلا إذا حكم الإنسان بطبعه وأن ذلك يوجب ترك
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الحدود باب 33 أحمد في مسنده (1/ 145) .
(2) رواه البخاري في كتاب العتق باب 17. مسلم في كتاب الحدود حديث 31- 32. أبو داود في كتاب الحدود باب 32. الترمذي في كتاب الحدود باب 8. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 14. الموطأ في كتاب الحدود حديث 14.(5/149)
إقامة الحد، وحينئذ يكون منكرا للدين فلهذا يخرج من الإيمان.
وفي الحديث «يؤتي بوال نقص من الحد سوط فيقال له: لم فعلت ذاك؟ فيقول: رحمة لعبادك. فيقول له: أنت أرحم بهم مني فيؤمر به إلى النار»
روى أبو عثمان النهدي قال: أتي عمر برجل في حد، ثم جيء بسوط فيه شدة فقال: أريد ألين من هذا. فأتي بسوط فيه لين فقال: أريد أشد من هذا. فأتي بسوط بين السوطين. وروي أن أبا عبيدة بن الجراح أتي برجل في حد فذهب الرجل ينزع قميصه وقال: ما ينبغي لجسد هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص. فقال أبو عبيدة: لا تدعوه ينزع قميصه وضربه عليه. ولا خلاف في أن المرأة لا يجوز تجريدها بل يربط عليها ثيابها حتى لا تنكشف ويلي ذلك منها امرأة. وجوّز الشافعي الضرب على الرأس لما روي أن أبا بكر قال: اضرب على الرأس فإن الشيطان فيه. وقال أبو حنيفة: حكم الرأس حكم الوجه لأن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس وفي الوجه واحد، وأما في سائر البدن فلا يجب إلا الحكومة. وأيضا إن ضرب الرأس يوجب في الأغلب ظلمة البصر ونزول الماء واختلاط العقل كالوجه فإنه أيضا عرضة للآفات وفيه الأعضاء الشريفة اللطيفة.
وللشافعي أن يقول: إنما يحترم الوجه لما جاء
في الحديث «إن الله تعالى خلق آدم على صورته» «1»
وهذا المعنى مفقود في الرأس. ولتكن إقامة الحد في وقت اعتدال الهواء إلا إذا كان رجما فإن المقصود- وهو قتله- لا يتفاوت بذلك. ولهذا يرجم المريض أيضا في مرضه. وقيل: إن كان مرضا يرجى برؤه يؤخر كما في الجلد لأنه ربما يرجع عن إقراره في حال الرجم وقد أثر الرجم في بدنه فتعين شدة الحر والبرد مع المرض على إهلاكه، وهذا بخلاف ما ثبت بالبينة فإنه لا يسقط. وفي الجلد إن كان المرض مما لا يرجى زواله كالسل والزمانة فلا يؤخر سواء زنى في حال الصحة أو في حال المرض ولكن لا يضرب بالسياط عند الشافعي، لأن المقصود ليس موته بل يضرب بعثكال عليه مائة شمراخ كما
روي أن مقعدا أصاب امرأة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا مائة شمراخ فضربوه بها ضربة واحدة.
والأثكال والعثكال الغصن الذي عليه فروع خفيفة من النخل أو من غيره. وعند أبي حنيفة يضرب بالسياط. ثم إن ثبت الزنا بإقراره فمتى رجع ترك وقع به بعض الحد أو لم يقع وبه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وإسحق، لأن ماعزا لما مسته الحجارة هرب
فقال صلى الله عليه وسلم: هلا تركتموه.
وعن الحسن وابن أبي ليلى وداود أنه لا يقبل رجوعه. ويحفر للمرأة إلى صدرها حتى لا تنكشف ويرمى إليها، ولا يحفر للرجل كما في حق ما عز إذ لو كان في
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الاستئذان باب 1. مسلم في كتاب البر حديث 115. أحمد في مسنده (2/ 244، 251) .(5/150)
الحفرة لم يمكنه الهرب. ولما روى أبو سعيد الخدري في قصته «فما أوثقناه ولا حفرنا له» .
وإذا مات الزاني في الحد يغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين. ومن تغليظات حد الزنا قوله سبحانه وَلْيَشْهَدْ ظاهره أمر للوجوب إلا أن الفقهاء أجمعوا على أن حضور الجمع مستحب والمقصود إعلان إقامة الحد لما فيه من مزيد الردع، ولما فيه من دفع التهمة عمن يجلد. وفي لفظ العذاب دليل على أنه عقوبة لا استصلاح إلا أن يراد بالعذاب ما يمنع من المعاودة كالنكال وقد مر في أول البقرة في قوله وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [الآية: 7] ومعنى الطائفة قد مر في التوبة. فقال النخعي ومجاهد: هي في الآية واحد.
وعن عطاء وعكرمة اثنان. وعن الزهري وقتادة ثلاثة. وقال ابن عباس والشافعي: أربعة بعدد شهود الزنا. وعن الحسن عشرة لأنها أول عقد. وجوّز ابن عباس إلى أربعين رجلا من المصدقين بالله. وحضور الإمام والشهود ليس بلازم عند الشافعي ومالك لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحضر رجم ما عز والغامدية. وقال أبو حنيفة: إن ثبت بالبينة وجب على الشهود أن يبدأوا بالرجم ثم الإمام ثم الناس وإن ثبت بإقراره بدأ الإمام ثم الناس.
ثم ذكر شيئا من خواص الزناة فقال: الزَّانِي لا يَنْكِحُ وهو خبر في معنى النهي كقراءة عمرو بن عبد لا يَنْكِحُ بالجزم. ويجوز أن يكون خبرا محضا على معنى أن عادتهم جارية بذلك. وفي الآية أسئلة: الأول: كيف قدمت الزانية على الزاني في الآية المتقدمة وعكس الترتيب في هذه؟ والجواب أن تلك الآية مسوقة لبيان عقوبتهما على جنايتهما وكانت المرأة أصلا فيها لأنها هي التي أطمعت الرجل في ذلك. وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل هو الأصل في الرغبة والخطبة. والثاني: ما الفرق بين الجملتين في الآية؟ والجواب معنى الأولى صفة الزاني بكونه غير راغب في العفائف ولكن في الفواجر، ومعنى الثانية صفة الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء، ولكن للزناة وهما معنيان مختلفان لأنه لا يلزم عقلا من كون الزاني كذلك أن يكون حال الزانية منحصرة في ذلك فأخبره الله تعالى بالجملة الثانية عن هذا الانحصار. الثالث أنا نرى الزاني قد ينكح المؤمنة العفيفة والزانية قد ينكحها المؤمن العفيف، وأيضا المؤمن قد يحل له التزوج بالمرأة الزانية. الجواب للمفسرين فيه وجوه: أحدها وهو الأحسن قول القفال: إن اللفظ وإن كان عاما إلا أن المراد منه الأعم الأغلب، وذلك أن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا والتقحب لا يرغب غالبا في نكاح الصوالح من النساء وإنما يرغب في فاسقة خبيثة من شكله أو في مشركة، والفاسقة الخبيثة المسافحة لا يرغب في نكاحها الصلحاء في الأغلب وإنما يرغب فيها أشكالها من الفسقة أو المشركين نظير هذا الكلام قول القائل «لا يفعل الخير إلا(5/151)
الرجل التقي» . وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقي. وأما المحرم على المؤمنين فصرف الرغبة بالكلية إلى الزواني وترك الرغبة في الصالحات لانخراطهم بسبب هذا الحصر في سلك الفسقة المتسمين بالزنا. الوجه الثاني أن الألف واللام في قوله الزَّانِي وفي قوله الْمُؤْمِنِينَ للعهد.
روى مجاهد وعطاء بن أبي رباح وقتادة أنه قدم المهاجرون المدينة وليست لهم أموال ولا عشائر وبها نساء يكرين أنفسهن وهن يومئذ أخصب أهل المدينة ولكل واحدة منهن علامة على بابها لتعرف بها وكان لا يدخل عليها إلا زان أو مشرك، فرغب فيهن ناس من فقراء المسلمين وقالوا: نتزوج بهن إلى أن يغنينا الله عنهن. فاستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية.
والتقدير: أولئك الزواني لا ينكحون إلا تلك الزانيات، وتلك الزانيات لا ينكحها إلا أولئك الزواني، وحرم نكاحهن بأعيانهن على المؤمنين. الوجه الثالث أن هذا خبر في معنى النهي كما مر. وهكذا كان الحكم في ابتداء الإسلام. ثم قيل:
إن ذلك الحكم باق إلى الآن حتى يحرم على الزاني والزانية التزوج بالعفيفة والعفيف وبالعكس. ويقال: هذا مذهب أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وعائشة. ثم في هؤلاء من يسوّي بين الابتداء والدوام فيقول: كما لا يحل للمؤمن أن يتزوج بالزانية فكذلك إذا زنت تحته لا يحل له أن يقيم عليها. ومنهم من يفصل لأن في جملة ما منع من التزوج ما لا يمنع من دوام النكاح كالإحرام والعدة. وقيل: إنه صار منسوخا إما بالإجماع- وهو قول سعيد بن المسيب- وزيف بأن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به، وإما بعموم قوله وَأَنْكِحُوا الْأَيامى [النور: 32] فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ [النساء: 3] وهو قول الجبائي. وضعف بأن ذلك العام مشروط بعدم الموانع السببية والنسبية وليكن هذا المانع أيضا من جملتها. وسئل ابن عباس عن ذلك فأجازه وشبه بمن سرق ثمر شجرة ثم اشتراه.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك فقال: أوّله سفاح وآخره نكاح والحرام لا يحرم الحلال.
الوجه الرابع قول أبي مسلم:
إن النكاح محمول على الوطء وذلك إشارة إلى الزنا أي وحرم الزنا على المؤمنين. قال الزجاج: هذا التأويل فاسد من جهة أن النكاح في كتاب الله لم يرد إلا بمعنى التزويج، ومن جهة أنه يخرج الكلام عن الفائدة إذ لا معنى لقول القائل «الزاني لا يطأ إلا الزانية» حتى يكون وطؤه زنا، ولو أريد حين التزوج فالإشكال عائد لأن الزاني قد يطأ العفيفة حين يتزوج بها. الحكم الثاني من أحكام السورة حد القذف والرمي قد يكون بالزنا وبغيره كالكفر والسرقة وشرب الخمر، إلا أن العلماء أجمعوا على أن المراد به في الآية هو الرمي بالزنا بالقرائن: منها تقدم ذكر الزنا، ومنها ذكر المحصنات وهن العفائف، ومنها قوله لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أي على صحة ما رموها به، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود غير مشروط(5/152)
إلا في الزنا، والقذف بغير الزنا يكفي فيه شاهدان. وألفاظ القذف تنقسم إلى صريح وكناية وتعريض، فالصريح أن يقول: يا زانية أو زنيت أو زنى قبلك أو دبرك. والأصح أن قوله «زنى بدنك» صريح لأن الفعل لكل البدن والفرج آلة. والكناية أن يقول «يا فاسقة يا فاجرة يا خبيثة يا بنت الحرام أو امرأته لا تردّ يد لامس» فهذا لا يكون قذفا إلا أن يريده. وكذا لو قال لعربي «يا نبطي الدار واللسان» وادعت أم المقول له أنه أراد القذف فالقول قوله مع يمينه. والتعريض ليس بقذف كقوله «يا ابن الحلال» و «أما أنا فليست أمي بزانية» وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه. وقال مالك: يجب الحد فيه. وقال أحمد وإسحق: هو قذف في حال الغضب دون حال الرضا لنا أن الأصل براءة الذمة فلا يرجع عنه بالشك ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم «ادرؤا الحدود بالشبهات» «1»
والإيذاء الحاصل بالتصريح فوق الإيذاء الحاصل بالتعريض.
حجة المخالف ما روي أن رجلين استبا في زمن عمر بن الخطاب فقال أحدهما للآخر: والله ما أرى أبي بزان ولا أمي بزانية. فاستشار عمر الناس في ذلك فقال قائل: مدح أباه وأمه. وقال آخرون قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا. فجلده عمر ثمانين. وإذا قذف شخصا واحدا مرارا فإن أراد بالكل زنية واحدة كما لو قال مرارا «زنيت بعمرو» لم يجب إلا حد واحد. ولو أنشأ الثاني بعد ما حد للأول عزر للثاني. وإن أراد زنيات مختلفة كأن قال «زنيت بزيد وزنيت بعمرو» فالأصح تداخل الحدود لأنهما حدان من جنس واحد فصار كما لو قذف زوجته مرارا يكتفي بلعان واحد. وإذا قذف جماعة بكلمات أو بكلمة واحدة كأن قال «يا ابن الزانيين» فعليه حدان لأنه قذف لكل واحد من أبويه، هذا هو الجديد من قولي الشافعي. وعند أبي حنيفة لا يجب إلا حد واحد لأن قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ معناه كل من رمى جماعة من المحصنات فاجلدوه ثمانين،
ولأنه صلى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية «أو حدّ في ظهرك»
فلم يوجب عليه الا حدا واحدا مع قذفه لامرأته. ولشريك بن سحماء للقياس على من زنى مرارا أو شرب أو سرق مرارا والجامع رفع مزيد الضرر. وأجيب بأن قوله وَالَّذِينَ صيغة جمع وقوله الْمُحْصَناتِ كذلك. وإذا قوبل الجمع بالجمع يقابل الفرد بالفرد فيصير المعنى: كل من رمى محصنة فاجلدوه. وفيه أن رمي المحصنة علة الجلد فحيث وجدت وجد. ولا شك أن هذه العلة موجودة عند رمي كل واحدة من المحصنات فيترتب عليها الجلد لا محالة. وأما السنة فالإنصاف أن دلالتها على المطلوب
__________
(1)
رواه الترمذي في كتاب الحدود باب 2. بلفظ «ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم» .(5/153)
قوية، وأما القياس فالفرق أن هذا حق الآدمي وتلك حدود الله تعالى. هذا كله هو البحث عن الرمي. وأما البحث عن الرامي فنقول: لا عبرة بقذف الصبي والمجنون إلا في باب التعزير للتأديب إن كان لهما تمييز ولو لم يتفق إقامة التعزير على الصبي حتى بلغ. قال القفال: يسقط التعزير لأنه كان للزجر. والعقل زاجر قوي وإشارة الأخرس وكتابته قذف ولعان عند الشافعي قياسا على سائر الأحكام، ولأنه كاف في لحوق العار. وعند أبي حنيفة لا يصح قذفه ولعانه لضعف تأثيرهما. وإذا قذف العبد حرا فعليه أربعون جلدة قاله مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه على قانون قوله فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النساء: 25] وعند الشيعة
ويروى عن علي رضي الله عنه أنه يجلد ثمانين أخذا بعموم الآية،
ولهذا اتفقوا على دخول الكافر فيه حتى لو قذف اليهودي مسلما جلد ثمانين.
ويستثنى من الرماة الأب أو الجد إذا قذف أولاده أو أحفاده فإنه لا يجب عليه الحد كما لا يجب عليه القصاص. وأما البحث عن المرمي فالمحصنات العفائف لأنهن منعن فرجهن إلا من زوجهن وهي عامة إلا أن الفقهاء اعتبروا لكونها محصنة شرائط خمسا: الإسلام
لقوله صلى الله عليه وسلم «من أشرك بالله فليس بمحصن»
والعقل والبلوغ لأن المجنون والصبي لا اهتمام لهما بدفع العار عن أنفسهما، والحرية لمثل ما قلنا، والعفة لأن الحد شرع لتكذيب القاذف فإذا كان صادقا فلا معنى للحد حتى لو زنى مرة في عنفوان شبابه ثم تاب وحسنت حاله لم يحد قاذفه بخلاف ما لو زنى في حال صغره أو جنونه ثم بلغ أو أفاق فقذفه قاذف فإنه يحد لأن فعل الصبي والمجنون لا يكون زنا. ولو زنى بعد القذف وقبل إقامة الحد على القاذف سقط الحد عن قاذفه. قاله أبو حنيفة والشافعي لأن ظهور الزنا منه خدش ظن الإحصان به وقت القذف، ودل على أنه كان متصفا به قبله كما روي أن رجلا زنى في عهد عمر فقال:
والله ما زنيت إلا هذه. فقال عمر: كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة. وقال أحمد والمزني وأبو ثور: الزنا الطارئ لا يسقط الحد عن القاذف. ولفظ المحصنات لا يتناول الرجال عند جمهور العلماء إلا أنهم أجمعوا على أنه لا فرق في هذا الباب بين المحصنين والمحصنات والقذف بغير الزنا كأن يقول «يا آكل الربا» يا «شارب الخمر» يا «يهودي» يا «مجوسي» يا «فاسق» وكذا قذف غير المحصنين بالزنا لا يوجب الا التعزير، ولو كان المقذوف معروفا بما ذكره فلا تعزير أيضا. واعلم أنه سبحانه حكم على القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء بثلاثة أحكام: جلد ثمانين وبطلان الشهادة والحكم بفسقه إلى أن يتوب.
فذهب جمع من الأئمة كالشافعي والليث بن سعد إلى أنه رتب على القذف مع عدم الإتيان بالشهداء الأربعة أمورا ثلاثة معطوفة بعضها على بعض بالواو وهو لا يفيد الترتيب، فوجب أن لا يكون رد الشهادة مرتبا على إقامة الحد، بل يجب أن يثبت رد الشهادة بالقذف مع عدم(5/154)
البينة سواء أقيم عليه الحد أم لا. وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: شهادته مقبولة ما لم يحد فإذا استوفى لم تقبل شهادته. وإنما ذهب إلى هذا نظرا إلى ظاهر الترتيب مع موافقته للأصل وهو كونه مقبول الشهادة ما لم يطرأ مانع
ولقوله صلى الله عليه وسلم «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف» «1»
أخبر ببقاء عدالته ما لم يحدّ.
أما الاستثناء في قوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا فإنه لا يرجع إلى الجملة الأولى اتفاقا لأنه إذا عجز عن البينة وهو الإتيان بأربعة شهداء وجب عليه الجلد ولم يكن للإمام ولا للمقذوف أن يعفو عن القاذف لأنه خالص حق الله عز وجل، ولهذا لا يصح أن يصالح عنه بمال. هذا قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال الشافعي: إذا عجز عن البينة وجب على الإمام وهو المخاطب بقوله فَاجْلِدُوهُمْ أن يأمر بجلده وإن تاب لأن القذف وحده حق الآدمي والمغلب فيه حقه، فليس للإمام أن يعفو عنه. ولا خلاف في رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة وأن المراد أنهم محكوم عليهم بالفسق. الا أن تابوا. بقي الخلاف في رجوع الاستثناء إلى الجملة المتوسطة، ومنشأ الخلاف مسألة أصولية هي أن الاستثناء بعد جمل معطوف بعضها على بعض للجميع وهو مذهب الشافعية، أو للأخيرة وهو مذهب الحنفية، ويتفرع على مذهب الشافعي أن القاذف إذا تاب وحسنت حاله قبلت شهادته فيكون الأبد مصروفا إلى مدة كونه قاذفا وهي تنتهي بالتوبة والرجوع عن القذف. ويتفرغ على مذهب أبي حنيفة أنه لم تقبل شهادته وإن تاب والأبد عنده مدة حياته. وقوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ جملة مستأنفة عنده لا معطوفة لأنها خبرية وما قبلها طلبية، ولو سلم أنها معطوفة فالاستثناء يرجع إليها فقط. قال صاحب الكشاف: حق المستثنى عند الشافعي أن يكون مجرورا بدلا من هم في لهم، وحقه عند أبي حنيفة أن يكون منصوبا لأنه عن موجب. قلت: حقه عند الإمامين أن يكون منصوبا لأن الاستثناء يعود عند الشافعي إلى الجملتين، ولا يمكن أن يكون الاسم الواحد معربا بإعرابين مختلفين في حالة واحدة، لكنه يجب نصبه نظرا إلى الأخيرة فتعين نصبه نظرا إلى ما قبلها أيضا، وإن جاز البدل في غير هذه المادة. هذا وقد احتجت الشافعية أيضا في قبول شهادة القاذف بعد التوبة
بقوله صلى الله عليه وسلم «التائب من الذنب كمن لا ذنب له» «2»
وإذا كانت التوبة من الكفر والزنا والقتل مع غلظها مقبولة فلأن تقبل من القذف أولى. وأيضا إن أبا حنيفة يقبل شهادته قبل الحد فبعده وقد تاب وحسن حاله أولى. وأيضا الكافر يقذف
__________
(1) رواه ابن ماجة في الأحكام باب 30. أحمد في مسنده (2/ 208) ولم يذكر القذف.
(2) رواه ابن ماجة في كتاب الزهد باب 30.(5/155)
فيتوب من الكفر فتقبل شهادته بالإجماع، فالقاذف المسلم إذا تاب من القذف كان أولى بأن تقبل شهادته لأن القذف مع الإسلام أهون حالا من القذف مع الكفر. لا يقال: المسلمون لا يعبؤون بسب الكفار لاشتهارهم بعداوتهم والطعن فيهم فلا يلحق المقذوف بقذف الكافر عار حادث بخلاف ما لو قذفه مسلم. وأيضا الإيمان يجب ما قبله وبهذا لا يلزم الحد بعد التوبة من الكفر ويلزم بعد التوبة من القذف لأنا نقول: هذا الفرق ملغى في أهل الذمة
لقوله صلى الله عليه وسلم «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين»
واحتجت الحنفية في عدم قبول شهادته بما روى ابن عباس في قصة هلال بن أمية يجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين ولم يشترط التوبة، ومثله
قوله صلى الله عليه وسلم «المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدود في قذف» «1»
ولم يذكر التوبة.
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لا تجوز شهادة محدود في الإسلام» «2»
والشافعية عارضوا هذه الحجج بوجوه: منها
قوله صلى الله عليه وسلم «إذا علمت مثل الشمس فاشهد» «3»
فإذا علم المحدود وجبت عليه الشهادة ولو لم يقبل كان عبثا. ومنها قوله نحن نحكم بالظاهر، وهاهنا قد ظهرت العفة والصلاح. ومنها أن عمر بن الخطاب ضرب الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة وهم أبو بكرة ونافع ونفيع ثم قال لهم: من أكذب نفسه قبلت شهادته. فأكذب نافع ونفيع أنفسهما وتابا فكان يقبل شهادتهما.
وقد بقي في الآية مسائل.
الأولى: قال الشافعي: لا فرق بين أن يجيء الشهود متفرقين أو مجتمعين. وقال أبو حنيفة: إذا جاؤا متفرقين لم يثبت وعليهم حد القذف كما لو شهد على الزنا أقل من أربعة. حجة الشافعي أن الآتي بالشهداء متفرقين آت بمقتضى النص واجتماعهم أمر زائد لا إشعار به في الآية. وأيضا القياس على سائر الأحكام بل تفريقهم أولى لأنه أبعد عن التهمة والتواطؤ. وكذلك يفعل القاضي في كل حكم سواه عند الريبة. وأيضا لا يجب أن يشهدوا معا في حالة واحدة بل إذا اجتمعوا عند القاضي ويقوم واحد بعد آخر ويشهد جاز فكذا إذا اجتمعوا على بابه ويدخل واحد بعد آخر. حجة أبي حنيفة الشاهد الواحد لما شهد قذفه ولم يأت بأربعة شهداء فوجب عليه الحد فخرج عن كونه شاهدا، ولا عبرة بتسميته شاهد إذا فقد المسمى فلا خلاص عن هذا الإشكال إلا باشتراط الاجتماع، ونظيره ما روي أن المغيرة بن
__________
(1، 2) رواه ابن ماجة في كتاب الأحكام باب 30. أحمد في مسنده (2/ 208) ولم يذكر القذف.
(3)
رواه البخاري في كتاب الأحكام باب 15 بلفظ «إن عرفتها فاشهد وإلا فلا تشهد» .(5/156)
شعبة شهد عليه بالزنا عند عمر بن الخطاب أربعة: أبو بكرة ونافع ونفيع. وقال زياد: وكان رابعهم: رأيت رجليها على عاتقه كأذني حمار ولا أدري ما وراء ذلك. فجلد عمر الثلاثة ولم يسأل هل معهم شاهد آخر. فلو قبل بعد ذلك شهادة غيرهم لتوقف في الحد للاحتياط.
الثانية: جوّز أبو حنيفة أن يكون زوج المقذوفة واحدا من الشهداء الأربعة وأباه الشافعي.
الثالثة: قال الشافعي: في أحد قوليه: إذا أتي بأربعة فساق فهم قذفة يجب عليهم الحد كما يجب على القاذف الأول. وقال أبو حنيفة: لا حد عليهم ولا على القاذف لأنه أتى بأربعة من أهل الشهادة إلا أن الشرع لم يعتبر شهادتهم، فكما اعتبرنا التهمة في نفي الحد عن المشهود عليه فكذلك يجب اعتبارها في نفي الحد عنهم.
الرابعة: لا يكفي في الشهادة إطلاق الزنا لا بد أن يذكروا التي زنى بها وأن يذكروا الزنا مفصلا مفسرا فيقولوا: رأيناه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة أو كالرشا في البئر، ولا بد مع ذلك من الوصف بالتحريم. ولو أقر على نفسه بالزنا فهل يشترط التفسير والبيان؟ فيه وجهان: نعم كالشهود لا كالقذف.
الخامسة: قالوا: أشد الحدود ضرب الزنا ثم ضرب الخمر ثم القذف لأن سبب عقوبته يحتمل الصدق والكذب. إلا أنه عوقب صيانة للأعراض.
السادسة: حد القذف يورث عند مالك والشافعي بناء على أنه حق الآدمي.
وقد قال صلى الله عليه وسلم «من ترك حقا فلورثته» «1»
والأصح أنه يرثه جميع الورثة. وفي قول سوى الزوج والزوجة لأن الزوجية ترفع بالموت، ولأن لحوق العار بها أقل. وعلى هذا القول اعترض أبو حنيفة بأنه لو كان موروثا لكان للزوج والزوجة فيه نصيب.
السابعة: إذا قذف إنسان إنسانا بين يدي الحاكم أو قذف امرأته برجل والرجل غائب فعلى الحاكم أن يبعث إلى المقذوف ويخبره بأن فلانا قد قذفك وثبت لك حد القذف عليه كما لو ثبت له حق على آخر وهو لا يعلمه يلزمه إعلامه، وبهذا المعنى بعث النبي صلى الله عليه وسلم أنيسا ليخبرها بأن فلانا قذفها بابنه ولم يبعثه ليتفحص عن زناها.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الكفالة باب 5. مسلم في كتاب الفرائض حديث 14، 17. أبو داود في كتاب الفرائض باب 8. الترمذي في كتاب الجنائز باب 69. النسائي في كتاب الجنائز باب 67.
أحمد في مسنده (2/ 290) .(5/157)
قال الشافعي: وليس للإمام إذا رمى رجل بالزنا أن يبعث إليه فيسأله عن ذلك لأن الله تعالى قال وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات: 22] وأراد به إذا لم يكن القاذف معينا كأن قال رجل بين يدي الحاكم: الناس يقولون إن فلانا زنى. فلا يبعث الحاكم إليه فيسأله. الثامنة:
قال الشافعي: توبة القاذف إكذابه نفسه. وفسره الأصطخري بأن يقول: كذبت فيما قلت فلا أعود إلى مثله. وقال أبو إسحق: لا يقول كذبت لأنه ربما يكون صادقا فيكون قوله كذبت كذبا والكذب معصية والإتيان بالمعصية لا يكون توبة عن معصية أخرى بل يقول: القذف باطل وندمت على ما قلت ورجعت عنه ولا أعود إليه. ولا بد من مضيّ مدة عليه في حسن الحال وهو المراد بقوله وَأَصْلَحُوا وقدّروا تلك المدة بسنة لأن مرور الفصول الأربعة كلها له تأثير في الطباع. وأن الشارع جعل السنة معتبرة في الزكاة والجزية وغيرهما. أما قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ففيه دليل على أن القذف من جملة الكبائر، وأن الفاسق اسم من يستحق العقاب لأنه لو كان مشتقا من فعله لكانت التوبة لا تمنع من دوامه كما لا تمنع من وصفه بأنه ضارب، اللهم إلا أن يقال: إنما لا يطلق عليه هذا الاسم بعد التوبة للتعظيم كما لا يقال لأكابر الصحابة كافر لكفر سبق. قالت الأشاعرة: في قوله فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ دلالة على أن قبول التوبة لا يجب عليه وإلا لم يفد المدح. الحكم الثالث: اللعان وسببه قذف الزوجات خاصة. القذف أمر محظور في نفسه إلا إذا عرض ما يباح أو يجب به.
وتفضيل ذلك أنه إن رآها الزوج بعينه تزني، أو أقرت هي على نفسها ووقع في قلبه صدقها، أو سمع ممن يثق بقوله، أو استفاض بين الناس أن فلانا يزني بفلانة وقد رآه الزوج يخرج من بيتها، أو رآه معها في بيت، أبيح له القذف لتأكد التهمة. ويجوز أن يمسكها أو يستر عليها لما
روي أن رجلا قال: يا رسول الله إن لي امرأة لا تردّ يد لامس. قال: طلقها. قال:
إني أحبها. قال: فأمسكها
أما إذا سمعه ممن لا يوثق بقوله، أو استفاض ولكن لم يره الزوج معها أو بالعكس لم يحل له قذفها لأنه ربما دخل لخوف أو سرقة أو لطلب فجور وأبت المرأة هذا كله إذا لم يكن ثمة ولد يريد نفيه، فإن كان ثمة ولد فإن تيقن أنه ليس منه بأن لم يكن وطئها أو وطئها لكنها أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الوطء أو لأكثر من أربع سنين يجب عليه نفيه باللعان لأنه ممنوع من استلحاق نسب الغير كما هو ممنوع من نفي نسبه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله جنته. وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه يوم القيامة وفضحه على رؤوس الأشهاد من الأولين والآخرين» «1»
وإن احتمل أن يكون الولد منه بأن
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الطلاق باب 29. الدارمي في كتاب النكاح باب 42.(5/158)
أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الوطء ولأقل من أربع سنين، فإن لم يكن استبرأها بحيضة أو استبرأها وأتت به لدون ستة أشهر من وقت الاستبراء لم يحل له القذف والنفي، وإن اتهمها بالزنا وإن استبرأها وأتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الاستبراء يباح له القذف والنفي، والأولى أن لا يفعل لأنها قد ترى الدم على الحبل. وإن أتت امرأته بولد لا يشبهه كأن كانا أبيضين وأتت به أسود فإن لم يتهمها بالزنا فليس له نفيه لما
روى أبو هريرة أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي ولدت غلاما أسود فقال: هل لك من إبل؟ قال: نعم.
قال: ما لونها؟ قال: حمر. قال: فهل فيها أورق؟ قال: نعم قال: فكيف ذاك؟ قال: نزعه عرق. قال: فلعل هذا نزعه عرق.
وإن كان يتهمها بزنا أو برجل فأتت بولد يشبهه فهل يباح نفيه؟ فيه وجهان: أما سبب نزول الآية
فقد قال ابن عباس: لما نزلت الآية المتقدمة قال عاصم بن عدي الأنصاري: إذا دخل منا رجل بيته ووجد رجلا على بطن امرأته فإن جاء بأربعة رجال يشهدون بذلك فقد قضى الرجل حاجته وخرج، وإن قتله قتل به، وإن قال:
وجدت فلانا مع تلك المرأة ضرب، وإن سكت سكت على غيظ، اللهم افتح. وكان لعاصم هذا ابن عم يقال له عويمر، وله امرأة يقال لها خولة بنت قيس، فأتى عويمر عاصما وقال:
رأيت شريك بن السحماء على بطن امرأتي خولة فاسترجع عاصم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجمعة الأخرى فقال: يا رسول الله ما أسرع ما ابتليت بهذا في أهل بيتي. أخبرني عويمر أنه رأى شريكا على بطن امرأته، وكان عويمر وخولة وشريك كلهم أبناء عم عاصم. فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعا وقال لعويمر: اتق الله في زوجتك وابنة عمك ولا تقذفها. فقال: يا رسول الله أقسم بالله أني رأيت شريكا على بطنها وأني ما قربتها منذ أربعة أشهر وأنها حبلى من غيري. فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اتقي الله ولا تخبري إلا بما صنعت. فقالت: يا رسول الله إن عويمرا رجل غيور وإنه رأى شريكا يطيل التردد ويتحدث فحملته الغيرة على ما قال فأنزل الله سبحانه هذه الآيات. وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ إلى آخرها. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نودي بالصلاة جامعة فصلى العصر ثم قال لعويمر: قم وقل أشهد بالله أن خولة لزانية وإني لمن الصادقين. ثم قال في الثانية قل أشهد بالله إني رأيت شريكا على بطنها وإني لمن الصادقين. ثم قال في الثالثة: قل أشهد بالله أنها حبلى من غيري وإني لمن الصادقين.
ثم قال في الرابعة: قل أشهد بالله إنها زانية وإني ما قربتها منذ أربعة أشهر وإني لمن الصادقين. ثم قال في الخامسة: قل لعنة الله على عويمر يعني نفسه إن كان من الكاذبين فيما قاله. ثم قال: اقعد. وقال لخولة: قومي فقامت. وقالت: أشهد بالله ما أنا بزانية وإن زوجي عويمرا لمن الكاذبين. وقالت في الثانية: أشهد بالله ما رأى شريكا على بطني وإنه(5/159)
لمن الكاذبين. وقالت في الثالثة: أشهد بالله إني حبلى منه وإنه لمن الكاذبين. وفي الرابعة:
أشهد بالله إنه ما رآني على فاحشة قط وإنه لمن الكاذبين. وفي الخامسة: غضب الله على خولة إن كان عويمر من الصادقين في قوله. ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما.
وعن ابن عباس أيضا في رواية الكلبي أن عاصما رجع إلى أهله فوجد شريكا على بطن امرأته فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم والحديث كما تقدم.
وفي رواية عكرمة عن ابن عباس: لما نزلت آية القذف قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار: ولو وجدت رجلا على بطنها فإني إن جئت بأربعة شهداء يكون قد قضى حاجته وذهب. فقال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟
قالوا: يا رسول الله لا تلمه فإنه رجل غيور. فقال سعد: يا رسول الله إني لأعرف أنها من الله وأنها حق ولكني عجبت منه. فقال صلى الله عليه وسلم: فإن الله أبى لي ذلك فلم يلبثوا إلا يسيرا حتى جاء ابن عم له يقال له هلال بن أمية وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم فقال: يا رسول الله إني وجدت مع امرأتي رجلا رأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به فقال هلال: والله يا رسول الله إني لأرى الكراهية في وجهك مما أخبرتك به، والله يعلم أني لصادق وما قلت إلا حقا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما البينة وإما إقامة الحد عليك. فاجتمعت الأنصار فقالوا: ابتلينا بما قال سعد. فبيناهم كذلك إذ نزل الوحي فقال: يا هلال أبشر فقد جعل الله لك فرجا وأمر بالملاعنة وفرق بينهما وقال: أبصروها فإن جاءت به أصهب أحمش الساقين أي دقيقهما فهو لهلال، وإن جاءت به أورق جعدا خدلج الساقين. أي ضخمهما فهو لصاحبه. فجاءت به خدلج الساقين فقال صلى الله عليه وسلم: لولا الإيمان لكان لي ولها شأن.
قال عكرمة: لقد رأيته بعد ذلك أمير مصر من الأمصار لا يدري من أبوه.
واعلم أن الفرق بين قذف غير الزوجة وبين قذف الزوجة هو أن المخلص من الحد في الأول إقرار المقذوف بالزنا أو بينة تقوم على زناه، وفي الثانية المخلص أحد الأمرين أو اللعان. وسبب شرع اللعان هو أنه لا مضرة على الزوج في زنا الأجنبي والأولى له ستره، وأما في زنا الزوجة فيلحقه العار والشنار والنسب الفاسد فلا يمكنه الصبر عليه وتوقيفه على البينة كالمتعذر. وأيضا الغالب أن الرجل لا يقصد رمي زوجته إلا عن حقيقة، فنفس الرمي دليل على صدقه إلا أن الشرع أراد كمال شهادة الحال بقرينة الإيمان كما أن شهادة المرأة حين ضعفت أكدت بزيادة العدد فمن هنا قال كثير من العلماء: إن حد قاذف الزوجة كان هو الجلد وإن الله نسخه باللعان.
ولنذكر هاهنا مسائل:
الأولى: قال الشافعي: إذا نكل الزوج عن اللعان لزمه الحد للقذف، فإذا لاعن(5/160)
ونكلت عن اللعان لزمها حد الزنا. وقال أبو حنيفة: إذا نكل الزوج يحبس حتى يلاعن وكذا المرأة. حجة الشافعي إذا لم يأت بالمخلص وهو الملاعنة وجب الرجوع إلى مقتضى آية القذف وهو الحد. وأيضا قوله وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ ليست اللام فيه للجنس لأنه لا يجب عليها جميع أنواع العذاب، ولأن الآية تصير إذ ذاك مجملة فهو للعهد ولا معهود في الآية إلا حد القذف،
ولقوله صلى الله عليه وسلم لخولة الرجم أهون عليك من غضب الله.
وللمرأة أن تقول: إن كان الرجل صادقا فحدّوني وإن كان كاذبا فخلوني فما بالي والحبس وليس حبسي في كتاب الله ولا سنة رسوله. حجة أبي حنيفة أن النكول ليس بصريح في الإقرار فلا يجوز إثبات الحد به كاللفظ المحتمل للزنا وغيره.
الثانية: الجمهور على أنه إذا قال «يا زانية» وجب اللعان لعموم قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ وقال مالك: لا يلاعن إلا أن يقول: رأيتك تزني وينفي حملا بها أو ولدا منها.
الثالثة: قال الشافعي: من صح رميه صح لعانه فلا يشترط إلا التكليف، ويجري اللعان بين الذميين والمحدودين والرقيقين. وذهب أبو حنيفة إلى أن الزوج ينبغي أن يكون مسلما حرا عاقلا بالغا غير محدود في القذف، والمرأة ينبغي أن تكون بهذه الصفة مع العفة. فإذا كان الزوج عبدا أو محدودا في قذف والمرأة محصنة حدّ كما في قذف الأجنبيات. دليل الشافعي عموم قوله وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ والإجماع. على أنه يصح لعان الفاسق والأعمى وإن لم يكونا من أهل الشهادة، فكذا القول في غيرهما، والجامع هو الحاجة إلى دفع العار. دليل أبي حنيفة حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي: من النساء من ليس بينهن وبين أزواجهن ملاعنة اليهودية والنصرانية تحت المسلم والحرّة تحت المملوك والمملوكة تحت الحر. وأيضا اللعان بين الزوجات قائم مقام الحد في الأجنبيات فلا يجب اللعان على من لا يجب عليه الحد لو قذفها أجنبي. وأيضا اللعان شهادة لقوله تعالى فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ وقد جاء مثله في أحاديث اللعان. وإذا كان شهادة وجب أن لا يقبل من المحدود في القذف ولا من العبد والكافر. أجاب الشافعي بأن اللعان يمين مؤكدة بلفظ الشهادة أو يمين فيها شائبة الشهادات فلا يشترط في الملاعن إلا أهلية لليمين، ومما يدل على أنه يمين
قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية: احلف بالله الذي لا إله إلا هو إنك صادق.
وقوله: لولا الإيمان لكان لي ولها شأن.
وأيضا لو كان شهادة لكان حظ المرأة ثمان شهادات لأنها على النصف من الرجل، ولم يجز لعان الفاسق والأعمى لأنهما ليسا من أهل الشهادة. لا يقال: الفاسق والفاسقة قد يتوبان لأنا نقول: العبد أيضا قد يعتق، بل العبد إذا عتق تقبل شهادته في الحال، والفاسق إذا تاب لا تقبل شهادته إلا بعد الاختبار. ثم ألزم(5/161)
الشافعي أبا حنيفة بأن شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة فينبغي أن يجوز اللعان بين الذمي والذمية. ثم قال الشافعي بعد ذلك: وتختلف الحدود لمن وقعت له، ومعناه أن الزوج إن لم يلاعن ينصف الحد عليه برقه، وإن لاعن ولم تلاعن اختلف حدها بإحصانها وحريتها ورقها.
الرابعة: اختلف المجتهدون في نتائج اللعان، فعن عثمان البتي أنه لا يحصل به الفرقة أصلا لأن أكثر ما فيه أن يكون الزوج صادقا في قذفه وهذا لا يوجب تحريما كما لو قامت البينة عليها. وأيضا إن تلاعنهما في بيتهما لا يوجب الافتراق فكذا عند الحاكم. وأيضا إنه قائم مقام الشهود في الأجنبيات فلا يكون له تأثير إلا في إسقاط الحد. وأيضا إذا أكذب الزوج نفسه ثم حدّ لا يوجب الفرقة فكذا اللعان. وأما تفريق النبي صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين في قصة العجلاني فذلك لأن الزوج كان طلقها ثلاثا قبل اللعان. وعن أبي حنيفة وأصحابه إلّا زفر، أن الحاكم يفرق بينهما لما روى سهل بن سعد: مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم يجتمعان أبدا، ولما في قصة عويمر كذبت عليها إن أمسكتها هي طالق ثلاثا، فلو وقعت الفرقة باللعان لم يمكن إمساكها. وقال مالك والليث وزفر: إذا فرغا من اللعان وقعت الفرقة بينهما وإن لم يفرق الحاكم، لأنهما لو تراضيا على دوام النكاح لم يخليا فدل ذلك على وقوع الفرقة بينهما. وقال الشافعي: إذا فرغ الزوج وحده من اللعان حصل بذلك خمس نتائج: درء الحد عنه، ونفي الولد، والفرقة، والتحريم المؤبد، ووجوب الحد عليها. ولا تأثير للعان الزوجة إلا في دفع العذاب عن نفسها، وما
روي أنه صلى الله عليه وسلم فرق بينهما
محمول على أنه أخبر عن وقوع الفرقة بينهما. وزعم أبوبكر الرازي أن قول الشافعي خلاف الآية، لأنه لو وقعت الفرقة بلعان الزوج لاعنت المرأة وهي أجنبية، ولكنه تعالى أوجب اللعان بين الزوجين، وأيضا اللعان شهادة فلا يثبت حكمها إلا عند الحاكم كسائر الشهادات. وأيضا اللعان تستحق به المرأة نفسها كما يستحق المدعي ما ادعاه بالبينة فيتوقف على حكم الحاكم. وأيضا اللعان لا إشعار فيه بالتحريم فهو كما لو قامت البينة على زناها فلا بد من إحداث التفريق إما من قبل الزوج أو من قبل الحاكم. ولقائل أن يقول: سميا زوجين باعتبار ما كان كالعبد على من عتق، ولا نسلم أن اللعان شهادة محضة. ومما يؤكد قول الشافعي تنصيص الله سبحانه على ذلك بقوله وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ ففيه دلالة على أن كل ما يجب باللعان من الأحكام فقد وقع بلعان الزوج إلا درء العذاب. وأيضا أن لعان الزوج مستقل بنفي الولد لأن الاعتبار في الإلحاق بقوله لا بقولها، ألا ترى أنها في(5/162)
لعانها تلحق الولد به ونحن ننفيه عنه، وإذا انتفى الولد عنه بمجرد لعانه وجب أن يكون الفراش زائلا لقوله «الولد للفراش» .
الخامسة: مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف والثوري وإسحق، أن المتلاعنين لا يجتمعان أبدا وهو قول علي وابن مسعود. ولما روي الزهري من حديث سهل بن سعد، ولما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد اللعان لا سبيل لك عليها.
ولم يقل حتى تكذب نفسك ولو كان إلا كذاب غاية لهذه الحرمة، وأنه إذا أكذب نفسه وحدّ زال تحريم العقد وحلت له بنكاح جديد لذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 23] وقد يحتج لأبي حنيفة بعموم قوله فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3] وقوله وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: 24] .
السادسة: اتفق أهل العلم على أن الولد ينتفي من الزوج باللعان. وخالف بعضهم مستدلا
بقوله صلى الله عليه وسلم «الولد للفراش»
وزيف بأن الأخبار الدالة على أن الولد ينتفي باللعان كالمتواترة فلا يعارضها الواحد بل يجب تخصيصه بها.
السابعة: لو أتى ببعض كلمات اللعان لا يتعلق بها الحكم عند الشافعي وهو ظاهر وعن أبي حنيفة أن للأكثر حكم الكل إذا حكم به الحاكم.
الثامنة: كيفية اللعان كالصريحة في الآية وأن الحديث قد زادها بيانا كما مر. وقد عد الشافعي ومن سننها أن يقام الرجل حتى يشهد والمرأة قاعدة، وتقام المرأة حتى تشهد والرجل قاعد، ويأمر الإمام من يضع يده على فيه عند الانتهاء إلى اللعنة ويقول له القاضي أو صاحب المجلس: اتق الله فإنها موجبة. وهكذا يقال للمرأة إذا انتهت إلى الغضب. ومما يستحب في اللعان ولا يجب على الأصح، التغليظ بالزمان. وهو ما بعد صلاة العصر ولا سيما عصر يوم الجمعة، وبالمكان وذلك بمكة بين الركن والمقام، وبالمدينة بين المنبر والمدفن، وفي سائر البلاد عند المنبر في المسجد الجامع أيضا وهو المقصورة، وفي بيت المقدس في المسجد الأقصى عند الصخرة، ولليهود في الكنيسة، وللنصارى في البيعة، وللمجوس في بيت نارهم، وإذا لم يكون له دين ففي مساجدنا إلا في المسجد الحرام. ولا بد من حضور الحاكم سواء كان مدار اللعان على اليمين أو على الشهادة، ولا بد من حضور جمع من الأعيان أقلهم أربعة.
التاسعة: قال جار الله: إنما خصت الملاعنة بأن تخمس بغضب الله تغليظا عليها لأنها أصل الفجور ومنبعه بخلابتها وإطماعها ولذلك كانت متقدمة في آية الجلد.(5/163)
العاشرة: في فوائد متعلقة بالآية منها: إبطال الجمهور وقول الخوارج إن الزنا والقذف كفر، وذلك أن الرامي إن صدق فهي زانية وإن كذب فهو قاذف، فلا بد من كفر أحدهما والردة توجب الفرقة من غير لعان. ومنها إبطال قول من زعم أن الزنا يوجب فساد النكاح لأن رمي الزوج إياها اعتراف منه بزناها بل بفساد النكاح على قول هذا القائل فتحصل الفرقة بلا لعان. ومنها أن المعتزلة قالوا: المتلاعنان يستحقان اللعن أو الغضب الموجبين للعقاب الأبدي المضاد للثواب وذلك يدل على خلود الفساق في النار. أجابت الأشاعرة بأن كونه مغضوبا عليه بفسقه لا ينافي كونه مرضيا عنه بجهة إيمانه فلا بد أن يحصل له بعد العقاب ثواب. ثم أخبر عن كمال رأفته بقوله وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ أي فيما بين من هذه الأحكام وفيما أمهل وأبقى ومكن من التوبة. وجواب «لولا» محذوف أي لهلكتم أو فضحتم أو لكان ما كان من أنواع المفاسد. وإنما حسن حذفه ليذهب الوهم كل مذهب فيكون أبلغ في البيان فرب مسكوت عنه أبلغ من منطوق به.
التأويل:
النفس الزانية المستسلمة لتصرفات الشيطان والدنيا فيها، والروح الزاني بتصرفه في الدنيا وشهواتها المنهية عنها فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ من الجوع وترك الشهوات والمرادات، ومن حملهما على المخالفات. ولعل السر في تخصيص هذا العدد هو أن ساعات اليوم بليلته أربع وعشرون منها: أربع ساعات لأجل النوم إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل: 20] والباقية يجب فيها مراقبة الحواس الخمس وتأديبهن بآداب الشرع والعقل، فيكون المجموع مائة تأديبة يحصل نتائجها وكمالها للنفس والروح والله تعالى أعلم. وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما ولتكن هذه التزكية والتأديبات بمحضر شيخ واصل كامل يحفظه من طرفي الإفراط والتفريط الزَّانِي لا يَنْكِحُ فيه أن الطبع يسرق والجنس إلى الجنس يميل، فأهل الفساد لا ترغب إلا في صحبة أمثالهم من أهل الفساد كما أن أرباب السداد لا تطمح إلا إلى صحبة أمثالهم من أرباب السداد. وَحُرِّمَ ذلِكَ الذي قلنا من اختلاط الأشرار عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ أي الأرواح الذين ينسبون إلى نقصان النفوس المستعدات للكمالات ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ أي لم يكن خواص العناصر الأربعة ظاهرة على صفحات أحوالهن كما مر تقريره في أول النساء في قوله فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ [النساء: 15] ولم تبلغ الملكات الذميمة منهن مرتبتها.
الرابعة كالكاتب يكتب بالفعل فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً مر وهم بالخلوة أربعين يوما وأربعين ليلة حتى يظهر لهم كمال حال النفوس في الموافقة لهم ولا تقبلوا لهم بعد ذلك شهادة عليهن، وأولئك هم الذين يريدون أن يخرجوا عن طاعة الله بقدر نسبة النقصان إلى(5/164)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
النفوس المستعدة. وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وهن القوالب المزدوجة بالأرواح وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ لأنه لا يطلع على أحوال القالب إلا الروح فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ هي الأسنان الأربعة التي فيها تحصل التربية والاستكمال. وَالْخامِسَةُ وهي حالة حلول الأجل اللعنة والغضب والعذاب الأبدي وما تولد منهما من الصفات الذميمة ينسبها الروح إلى ثالث هو الشيطان، وينسبها القالب إلى الروح الذي يدبره ويتصرف فيه.
والافتراق الذي يحصل بينهما ليس بالصورة بل بالمعنى لأن الروح يميل إلى العالم العلوي والقالب إلى العالم السفلي لعدم الموافقة بينهما وهو سبحانه أعلم.
[سورة النور (24) : الآيات 11 الى 26]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
القراآت:
كبره بضم الكاف: يعقوب. إِذْ سَمِعْتُمُوهُ وبابه مدغما: أبو عمرو(5/165)
وعلي وهشام وحمزة غير خلف ورجاء والعجلي إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بالإظهار وتشديد التاء: البزي وابن فليح ولا يتأل من التألي: يزيد ما زَكى بالتشديد والإمالة: روح وقرأ قتيبة ممالة مخففة. يوم يشهد على التذكير: حمزة وعلي وخلف. والباقون بتاء التأنيث.
الوقوف:
عُصْبَةٌ مِنْكُمْ ط شَرًّا لَكُمْ ط خَيْرٌ لَكُمْ ط مِنَ الْإِثْمِ ج لنوع عدول من إجمال حكم الكل إلى بيان حكم البعض مع اتفاق الجملتين عَظِيمٌ هـ خَيْراً لا للعطف مُبِينٌ هـ شُهَداءَ ج للشرط معنى مع الفاء الْكاذِبُونَ هـ عَظِيمٌ ج لاحتمال أن يكون «إذ» ظرف قوله لَمَسَّكُمْ أو أَفَضْتُمْ واحتمال كونه منصوبا باذكر وبهذا قد قيل: الوصل ألزم لأن قوله سُبْحانَكَ من جملة مفعول قُلْتُمْ عَظِيمٌ هـ مُؤْمِنِينَ هـ ج لاتفاق الجملتين مع تكرار اسم الله دون الاكتفاء بالضمير وأنها آية الْآياتِ ط حَكِيمٌ هـ أَلِيمٌ هـ لا لتعلق الظرف وَالْآخِرَةِ ط لا تَعْلَمُونَ هـ رَحِيمٌ هـ خُطُواتِ الشَّيْطانِ ط وَالْمُنْكَرِ ط أَبَداً لا لتعلق لكن مَنْ يَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط والوصل أولى للعطف وَلْيَصْفَحُوا ط لَكُمْ ط رَحِيمٌ هـ وَالْآخِرَةِ ص عَظِيمٌ هـ لا لتعلق الظرف يَعْمَلُونَ هـ الْمُبِينُ هـ لِلْخَبِيثاتِ ج للعطف مع التضاد لِلطَّيِّباتِ هـ ج لاتحاد المعنى مع فقدان العاطف يَقُولُونَ ط كَرِيمٌ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما ذكر من أحكام القذف ما ذكر أتبعها حديث إفك عائشة الصدّيقة وما قذفها به أهل النفاق.
روى الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن أبي وقاص وكلهم رووا عن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج اسمها خرج بها معه فأقرع بيننا في غزوة. قال الزهري: هي غزوة المريسيع. وذكره البخاري في غزوة بني المصطلق من خزاعة. قال: وهي غزوة المريسيع أيضا. فخرج اسمي فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انصرف وقرب من المدينة نزل منزلا ثم أذن بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل ومشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني وأقبلت إلى رحلي لمست صدري فإذا عقد لي من حزع أظفار قد انقطع، فرجعت والتمست عقدي وحبسني طلبه. وأقبل الرهط الذين كانوا يحملون فحملوا هودجي وهم يحسبون أني فيه لخفتي فإني كنت جارية حديثة السن وذهبوا بالبعير، فلما رجعت إلى مكاني وليس به أحد جلست وقلت: يعودون في طلبي فنمت. وقد كان صفوان بن المعطل يمكث في المعسكر يتتبع أمتعة الناس فيحمله إلى المنزل الآخر لئلا يذهب منهم شيء، فلما رآني عرفني وقال: ما خلفك عن الناس؟ فأخبرته الخبر فنزل وتنحى حتى ركبت، ثم قاد البعير(5/166)
وافتقدني الناس حين نزلوا وخاض الناس في ذكري. فبيناهم في ذلك هجمت عليهم فتكلم القوم فيّ وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ومكثت شهرا أشتكي ولا يرقأ لي دمع أقول كما يقول العبد الصالح أبو يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ [يوسف: 18] إلى أن نزل فيّ إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ إلى آخر الآيات.
وفي الحديث طول هذا حاصل سبب النزول. وأما التفسير فالإفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء. وقيل: هو البهتان.
والعصبة الجماعة من العشرة إلى الأربعين. والتركيب يدل على الاجتماع ومنه العصابة.
قال المفسرون: هم عبد الله بن أبي رأس النفاق، وزيد بن رفاعة، وحسان بن ثابت، ومسطح ابن أثاثة، وحمنة بنت جحش ومن ساعدهم. ومعنى مِنْكُمْ أنهم كانوا من جملة من حكم لهم بالإيمان ظاهرا. أما الخطاب في قوله لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ فالصحيح أنه لمن ساءه ذلك من المؤمنين وخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعائشة وصفوان. ومعنى كونه خيرا لهم أنهم اكتسبوا فيه الثواب العظيم على قدر عظم البلاء، وأنه نزلت فيه بضع عشرة آية فيها تعظيم شأن الرسول صلى الله عليه وسلم وتسلية له وتنزيه لأم المؤمنين وتطهير لأهل البيت وتهويل للطاعنين فيهم إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية والآداب العقلية. وقيل: الخطاب لعائشة وحدها والجمع لتعظيمها. وقيل: الخطاب للقاذفين وبيان الخيرية صرفهم عن الاستمرار على حديث الإفك إلى التوبة عن ذلك، ولعل في هذا الذكر عقوبة معجلة لهم فيكون في هذا القول الكفارة. وضعف هذا القول بأنه لا يناسب تسلية الرسول والمؤمنين ولا يطابق قوله لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي يصيب كل خائض في حديث الإفك ما يصيبه من عقاب ما اكتسب من إثم الخوض. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ أي معظم الإفك وهو في قول الضحاك حسان ومسطح ولهذا جلدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع امرأة من قريش، والأشهر أنه عبد الله رأس النفاق.
ويحكى أن صفوان مر بهودجها وهو في ملأ من قومه فقال: من هذه؟
فقالوا: عائشة. فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت ثم جاء يقودها. ويروى أن عائشة ذكرت حسانا وقالت: أرجو له الجنة. فقيل:
أليس هو الذي تولى كبره؟ فقالت: إذا سمعت شعره في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم رجوت له الجنة.
وفي رواية أخرى قالت: وأي عذاب أشد من العمى.
ثم علم أدبا حسنا في مثل هذه الواقعة فقال لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ فصل بين «لولا» التحضيضية وبين فعلها بالظرف لأنه يتسع في الظرف ما لا يتسع في غيره تنزيلا للظرف منزلة المظروف نفسه، ولأن الممكنات لا تنفك عن الظروف. والفائدة فيه أن يعلم أن ظن الخير كان يجب عليهم أول ما سمعوه بالإفك، فلما كان ذكر الوقت أهم وجب التقديم(5/167)
ومثله وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ [النور: 16] ثم لا يخفى أن أصل المعنى أن يقال: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم هذا إفك. ومعنى بأنفسكم بالذين منكم من المؤمنين والمؤمنات، فعدل عن الخطاب إلى الغيبة، وعن الضمير إلى الظاهر ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، ولينبه لفظ الإيمان على أن الاشتراك فيه يقتضي أن لا يصدّق مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا عاتب بل يقول بملء فيه بناء على ظن الخير مصرحا ببراءة ساحته هذا إِفْكٌ مُبِينٌ وذلك أن المؤمن معه من العقل والذين ما يهديه إلى الأصلح ويؤخره عن الأقبح، ولم يوجد هذا الداعي والصارف معارض بتساويهما كما قيل:
كلام العدى ضرب من الهذيان. فوجب أن لا يلتفت المؤمن إلى قول الطاعن في حق أخيه ويبقى على حسن ظنه به وهذا أدب حسن قل العامل به، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يزيد فيه.
روي أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: أما ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله سوءا؟ قال: لا. قلت: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعائشة خير مني وصفوان خير منك.
وفي الآية دلالة على قول أبي حنيفة أن المسلمين عدول بعضهم على بعض ما لم يظهر منهم ريبة لأنا مأمورون بحسن الظن وذلك يوجب قبول الشهادة. ومن هنا قال أيضا: إذا باع درهما ودينارا بدرهمين ودينارين إنا نخالف بينهما لأنا قد أمرنا بظن الخير فوجب حمله على ما يجوز. ومثله إذا باع سيفا محلى فيه مائة درهم بمائتي درهم نجعل المائة بالمائة والفضل بالسيف. وإذا وجدنا امرأة أجنبية مع رجل فاعترفا بالتزويج تصدقهما حملا لعقود المسلمين وتصرفاتهم على الجواز والصحة. وزعم مالك أنهما يحدان إن لم يقيما بينة على النكاح. وقيل: إن الآية مختصة بعائشة لأن كونها زوجة النبي كالدليل القاطع على أن الذي قيل فيها إفك صريح. قال العلماء: يجوز أن تكون زوجة النبي كافرة كامرأة نوح ولوط، ولا يجوز أن تكون فاجرة لأن الأنبياء معصومون عن المنفرات البتة فإن حصول المنفر معه ينافي بعثته لكن الكفر غير منفر للكفرة. قال: وأما الكشخنة فمن أعظم المنفرات. قيل: في تفسيره الكشخان الذي تحبب امرأته الرجال إلى نفسها. ويقال: كشخنته أي قلت له يا كشخان. ثم بالغ في زجرهم عن حديث الإفك بقوله لَوْلا جاؤُ وهي أيضا تحضيضية والمراد التفصيل بين الرمي الصادق والكاذب بثبوت شهادة الشهود الأربعة وانتفائها ولكن هذا العدد وكل فرد منه منتف في حق عائشة فهم في حكم الله وشريعته كاذبون. وهذا القدر كاف في إلزام أولئك الطاعنين وإلا فهم في نفس الأمر بالنسبة إلى هذه الواقعة كاذبون كما مر تقريره آنفا. ثم زاد في التهديد والزجر بقوله وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ هي «لولا» الامتناعية. قال جمهور المفسرين: لولا أني قضيت أن أتفضل عليكم في هذه الدنيا بضروب النعم التي من جملتها الإمهال للتوبة، وأن(5/168)
أترحم عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة، لعاجلتكم بالعقاب على ما خضتم فيه من حديث الإفك. وعن مقاتل أن في الآية تقديما وتأخيرا والمعنى: ولولا فضل الله عليكم ورحمته بالحلم عنكم والحكم عليكم بالتوبة لَمَسَّكُمْ فِيما اندفعتم فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ في الدنيا والآخرة معا. وتلقي الإفك أخذه من أفواه القالة وقوله، والأصل تتلقونه بتاءين وقد قرىء به. كان الرجل يلقى الرجل فيقول له: ما وراءك؟ فيحدثه بحديث الإفك حتى طار وانتشر.
وفي زيادة قوله بِأَفْواهِكُمْ إشارة إلى أنه قول لا وجود له إلا في العبارة ولا حقيقة لمؤداه في الواقع. والقذف كبيرة من الكبائر كما سبق لا سيما قذف زوجة النبي وخاصة نبينا صلى الله عليه وسلم فلهذا قال وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ عن بعضهم أنه جزع عند الموت فقيل له فقال: أخاف ذنبا لم يكن مني على بال وهو عند الله عظيم. وفي النصائح الكبار لا تقولن لشيء من سيئاتك حقير فلعله عند الله نخلة وهو عندك نقير. وصفهم في الآية بارتكاب ثلاثة آثام: تلقي الإفك والتكلم بما لا حقيقة له ولا علم به واستهانة عظيمة من العظائم، وفيه أن عظم المعصية لا يتعلق بظن فاعله بل جهله بعظمه ربما يصير مؤكدا لعظمه. وفيه أن الواجب على المكلف أن يستعظم الإقدام على كل محرم إذ لا يأمن أن يكون عند الله من الكبائر.
ثم علمهم أدبا آخر ومعنى ما يَكُونُ لَنا لا ينبغي ولا يصح لنا. ومعنى سُبْحانَكَ تنزيه الله من أن تكون زوجة نبينا الذي هو أحب خلقه إليه فاجرة، أو تنزيهه من أن يرضى بقذف هؤلاء المقربين ولا يعاقبهم، أو هو للتعجب من عظم الأمر وذلك أنه يسبح الله عند رؤية كل أمر عجيب من صنائعه فكثر حتى استعمل في كل متعجب منه. والفرق بين هذه الآية وبين قوله لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ هو أن تلك تميل إلى العموم وهذه إلى الخصوص فكأنه بين أن هذا القذف خاصة مما ليس لهم أن يتفوهوا به لما فيه من إيذاء نبيه وإيذاء زوجته التي هي حبيبته يَعِظُكُمُ اللَّهُ بهذه المواعظ التي بها تعرفون عظم هذا الذنب كراهة أَنْ تَعُودُوا أو في شأن أن تعودوا لِمِثْلِهِ أَبَداً أي مدة حياتكم. ولا دلالة للمعتزلة في قوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ على أن ترك القذف من الإيمان لاحتمال أنه للتهيج والانزجار وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ أي لانتفاعكم الْآياتِ الدالات على علمه وحكمته وما ينبغي أن يتمسك المكلف به في أبواب صلاح معاشه ومعاده وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ هما صفتان مختلفتان عند المعتزلة ثانيتهما أخص من الأولى، وعند الأشاعرة الثانية للتأكيد المحض.
والمراد أنه يجب قبول تكاليفه وبياناته لأنه عالم بما أمر وبما يستحقه كل مأمور، وليس في تكليفه عيب ولا عبث. ومن كان هذه صفته وجب طاعته ليثيب ولا يعاقب. استدلت المعتزلة بالآية في أنه يريد الإيمان من الكل وإلا لم يكن واعظا ولا مبينا آياته لانتفاعهم ولا(5/169)
حكيما لا يفعل القبائح. ولا جواب للأشاعرة إلا أنه يشاء ما يشاء ولا اعتراض عليه. ثم بين بقوله إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أن أهل الإفك يشاركهم في عذاب الدارين من رضي بقولهم، وأنهم كما هم مؤاخذون بما أظهروه فهم معاقبون على ما أضمروه من محبة إشاعة الفاحشة والفحشاء في المؤمنين، لأنها تدل على الدغل والنفاق وعدم سلامة القلب. والفاحشة والفحشاء ما أفرط قبحه، وشيوعها انتشارها وظهورها بحيث يطلع عليها كل أحد وخصوص السبب لا يقتضي خصوص الحكم، فهذا الوعيد شامل لكل من أراد بواحد من المؤمنين أو المؤمنات شيئا من المضار والأذيات. وبعضهم حمل الفاحشة على الزنا وخصص من يحب شيوع الفاحشة بعبد الله بن أبي. وخصص الذين آمنوا بعائشة وصفوان، ولا يخفى ما فيه من ضيق العطن إلا أن يساعده نقل صحيح. وعذاب الدنيا الحد واللعن والذم وما على أهل النفاق من صنوف البلاء، ولقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي وحسانا ومسطحا، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف وكف بصره. وعذاب الآخرة في القبر وفي القيامة هو النار.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إني لأعرف قوما يضربون صدورهم ضربا يسمعه أهل النار وهم الهمازون اللمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين ويهتكون ستورهم ويشيعون عليهم من الفواحش ما ليس فيهم»
وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه» «1»
من الخير وأما قوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ففي نهاية حسن الموقع لأن الأعمال القلبية محبة الشر أو الخير لا يطلع عليها أحد كما هي إلا الله سبحانه. وإنما نعرف نحن شيئا منها بالقرائن والإمارات وفيه زجر عظيم لمن لا يجتهد في أن يكون قلبه سليما من النفاق والغل، وحصول هذا الغل في القلب غير العزم على الذنب فإن الأول ملكة والثاني حال، ولا يلزم من ترتب العقاب على الملكات ترتبه على الأحوال فافهم. قال أبو حنيفة:
المغتابة بالفجور لا تستنطق لأن استنطاقها إشاعة للفاحشة وإنها ممنوع عنها. وقالت المعتزلة: في الآية دليل على أنه تعالى غير خالق للكفر ولا مريد وإلا كان ممن يحب أن تشيع الفاحشة. ولقائل أن يقول: قياس الغائب على الشاهد فاسد. ثم كرر المنة بترك المعاجلة بالعقاب والتمكين من التلافي وبالغ فيها بذكر الرؤوف والرحيم. وجواب «لولا» محذوف على نسق ما مر. وقيل: جوابه ما يدل على ذلك في قوله ما زَكى مِنْكُمْ وهو بعيد. عن ابن عباس أن الخطاب لحسان ومسطح وحمنة والأقرب العموم. ثم نهى عن اتباع
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 71، 72. البخاري في كتاب الإيمان باب 7. الترمذي في كتاب القيامة باب 59. النسائي في كتاب الإيمان باب 19.(5/170)
آثار الشيطان وسلوك مسالكه والاقتداء به في الإصغاء إلى الإفك وإشاعة الفحشاء وارتكاب ما تنكره العقول وتأباه. وقوله فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ من وضع السبب مقام المسبب والمراد ضل. قالت الأشاعرة: في قوله ما زَكى بالتشديد والضمير لله وكذا في قوله وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي دلالة على أن الزكاء وهو الطهارة من دنس الآثام لا يحصل إلا بالله، وهو دليل على أنه خالق الأفعال والآثار. وحمله المعتزلة على منح الألطاف أو على الحكم بالطهارة، وضعف بأنه خلاف الظاهر وبأنه يجب انتهاء الكل إليه، وبأن قوله مَنْ يَشاءُ ينافي قولكم إن خلق الألطاف واجب عليه.
ثم علم أدبا آخر جميلا بقوله وَلا يَأْتَلِ وهو افتعل من الألية أي لا يحلف على عدم الإحسان، وحرف النفي يحذف من جواب القسم كثيرا فهي كقراءة من قرأ ولا يتأل وقيل: هو من قولهم «ما ألوت جهدا» إذا لم يدخر من الاجتهاد شيئا أي لا يقصر في الإحسان إلى المستحقين.
قالوا: نزلت في شأن مسطح وكان ابن خالة أبي بكر الصديق فقيرا من فقراء المهاجرين، وكان أبوبكر ينفق عليه. فلما فرط منه ما فرط آلى أن لا ينفق عليه فنزلت فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي بكر، فلما وصل إلى قوله أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ قال أبو بكر: بلى أحب أن يغفر الله لي فعفا عن مسطح ورجع إلى الإنفاق عليه وقال: والله لا أنزعها أبدا.
قال الإمام فخر الدين الرازي: هذه الآية تدل على أفضلية أبي بكر الصديق من وجوه، وذلك أن الفضل المذكور في الآية لا يراد به السعة في المال والإلزام التكرار فهو الفضل في الدين ولكنه مطلق غير مقيد فثبت له الفضل على الإطلاق. تركنا العمل به في حق النبي صلى الله عليه وسلم بالاتفاق فيبقى في الغير معمولا به. وأيضا ذكره الله تعالى في الآية بلفظ الجمع وإنه مشعر بالتعظيم. وأيضا قد قيل:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ... على المرء من وقع الحسام المهند
فهذا الظلم من مسطح كان في غاية العظم وقد أمره الله تعالى بالصفح عنه، وامتثل هو فكان فيه نهاية جهاد النفس فيكون ثوابه على حسب ذلك. وأيضا في تسميته أولى الفضل والسعة شرف تام فكأنه قيل له: أنت أفضل من أن تقابل إنسانا بسوء وأنت أوسع قلبا من أن تقيم للدنيا وزنا فلا يليق بفضلك وسعة قلبك أن يقطع برك عمن أساء إليك. وأيضا أمره الله تعالى بالعفو والصفح وقال لنبيه فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ [المائدة: 13] فهو من هذه الجهة ثاني اثنين له في الأخلاق. وأيضا علق المغفرة بالعفو وقد حصل العفو فتحصل المغفرة البتة في الحال وفي الاستقبال لقوله أَنْ يَغْفِرَ فهو للاستقبال فيكون كما قال لنبيه لِيَغْفِرَ لَكَ(5/171)
اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ
[الفتح: 2] وفيه دليل على حقية خلافته وإلا كان عاصيا والعاصي في النار. وليس النهي في قوله وَلا يَأْتَلِ نهي زجر عن المعصية ولكنه ندب إلى الأولى والأفضل وهو العفو.
عن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل أخلاق المسلمين العفو
وعنه صلى الله عليه وسلم «لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه»
واعلم أن العلماء أجمعوا على أن مسطحا كان مذنبا لأنه أتى بالقذف أو رضي به على الروايتين عن ابن عباس، ولهذا حده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأجمعوا أيضا على أنه من البدريين
وقد ورد فيهم الخبر الصحيح «لعل الله نظر إلى أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» «1»
فكيف الجمع بين الأمرين؟ أجابوا أنه ليس المراد من قوله «اعملوا ما شئتم» أنهم خارجون عن حد التكليف وإنما المراد اعملوا من النوافل ما شئتم قليلا أو كثيرا فقد أعطيتكم الدرجات العاليات في الجنة، أو أراد حسن حالهم في العاقبة أنهم يوافون بالطاعة فكأنه قال: قد غفرت لكم لعلمي بأنكم تموتون على التوبة والإنابة. قالت الأشاعرة: في وصف مسطح ومدحه بكونه من المهاجرين دليل على أن ثواب كونه مهاجرا لم ينحبط بإقدامه على القذف فيكون القول بالمحابطة باطلا. استدل جمهور الفقهاء بالآية في قول من فسر الائتلاء بالحلف على أن اليمين على الامتناع من الخير غير جائزة وإنما يجوز إذا جعلت داعية للخير لا صارفة عنه. ثم قالوا: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فينبغي له أن يأتي بالذي هو خير ثم يكفر عن يمينه كما جاء في الحديث ولقوله تعالى وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [المائدة: 89] وهو عام في جانب الخير وفي غيره. ومثله ما ورد في قصة أيوب وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ [ص: 44] ولو كان الحنث كفارة لم يؤمر بضرب الضغث عليها. وقال بعض العلماء: إنه يأتي بالذي هو خير وذلك كفارته
لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر «من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت بالذي هو خير وذلك كفارته» «2»
ولأنه تعالى أمر أبا بكر في هذه الآية بالحنث ولم يوجب عليه كفارة. وأجيب بأن معنى الكفارة في الحديث تكفير الذنب لا الكفارة الشرعية التي هي إحدى الخصال، وإنما ذهبنا إلى هذا ليكون مطابقا
للحديث الآخر «من حلف عليّ يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو
__________
(1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 60 باب 1. أبو داود في كتاب السنة باب 8. الترمذي في كتاب تفسير سورة 60 باب 1.
(2) رواه البخاري في كتاب الخمس باب 15. مسلم في كتاب الإيمان حديث 7، 9. النسائي في كتاب الأيمان باب 15، 16. ابن ماجة في كتاب الكفارات باب 7، 8. الدارمي في كتاب النذور باب 9.
أحمد في مسنده (2/ 185) (3/ 76) (4/ 256) . [.....](5/172)
خير وليكفر عن يمينه»
وأما هذه الآية فإنما لم يذكر فيها الكفارة لأنها معلومة من آية المائدة. قوله إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ قد مر تفسير المحصنة. وأما الغافلات فهن السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر بحسب الغريزة أو لقلة التجارب، وقد يعين على ذلك صغر السن وغير ذلك من الأحوال. قال الأصوليون:
خصوص السبب لا يمنع العموم فيدخل في الآية قذفة عائشة وقذفة غيرها، وخصصه بعض المفسرين فمنهم من قال: المراد عائشة وحدها والجمع للتعظيم. ومنهم من قال: عائشة مع سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم من قال: هي أم المؤمنين فجمعت إرادة لها ولبناتها من نساء الأمة المشاكلة لها في الإحصان والغفلة والإيمان. وذكروا في سبب التخصيص أن قاذف سائر المحصنات تقبل توبته لقوله إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وأما القذف المذكور في هذه الآية فوعيده مطلق من غير استثناء. وأجيب بأنه طوى ذكر التوبة في هذه الآية لكونها معلومة.
وقد يحتج للمخصص بما روي عن ابن عباس أنه كان بالبصرة يوم عرفة فسئل عن تفسير هذه الآية فقال: من أذنب ذنبا ثم تاب قبلت توبته إلا من خاض في أمر عائشة. ومنهم من قال: نزلت الآية في مشركي مكة حين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، وكانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفها المشركون من أهل مكة وقالوا: إنما خرجت لتفجر. أما شهادة الجوارح فلا إشكال فيها عند الأشاعرة لأنهم يقولون: البنية ليست شرطا في الحياة فيجوز أن يخلق الله تعالى في الجوهر الفرد علما وقدرة وكلاما. وقالت المعتزلة: المتكلم هو فاعل الكلام فيكون الكلام المضاف إلى الجوارح هو في الحقيقة من الله تعالى. ويجوز أن يبني الله هذه الجوارح على خلاف ما هي عليه ويلجئها إلى أن تشهد على الإنسان وتخبر عن أعماله. ومعنى دِينَهُمُ الْحَقَّ الجزاء المستحق. وقال في الكشاف: معنى قوله هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ العادل الظاهر العدل. وقال غيره: سمي حقا لأنه تحق عبادته أو لأنه الموجود بالحقيقة وما سواه فوجوده مستعار زائل. والمبين ذو البيان الصحيح أو المظهر للموجودات. فالحاصل أنه واجب الوجود لذاته مفيد الوجود لغيره. ثم ختم الآيات الواردة في أهل الإفك بكلمة جامعة وهي قوله الْخَبِيثاتُ يعني الكلمات التي تخبث مواردها ويستقذرها من يخاطب بها ويمجها سمعه ككلمات أهل الإفك، ويجوز أن يراد بالخبيثات مضمون الآيات الواردة في وعيد القذفة لأن مضمونها ذم ولعن وهو يستكره طبعا وإن كان نفس الكلمة التي هي من قبل الله سبحانه طيبا. وعلى الوجهين يراد بالخبيثين الرجال والنساء جميعا إلا أنه غلب الرجال. والحاصل أن الخبيثات من القول تقال أو تعد للخبيثين من الرجال والنساء، والخبيثون من الصنفين معرضون للخبيثات من القول وكذلك الطيبات(5/173)
والطيبون أُولئِكَ الطيبون مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يقول الخبيثون من خبيثات الكلم. قال جار الله:
هو كلام جار مجرى المثل لعائشة وما رميت به من قول لا يطابق حالها في النزاهة والطيب، وجوز بقرينة الحال أن يكون أُولئِكَ إشارة إلى أهل البيت عليهم السلام وأنهم مبرؤون مما يقول أهل الإفك. وفي الآية قول آخر وهو أن يراد بالخبيثات النساء الخبائث، وبالخبيثين الرجال الذين هم أشكال لهن فيكون أول الآية نظير قوله الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً وكذلك الكلام في أهل الطيب ولا أطيب من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون أزواجه مثله فلذلك أخبر عن حالهن بقوله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وقد مر تفسير الرزق الكريم في «الحج» نظيره قوله في الأحزاب وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً [الآية: 31] وفي الآية دلالة على أن عائشة من أهله الجنة. وقال بعض الشيعة: هذا الوعد مشروط باجتناب الكبائر وقد فعلت عائشة من البغي يوم الجمل ما فعلت، والصحيح عند العلماء إنها رجعت عن ذلك الاجتهاد وتابت. عن عائشة: لقد أعطيت تسعا ما أعطيتهن امرأة: لقد نزل جبريل عليه السلام بصورتي في راحته حين أمر النبي أن يتزوجني، ولقد تزوجني بكرا وما تزوج بكرا غيري، ولقد توفي وإن رأسه لفي حجري، ولقد قبر في بيتي، ولقد حفته الملائكة في بيتي، وإن الوحي لينزل عليه في أهله فيتفرقون عنه وإن كان لينزل عليه وأنا معه في لحافه، وإني لابنة خليفته وصدّيقه، ولقد نزل عذري من السماء، ولقد خلقت طيبة عند طيب، ولقد وعدت مغفرة ورزقا كريما.
وعن بعضهم: برأ الله أربعة بأربعة: برأ يوسف بلسان الشاهد وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها [يوسف: 26] وبرأ موسى من قول اليهود فيه بالحجر الذي ذهب بثوبه، وبرأ مريم بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها إلى عبد الله، وبرأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المتلو على وجه الدهر مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات، فانظر كم بينها وبين تبرئة أولئك وما ذاك إلا لإظهار علو منزلة سيد الأولين والآخرين وحجة الله على العالمين.
التأويل:
إذا حصل لأهل الله مسألة إلى غيره قيض الله له ما يرده إليه،
وأن النبي عليه السلام لما قيل له: أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة فساكنها وقال: يا عائشة حبك في قلبي كالعقدة. وقالت عائشة: إني أحبك وأحب قربك
فالله تعالى حل عقدة الحب عن قلبه لحديث الإفك ورد قلب عائشة إلى حضرته حتى قالت حين ظهرت براءة ساحتها «بحمد الله لا بحمدك» . وقيل: الملامة مفتاح باب حبس الوجود بها يذوب الوجود ذوبان الثلج بالشمس يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ شهادة الأعضاء في القيامة مؤجلة وبالحقيقة هي في الدنيا معجلة كقوله تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ [البقرة: 273] من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار وقال الشاعر:
عيناك قد حكتا مبيتك ... كيف كنت وكيف كانا
ولرب عين قد أرتك ... مبيت صاحبها عيانا(5/174)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
وإذا كانت الإمارة في الدنيا ظاهرة فهي في القيامة أولى فاللسان يشهد بالإقرار بقراءة القرآن، واليد تشهد بأخذ المصحف، والرجل تشهد بالمشي إلى المسجد، والعين تشهد بالبكاء، والأذن تشهد باستماع كلام الله. وعند الحكماء تظهر أنوار الملكات الحميدة على النفس من البدن وبالعكس كما تتعاكس أنوار المرايا المتقابلة، ويعلمون أهل الوصول والوصال أن الله هو الحق المبين لا شيء في الوجود غيره لا في الدنيا ولا في الآخرة، وحينئذ يحق أن يقال: الْخَبِيثاتُ وهن الملوثات بلوث الوجود المجازي لِلْخَبِيثِينَ وهم أمثالهن وَالطَّيِّباتُ من لوث الحدوث لِلطَّيِّبِينَ وهم أشكالهن ولا طيب إلا الله وحده
[سورة النور (24) : الآيات 27 الى 34]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
القراآت:
وليضربن بكسر اللام على الأصل: عياش جُيُوبِهِنَّ بضم الجيم:
أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب وخلف وهشام وعاصم غير الأعشى والبزي(5/175)
والعواس من طريق الهاشمي. وفي رواية خلف عن حمزة بإشمام الجيم الضم ثم يشير إلى الكسر وبضم الياء. الآخرون: بالكسر الخالص. غير بالنصب على الاستثناء أو الحال:
ابن عامر ويزيد وأبوبكر وحماد. الباقون: بالكسر على الوصف أيه المؤمنون بضم الهاء في الحالين: ابن عامر. وقرأ أبو عمرو وعلي وابن كثير بألف في الوقف. الباقون بفتح الهاء بغير ألف في الوقف وبألف في الوصل.
الوقوف:
أَهْلِها ط تَذَكَّرُونَ هـ يُؤْذَنَ لَكُمْ ج للشرط مع العطف أَزْكى لَكُمْ ط عَلِيمٌ هـ مَتاعٌ لَكُمْ ط تَكْتُمُونَ هـ فُرُوجَهُمْ ط لَهُمْ ط بِما يَصْنَعُونَ هـ جُيُوبِهِنَّ صل عَوْراتِ النِّساءِ ص زِينَتَهُنَّ ط تُفْلِحُونَ هـ وَإِمائِكُمْ ط فَضْلِهِ ط عَلِيمٌ هـ فَضْلِهِ ط خَيْراً ق قد قيل: والوصل أوجه للعطف. آتاكُمْ ط للعدول إلى حكم آخر الدنيا ط رَحِيمٌ هـ لِلْمُتَّقِينَ هـ.
التفسير:
الحكم الرابع الاستئذان: لما كانت الخلوة طريقا إلى التهمة ولذلك وجد أهل الإفك سبيلا إلى إفكهم شرع أن لا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان. وفي الآية أسئلة: الأول الاستئناس هو الأنس الحاصل بعد المجانسة قال الله تعالى وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ [الأحزاب: 53] ولا يكون ذلك في الأغلب إلا بعد الدخول والسلام، فلم عكس هذا الترتيب في الآية؟ جوابه بعد تسليم أن الواو للترتيب، هو أن الاستئناس طلب الأنس وأنه مقدم على السلام. وقال جار الله: هو من باب الكفاية والإرداف لأن الأنس الذي هو خلاف الوحشة يردف الإذن فوضع موضع الإذن كأنه قيل: حتى يؤذن لكم. أو هو استفعال من آنس إذا أبصر، فالمراد حتى تستكشفوا الحال ويبين هل يراد دخولكم أم لا. أو هو من الإنس بالكسر وهو أن يتعرف هل ثمّ إنسان لأنه لا معنى للسلام ما لم يعلم أفي البيت إنسان أم لا. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير: إنما هو «حتى تستأذنوا» فأخطأ الكاتب ولا يخفى ضعف هذه الرواية لأنها توجب الطعن في المتواتر وتفتح باب القدح في القرآن كله نعوذ بالله منه. الثاني: ما الحكمة في شرع الاستئذان؟ الجواب: كيلا يطلع الداخل على عورات، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه، ولئلا يوقف على الأحوال التي تخفيها الناس في العادة، ولأنه تصرف في ملك الغير فلا بد أن يكون برضاه وإلا أشبه الغصب والتغلب ولذلك قال سبحانه ذلِكُمْ يعني الاستئذان والتسليم خير لكم من تحية الجاهلية والدمور أي الدخول من غير إذن.
قال صلى الله عليه وسلم «من سبقت عينه استئذانه فقد دمر»
واشتقاقه من الدمار وهو الهلاك كأن صاحبه دامر لعظم ما ارتكب لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي أنزل عليكم. أو قيل لكم: هذا إرادة أن تتعظوا أو تعملوا به. الثالث: كيف يكون الاستئذان؟ جوابه:
استأذن رجل على رسول الله فقال: ألج. فقال: لامرأة يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعلميه فإنه(5/176)
لا يحسن أن يستأذن قولي له يقول «السلام عليكم أدخل» فسمع الرجل فقالها فقال: ادخل.
ويؤيده قراءة عبد الله حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا وكان أهل الجاهلية يقول الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته: حييتم صباحا وحييتم مساء ثم يدخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف واحد فمنع الله تعالى عن ذلك وعلم الأدب الأحسن. وعن مجاهد حتى تستأنسوا هو التنحنح ونحوه. وقال عكرمة: هو التسبيح والتكبير وقرع الباب بعنف والتصبيح بصاحب الدار منهي عنه وكذا كل ما يؤدي إلى الكراهية وينبىء عن الثقل. الرابع: كم عدد الاستئذان؟ الجواب
روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «الاستئذان ثلاث بالأولى يستنصتون والثانية يستصلحون والثالثة يأذنون أو يردون»
ومثله عن أبي موسى الأشعري وقصته مع عمر مشهورة في ذلك. وعن قتادة الاستئذان ثلاثة: الأول يسمع الحي. الثاني ليتهيأ. والثالث إن شاؤا أذنوا وإن شاؤا ردوا. وينبغي أن يكون بين المرات فاصلة وإلا كان الكل في حكم واحد. الخامس: كيف يقف على الباب؟ جوابه أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكنه يقف من ركنه الأيمن أو الأيسر، فإن كان للباب ستر كانت الكراهية أخف. السادس: قوله حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا يدل على أنه يجوز الدخول بعد الاستئذان والتسليم وإن لم يكن ثمة إذن أو من يأذن، لأن «حتى» للغاية والحكم بعد الغاية يكون خلاف ما قبلها جوابه.
سلمنا المخالفة لكن لا نسلم المناقضة، وذلك أنه قبل الاستئذان لا يجوز الدخول مطلقا وبعده فيه تفصيل، وهو أنه إن لم يجد فيها أحدا من الآذنين مطلقا أو من يعتبر إذنه شرعا فليس له الدخول وذلك قوله فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً أي على الإطلاق أو ممن له الإذن فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ أي حتى تجدوا من يأذن لكم أو من يعتبر إذنه، وإن وجد فيها من له الإذن فإن أذن دخل وإن لم يأذن وقال ارجع رجع وهو قوله وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى أي الرجوع أطيب لكم وأطهر لما فيه من سلامة الصدر والبعد من الريبة. وفي قوله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ نوع زجر للمكلف فعليه أن يحتاط كيف يدخل ولأي غرض يدخل وكيف يخرج. وهل يقوم غير الإذن مقام الإذن؟
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «رسول الرجل إلى الرجل إذنه»
وفي رواية أخرى «إذا دعى أحدكم فجاء مع الرسول فإن ذلك له إذن»
وقيل: إن من قد جرت العادة له بإباحة الدخول فهو غير محتاج إلى الاستئذان. والجمهور على أن إذن الصبي والعبد والمرأة معتبر وكذلك في الهدايا لأجل الضرورة. وهل يعتبر الاستئذان على المحارم؟
روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم:
أستأذن على أمي؟ قال: نعم. قال: إنها ليس لها خادم غيري أستأذن عليها كلما دخلت(5/177)
عليها. قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا. قال: فأستأذن.
قال العلماء: إن كان المنع من الهجوم على الغير لأجل أنه لا يراه منكشف الأعضاء فتستثنى منه الزوجة وملك اليمين، وإن كان لأجل أنه لا يراه مشغولا بما يكره الاطلاع عليه فالمنع عام إلا إذا عرض ما يبيح هتك الستر كحريق أو هجوم سارق أو ظهور منكر يجب إنكاره. التاسع: ما حكم من اطلع على دار غيره بغير إذنه؟ الجواب: قال الشافعي: لو فقأ عينه فهي هدر وتمسك بما
روى سهل بن سعد أنه اطلع رجل في حجرة من حجر النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي مدرى يحك بها رأسه فقال: لو علمت أنك تنظر إلي لطعنت بها في عينك، إنما الاستئذان من النظر.
وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقؤا عينه فقد هدرت عينه» «1»
قال أبو بكر الرازي: هذا الخبر مردود لوروده على خلاف الأصول، فلا خلاف أنه لو دخل داره بغير إذنه ففقأ عينه ضامنا وعليه القصاص إن كان عامدا، ومعلوم أن الداخل قد اطلع وزاد على الاطلاع. فمعنى الحديث لو صح أنه من اطلع في دار قوم ونظر إلى حرمهم ونسائهم ثم منع فلم يمتنع فذهبت عينه في حال الممانعة فهي هدر، وأجيب بالفرق فإنه إذا علم القوم دخوله عليهم احترزوا عنه وتستروا فأما إذا نظر على حين غفلة منهم اطلع على ما لا يراد الاطلاع عليه فلا يبعد في حكمة الشرع أن يبالغ هاهنا في الزجر حسما لمادة هذه المفسدة. جميع هذه الأحكام فيما إذا كانت الدار مسكونة فإن لم تكن مسكونة فذلك قوله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية.
وللمفسرين فيه أقوال: الأول: قول محمد بن الحنفية أنها الخانات والرباطات وحوانيت البياعين والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرجال والسلع والبيع والشراء.
يروى أن أبا بكر قال: يا رسول الله، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان وإنا نختلف في تجاراتنا فننزل هذه الخانات أفلا ندخلها إلا بإذن فنزلت.
وقيل: هي الخربات يتبرز فيها والمتاع التبرز. وقيل: الأسواق. والأولى العموم. وإنما لم يحتج إلى الإذن دفعا للحرج، ولأنها مأذون في دخولها من جهة العرف. ثم ختم الآية بوعيد مثل ما تقدم الحكم الخامس، غض البصر وحفظ الفرج عما لا يحل. وتخصيص المؤمنين بهذا التكليف عند من لا يجعل الكفار مكلفين بفروع الإسلام ظاهر، وأما عند من يجعلهم مكلفين بالفروع أيضا فالتخصيص للتشريف، أو نزل فقدان مقدمة التكليف منزلة فقدان التكليف وإن كان حالهم في الحقيقة كحال المؤمنين في استحقاق العقاب على تركها. قال أكثر النحويين:
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الآداب حديث 43- 44. أبو داود في كتاب الآداب باب 127. النسائي في كتاب القسامة باب 48. الدارمي في كتاب الديات باب 23. أحمد في مسنده (2/ 243) .(5/178)
«من» للتبعيض والمراد غض شيء من البصر لأن غض كله كالمعتذر بخلاف حفظ الفرج فإنه ممكن على الإطلاق. وجوز الأخفش أن تكون «من» مزيدة. وقيل: صلة للغض أي ينقصوا من نظرهم. يقال: غضضت من فلان إذا انقضت من قدره. فالنظر إذا لم يكن من عمله فهو معفو موضوع عنه. وإعراب قوله يَغُضُّوا كما مر في سورة إبراهيم في قوله قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا [الآية: 31] قال الفقهاء: العورات على أربعة أقسام:
عورة الرجل مع الرجل، وعورة المرأة مع المرأة، وعورة المرأة مع الرجل، وبالعكس. أما الرجل مع الرجل فيجوز أن ينظر إلى جميع بدنه إلا إلى عورته، وعورته ما بين السرة والركبة، والسرة والركبة ليستا بعورة. وعند أبي حنيفة: الركبة عورة. قال مالك: الفخذ ليست بعورة وهو خلاف ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي: لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي وميت.
فإن كان في نظره إلى وجه الرجل أو سائر بدنه شهوة أو خوف فتنة بأن كان أمرد لا يحل النظر إليه. ولا يجوز للرجل مضاجعة الرجل وإن كان واحد منهما في جانب الفراش
لرواية أبي سعيد الخدري أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يفضي الرجل إلى الرجل في ثوب واحد، ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد» «1»
ويكره المعانقة وتقبيل الوجه. إلا لولده شفقة. وتستحب المصافحة والمرأة مع المرأة كالرجل مع الرجل فلها النظر إلى جميع بدنها إلا ما بين السرة والركبة، ولا يجوز عند خوف الفتنة، ولا تجوز المضاجعة أيضا لما مر في الحديث. والأصح أن الذمية لا يجوز لها النظر إلى بدن المسلمة لأنها أجنبية في الدين والله تعالى يقول أَوْ نِسائِهِنَّ أما عورة المرأة مع الرجل فإن كانت أجنبية حرة فجميع بدنها عورة لا يجوز له أن ينظر إلى شيء منها إلا الوجه والكفين لأنها تحتاج إلى إبراز الوجه للبيع والشراء وإلى إخراج الكف للأخذ والإعطاء. ويعني بالكف ظهرها وبطنها إلى الكوعين.
وقيل: ظهر الكف عورة. وفي هذا المقام تفصيل: قال العلماء: لا يجوز أن يعمد النظر إلى وجه الأجنبية بغير غرض فإن وقع بصره عليها بغتة غض بصره لقوله تعالى قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ
ولقوله صلى الله عليه وسلم «يا علي لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الآخرة» «2»
فإن كان هناك غرض ولا شهوة ولا فتنة فذاك والغرض أمور منها: أن يريد نكاح امرأة فينظر إلى وجهها وكفها.
روى أبو هريرة أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا.
ومنها إذا أراد شراء جارية فله
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 74. الترمذي في الكتاب الأدب باب 38.
(2) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 43. الترمذي في كتاب الأدب باب 28. الدارمي في كتاب الرقاق باب 3. أحمد في مسنده (5/ 351، 353) .(5/179)
أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها. ومنها أنه عند المبايعة ينظر إلى وجهها متأملا حتى يعرفها عند الحاجة. ومنها أنه ينظر إليها عند تحمل الشهادة ولا ينظر إلى الوجه لأن المعرفة تحصل به. ومنها يجوز للطبيب الأمين أن ينظر إلى بدن الأجنبية للمعالجة كما يجوز للخاتن أن ينظر إلى فرج المختون لأنه محل ضرورة. وكما يجوز أن ينظر إلى فرج الزانيين لتحمل الشهادة، وإلى فرجها لتحمل شهادة الولادة إذا لم تكن نسوة، وإلى ثدي المرضعة لتحمل الشهادة على الرضاع. فإن كان هناك شهوة وفتنة فالنظر محظور
قال صلى الله عليه وسلم «العينان تزنيان» «1»
وقيل: مكتوب في التوراة: النظر يزرع الشهوة في القلب ورب شهوة أورثت حزنا طويلا. ويستثنى منه ما لو وقعت في حرق أو غرق فله أن ينظر إلى بدنها ليخلصها. وإن كانت الأجنبية أمة فالأصح أن عورتها ما بين السرة والركبة لما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال في الرجل يشتري الأمة «لا بأس أن ينظر إليها إلا إلى العورة وعورتها ما بين معقد إزارها إلى ركبتها»
وقيل: إلا ما تبدي المهنة فيخرج منه أن رأسها وعنقها وساعديها وساقيها ونحرها وصدرها ليس بعورة، وفي ظهرها وبطنها وما فوق ساعديها الخلاف. وحكم المكاتبة والمدبرة والمستولدة ومن بعضها رقيق حكم الأمة ولا يجوز لمسها ولا لها مسه لأن اللمس أقوى من النظر بدليل أن الإنزال باللمس يفطر الصائم وبالنظر لا يفطر.
وقال أبو حنيفة: يجوز أن يمس من الأمة ما يحل النظر إليه، وأما إن كانت المرأة ذات محرم بنسب أو رضاع أو صهرية فعورتها ما بين السرة والركبة كعورة الرجل. وعند أبي حنيفة: عورتها ما لا يبدو عند المهنة، فإن كانت مستمتعا له كالزوجة والأمة التي يحل له الاستمتاع بها جاز له أن ينظر إلى جميع بدنها غير أنه يكره أن ينظر إلى الفرج، وكذا إلى فرج نفسه لما روي أنه يورث الطمس. وقيل: لا يجوز النظر إلى فرجها، فإن كانت الأمة مجوسية أو مرتدة أو وثنية أو مشتركة بينه وبين غيره أو مزوجة أو مكاتبة فهي كالأجنبية.
روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا زوج أحدكم جاريته عبده أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة» «2» وأما عورة الرجل مع المرأة فإن كان أجنبيا منها فعورته معها ما بين السرة والركبة. وقيل: جميع بدنه إلا الوجه والكفين كهي معه.
والأصح هو الأول لأن بدن المرأة في نفسه عورة بدليل أنه لا يصح صلاتها مكشوفة البدن، وبدن الرجل بخلافه. ولا يجوز لها قصد النظر عند خوف الفتنة ولا تكرير النظر إلى وجهه لما
روي عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة إذ أقبل ابن أم مكتوم فدخل
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (2/ 342، 344) .
(2) رواه أبو داود في كتاب اللباس باب 34.(5/180)
فقال صلى الله عليه وسلم: احتجبا منه. فقالت: يا رسول الله أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ فقال: أعمياوان أنتما ألستما تبصرانه؟
وإن كان محرما لها فعورته معها ما بين السرة والركبة، وإن كان زوجها أو سيدها الذي يحل له وطؤها فلها أن تنظر إلى جميع بدنه غير أنه يكره النظر إلى الفرج كهو معها. ولا يجوز للرجل أن يجلس عاريا في بيت خال وله ما يستر عورته لأنه صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك
فقال: الله أحق أن يستحي منه. وعنه «إياكم والتعري فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط وحين يفضي الرجل إلى أهله» «1»
ولما كان النظر بريد الزنا ورائد الفجور أمر بغض الأبصار أولا ثم بحفظ الفروج عن الزنا والفجور ثانيا. وعن أبي العالية أن كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنا إلّا هذا فإنه أراد الاستثناء وأن لا ينظر إلى الفروج أحد، وعلى هذا ففائدة التخصيص بعد التعميم أن يعلم أن أمر الفرج أضيق. وحين خص الخطاب في أول الآية بالمؤمنين ذكر أن ذلك الذي أمر به من غض البصر وحفظ الفرج أزكى لهم لأنهم يتطهرون بذلك من دنس الآثام، ويستحقون الثناء والمدح، وهذا لا يليق بالكافر. وفي قوله إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ ولا ثاني له في القرآن إشارة إلى وجوب الحذر في كل حركة وسكون. وتفسير قوله وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ يعلم من التفصيل المتقدم. أما قوله وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ فمن الأحكام التي تختص بالنساء في الأغلب. وقد يحرم على الرجل إبداء زينته للنساء الأجنبيات إذا كان هناك فتنة. قال أكثر المفسرين: الزينة هاهنا أريد بها أمور ثلاثة: أحدها الأصباغ كالكحل والخضاب بالوسمة في حاجبيها والحمرة في خديها والحناء في كفيها وقدميها. وثانيها الحلي كالخاتم والسوار والخلخال والدملج والقلائد والإكليل والوشاح والقرط. وثالثها الثياب.
وقال: آخرون: الزينة اسم يقع على محاسن الخلق التي خلقها الله تعالى وعلى ما يتزين به الإنسان من فضل لباس أو حلي وغير ذلك. يدل على ذلك أن كثيرا من النساء يتفردن بخلقهن عن سائر ما يعدّ زينة. وفي قوله وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ إشارة إلى ذلك وكأنه تعالى منعهن من إظهار محاسن خلقهن فأوجب سترها بالخمار. قال القفال:
بناء على هذا القول معنى قوله إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها إلا ما يظهره الإنسان على العادة الجارية وذلك في النساء الحرائر الوجه والكفان، وفي الإماء كل ما يبدو عند المهنة. وفي صوتها خلاف، الأصح أنه ليس بعورة لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم كن يروين الأخبار للرجال. وأما الذين
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الأدب باب 42.(5/181)
حملوا الزينة على ما عدا الخلقة فذهبوا إلى أنه تعالى إنما حرم النظر إليها حال اتصالها ببدن المرأة لأجل المبالغة في حرمة النظر إلى أعضاء المرأة إلا ما ظهر من هذه الزينة كالثياب مطلقا إذا لم تصف البدن لرقتها، وكالحمرة والوسمة في الوجه، وكالخضاب والخواتيم في اليدين، وما سوى ذلك يحرم النظر إليه. ولهذا قال وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ والخمر جمع الخمار وهي كالمقنعة. قال المفسرون: إن نساء الجاهلية كن يسدلن خمرهن من خلفهن وكانت جيوبهن من قدام واسعة فكان ينكشف نحورهن وقلائدهن، فأمر أن يضربن مقانعهن على الجيوب لتستتر بذلك أعناقهن ونحورهن وما حواليها من شعر وزينة.
وفي لفظ الضرب مبالغة في الإلقاء شبيه الإلصاق. وعن عائشة: ما رأيت نساء خيرا من نساء الأنصار، لما نزلت هذه الآية قامت كل واحدة منهن إلى مرطها فصدعت منه صدعة فاختمرن فأصبحن كأن على رؤوسهن الغربان.
ثم بين أن الزينة الخفية يحل إبداؤها لاثنتي عشرة فرقة: الأولى بعولتهن أي أزواجهن والتاء لتأكيد الجمع كصقورة. الثانية: آباؤهن وإن علوا من جهة الأب والأم. الثالثة: آباء بعولتهن وإن علوا. الرابعة: أبناؤهن وإن سفلوا الخامسة: أبناء بعولتهن وإن سفلوا أيضا.
السادسة: إخوانهن سواء كانوا من الأب أو من الأم أو منهما. السابعة: بنو إخوانهن.
الثامنة: بنو أخواتهن وحكم أولاد الأولاد حكم الأولاد فيهما. وهؤلاء كلهم محارم وترك من المحارم العم والخال، فعن الحسن البصري أنهما كسائر المحارم في جواز النظر. وقد يذكر البعض لينبه على الجملة ولهذا لم يذكر المحارم من الرضاع في هذه الآية، وكذا في سورة الأحزاب قال لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ [الآية: 55] إلى آخر الآية. ولم يذكر البعولة ولا أبناءهم. وقال الشعبي: إنما لم يذكرهما الله تعالى لئلا يصفها العم عند ابنه والخال عند ابنه، وذلك أن العم والخال يفارقان سائر المحارم في أوان أبناءهما ليسوا من المحارم، فإذا رآها الأب فربما وصفها لابنه وليس بمحرم ومعرفة الوصف قريب من النظر، وهذا أيضا من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط في التستر. وإنما أبيح إبداء الزينة الخفية لهؤلاء المذكورين لاحتياجهن إلى مداخلتهم ومخالطتهم ولا سيما في الأسفار للنزول والركوب. وأيضا لقلة وقوع الفتنة من جهاتهم لما في الطباع من النفرة عن مماسة القرائب الأقارب. التاسعة: قوله أَوْ نِسائِهِنَّ فذهب أكثر السلف إلى أن المراد أهل أديانهن ومن هنا قال ابن عباس: ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لها. وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن يمنع نساء أهل الكتاب من دخول الحمام مع المؤمنات. وقال آخرون: والعمل عليه إن المراد جميع النساء وقول(5/182)
السلف محمول على الأولى والأحب. العاشرة: قوله أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وظاهر الآية يشمل العبيد والإماء ويؤيده ما
روى أنس أنه صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعليها ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال: إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك،
وعن عائشة أنها قالت لذكوان:
إنك إذا وضعتني في القبر وخرجت فأنت حر. وعنها أنها كانت تمشط والعبد ينظر إليها.
وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وسعيد بن المسيب: إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته وهو قول أبي حنيفة إذ ليس ملكها للعبد كملكه للأمة فلا خلاف أنها لا تستبيح بملك العبد شيئا من التمتع منه كما يملك الرجل من الأمة. وتحريم تزوج العبد لمولاته عارض غير مؤبد كمن عنده أربع نسوة لا يجوز له التزوج بغيرهن، فلما لم تكن هذه الحرمة مؤبدة كان العبد بمنزلة سائر الأجانب خصيا كان العبد أو فحلا. وأورد على هذا القول لزوم التكرار ضرورة أن الإماء من حملة نسائهن. وأجيب بأنه أراد بالنساء الحرائر كما أراد بالرجال الأحرار في قوله شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [البقرة: 282] الحادية عشرة قوله أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ وهي الحاجة وهم البله. وأهل العنة الذين لا يعرفون شيئا من أمور النساء إنما يتبعون الناس ليصيبوا من فضل طعامهم أو شيوخ صلحاء لا حاجة بهم إلى النساء لعفة أو عنانة.
عن زينب بنت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها مخنث فأقبل على أخي أم سلمة وقال: يا عبد الله إن فتح الله لكم الطائف أدلك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان عنى عكن بطنها. فقال صلى الله عليه وسلم: لا يدخلن عليكم هذا.
فأباح النبي صلى الله عليه وسلم دخول المخنث عليهن حين ظن أنه من غير أولي الإربة، فلما علم أنه يعرف أحوال النساء وأوصافهن علم أنه من أولي الإربة فحجبه.
الثانية عشر قوله أَوِ الطِّفْلِ وهو جنس يقع على الواحد والجمع وهو المراد هاهنا.
قال ابن قتيبة معنى لَمْ يَظْهَرُوا لم يطلعوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ والعورة سوأة الإنسان وكل ما يستحيا منه. وقال الفراء والزجاج: هو من قولهم «ظهر على كذا» إذا قوي عليه أي لم يبلغوا أوان القدرة على الوطء. فعلى الأول يجب الاحتجاب ممن ظهر فيه داعية الحكاية، وعلى الثاني إنما يجب الاحتجاب من المراهق الذي ظهرت فيه مبادي الشهوة، قال الحسن: هؤلاء الفرق وإن اشتركوا في جواز رؤية الزينة الظاهرة فهم على أقسام ثلاثة:
فأولهم الزوج وله حرمة ليست لغيره يحل له كل شيء منها، والثاني الأب والابن والأخ والجد وأبو الزوج وكل محرم من الرضاع أو النسب كل يحل لهم أن ينظروا إلى الشعر والصدر والساقين والذراع وأشباه ذلك. والثالث التابعون غير أولي الإربة، وكذا المملوك لا(5/183)
بأس أن تقوم المرأة الشابة بين يدي هؤلاء في درع وخمار صفيق بغير ملحفة، ولا يحل لهؤلاء أن يروا منها شعرا ولا بشرا ولا يصح للشابة أن تقوم بين يدي الغريب حتى تلبس الجلباب. فهذا ضبط هذه المراتب ثم علمهن أدبا آخر جميلا بقوله وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ قال ابن عباس: كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال. وقيل: كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين. وفي النهي عن إظهار صوت الحلي بعد نهيهن عن إظهار الحلي مبالغة فوق مبالغة ليعلم أن كل ما يجر إلى الفتنة يجب الاحتراز عنه، فإن الرجل الذي تغلب عليه الشهوة إذا سمع صوت الخلخال يصير ذلك داعيا له إلى مشاهدتهن، ومنه يعلم وجوب إخفاء صوتهن إذا لم يؤمن الفتنة ولهذا كرهوا أذان النساء. ثم ختم الآية بالأمر بالدوام على التوبة والاستغفار لأن الإنسان خلق ضعيفا لا يكاد يقدر على رعاية الأوامر والنواهي كما يجب. قال العلماء: إن من أذنب ذنبا ثم تاب عنه لزمه كلما ذكر أن يجدد عنه التوبة لأنه يلزمه أن يستمر على ندمه وعزمه إلى أن يلقى ربه عز وجل. وعن ابن عباس: أراد توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة. قال جار الله: من قرأ أيه المؤمنون بضم الهاء فوجهه أنها كانت مفتوحة لوقوعها قبل الألف، فلما سقطت الألف لالتقاء الساكنين أتبعت حركتها حركة ما قبلها.
الحكم السادس: النكاح وذلك أنه حين أمر بغض الأبصار وحفظ الفروج أرشد بعد ذلك إلى طريق الحل فيما تدعو إليه الشهوة. وأصل الأيامى أيايم فقلب الواحد أيم بتشديد الياء، ويشمل الرجل والمرأة. قال النضر بن شميل: الأيم في كلام العرب كل ذكر لا أنثى معه وكل أنثى لا ذكر معها وهو قول ابن عباس في رواية الضحاك يقول: زوّجوا أياماكم بعضهم من بعض. وقد آم وآمت وتأيما إذا لم يتزوجا بكرين كانا أو ثيبين. قال: فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي وإن كنت أفتى منكم أتأيم. وظاهر الأمر الوجوب إلا أن الجمهور حملوه على الندب لأنه لو كان واجبا لشاع في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وانتشر، ولو انتشر لنقل لعموم الحاجة إليه. وقد ورد في الأخبار التصريح بكونه سنة
كقوله صلى الله عليه وسلم «النكاح سنتي» «1»
وكقوله صلى الله عليه وسلم «من أحب فطرتي فليستسن بسنتي وهي النكاح»
وقد أجمعوا على أن الأيم الثيب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه. واتفقوا على أن السيد لا يجبر على تزويج عبده أو أمته. نعم قد يجب في بعض الصور كما إذا التمست التزويج من الولي فعليه الإجابة إذا كان الخاطب كفؤا. استدل الشافعي بعموم الآية على جواز تزويج البكر البالغة
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب 1.(5/184)
بدون رضاها واعترض أبوبكر الرازي بأن الأيامى شامل للرجال والنساء وحين لزم في الرجال تزويجهم بإذنهم فكذا في النساء ويؤيده ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال «البكر تستأمر في نفسها وإذنها صماتها» «1»
وأجيب بأن تخصيص النص لا يقدح في كونه حجة في الباقي. والفرق أن الأيم من الرجال يتولى أمر نفسه فلا يجب على الولي تعهده بخلاف المرأة فإن احتياجها إلى من يصلح أمرها أظهر، على أنا لا نسلم أن لفظ الأيامى عند الإطلاق يتناول الرجال، وفي تخصيص الآية بخبر الواحد أيضا نزاع. واستدل أبو حنيفة بعموم الآية أيضا على أن العم والأخ يليان تزويج الثيب الصغيرة ونوقش فيه. قال الشافعي: من تاقت نفسه إلى النكاح استحب له أن ينكح إذا وجد أهبة النكاح وإلا فليكسر شهوته بالصوم لما
روى عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فإن الصوم له وجاء» «2»
والذي لا تتوق نفسه إلى النكاح لكبر أو مرض أو عجز أو كان غير قادر على النفقة يكره له أن ينكح لأنه يلتزم ما لا يمكنه القيام بحقه، وإن لم يكن به عجز وكان قادرا على القيام بحقه لم يكره له أن ينكح لكن الأفضل أن يتخلى لعبادة الله تعالى. وقال أبو حنيفة: النكاح أفضل. حجة الشافعي أنه تعالى مدح يحيى بقوله وَسَيِّداً وَحَصُوراً [آل عمران: 39] والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليهن.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم «أفضل أعمالكم الصلاة» «3»
وقال «أفضل أعمال أمتي قراءة القرآن»
وقال «أحب المباحات إلى الله تعالى النكاح»
والمباح ما استوى طرفاه، والمندوب ما ترجح فعله ولو كان النكاح عبادة لم يصح من الكافر. والنكاح فيه شهوة النفس والعبادة فيها مشقة النفس والإقبال على الله تعالى فأين أحدهما من الآخر! ولو كان النكاح مساويا للنوافل في الثواب لم تكن النوافل مشروعة لأن الطريق المؤدي إلى المطلوب مع بقاء اللذة وعدم التعب أولى بالسلوك، وإن كان الاشتغال بالنكاح أولى من النافلة لأنه سبب لبقاء الأشخاص ونظام العالم. فالاشتغال بالزراعة أيضا أولى من النافلة للعلة المذكورة. وقد وقع
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الحيل باب 11. أبو داود في كتاب النكاح باب 23- 25. الترمذي في كتاب النكاح باب 18. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 11. الدارمي في كتاب النكاح باب 13. أحمد في مسنده (1/ 219، 261) (2/ 229، 250) .
(2) رواه البخاري في كتاب الصوم باب 10. مسلم في كتاب النكاح حديث 1. النسائي في كتاب الصيام باب 43. ابن ماجة في كتاب النكاح باب 1. الدارمي في كتاب النكاح باب 2. أحمد في مسنده (1/ 57) .
(3) رواه ابن ماجة في كتاب الطهارة باب 4. الدارمي في كتاب الوضوء باب 2. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 36. أحمد في مسنده (5/ 277، 280) .(5/185)
الإجماع على أن واجب العبادة مقدم على واجب النكاح، فكذا مندوبها على مندوبه لاتحاد السبب.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إذا أتى على أمتي مائة وثمانون سنة فقد حلت لهم العزبة والعزلة والترهب على رؤوس الجبال»
وعنه صلى الله عليه وسلم «يأتي على الناس زمان لا تنال المعيشة فيه إلا بالمعصية فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة»
حجة أبي حنيفة أن النكاح يتضمن صون النفس من ضرر الزنا ودفع الضرر أهم من جلب النفع. وأيضا النكاح يتضمن العدل.
وقد ورد في الحديث «لعدل ساعة خير من عبادة ستين سنة» وقال صلى الله عليه وسلم «النكاح سنتي» «1»
وقال في الصلاة «إنها خير موضوع فمن شاء فليستكثر ومن شاء فليستقلل»
ثم إن الأيامى جمع مستغرق لكنهم أجمعوا على أنه لا بد من شروط ذكرنا بعضها في سورة النساء في قوله وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء: 24] ومعنى مِنْكُمْ أي من حرائركم قاله كثير من المفسرين لأن حكم العبيد والإماء يعقب ذلك. ومنهم من قال: أراد من يكون تحت ولاية المأمور من الولد والقريب. ومنهم من قال: الإضافة لا تفيد الحرية والإسلام.
ثم أمر السادة أن يزوجوا أرقاءهم الصالحين. واتفقوا على أنه للإباحة والترغيب لأن في تزويج العبد التزام مؤنة زوجته وتعطل خدمته واستفادة المهر وسقوط النفقة في تزويج الأمة ليس قبوله بلازم على السيد أيضا، وتخصيص الصالحين بالذكر عناية من الله بحالهم ليتحصن دينهم ويتحفظ عليهم صلاحهم. وأيضا الصالحون من الأرقاء هم الذين يشفق عليهم مواليهم ويهتمون بشأنهم حتى ينزلوهم منزلة الأولاد. ويجوز أن يراد بالصلاح القيام بحقوق النكاح، ومن جملة ذلك أن لا يكون في غاية الصغر بحيث لا يحتاج إلى النكاح.
وإذن السيد لهم أن يزوجوا أنفسهم ينوب عن تزويج السيد. أما قوله إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ فالأصح أن هذا ليس وعدا من الله تعالى بإغناء من يتزوج حتى لا يجوز أن يقع فيه خلف، فرب غني يفقره النكاح ولكن المعنى لا تنظروا إلى فقر من يخطب إليكم ففي فضل الله ما يغنيهم والمال غاد ورائح. على أن مثل هذا الوعد قد جاء مشروطا بالمشيئة في قوله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ [التوبة: 28] فالمطلق محمول على المقيد.
وقيل: أراد بالغنى نفس العفاف بتملك البضع الذي يغنيه عن الوقوع في الزنا. وعن طائفة من الصحابة أن هذا وعد. وعن أبي بكر قال: أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى. وعن ابن عباس: التمسوا الرزق بالنكاح.
وشكا رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحاجة فقال: عليك بالباءة.
وقد يستدل بالآية على أن العبد والأمة يملكان وإلا لم
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب النكاح باب 1.(5/186)
يتصور فقرهما وغناهما. والمفسرون قالوا: الضمير عائد إلى الأحرار خاصة وهم الأيامى، وإن فسر الغني بالعفاف فلا بد في رجوعه إلى الكل وَاللَّهُ واسِعٌ إفضاله ولكنه عَلِيمٌ يبسط الرزق كما يريد وعلى ما ينبغي. وفيه إشارة إلى قيد المشيئة في الوعد المذكور. ثم ذكر حال العاجزين عن القيام بمؤن النكاح بقوله وَلْيَسْتَعْفِفِ أي ليطلب العفة من نفسه والمضاف محذوف أي لا يجدون استطاعة نكاح ولا يقدرون عليه، أو النكاح يراد به ما ينكح بوساطته وهو المال ولا محذوف. وفي قوله حَتَّى يُغْنِيَهُمُ نوع تأميل للمستعففين.
وفيه أن فضله من أهل الصلاح والعفاف قريب.
الحكم السابع: المكاتبة: وحين رغب السادة في تزويج الصالحين من العبيد والإماء أرشدهم إلى الطريق الذي به ينخرط العبيد في سلك الأحرار مع عدم الإضرار بالسادة فقال وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ ومحله إما رفع والخبر فَكاتِبُوهُمْ والفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط، وإما نصب بفعل مضمر تفسيره فَكاتِبُوهُمْ والفاء للإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها كقوله وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] والكتاب والمكاتبة كالعتاب والمعاتبة، والتركيب يدل على الضم والجمع لما فيه من ضم النجوم بعضها إلى بعض. وقال الأزهري: هو من الكتابة ومعناه كتبت لك على نفسي أن تعتق مني إذا وفيت المال وكتبت لي على نفسك أن تفي بذلك أو كتبت عليك الوفاء بالمال وكتبت عليّ العتق، وقيل: سمي بذلك لما يقع فيه من التأجيل واجبا عند الشافعي وندبا عند أبي حنيفة كما يجيء. والأجل يستدعي الكتابة لقوله إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة: 282] قال محي السنة: الكتابة أن تقول لمملوكك كاتبتك على كذا ويسمى ما لا يؤديه في نجمين أو أكثر ويعين عدد النجوم، وما يؤدى في كل نجم ويقول: إذا أديت ذلك المال فأنت حر وينوي ذلك بقلبه. ويقول العبد: قبلت وفي هذا الضبط أبحاث: الأول قال الشافعي: إن لم يقل بلسانه إذا أديت ذلك المال فأنت حر ولم ينور بقلبه ذلك لم يعتق لأن الكتابة ليست عقد معاوضة محضة، فإن ما في يد العبد فهو ملك السيد والإنسان لا يمكنه بيع ملكه بعين ملكه. فقوله «كاتبتك» كناية في العتق فلا بد فيه من لفظ العتق ونيته. وقال أبو حنيفة ومالك وأبو يوسف ومحمد وزفر:
لا حاجة إلى ذلك لإطلاق قوله فَكاتِبُوهُمْ وإذا صحت الكتابة وجب أن يعتق بالأداء للإجماع. الثاني: لا تجوز الكتابة عند الشافعي إلا مؤجلة لأن العبد لا يتصور له ملك يؤديه في الحال. وجوز أبو حنيفة الحلول لإطلاق الآية، ولأنه يجوز العتق على مال في الحال بالاتفاق، فالكتابة أيضا مثله. الثالث:
قال الشافعي: لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين.
روي ذلك عن علي عليه السلام وعمر وعثمان وابن عمر.
وذلك أنه عقد إرفاق ومن تمام(5/187)
الإرفاق التنجيم. وجوز أبو حنيفة على نجم واحد لإطلاق الآية وللقياس على سائر العقود.
الرابع: جوز أبو حنيفة كتابة الصبي قال: ويقبل عنه المولى. وذهب الشافعي إلى أنه يجب أن يكون عاقلا بالغا لأنه تعالى قال وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ والصبي لا يتصور منه الطلب.
الخامس: جوز أبو حنيفة أن يكاتب الصبي بإذن الولي وشرط الشافعي كونه مكلفا مطلقا، لأن قوله فَكاتِبُوهُمْ خطاب فلا يتناول إلا العاقل هذا وللمفسرين خلاف في أن قوله فَكاتِبُوهُمْ أمر إيجاب أو استحباب، فقال قائلون ومنهم عمرو بن دينار وعطاء وداود بن علي ومحمد بن جرير إلى وجوب الكتابة إذا طلبها المملوك بقيمته أو بأكثر وعلم السيد فيه خيرا، ولو كان بدون قيمته لم يلزمه وأكدوه بما روي في سبب النزول أنه كان لحويطب بن عبد العزى مملوك يقال له الصبيح سأل مولاه أن يكاتبه فأبى فنزلت. ويروى أن عمر أمر إنسانا بأن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين، فأبى فضربه بالدرة ولم ينكر أحد من الصحابة عليه. وذهب أكثر العلماء منهم ابن عباس والحسن والشعبي ومالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري إلى أنه ندب
لقوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل مال امرئ مسلم إلّا بطيب من قلبه»
ولأن طلب الكتابة كطلب بيعه ممن يعتقه في الكفارة فلا تجب الإجابة، وهذه طريقة المعاوضات أجمع. قال العلماء: إذا أدى مال الكتابة عتق وكان ولاؤه لمولاه لأنه جاد عليه بالكسب الذي هو في الأصل له، ومن هنا يكسب مولاه الثواب.
أما قوله إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً قال عطاء: الخير هو المال كقوله إِنْ تَرَكَ خَيْراً [البقرة: 180] قال: بلغني ذلك عن ابن عباس. وضعف بأنه لا يقال في فلان مال وإنما يقال له أو عنده مال، وبأن العبد لا مال له بل المال لسيده، وعن ابن سيرين: أراد إذا صلى.
وعن النخعي: وفاء وصدقا. وقال الحسن: صلاحا في الدين. والأقرب أنه شيء يتعلق بالكتابة هكذا فسره الشافعي بالأمانة والقوة على الكسب. ويروى مثله مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وذلك أن مقصود الكتابة لا يحصل إلا بالكسب ثم بالأمانة كيلا يضيع ما يكسبه.
واختلفوا أيضا في المخاطب بقوله وَآتُوهُمْ فعن الحسن والنخعي وابن عباس في رواية عطاء وهو مذهب أبي حنيفة، أنهم المسلمون والمراد أعطوهم سهمهم الذي جعل الله لهم من بيت المال، ولا بعد في كون المخاطب في أحد المعطوفين غير الآخر ولا في كون أحد الأمرين للاستحباب والآخر للإيجاب. والسهم الذي يأخذه المكاتب له صدقة ولسيده عوض كما
قاله صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة «هو لها صدقة ولنا هدية» «1»
وعن كثير من الصحابة
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 61، 62. مسلم في كتاب الزكاة حديث 170- 172. أبو داود(5/188)
وهو مذهب الشافعي أن المخاطب هو الموالي والأمر أمر إيجاب فيجب عليهم أن يبذلوا للمكاتبين شيئا من أموالهم، أو يحطوا عنهم جزءا من مال الكتابة. ثم اختلفوا في قدره
فعن علي عليه السلام أنه كان يحط الربع
ومثله ما روى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه كاتب غلاما له فترك ربع مكاتبته وعن ابن عمر أنه كاتب عبدا له بخمسة وثلاثين ألفا ووضع عنه خمسة آلاف وهو السبع. والأكثرون على أنه غير مقدر ويحصل الامتثال بأقل متمول. عن ابن عباس: يضع له من كتابته شيئا. وعن عمر أنه كاتب عبدا له يكنى أبا أمية وهو أول عبد كوتب في الإسلام، فأتاه بأول نجم فدفعه إليه عمرو وقال: استعن به على مكاتبتك. فقال: لو أخرته إلى آخر نجم، فقال: أخاف أن لا أدرك ذلك، وهذا الحط عند الأولين على وجه الندب فلا يجبر المولى عليه وأكدوه بما
روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه صلى الله عليه وسلم قال «أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلّا عشر أواق فهو عبد» «1»
فلو كان الحط واجبا لأسقط عنه بقدره، ومثله المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وأيضا لو كان الحط واجبا فإن كان معلوما لزم عتقه إذا بقي ذلك القدر وليس ذلك بالاتفاق، ولو كان مجهولا لكان ما بقي وهو مال الكتابة مجهولا فلا تصح الكتابة. وأيضا أمر بالإيتاء من مال الله الذي أتاهم ومال الكتابة ليس بدين صحيح لأنه يصدر العجز عنه فلا يستحق ذلك المال هذا الوصف فصح أن هذا أمر من الله تعالى بذلك للناس، أولهم وللسادة أن يعينوا المكاتب على كتابته بما يمكنهم.
قال صلى الله عليه وسلم «من أعان مكاتبا في فك رقبته أظله الله في ظل عرشه» .
الحكم الثامن: المنع من إكراه الإماء على الزنا: كان لعبد الله بن أبيّ رأس النفاق ست جوار: معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة، يكرههن على البغاء- أي الزنا- فشكت ثنتان منهن معاذة ومسيكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحد الإكراه قد مر في سورة النحل في قوله إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106] والنص وإن كان مختصا بالإماء إلا أنهم أجمعوا على أن حال الحرائر أيضا كذلك.
والسؤال المشهور في الآية هو أن المعلق بكلمة أن على الشيء يفهم منه عدمه عند عدم ذلك الشيء فتدل الآية على جواز الإكراه على الزنا عند عدم إرادة التحصن. والجواب
__________
في كتاب الزكاة باب 30. النسائي في كتاب الزكاة باب 99. ابن ماجة في كتاب الطلاق باب 29.
الدارمي في كتاب الطلاق باب 15. الموطأ في كتاب الطلاق حديث 25. أحمد في مسنده (1/ 281، 361) .
(1) رواه أبو داود في كتاب العتاق باب 1. ابن ماجة في كتاب العتق باب 3. أحمد في مسنده (2/ 178، 184) . [.....](5/189)
بعد تسليم أن مفهوم الخطاب حجة هو أن الإكراه مع عدم إرادة التحصن والتعفف مما لا يجتمعان، فهذا المفهوم قد خرج عن كونه دليلا لامتناعه في ذاته. وقد يقال: إن غالب الحال أن الإكراه لا يحصل إلا عند إرادة التحصن والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب كما مر في قوله فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ [النساء: 101] وقيل: «إن» بمعنى «إذ» لأن سبب النزول وارد على ذلك. قال جار الله:
أوثرت كلمة «أن» على «إذ» إيذانا بأن المساعيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن، وأن ما وجد من معاذة ومسيكة من قبيل الشاذ والنادر. وللآية مفهوم آخر وهو أن للسادة إكراههن على النكاح وليس لها أن تمتنع على السيد إذا زوجها. وعَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا كسبهن وأولادهن وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ لهم على الإطلاق أو بشرط التوبة على أصل الأشاعرة والمعتزلة، أو غفور لهن لأن الإكراه قد لا يكون على حد المعتبر في الشرع من التخويف الشديد فتكون آثمة حينئذ. وحين فرغ من الأحكام وصف القرآن بصفات ثلاث: الأولى الآيات المبينات أي الموضحات أو الواضحات في معاني الحدود والأحكام وغيرها ولا سيما الآيات التي ثبتت في هذه السورة. الثانية كونه مثلا من الذين خلوا أي قصة عجيبة من قصصهم فإن العجب في قصة عائشة ليس بأقل من العجب في قصة يوسف ومريم وما اتهما به. وعن الضحاك أنه أراد بالمثل شبه ما ذكر في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود. وعن مقاتل: أراد شبيه ما حل بهم من العقاب إذا عصوا. الثالثة كونه موعظة ينتفع بها المتقون خاصة.
التأويل:
لا تدخلوا بيوت عالم القرار التي هي غير بيوتكم من دار القرار حتى تتعرفوا أحوالها وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها سلام توديع ومتاركة فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فإن صرتم بحيث فتنتم عن حظوظ الدنيا وشهواتها فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم بالتصرف فيها بالحق للحق وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] فَارْجِعُوا ثم أشار إلى أن التصرف في الدنيا لأجل البلاغ وبحسب الضرورة جائز إذا لم تكن النفس تطمئن إليها فقال لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية. ثم أمر بغض بصر النفس عن مشتهيات الدنيا، وبصر القلب عن رؤية الأعمال ونعيم الآخرة، بصر السر عن الدرجات والقربات، وبصر الروح عن الالتفات إلى ما سوى الله، وبصر الهمة عن العلل بأن لا يرى نفسه أهلا لشهود الحق تنزيها له وإجلالا، ولهذا أمر بحفظ فرج الباطن عن تصرفات الكونين فيه. ثم أمر النساء بمثل ما أمر به الرجال تنبيها على أن النساء بالصورة قد يكن رجالا في المعنى.
ثم نهى عن إظهار ما زين الله به سرائرهم وأحوالهم إلا ما ظهر على صفحات أحوالهم من(5/190)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44) وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)
غير تكلف منهم. ثم أباح لهم إظهار بعض الأسرار إلى شيوخهن أو إخوانهن في الدين والحال، أو المريدين الذين هم تحت تربيتهم وتصرفهم بمنزلة النساء والمماليك ومن لا خبر عندهم من عالم المعنى كالبله والأطفال، ففيه نفثة مصدور من غير ضرب. وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. فتوبة المبتدئ من الحرام وتوبة المتوسط من الحلال وتوبة المنتهي مما سوى الله وَأَنْكِحُوا الْأَيامى فيه أمر بطلب شيخ كامل يودع في رحم القلب من صلب الولاية نطفة استعداد قبول الفيض الأعلى وهو الولادة الثانية المستدعية للولوج في ملكوت السماء والأرض، وقد أشار إلى إفاضة هذا الاستعداد بقوله إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَلْيَسْتَعْفِفِ ليحفظ الذين لا يجدون شيخا في الحال أرحام قلوبهم عن تصرفات الدنيا والهوى والشيطان حتى يدلهم الله على شيخ كامل كما دل موسى على الخضر عليه السلام، أو يخصهم بجذبة اللَّهُ يَجْتَبِي [الشورى: 13] وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ فيه أن المريد إذا طلب الخلاص عن قيد الرياضة لزم إجابته إن علم فيه الصلاح ووجب أن يؤتى بعض ما خص الله الشيخ به من المواهب وَلا تُكْرِهُوا فيه أن النفس إذا لم تكن مائلة إلى التصرف في الدنيا وإن كان بالحق لم تكره عليه فإن أصحاب الخلوة غير أرباب الجلوة.
[سورة النور (24) : الآيات 35 الى 50]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39)
أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49)
أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)(5/191)
القراآت:
نور السماوات على الفعل: يزيد من طريق ابن أبي عبلة وابن مشيا كَمِشْكاةٍ ممالة: أبو عمرو عن الكسائي درئ بكسرتين وبالهمز: أبو عمرو وعلي والمفضل مثله بضم الدال: حمزة وأبوبكر وحماد والخزاز. الباقون بضم الدال وتشديد الياء توقد بضم التاء وفتح القاف: حمزة وعلي وخلف وأبو بكر وحماد مثله ولكن بياء الغيبة على أن الضمير للمصباح: ابن عامر ونافع وحفص وأبو زيد عن المفضل. الباقون وجبلة توقد بالفتحات وتشديد القاف يسبح بفتح الباء: ابن عامر وأبوبكر وحماد:
سحاب ظلمات على الإضافة: البزي سَحابٌ بالتنوين ظلمات بالكسر على أنه نصب على الحال: القواس وابن فليح. الباقون بالرفع والتنوين فيهما. ينزل من الإنزال:
ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب يذهب من الإذهاب يزيد على أن الباء زائدة خالق كل شىء على الإضافة: حمزة وعلي وخلف. الآخرون خَلَقَ على لفظ الماضي كُلَّ منصوبا.
الوقوف:
وَالْأَرْضِ ط مِصْباحٌ ط زُجاجَةٍ ط غَرْبِيَّةٍ ط لأن ما بعدها صفة شجرة نارٌ ط نُورُ ط يَشاءُ ط لِلنَّاسِ ط عَلِيمٌ هـ لا بناء على أن الظرف يتعلق بما قبله وهو كَمِشْكاةٍ أي مثل مشكاة في بعض بيوت الله عز وجل والأولى تعلقه ب يُسَبِّحُ وفيها تكرار كقولك زيد في الدار جالس فيها أو بمحذوف وهو سبحوا اسمه لا لأن ما بعده صفة بيوت أو لأن الظرف يتعلق ب يُسَبِّحُ وَالْآصالِ ط لمن قرأ يُسَبِّحُ بفتح الباء كأنه قيل: من يسبح؟ فقيل: رِجالٌ أي يسبحه رجال. ومن قرأ بالكسر لم يقف لأنه فاعل الفعل الظاهر رِجالٌ لا لأن ما بعده صفة الزَّكاةِ لا لأن ما بعده أيضا صفة وَالْأَبْصارُ هـ لا لتعلق اللام. أبو حاتم يقف ويجعل اللام لام القسم على تقدير ليجزين قال: فلما سقطت النون انكسرت اللام. مِنْ فَضْلِهِ ط حِسابٍ هـ ماءً ط حِسابَهُ(5/192)
ط الْحِسابِ هـ لا للعطف سَحابٌ ط لمن قرأ ظُلُماتٌ بالرفع ولم يجعلها بدلا فَوْقَ بَعْضٍ ط يَراها ط مِنْ نُورٍ هـ صَافَّاتٍ ط وَتَسْبِيحَهُ ط يَفْعَلُونَ هـ وَالْأَرْضِ ج فصلا بين الأمرين المعظمين مع اتفاق الجملتين الْمَصِيرُ هـ مِنْ خِلالِهِ ج لما قلنا عَنْ مَنْ يَشاءُ ط بِالْأَبْصارِ هـ ط وَالنَّهارَ ط الْأَبْصارِ ج مِنْ ماءٍ ج للفاء مع التفصيل بَطْنِهِ ج رِجْلَيْنِ ج لمثل ما قلنا أَرْبَعٍ ط ما يَشاءُ ط قَدِيرٌ هـ مُبَيِّناتٍ ط مُسْتَقِيمٍ هـ ذلِكَ ط بِالْمُؤْمِنِينَ هـ مُعْرِضُونَ هـ مُذْعِنِينَ هـ ط وَرَسُولُهُ ط الظَّالِمُونَ هـ.
التفسير:
أنه سبحانه لما بين من الأحكام ما بين أردفها على عادة القرآن بالإلهيات وقدم لذلك مثلين أحدهما في أن دلائل الإيمان في غاية الظهور، والثاني أن أديان الكفر في نهاية الظلمة. أما الأول فهو قوله اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ واعلم أن النور في اللغة موضوع لهذه الكيفية الفائضة من الشمس والقمر والنار على ما يحاذيها من الأجرام، لا شك أنه لا يمكن أن يكون إلها لأنه إن كان عرضا فظاهر، وإن كان جسما فكذلك للدليل الدال على أن إله العالم ليس بجسم ولا جسماني ولا زائل ولا منتقل إلى غير ذلك من أمارات الحدوث والافتقار، وعند ذلك ذكر العلماء في تأويل الآية وجوها: الأول وهو قول ابن عباس والأكثرين، أن المضاف محذوف أي هو ذو نور السموات والأرض لأنه قال مَثَلُ نُورِهِ ويَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ والمضاف مغاير للمضاف إليه. فنظير الآية قولك «زيد كرم وجود» للمبالغة. الثاني أن معناه منور السموات كقراءة من قرأ نُورُ بالتشديد وعلى القولين ما المراد بالنور؟ فالأكثرون على أنه الهداية والحق كما قال في آخر الآية يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ شبهه بالنور في ظهوره وبيانه. وأضافه إلى السموات والأرض للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض، أو على حذف المضاف أي نور أهل السموات والأرض وقيل: نور السماء بالملائكة وبالأجرام النيرة والأرض بها وبالأنبياء والعلماء وهو مروي عن أبيّ بن كعب والحسن وأبي العالية. وقيل: هو تدبيره إياهما بحكمة كاملة كما يوصف الرئيس المدبر بأنه نور البلد إذا كان يدبر أمورهم تدبيرا حسنا، فهو لهم كالنور الذي يهتدى به في المضايق والمزالق. وهذا القول اختيار الأصم والزجاج. وقيل:
هو نظمه إياهما على النهج الأحسن والوجه الأصلح. وقد يعبر بالنور عن النظام. يقال: ما أرى لهذه الأمور نورا. الثالث: ما ذهب إليه الحكماء الأولون الإشراقيون وإليه ميل الشيخ الإمام حجة الإسلام محمد الغزالي على ما قرره في رسالته المسماة بمشكاة الأنوار: أن الله تعالى نور في الحقيقة بل لا نور، إلا هو بيانه أن للإنسان بصرا يدرك به النور المحسوس(5/193)
الواقع من الأجرام النيرة على ظواهر الأجسام الكثيفة، وبصيرة هي القوة العاقلة. ولا شك أن البصيرة أقوى من البصر لأن القوة الباصرة لا تدرك نفسها ولا تدرك إدراكها ولا تدرك آلتها وهي العين، وأما القوة العاقلة فإنها تدرك نفسها وتدرك إدراكها وتدرك آلتها في الإدراك وهي القلب أو الدماغ، والإدراك الحسي غير منتج لأنه لا يصير سببا لإحساس آخر، والإدراك العقلي يصير سببا لإدراكات أخر حتى تجتمع علوم جمة، والحس يضطرب بكثرة ورود المحسوسات عليه حتى إنه لا يسمع الصوت الضعيف مثلا بعد سماع الصوت الشديد، والعقل يزداد بهاؤه ونورانيته بكثرة توارد العلوم وتعاونها، والقوة الحسية تضعف بضعف البدن، والقوة العقلية تقوى بعد الأربعين حتى استدل بذلك على بقائها بعد خراب البدن، والقوة الحسية لا تدرك من القرب القريب ولا من البعد البعيد، والعقلية لا يختلف حالها في القرب والبعد فيدرك ما فوق العرش إلى ما تحت الثرى في لحظة واحدة، بل يدرك ذات الله وصفاته مع أنه منزه عن القرب والبعد والجهة، والحس لا يدرك من الأشياء إلا ظواهرها، والعقل يغوص في حقائق الأشياء وفي أجزائها وجزئياتها وفي ذاتياتها وعرضياتها، فيوحد الكثير تارة بانتزاع صورة كلية من الجزئيات، ويكثر الواحد أخرى بالتجنيس والتنويع والتصنيف وغير ذلك من التقسيمات التي لا تكاد تتناهى. وإدراك العقل قد يكون مقدما على وجود الشيء ويسمى العلم العقلي، وإدراك الحس تابع لوجود الشيء وإذا كان الروح الباصر نورا فالبصيرة التي هي أشرف منها أولى بأن تكون نورا، وكما أن نور المبصر يحتاج في إدراكه إلى معين من الخارج هو الشمس أو السراج مثلا، فنور البصيرة أيضا يحتاج في إدراكه إلى مرشد هو النبي أو القرآن فلذلك سمي القرآن نورا وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [التغابن: 8] والنبي نورا وَسِراجاً مُنِيراً [الأحزاب: 46] فروح النبي في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام. ثم إن الأنوار النبوية القدسية مقتبسة من أنوار أخرى فوقها لقوله عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [النجم: 5] قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ [النحل:
102] فكل الأنوار تنتهي إلى ما لا نور أنور منه ولا أجل وأشرف وهو الله سبحانه. والكلام المجمل في هذا المقام هو الذي قد سلف تحقيقه مرارا وهو أن الكمالات أنوار والملكات الذميمة ظلمات. وأيضا الوجود نور والعدم ظلمة، فإن نظرنا إلى الكمال فكل كمال ينتهي إلى الله سبحانه ولا كمال فوق كماله، فهو نور الأنوار. وإن نظرنا إلى الوجود نفسه فلا ريب أن الممكن وجوده مستفاد من غيره إلى أن ينتهي إلى واجب الوجود لذاته وهو نور الأنوار، فسبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره، واحتجب عنهم بإشراق نوره، ومن هنا
قال صلى الله عليه وسلم «إن لله سبعين حجابا من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل ما أدرك بصره»(5/194)
وفي بعض الروايات سبعمائة وفي بعضها سبعون ألفا. قال العلماء: الحجب ثلاثة أقسام:
حجب ظلمانية محضة، وحجب ممزوجة من نور وظلمة، وحجب نورانية صرفة، أما المحجوبون بالأول فهم الذين بلغوا في الاشتغال بالعلائق البدنية إلى حيث لا يلتفت خاطرهم إلى الاستدلال بالمصنوعات على الصانع. وأما المحجوبون بالثاني فهم الذين اعتقدوا في الممكنات أنها غنية عن المؤثر، فنفس تصور الاستغناء عن الغير نور لأنه من صفات الله تعالى، ولكن اعتقاد حصوله لمن لا يليق به ظلمة فهذا حجاب ممزوج من نور وظلمة، وأما المحجوبون بالثالث فهم الذين استغرقوا في بحار صفات الله وأفعاله فاحتجبوا بالصفات عن الذات، فعرف من هذا التقرير أن الحجب لا تكاد تتناهى حيث لا نهاية للمكنات ولا انحصار للسلوب والإضافات، ولكن الحديث ورد على ما هو المتعارف في باب التكثير.
ولنرجع إلى التفسير قال الفراء: المشكاة الكوة في الجدار غير النافذة وهذا القول أصح عند أئمة اللغة وهي من لغة العرب ومنه المشكاة للزق الصغير. وقيل: هي بلغة الحبشة، وعن ابن عباس وأبي موسى الأشعري أن المشكاة هي القائم الذي في وسط القنديل الذي يدخل فيه الفتيلة وهو قول مجاهد والقرطبي، ومثله قول الزجاج هي قصبة القنديل من الزجاجة التي يوضع فيها الفتيلة. وقال الضحاك: هي الحلقة التي يتعلق بها القنديل والمصباح السراج الضخم الثاقب وأصله من الضوء ومنه الصبح والدريّ فمن قرأ بضم الدال وتشديد الياء منسوب إلى الدر أي أبيض متلألىء، ومن قرأ بالهمز مضموم الدال كمرّيق أو مكسورها كسكيت، فمعناه أنه يدرأ الظلام بضوئه. وقال أبو عبيد: إن ضممت الدال وجب أن لا تهمز لأنه ليس في كلام العرب «فعيل» . ومن همزه من القراء فإنما أراد «فعول» على سبوح فاستثقل فرد بعضه إلى الكسر. والدراري من الكواكب هي المشاهير كالمشتري والزهرة والمريخ وما يضاهيها من الثوابت التي هي في العظم الأول. ومعنى مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ أن ابتداء ثقوبه من شجرة مباركة كثيرة المنافع وهي الزيتون.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «عليكم بهذه الشجرة زيت الزيتون فتداووا به فإنها مصحة من الباسور» «1»
وقيل:
سميت مباركة لأنها تنبت في الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، أو بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم عليه السلام فقوله زَيْتُونَةٍ بدل من شَجَرَةٍ ومعنى لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أن منبتها في أكثر الشام وزيتونها أجود الزيتون والشام قريب من وسط العمارة ليس على
__________
(1)
رواه أحمد في مسنده (4/ 369، 372) بلفظ «أن يتداووا ... بالعود الهندي والزيت» .(5/195)
الطرف الشرقي من الربع المسكون ولا على الطرف الغربي منه، وعن الحسن أراد شجرة الزيتون في الجنة إذ لو كانت من شجر الدنيا لكانت إما شرقية أو غربية. وضعف بأن المثل إنما يضرب بما يشاهد وإنهم ما شاهدوا شجرة الجنة، وقيل: أراد أنها شجرة ملفوفة بالأشجار أو بأوراقها فلا تصيبها الشمس في مشرق ولا مغرب. وزيف بأن الغرض هو صفاء الزيت ولا يحصل إلا بكمال النضج وذلك يتوقف عادة على وصول أثر الشمس إلى الشجرة، وعن ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وهو اختيار الفراء والزجاج: المراد أنها ليست مما تطلع عليه الشمس في وقت شروقها أو غروبها فقط، بل تصيبها بالغداة والعشي جميعا لأنها في موضع مكشوف، فيكون فيه دليل على كمال النضج الموجب لصفاء الزيت.
ومنهم من قال: لا في مضحى ولا في مقنأة وهي المكان الذي لا تطلع عليه الشمس ولكن الظل والشمس يتعاقبان عليها وذلك أجود لكمال الثمرة،
قال صلى الله عليه وسلم «لا خير في شجرة في مقنأة ولا نبات في مقنأة ولا خير في مضحى.»
ثم وصف الزيت بالصفاء والبريق وأنه لتلألئه يكاد يضيء من غير نار، فإذا مسته النار ازداد ضوءا على ضوء.
فهذا ما يتعلق بحل الألفاظ على ظاهر التفسير، أما ما يتعلق بالمعنى فنقول: إن جمهور المتكلمين ذهبوا إلى أنه تعالى شبه الهداية وهي الآيات البينات في الظهور والجلاء، بالمشكاة التي تكون فيها زجاجة صافية، وفي الزجاجة مصباح يتقد بزيت بلغ النهاية في الصفاء. وإنما اختار هذا التشبيه دون أن يقول إنها كالشمس في الظهور والوضوح لأن الغالب على أوهام الخلق وخيالاتهم إنما هو الشبهات التي هي كالظلمات وهداية الله تعالى فيما بينها كالضوء الكامل، وهذا المقصود لا يحصل من ضرب المثل بالشمس لأنها إذا طلعت لم تبق ظلمة أصلا. والأمور التي اعتبرها الله سبحانه في هذا المثال منها كون المصباح في المشكاة وذلك ليكون أجمع للنور وأعون لتكاثف الأشعة وأصون له عن تعرض الرياح. زعم بعضهم أن في الكلام قلبا والمراد كمصباح في مشكاة والصحيح أنه لا حاجة إليه لأن هذا تشبيه مركب، ولهذا قال جار الله: أراد صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة كصفة مشكاة، ومنها كون المصباح في زجاجة صافية، فإن تعاكس الأنوار من جوانب الزجاجة يزيد المصباح نورا. ومنها كون المصباح متقدا بدهن الزيت فليس في الأدهان ما يدانيه في اللمعان والتطويس. ومنها كون الزيت من شجرة بارزة للشمس فإن ذلك يدل على كمال نضج الثمرة ونهاية صفاء ذهنها. وأما الإمام الغزالي رضي الله عنه فإنه يقول: المشكاة والزجاجة والمصباح والشجرة والزيت عبارة عن المراتب الخمس الإنسانية. فأولها القوة الحساسة التي هي أصل الروح الحيواني وتوجد للصبي بل لكل حيوان، وأوفق مثال لها من(5/196)
عالم الأجسام المشكاة لأن تلك القوى تخرج من عدة ثقب كالعينين والأذنين والمنخرين والفم. وثانيها القوة الخيالية التي تحفظ ما يورده الحواس مخزونا عندها لتعرضه على القوة العقلية التي فوقها عند الحاجة إليه، وأنت لا تجد شيئا في عالم الأجسام يشبه الخيال سوى الزجاجة فإنها في الأصل جوهر كثيف ولكن صفي ورقق حتى صار بحيث لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه، ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفة. كذلك الخيال من طينة العالم السفلي الكثيف بدليل أن الشيء المتخيل ذو قدر وشكل وحدّ، ولكنه إذا صفي وهذب صار موازيا للمعاني العقلية ومؤديا لأنوارها، ولذلك يستدل المعبر بالصور الخيالية على المعاني كما يستدل بالشمس على الملك، وبالقمر على الوزير، وبمن يختم فروج الناس وأفواههم على أنه مؤذن يؤذن في رمضان قبل الصبح. وثالثها القوة العقلية القوية على إدراك الماهيات الكلية والمعارف اليقينية ولا يخفى وجه تمثيله بالمصباح كما مر في تسمية النبي سراجا. وحين كان الحس كالمقدمة للخيال وهي كالمقدمة للعقل قيل: إن المشكاة كالظرف للزجاجة التي هي كالظرف للمصباح. ورابعها القوة الفكرية القوية على التقسيمات والاستنتاجات فمثالها مثال الشجرة المثمرة، وإذا كانت ثمرتها مادة ازدياد أنوار المعارف فبالحري أن لا تشبه إلا بشجرة الزيتون، لأن لب ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصباح وله من سائر الأدهان خاصية زيادة الإشراق وقلة الدخان. وإذا كانت الماشية تسمى مباركة لكثرة درها ونسلها فالذي لا تتناهي ثمرته إلى حد محدود أولى أن يسمى مباركا. وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة مجردة عن لواحق الأجسام ناسب أن يقال لها لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ وخامسها القوة القدسية النبوية التي يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ.
وأما الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا فإنه نزل الأمثلة الخمسة على مراتب إدراكات النفس الإنسانية المشهورة. فالمشكاة هي العقل الهيولاني وهو الاستعداد المحض، والزجاجة هي العقل بالملكة وهي قوة النفس حين حصل لها البديهيات وأمكن لها بواسطتها الترقي إلى النظريات والانتقال إلى الكسبيات. ثم إن كان الانتقال ضعيفا فهي الشجرة وتسمى فكرا وإن كان قويا فهي الزيت ويسمى حدسا، وإن كان في النهاية القصوى سميت قوة قدسية وهي التي يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ ثم إذا حصل لها المعارف والعلوم المكتسبة بالفعل بحيث تقدر على ملاحظتها متى شاءت من غير تجشم كسب جديد فهو المصباح ويسمى عقلا بالفعل، وغايته أن تكون المعقولات حاضرة عندها متمثلة لها كأنها تشاهدها وهي نور على نور ويسمى عقلا مستفادا. أما الأول فلأن الملكة(5/197)
نور ومشاهدة تلك الملكة نور آخر، وأما الثاني فلأن ذلك غاية الاستفادة ونهاية التحصيل.
وزعم الشيخ أبو علي أن المخرج من العقل الهيولاني إلى الملكة ثم منها إلى العقل التام هو العقل الفعال مدبر ما تحت كرة القمر عند الحكماء، وعبر عنه في الآية بالنار. وعن مقاتل أنه قال مَثَلُ نُورِهِ أي مثل نور الإيمان في قلب محمد كمشكاة فيها مصباح فالمشكاة نظير صلب عبد الله، والزجاجة نظير جسد محمد، والشجرة النبوة والرسالة. وقيل: المشكاة نظير إبراهيم عليه السلام، والزجاجة نظير إسماعيل والمصباح نظير جسد محمد وعن أبي بن كعب أنه قرأ مثل نور من آمن به
ورأيت في كتب الشيعة عن علي رضي الله عنه مرفوعا للقمر وجهان يضيء بهما أهل السموات والأرضين وعلى الوجهين مكتوب أتدرون ما كتابته؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: على وجه السموات اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وعلى وجه الأرض محمد وعلي نور الأرضين.
وقيل: المشكاة صدر محمد صلى الله عليه وسلم والزجاجة قلبه، والمصباح ما في قلبه من الدين، والشجرة إبراهيم عليه السلام، ويُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ كقوله وفَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ [آل عمران: 95] ومعنى لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أن إبراهيم لم يكن يصلي قبل المشرق كالنصارى ولا قبل المغرب كاليهود بل كان يصلي قبل الكعبة وهي ما بين المشرق والمغرب ومعنى يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ أن نور محمد يكاد يتبين للناس قبل أن يتكلم قاله كعب. وقال الضحاك: يكاد محمد يتكلم بالحكمة قبل الوحي ومن هنا قال عبد الله بن رواحة:
لو لم يكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تنبيك بالخبر
وقال يحيى بن سلام: قلب المؤمن نوريّ يعرف الحق قبل أن يتبين لموافقته له وهو المراد من
قوله صلى الله عليه وسلم «اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله»
وقيل: يكاد قلب المؤمن يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم به ولهذا يزداد نورا على نور. قال أبي بن كعب: المؤمن بين أربع خلال: إن أعطي شكر وإن ابتلي صبر وإن قال صدق وإن حكم عدل. فهو في سائر الناس كالرجل الحي الذي يمشي بين أموات يتقلب في خمس من النور: كلامه نور، وعلمه نور ومدخله نور، ومخرجه نور، ومصيره إلى النور يوم القيامة. قال الربيع: سألت أبا العالية عن مدخله ومخرجه فقال: سره وعلانيته.
قالت الأشاعرة في قوله يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ إشارة إلى أن هذه الدلائل مع وضوحها لا تكفي ولا تنفع ما لم يخلق الله الإيمان فيه، وقالت المعتزلة: أراد يهدي الله لطريق الجنة، أو أراد بقوله مَنْ يَشاءُ الذين بلغهم حد التكليف والهدى محمول على(5/198)
زيادات الألطاف التي هي ضد الخذلان ولهذا قال في الكشاف: معناه يوفق. لإصابة الحق من نظر وتدبر معنى الإنصاف، وجانب جانب المراء والاعتساف، ولم يكن كالأعمى الذي يستوي عنده جنح الليل الدامس وضحوة النهار الشامس وأكدوا ذلك بقوله وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ يعني النبي والمكلفين من أمته قالوا: إنما ذكره في معرض الإنعام ولو كان الكل بخلق الله تعالى لما تمكنوا من الانتفاع بالمثل فلا يكون نعمة.
ثم زاد التأكيد بقوله وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ففيه تحذير لمن لا يتفكر ولا يعتبر ولا يستدل ولا ينظر. قوله فِي بُيُوتٍ اعترض أبو مسلم على قول من قال إنه يتعلق ب كَمِشْكاةٍ وب توقد لأن كون المشكاة في بعض بيوت الله لا تزيد المصباح إنارة وإضاءة. وأيضا الموصوف واحد فلا يكون إلا في مكان واحد وقوله فِي بُيُوتٍ أمكنة متعددة ولا يصح أن يكون شيء واحد في أمكنة متعددة في حالة واحدة، وكذا لو جعل فِي بُيُوتٍ صفة مِصْباحٌ وزُجاجَةٍ أو كَوْكَبٌ وأجيب بأن هذه صفة موضحة لا مميزة وذلك أن المشكاة تكون غالبا في بيوت العبادة أو المشكاة التي فيها مصباح إذا كانت في مثل هذه البيوت الرفيعة كانت أعظم وأكثر ضخامة فيكون في باب التمثيل أدخل. وعن الثاني أنه أريد بالمشكاة النوع لا الواحد كما لو قيل: «الذي يصلح لخدمتي رجل» يرجع إلى علم وكفاية وقناعة يلتزم بيته فإنه يراد به النوع لا الواحد. وذهب أبو مسلم إلى أنه راجع إلى قوله وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا أي الأنبياء والمؤمنين الذين مضوا وكانوا ملازمين لبيوت العبادة. واعترض عليه بتفكك النظم إذ ذاك وبأن الذين خلوا هم المكذبون. والأكثرون على أن البيوت هي المساجد، والإذن الأمر، والرفع التعظيم أو البناء. وعن عكرمة هي البيوت كلها، ومعنى الرفع البناء وذكر اسم الله عام في كل ذكر. وعن ابن عباس أن يتلي فيها كتابه. وقيل: لا يتكلم فيها بما لا ينبغي. والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به. وقيل:
الصلوات الخمس وقيل: صلاتا الصبح والعصر وكانتا واجبتين فقط في أول الإسلام فزيد فيهما. وعن ابن عباس: إن صلاة الضحى لفي كتاب الله وتلا هذه الآية. والأولى العموم.
قيل: خص الرجال بالذكر لأنهم من أهل الجماعات دون النساء. ويحتمل أن يقال: لأنهم أصل والنساء تبع. واختلفوا في لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ فقيل: نفي الإلهاء لأنه تجارة ولا بيع كقوله:
ولا ترى الضب فيها ينجحر وقيل: أثبت التجارة والبيع وبين أنهم مع ذلك لا يشغلهم شيء عن ذكر الله وهذا قول الأكثرين. وعن الحسن أما والله إن كانوا ليتجرون ولكن إذا جاءت فرائض الله لم يلههم عنها(5/199)
شيء. وما الفرق بين التجارة والبيع؟ قيل: الأول عام لأن صناعة التاجر قد يقع فيها البيع وقد يقع فيها الشراء، وخص البيع لأن الربح فيه يقين وفي الشراء مظنون، فالبيع أدخل في الإلهاء. وقيل: أراد بالتجارة الشراء، إطلاقا لاسم الجنس على النوع. وقال الفراء: التجارة لأهل الجلب يقال: تجر فلان في كذا إذا جلبه من غير بلده. وذكر الله دعاؤه والثناء عليه بما هو أهله وقيل: هو الصلاة. ومن هنا قال ابن عباس: أراد بإقام الصلاة إتمامها لمواقيتها، وبإيتاء الزكاة طاعة الله والإخلاص له. والتاء في فَأَقامَهُ عوض من العين الساقطة للإعلال، فلما أضيفت أقيمت الإضافة مقام حرف التعويض فأسقطت. ثم حكى أن هؤلاء الرجال مع ما ذكر من الطاعة والإخلاص موصوفون بالوجل والخوف من أهوال يوم القيامة.
وتقلب القلوب اضطرابها من الهول والفزع، وتقلب الأبصار شخوصها، أو المراد تقلب أحوالهما فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعا عليها، وتدرك الأبصار بعد أن كانت عمياء عن النظر والاعتبار وكأنهم انقلبوا من الشك والغفلة إلى اليقين والمعاينة. وقال الضحاك: إن القلوب تزول عن أماكنها فتبلغ الحناجر والأبصار تصير زرقا. وقال الجبائي: يحتمل أن يراد تقلبها على جمر جهنم أو تغير ماهياتها بسبب ما ينالها من العذاب فتكون مرة بهيئة ما أنضج بالنار، ومرة بهيئة ما أحرق، وقيل: إن القلوب تتقلب في ذلك اليوم من طمع النجاة إلى الخوف من الهلاك، والأبصار تتقلب من أيّ ناحية يؤخذ بهم أم من ناحية اليمين أم من ناحية الشمال ومن أي جهة يعطون كتابهم أمن قبل الأيمان أم من قبل الشمائل.
قوله لِيَجْزِيَهُمُ متعلق بما قبله لفظا أو معنى أي يسبحون ويخافون أو يفعلون هذه القربات ليجزيهم الله أحسن جزاء أعمالهم وهو الواحد يعشر إلى سبعمائة وأكثر. وقيل:
أراد بالأحسن الحسنات أجمع وهي الطاعات فرضها ونفلها. قال مقاتل: إنما ذكر الأحسن تنبيها على أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفرها لهم وقال القاضي: أراد بذلك أن تكون الطاعات منهم مكفرة لمعاصيهم فيصح أن الله تعالى يجزيهم بأحسن الأعمال.
وهذا مبني على مذهبه في الإحباط والموازنة. ومعنى وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ كقوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] وقوله وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ قد مر تفسيره في «البقرة» . وحين بين حال المؤمن أنه يكون في الدنيا في النور بسببه يكون متمسكا بالعمل الصالح وفي الآخرة يفوز بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أتبعه بيان أن الكافر يكون في الدنيا في أنواع الظلمات وفي الآخرة في أصناف الحسرات، وضرب لكل من حاليه مثلا، أما المثل الدال على خيبته في الآخرة فذلك قوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ قال الأزهري: هو ما يتراءى للعين وقت الضحى الأكبر في الفلوات شبها(5/200)
بالماء الجاري كأنه يسرب على وجه الأرض أي يذهب. وأما الآل فهو ما يتراءى في أول النهار. وظاهر كلام الخليل أنه لم يفرق بينهما. والقيعة بمعنى القاع وهو المستوي من الأرض. وقال الفراء: هي جمع قاع كجيرة في جار. والظمآن الشديد العطش، ووجه التشبيه أن الكافر يأتي ببعض أعمال البر ويعتقد ثوابا عليه فإذا وافى عرصة القيامة ولم يجد الثواب بل وجد العقاب عظمت حسرته وتناهى غمه وحيرته فيشبه حاله حال الظمآن الذي تشتد حاجته إلى ما يحييه ويبقيه، فإذا شاهد السراب تعلق قلبه به رجاء للحياة، فإذا جاءه ولم يجد شيئا عظم غمه وطال حزنه، قال مجاهد: السراب عمل الكافر وإتيانه إياه موته وفراقه الدنيا. وهاهنا سؤال وهو أنه كيف قال جاءَهُ فأثبت أنه شيء لأن العدم لا يتصور المجيء إليه ثم قال لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً فنفى كونه شيئا؟ والجواب أراد شيئا نافعا كما يقال «فلان ما عمل شيئا» وإن كان قد اجتهد. أو المراد جاء موضع السراب فلم يجد هناك شيئا وأراد أنه تخيل أولا ضبابا وهباء شبه الماء وذلك بإعانة من شعاع الشمس فإذا قرب منه رق وانتثر وصار هواء وهذا قول الحكماء. قوله وَوَجَدَ اللَّهَ أي وجد عقاب الله أو زبانية الله يأخذونه فيصلونه إلى جهنم فيسقونه الحميم والغساق خلاف ما يتصور من الراحة والنعيم، قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية كان قد تعبد ولبس المسوح والتمس الدين في الجاهلية ثم كفر في الإسلام. وأما المثل الآخر فهو قوله أَوْ كَظُلُماتٍ وقد يقال معنى أو أنه شبه أعمالهم الحسنة بالسراب والقبيحة بالظلمات، أو الأول لأعمالهم الظاهرة والثاني لعقائدهم الفاسدة واللجيّ العميق الكثير الماء منسوب إلى اللج وهو معظم ماء البحر، والظلمات ظلمة البحر وظلمة الأمواج وظلمة السحاب. وكذا الكافر له ظلمة الاعتقاد وظلمة القول وظلمة العمل قاله الحسن. وعن ابن عباس قلبه وبصره وسمعه. وقيل: قلب مظلم في صدر مظلم في جسد مظلم. والظاهر أن الجمع للتكثير، وأن أنواع الضلالات والأباطيل اجتمعت فيه. والضمير في أَخْرَجَ للواقع في الظلمات يدل عليه قرينة الحال.
ومعنى لَمْ يَكَدْ يَراها لم يقرب أن يراها، ونفي القرب من الرؤية أبلغ من نفي الرؤية نفسها وقد مر هذا البحث في البقرة في قوله وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [البقرة: 71] قالت الأشاعرة في قوله وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً دلالة على أن الهداية بتخليق الله تعالى وبجعله. وحمله المعتزلة على منح الألطاف وقد مر أمثال ذلك مرارا.
ولما وصف أنوار المؤمنين وظلمات الكافرين صرح بدلائل التوحيد فقال مستفهما على سبيل التقرير أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ وقد مر مثله في سورة «سبحان» . والخطاب لكل من له أهلية النظر أو للرسول وقد علمه من جهة الاستدلال. ومعنى صَافَّاتٍ أنهن(5/201)
يصففن أجنحتهن في الهواء والضمير في علم لكل أو لله عز وجل. وعلى الأول فالضمير في صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ إما لكل أو لله. والمعنى كل مسبح قد علم صلاته التي تليق بحاله أو صلاة الله التي كلفه إياها، وعلى الثاني فالضمير فيهما لكل والصلاة بمعنى الدعاء ولا يبعد أن يلهم الله الطير دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها، والاستقصاء في حكاياتهن مذكور في خواص الحيوانات ولا سيما في كتاب عجائب المخلوقات. ثم بين أن المبدأ منه والمعاد إليه فقال وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ الآية. ثم ذكر دليلا آخر من الآثار العلوية قائلا أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً أي يسوقه بالرياح ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي بين أجزائه أي يجمع قطع السحاب فيجعلها سحابا واحدا متراكما سادا للأفق فَتَرَى الْوَدْقَ المطر أو القطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ من فتوقه ومخارجه جمع خلل كجبال في جبل قوله مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ الأولى لابتداء الغاية والثانية للتبعيض على أن قوله مِنْ جِبالٍ مفعول يُنَزِّلُ والثالثة للبيان أو الأوليان للبيان والثالثة للتبعيض، ومعناه أنه ينزل بعض البرد من السماء من جبال فيها وقد مر في أول البقرة في قوله أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [البقرة: 19] معنى البرد وأنه بخار يجمد بعد ما استحال قطرات ماء. قال عامة المفسرين: إن في السماء جبالا من برد خلقها الله فيها كما خلق في الأرض جبالا من حجر.
وقال أهل المعنى: السماء هاهنا هو الغيم المرتفع على رؤوس الناس، والمراد بالجبال الكثرة كما يقال «فلان يملك جبالا من ذهب» ثم بين بقوله فَيُصِيبُ بِهِ إلى آخر الآية. أنه يقسم رحمته بين خلقه ويقبضها ويبسطها كيف يشاء، أو يهلك بالبرد من يشاء أن يعذبه به ويعصم منه من يشاء أن يعصمه، ويريهم ضياء البرق في السحاب بحيث يكاد يخطف أبصارهم ليعتبروا ويحذروا، أو يعاقب بين الليل والنهار ويخالف بينهما في الطول والقصر وفي كل ذلك معتبر لذوي الأبصار، والذين يترقون من المصنوع إلى الصانع ويستدلون بالمحسوس على الغائب منتقلين من ظلمة التقليد إلى نور البرهان. ثم ذكر دليلا ثالثا من عجائب خلق الحيوان فقال وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ قال علماء المعاني: التنكير في ماءٍ للتنويع أي خلق كل دابة من نوع من الماء مختص بتلك الدابة، أو خلق الكل من ماء مخصوص وهو النطفة. وعلى التقديرين الوحدة نوعية إلا أن شموله على التقدير الثاني أكثر. وإنما عرّف في قوله وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء: 30] لأنه قصد هناك معنى آخر وهو أن أجناس الحيوان كلها مخلوقة من هذا الجنس الذي هو جنس الماء. وعن القفال أن قوله مِنْ ماءٍ صفة دَابَّةٍ لا صلة خلق. والمعنى أن كل دابة متولدة من ماء فهي مخلوقة لله تعالى واحترز بها عن الاعتراض الذي ذكرناه في سورة الأنبياء وهو أن بعض الأحياء لم يخلقهم الله من الماء وقيل: نزل الغالب منزلة الكل أو أراد بالدابة من يدب على(5/202)
وجه الأرض ومسكنهم هناك وكل منها إما متولد من النطفة وإما بحيث لا يعيش إلا بالماء.
ثم بين أن أصلهم وإن كان واحدا إلا أن خلقتهم مختلفة فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وقدم هذا القسم لغرابته ومنهم كذا ومنهم كذا، وفي ضمير العقلاء وإطلاق لفظة من تغليب للعقلاء. وسمى الزحف على البطن مشيا على سبيل المشاكلة أو الاستعارة نظيره قوله «فلان لا يتمشى له أمر» وقد يوجد من الدواب ذوات أرجل أزيد من أربع كالعناكب والعقارب والرتيلاوات بل مثل الحيوان الذي له أربع وأربعون رجلا المسمى «دخال الأذن» . وإنما لم يذكرها سبحانه لأنها نادرة بالنسبة إلى سائرهن. ومن العقلاء من زعم أن أمثال هذه الدواب إنما يعتمد وقت المشي على أربع فقط.
وقيل: إن في قوله تعالى يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ تنبيها على سائر الأقسام، ولا ريب أن اختلاف الحيوانات لا يكاد ينحصر، إلا أنا نذكر طرفا من ذلك تذكيرا لعجائب قدرة الله في خلقه فنقول: الاختلاف بين الحيوانات إما في جوهر العضو كالفرس له ذنب دون الإنسان وإن كانت أجزاء الذنب من العظم والعصب واللحم والجلد والشعر حاصلة في غير هذا العضو كالسلحفاة فله صدف يحيط به ليس للإنسان، وكذا السمك فله فلوس والقنفذ له شوك، وإما في كيفية العضو كاختلاف الألوان والأشكال والصلابة واللين، وإما في الوضع كما أن يدي الفيل أقرب إلى الصدر من يدي الفرس، وإما في الانفعال كما أن عين الخطاف لا تتحير في الضوء وعين الخفاش تتحير، وإما في سائر الأحوال وذلك أن من الحيوانات بريا وبحريا أو بريا فقط أو بحريا فقط، ومن البحري ما يعتمد في السباحة على جناحه كالسمك، ومنها ما يعتمد فيها على أرجله كالضفادع، وكل من البري والبحري له أماكن مختلفة من البر والبحر. فمنها ما له مأوى معلوم كالروابي أو الحفر أو الشقوق أو الحجرة في البر أو كالقعر أو الشط أو الصخر أو الطين في البحر، ومنها ما مأواه كيف اتفق إلا أن يلد فيقيم للحضانة. ومن الحيوانات طيارة فمنها ما يسبح في الهواء فقط، ومنها ما يسبح على وجه الماء أيضا، وكل طائر فإنه يمشي على رجلين وقد يصعب عليه المشي كالخطاف الكبير الأسود وكالخفاش، ومنها ما جناحه جلد أو غشاء. وقد يكون عديم الرجل كضرب من الحيات بالحبشة يطير، ومنها ما يختار الاجتماع كالكراكي ومنها ما يؤثر التفرد كالعقاب. وكثير من الجوارح التي تنازع على الطعم، ومنها ما يتعايش زوجا كالقطا والإنسان من الحيوان الذي لا يمكنه أن يعيش وحده، ويضاهيه النحل والنمل إلا أن النمل لا رئيس لها. ومنها آكل لحم، ومنها لاقط حب، ومنها آكل عشب وزهر، ومنه النحل، ومن الحيوان ما هو إنسيّ كالإنسان، وما هو إنسيّ بالمولد كالهرة والغرانيق، أو بالقهر(5/203)
كالفهد. ومنه ما لا يأنس كالنمر أو يبطىء استئناسه كالأسد. ومن الحيوان ما لا صوت له ومنه ما له صوت، وكل مصوت فإنه يصير عند الاغتلام وحركة شهوة الجماع أشد تصويتا حتى الإنسان. ومنه ما له شبق يسفد كل وقت كالديك، ومنه عفيف له وقت معين، ومنه ولود ومنه بيوض، وكل ولود أذون، وكل صموخ بيوض سوى الخفاش. ومنه هادىء الطبع قليل الغضب كالبقر، ومنه شديد الجهل حال الغضب كالخنزير البري ومنه حليم حمول كالإبل، ومنه محتال مكار كالثعلب، ومنه غضوب سفيه إلا أنه قلق متردد كالكلب، ومنه شديد الكيس مستأنس كالقرد والفيل، ومنه حسود تياه كالطاوس، ومنه شديد الحفظ كالجمل والحمار لا ينسى الطريق الذي رآه. وفي قوله إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ إشارة إلى أن اختصاص كل حيوان بهذه الخواص وبأمثالها لا يكون إلا عن فاعل مختار قدير قهار.
وحين فرغ من إثبات هذه الدلائل أراد أن يبين أحوال المكلفين وأن فيهم منافقين فقدم لذلك مقدمة وهي قوله لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وإنما فقد العاطف هاهنا بخلاف قوله وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلًا [النور: 34] لأن المقصود هناك هو ما سبق من التكاليف والمواعظ، والغرض هاهنا توطئة مقدمة لما يجيء عقيبه من حال أهل النفاق والوفاق. وقوله وَما أُولئِكَ إشارة إلى الفريق المتولي. وإنما قال بِالْمُؤْمِنِينَ معرّفا لأنه أراد أنهم ليسوا بالذين عرفت صحة إيمانهم لثباتهم واستقامتهم. ويحتمل أن يكون أُولئِكَ إشارة إلى جميع القائلين آمنا وأطعنا وحينئذ يكون قوله ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ حكما على بعض دفعا للإلزام والنقض، فإن الحكم الكلي قلما يخلو عن منع ولمثل هذا قال في الآية الثانية إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ والحاصل أنه حكم أولا على بعضهم بالتولي ثم صرح آخرا بأن الإيمان منتف عن جميعهم. ويجوز أن يراد بالفريق المتولي رؤساء النفاق.
وقيل: أراد بتولي هذا الفريق رجوعهم إلى الباقين. قال جار الله: معنى إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كقولك «أعجبني زيد وكرمه» . أما سبب نزول الآية. فعن مقاتل أنها في بشر من المنافقين كما سبق في سورة النساء في قوله يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ [النساء: 60]
وعن الضحاك: نزلت في المغيرة بن وائل كان بينه وبين علي بن أبي طالب أرض فتقاسما فدفع إلى علي منها ما لا يصيبه الماء إلا بمشقة. فقال المغيرة: بعني أرضك فباعها منه وتقابضا. فقيل للمغيرة: أخذت سبخة لا ينالها الماء. فقال لعلي: اقبض أرضك فأبى ودعا المغيرة إلى محاكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المغيرة: أما محمد فلست آتيه ولا أحاكم إليه فإنه يبغضني وأنا أخاف أن يحيف عليّ.
قوله يَأْتُوا إِلَيْهِ الجار صلة اتى فإنه قد يعدّى(5/204)
بإلى. قال جار الله: والأحسن أن يتصل بمذعنين ليفيد الاختصاص أي لا يتحاكمون إذا عرفوا أن الحق لهم إلا إلى الرسول مسرعين في طاعته. ثم قسم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحق عليهم بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين أو مرتابين في أمر نبوته أو خائفين الحيف في قضائه، وهذه الأمور وإن كانت متلازمة إلا أنها متغايرة في الاعتبار فصحت القسمة. ثم بين بقوله بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أنهم لا يخافون حيفه لأنهم عارفون أمانته ولكن الظلم مركوز في جبلتهم وأنهم لا يستطيعون الظلم في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك يأبون المحاكمة إليه إذا كان الحق عليهم.
التأويل:
للآية تأويلان: أحدهما من عالم الآفاق والآخر من عالم الأنفس. أما الأول فالمشكاة عالم الأجسام، والزجاجة العرش، والمصباح الكرسي، والشجرة شجرة الملكوت وهي باطن عالم الأجسام، وهي غير راقية إلى شرق الأزل والقدم ولا إلى غرب الفناء والعدم، بل هي مخلوقة للأبد لا يعتريها الفناء يَكادُ زَيْتُها وهو عالم الأرواح يُضِيءُ أي يظهر من العدم إلى عالم الصورة المتولدة بالازدواج عالم الغيب والشهادة وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ ونور القدرة الالهية وذلك لقرب طبيعتها من الوجود نُورٌ عَلى نُورٍ فالأول نور الصفة الرحمانية والثاني نور العرش فهو كقوله الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه:
5] وفي قوله يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ إشارة إلى أن فيض نور الرحمانية ينقسم على كل من يريد الله تعالى إيجاده من العرش إلى ما تحت الثرى. وأما التأويل الثاني: فالمشكاة الجسد، والزجاجة القلب، والمصباح السر، والشجرة شجرة الروحانية التي خلقت للبقاء كما مر، والزيت الروح الإنساني القابل لنور العرفان قبولا في غاية القرب، والنار نار التجلي والهداية في الأزل فإذا انضم إلى نور العقل صار نورا على نور، وإذا تنور مصباح سر من يشاء بنور القدم تنور زجاجة القلب ومشكاة الجسد، وتخرج أشعتها من روزنة الحواس فتستضيء أرض البشرية كما قال وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزمر: 69] وهو مقام
«كنت له سمعا وبصرا»
الحديث: فِي بُيُوتٍ هي القلوب أَذِنَ اللَّهُ أمر وأراد أَنْ تُرْفَعَ درجاتها من بين سائر الأرواح والنفوس إلى أن تسع الله كما قال
«وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن»
يروى أنه أوحى إلى داود عليه السلام «فرغ لي بيتا أسكن فيه» فقال: رب أنت منزه عن البيوت. فقال: فرغ لي قلبك.
ولن يتأتى هذا الرفع إلا بوساطة ذكر الله فلهذا قال وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ هي الفوز بدرجات الجنات كما قال هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ [الصف: 10] وَلا بَيْعٌ هو بيع الدنيا بالجنة كقوله إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى إلى قوله فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ [التوبة: 111] وفيه أن الرجولية لا تتحقق إلا إذا لم يلتفت إلى الدنيا(5/205)
إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
ولا إلى الآخرة فيكون بحيث لا يتصرف فيه ما سوى الله، وحينئذ يصلي صلاة الوصال ويفيض على المستعدين زكاة حصول نصاب الكمال يَخافُونَ يَوْماً هو يوم الفراق تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ والبصائر لأنها بيد الله يقلبها كيف يشاء أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ هو حب الدنيا يَغْشاهُ مَوْجٌ الرياء مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ هو حب الجاه وطلب الرياسة مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ الشرك الخفي إِذا أَخْرَجَ يد سعيه واجتهاده لَمْ يَكَدْ يَراها يرى طريق خلاصة وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً أي لم يصبه رشاش النور الالهي في الأزل يُزْجِي سحب المعاصي المتفرقة إلى أن تتراكم فترى. والودق هو مطر التوبة يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ كما خرج من سحاب وعصى آدم مطر ثم اجتباه ربه. ينزل من سماء القلب مِنْ جِبالٍ من قساوة فِيها مِنْ بَرَدٍ هو برد القهر يُقَلِّبُ اللَّهُ ليل المعصية لمن يشاء إلى نهار الطاعة وبالعكس لأولي الأبصار أصحاب البصائر الذين يشاهدون آثار لطفه وقهره في مرآة التقليب وَاللَّهُ خَلَقَ كل ذي روح مِنْ ماءٍ هو روح محمد صلى الله عليه وسلم كما
قال «أول ما خلق الله روحي»
فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي أن تكون سيرته تحصيل مشتهيات بطنه وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ أي يضيع عمره في مشتهيات الفرج لأن الحيوان إذا قصد الوقاع يعتمد على رجلين وإن كان من ذوات الأربع وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ هم أصحاب المناصب يركبون الدواب البتة أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ انحراف في الفطرة أَمِ ارْتابُوا بتشكيك أهل البدع والأهواء أَمْ يَخافُونَ الحيف حين أمروا بترك اللذات العاجلة لأجل الخيرات الباقية وَإِلَيْهِ مَآبِ.
[سورة النور (24) : الآيات 51 الى 64]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55)
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)(5/206)
القراآت:
ويتقه بكسر القاف واختلاس الهاء: يزيد وقالون ويعقوب غير زيد.
وأبو عمرو طريق الهاشمي. بكسر القاف وسكون الهاء على أنها للسكت: أبو عمرو غير عباس وخلاد ورجاء ويحيى وحماد وهبيرة من طريق الخراز وابن مجاهد عن ابن ذكوان.
بإسكان القاف وكسر الهاء: حفص غير الخراز ووجهه أنه شبه «تقه» بكتف فخفف، وعلى هذا فالهاء ضمير فإن تحريك هاء السكت ضعيف. الباقون ويتقهى بالإشباع فَإِنْ تَوَلَّوْا بإظهار النون وتشديد التاء: البزي وابن فليح كما استخلف مجهولا: أبو بكر وعمار وليبدلنهم خفيفا: ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو بكر وحماد لا يحسبن على الغيبة: ابن عامر وحمزة ثلاث عورات بالنصب: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص(5/207)
والمفضل. الآخرون بالرفع لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ بإسكان الضاد وتشديد الشين: شجاع وأبو شعيب وحمله على الإخفاء أولى منه على الإدغام. يرجعون مبنيا للفاعل: عباس ويعقوب.
الوقوف:
وَأَطَعْنا ط الْمُفْلِحُونَ هـ الْفائِزُونَ هـ لَيَخْرُجُنَ
ط لا تُقْسِمُوا
ج لحق المحذوف مع اتحاد المقول مَعْرُوفَةٌ
ط تَعْمَلُونَ
هـ الرَّسُولَ ج للشرط مع الفاء ما حُمِّلْتُمْ ط تَهْتَدُوا ط الْمُبِينُ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ص أَمْناً ط بناء على أن ما بعده مستأنف شَيْئاً ط الْفاسِقُونَ هـ تُرْحَمُونَ ط فِي الْأَرْضِ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول النَّارُ ط الْمَصِيرُ هـ مَرَّاتٍ ط أي متى كذا وكذا الْعِشاءِ قف عند من قرأ ثَلاثُ عَوْراتٍ بالرفع أي هو ثلاث لَكُمْ ط بَعْدَهُنَّ ط أي هو طوافون عَلى بَعْضٍ ص الْآياتِ ط حَكِيمٌ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ط آياتِهِ ط حَكِيمٌ هـ ط بِزِينَةٍ ط لَهُنَّ ط عَلِيمٌ هـ صَدِيقِكُمْ ط أَشْتاتاً ط بناء على أن ما بعده استئناف حكم طَيِّبَةً ط للعدول من المخاطبة إلى الغيبة تَعْقِلُونَ هـ يَسْتَأْذِنُوهُ هـ وَرَسُولِهِ ط للشرط مع الفاء لَهُمُ اللَّهَ ط رَحِيمٌ هـ بَعْضاً ط لو إذا ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب أَلِيمٌ هـ وَالْأَرْضِ ط عَلَيْهِ ط فصلا بين حال وحال مع العدول من المخاطبة إلى الغيبة بِما عَمِلُوا هـ عَلِيمٌ هـ.
التفسير:
لما حكى سيرة المنافقين وما قالوه وفعلوه، أتبعه ذكر ما كان يجب أن يفعلوه وما يجب أن يسلكه المؤمنون من طريق الأخلاق. وعن الحسن أنه قرأ قول المؤمنين بالرفع والقراءة المشهورة وهي النصب أقوى. قال جار الله: لأن أولى الاسمين بكونه اسما أوغلهما في التعريف وأَنْ يَقُولُوا أوغل لأنه لا سبيل عليه للتنكير بخلاف قول المؤمنين.
قلت: وذلك لاحتمال كون الإضافة فيه لفظية وأَنْ يَقُولُوا يشبه المضمر كما بينا في الأنعام في قوله ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الآية: 23] فلا سبيل إلى تنكيره. ومعنى كانَ صح واستقام أي لا ينبغي أن يكون قولهم إلا السمع والطاعة. عن ابن عباس وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في فرائضه وَرَسُولَهُ في سننه وَيَخْشَ اللَّهَ على ما مضى من ذنوبه وَيَتَّقْهِ فيما يستقبل من عمره فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ وهذه آية جامعة لأسباب الفوز وفقنا الله تعالى للعمل بها. ثم حكى عن المنافقين أنهم يريدون أن يؤكدوا أساس الإيمان بالأيمان الكاذبة.
قال مقاتل: من حلف بالله فقد اجتهد في اليمين وكانوا يقولون: والله إن أمرتنا أن نخرج من ديارنا وأموالنا ونسائنا لخرجنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا، فنهوا عن هذه الأقسام لما علم(5/208)
من نفاقهم وشقاقهم وإضمارهم الغدر والخديعة وإلا فمن حلف على فعل البر لا يجوز أن ينهى عنه. وقوله طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
مبتدأ محذوف الخبر أي طاعة معلومة لا شك فيها ولا نفاق أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الكاذبة، أو خبر محذوف المبتدأ أي أمركم الذي يطلب منكم طاعة معروفة لا ارتياب فيها كطاعة الخلص من المؤمنين، أو طاعتكم طاعة معروفة بأنها بالقول دون الفعل. ثم صرف الكلام من الغيبة إلى الخطاب لمزيد التبكيت والعتاب. ومعنى فَإِنْ تَوَلَّوْا فإن تتولوا فحذف إحدى التاءين. وما حمل الرسول هو أداء الرسالة، وما حمل على الأمة هو الطاعة والانقياد، والبلاغ المبين كون التبليغ مقرونا بالآيات والمعجزات أو كونه واقعا على سبيل المجاهرة لا المداهنة. وهاهنا شبه إضمار والتقدير: بلغ أيها الرسول وأطيعوه أيها المؤمنون فقد وعد الله الذين آمنوا منكم أي جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح. وفي الوعد معنى القسم لأن وعد الله محقق الوقوع ولذلك قال في جوابه لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ أو القسم محذوف أي أقسم ليجعلنكم خلفاء في الأرض كما فعل ببني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد إهلاك الجبابرة. وَلَيُمَكِّنَنَّ لأجلهم الدين المرتضى وهو دين الإسلام. وتمكين الدين تثبيته وإشادة قواعده،
كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح ويمسون فيه فسئموا وشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا تغبرون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل في الملأ العظيم محتبيا ليس معه حديدة،
فأنجز الله وعده وأظهرهم على جزيرة العرب وورثوا ملك الأكاسرة وخزائنهم، وهذا إخبار بالغيب فيكون معجزا. ومحل يَعْبُدُونَنِي نصب على الحال أي وعدهم ذلك في حال عبادتهم وإخلاصهم أو هو استئناف كأن قائلا قال: ما لهم يستخلفون ويؤمنون؟ فقال: يَعْبُدُونَنِي وعلى الوجهين فقوله لا يُشْرِكُونَ بدل من يَعْبُدُونَنِي أو بيان لها. وفيه دليل على أن المقصود من الكل هو عبادة الله تعالى والإخلاص له. وَمَنْ كَفَرَ بهذه النعم الجسام وهي الاستخلاف والتمكين والأمن بعد الخوف بعد حصول ذلك أو بعد ما ذكر فَأُولئِكَ هُمُ الكاملون في الفسق. قال أهل السنة: في الآية دلالة على إمامة الخلفاء الراشدين لأن قوله مِنْكُمْ للتبعيض وذلك البعض يجب أن يكون من الحاضرين في وقت الخطاب، ومعلوم أن الأئمة الأربعة كانوا من أهل الإيمان والعمل الصالح، وكانوا حاضرين وقتئذ وقد حصل لهم الاستخلاف والفتوح، فوجب أن يكونوا مرادين من الآية. واعترض بأن قوله مِنْكُمْ لم لا يجوز أن يكون للبيان، ولم لا يجوز أن يراد بالاستخلاف في الأرض هو إمكان التصرف والتوطن فيها كما في حق بني إسرائيل؟ سلمنا لكن لم لا يجوز أن يراد به خلافة علي عليه السلام؟ والجمع للتعظيم أو يراد هو وأولاده الأحد عشر بعده؟ وقيل: إن في قوله وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ إشارة إلى الخلفاء المتغلبين بعد الراشدين يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم «الخلافة من بعدي ثلاثون سنة ثم(5/209)
تصير ملكا عضوضا» وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ معطوف على أَطِيعُوا وليس ببدع أن يقع بين المعطوفين فاصلة وإن طالت، وكررت طاعة الرسول للتأكيد.
من قرأ لا يحسبن على الغيبة فمفعولاه مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لا يحسبن الكفرة أحدا يعجز الله في الأرض حتى يطيعوهم في مثل ذلك، وفاعله ضمير النبي، أو المفعول الأول محذوف لأنه هو الفاعل بعينه أي لا يحسبن الكفار أنفسهم معجزين والمراد بهم الذين أقسموا أو عام قوله وَمَأْواهُمُ قال جار الله: هو معطوف على ما تقدم معنى كأنه قيل: الذين كفروا لا يفوتون الله عز وجل ومأواهم النار. وحين ذكر من دلائل التوحيد وأحوال المكلفين ما ذكر تنشيطا للأذهان وترغيبا فيما هو الغرض الأصلي من التكاليف وهو العرفان، عاد إلى ما انجر منه الكلام وهو الحكم العام في باب الاستئذان فذكره هاهنا على وجه أخصر فقال لِيَسْتَأْذِنْكُمُ قال القاضي: هذا الخطاب للرجال ظاهرا ولكنه من باب التغليب فيدخل فيه النساء. وقال الإمام فخر الدين الرازي: يثبت للنساء بقياس جلي لأنهن في باب حفظ العورة أشد حالا من الرجال. وظاهر قوله الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يشمل البالغين والصغار، فالأمر للبالغين على الحقيقة وللصغار على وجه البيان والتأديب كما يؤمرون بالصلاة لسبع، أو هو تكليف لنا لما فيه من المصلحة لنا ولهم بعد البلوغ كقولك للرجل «ليخفك أهلك وولدك» فظاهره الأمر لهم وحقيقة الأمر له بفعل ما يخافون عنده.
وعن ابن عباس أن المراد الصغار وليس للكبار أن ينظروا إلى مالكيهم إلا إلى ما يجوز للحر أن ينظر إليه. ثم إنه هل يشمل الإماء؟ فعن ابن عمر ومجاهد لا، وعن غيرهما نعم، لأن الإنسان كما يكره إطلاع الذكور على أحواله فقد يكره أيضا إطلاع الإناث عليها. عن ابن عباس: آية لا يؤمن بها أكثر الناس آية الإذن وإني لآمر جارتي أن تستأذن عليّ أراد امرأته، وكان ابن عباس ينام بين جاريتين. ومن العلماء من قال: هذا الأمر للاستحباب. ومنهم من قال للوجوب. ومن هؤلاء من قال: إنه ناسخ لقوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا لأن ذلك يدل على أن الاستئذان واجب في كل حال، وهذا يدل على وجوبه في الأوقات الثلاثة فقط، ومنع لزوم النسخ بأن الأولى في المكلفين وهذه في غير المكلفين قالوا: الذين ملكت أيمانكم يشمل البالغين. قلنا: لو سلم فلا نسخ أيضا لأن قوله غَيْرَ بُيُوتِكُمْ لا يشمل العبيد لأن الإضافة توجب الاختصاص والملكية، والعبد لا يملك شيئا فلا يملك البيت أمر المماليك والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار وهذا معنى قوله مِنْكُمْ أن يستأذنوا ثلاث مرات في اليوم والليلة. إحداها قبل صلاة الفجر لأنه وقت القيام من المضاجع ووقت استبدال ثياب اليقظة بثياب النوم، وثانيتها عند الظهيرة وهو نصف النهار عند اشتداد(5/210)
الحر وظهوره فحينئذ يضع الناس ثيابهم غالبا، وثالثها بعد صلاة العشاء يعني الآخرة لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والالتحاف بثياب النوم. ثم بين حكمة الاستئذان في هذه الأوقات فقال ثَلاثُ عَوْراتٍ فمن قرأ ثَلاثَ بالرفع فظاهر كما مر في الوقوف، ومن قرأ بالنصب فقد قال في الكشاف: إنه بدل من ثَلاثَ مَرَّاتٍ أي أوقات ثلاث عورات قلت: هذا بناء على أن قوله ثَلاثَ مَرَّاتٍ ظرف ويجوز أن يكون ثَلاثَ مَرَّاتٍ مصدرا بمعنى ثلاثة استئذانات، ويكون ثَلاثُ عَوْراتٍ تفسيرا وبيانا للأوقات الثلاثة لأنها منصوبة تقديرا. وأصل العورة الخلل ومنه الأعور المختل العين، وأعور الفارس إذا بدا منه موضع خلل للضرب، وأعور المكان إذا خيف فيه القطع. قال جار الله: إذا رفعت ثَلاثُ عَوْراتٍ فمحل هذه الجملة الرفع على الوصف أي هن ثلاث عورات مخصوصة بالاستئذان، وإذا نصبت لم يكن له محل وكان كلاما مقررا للأمر بالاستئذان في تلك الأحوال خاصة.
ثم بين وجع العذر بقوله طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ وهم الذين يكثرون الدخول والخروج والتردد يعني أن بكم وبهم حاجة إلى المداخلة والمخالطة للاستخدام ونحوه. وارتفع بَعْضُكُمْ بالإبتداء وخبره عَلى بَعْضٍ أو بالفاعلية أي بعضكم طائف، أو يطوف بعضكم على بعض يدل على المحذوف طوّافون. وفي الآية دلالة على وجوب اعتبار العلل في الأحكام ما أمكن.
يروى أن مدلج بن عمرو وكان غلاما أنصاريا أرسله رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت الظهيرة إلى عمر ليدعوه، فدخل عليه وهو نائم وقد انكشف عنه ثوبه فقال عمر:
لوددت أن الله عز وجل نهى آباءنا وأبناءنا وخدمنا أن لا يدخلوا علينا هذه الساعات إلا بإذن. ثم انطلق معه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجده وقد أنزلت عليه هذه الآية.
ثم بين حكم الأطفال والأحرار بعد البلوغ وهو أن لا يكون لهم الدخول إلا بإذن في جميع الأوقات. ومعنى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الذين بلغوا الحلم من قبلهم وهم الرجال الذين ذكروا من قبلهم في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً الآية. ومتى يحكم ببلوغ الطفل؟ اتفقوا على أنه إذا احتلم كان بالغا وأما إذا لم يحتلم فعند عامة العلماء وعليه الشافعي أنه إذا بلغ خمس عشرة سنة فهو بالغ حكما لما
روي أن ابن عمر عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فلم يجزه وكان له أقل من خمس عشرة سنة، وعرض عليه يوم الخندق وكان ابن خمس عشرة سنة فأجازه.
وعن بعض السلف ويروى عن علي عليه السلام أيضا أنه كان يعتبر القامة ويقدر بخمسة الأشبار
وعليه يحمل قول الفرزدق:
ما زال مذ عقدت يداه إزاره ... فسما وأدرك خمسة الأشبار(5/211)
وإنبات العانة غير معتبر إلا في حق الأطفال الكفار وقد مر في أول سورة النساء.
وإنما ختم هذه الآية بقوله كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وقبلها وبعدها لَكُمْ آياتِهِ لأنهما يشتملان على علامات يمكن الوقوف عليها وهي في الأولى الأوقات الثلاثة، وفي الآخرة مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ إلى آخرها ومثلهما في قوله يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ [النور: 17] يعني حد الزانيين وحد القاذف. وأما بلوغ الأطفال فلم يذكر لها علامات يمكن الوقوف عليها بل تفرد سبحانه بعلم ذلك فخصها بالإضافة إلى نفسه. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمصالح العباد حَكِيمٌ في أوامره ونواهيه. ثم بين حكم النساء اللواتي خرجن عن محل الفتنة والتهمة فقال والْقَواعِدُ وهي جمع «قاعد» بغير هاء كالحائض والطالق، وقد زعم صاحب الكشاف أنها جمع قاعدة بالهاء وفيه نظر لأنه من أوصاف النساء الخاصة بهن، سميت بذلك لقعودها عن الحيض والولد لكبرها ولذلك أكد بقوله اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي لا يطمعن فيه لعدم من يرغب فيهن وليست من القعود بمعنى الجلوس حتى يحتاج إلى الفرق بين المذكر والمؤنث، ولا شبهة أنه لا يحل لهن وضع كل ثيابهن لما فيه من كشف كل عورة فلذلك قال المفسرون: المراد بالثياب هاهنا الجلباب والرداء والقناع الذي فوق الخمار. وعن ابن عباس أنه قرأ أن يضعن جلابيبهن وعن السدي عن شيوخه يضعن خمرهن عن رؤوسهن، خصهن الله تعالى بذلك لأن التهمة مرتفعة عنهن وقد بلغن هذا المبلغ، فلو غلب على ظنهن خلاف ذلك لم يحل لهن وضع شيء من الثياب الظاهرة. وإنما أبيح وضع الثياب حال كونهن غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي غير مظهرات شيئا من الزين الخفية المذكورة في قوله وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أو غير قاصدات بالوضع التبرج ولكن التخفف إذا احتجن إليه. وحقيقة التبرج تكلف إظهار ما يجب إخفاؤه من قولهم «سفينة بارج لا غطاء عليها» . والبرج سعة العين يرى بياضها محيطا بسوادها لا يغيب منه شيء. واختص التبرج في الاستعمال بتكشف المرأة للرجال.
وحين ذكر الجائز عقبه بالمستحب تنبيها على اختيار الأفضل في كل باب فقال وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وذلك أنهن في الجملة مظنة شهوة وفتنة وإن عرض عارض الكبر والنحول فلكل ساقطة لاقطة. وسئل بعض الظرفاء المذكورين عن حكمة تستر النساء فقال:
لأنهن محل فتنة وشهوة فقيل: فعلى هذا كان ينبغي أن لا يحسن تكليف العجائز بالتستر فأجاب بأنه كان يلزم إذ ذاك مصيبتان: أحداهما عدم رؤية الحسان، والثانية لزوم رؤية القباح. ثم ختم السورة بسائر الصور التي يعتبر فيها الإذن فقال لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ نفى الحرج عن الأصناف الثلاثة ذوي العاهات ثم قال وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا فذهب(5/212)
ابن زيد إلى أن المراد نفي الحرج عنهم في القعود عن الجهاد، ثم عطف على ذلك أنه لا حرج عليكم أن تأكلوا من البيوت المذكورة. ووجه صحة العطف التقاء الطائفتين في أن كل واحدة منهما منفي عنها الحرج. قال جار الله: مثال هذا أن يستفتيك مسافر عن الإفطار في رمضان وحاج مفرد عن تقديم الحلق على النحر فقلت: ليس على المسافر حرج أن يفطر ولا عليك يا حاج أن تقدم الحلق على النحر. وقال آخرون: كان المؤمنون يذهبون بالضعفاء وذوي الآفات إلى بيوت أزواجهم وأولادهم وإلى بيوت قراباتهم وأصدقائهم فيطعمونهم منها، فخالج قلوب الكل ريبة خوفا من أن يكون أكلا بغير حق لقوله تعالى لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] فقيل: لهم ليس على هؤلاء الضعفاء ولا على أنفسكم يعني عليكم وعلى من في مثل حالكم من المؤمنين حرج في ذلك. قال قتادة:
كانت الأنصار في أنفسها قزازة وكانت لا تأكل من هذه البيوت إذا استغنوا. والقزازة احتراز مع القزة وهي مدح، والكزازة ذم. وروى الزهري عن سعيد بن المسيب وغيره أن المسلمين كانوا يخرجون إلى الغزو ويخلفون الضعفاء في بيوتهم ويدفعون إليهم المفاتيح ويأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم، فكانوا يتحرجون كما يحكى عن الحرث بن عمرو أنه خرج غازيا وخلف مالك بن زيد في ماله وبيته، فلما رجع رآه مجهودا فقال: ما أصابك؟ قال: لم يكن عندي شيء ولم يحل لي أن آكل من مالك. فقيل: ليس على هؤلاء الضعفاء حرج فيما تحرجوا عنه، ولا عليكم أن تأكلوا من هذه البيوت. قال الأكثرون: كان هؤلاء الضعفاء يتوقون مجالسة الناس ومواكلتهم فيقول الأعمى: إني لا أرى شيئا فربما آخذ الأجود وأترك الرديء، والأعرج يفسح في مجلسه ويأخذ أكثر من موضعه فيضيق على جليسه، والمريض لا يخلو من رائحة أو غيرها من أسباب الكراهة. وأيضا كان المؤمنون يقولون الأعمى لا يبصر الطعام الجيد ولا يأكله، والأعرج لا يتمكن من الجلوس فلا يقدر على الأكل مما ينبغي، والمريض لا يتأتى له أن يأكل كما يأكل الأصحاء فقيل: ليس على هؤلاء ولا عليكم في المؤاكلة حرج.
ثم إنه تعالى عدد من مواضع الأكل أحد عشر موضعا: الأول قوله مِنْ بُيُوتِكُمْ وفيه سؤال: وهو أنه أيّ فائدة في إباحة أكل الإنسان طعامه من بيته؟ والجواب أراد من بيوت أزواجكم وعيالكم لأن بيت المرأة بيت الزوج قاله الفراء. وقال ابن قتيبة: أراد بيوت أولادهم ولهذا لم يذكر الأولاد في جملة الأقارب وإن الولد أقرب الأقربين لأنه بعض الرجل وحكمه حكم نفسه،
وفي الحديث «إن أطيب ما يأكل المرء من كسبه وإن ولده من كسبه» «1»
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 77.(5/213)
وباقي البيوت لا إشكال فيها إلى البيت العاشر وهو قوله أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ وفيه وجوه: أحدها قال ابن عباس وكيل الرجل وقيمه في ضيعته وماشيته لا بأس عليه أن يأكل من ثمر ضيعته ويشرب من لبن ماشيته وملك المفاتيح كونها في يده وحفظه. وثانيها قال الضحاك: يريد الزمنى الذين يخلفون الغزاة. وثالثها قيل: أراد بيوت المماليك لأن مال العبد لمولاه. الحادي عشر قوله أَوْ صَدِيقِكُمْ ومعناه أو بيوت أصدقائكم والصديق يكون واحدا وجمعا كالعدو. وعن الحسن أنه دخل داره وإذا حلقة من أصدقائه وقد استلوا سلالا من تحت سريره فيها الخبيص وأطايب الأطعمة وهم مكبون عليها يأكلون، فتهللت أسارير وجهه سرورا وضحك وقال: هكذا وجدناهم يريد أكابر الصحابة.
وعن جعفر الصادق بن محمد عليه السلام: من عظم حرمة الصديق أن جعله الله من الإنس والثقة والانبساط بمنزلة النفس والأب والأخ والابن.
قال العلماء: إذا دل ظاهر الحال على رضا المالك قام ذلك مقام الإذن الصريح، وربما سمج الاستئذان وثقل كمن قدم إليه طعام فاستأذن صاحبه في الأكل منه. احتج أبو يوسف بالآية على أنه لا قطع على من سرق من ذي رحم محرم وذلك أنه تعالى أباح الأكل من بيوتهم ودخولها بغير إذن فلا يكون ماله محرزا منهم، وأورد عليه أن لا يقطع إذا سرق من صديقه. فأجاب بأن السارق لا يكون صديقا للمسروق منه. واعلم أن ظاهر الآية دل على أن إباحة الأكل من هذه المواضع لا تتوقف على الاستئذان. فعن قتادة أن الأكل مباح ولكن لا يجمل. وجمهور العلماء أنكروا ذلك فقيل: كان ذلك مباحا في صدر الإسلام ثم نسخ ذلك
بقوله صلى الله عليه وسلم «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه»
ومما يدل على هذا النسخ قوله لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ [الأحزاب: 53] وقال أبو مسلم: هذا في الأقارب الكفرة. وفي هذه الآية إباحة ما حظر وفي قوله لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 22] وقيل: إن هؤلاء القوم كانت تطيب أنفسهم بأكل من يدخل عليهم والعادة كالإذن في ذلك فلا جرم خصهم الله بالذكر لأن هذه العادة في الأغلب توجد فيهم ولذلك ضم إليهم الصديق. وإذا علمنا أن الإباحة إنما حصلت في هذه الصورة لأجل حصول الرضا، فلا حاجة إلى القول بالنسخ.
وحين نفى الحرج عنهم في نفس الأكل أراد أن ينفي الحرج عنهم في كيفية الأكل فقال لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا وانتصب قوله جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً على الحال أي مجتمعين أو متفرقين. والأشتات جمع شت وهو نعت وقيل مصدر وصف به. ثم أجمع أكثر المفسرين ومنهم ابن عباس على أنها نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة كانوا يتحرّجون(5/214)
عن الانفراد في الطعام، فربما قعد الرجل منتظرا نهاره إلى الليل فإن لم يجد من يؤاكله أكل. وقال عكرمة وأبو صالح: نزلت في قوم من الأنصار لا يأكلون إلا مع ضيفهم. وقال الكلبي: كانوا إذا اجتمعوا ليأكلوا طعاما عزلوا للأعمى طعاما على حدة، وكذلك الزمن والمريض فبين الله لهم أن ذلك غير واجب. وقال آخرون: كانوا يأكلون فرادى خوفا من أن يحصل عند الجمعية ما ينفر أو يؤذى فرفع الله الحرج. ثم علمهم أدبا جميلا قائلا فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً أي من البيوت المذكورة لتأكلوا فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي ابدءوا بالسلام على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة وانتصب تَحِيَّةً ب فَسَلِّمُوا نحو «قعدت جلوسا» . ومعنى مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أنها ثابتة من عنده مشروعة من لدنه، أو أراد أن التحية طلب حياة للمخاطب من عند الله وكذا التسليم طلب السلامة له من عنده. ووصفها بالبركة والطيب لأنها دعوة مؤمن لمؤمن يرجى بها من الله زيادة الخير وطيب الرزق وتضعيف الثواب.
عن أنس قال: كنت واقفا على رأس النبي صلى الله عليه وسلم أصب الماء على يديه فرفع رأسه فقال: ألا أعلمك ثلاث خصال تنتفع بها؟ قلت: بلى بأبي وأمي يا رسول الله. قال: متى لقيت من أمتي أحدا فسلم عليه يطل عمرك، وإذا دخلت بيتك فسلم عليهم يكثر خير بيتك، وصلّ صلاة الضحى فإنها صلاة الأبرار الأوّابين.
قال العلماء: إن لم يكن في البيت أحد فليقل «السلام علينا من ربنا، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين» ومن صور الإذن قوله سبحانه إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الآية. والمقصود أن يبين عظم الجناية في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذنه إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ وهو الذي يجمع له الناس.
فلما كان الأمر سبب الجمع وصف به مجازا. قال مجاهد: هو أمر الحرب ونحوه من الأمور التي يعم ضررها ونفعها. وقال الضحاك: هو الجمعة والأعياد وكل شيء تكون فيه الخطبة.
وذلك أنه لا بد في الخطوب الجليلة من ذوي رأي وقوة يستعان بهم وبآرائهم وتجاربهم في كفايتها، فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال مما يشق على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم ويشعب عليه رأيه. قال الجبائي: في الآية دلالة على أن استئذانهم الرسول من إيمانهم ولولا ذلك لحاز أن يكونوا كاملي الإيمان وإن تركوا الاستئذان. وأجيب بأن ترك الاستئذان من أهل النفاق لا نزاع أنه كفر لأنهم تركوه استخفافا. قال جار الله: ومما يدل على عظم هذه الجناية أنه جعل ترك ذهابهم حتى يستأذنوه فيأذن لهم ثالث الإيمان بالله والإيمان برسوله، ومع ذلك صدر الجملة بإنما وأوقع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول أحاطت صلته بذكر الإيمانين. ثم عقبه بمزيد توكيد وتشديد حيث أعاده على أسلوب آخر وهو قوله إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فجعل الاستئذان كالمصدق الصحة الإيمان بالله والرسول وفيه تعريض بحال المنافقين وتسللهم لواذا. وفي قوله لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ دليل على(5/215)
أن أمر الاستئذان مضيق لا يجوز ارتكابه في كل شأن. وفي قوله فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ دلالة على أنه تعالى فوّض بعض أمر الدين إلى اجتهاد الرسول ورأيه. وزعم قتادة أنها منسوخة بقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] وفي قوله وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ وجهان:
أحدهما أن هذا الاستغفار لأجل أنهم تركوا الأولى والأفضل وهو أن لا يحدثوا أنفسهم بالذهاب ولا يستأذنوا فيه، والآخر أنه جبرا لهم على تمسكهم بإذن الله تعالى في الاستئذان.
ثم حثهم على طاعة رسوله بقوله لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ أي لا تقيسوا دعاءه إياكم لخطب جليل على دعاء بعضكم بعضا ورجوعكم عن المجمع بغير إذن الداعي، وذلك أن أمره فرض لازم وأمر غيره ليس بفرض، وإنما هو أدب مستحن رعايته مع الأئمة والمتقدمين. هذا ما عليه الأكثرون منهم المبرد والقفال، وعن سعيد بن جبير: لا تنادوه باسمه ولا تقولوا «يا محمد» ولكن «يا نبي الله ويا رسول الله» مع التوقير والتعظيم والصوت المنخفض. وقيل: أراد احذروا دعاء الرسول ربه عليكم إذا أسخطتموه فإن دعاءه موجب ليس كدعاء غيره. والتسلل الانسلال والذهاب على سبيل التدرج، واللواذ الملاوذة وهو أن يكون هذا بذاك وذاك بهذا. وانتصابه على الحال والحاصل أنهم يتسللون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة وهو استتار بعضهم ببعض. وقيل: كان يلوذ من لم يؤذن له بالذي أذن له فينطلق معه. قال مقاتل: هذا في الخطبة. وقال مجاهد: في صف القتال.
وقال ابن قتيبة: نزلت في حفر الخندق وكان قوم يتسللون بغير إذن. ومعنى قَدْ يَعْلَمُ يكثر العلم والمبالغة فيه كما مر في «البقرة» في قوله قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ [البقرة:
144] يقال: خالفته عن القتال أي جبنت عنه وأقدم هو وخالفته إلى القتال أي أقدمت، وجبن هو الفتنة المحنة في الدنيا كالقتل أو الزلازل، وسائر الأهوال والعذاب الأليم هو عذاب النار. وعن جعفر بن محمد عليه السلام: الفتنة أن يسلط عليهم سلطان جائر. وقال الأصوليون: في الآية دلالة على أن ظاهر الأمر للوجوب لأن تارك المأمور به مخالف لذلك الأمر فإن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه والموافقة ضد المخالفة، فإذا أخل بمقتضاه كان مخالفا والمخالف مستحق للعقاب بالآية، ولا نعني بالوجوب إلا هذا. واعترض عليه بأن موافقة الأمر عبارة عن الإتيان بمقتضاه على الوجه الذي يقتضيه الأمر، فإن الأمر لو اقتضاه على سبيل الندب وأنت تأتي على سبيل الوجوب كان ذلك مخالفة الأمر. ومنع من أن المندوب مأمور به فإن هذا أول المسألة، والظاهر أن الضمير في أمره للرسول ولو كان لله لم يضر لأنه لا فرق بين أمر الله وأمر رسوله، وأمر الرسول متناول عند بعضهم للقول والفعل والطريقة كما يقال «أمر فلان مستقيم» وعلى هذا فكل ما فعله الرسول فإنه يكون(5/216)
واجبا علينا. ثم بين كمال قدرته وعمله بقوله أَلا إِنَّ لِلَّهِ إلخ. تأكيد الوجوب الحذر. قال جار الله: الخطاب والغيبة في قوله ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ كلاهما للمنافقين على طريقة الالتفات إذ الأول عام والثاني لأهل النفاق. وأقول: يحتمل أن يكون كلاهما عاما للمنافقين. والفاء في قوله فَيُنَبِّئُهُمْ لتلازم ما قبلها وما بعدها كقولك وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] .
التأويل:
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فيما يدعوانه إلى الحضرة بترك ما سوى الله ويخشى الانقطاع عن الله ويثق به عما سواه فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ بالوصول والوصال وصالا بلا انفصال وزوال لئن أمرتهم بالخروج عن غير الله طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
بالفعل دون القول لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ليخرجن ما في استعدادهم من خلافة الله في أرض البشرية من القوة إلى الفعل. وَلَيُمَكِّنَنَّ كل صنف حمل الأمانة المودعة فيه على اختلاف مراتبهم وطبقاتهم، فمنهم حفاظ لأخبار النبي صلى الله عليه وسلم وللقرآن، ومنهم علماء الأصول، ومنهم علماء الفروع، ومنهم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق وأرباب السلوك الكاملون المكملون، وإنهم خلفاء الله على الحقيقة وأقطاب العالم وأوتاد الأرض وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ من الشرك الخفي أَمْناً يَعْبُدُونَنِي بالإخلاص لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً من مطالب الدنيا والآخرة لِيَسْتَأْذِنْكُمُ المريدون الذين هم تحت تصرفكم وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا أوان الشيخوخة ثَلاثَ مَرَّاتٍ في المبادي وفي أوساط السلوك وفي نهاية أمرهم، فإذا صلحت أحوالهم في هذه الأوقات صلح سائرها في الأغلب والله المستعان. وَالْقَواعِدُ فيه إشارة إلى أن المريد إذا صار بحيث أمن منه إفشاء الأسرار وما استودع فيه من متولدات الأحوال، فلا ضير عليه أن لا يبالغ في التستر والإخفاء من الأغيار والكتمان خير له لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ قال الشيخ المحقق نجم الدين المعروف بداية رضى الله عنه: فيه إشارة إلى أن من لا يبصر إلا بالله ولا يمشي إلا بالله ولا يعلم إلا بالله فإنهم مخصوصون بالتكون بكينونة الله كما قال «كنت له سمعا» الحديث. فإنهم مستعدون لقبول الفيض الإلهي وهم السابقون المقربون فلا حرج في الشرع على من يكون مستعدا لهذا الكمال، فإن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها. وفي قوله وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ إلخ إشارة إلى أنه لا حرج على أرباب النفوس على أن يكون مأكلهم من بيوتهم أو بيوت أبناء جنسهم وهي الجنات ومراتبها كما قال فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ [الزخرف: 71] وفي قوله أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ إشارة إلى أن درجات الجنة مساكن أهل المكاسب كما أن مقامات أهل القرب عند مليك مقتدر منازل أهل المواهب.
قوله أَوْ صَدِيقِكُمْ فيه أن درج الجنان ينالها المرء ببركة جليسه الصالح، وقد ينعكس نور(5/217)
ولاية الشيخ على مرآة قلب المريد الصادق فينال به مرتبة لم يكن يصل إليها بمجرد أعماله:
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فيه أنه لا حرج على أهل الجنة أن تكون مآكلهم من درجة واحدة أو من درجات شتى. فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً أي بلغتم منزلا من المنازل فَسَلِّمُوا أي استسلموا لأحكام الربوبية بمزيد العبودية حتى ترتقوا منها إلى منازل أعلى وأطيب إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فيه أن المريد الصادق ينبغي أن لا يتنفس إلا بإذن شيخه فإن الشيخ في قومه كالنبي في أمته أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ من المال أو الجاه أو قبول الخلق أو التزويج أو السفر بإذن الشيخ أو التردد على أبواب الملوك ونحو ذلك، وما العصمة إلا من واهبها وهو المستعان.(5/218)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
(سورة الفرقان)
(مكية غير آية نزلت بطائف أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ حروفها 3780 كلمها 872 آياتها 77)
[سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4)
وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9)
تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14)
قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)
وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)(5/219)
القراآت:
جنة نأكل بالنون: حمزة وعلي وخلف. الباقون بالياء التحتانية ويجعل لك بالرفع: ابن عامر وأبوبكر وحماد والمفضل وابن كثير. الباقون بالجزم وذلك أن الشرط إذا وقع ماضيا جاز في جزائه الرفع والجزم يَحْشُرُهُمْ فَيَقُولُ كلاهما بالياء:
ابن كثير ويزيد وسهل ويعقوب وعباس وحفص، وقرأ ابن عامر بالنون فيهما. الباقون بالنون في الأول وبالياء في الثاني أن يتخذ على البناء للمفعول: زيد ويزيد بِما تَقُولُونَ بتاء الخطاب: يعقوب وعباس وحفص والسرنديبي عن قنبل. تَسْتَطِيعُونَ على الخطاب:
حفص غير الخزاز.
الوقوف:
نَذِيراً هـ لا بناء على أن ما بعده بدل من الَّذِي نَزَّلَ والتعليل من تمام الصلة، ولو قدر رفعه أو نصبه على المدح جاز الوقف. تَقْدِيراً هـ وَلا نُشُوراً هـ آخَرُونَ ج لأجل الفاء مع اختلاف القائل أو لاحتمال أن يكون فَقَدْ جاؤُ من قول الكفار أي جاء محمد ومن أعانه بظلم وزور وَزُوراً هـ ج للاحتمال المذكور أو لعطف المتفقتين مع عوارض وطول الكلام وَأَصِيلًا هـ وَالْأَرْضِ ط رَحِيماً هـ الْأَسْواقِ ط نَذِيراً هـ مِنْها ط مَسْحُوراً هـ سَبِيلًا هـ الْأَنْهارُ ط لمن جعل رفع يجعل على الاستئناف قُصُوراً هـ سَعِيراً هـ لاحتمال كون ما بعده صفة أو استئنافا وَزَفِيراً هـ ثُبُوراً الأول هـ ط كَثِيراً هـ الْمُتَّقُونَ ط لانتهاء الاستفهام مَصِيراً هـ خالِدِينَ ط مَسْؤُلًا هـ السَّبِيلَ هـ الذِّكْرَ ج لجواز أن يكون المراد وقد كانوا ولجواز أن يراد وصاروا فيتصل بقوله بُوراً هـ تَقُولُونَ هـ إلا لمن قرأ تَسْتَطِيعُونَ بتاء الخطاب نَصْراً ج هـ للشرط مع العطف كَبِيراً هـ فِي الْأَسْواقِ ط فِتْنَةً ط أَتَصْبِرُونَ ج لاحتمال كون الواو للحال بَصِيراً هـ.
التفسير:
إنه سبحانه تكلم في هذه السورة أولا في التوحيد لأنه أقدم وأهم، ثم في النبوة لأنها الواسطة، ثم في المعاد وسيختم السورة بصفات العباد المخلصين الموقنين فما أشرف هذه المطالب وما أحسن هذا الترتيب. ومعنى تَبارَكَ كثر خيره وزاد أو تعالى عن أوصاف الممكنات وقد مر في قوله تعالى فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ [المؤمنون: 14] وفي وصفه نفسه بتنزيل الفرقان الفارق بين الحق والباطل أو المفرق في الإنزال بعد قوله تَبارَكَ دليل على أن كل البركة والخير إنما هو في القرآن، وكانت هذه الصفة معلومة بدلائل الإعجاز فلذلك صح إيقاعها صلة للذي. والضمير في لِيَكُونَ لعبده أو للفرقان كقوله إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ والعالمون يشمل الخلائق كلهم إلا أن الإجماع دل على خروج الملائكة وما عدا الثقلين فبقي أن يكون مبعوثا إلى الجن والإنس إلى آخر(5/220)
مدة التكليف. والنذير المنذر أو الإنذار كالنكير. قالت المعتزلة: لو لم يرد الإيمان من الكل لم يكن الرسول نذيرا للكل. وعورض بنحو قوله وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ [الأعراف: 179] والإنذار الموجب للخوف لا ينافي وصفه تعالى بالبركة والخير لأن النظر على السعادات الأخروية التي تحصل بالإنذار على فوات بعض اللذات العاجلة. ثم وصف ذاته بصفاته الأربع أولها الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وفيه تنبيه على افتقار الكل إليه في الوجود وفي توابعه من البقاء وغيره. الثانية وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وفيه رد النصارى واليهود الثالثة وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وفيه رد على سائر المشركين من الثنوية والوثنية وأرباب الشرك الخفي أيضا، ولكنه صرح بهذا الأخير في الصفة الرابعة وهي قوله وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً قال جار الله: المعنى أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية والتهيئة لما يصلح له، أو المراد بالخلق الإيجاد من غير نظر إلى وجه الاشتقاق وهو ما فيه من معنى التقدير لئلا يلزم التكرار فكأنه قيل: أوجد كل شيء فقدره في إيجاده لم يوجده متفاوتا، أو أحدثه فقدره للبقاء إلى أمد معلوم. وعندي أن الكلام محمول على القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس أي قدره في الأزل تقديرا فخلفه في وقته موافقا لذلك التقدير.
والبحث فيه بين المعتزلة والأشاعرة كما مر في قوله اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الزمر: 62] ثم صرح بتزييف مذاهب عبدة الأوثان قائلا وَاتَّخَذُوا الآية. وحاصله أن إله العالم يجب أن يكون أقدر الأشياء وأشرفها لا أعجزها وأخسها وهو الجماد بل الملائكة والمسيح لأنه لا قدرة لهم على الإيجاد والتصرف في شيء إلا بإذن الله، فتكون الآية ردا على الكل. وإنما قال في هذه السورة مِنْ دُونِهِ لتقدم الذكر مفردا وفي مريم ويس مِنْ دُونِ اللَّهِ [يس:
74 ومريم: 48] لأن ما قبلهما بلفظ الجمع تعظيما فلن يكن بد من التصريح.
وحين فرغ من بيان التوحيد ونفي الأنداد شرع في شبهات منكري النبوة والأجوبة عنها.
فالشبهة الأولى قولهم إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ أرادوا أنه كذب في نفسه أو أرادوا أنه كذب في إضافته إلى الله تعالى. وقوله وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ نظير قوله تعالى إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي [النحل: 103] وقد مر ما قيل في سبب نزوله في النحل فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً أي أتوهما فانتصب بوقوع المجيء عليه.
وعن الزجاج أنه انتصب بنزع الخافض أي أتوا بالظلم والزور. فالظلم هو أنهم نسبوا هذا الفعل الشنيع وهو الافتراء على الله. إلى من هو عندهم في غاية الأمانة والصدق، والزور وهو انحرافهم عن جادة العدل والإنصاف، فلو أنصفوا من أنفسهم لعلموا أن العربي لا(5/221)
يتلقن من العجمي كلاما عربيا أعجز بفصاحته دهماءهم، ولو استعان محمد في ذلك بغيره لأمكنهم أيضا أن يستعينوا بغيرهم. قال أبو مسلم: الظلم تكذيبهم الرسول والزور كذبهم عليه.
الشبهة الثانية قولهم أنه أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي أحاديث سطرها المتقدمون كأخبار الأعاجم اكْتَتَبَها لنفسه كقولك «استكب الماء» أي سكبه لنفسه وأخذه وقد يظن أن في الكلام قلبا لأنه يقال «أمليت عليه فهو يكتتبها» وأجيب بأن المعنى أراد اكتتابها فهي تقرأ عليه أو كتبت له وهو أمي فهي تملى أي تلقى عليه من كتابه يتحفظها، لأن صورة الإلقاء على الحافظ كصورة الإلقاء على الكاتب. قال الضحاك: ما يملى عليه بكرة يقرأ عليكم عشية، وما يملى عليه عشية يقرأ عليكم بكرة، وقال جار الله بُكْرَةً وَأَصِيلًا أي دائما أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس وحين يأوون إلى مساكنهم. فأجاب عن هذه الشبهة بقوله قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ الآية. والمعنى أن العالم بكل سر هو الذي يقدر على الإتيان بمثل هذا الكتاب لفصاحة مبانيه وبلاغة معانيه وبراءته من التناقض والاختلاف واشتماله على الغيوب وعلى مصالح العباد في المعاش والمعاد. قال أبو مسلم: أراد أنه يعلم كل سر خفي ومن جملته ما تسرونه أنتم من الكيد والنفاق فهو يجازيكم عليه، ولأجل هذا الوعيد ختم الآية بذكر المغفرة والرحمة فإنه لا يوصف بهما إلا القادر على العقوبة. وقيل: هو تنبيه على أنهم استحقوا بمكابرتهم العذاب العاجل ولكنه صرفه عنهم برحمته وغفرانه.
الشبهة الثالثة قولهم على سبيل الاستهانة وتصغير الشأن ما لِهذَا الزاعم أنه رسول أي ما باله يَأْكُلُ الطَّعامَ كما نأكل ويتردد في الأسواق لطلب المعاش كما نتردد. زعموا أنه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل والتعيش، ثم نزلوا عن هذا المقام فطلبوا أن يكون إنسانا معه ملك يعضده ويساعده في باب الإنذار، ثم نزلوا فاقترحوا أن يكون مستظهرا بكنز يلقى إليه من السماء حتى لا يحتاج إلى تحصيل المعاش، ثم نزلوا فقالوا: لا أقل من أن يكون كواحد من الدهاقين له بستان ينتفع هو أو ننتفع نحن بذلك على اختلاف القراءتين. وانتصب فَيَكُونَ لأنه جواب «لولا» بمعنى «هلا» وحكمه حكم الاستفهام ومحل أُنْزِلَ الرفع كما يقول: لولا ينزل ولهذا عطف عليه يلقى ويكون مرفوعين وَقالَ الظَّالِمُونَ من وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالظلم فيما قالوا، وهم كفار قريش النضر بن الحرث وأمثاله. والمسحور المغلوب على عقله، والأمثال الأقوال النادرة، والاقتراحات الغريبة المذكورة فبقوا متحيرين لا يجدون قولا يستقرون عليه، أو فضلوا عن الحق ولا يجدون طريقا إليه. وقد مر مثل هذه الآية في أواسط سورة بني إسرائيل.(5/222)
وحين حكى شبههم ومطاعنهم مدح نفسه بما يلجمهم ويفحمهم وهو قوله تَبارَكَ أي تكاثر خبر الَّذِي إِنْ شاءَ وهب لك في الدنيا خيرا مما قالوا: ثم فسر ذلك الخير بقوله جَنَّاتٍ عن ابن عباس: خيرا من ذلك أي مما عيروك بفقده الجنة الواحدة. وعنه في رواية عكرمة خيرا من المشي في الأسواق لابتغاء المعاش. وفي قوله إِنْ شاءَ دليل على أنه لا حق لأحد من العباد عليه لا في الدنيا ولا في الآخرة وأن حصول الخيرات معلق بمحض مشيئته وعنايته. وقيل: «إن» بمعنى «إذ» أي قد جعلنا لك في الآخرة وبنينا لك قصورا. والقصر المسكن الرفيع فيحتمل أن يكون لكل جنة قصر وأن تكون القصور مجموعة والجنات مجموعة. وقال مجاهد: إن شاء جعل لك في الآخرة جنات وفي الدنيا قصورا.
عن طاوس عن ابن عباس قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وجبرائيل عنده قال جبرائيل: هذا ملك قد نزل من السماء استأذن ربه في زيارتك. فلم يلبث إلا قليلا حتى جاء الملك وسلم وقال: إن الله يخيرك بين أن يعطيك مفاتيح كل شيء ولم يعطها أحدا قبلك ولا يعطيها أحدا بعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئا. فقال صلى الله عليه وسلم: بل يجمعها لي في الآخرة فنزلت هذه الآية.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: عرض عليّ جبرائيل عليه السلام بطحاء مكة ذهبا فقلت: بل شبعة وثلاث جوعات.
وفي رواية أشبع يوما وأجوع ثلاثا فأحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت.
قوله بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ عطف على ما حكى عنهم يقول: بل أتوا بأعجب من ذلك كله وهو تكذيبهم بالساعة فلهذا لا ينتفعون بالدلائل ولا يتأملون فيها إذ لا يرجون ثوابا ولا عقابا. ويجوز أن يراد ليس ما تعلقوا به شبهة عالية في نفس المسألة بل إنما حملهم على ذلك تكذيبهم بالساعة استثقالا للاستعداد لها. وَأَعْتَدْنا جعلناها عدة ومعدة لهم. وقد يستدل به على أن النار مخلوقة ويحتمل أن يقال: هو كقوله وَنادى [الأعراف: 48] وَسِيقَ [الزمر: 73] قالت الأشاعرة: البنية ليست شرطا في الحياة وتوابعها فأجروا قوله إِذا رَأَتْهُمْ على ظاهره وقالوا: لا امتناع في كون النار حية رائية مغتاظة على الكفار. والمعتزلة أوّلوا فقالوا: معنى رأتهم ظهرت لهم من قولهم «دورهم تتراءى وتتناظر» كأن بعضها يرى بعضا على سبيل المجاز. والمعنى إذا كانت منهم بمرأى الناظر في البعد سمعوا صوت غليانها، وشبه ذلك بصوت المتغيظ والزافر. وقال الجبائي:
ذكر النار وأراد خزنتها والمراد إذا رأتهم زبانيتها تغيظوا وزفروا غضبا على الكفار وشهوة للانتقام منهم. قيل: التغيظ عبارة عن شدة الغضب وذلك لا يكون مسموعا فكيف قال الله سبحانه سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وأجيب بأن المراد سماع ما يدل على الغيظ وهو الصوت أي سمعوا لها صوتا يشبه صوت المتغيظ. قاله الزجاج وقال قطرب: علموا لها تغيظا وسمعوا لها زفيرا كما قال الشاعر:(5/223)
متقلدا سيفا ورمحا
يروى أن جهنم تزفر زفرة لا يبقى أحد إلا ترعد فرائصه حتى إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم يجثو على ركبتيه ويقول: نفسي نفسي.
وحين وصف حال الكفار إذا كانوا بالبعد من جهنم وصف حالهم عند ما يلقون فيها.
عن ابن عباس أنه يضيق عليهم المكان كما يضيق الزج على الرمح.
وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: والذي نفسي بيده إنهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط.
قال الكلبي: الأسفلون يرفعهم اللهب والأعلون يخفضهم الداخلون فيزدحمون في تلك الأبواب الضيقة. وقال جار الله: الكرب مع الضيق كما أن الروح مع السعة ولذلك وصف الله الجنة بأن عرضها السموات والأرض.
وجاء في الأحاديث «إن لكل مؤمن من القصور والجنان كذا وكذا» .
وقال الصوفية: المكان الضيق قلب الكافر في صدره كقوله يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً [الأنعام: 125] ثم إن أهل جهنم مع ما هم فيه يكونون مقرنين في السلاسل والأصفاد وقد مر في آخر سورة إبراهيم. والثبور الهلاك ودعاؤه النداء بوا ثبوراه أي يقال يا ثبور فهذا أوانك وهاهنا إضمار أي يقال لهم لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً إذ هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يكن ثمة قول. ومعنى وادعوا ثبورا كبيرا أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا إنما هو ثبور كثير. إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها فلا غاية لهلاكهم، أو لأنهم يجدون بسبب ذلك القول خفة فإن المعذب إذا صاح وبكى وجد بسببه راحة. قال الكلبي: نزل هذا كله في أبي جهل والكفار الذين ذكروا تلك الشبهات. ثم وبخهم بقوله قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي وعدوها فحذف الرابط للعلم به وليس هذا الاستفهام كقول القائل «السكر أحلى أم الصبر» ولكن الغرض منه التقريع كما إذا أعطى السيد عبده مالا فتمرد وأبى واستكبر فضربه ضربا وجيعا ويقول على سبيل التوبيخ: هذا أطيب أم ذاك؟
والإضافة في جنة الخلد للتوضيح والتأكيد لا للتمييز فإن الجنة معلوم أن نعيمها لا ينقطع.
قالت الأشاعرة: في قوله وُعِدَ دلالة على أن الجنة إنما تستحق بحسب الوعد والفضل لا لأجل العمل. وقالت المعتزلة: في قوله الْمُتَّقُونَ إشارة إلى أن الجنة لا تنال إلا بالتقوى ولذلك أكد بقوله على سبيل التخصيص بسبب تقديم الجار كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً أجابت الأشاعرة بأن كونه جزاء ثبت في الأزل ولا عمل هناك. قالت المعتزلة: لا غفران لصاحب الكبيرة لأن الجنة جاءت جزاء للمتقين خاصة فلا يعطى حقهم غيرهم. أجابت الأشاعرة بأنه لم لا يجوز أن يرضى المتقون بإدخال الله أهل العفو الجنة؟ قال جار الله: ذكر(5/224)
المصير مع ذكر الجزاء مدحا للثواب ومكانه كقوله نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف: 31] وفي قوله لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ دلالة على أن حصول المرادات بأسرها لا تكون إلا في الجنة، وأما في الدنيا فالراحات فيها مخلوطة بالجراحات. والضمير في كانَ ل ما يَشاؤُنَ واستدلت المعتزلة بقوله عَلى رَبِّكَ أن ذلك واجب على الله حتى إنه لو لم يفعل استحق الذم. وأجيب بأنه واجب بحكم الوعد لقوله وَعْداً مَسْؤُلًا كأن المكلفين سألوا بلسان الحال من حيث تحملوا المشقة الشديدة في طاعته، أو سألوه حقيقة بقولهم رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمران: 194] أو سألته الملائكة في قولهم رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ [غافر: 8] أو من حقه أن يسأل ويطلب لأنه حق واجب بحكم الاستحقاق أو بحسب الموعد على المؤمنين.
قوله يوم نحشرهم رجوع إلى قوله وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً وظاهر قوله وَما يَعْبُدُونَ أنها الأصنام وظاهر قوله أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ أنه من عبد من العقلاء كالملائكة والمسيح فلأجل هذا اختلفوا فحمله قوم ومنهم الكلبي على الأوثان ثم قالوا: لا يبعد أن يخلق الله تعالى فيها الحياة والنور والنطق، أو أراد أنهم تكلموا بلسان الحال. وقال الأكثرون: إنه عام للأصنام وللمعبودين العقلاء نظيره قوله وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ [سبأ: 40] ثم قالوا: إن لفظة «ما» قد تستعمل في العقلاء، أو أريد به الوصف كأنه قيل: ومعبوديهم كما إذا أردت السؤال عن صفة زيد فتقول: «ما زيد» تريد أطويل أم قصير. والسائل الله وحده أو الملائكة بإذنه. وإنما قال أنتم وهم ولم يقل «أأضللتم عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل» ، لأن السؤال وقع عمن تولى فعل الإضلال لا عن نفس الإضلال. وفائدة هذا السؤال من علام الغيوب أن يجيب المعبودون بما أجابوا به حتى يحصل لعبدتهم الإلزام والتوبيخ كما قال لعيسى أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ [المائدة: 116] وكان القياس أن يقال: ضلوا عن السبيل إلا أنهم تركوا الجار كما تركوه في هداه الطريق والأصل هداه إلى الطريق أو للطريق. قالُوا سُبْحانَكَ تعجبا مما قيل لهم لأنهم ملائكة وأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختص بإبليس وحزبه وأنطقوا ب سُبْحانَكَ ليدلوا على أنهم المسبحون المقدسون الموسومون بذلك فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده؟ أو قصدوا به تنزيهه عن الأنداد وأن يكون له ملك أو نبي أو غيرهما ندا، أو قصدوا تنزيهه من أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إيذاء من كان بريئا من الجرم بل إنما سألهم تقريعا للكفار وتوبيخا لهم.(5/225)
من قرأ أَنْ نَتَّخِذَ بفتح النون فظاهر وهو متعد إلى واحد والأصل أن نتخذ أولياء من دونك فزيدت «من» لتأكيد معنى النفي. ومن قرأ بضم النون فهو متعد إلى اثنين: الأول ضمير نحن، والثاني من أولياء. ولا تكون «من» زائدة لأنها لا تزاد في المفعول الثاني تقول: ما اتخذت من أحد وليا ولا تقول ما اتخذت أحدا من ولي ف «من» للتبعيض أي لا نتخذ بعض أولياء أو تنكير أولياء من حيث إنهم أولياء مخصوصون وهم الجن والأصنام، والمعنى إنا لا نصلح لذلك فكيف ندعوهم إلى عبادتنا. وفي تفسير الآية على القراءة الأولى وجوه: الأول أن المعنى إذا كنا لا نرى أن نتخذ من دونك وليا فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك؟
الثاني: ما كان يصح لنا أن نكون أمثال الشياطين في توليهم الكفار كما تولاهم الكفار. قال تعالى فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ [النساء: 76] يريد الكفرة عن أبي مسلم: الثالث تقدير مضاف محذوف أي ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء أي لما علمنا أنك لا ترضى بهذا ما فعلنا. أو قالت الملائكة: أنا وهم عبيد ولا ينبغي لعبيدك أن يدعوا من دون إذنك وليا. الرابع قالت الأصنام: لا يصح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادّعاء أنا من المعبودين. وفي الآية دلالة على أنه لا تجوز الولاية والعداوة إلا بإذن الله، والولاية المبنية على ميل النفس وشهوة الطبع مذمومة شرعا. والذِّكْرَ ذكر الله والإيمان به أو القرآن والشرائع أو ما فيه حسن ذكرهم في الدنيا والآخرة. قالت المعتزلة: في قوله وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ إلخ. دليل بيّن على أن الله عز وجل لا يضل عباده على الحقيقة وإلا كان جواب العبيد أن يقولوا: بل أنت أضللتهم لا أن يقولوا بل أنت تفضلت من غير سابقة على هؤلاء وعلى آبائهم تفضل جواد كريم، فجعلوا النعمة التي حقها أن تكون سبب الشكر سبب الكفر ونسيان الذكر. فالحاصل أنهم ضلوا بأنفسهم لا بإضلالنا. وقالت الأشاعرة: بل فيه دلالة على أن الله تعالى هو المضل حقيقة كأنهم قالوا: إلهنا أنت الذي أعطيتهم جميع مطالبهم في الدنيا حتى استغرقوا في بحر الشهوات وأعرضوا عن التوجه إلى طاعتك والاشتغال بخدمتك فإن هي إلا فتنتك. أما قوله وَكانُوا قَوْماً بُوراً فالأكثرون على أن البور جمع بائر من البوار الهلاك كعائذ وعوذ وحائل وحول. وحكى الأخفش أنه اسم جمع يقال «رجل بور» أي فاسد هالك لا خير فيه «وامرأة بور» و «قوم بور» كما يقال «أنت بشر» و «أنتم بشر» . قالت المعتزلة: صاروا إلى الهلاك بسبب اختيارهم الضلال. وقالت الأشاعرة: أراد أنهم كانوا في اللوح المحفوظ من جملة الهالكين ولو قيل: إنه فعل بالكافر ما صار معه بحيث لا يمكنه ترك الكفر صح القول بالقدر أيضا.
قوله فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ التفات لأجل الإلزام والفاء فيه تدل على شرط مقدر كأنه قال:(5/226)
إن زعمتم أنهم آلهتكم فقد كذبوكم بقولكم إنهم آلهة. أو بقولهم سبحانك ما كان ينبغي لنا على اختلاف قراءتي الخطاب والغيبة. قال جار الله: الباء في الأول كقوله بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ والجار والمجرور بدل من كاف الخطاب كأنه قيل: فقد كذبوا بما تقولون. وفي الثاني كقولك «كتبت بالقلم» . فَما تَسْتَطِيعُونَ أنتم يا كفار أو فما يستطيع آلهتكم على القراءتين صرف العذاب عنكم. وقيل: الصرف التوبة لأنها تصرف العاصي عن فعله.
وقيل: الحيلة من قولهم «إنه ليتصرف» أي يحتال. ثم ذكر وعيد كل ظالم بقوله وَمَنْ يَظْلِمْ الآية. فاستدلت المعتزلة به على وعيد الفاسق وخلوده وذلك أن الفسق ظلم لقوله وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [الحجرات: 11] والإنصاف أنه لا دلالة في الآية على مطلوبهم لأن «من» ليست من صيغ العموم عند بعضهم، ولئن سلم فلعل المراد الأكثر أو أقوام بأعيانهم لقوله مِنْكُمْ ولئن سلم فلعله مشروط بعدم العفو كما أنه مشروط عند المعتزلة بعدم التوبة، ولو سلم الجميع فإذاقة العذاب لا تدل على الخلود. ثم بين بقوله وَما أَرْسَلْنا الآية. أنه لا وجه لقولهم ما لهذا الرسول يأكل الطعام لأن هذه عادة مستمرة من الله في كل رسله. قال الزجاج: الجملة بعد «إلا» صفة لموصوف محذوف والمعنى: وما أرسلنا قبلك أحدا من المرسلين إلا آكلين وماشين. وإنما حذف لأن في قوله مِنَ الْمُرْسَلِينَ دليلا عليه نظيره وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] أي وما منا أحد. وقال الفراء: المحذوف هو الموصول والتقدير: إلا من انهم. وقال ابن الأنباري:
المحذوف هو الواو بعد إلا فتكون الجملة حالا كقوله وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر: 4] قوله وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً قال الكلبي والفراء والزجاج: إن هذا في رؤساء المشركين كأبي جهل وغيره وفي فقراء الصحابة كأنه إذا رأى الشريف الوضيع وقد أسلم قبله أنف أن يسلم فأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه دليله قوله تعالى لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11] وعن ابن عباس والحسن أنه في أصحاب البلاء والعافية يقول أحدهم: لم لم أجعل مثله في الخلق والخلق والعلم والعقل والرزق والأجل وغير ذلك يؤيده ما
روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم «ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وويل للشديد من الضعيف وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة وقرأ هذا الآية»
وقال آخرون:
إنه احتجاج عليهم في اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة مع مساواته إياهم في البشرية وصفاتها فابتلى المرسلين بالمرسل إليهم وبمناصبتهم لهم العداوة وأنواع الأذى، وابتلى المرسل إليهم بالتكليف وبذل النفس والمال وصيرورتهم تابعين خادمين بعد أن كانوا متبوعين مخدومين. قالت الأشاعرة: في هذا الجعل إشارة إلى مذهبنا في القدر. وقال الجبائي: هذا(5/227)
الجعل بمعنى التعريف كما يقال فيمن بين أن فلانا لص إنه جعله لصا. قال في الكشاف:
موقع أَتَصْبِرُونَ بعد ذكر الفتنة موقع أيكم بعد الابتلاء في قوله لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك: 2] قلت: أراد أن كلا من الابتلاء والفتنة يستدعي التمييز فيحسن الاستفهام بعده أي يفتنكم ليظهر أنكم تصبرون على البلاء أم لا، ولعل الأظهر أن الاستفهام غير متعلق بالفتنة وإنما هو مستأنف للوعيد كقوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة: 91] ويؤيده قوله وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً عالما بمن صبر ومن لا يصبر فيجازي كلا منهم بحسب ذلك. وقيل:
في الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما عيروه به من الفقر فقد جعل الأغنياء فتنة للفقراء. وقيل:
جعلناك فتنة لهم حين بعثناك فقيرا لتكون طاعة من يطيعك خالصة لوجه الله، ولو كنت غنيا صاحب كنز كما اقترحوا لم يظهر الطائع من المخلص. وقالت الصوفية: أتصبرون يا معشر الأنبياء على ما يقولون ويا معشر الأمم عما يقولون والله أعلم.
تم الجزء الثامن عشر، ويليه الجزء التاسع عشر وأوله: وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا ...(5/228)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44) أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء التاسع عشر من أجزاء القرآن الكريم
[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 50]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30)
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35)
فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40)
وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45)
ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50)(5/229)
القراآت:
تشقق بتخفيف الشين على حذف تاء التفعل وكذلك في سورة «ق» :
عاصم وحمزة وعلي وخلف وأبو عمرو. والآخرون بالتشديد للإدغام. وننزل من الإنزال الملائكة بالنصب: ابن كثير. الباقون وينزل ماضيا مجهولا من التنزيل الْمَلائِكَةُ بالرفع. يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ بفتح ياء المتكلم: أبو عمرو قَوْمِي اتَّخَذُوا بفتح الياء:
أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. وَثَمُودَ بغير تنوين في الحالين:
حمزة وسهل ويعقوب وحفص. الآخرون بالتنوين للمشاكلة، أو بتأويل الحي لا القبيلة، أو لأنه اسم الأب الأكبر. الريح على التوحيد: ابن كثير بُشْراً مذكور في «الأعراف» .
ميتا بالتشديد: يزيد ونسقيه بفتح النون: المفضل والبرجمي الباقون بضمها.
الوقوف:
رَبَّنا ط كَبِيراً هـ ط مَحْجُوراً هـ مَنْثُوراً هـ مَقِيلًا هـ تَنْزِيلًا هـ لِلرَّحْمنِ ط عَسِيراً هـ سَبِيلًا هـ خَلِيلًا هـ إِذْ جاءَنِي ط لأن ما بعده من أخبار الله تعالى ظاهرا، ويحتمل أن يكون من تتمة حكاية كلام الظالم. خَذُولًا هـ مَهْجُوراً هـ الْمُجْرِمِينَ هـ ط وَنَصِيراً هـ واحِدَةً ج على تقدير فرقنا إنزاله كذلك أي كما ترى لنثبت وإن وصلت وقفت على كَذلِكَ والتقدير جملة واحدة كذلك الكتاب المنزل وهو التوراة، ثم أضمرت فعلا أي فرقناه لنثبت. تَرْتِيلًا هـ تَفْسِيراً هـ ط لأن ما بعده مبتدأ جَهَنَّمَ لا لأن ما بعده خبر سَبِيلًا هـ وَزِيراً هـ ج للآية ولفاء العطف بِآياتِنا ط للفاء الفصيحة أي فذهبا وبلغا فعصوهما فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً هـ ط لأن قَوْمَ نُوحٍ منصوب بمحذوف أي وأغرقنا قوم نوح أغرقناهم آيَةً ط لأن ما بعده مستأنف أَلِيماً ج للآية ولاحتمال عطف عاداً على الضمير في جَعَلْناهُمْ واحتمال انتصابه بمحذوف أي وأهلكنا عادا كَثِيراً هـ الْأَمْثالَ ز فصلا بين الأمرين المعظمين مع عطف الجملتين المتفقتين تَتْبِيراً هـ السَّوْءِ ط يَرَوْنَها لا للعطف مع الإضراب. نُشُوراً(5/230)
هـ هُزُواً ط لحق المحذوف أي يقولون أهذا الذي رَسُولًا هـ عَلَيْها ط لانتهاء مقولهم سَبِيلًا هـ هَواهُ ط وَكِيلًا هـ لا للعطف يَعْقِلُونَ هـ ج لابتداء النفي سَبِيلًا هـ الظِّلَّ ج لانتهاء الاستفهام إلى الشرط مع اتحاد المقصود ساكِناً ج للعدول مع العطف دَلِيلًا هـ يَسِيراً هـ نُشُوراً هـ رَحْمَتِهِ ج للعدول طَهُوراً هـ ج لتعلق اللام كَثِيراً هـ لِيَذَّكَّرُوا ز والوصل أولى للفاء كُفُوراً هـ.
التفسير:
هذه شبهة رابعة لمنكري النبوّة وإنهم في قول الكلبي أبو جهل والوليد وأضرابهما، وتقريرها أن الحكيم لا بد أن يختار في مقصده طريقا يكون أسهل إفضاء إليه، ولا شك أن إنزال الملائكة ليشهدوا على صدق محمد أعون على المطلوب، فلو كان محمد صادقا لكان مؤيدا بإنزال الملائكة الشاهدين بصدقه. قال الفراء: معنى لا يَرْجُونَ لا يخافون، والرجاء في لغة تهامة الخوف، وقال غيره: الرجاء على أصله وهو الأمل إلا أن الخوف يلزمه في هذه الصورة فإن من لا يرجو الجزاء والمعاد لا يخاف العقاب أيضا.
واللقاء الوصول لا بمعنى المكان والجهة فإنه تعالى منزه عن ذلك بل بمعنى الرؤية عند الأشاعرة، أو على إرادة الجزاء والحساب عند المعتزلة، وقد مر في أوائل البقرة في قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: 46] ولعل تفسيره بلقاء الجزاء أنسب في هذا المقام لئلا يناقض قوله: أَوْ نَرى رَبَّنا أي جهرة وعيانا فيأمرنا بتصديقه واتباعه اللهم إلا أن يراد: إن الذين لا يرجون رؤيتنا في الآخرة اقترحوا رؤيتنا في الدنيا. قال جار الله: لا يخلو إما أن يكونوا عالمين بأن الله عز وجل لا يرسل الملائكة إلى غير الأنبياء وإنه تعالى لا يصح أن يرى وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون، وإما أن لا يكونوا عالمين بذلك وإنما أرادوا التعنت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت وقامت بها الحجة عليهم كما فعل قوم موسى حين قالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] .
ثم إنه سبحانه أجاب عن شبهتهم بقوله: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه. ثم نسبهم إلى الإفراط في الظلم بقوله وَعَتَوْا ثم وصف العتوّ بالكبر. قال جار الله: اللام جواب قسم محذوف وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية وفيها معنى التعجب كأنه قال: ما أشد استكبارهم وما أكبر عتوّهم! وقال في التفسير الكبير: تحرير هذا الجواب من وجوه أحدها: أن القرآن لما ظهر كونه معجزا فقد تمت دلالة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فبعد ذلك لا يكون اقتراح أمثال هذه الآيات إلا محض الاستكبار والاستنكار. وثانيها أن نزول الملائكة لو حصل لكان أيضا من جملة المعجزات، ولا يدل على الصدق لخصوص كونه بنزول الملك بل لعموم كونه معجزا فيكون قبول ذلك(5/231)
وردّ الآخر ترجيحا لأحد المثلين من غير مرجح. وثالثها أنهم بتقدير رؤية الرب وتصديقه لرسوله لا يستفيدون علما أزيد من تصديق المعجزات، لا فرق بين أن يقول النبي اللهم إن كنت صادقا فأحي هذا الميت فيحييه، وبين أن يقول إن كنت صادقا فصدّقني فتعيين أحد الطرفين محض العناد. ورابعها أن العبد ليس له أن يعترض على فعل مولاه إما بحكم المالكية عند الأشعري أو بحكم المصلحة عند المعتزلي. وخامسها أن السائل الملح المعاند الذي لا يرضى بما ينعم عليه مذموم وإظهار المعجز من جملة الأيادي الجسيمة فرد إحداها واقتراح الأخرى ليس من الأدب في شيء. وسادسها لعل المراد أني لو علمت بأنهم ليسوا مستكبرين عاتين لأعطيتهم مطلوبهم لكني علمت إنهم إنما سألوا لأجل المكابرة والعناد فلا جرم لا أعطيهم. وسابعها لعلهم عرفوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وأنه لا ينزل الملائكة على عوام الخلق، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك فهم مستكبرون ساخرون. واستدلت الأشاعرة بقوله: لا يَرْجُونَ لِقاءَنا على أن رؤية الله مرجوّة.
واستدلت المعتزلة بقوله لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا وَعَتَوْا أن اقتراح الرؤية مستنكر ولا يخفى ضعف الاستدلالين. وانتصب يَوْمَ يَرَوْنَ بإضمار «اذكر» فيكون لا بُشْرى مستأنفا أو بما دل عليه لا بُشْرى أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى بالجنة وبرؤية الحق.
يَوْمَئِذٍ للتكرير وقوله لِلْمُجْرِمِينَ ظاهر في موضع الضمير أو عام فيتناول هؤلاء لعمومه، ولأجل هذا العموم استدلت المعتزلة به على القطع بوعيد كل مجرم وإن كان من أهل القبلة، وحمل الأشاعرة الجرم على الكفر.
أما قوله: حِجْراً مَحْجُوراً فإنها كلمة يتلفظ بها عند لقاء عدوّ أو هجوم نازلة، يضعونها موضع الاستعاذة يقول الرجل للرجل: تفعل كذا؟ فيقول: حجرا. وقد ذكره سيبويه في باب المصادر التي ترك إظهار فعلها نحو «معاذ الله وعمرك الله ومعناه منعا» أي أسأل الله أن يمنع ذلك منعا كما أن المستعيذ طالب من الله عز وجل أن يمنع المكروه.
ووصفه بالمحجور للتأكيد كما يقال «شعر شاعر وجد جده» . والأكثرون على أن القائلين هم الكفار إذا رأوا الملائكة عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون فيقولون ما كانوا يقولونه عند نزول كل شدّة. وقيل: هم الملائكة ومعناه حراما محرّما أي جعل الله الجنة والغفران أو البشرى حراما عليكم. يروى أن الكفار إذا خرجوا من قبورهم قالت الحفظة لهم: حجرا محجورا. وقال الكلبي: الملائكة على أبواب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين: حجرا محجورا. وقال عطية: إذا كان يوم القيامة تأتي الملائكة المؤمنين بالبشرى فإذا رأى الكفار ذلك قالوا لهم: بشرونا فيقولون: حجرا محجورا. ثم أخبر عن وعيد آخر لهم وذلك أنهم كانوا يعملون أعمالا لها(5/232)
صورة الخير من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف وأمثالها مع عدم ابتنائها على أساس الإيمان، فمثلت حالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها بحيث لم يترك منها أثرا وإلا فلا قدوم ولا ما يشبه القدوم، ولتنزهه سبحانه عن الجسمية وصفاتها. قال أهل المعاني: القادم إلى الشيء قاصد له فالقصد هو المؤثر في القدوم فأطلق اسم المسبب على السبب مجازا. وقيل: أراد قدوم الملائكة بأمره إلى موضع الحساب في الآخرة. والهباء ما يخرج من الكوة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار. وقال مقاتل: إنه الغبار الذي يسطع من حوافر الدواب وفي أمثالهم أقل من الهباء شبه عملهم بالهباء في قلته وحقارته. وأكد المعنى بوصف الهباء بالتناثر لأنك تراه منتظما مع الضوء حتى إذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب. والمراد: جعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر ولام الهباء واو بدليل الهبوة بمعناه. ثم ميز حال الأبرار عن حال الفجار بقوله: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ ووجه صحة التفضيل ما بين في قوله: قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ أو التفاوت بين المنزلتين إنما يرجع إلى الموضع والموضع من حيث إنه موضع لا شر فيه، أو هو على سبيل الفرض أي لو كان لهم مستقر كان مستقر أهل الجنة خيرا منه. والمستقر مكان الاستقرار والمقيل المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والاستمتاع بمغازلتهنّ وملامستهنّ كحال المترفين في الدنيا، ولا نوم في الجنة وإنما سمى مكان دعتهم واسترواحهم إلى الحور مقيلا على طريق التشبيه، وفي اختيار لفظ الأحسن دون أن يقول «خير مقيلا» رمزا إلى التحسنات الحاصلة في مقيلهم من حسن الوجوه وملاحة الصور وغير ذلك. قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. وعن سعيد بن جبير: إن الله تعالى إذا أخذ في فصل القضاء قضى بينهم كقدر ما بين صلاة الغداة إلى نصف النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. وقال مقاتل: يخفف الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا ثم يقيلون من يومهم ذلك في الجنة. وحاصل الآية أن أصحاب الجنة من المكان في أطيب مكان ومن الزمان في أحسن زمان. ثم أراد أن يصف أهوال يوم القيامة فقال وَيَوْمَ تَشَقَّقُ أي واذكر يوم تتفتح السماء بسبب غمام يخرج منها وفي الغمام الملائكة فينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. قال الفراء: الباء بمعنى «عن» لأن السماء لا تتشقق بالغمام بل عن الغمام كما يقال: انشقت الأرض عن النبات أي ارتفع التراب عنه عند طلوعه، وقال القاضي: لا يمتنع أن يجعل الله تعالى الغمام بحيث يشقق السماء باعتماده عليها. عن مقاتل: تشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وكذلك تتشقق سماء(5/233)
سماء، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش، ثم ينزل الرب تعالى. قال العلماء: هذا نزول الحكم والقضاء لا نزول الذات. وأما نزول الملائكة مع كثرتهم وصغر حجم الأرض بالقياس إلى السماء فقالوا: لا يبعد أن يوسع الله الأرض عرضا وطولا بحيث تسع كل هؤلاء. ومن المفسرين من قال: الملائكة يكونون في الغمام وهو سترة بين السماء والأرض، والله تعالى فوق أهل القيامة. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: تتشقق كل سماء وينزل سكانها فيحيطون بالعالم ويصيرون سبع صفوف حول العالم. والظاهر أن اللام في الغمام للجنس. ومنهم من قال: هي للعهد والمعهود قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ
وقيل: هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة كما كان لبني إسرائيل في التيه.
ومعنى تَنْزِيلًا توكيد للنزول ودلالة على إسراعهم فيه. قال الزجاج الْحَقُّ صفة الملك أي الملك الثابت الذي لا يزول لِلرَّحْمنِ يومئذ ونظيره مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] ويجوز أن يكون يومئذ تكريرا لقوله وَيَوْمَ تَشَقَّقُ وإعرابهما واحد. والفائدة في تخصيص ذلك اليوم أن يعلم أنه لا مالك فيه سواه لا بالصورة ولا في الحقيقة فيخضع له الملوك وتعنو له الوجوه وتذل رقاب الجبابرة. قالت الأشاعرة: هاهنا لو وجب على الله يومئذ الثواب لاستحق الذم بتركه وكان خائفا أن لا يفعل فلم يكن له الملك على الإطلاق.
وأيضا لو كان العبد مالكا للثواب لم يكن الله تعالى مالكا مطلقا بل يكون عبدا ضعيفا لا يقدر على أن لا يؤدي ما عليه من العوض، أو فقيرا محتاجا إلى أن يدفع الذم عن نفسه بأداء ما عليه؟ وكان ذلك اليوم يوما عسيرا على الكافرين لا على المؤمنين. واللام في الظَّالِمُ ظاهر الاستغراق والشمول أو للجنس. وعن ابن عباس أنه للعهد وذلك
أن الآية نزلت في عقبة بن أبي معيط وكان يكثر مجالسة الرسول صلى الله عليه وسلم فاتخذ ضيافة ودعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأكل من طعامه حتى يأتي بالشهادتين ففعل، وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال: صبأت يا عقبة؟ قال: لا ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له، والشهادة ليست في نفسي. فقال: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه ولم تبزق في وجهه. فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فقتل يوم بدر أمر عليا رضي الله عنه بقتله.
وفي روايات الشيعة أن الظالم هو رجل بعينه وأن المسلمين غيروا اسمه وكتموه وجعلوا فلانا بدلا من اسمه وذكروا فاضلين من الصحابة
وفيه بعد، لأن تغيير القرآن كفر.(5/234)
والعض على اليدين كناية عن الغيظ والحسرة لأنه من لوازم الغيظ والتحسر غالبا ونظيره «سقط في يده وأكل من بنانه» وأمثال ذلك. وقال الضحاك: يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت فلا يزال كذلك كلما أكلها نبتت. قال جار الله: تمنى أن لو صحب الرسول وسلك معه طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم تتشعب به طرق الضلالة والهوى، أو أراد أني كنت ضالا لم يكن لي سبيل قط فليتني حصلت لنفسي في صحبة الرسول سبيلا. وفلان كناية عن الإعلام كما أن الهن كناية عن الأجناس، فإن أريد بالظالم عقبة فالمعنى ليتني لم أتخذ أبيا خليلا فكنى عن اسمه، وإن أريد به الجنس فكل من اتخذ من المضلين خليلا كان لخليله اسم علم فجعله كناية عنه. قلت: زعم بعض أئمة اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلا حكاية. لا يقال: جاءني فلان ولكن يقال: قال زيد جاءني فلان. لأنه اسم اللفظ الذي هو علم لا اسم مدلول العلم ولذلك جاء في كلام الله تعالى: يقول يا ليتني إلخ. والذكر ذكر الله والقرآن أو موعظة الرسول أو نطقه بشهادة الحق وعزمه على الإسلام والشيطان إشارة إلى خليله الذي أضله كما يضله الشيطان، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة.
أو إشارة إلى إبليس وأنه هو الذي حمله على أن صار خليلا لذلك المضل وخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ثم خذله، أو أراد الجنس فيدخل فيه كل من تشيطن من الجن والإنس.
ثم إن الكفار لما أكثروا من الاعتراضات الفاسدة ووجوه التعنت ضاق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشكاهم إلى الله عز وجل وقال يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي يعني قريشا اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أي تركوه وصدّوا عنه وعن الإيمان به.
وعن أبي مسلم أن المراد: وقال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم «من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه» .
وقيل: هو من هجر إذا هذى. والجار محذوف أي جعلوه مهجورا فيه. وعلى هذا فله معنيان: أحدهما أنهم زعموا أنه كلام لا فائدة فيه. والثاني أنهم كانوا إذا سمعوه لغوا فيه. وجوز الكشاف أن يكون المهجور مصدرا بمعنى الهجر كالميسور والمجلود أي اتخذوه هجرا. سؤال: هذا النداء بمنزلة قول نوح رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نوح: 5] فكيف صارت شكاية نوح سببا لحلول العذاب بأمته ولم تصر شكاية نبينا صلى الله عليه وسلم سببا لذلك؟ الجواب أن الكلام بالتمام، وكان من تمام كلام نوح رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] ولم يكن كلام رسولنا إلا مجرد الشكاية ولم يقتض الدعاء عليهم وذلك من غاية شفقته على الأمة وإن بلغ إيذاؤهم(5/235)
إياه الغاية
«ما أوذي نبي مثل ما أوذيت» «1»
هذا مع أنه سبحانه سلاه وعزاه وأمره بالصبر على أذاهم حين قال وَكَذلِكَ جَعَلْنا بين ذلك أن له أسوة بسائر الأنبياء فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبروا، وتمام البحث فيه قد سلف في الأنعام في قوله وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: 112] وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً إلى مصالح الدين والدنيا أو إلى طريق قهرهم والانتصار منهم ونصيرا لك على أعدائك. ثم حكى عنهم شبهة خامسة وهي قولهم: هلا نزل عليه القرآن حال كونه جملة واحدة أي مجتمعا. ومعنى التنزيل هاهنا التعدية فقط لقرينة قوله جُمْلَةً خلاف ما تقرر في أكثر المواضع من إرادة التكثير المفيد للتدريج كما مر في قوله نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران: 3] والقائلون قريش أو اليهود فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله لِنُثَبِّتَ إلخ. وتقريره من وجوه أحدها: أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئا كاتبا بخلاف موسى وداود وعيسى فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزله الله عليه منجما في عشرين سنة. وعن ابن جريج: في ثلاث وعشرين ليكون أقرب إلى الضبط وأبعد عن النسيان والسهو. وثانيها أن الاعتماد على الحفظ أقرب إلى التحصيل من الاعتماد على الكتابة والحفظ لا بد فيه من التدرج. وثالثها إن نزول الشرائع متدرجة أسهل على المكلف منها دفعة. ورابعها أن نزول جبريل ساعة فساعة مما يقوي قلبه ويعينه على تحمل أعباء النبوّة والرسالة. وخامسها أن نزوله مفرّقا يوجب وقوع التحدي على أبعاض القرآن وأجزائه ونزوله جملة يقتضي وقوع التحدي على مجموعه، ولا ريب في أن الأول أدخل في الإعجاز. وسادسها أن نزوله بحسب الوقائع والحوادث أوفق في باب التكاليف والاستبصار وأدل على الأخبار عن الحوادث في أوقاتها. وسابعها أن في تجديد منصب السفارة في كل حين مزيد شرف لجبريل.
وللترتيل معان منها: أنه قدره آية بعد آية ودفعة عقيب دفعة. ومنها التأني في القراءة ومعنى وَرَتَّلْناهُ أمرنا بترتيل قراءته ومنه حديث عائشة في قراءته: لا يسرد كسردكم. هذا لو أراد السامع أن يعدّ حروفها لعدها وهو مأخوذ من ترتيل الأسنان أي تفليجها. يقال: ثغر مرتل ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه. ومنها أنه نزله في مدد متباعدة الأطراف جملتها عشرون سنة ولم يفرقه في مدد متقاربة. ثم ذكر أنهم محجوبون في كل أوان بقوله:
__________
(1)
رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 34. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 11. أحمد في مسنده (3/ 120) بلفظ «ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ... » .(5/236)
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي بسؤال عجيب من أسئلتهم الباطلة الذي كأنه مثل في البطلان إلا ونحن نأتي بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم. قال جار الله: لما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا: تفسير الكلام كيت وكيت كما قيل: معناه كذا وكذا. ووجه آخر وهو أن يراد وَلا يَأْتُونَكَ بحال وصفة عجيبة يقولون هلا كانت صفته وحاله أن ينزل معه ملك أو يلقى إليه كنز أو ينزل عليه القرآن جملة إلا أعطيناك نحن ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا وما هو أحسن بيانا لما بعثت به، ومن جملة ذلك تنزيل القرآن مفرقا منجما فإن ذلك أدخل في الإعجاز كما مر، ثم أوعد هؤلاء الجهلة بأنهم شر مكانا من أهل الجنة والبحث عنه نظير ما مر في صفة أهل الجنة خير مستقرا. قال جار الله: كأنه قيل لهم: إن الذي يحملكم على هذه الأسئلة هو أنكم تضللون سبيله صلى الله عليه وسلم وتحتقرون مكانه ومنزلته، ولو نظرتم بعين الإنصاف وأنتم من المسحوبين على وجوهكم إلى جهنم لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه وسبيلكم أضل من سبيله.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث: ثلث على الدواب وثلث على وجوههم وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا» .
ثم ذكر طرفا من قصص الأولين على عادة افتنانه في الكلام تنشيطا للأذهان وتسلية لنبيه كأنه قال: لست يا محمد بأول من أرسلناه فكذب وآتيناه الآيات فردّ بل آتينا موسى التوراة وقويناه بأخيه ومع ذلك كذب ورد. ومعنى الوزير تقدم في «طه» . والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضا. ولاشتراكهما في النبوة قيل لهما اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إن حملناه على تكذيب آيات الإلهية فظاهر، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة فاللفظ ماض والمعنى على الاستقبال على عادة إخبار الله تعالى. ويجوز أن يراد إلى القوم الذين آل حالهم إلى أن كذبوا فدمرناهم، وعلى هذا فلا حذف. والتدمير الإهلاك وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ بأن كذبوه وكذبوا من قبله من الرسل صريحا كأنهم لم يروا بعثة الرسل أصلا كالبراهمة، أو لأن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب كلهم أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ أي إغراقهم وقصتهم لِلنَّاسِ آيَةً محل اعتبار وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ وهم قوم نوح أو لكل من سلك سبيلهم في التكذيب. وقصة عاد وثمود مذكورة مرارا، وأما الرس فعن أبي عبيدة أنه البئر غير المطوية، والقوم كانوا من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش، بعث الله عز وجل إليهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، فبيناهم حول الرس انهارت بهم فخسف بهم وبديارهم. وقيل: الرس قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود.
وقيل: هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان ابتلاهم الله بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من(5/237)
الطير سميت بذلك لطول عنقها، وكانت تسكن جبلهم وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة. ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا. وقيل:
هم أصحاب الأخدود والرس عند العرب الدفن يقال: رس الميت: إذا دفن وغيب في الحفيرة. وقيل: الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار وستجيء القصة في سورة يس.
وعن علي رضي الله عنه أنهم قوم يعبدون شجرة الصنوبر رسوا نبيهم في الأرض.
وقيل: هم قوم كانت لهم قرى على شاطىء نهر يقال له الرس من بلاد المشرق، فبعث الله تعالى إليهم نبيا من ولد يهوذا بن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زمانا ثم حفروا بئرا فرسوه فيها وقالوا: نرجو أن يرضى عنا إلهنا، وكان عامة قومهم يسمعون أنين نبيهم يقول: إلهي وسيدي ترى ضيق مكاني وشدة كربي وضعف قلبي فعجل قبض روحي حتى مات، فأرسل الله تعالى ريحا عاصفة شديدة الحمرة وصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقدا وأظلتهم سحابة سوداء فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص.
وروى ابن جرير بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا عبد أسود، ثم عدوا على الرسول فحفروا له بئرا فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه حجرا ضخما، فكان ذلك العبد يحتطب فيتشري له طعاما وشرابا ويرفع الصخرة ويدليه إليه وكان كذلك ما شاء الله فاحتطب يوما فلما أراد أن يحملها وجد نوما فاضطجع فضرب الله على آذانه سبع سنين. ثم انتبه وتمطى وتحول لشقه الآخر فنام سبع سنين، ثم هب فاحتمل حزمته وظن أنه نام ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته فاشترى طعاما وشرابا وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحدا، وكان قومه استخرجوه فآمنوا به وصدقوه وذلك النبي يسألهم عن الأسود فيقولون: لا ندري حاله حتى قبض الله تعالى النبي وقبض ذلك الأسود فقال صلى الله عليه وسلم: إن ذلك الأسود أول من يدخل الجنة.
قلت هذه الرواية إن صحت فلا مدخل لها في المقصود فإن المقام يقتضي أن يكون قوما كذبوا نبيهم فأهلكوا لأجل ذلك.
أما قوله وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ فالمشار إليه ما ذكر من الأمم وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك ومثله قول الحاسب «فذلك كذا» أي فما ذكر من الأعداد مجموعها كذا وَكُلًّا من الأمم والقرون ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ بينا له القصص العجيبة ليعتبروا ويتعظوا وَكُلًّا تَبَّرْنا أهلكنا أشنع الإهلاك حين لم ينجع فيهم ضرب المثل.
والتتبير التفتيت والتكسير. وكُلًّا الأول منصوب بما دل عليه ضربنا له الأمثال وهو أنذرنا أو حذرنا كُلًّا الثاني منصوب ب تَبَّرْنا لأنه ليس بمشتغل عنه بضميره. والضمير في وَلَقَدْ أَتَوْا لقريش، والقرية سدوم من قرى قوم لوط وكانت خمسا، ومطر السوء(5/238)
الحجارة. أَفَلَمْ يَكُونُوا في مرات مرورهم على تلك القرية في متاجرهم إلى الشام يَرَوْنَها بَلْ كانُوا قوما كفروا بالبعث لا يتوقعون نشورا وعاقبة فمن ثم لم ينظروا إلى آثار عذاب الله نظر عبرة وادكار. وَمن جملة كفرهم وعنادهم أنهم إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا محل هزؤ. ثم فسر ذلك الاستهزاء بأنهم يقولون مشيرين إليه على سبيل الاستحقار.
هذا الذي بعثه الله حال كونه رسولا بزعمه. ويجوز أن يكون تسميته رسولا استهزاء آخر من حيث إنه تسليم وإقرار في معرض الجحود والإنكار. وفي هذا جهل عظيم لأنهم إن استحقروا صورته فإنه أحسنهم خلقا وأعدلهم مزاجا مع أنه لم يكن يدعي التميز بالصورة، وإن استهزؤا بالمعنى فبه قد وقع التحدي بظهور المعجز عليه وقامت الحجة عليهم فهم أحق بالاستهزاء منه حين أصروا على الباطل بعد وضوح البرهان على الحق، ولقد شهد عليهم بمضمون هذا التقرير ابن أخت خالتهم إذ قالوا إِنْ كادَ
هي مخففة من الثقيلة واللام في لَيُضِلُّنا هي الفارقة كأنهم سلموا أنه لقوة العقل وسطوع الحجة شارف أن يغلبهم على دينهم ويقلبهم عن طريقتهم لولا فرط لجاجهم وصبرهم على عبادة آلهتهم. أطلقوا المقاربة أوّلا ثم قيدوها بلو لا الامتناعية ثانيا، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم بذل قصارى مجهوده في دعوتهم حتى شارفوا على الإيمان بزعمهم. وحين وصفوه بالإضلال والمضل لا بد أن يكون ضالا في نفسه فكأنهم وصفوه بالضلال فلا جرم أوعدهم الله على ذلك بقوله وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إلى آخر الآية. وإنما يرون العذاب عند كشف الغطاء عن بصر البصيرة. ثم بين إنه لا تمسك لهم فيما ذهبوا إليه سوى التقليد واتباع هوى النفس فقال معجبا لرسوله: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قدم المفعول الثاني للعناية كما تقول: علمت منطلقا زيدا. ثم نفى أن يكون هو حافظا عليهم كقوله: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام: 107] لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 22] قال الكلبي: نسختها آية القتال. عن سعيد بن جبير: كان الرجل يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخد آخر. ثم أضرب عن ذمهم باتخاذ الهوى إلها إلى نوع آخر أشنع في الظاهر قائلا: أم يحسب وهي منقطعة ومعناه «بل» أيحسب وخص أكثرهم بالذكر إما لصون الكلام عن المنع على عادة الفصحاء العقلاء، وإما لأن منهم من كان يعرف الحق إلا أن حب الرياسة يحمله على الخلاف. وإنما نفى عنهم السماع والعقل لانتفاء فائدتهما وأثرهما. وباقي الآية تفسيرها مذكور في آخر الأعراف في قوله أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأنعام: 179] قال جار الله: جعلوا أضل من الأنعام لأنها تنقاد لأربابها التي تعلفها وتعرف المحسن من المسيء وتجذب المنافع وتجتنب المضارّ وتهتدي للمراعي والمشارب، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، ولا يطلبون أعظم المنافع وهو الثواب، ولا يتقون أشد المضارّ وهو العقاب، ولا يهتدون للحق الذي هو(5/239)
المرتع الهنيّ والمشرب الرويّ، قلت: ويحسن أيضا أن يذكر في وجه التفضيل أن جهل الأنعام بسيط غير مضر وجهل هؤلاء مركب مضر. ومنهم من قال: إن الأنعام تسبح لله تعالى بخلاف الكفار.
ثم ذكر طرفا من دلائل التوحيد مع ما فيها من عظيم الأنعام فأولها الاستدلال من أحوال الظل والرؤية إما بمعنى البصر فالمراد: ألم تر إلى صنع ربك أو ألم تر إلى الظل كيف مده ربك. وإما بمعنى العلم وهو ظاهر وذلك أن الظل متغير ولكل متغير موجد وصانع. والخطاب لكل من له أهلية النظر والاستدلال. وللكلام في تفسير الآية مجال إلا أن ملخص الأقوال فيه اثنان: الأول أن الظل أمر متوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة كالكيفيات الحاصلة داخل السقوف الكاملة وأفنية الجدران وهو أعدل الأحوال، لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس والضوء الكامل لقوّته يبهر الحس البصري ويؤذي بالتسخين، ولذلك وصف الجنة به في قوله: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة:
30] ثم إن الناظر في الظل إلى الجسم الملون كأنه لا يشاهد شيئا سوى الجسم واللون، فإذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على الجسم زال ظله فيظهر للعقول أنه كيفية زائدة على ما شاهده أوّلا. فمعنى الآية: ألم تر إلى عجيب صنع ربك كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ أي جعله ممتدا منبسطا على الأجسام. وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً لاصقا بكل مظل. ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ على وجوده دَلِيلًا فلولا الشمس ووقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجودا، لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها: ثُمَّ قَبَضْناهُ أي أزلنا الظل لا دفعة بل يسيرا فإنه كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الإظلال في جانب المغرب شيئا بعد شيء، وفي القبض على هذا الوجه منافع جمة. الثاني أنه سبحانه لما خلق السماء والأرض ألقت السماء ظلها على الأرض ممدودا منبسطا، ولو شاء لجعله ساكنا مستقرا على تلك الحالة، ثم خلق الشمس وجعلها دليلا على ذلك الظل، لأن الظل يتبعها كما يتبع الدليل في الطريق من حيث إنه يزيد بها وينقص ويمتد ويتقلص، ثم لقبض الظل معنيان: أحدهما: انتهاء الإظلال إلى غاية ما من النقصان بالتدريج، وثانيهما قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام النيرة. وقوله إِلَيْنا يؤكد هذا المعنى الثاني فيكون قوله يَسِيراً كما قال ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: 44] الاستدلال الثاني من أحوال الليل والنهار شبه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر، والسبات الراحة قاله أبو مسلم. وذلك أن النوم سبب الراحة ومنه يوم السبت لما جرت به العادة من الاستراحة فيه عند طائفة، وعلى هذا فالنشور بمعنى الانتشار والحركة. قال جار الله: السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة، وعلى هذا(5/240)
فالنشور بمعنى البعث وتكون الآية نظير قوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: 60] عن لقمان أنه قال لابنه: يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر. الاستدلال الثالث قوله وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر وقد مر تفسيره في «الأعراف» وأنه لم قال هاهنا أَرْسَلَ بلفظ الماضي وهناك يُرْسِلُ أما قوله وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً فهو علم بين الفقهاء في الاستدلال به على طهارة الماء في نفسه وعلى مطهريته لغيره حتى فسر الطهور بعضهم- ومنهم أحمد بن يحيى- بأنه الذي يكون طاهرا في نفسه مطهرا لغيره. واعترض عليهم صاحب الكشاف بأن الذي قالوه إن كان شرحا لبلاغته في الطهارة كان سديدا وإلا فليس «فعول» من «التفعيل» في شيء وأقول: إن الزمخشري سلم أن الطهور في العربية على وجهين: صفة كقولك «ماء طهور» أي طاهر، واسم غير صفة ومعناه ما يتطهر به كالوضوء والوقود بفتح الواو فيهما لما يتوضأ به وتوقد به النار، وعلى هذا فالنزاع مدفوع لأن الماء مما يتطهر به هو كونه مطهرا لغيره فكأنه سبحانه قال: وأنزلنا من السماء ماء هو آلة للطهارة ويلزمه أن يكون طاهرا في نفسه. ومما يؤكد هذا التفسير أنه تعالى ذكره في معرض الأنعام فوجب حمله على الوصف الأكمل، ولا يخفى أن المطهر أكمل من الطاهر نظيره وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:
11] .
ولا ضير أن نذكر بعض أحكام المياه المستنبطة من الآية فنقول: هاهنا نظران: الأول أن عين الماء هو طهور أم لا؟ مذهب الأصم والأوزاعي أنه يجوز الوضوء بجميع المائعات، وقال أبو حنيفة: يجوز الوضوء بنبيذ التمر في السفر وتجوز إزالة النجاسة بجميع المائعات المزيلة لأعيان النجاسات. وقال الشافعي وغيره من الأئمة: إن الطهورية مختصة بالماء لما مر في أول المائدة من إيجاب التيمم عند عدم الماء ولو شارك الماء مائع آخر لما أمر بالتيمم إلا بعد إعوازه أيضا ودليله في الخبث
قوله صلى الله عليه وسلم «ثم اغسليه بالماء» .
النظر الثاني في الماء وفيه بحثان: الأول في الماء المستعمل وإنه طاهر عند الشافعي وليس بمطهر في قوله الجديد. أما الأول فلإطلاق الآية وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً والأصل بقاؤه
وللحديث «خلق الماء طهورا»
ولأن السلف كانوا لا يحترزون عن تقاطر ماء الوضوء على ثيابهم وأبدانهم، ولأنه ماء طاهر لقي جسما طاهرا فأشبه ما إذا لاقى حجارة. وأما الثاني
فلقوله صلى الله عليه وسلم «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» «1»
ولو بقي الماء كما كان طاهرا مطهرا
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الطهارة حديث 97. النسائي في كتاب الطهارة باب 38. ابن ماجة في كتاب الطهارة باب 109.(5/241)
لما كان للمنع منه معنى، وكانت الصحابة لا يعتنون بحفظه ليستعملوه ثانيا ولو كان طهورا لحفظوا ما يغنيهم عن التيمم. وقال مالك والسدي: إنه طاهر مطهر لإطلاق الآية والحديث، والأصل بقاء صفته على ما كان عليه.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه بفضل ما في يده.
وعن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل فرأى لمعة في جسده لم يصبها الماء فأخذ شعرة عليها بلل فأمرها على تلك اللمعة،
ولقياس ما انفصل من العضو على ما لم ينفصل منه.
وقال أبو حنيفة: إنه نجس قياسا للنجاسة الحكمية على النجاسة الحقيقية. والمراد باستعمال الماء في المسألة تأدى عبادة الطهارة به أو انتقال المنع إليه فيه وجهان لأصحاب الشافعي، ويتفرع عليه أن المستعمل في الكرة الثانية والثالثة وفي تجديد الوضوء والأغسال المسنونة ليس بطهور على الأول طهور على الثاني. والماء المستعمل في الحدث لا يجوز استعماله في الخبث على الأصح لأنه مائع لا يرفع الحدث فلا يزيل الخبث كسائر المائعات. البحث الثاني الماء المتغير إن تغير بنفسه لطول المكث جاز الوضوء به لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ من بئر بضاعة، وكان ماؤها كأنه نقاعة الحناء. وإن تغير بغيره ولم يتصل به كما لو وقع بقرب الماء جيفة فأنتن الماء فهو أيضا مطهر، وإن اتصل به وكان طاهرا ولم يخالطه كما لو تغير بدهن أو عود أو كافور صلب فهو أيضا مطهر، وإن خالطه فإن لم يمكن صون الماء عنه كالمتغير بالتراب والحمأة والورق المتناثر والطحلب فلا بأس بذلك دفعا للحرج، وكذا لو جرى الماء في طريقه على معدن زرنيخ أو نورة أو كحل وإن أمكن بأن يكون الماء مستغنيا عن جنس ذلك الخليط فإن كان التغير قليلا بحيث لا يضاف الماء إليه أو لا يستحدث اسما جديدا جاز التوضؤ به وإلا فلا خلافا لأبي حنيفة. حجة الشافعي
أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به،
فذلك الوضوء إن كان بالماء المتغير وجب أن لا يجوز إلا به وليس كذلك بالاتفاق بماء غير متغير وهو المطلوب. ولقائل أن يقول: إن هذا إشارة إلى كيفية الوضوء لا إلى كيفية الماء، والمراد أنه تعالى لا يقبل الصلاة بما دون ذلك، وأما الكمال فلا كلام فيه. قال: وأيضا إذا اختلط ماء الورد بالماء فتوضأ الإنسان به يحتمل أن ينغسل بعض الأعضاء بماء الورد لا بالماء فيكون الحدث يقينا والطهر مشكوكا فيه والشك لا يرفع اليقين، وهذا بخلاف ما إذا كان قليلا لا يظهر أثره فإنه كالمعدوم. وأيضا الوضوء تعبد لا يعقل معناه ولهذا لو توضأ بماء الورد لم يصح وضوءه، ولو توضأ بالماء الكدر والمتعفن صح وضوءه وما لا يعقل معناه وجب الاعتماد فيه على مورد النص. حجة أبي حنيفة إطلاق الآية وقوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] وقوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً [النساء: 43] وهذا الشخص غسل ووجد الماء ولأنه صلى الله عليه وسلم أباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن(5/242)
خالطهما شيء من لعابهما، ولأنه لا خلاف في جواز الوضوء بماء السيول وإن تغير لونها إلى ألوان ما تمر عليها في الصحاري من الحشائش وغيرها. هذا كله إذا كان الخليط طاهرا، فإن كان نجسا فمذهب الحسن البصري والنخعي ومالك وداود وإليه الغزالي في الإحياء أن الماء لا ينجس ما لم يتغير بالنجاسة، سواء كان الماء كثيرا أو قليلا. ومذهب أبي حنيفة أن الماء ينجس باستعماله في البدن لأداء عبادة. وتيقن مخالطة النجاسة أو غلبتها على الظن سواء تغير أحد أوصافه الثلاثة أو لم يتغير. قال أبو بكر الرازي: ولا يختلف على هذا الحد ماء البحر وماء البئر والغدير والراكد والجاري لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة وكذلك الماء الجاري. قال: وأما اعتبار أصحابنا للغدير الذي إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر فإنما هو كلام في وجه يغلب على الظن عدم بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى الطرف الآخر، وليس كلاما في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعماله وبعضها لا يجوز استعماله.
ومن الناس من فرق بين القليل والكثير ثم اختلفوا في حد الكثير: فعن عبد الله بن عمر: إذا كان الماء أربعين قلة لم ينجسه شيء وقال سعيد بن جبير: الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال. وقال الشافعي: إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه. وقد ينصر من المذاهب قول مالك لوجوه منها: قوله وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ترك العمل به في الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه لظهور النجاسة فيه،
ولقوله «خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» «1»
فبقي ما عداه على الأصل. ومنها قوله تعالى: فَاغْسِلُوا والمتوضئ بهذا الماء قد غسل أعضاءه ولا سيما إذا كانت النجاسة مستهلكة فيه لا يظهر عليه آثارها وخواصها من الطعم أو اللون أو الريح. ومنها أن عمر توضأ من جرة نصرانية مع أن نجاسة أوانيهم غالبة على الظن، فدل ذلك على أنه لم يعول إلا على عدم التغير. ومنها أن تقدير الماء بمقدار معلوم لو كان معتبرا كالقلتين عند الشافعي وعشر في عشر عند أبي حنيفة، لكان أولى المواضع بذلك مكة والمدينة لأنه لا تكثر المياه هنالك لا الجارية ولا الراكدة، ولم ينقل أنهم خاضوا في تقدير المياه ولا أنهم سألوا عن كيفية حفظها، وكانت أوانيهم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات، وكانوا لا يمنعون الهرة من شرب الماء وقد أصغى لها الإناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا يرون أنها تأكل الفأرة، ولم يكن في بلادهم حياض تكرع
__________
(1)
رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 67. بلفظ «لا بأس بالماء ما لم يغيره طعم أو ريح» .(5/243)
السنانير فيها. ومنها أن الشافعي نص على أن غسالة النجاسة طاهرة إذا لم تتغير بنجس، وأي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورود عليها أو بورودها عليه، وأي معنى لقول القائل: إن قوة الورود تدفع النجاسة مع أن قوة الورود لم تمنع المخالطة؟ ومنها أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة. وقال الشافعي: إذا وقع بول في ماء جار ولم يتغير جاز الوضوء به. وأيّ فرق بين الجاري والراكد؟ والتعويل على قوة الماء بسبب الجريان ليس أولى من التعويل على عدم التغير. ومنها أنه لو وقعت نجاسة في قلتين فكل كوز يؤخذ منه فهو طاهر عنده، ومعلوم أن البول ينتشر فيه وهو قليل فأي فرق بينه إذا وقع ذلك البول في ذلك القدر من الماء ابتداء وبينه إذا وصل إليه عند اتصال غيره به؟. ومنها أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ منها المتقشفون مع علمهم بأن الأيدي والأواني الطاهرة والنجسة كانت تتوارد عليها، ولو كان التقدير بالقلتين وغير ذلك معتبرا لاشتهر وتواتر. ومنها أن النصوص في التقدير متخالفة أما تقدير أبي حنيفة بالعشر في العشر فمجرد تحكم، وأما تقدير الشافعي بالقلتين بناء على
قوله صلى الله عليه وسلم «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا» «1»
فضعيف. لأن راويه مجهول، فإن الشافعي لما روى هذا الخبر قال: أخبرني رجل. فيكون الحديث مرسلا والمرسل عنده ليس بحجة. سلمناه ولكن القلة مجهولة فإنها تصلح للكوز وللجرة ولكل ما يقل باليد وهي أيضا اسم لهامة الرجل ولقلة الجبل. سلمنا لكن في متن الخبر اضطراب،
فقد روي «إذا بلغ الماء قلتين» «2»
وروي «إذا بلغ قلة»
وروي «أربعين» «وإذا بلغ كرين»
سلمنا صحة المتن لكنه متروك الظاهر لأن قوله «لم يحمل خبثا» لا يمكن إجراؤه على ظاهره، فإن الخبث إذا ورد عليه فقد حمله. سلمنا إجراءه على الظاهر لكن الخبث لغوي وشرعي وحمله على اللغوي لكونه حقيقة أولى، فمعنى الحديث أن لا يصير مستقذرا طبعا. ونحن نقول: بموجبه لكن لم قلتم: إنه لا ينجس شرعا؟ سلمنا أن المراد هو الخبث الشرعي لكن لم لا يجوز أن يكون معنى
قوله «لم يحمل خبثا»
أنه يضعف عن حمله أي يتأثر به؟ أجاب بعض الشافعية عن هذه المنوع بأن كثيرا من المحدثين عينوا اسم الراوي في حديث القلتين، فإن يحيى بن معين قال: إنه جيد الإسناد. فقيل له:
إن ابن علية وقفه على ابن عمر. فقال: إن كان ابن علية وقفه فحماد بن سلمة رفعه. وقوله «القلة مجهولة» غير مسلم لأن ابن جريج قال في روايته: بقلال هجر. ثم قال: وقد شاهدت
__________
(1، 2) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 33. الترمذي في كتاب الطهارة باب 50. النسائي في كتاب الطهارة باب 43. ابن ماجة في كتاب الطهارة باب 75. الدارمي في كتاب الوضوء باب 55. أحمد في مسنده (2/ 23، 27) .(5/244)
قلال هجر وكانت القلة تسع قربتين وشيئا. وإذا كانت هذه الرواية معتبرة فقط لم يكن في متن الحديث اضطراب، وحمل الخبث على الشرعي أولى لأن المسألة شرعية وتفسير عدم حمل الخبث بالتأثر تعسف لأنه صح
في بعض الروايات «إذا كان الماء قلتين لم ينجس» «1»
ولأنه لا يبقى لذكر القلتين حينئذ فائدة لأن ما دون القلتين أيضا بتلك المثابة، وزيف بأنه بعد التصحيح يوجب تخصيص عموم الكتاب والسنة الظاهرة البعيدة عن الاحتمال بمثل هذا الخبر المجمل. حجة من حكم بنجاسة الماء الذي خالطه نجاسة كيف كانت قوله تعالى:
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف: 157] وقوله إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ [النحل: 115] وقال في الخمر رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [المائدة: 90] حرم هذه الأشياء مطلقا ولم يفرق بين حال انفرادها وحال اختلاطها بالماء، فوجب تحريم استعمال كل ماء تيقنا فيه جزءا من النجاسة. وأيضا الدلائل التي ذكرتموها مبيحة ودلائلنا حاظرة والحاظر غالب على المبيح بدليل أن الجارية المشتركة لا يحل لواحد منهما وطؤها وأيضا
قال صلى الله عليه وسلم «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة» «2»
أطلق من غير فرق بين القليل والكثير. أجاب مالك بأنه لا نزاع في تحريم استعمال النجاسات، لكن الكلام في أنه متى ما لم يتغير فليس للنجاسة أثر لأنها انقلبت عن صفتها فكأنها معدومة والنهي عن البول في الماء لتنفر الطبع أو للتنزيه لا للتحريم.
واعلم أنه سبحانه بين في سورة الأنفال أن من غاية إنزال الماء من السماء تطهير المكلفين به حين قال: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: 11] ففي وصفه هاهنا بكونه طهورا إشارة إلى ذلك. ثم رتب على الإنزال غايتين أخريين. أولاهما تتعلق بالنبات، والثانية بالحيوان الأعجم فالناطق. وفي هذا الترتيب تنبيه على أن الكائنات تبتدئ في الرجوع من الأخس إلى الأشرف، وفيه أن الغرض من الكل هو نوع الإنسان مع أن حياة الأناسي بحياة أرضهم وأنعامهم. قال مَيْتاً مع قوله بَلْدَةً بالتأنيث لأن «فيعلا» غير جار على الفعل فكأنه اسم جامد وصف به، أو بتأويل البلد والمكان. والأناسيّ جمع أنسي أو جمع إنسان على أن أصله أناسين فقلبت النون ياء. و «فعيل» قد يستوي فيه الواحد
__________
(1) المصدر السابق.
(2) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 68. مسلم في كتاب الطهارة حديث 95، 96. الترمذي في كتاب الطهارة باب 51. النسائي في كتاب الطهارة باب 45. الدارمي في كتاب الوضوء باب 45.
أحمد في مسنده (2/ 259، 265) .(5/245)
والجمع فلهذا لم يقل وأناسي كثيرين ومثله وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً. أسئلة أوردها جار الله مع أجوبتها: الأول: أن إنزال الماء موصوفا بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة الإحياء والسقي كما تقول: حملني الأمير على فرس جواد لأصيد به الوحش. الجواب لما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصفه بالطهور إكراما لهم وتتميما للمنة عليهم وإشارة إلى أن من حق استعمال الماء في الباطن والظاهر أن يكون طاهرا غير مخالط لشيء من القاذورات. قلت: قد قررنا فائدة هذا الوصف بوجه آخر آنفا.
السؤال الثاني: لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان المنتفع بالماء؟ الجواب لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام، ولأنها قنية الإنسان وعامة منافعه متعلقة بها فسقيها إنعام عليه. الثالث: ما معنى تنكير الأنعام والأناسي ووصفهم بالكثرة؟ الجواب لأن بعض الأنعام والأناسي الذين هم بقرب الأودية والأنهار العظام لا يحتاجون إلى ماء السماء احتياجا بينا، ولمثل هذا نكر البلدة في قوله بَلْدَةً مَيْتاً قوله سبحانه وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ الأكثرون على أن الضمير عائد إلى ما ذكر من الدلائل أي كررنا أحوال الإظلال وذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر في القرآن وفي سائر الكتب السماوية ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها. وقال آخرون: إنه يرجع إلى أقرب المذكورات وهو المطر أي صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتباينة من وابل وطل وغير ذلك فأبوا إلا كفورا وأن يقولوا: مطرنا بنوء كذا استقلالا. فإن جعلوا الأنواء كالوسائط والأمارات فلا بأس. والنوء سقوط نجم من المنازل الثمانية والعشرين للقمر في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه وهو نجم آخر في المشرق يقابله من ساعته في كل ليلة إلى ثلاثة عشر يوما وهو أكثر، أو إلى أربعة عشر وهو أقل. والعرب تضيف الأمطار والحر والبرد إلى الساقط منها أو إلى الطالع. فإذا مضت مدة النوء ولم يحدث شيء من مطر وغيره يقال:
خوى نجم كذا أي سقط ولم يكن عنده أثر علوي. عن ابن عباس: ما من عام أقل مطرا من عام ولكن الله عز وجل قسم ذلك بين عباده على ما يشاء وتلا هذه الآية. ويؤيد هذا التفسير تنكير البلدة والأنعام والأناسي. قال الجبائي: في قوله لِيَذَّكَّرُوا دليل على أنه تعالى أراد من الكل التذكر والإيمان. وفي قوله فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ دلالة على أن المكلف له قدرة على الفعل والترك إذ لا يقال للزمن مثلا إنه أبى أن يسعى. وقال الكعبي: الضمير في بَيْنَهُمْ لكل الناس فيكون الأكثر داخلا في ذلك العام إذ لا يجوز أن يقال: أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلا كفورا. وعند هذا يظهر أنه أراد من جميع المكلفين أن يؤمنوا ويعتبروا ومعارضة الأشاعرة معلومة.(5/246)
التأويل:
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ سماء القلب عن غمام البشرية وهو يوم سعادة الطالبين الصادقين، ونزل ملائكة الصفات الروحانية الْمُلْكُ الحقيقي يَوْمَئِذٍ لِلرَّحْمنِ إذ لم يبق غيره ورجع الكل إليه وذلك مقام الوحدة والفناء في الله والبقاء به:
وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً إذ لم يبق من صفات النفوس الكافرة وحظوظها أثر ولا عين: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ نفسه وهو المشرك شركا ظاهرا أو خفيا عَلى يَدَيْهِ والآية حكمها عام في كل متحابين اجتمعا على معصية الله تعالى. وعن مالك بن دينار: إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل كل الخبيص مع الفجار. لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ بأن نخلق قلبك بقلب القرآن وكان بذر التوحيد أوقع في قلب النبي صلى الله عليه وسلم في سر أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] وكان يتربى بما أنزل عليه بل على قلبه منجما، فلما أورق كان ورقه الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [الرحمن: 1] فلما أزهر كان زهره فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم: 10] فلما أثمر كانت ثمرته فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19] يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ لأن توجههم إلى أسفل سافلي الطبيعة فيحشرون منكوسين إلى جهنم البعد عن الحضرة أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ فيه أن نبينا صلى الله عليه وسلم رآه وقد قال لموسى لَنْ تَرانِي [الأعراف: 143] وذلك لبقاء أنانيته كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ عالم الأجسام وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً في كتم العدم ثُمَّ جَعَلْنَا شمس عالم الأرواح على وجود ذلك الظل دليلا بأن كانت محركة لها إلى غاياتها المخلوقة هي لأجلها، فعرف من ذلك أنه لولا الأرواح لم تخلق الأجساد ولم تتكون بالأجسام. وفي قوله: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا إشارة إلى أن كل مركب فإنه سيحل إلى بسائطه إذا حصل على كماله الأخير. وبوجه آخر الظل ما سوى نور الأنوار يستدل به على صانعه الذي هو شمس عالم الوجود وهذا شأن الذاهبين من غيره إليه. وفي قوله ثُمَّ جَعَلْنَا إشارة إلى مرتبة أعلى من ذلك وهي الاستدلال به على غيره كقوله:
أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت: 53] وهذه مرتبة الصديقين. وقوله ثُمَّ قَبَضْناهُ كقوله كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ [القصص: 88] أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ وبوجه آخر الظل هو حجاب الذهول والغفلة والشمس شمس التجلي المعروفة من أفق العناية عند صباح الهداية: وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ دائما لا يزول وإنما يستدل على الذهول بالعرفان. وفي قوله: ثُمَّ قَبَضْناهُ إشارة إلى أن الكشف التام يحصل بالتدريج عند انقضاء مدة التكليف.
ثم بين حكمة الإظلال بقوله: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ليلة البشرية لِباساً كيلا تحترقوا بدوام شمس تجلي الربوبية، وجعل ليوم الغفلة راحة بعد سطوة التجلي، وجعل نهار العرفان نشورا أي حياة بنور الربوبية وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رياح الإشراق على قلوب الأحباب فتزعجها عن المساكنات عند الستر فلا تستقر إلا بالكشف والتجلي وَأَنْزَلْنا من سماء(5/247)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60) تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
الكرم ماءً حياة العرفان الذي يطهر قلوب المشتاقين عن الجنوح إلى المساكنات وما يتداخلها في بعض الأوقات من الغفلات لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً القلوب الميتة عن نور الله بنور الله وَنُسْقِيَهُ من جملة مخلوقاتنا من هو على طبع الأنعام لغلبة الصفات الحيوانية عليه فيسقي زرع إيمانه بماء الرحمة والذكر كما
قال صلى الله عليه وسلم «لا إله إلا الله تنبت الإيمان في القلب كما ينبت الماء البقلة»
ونسقيه من الأنس من سكن إلى رياض الأنس يفطمه به عن مراضع الإنسانية إلى المشارب الروحانية، ويطهره عن وصمة الملاحظات ويذيقه طعم المكاشفات.
وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ الذي هو ماء حياة القلوب بينهم لِيَذَّكَّرُوا به أيام جوار الحق وأوطانهم الحقيقية فَأَبى أَكْثَرُ الناسين تلك المعاهدة والمشاهدة إِلَّا كُفُوراً بنعمة القرآن وما عرفوا قدرها والله المستعان وإليه المآب.
[سورة الفرقان (25) : الآيات 51 الى 77]
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)
وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60)
تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65)
إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70)
وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75)
خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)(5/248)
القراآت:
ملح بفتح الميم وكسر اللام كحذر أو لأنه مقصور مالح وكذلك في «فاطر» : قتيبة يأمرنا على الغيبة: حمزة وعلي سرجا بضمتين: حمزة وعلي وخلف.
أَنْ يَذَّكَّرَ من الذكر: حمزة وخلف. يَقْتُرُوا بضم التاء: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى المفضل، وبضم الياء وكسر التاء من الإقتار: أبو جعفر ونافع وابن عامر والمفضل.
الباقون بفتح الياء وكسر التاء. يُضاعَفْ وَيَخْلُدْ بالرفع فيهما من المضاعفة ومن الخلود: أبو بكر وحماد مثله، ولكن يخلد مجهولا من الإخلاد: المفضل يضاعف بالتشديد والرفع وَيَخْلُدْ بالرفع من الخلود: ابن عامر مثله ولكن بالجزم فيهما: ابن كثير ويعقوب وزيد. الآخرون كالأول ولكن بالجزم فيهما. فيهي بإشباع الكسرة: ابن كثير وحفص: يبدل من الإبدال: البرجمي وذريتنا على التوحيد: أبو عمرو وعلي وخلف وعاصم والمفضل: وَيُلَقَّوْنَ بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف من اللقاء: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من باب التفعيل.
الوقوف:
نَذِيراً هـ والوصل أولى للفاء كَبِيراً هـ أُجاجٌ ج لعطف الجملتين المتفقتين مع العارض مَحْجُوراً هـ وَصِهْراً هـ قَدِيراً هـ وَلا يَضُرُّهُمْ ط ظَهِيراً هـ وَنَذِيراً هـ سَبِيلًا هـ بِحَمْدِهِ ط خَبِيراً هـ ج لأن الذي يصلح صفة للحي والوقف على العرش على تقدير هو الرحمن إذ لا وقف عليه أيضا بناء على أن الرَّحْمنُ بدل من المستتر في اسْتَوى ويصلح أن يكون الَّذِي مبتدأ والرَّحْمنُ خبره خَبِيراً هـ وَمَا الرَّحْمنُ هـ قد قيل: ولا وجه له لأن الكل مقول قالوا نُفُوراً هـ سجدة مُنِيراً هـ شُكُوراً هـ سَلاماً هـ وَقِياماً هـ جَهَنَّمَ ق قد قيل: والوصل أولى لاتحاد القائل غَراماً هـ كذلك وَمُقاماً هـ قَواماً هـ وَلا يَزْنُونَ ج للشرط مع واو العطف أَثاماً هـ لمن قرأ يُضاعَفْ بالرفع على الاستئناف دون الجزم على إبدال الجملة من الجملة لتقارب معنييهما مُهاناً هـ لا وقد يوقف على جعل إلا بمعنى «لكن»(5/249)
والوصل أولى لأن «لكن» تقتضي الوصل أيضا حَسَناتٍ ط رَحِيماً هـ مَتاباً هـ الزُّورَ هـ لا كِراماً هـ وَعُمْياناً هـ إِماماً هـ وَسَلاماً هـ لا لاتصال الحال فِيها ط وَمُقاماً هـ دُعاؤُكُمْ ج لاختلاف الجملتين لِزاماً هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما قرر سيرة القوم من كفران النعمة وإيذاء النبي أراد تهييج نبيه على استمرار الدعوة. وفي الآية لطف ممزوج بنوع تأديب وإرشاد وفحواه ولو شئنا لخففنا عنك أعباء نذارة جميع القرى، وبعثنا في كل قرية نبيا، ولكن خصصناك برسالة الثقلين إجلالا وتعظيما، فقابل هذا التفضل بالتشدد في الدين ففي أول الآية بيان كمال الاقتدار وأنه لا حاجة به إلى نبي محمدا كان أو غيره، ولكن في مفهوم «لو» دلالة على أنه لم يفعل ذلك بل خصه بهذا المنصب الشريف لكمال العناية به وبأمته، فعليه أن يترك طاعة الكافرين فيما يريدونه عليه مما يوافق أهواءهم. النهي كقولك للمتحرك «لا تسكن» لا كقولك للساكن «لا تسكن» فإنه صلى الله عليه وسلم لم يترك طاعة الله طرفة عين. ثم بالغ في النهي بأن أمره بضدّه قائلا وَجاهِدْهُمْ بِهِ أي بالقرآن أو بترك طاعتهم أو بسبب كونك نذير القرى كلها لأنه لو بعث في كل قرية نذيرا لم يكن على كل نذير إلا مجاهدة قريته. وحين اقتصر على نذير واحد لكل القرى وهو محمد صلى الله عليه وسلم فلا جرم اجتمع عليه تلك المجاهدات كلها فكبر جهاده وعظم وصار جامعا لكل مجاهدة، ثم ذكر دليلا رابعا على التوحيد فقال وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أي خلاهما وأرسلهما متجاورين متلاصقين. يقال: مرجت الدابة أي خليتها لترعى. وسمى الماءين الكثيرين بحرين. والفرات البليغ العذوبة، والتركيب يدل على كسره العطش بخلاف الأجاج وهو الملح فإنه يدل على الشدة والتوهج. وقوله هذا إشارة إلى ما ارتسم في الذهن بعد ذكر البحرين والبرزخ الحائل الذي جعل الله بينهما من قدرته يفصل بينهما ويمنعهما التمازج وَحِجْراً مَحْجُوراً كلمة يقولها المتعوّذ كما قلنا في السورة كأن كل واحد من البحرين يتعوّذ من صاحبه ويقول له هذا القول، ونظيره في سورة الرحمن بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ [الرحمن: 20] فانتفاء البغي ثمة كالتعوّذ هاهنا وكل منهما مجاز في غاية الحسن. سؤال: لا وجود للبحر العذب فكيف ذكره الله تعالى؟ والجواب من وجهين: أحدهما أن في البحار مواضع فيها مياه عذبة يعرفها الملاحون يحمل منها الماء إلى حين الوصول إلى الموضع الآخر. وثانيهما لعل المراد من البحر العذب الأودية العظام كالنيل والفرات وجيحون، ومن البحر الأجاج البحار المشهورة، والبرزخ بينهما الحائل من الأرض ووجه الاستدلال على هذا الوجه أن يقال: العذوبة والملوحة إن كانتا بسبب طبيعة(5/250)
الأرض أو الماء فلا بد من الاستواء وإلا فلا بد من قادر مختار يخص كل واحد من الماءين بصفة مخصوصة. الاستدلال الخامس: من أحوال خلقة الإنسان والماء إما العنصر كقوله:
وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أو النطفة. ومعنى فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أنه قسم البشر قسمين ذوي نسب وذوات صهر، والأول الذكور الذين ينسب إليهم فيقال: فلان وفلانة بنت فلان ومنه أخذ الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
والثاني الإناث التي يصاهر بهن ونحوه قوله عز من قائل فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [القيامة: 39] والأصهار أهل بيت المرأة عن الخليل. قال: ومن العرب من يجعل الصهر من الأحماء والأختان. يقال: صاهرت إليهم إذا تزوّجت فيهم. وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً حين خلق من ماء واحد صنفين مختلفين بل أشخاصا متباينة لا تكاد تنحصر.
ثم عاد إلى تهجين سيرة عبدة الأوثان فقال وَيَعْبُدُونَ الآية. يروى أنها نزلت في أبي جهل المراد بالكافر والأولى حمله على العموم. والظهير المظاهر أي المعاون أي هذا الجنس يظاهر الشيطان على ربه بالشرك والعداوة. والمظاهرة على الرب هي المظاهرة على رسوله أو على دينه، ويجوز أن يكون الظهير جمعا كقوله: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم: 4] والمعنى أن بعض الكفرة مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله جل وعلا.
وقال أبو مسلم: هو من قولهم «ظهر فلان بحاجتي» . إذا نبذها وراء ظهره. والمراد أن الكافر وكفره هين على ربه غير ملتفت إليه. قوله: وَما أَرْسَلْناكَ إلى قوله سَبِيلًا وجه تعلقه بما قبله أن الكفار يطلبون العون على الله وعلى رسوله ولا أجهل ممن استفرغ جهده في إيذاء من يبذل وسعه في إصلاح مهماته دينا ودنيا حتى يبشرهم على الطاعة وينذرهم على المعصية ولا يسألهم على ذلك أجرا إلا أن يشاؤا التقرب بالإنفاق في الجهاد وغيره فيتخذوا به سبيلا إلى رحمة ربهم ونيل ثوابه. ومعنى الاستثناء عن الأجر والتقدير إلا فعل من شاء هو معنى قولك لمن سعيت له في تحصيل مال ما أطلب منك ثوابا على ما سعيت إلا أن تحفظ هذا المال ولا تضيعه، فيكون في تسمية حفظ المال ثوابا. فائدتان: إحداهما قلع شبهة الطمع في شيء من الثواب، والثانية إظهار الشفقة وأنه إن حفظ ماله رضي الساعي به كما يرضى المثاب بالثواب هذا ما قاله جار الله. وقال القاضي: معناه لا أسألكم أجرا لنفسي وأسألكم أن تطلبوا الأجر لأنفسكم باتخاذ السبيل إلى ربكم بالإيمان والطاعة. ولما بين أن الكفار متظاهرون على إيذائه وأمره أن لا يطلب منهم أجرا البتة أمره بأن يتوكل عليه في دفع(5/251)
المضارّ وجلب المنافع ويتمسك بقاعدة التنزيه والتحميد. وفي وصفه ذاته بالحي الذي لا يموت إشارة إلى أن الذي يوثق به في المصالح يجب أن يكون موصوفا بهذه الصفة وليس إلا الله وحده. وعن بعض السلف أنه قرأها فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق وإلا صار ضائعا إذا مات ذلك المخلوق. ثم ختم الآية بما لا مزيد عليه في الوعيد أي لا يحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مجازاتهم. ومعنى كفى به أي حسبك وهذه كلمة يراد بها المبالغة كقولك «كفى بالعلم جمالا وكفى بالأدب مالا» . ثم زاد لعلمه وقدرته مبالغة وبيانا فقال: الَّذِي خَلَقَ إلخ. وقد سبق تفسيره في «الأعراف» وأما قوله فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً ففيه وجوه. قال الكلبي: الضمير في بِهِ يعود إلى ما ذكر من خلق السماء والأرض والاستواء على العرش. والباء من صلة الخبير قدمت لرعاية الفاصلة وذلك الخبير هو الله عز وجل لأن كيفية ذلك الخلق والاستواء لا يعلمها إلا الله سبحانه. وعن ابن عباس أن ذلك الخبير هو جبرائيل. وقال الأخفش والزجاج: الباء بمعنى «عن» فسأل به مثل «اهتم به» واشتغل به وسأل عنه كقولك «بحث عنه وفتش عنه» . قال تعالى سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج: 1] . وقال ابن جرير: الباء زائدة والمعنى فاسأله حال كونه عالما بكل شيء. وجوز جار الله أن تكون الباء تجريدية كقولك «رأيت به أسدا» أي برؤيته.
والمراد فاسأل بسؤاله خبيرا أي إن سألته وجدته عالما به. وقيل: الباء للقسم ولعل الوجه الأول أقرب إلى المراد نظيره وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر: 14] .
ثم أخبر عن قوم أنهم قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ والواو عاطفة وقعت في كلام فحكي كما هو فاحتمل أنهم جهلوا الله سبحانه، واحتمل أنهم عرفوه لكن جحدوه، واحتمل أنهم عرفوه بغير هذا الاسم فلهذا سألوا عنه، ومن هنا ذهب بعضهم إلى تفسير آخر لقوله فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً وهو أن الرحمن اسم من أسماء الله تعالى مذكور في الكتب المتقدمة ولم يكونوا يعرفونه فقيل: فاسأل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب حتى يعرف من ينكره وكانوا يقولون: ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة يعنون مسيلمة. قال القاضي: والأقرب أن المراد إنكارهم لله لا للاسم لأن هذه اللفظة عربية وهم يعلمون أنها تفيد المبالغة في «الأنعام» . ثم إن قلنا: إنهم كانوا منكرين لله فالسؤال عن الحقيقة كقول فرعون وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 23] وإن قلنا: إنهم كانوا مقرين لكنهم جهلوا أنه تعالى سمي بهذا الاسم فالسؤال عن الاسم. ومعنى لِما تَأْمُرُنا للذي تأمرنا بمعنى تأمرنا بسجوده مثل «أمرتك الخير» فاتسع أولا ثم حذف ثانيا. ويجوز أن تكون «ما» مصدرية أي لأمرك لنا ومن قرأ على الغيبة فالضمير لمحمد أو للمسمى بالرحمن كأنهم قالوا هذا القول فيما بينهم.(5/252)
والضمير في زادَهُمْ للمقول وهو اسجدوا للرحمن أي وزادهم أمره نُفُوراً ومن حقه أن يكون باعثا على الفعل والقبول. قال الضحاك: لما رآهم المشركون يسجدون تباعدوا في ناحية المسجد مستهزئين، فمعنى الآية وزادهم سجودهم نفورا. ومن السنة أن يقول الساجد والقارئ إذا بلغ هذا الموضع زادنا الله خضوعا ما زاد للأعداء نفورا. ثم ذكر ما لو تفكروا فيه لعرفوا وجوب السجود للرحمن فقال تَبارَكَ إلخ. فالبروج هي الأقسام الاثنا عشر للفلك وأساميها مشهورة: الحمل والثور والجوزاء إلخ. شبهت بالقصور العالية. واشتقاق البروج لظهوره والسراج الشمس. ومن جمع أراد الشمس والكواكب الكبار والخلفة للهيئة من الخلافة يريد الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر أي جعلهما ذوي خلفة يعقب هذا ذاك وذاك هذا ومثله قوله وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [البقرة: 164] في أحد تفاسيره. وعن ابن عباس جعل كل واحد منهما يخلف صاحبه فيما يحتاج أن يعمل، فمن فاته شيء من وظائف العبادة في أحدهما قضاه في الآخر. وعن مجاهد وقتادة والكسائي يقال لكل مختلفين «هما خلفتان» فالمعنى أن أحدهما أسود والآخر أبيض أو هذا طويل وهذا قصير. ثم بين أن هذه النعمة سبب للتذكر لمن أراد ذلك أو للشكر لمن أراده.
أما التذكر فلدلالة الانتقال والتغير على الناقل والمغير، وأما الشكر فلأن الليل سبب الراحة والسكون والنهار سبب لسهولة التصرف في المعايش. قال بعضهم: معنى «أو» الفاصلة أنه إن كان كافرا تذكر وإن كان مؤمنا شكر. وقيل: أراد ليكونا وقتين للمتذكرين والشاكرين من فاته في أحدهما ورده من العبادة قام به في الآخر. والشكور مصدر كالكفور. ثم أراد أن يختم السورة بوصف عباده المخلصين فقال وَعِبادُ الرَّحْمنِ وهو مبتدأ خبره في آخر السورة أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ أو خبره الَّذِينَ يَمْشُونَ والإضافة إلى الرحمن للتخصيص والتشريف. وقرىء وَعِبادُ جمع عابد وصف سيرتهم مع الخلق بالنهار أوّلا، ثم وصف معاملتهم مع الحق بالليل ثانيا، ثم قسم الوصف الأول إلى نوعين: أحدهما ترك الإيذاء وهو المراد بقوله الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً مصدر وضع للمبالغة موضع الحال أو الصفة للمشي بمعنى هينين أو مشيا هينا والمعنى أنهم يمشون بسكينة ووقار وتواضع لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا، ولذلك كره بعضهم الركوب في الأسواق والمشي في الأسواق دون الركوب سيرة المرسلين قال عز من قائل وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [الفرقان: 20] وثانيهما تحمل الإيذاء وإليه الإشارة بقوله وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ يعني السفهاء وقليلي الأدب قالُوا سَلاماً يعني سلام توديع ومتاركة كسلام إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين قال لأبيه سَلامٌ عَلَيْكَ [مريم: 47] ولا نسخ في الآية على ما زعم الكلبي وأبو العالية من أنها نسخت بآية القتال، فإن الإغضاء عن السفهاء وترك(5/253)
مقابلتهم بسوء الأدب مستحسن عقلا وشرعا، والبيتوتة هي أن يدركك الليل نمت أو لم تنم، وصفهم بإحياء الليل أو أكثره. وقوله لِرَبِّهِمْ إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده أي يبيتون لله على أقدامهم ويفرشون خدودهم ويعفرون جباههم. وقيل: من قرأ شيئا من القرآن في صلاة وإن قل فقد بات ساجدا وقائما. وقيل: هما الركعتان بعد المغرب والركعتان بعد العشاء قاله ابن عباس.
ثم وصفهم بأنهم يقولون في سجودهم وقيامهم رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا الآية. وقال الحسن: خشعوا بالنهار وتعبوا بالليل خوفا من عذاب جهنم. وقوله: غَراماً أي هلاكا وخسرانا ملحا لازما ومنه الغريم لإلحاحه وإلزامه، وفلان مغرم بالنساء إذا كان مولعا بهن.
وسأل ابن عباس نافع بن الأزرق عن الغرام فقال: هو الموجع. وعن محمد بن كعب في غَراماً إنه سأل الكفار عن نعمه فما أدّوها إليه فأغرمهم فأدخلهم النار. وساءَتْ إما بمعنى أحزنت وفيها ضمير اسم إن ومستقر حال أو تمييز، وإما بمعنى بئست وفيها ضمير مبهم يفسره مُسْتَقَرًّا والمخصوص بالذم وهو الرابط أيضا محذوف أي ساءت مستقرا ومقاما هي. والظاهر أن الجملتين من قول الداعين. وجوز جار الله أن يكون من كلام الله، والتعليلان يصح أن يكونا متداخلين بأن يكون قوله إِنَّها ساءَتْ تعليلا لقوله إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً وأن يكونا مترادفين كل منهما تعليل لقوله: رَبَّنَا اصْرِفْ قال المتكلمون:
التعليل الأول إشارة إلى أن عقاب أهل النار مضرة خالصة، والتعليل الثاني إشارة إلى كونها دائمة وقد يفرق بين المستقر والمقام بأن المستقر للعصاة من أهل الإيمان والمقام للكفار الذين لا خلاص لهم منها. ثم وصفهم بالتوسط في الإنفاق والقتر. والإقتار التضييق نقيض الإسراف، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يأكلون طعاما للتنعم واللذة ولا يلبسون ثيابا للجمال والزينة، ولكن ما يسد جوعتهم ويستر عورتهم ويكنهم من الحر والقر. عن عمر: كفى شرها أن لا يشتهي رجل شيئا إلا اشتراه فأكله. ثم بالغ في نسبة إنفاقهم إلى الاعتدال بقوله وَكانَ أي الإنفاق بَيْنَ ذلِكَ قَواماً والمنصوبان يجوز أن يكونا خبرين وأن يكون الظرف خبرا وقَواماً حالا مؤكدة. وقال في الكشاف: يجوز أن يجعل بين ذلك لغوا وقواما مستقرا. ولعل معناه أنه يقوم مقام لفظ المستقر إذا كان متعلقا به في قولك الإنفاق بين ذلك. وقد ذكر مثله في أول «الشعراء» في قوله إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ [الشعراء: 15] والقوام العدل بين الشيئين لاستقامة الطرفين واعتدالهما ونظير القوام من الاستقامة السواء من الاستواء. وقرىء بكسر القاف وهو ما يقام به الحاجة لا يفضل ولا ينقص. وأجاز الفراء أن يكون بَيْنَ ذلِكَ اسم كانَ على أنه مبني لإضافته إلى غير متمكن كما يقال: كان(5/254)
دون هذا كافيا يريد أقل من ذلك، فيكون المعنى وكان الوسط بين ذلك قواما. وضعفه في الكشاف بأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة. وأقول: إذا أريد بالقوام حاق الوسط وبقوله بَيْنَ ذلِكَ أعم منه لم يلزم التكرار.
وعن ابن مسعود قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك.
قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك. فأنزل الله عز وجل تصديقه وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ إلى قوله وَلا يَزْنُونَ
قال جار الله: نفى هذه الأمور الشنيعة عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين تعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم كأنه قيل: والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه. وقيل: إن الموصوف بالصفات المذكورة قد يرتكب هذه الأمور تدينا فبين الله تعالى أن المكلف لا يصير بتلك الخلال وحدها من عباد الرحمن حتى ينضاف إلى ذلك كونه مجانبا لهذه الكبائر، والقتل بغير حق يشمل الوأد وغيره كما مر في سبب النزول وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي المذكور فترك المأمورات أو ارتكب المنهيات. والأثام جزاء الإثم بوزن الوبال والنكال ومعناهما. وقيل: هو الإثم والمضاف محذوف أي يلق جزاء الإثم، وقرأ ابن مسعود أياما بتشديد الياء التحتانية يعني أيام الشدة. ومعنى مضاعفة العذاب لمن ارتكب مخالفة المذكورات أن يعذب على الشرك وعلى المعاصي الأخر جميعا. هذا عند من يرى تعذيب الكفار بفروع الشرائع، والمخالف يدعي أن المشار إليه بقوله ذلِكَ هو قوله وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ قال القاضي: قوله وَيَخْلُدْ فِيهِ أي في ذلك التضعيف أو المضعف ففيه دليل على أن حال الزيادة كحال الأصل في الدوام فيكون عقاب المعصية دائما، وإذا كان كذلك في حق الكافر لزم أن يكون كذلك في حق المؤمن. وأجيب بأن الشيئين قد يكون كل واحد منهما قبيحا ويكون الجمع بينهما أقبح فلا يلزم أن يكون للانفراد حكم الاجتماع. وفي قوله وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إشارة إلى أن العقاب هو المضرة الخالصة الدائمة المقرونة بالإذلال والإهانة كما أن الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالإجلال والتعظيم.
وقوله إِلَّا مَنْ تابَ لا يفهم منه إلا أن التائب لا يضاعف له العذاب ولا يلزم منه أن يكون مثابا فلذلك قال: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة أن هذا التبديل إنما يكون في الدنيا فيبدلهم بالشرك إيمانا، وبقتل المسلمين قتل المشركين، وبالزنا عفة وإحصانا، يبشرهم الله تعالى بأنه يوفقهم لهذه الأعمال الصالحة إذا تابوا وآمنوا وعملوا سائر الأعمال الصالحة. وإنما أفرد التوبة والإيمان بالذكر أوّلا لعلو شأنهما. وقال الزجاج: السيئة بعينها لا تصير حسنة ولكن السيئة تمحى(5/255)
بالتوبة، وتكتب الحسنة مع التوبة، والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السيئات. وذهب سعيد بن المسيب ومكحول إلى ظاهر الآية وهو أنه تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة، وأكدوا هذا الظاهر بما
روي عن أبي هريرة مرفوعا «ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات» .
وقال القاضي والقفال: إنه تعالى يبدل بالعقاب الثواب فذكر السبب وأراد المسبب. ثم عمم الحكم فذكر أن جميع الذنوب بمنزلة الخصال المذكورة أي ومن يترك المعاصي كلها ويندم عليها وأتى بالعمل الصالح فإنه بذلك تائب إلى الله عز وجل متابا مرضيا مكفرا للخطايا. ويجوز أن ترجع الفائدة إلى تخصيص اسم الله أي فإنه تائب متابا إلى الله الذي هو المفيض لكل الخيرات يعرف حق التائبين ويفعل بهم ما يليق بكرمه، ويحتمل أن ترجع الفائدة إلى تنكير متابا. والمتاب المرجع أي يرجع إلى الله مرجعا حسنا أي مرجع، وقيل: هو وعد للتائبين المخلصين فيما مضى بأنه سيوفقهم للتوبة في المستقبل. ثم وصفهم بأنهم لا يشهدون الزور. فإن كان من الشهادة فالمضاف محذوف أي لا يشهدون شهادة الزور، وإن كان من الشهود الحضور فللمفسرين أقوال: فعن قتادة: هي مجالس الباطل. وعن أبي حنيفة: اللهو والغناء. وعن مجاهد: أعياد المشركين. وعن ابن عباس: هي المجالس التي يقال فيها الزور والكذب على الله تعالى وعلى رسوله. والتحقيق أنه يدخل فيه حضور كل موضع يجري فيه ما لا ينبغي كمحاضر الكذابين ومجالس الخطائين وكالنظارة إلى ما لم تسوغه الشريعة، لأن الحضور والنظر إلى تلك المجالس دليل الإهانة وبعث لفاعله عليه لا زجر له عنه. وفي مواعظ عيسى بن مريم «إياكم ومجالسة الخطائين» وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ وهو كل ما ينبغي أن يلغي ويطرح مَرُّوا كِراماً مكرمين أنفسهم عن الخوض فيه مع المشتغلين به.
وأصل الكلمة من قولهم «ناقة كريمة» إذا كانت لا تبالي بما يحلب منها للغزارة، فاستعير للصفح عن الذنب. ويقال: تكرم فلان عما يشينه إذا تنزه وأكرم نفسه عن ذلك. وقيل: إذا سمعوا من الكفار الشتم والأذى أعرضوا. وقيل: إذا ذكروا النكاح كفوا عنه. قال جار الله:
قوله لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها ليس نفيا للخرور ولكنه إثبات له ونفي للصمم والعمى كما تقول:
لا يلقاني زيد مسلما هو نفي للسلام لا للقاء. والمراد أنهم إذا ذكروا بآيات الله أي وعظوا بها ونبهوا حرصوا على استماعها بآذان واعية وعيون باكية لا كالمنافقين الذين يظهرون الحرص الشديد على استماعها وهم كالصم والعميان لا يعونها ولا يبصرون ما فيها فهم متساقطون عليها غير منتفعين بها. قوله مِنْ أَزْواجِنا «من» للبيان وتسمى في علم البيان تجريدية كأنه قيل: هب لنا قرة أعين، ثم فسرت القرة بالأزواج والذرية كقولهم «رأيت منك(5/256)
أسدا» أي أنت أسد. ويجوز أن تكون ابتدائية على معنى هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا لا في الأمور الدنيوية من الجاه والمال والجمال بل في الأمور الأخروية من الطاعة والصلاح. عن محمد بن كعب: ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده مطيعين لله. وعن ابن عباس: هو الولد إذا رآه يكتب الفقه. وقيل: سألوا أن يلحق الله عز وجل بهم أولادهم وأزواجهم في الجنة ليتم لهم سرورهم. وتنكير أعين إما لأنه أراد أعينا مخصوصة هي أعين المتقين ولهذا اختير جمع القلة لأن أعين المتقين قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] وإما لأجل تنكير القرة فإن المضاف لا سبيل إلى تنكيره إلا بتنكير المضاف إليه أي هب لنا منهم سرورا وفرحا. قال الزجاج:
يقال أقر الله عينك أي صادف فؤادك ما يحبه. وقال المفضل: في قرة العين ثلاثة أقوال أحدها: برد دمعها لأنه دليل السرور والضحك كما أن حره دليل الحزن والغم. والثاني قرتها أن تكون مع فراغ الخاطر وذهاب الحزن. والثالث حصول الرضا. وقوله إِماماً في معنى الجمع اكتفى به لدلالته على الجنس ولعدم اللبس كما قال: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر: 67] أو أريد كل واحد منا أو اجعلنا إماما واحدا لاتحاد كلمتنا، أو هو جمع آمّ كصائم وصيام وصاحب وصحاب. وقيل: في الآية دلالة على أن الرياسة يجب أن تطلب ويرغب فيها والأقرب أنهم سألوا الله أن يبلغهم في الطاعة المبلغ الذي يشار إليهم ويقتدى بهم. ومن هنا فسره القفال بأن المراد اجعلنا حجة للمتقين. قالت الاشاعرة: الإمامة في الدين لا تكون إلا بالعلم والعمل فدل ذلك على أن العلم والعمل بل جميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. وقالت المعتزلة: إنهم سألوا من الألطاف ما بها يختارون أفعال الخير إلى أن يصيروا أئمة. وأجيب بأن تلك الألطاف مفعولة لا محالة فيكون سؤالها عبثا. ثم بين جزاء عبادة العباد بقوله أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ أي الغرفات وهي العلاليّ في الجنة فوحد اكتفاء بالجنس. وقيل: الغرفة اسم للجنة. وقوله بِما صَبَرُوا أي بصبرهم على الطاعات وعن الشهوات أو على أذى الكفار وضر الفقر وغير ذلك ولهذا أطلق إطلاقا ليشمل كل مصبور عليه. ثم بين بقوله وَيُلَقَّوْنَ أن تلك المنافع مقرونة بالتعظيم والتحية والدعاء بالتعمير، والسلام دعاء بالسلامة من الآفات وهما من الملائكة أو من الله أو من بعضهم لبعض. ثم ذكر أنه غني عن طاعة الكل وأنه إنما كلفهم لينتفعوا بذلك. قال الخليل: ما أعبأ بفلان أي ما أصنع به كأنه يستقله ويستحقره ويدعي أن وجوده وعدمه سواء. وقال الزجاج:
ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي يريد أيّ وزن يكون لكم عنده؟ والعبء الثقل، و «ما» استفهامية أو نافية، والدعاء إما مضاف إلى المفعول أي لولا دعاؤه إياكم إلى الدين والطاعة، وإما إلى(5/257)
الفاعل أي لولا إيمانكم أو لولا عبادتكم أو لولا دعاؤكم إياه في الشدائد كقوله فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ [العنكبوت: 65] أو لولا شكركم له على إحسانه كقوله ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ [النساء: 147] أو ما يصنع بعذابكم لولا دعاؤكم معه آلهة، أو ما خلقتكم وبي إليكم حاجة إلا أن تسألوني فأعطيكم أو تستغفروني فأغفر لكم. قوله: فَقَدْ كَذَّبْتُمْ أي إذا أعلمتكم أني لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي.
فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً وهو عقاب الآخرة نظيره قول الملك لمن استعصى عليه: إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني فقد عصيت فسوف ترى عقوبتي. والخطاب لجنس الإنس وإذا وجد في جنسهم التكذيب فقد صح الخطاب، والأوجه أن يترك اسم «كان» غير منطوق به ليذهب الوهم كل مذهب من أنواع الإيعاد. وقيل: يكون العقاب لزاما. وعن مجاهد: هو القتل يوم بدر وقد لوزم إذ ذاك بين القتلى لزاما والله تعالى أعلم.
التأويل:
وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فيه كمال القدرة وإن أمر النبوة ليس يتعلق بالقربات والمزاجات بل بمحض المشيئة الأزلية.
ويروى أن موسى عليه السلام سئم الرسالة وتبرم في بعض الأيام فأوحى الله تعالى: في ليلة واحدة إلى ألف من بني إسرائيل فأصبحوا أنبياء، فضاق قلب موسى وغار وقال: يا رب إني لا أطيق ذلك. فقبض الله أرواحهم في ذلك اليوم.
وفيه كمال الحكمة فإن العزة في القلة ومنه تظهر فائدة الخاتمة وعموم رسالته، وفيه تأديب الخواص وعصمتهم عن رؤية الأعمال. فلا تطع كفار النفس وسائر القوى البدنية وَجاهِدْهُمْ بهذا الخلاق جِهاداً كَبِيراً لا تواسيهم بالرخص ولكن يحملهم على العزائم وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ بحر الروح وبحر النفس هذا عَذْبٌ فُراتٌ من الأخلاق الحميدة الربانية وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ من الصفات الذميمة الحيوانية. والبرزخ هو القلب. وفائدة مرج الأجاج هو احتياج الإنسان إلى الأخلاق الذميمة لدفع المضرات الدنيوية والأخروية في مقامها.
وحرام على الروح أن تكون منشأ الأخلاق الذميمة، وعلى النفس أن تكون معدن الأخلاق الحميدة فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً أهل النسب هم الذين صحت نسبتهم إلى عالم الأمر وهو قوله وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: 72] وأهل الصهر هم الذين بقوا في عالم الخلق واختلطوا بالصفات البشرية من الحرص والشهوة والغضب، وأشار إلى هذا الصنف بقوله:
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [يونس: 18] الآية وكان كافر النفس على ربه ظهيرا في إظهار صفة قهره لأنه مظهرها وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً لأهل النسب وَنَذِيراً لأهل الصهر إلا من شاء إلا أجر من شاء أن يتوسل إلى الرب بطاعته إياي وبخدمته لي. ومن هاهنا قال المشايخ:
يصل المريد بالطاعة إلى الجنة وبتعظيم الشيخ وإجلاله إلى الله. وَتَوَكَّلْ أصل التوكل أن(5/258)
يعلم العبد أن الحادثات بأسرها مستندة إلى تكوين الله وتخليقه وهذا القدر من أصول الإيمان وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 23] وما زاد على هذا القدر من سكون القلب وزوال الانزعاج والاضطراب فإنه مقام أرباب الأحوال وأصحاب الكمال.
وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ أي بما حمد به نفسه
كقوله «أنت كما أثنيت على نفسك» «1»
والقديم لا يليق به إلا الحمد القديم وَزادَهُمْ نُفُوراً لأن الرحمن أقبل عليهم بقهره ولو كان أقبل عليهم بلطفه لخضعوا واستكانوا. تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ في سماء القلوب بروج المنازل والمقامات وهي اثنا عشر: التوبة والزهد والخوف والرجاء والتوكل والصبر والشكر واليقين والإخلاص والتسليم والتفويض والرضا وهي منازل الأحوال السيارة شمس التجلي وقمر المشاهدة وزهرة الشوق ومشتري المحبة وعطارد الكشوف ومريخ الفناء وزحل البقاء. وهو الذي جعل ليل السر ونهار التجلي خلفة رعاية لحقوق القلب وحظوظ النفس، إن أراد أن يتعظ عند السر أو أراد شكورا عند التجلي وَعِبادُ الرَّحْمنِ دون الشيطان والدنيا والهوى والنفس يمشون في أرض الوجود عند السير إلى الله هونا لئلا يتأذى بإثارة غبار صفات بشريتهم أحد وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ وهم كل ما سوى الله من الدنيا والآخرة وما فيهما من اللذة والنعيم قالُوا سَلاماً سلام مودّع وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ لا لحظ أنفسهم في الرواح ساجدون وفي الصباح واجدون. وأحسن الأشياء ظاهر بالسجود وباطن في الوجود مزين، ومع هذه الأحوال والمقامات يقفون في موقف الاعتذار والتذلل قائلين رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ القطيعة والبعد إذا أفنوا وجودهم في ذات الله وصفاته لم يبالغوا في الرياضة إلى حد تلف البدن وَلَمْ يَقْتُرُوا في بذل الوجود بالركون إلى الشهوات لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ بأن لا يرفعوا حوائجهم إلى الأغيار، ولا يشوبون أعمالهم بالرياء والسمعة ولا يحبون مع الله غيره وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها بكثرة المجاهدة إلا بسطوات تجلي صفات الحق في مثل هذا القتل حياة أبدية وَلا يَزْنُونَ بالتصرف في عجوز الدنيا بغير إذن الله يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ وهو عذاب النيران وعذاب الحرمان عن نعيم الجنان ومن قرب الرحمن إِلَّا مَنْ تابَ من عبادة الدنيا وهوى النفس. وَآمَنَ بكرامات الأولياء ومقامات الأصفياء وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً هو الإعراض عن غير الله وهو الإكسير الأعظم الذي لو طرح ذرة منه على ملء الأرض سيئة يبدلها إبريز الحسنات. وَمَنْ تابَ
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الصلاة حديث 222. أبو داود في كتاب الصلاة باب 148. النسائي في كتاب قيام الليل باب 51. الترمذي في كتاب الدعوات باب 75. ابن ماجة في كتاب الدعاء باب 3.
الموطأ في كتاب مسّ القرآن حديث 31. أحمد في مسنده (1/ 96، 118) .(5/259)
رجع عن إنانيته إلى هوية الحق وَعَمِلَ صالِحاً بالدوام على هذه الحالة فَإِنَّهُ يَتُوبُ يرجع إِلَى اللَّهِ مَتاباً لا مزيد عليه وهو جذبة ارْجِعِي [الفجر: 28] وحينئذ لا يشهد الزور أي لا يساكن غير الحق. وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ وهو ما سوى الحق لا يلتفت إليه. وإذا ذكر بآيات ربه تأمل فيها حق التأمل ودعا الله بأن يهب له من ازدواج الروح والجسد ومتولداتهما من القلب والنفس وملكات الأعمال الصالحة ما تقر به عين القلب وعين السر وعين الروح أي يتنور بنورها، ويصير إذ ذاك مقتدى للمتقين لمتقي الجسد من مخالفات الشريعة، ولمتقي النفس من الأوصاف الذميمة، ولمتقي الروح عما سوى الله، فيجزى الغرفة في مقام العندية بما صبر في البداية على التكاليف الشرعية، وفي الوسط على تبديل الأخلاق الحميدة بالذميمة، وفي النهاية بإفناء الوجود. ثم أخبر عن استغنائه عن وجود الخلق وعدمهم لولا دعاؤهم إياه بلسان الحاجة في حس العدم، أو لولا دعاؤه إياهم في الأزل بلسان القدرة فَقَدْ كَذَّبْتُمْ حين ادعيتم الغنى عن الصانع فَسَوْفَ يَكُونُ خسران السعادة الأبدية لازما لكم أعاذنا الله منه.(5/260)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22) قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
(سورة الشعراء)
(مكية إلا قوله والشعراء إلى آخرها حروفها 4542 كلمها 1299 آياتها مائتان وسبع وعشرون)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 68]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)
وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24)
قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)
قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34)
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39)
لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44)
فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)
قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54)
وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64)
وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)(5/261)
القراآت:
طسم وما بعده بالإمالة: حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد. وقرأ أبو جعفر ونافع بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب، وقرأ حمزة ويزيد مظهرة النون عند الميم إِنِّي أَخافُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ويضيق ولا ينطلق بالنصب فيهما: يعقوب. أَرْجِهْ مثل ما في «الأعراف» اين لنا بالمد وبالياء.
يزيد وأبو عمرو وزيد وقالون. وقرأ ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد بهمزة ثم ياء، وعن قنبل إِنَّ لَنا على الخبر. الباقون بهمزتين. هشام يدخل بينهما مدة. آمَنْتُمْ بالمد: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب آمَنْتُمْ على الخير:
حفص غير الخزاز. الآخرون أأمنتم بهمزتين. بِعِبادِي إِنَّكُمْ بفتح الياء: نافع وأبو جعفر حاذِرُونَ بالألف: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. الباقون بغير الألف فَأَتْبَعُوهُمْ بالتشديد: زيد عن يعقوب. الباقون بقطع الهمزة وسكون التاء تراءى الجمعان بكسر الراء والهمزة في الوصل: حمزة ونصير وهبيرة في طريق الخزاز. واختلفوا في الوقف فعن الكسائي بكسر الراء والهمزة على وزن «تريعى» وفي رواية أخرى عنه «ترائى» أي تراعى، والمشهور عنه «ترأ» بكسر الراء وفتح الهمزة، وأما حمزة فإنه يقف «ترى» بترك الهمزة وكسر الراء ويمد ويشير إلى موضع الهمزة وهو المصدر. وأما هبيرة فإنه يقف «تريا» بكسر الراء ويشير إلى فتح الهمزة. الباقون(5/262)
يقفون «تراءى» على وزن «تراعى» مَعِي رَبِّي بفتح الياء: حفص.
الوقوف:
طسم هـ الْمُبِينِ هـ مُؤْمِنِينَ هـ خاضِعِينَ هـ مُعْرِضِينَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ كَرِيمٍ هـ لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ الظَّالِمِينَ هـ لا للابدال أو البيان تسجيلا عليهم بالظلم فِرْعَوْنَ ط للعدول عن الأمر إلى الاستفهام يَتَّقُونَ هـ يُكَذِّبُونِ هـ لمن قرأ وَيَضِيقُ بالرفع على الاستئناف هارُونَ ط يَقْتُلُونِ هـ قالَ كَلَّا لا للعطف معنى لا لفظا مُسْتَمِعُونَ هْ عالَمِينَ
هـ لا لتعلق «أن» بَنِي إِسْرائِيلَ ط سِنِينَ هـ الْكافِرِينَ هـ الضَّالِّينَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ إِسْرائِيلَ ط الْعالَمِينَ هـ وَما بَيْنَهُمَا ط لأن جواب الشرط محذوف أي إن كنتم موقنين فلا تكذبوني مُوقِنِينَ هـ تَسْتَمِعُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ لَمَجْنُونٌ هـ وَما بَيْنَهُما ط تَعْقِلُونَ هـ الْمَسْجُونِينَ هـ مُبِينٍ هـ الصَّادِقِينَ هـ مُبِينٌ هـ ج للآية مع العطف لِلنَّاظِرِينَ هـ عَلِيمٌ هـ لا لأن ما بعده صفة بِسِحْرِهِ ق قد قيل: بناء على أن ما بعده قول الملأ لفرعون والجمع للتعظيم، والأصح أنه من تتمة قول فرعون.
تَأْمُرُونَ هـ حاشِرِينَ هـ لا لأن ما يتلوه جواب. عَلِيمٍ هـ مَعْلُومٍ هـ لا للعطف مُجْتَمِعُونَ لا لاتصال المعنى الْغالِبِينَ هـ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ هـ مُلْقُونَ هـ الْغالِبُونَ هـ ما يَأْفِكُونَ هـ للآية وللدلالة على إسراعهم في السجود ساجِدِينَ هـ الْعالَمِينَ هـ وَهارُونَ ط لَكُمْ هـ لَكُمْ هـ للابتداء بأن مع اتحاد القول السِّحْرَ ط للفاء ولام الابتداء فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ هـ لتقدير القسم أَجْمَعِينَ هـ لا ضَيْرَ ط توقية لحق «إن» وإلا فالأصل هو الوصل لأن ما بعده هو القول في الحقيقة كما في «الأعراف» مُنْقَلِبُونَ هـ ج للآية مع اتحاد المقول الْمُؤْمِنِينَ هـ مُتَّبَعُونَ هـ حاشِرِينَ هـ للآية مع أن التقدير بأن هؤلاء قَلِيلُونَ هـ لَغائِظُونَ هـ حاذِرُونَ هـ ط لابتداء الخبر من الله وَعُيُونٍ هـ لا كَرِيمٍ هـ لا لتعلق الكاف كَذلِكَ ط أي كما وعدنا بني إسرائيل إيراثها ثم أخبر عن وقوع الموعود لبني إسرائيل مُشْرِقِينَ هـ لَمُدْرَكُونَ هـ ووجه الوصل الإسراع في تداركهم عن خوف الإدراك كَلَّا ج لاحتمال أن يكون للردع وأن يكون بمعنى حقا سَيَهْدِينِ هـ الْبَحْرَ ط لأجل الفاء الفصيحة أي فضرب فانفلق الْعَظِيمِ هـ الْآخَرِينَ هـ أَجْمَعِينَ هـ الْآخَرِينَ هـ الآية ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ.
التفسير:
قال جار الله: معنى طسم إن آيات هذا المؤلف من الحروف المبسوطة تلك آيات الكتاب المبين وقد مر مثله في أول «يوسف» . والبخع الإهلاك وقد مر في أول «الكهف» . عزاه وعرفه أن غمه وحزنه لا ينفع كما أن وجود الكتاب على بيانه ووضوحه لا(5/263)
ينفع. ثم بين أنه قادر على تنزيل آية ملجئة إلى الإيمان ولكن المشيئة والحكمة تقتضيان بناء الأمر على صورة الاختبار. قال صاحب الكشاف: وجه عطف فَظَلَّتْ على نُنَزِّلْ كما قيل في قوله فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون: 10] كأنه قيل: أنزلنا فظلت. وأقول: الظاهر أن الفاء في فَظَلَّتْ للسببية بدليل عدم المستتر فيه كما في نُنَزِّلْ. ووجه العدول إلى الماضي كما قيل في وَنادى [الأعراف: 48] وَسِيقَ [الزمر: 73] وجه مجيء خاضِعِينَ خبرا عن الأعناق إذ الأعناق تكون مقحما لبيان موضع الخضوع. وأصل الكلام: فظلوا لها خاضعين أي حين وصفت الأعناق بالخضوع الذي هو للعقلاء قيل خاضِعِينَ كقوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] وقيل: أعناقهم رؤساؤهم كما يقال لهم الرؤوس والصدور. وقيل: أراد جماعاتهم. يقال: جاءنا عنق من الناس لفوج منهم. عن ابن عباس: نزلت هذه الآية فينا وفي بني أمية. قال: ستكون لنا عليهم الدولة فتذل لنا أعناقهم بعد صعوبة ويلحقهم هوان بعد عزة. ومعنى ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ قد مر في سورة الأنبياء. نبه سبحانه بذلك على أنه مع اقتداره على أن يجعلهم ملجئين إلى الإيمان حكيم يأتيهم بالقرآن حالا بعد حال رعاية لقاعدة التكليف. ثم ذكر أنه تعالى لا يحدد لهم توجيه موعظة وتذكير إلا جددوا ما هو نقيض المقصود، وذلك النقيض هو الإعراض والتكذيب والاستهزاء وهذا ترتيب في غاية الحسن كأنه قيل حين أعرضوا عن الذكر: فقد كذبوا به وحين كذبوا به فقد خف عندهم قدره حتى صار عرضة للاستهزاء. وهذه درجات من أخذ في الشقاء فإنه يعرض أوّلا، ثم يصرح بالتكذيب ثانيا، ثم يبلغ في التكذيب والإنكار إلى حيث يستهزىء. وفي قوله فَسَيَأْتِيهِمْ وعيد لهم بعذاب بدر أو يوم القيامة وقد مر مثله في أول «الأنعام» . ثم بين أنه مع حكمته في إنزال القرآن حالا بعد حال رحيم يظهر من الدلائل الحسية ما يكفي للمتأمل في باب النظر والاستدلال. والزوج الصنف والكريم نعت لكل ما يرضى ويحمد في بابه منه «وجه كريم» إذا رضي في حسنه وجماله، و «كتاب كريم» مرضي في مبانيه، «ونبات كريم» مرضي فيما يتعلق به من المنافع، فما من نبت إلا وفيه نفع وفائدة من جهة وإن كانت فيه مضرة من جهة أخرى. ويحتمل أن يراد بالكريم النافع منه وتكون المضارّ مسلوبة عنه. قال جار الله: معنى الجمع بين «كم» و «كل» دون أن يقول «كم أنبتنا فيها من زوج كريم» هو أن «كلا» قد دل على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، و «كم» دل على أن هذا محيط مفرط الكثرة. قلت: فالحاصل أن خلق النوع يصدق بخلق فرد واحد منه كما يصدق بخلق أفراد كثيرة. فقوله كُلِّ زَوْجٍ إشارة إلى خلق كل نوع من أنواع النبات، وقوله كَمْ أَنْبَتْنا إشارة إلى كثرة أفراد كل نوع منه وفيه تنبيه على كمال القدرة ونهاية الجود والرحمة ولهذا(5/264)
ختم الكلام بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ الإنبات أو في كل واحد من تلك الأزواج لَآيَةً على الإبداء والإعادة وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ لأن الله تعالى طبع على قلوبهم وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فمن عزته قدر على عقوبتهم ومن رحمته بين لهم الدلائل ليتفكروا ويعتبروا، والرحمة إذا صدرت عن القدرة كانت أعظم موقعا. واعلم أنه سبحانه كرر بعض الآيات في هذه السورة لأجل التأكيد و «التقرير» فمن ذلك أنه كرر قوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً إلى قوله الرَّحِيمُ في ثمانية مواضع: أولها في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، والثانية في قصة موسى، ثم إبراهيم، ثم نوح، ثم هود، ثم صالح، ثم لوط، ثم شعيب. ومن ذلك قوله أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ وهو مذكور في خمسة مواضع: في قصة نوح وهود وصالح ولوط وشعيب. ومن ذلك أنه كرر فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ في قصة نوح وهود وصالح وليس في ذكر النبي صلى الله عليه
وسلم:
ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 109] لذكرها في مواضع من غير هذه السورة. وليس في قصة موسى لأنه رباه فرعون حيث قال أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً ولا في قصة إبراهيم لأن أباه في المخاطبين حيث يقول: إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ [الأنبياء: 52] وهو قد ربّاه فاستحيا موسى وإبراهيم أن يقولا وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وإن كانا منزهين من طلب الأجر.
ثم إنه تعالى أعاد في هذه السورة قصص الأنبياء المشهورين مع أممهم اعتبارا لهذه الأمة، وبدأ بقصة موسى لما فيها من غرائب الأحوال وعجائب الأمور. والنداء المسموع عند الأشعري هو الكلام القديم الذي لا يشبه الحروف والأصوات، وعند المعتزلة وإليه ميل أبي منصور الماتريدي أنه من جنس الحروف والأصوات وأنه وقع على وجه علم به موسى أنه من قبل الله تعالى وقد عرفه أنه سيظهر عليه المعجزات إذا طولب بذلك. قال جار الله:
قوله أَلا يَتَّقُونَ كلام مستأنف فيه تعجيب لموسى من حالهم الشنعاء في قلة خوفهم وكثرة ظلمهم، أو هو حال أدخلت عليه همزة الإنكار. ثم إن موسى خاف أن يكذب عند أداء الرسالة فاستظهر بهارون. وفي قراءة النصب خاف التكذيب المستتبع لضيق الصدر المستلزم لاحتباس اللسان عن الجريان في الكلام، ولعله أراد بهذه الحبسة عقدة في لسانه قبل إجابة دعوته أو بقية يروى أنها بقيت بعد الإجابة كما مر في «طه» . ومعنى فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ أرسل إليه جبريل واجعله نبيا يصدقني في أمري فاختصر الكلام اختصارا. ثم ذكر أن لهم عليه ذنبا فسمى جزاء الذنب ذنبا، أو المضاف محذوف أي تبعة ذنب وهو قود قتل القبطي كما سيجيء تفصيله في سورة القصص. فيمكن أن يقتل قبل أداء الرسالة فلا يتمكن من(5/265)
المقصود، وهذا قد جوزه الكعبي وغيره من البغداديين. وقال الأكثرون: الأقرب من حال الأنبياء أنهم يعلمون إذا حملهم الله تعالى الرسالة أنه يمكنهم من أدائها فلا معنى للخوف من القتل قبل الأداء. نعم لو خاف بعد الأداء جاز وذلك لما جبل عليه طبع الإنسان من التنفر عن القتل فيسأل الله الأمان من ذلك وقد جمع الله له بقوله كَلَّا الكلاءة وبقوله فَاذْهَبا استنباء أخيه كأنه قيل: ارتدع يا موسى عما تظن فاذهب أنت وهارون ومَعَكُمْ ومُسْتَمِعُونَ خبران لأن أو الخبر مُسْتَمِعُونَ ومَعَكُمْ متعلق به. ولا يخفى ما في المعية من المجاز لأن المصاحبة من صفات الأجسام، فالمراد معية النصرة والمعونة، وأما الاستماع فمجاز أيضا وإن كان إطلاق السمع على الله حقيقة لأن الاستماع جار مجرى الإصغاء ولا بد فيه من الجارحة. فحاصل الآية إنا لكما ولعدوّ كما كالناصر الظهير لكما عليه إذا حضر واستمع ما يجري بينكما وبينه. وإنما وحد الرسول في قوله نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
لأنه أراد كل واحد أو أراد الرسول بمعنى المصدر أي ذو رسالة رب العالمين. يقال: أرسلتهم برسول أي برسالة أو جعلا لاتفاقهما واتحاد مطلبهما كرسول واحد. وهاهنا إضمار دل عليه سياق الكلام أي فأتيا فرعون فقالا له ذلك.
يروى أنهما انطلقا إلى باب فرعون فلم يؤذن لهما سنة حتى قال البواب: إن هاهنا إنسانا يزعم أنه رسول رب العالمين. فقال: ائذن له لعلنا نضحك منه. فأديا إليه الرسالة فعرف أنه موسى
فعند ذلك قال أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً أي صبيا وذلك لقرب عهده من الولادة. قيل: مكث فيهم ثلاثين سنة من أول عمره. وقيل: وكز القبطي وهو ابن اثنتي عشرة سنة ففر منهم. والفعلة الوكزة عدد عليه نعمه، ثم وبخه بقتل نفس منهم وسماه كافرا لنعمه بسبب ذلك. وجوز جار الله أن يراد وأنت إذ ذاك ممن يكفر بالساعة فيكون قد افترى على موسى أو جهل أمره لأنه كان يعايشهم بالتقية. وإنما قلنا إنه افتراء أو جهل لأن الكفر غير جائز على الأنبياء ولو قبل النبوة، ويجوز أن يراد أنه من الكافرين بفرعون وإلهيته أو بآلهة كانوا يعبدونها. قال تعالى: وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ [الأعراف: 127] ثم إن موسى ما أنكر تربيته ولكن أنكر الكفر فلم ينسب نفسه إلا إلى الضلال وأراد به الذهاب عن الصواب، أو أراد النسيان أو الخطأ وعدم التدبر في أدبار الأمور. ثم ذكر موهبة ربه في حقه حين فر من فرعون وملئه المؤتمرين بقتله. والحكم العلم بالتوحيد وكمال العقل والرأي، ولا تدخل فيه النبوة ظاهرا لئلا يلزم شبه التكرار بقوله: وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ قال جار الله وَتِلْكَ إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدري ما هي إلا بعد أن فسرت بقوله أَنْ عَبَّدْتَ نظيره قوله وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ [الحجر: 66] والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها عليّ كأنه أبى أن يسمي نعمته إلا نقمة لأن تعبيدهم أي تذليلهم واتخاذهم عبيدا وقصدهم. بذبح أبنائهم صار(5/266)
هو السبب في حصوله عنده وفي تربيته فلهذا قال الزجاج: «أن» مع ما بعده في موضع نصب أي إنما صارت نعمة عليّ لأن عبدت بني إسرائيل إذ لو لم تفعل ذلك لكفلني أهلي ولم يلقوني في اليم ومن هنا قال جار الله: إن قول موسى فعلتها إذن جواب لقول فرعون وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ وجزاء له كأن فرعون قال: جازيت نعمتي بما فعلت. فقال موسى:
فعلتها مجازيا لك وإن نعمتك جديرة بأن تجازى بنحو ذلك الجزاء. وقال الحسن: أراد أنك استعبدتهم وأخذت أموالهم ومنها أنفقت عليّ فلا نعمة لك بالتربية على أن التربية كانت من قبل أمي وعشيرتي ولم يكن منك إلا أنك لم تقتلني. وقيل: أراد أنك كنت تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في الإطعام والكسوة.
واعلم أن للعلماء خلافا في نعمة الكافر فقيل: إنها لا تستحق الشكر لأن الكافر يستحق الإهانة بكفره فلو استحق الشكر لإنعامه لزم الجمع بين الإهانة والتعظيم في حق شخص واحد في وقت واحد. وقيل: لا يبطل بالكفر إلا الثواب والمدح الذي يستحقه على الإيمان، وفي الآية نوع دلالة على كل من القولين. ثم إن موسى حين أدى رسالته من قوله نَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ
قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ وقد سبق مرارا أن كفره احتمل أن يكون كفر عناد وأن يكون كفر جهالة، والذي يختص بالمقام هو أن ما يطلب به حقيقة الشيء وماهيته، وهذا هو الذي قصده فرعون بسؤاله ولم يعرف أن الماهية لا تطلق على ذاته تعالى إذ لا أجزاء لها حدية ولا تقديرية ولا بأي وجه فرض ضرورة انتهاء الكل إليه واستغنائه عن الكل من كل الوجوه، فلا يصح أن يسأل عنه بما هو ولا بكيف هو ولا بأي شيء هو ولا بهل هو، غاية ذلك أن ينبه على وجوده الذي هو أظهر الأشياء بلوازمه وآثاره على وجه يعم الكل كما يقال: إنه رب السموات والأرض وما بينهما، أو بأخص من ذلك بأن يقال مثلا: رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ وهو الاستدلال بالأنفس أو يقال رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما من الجهات المفروضة على السماء من لدن طلوع الكواكب إلى غروبها وبالعكس وهو الاستدلال بالآفاق. وقد راعى في الجواب الأول طريقة اللطف فختم بقوله إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي إن كنتم موقنين بشيء قط فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وجلائه. وخاشنهم في الأخير بقوله إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ حين نسبوه إلى الجنون بعد أن تهكموا به بقوله إِنَّ رَسُولَكُمُ ويمكن أن يراد بقوله وَما بَيْنَهُما ثانيا ما بين المشرق والمغرب من المخلوقات فيكون الفرق بين هذا الاستدلال وبين الأول أن الأول هو الاستدلال بالإمكان على طريقة الحكيم، والثاني هو الاستدلال بالحدوث على طريقة المتكلمين، والأول أقرب إلى اليقين(5/267)
فلهذا قال إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ والثاني أقرب إلى الحس فلهذا قال إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ولما انجر الكلام إلى حد العناد والمخاشنة هدده فرعون بقوله: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ وهذا أبلغ من أن لو قال: «لأسجننك» والمعنى لأجعلنك واحدا ممن عرفت حالهم في سجوني وكان من عادته أن يأخذ من يريد سجنه يطرحه في هوة ذاهبة في الأرض بعيدة العمق فردا لا يبصر فيها ولا يسمع، وحينئذ عدل موسى إلى الحجة الأصلية في الباب وهو ادعاء المعجز المنبئ عن صدقه فقال أَوَلَوْ جِئْتُكَ أي أتفعل فيّ ذلك ولو جئتك بشيء أي جائيا بالمعجزة. وفي قوله إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ إن سلم أنه قاله جدا لا هزلا وجدالا دلالة على ما ركز في العقول من أن دعوى الرسالة إن اقترنت بظهور المعجزة على يده تحقق صدقها. وقد شنع في الكشاف هاهنا أن في أهل القبلة من خفي عليهم ما لم يخف على فرعون حتى جوزوا القبيح عليه سبحانه ولزمهم تصديق الكاذبين بالمعجزات.
وفي التخطئة سهو من وجهين: أحدهما: أنه لا قبيح عند الأشاعرة عقلا. والثاني أنه على تقدير التسليم لا يلزم تجويز كل قبيح وهذا من ذلك للزوم الاشتباه. وباقي القصة سبق نظيرها في «الأعراف» فلنقتصر في التفسير على ما يختص بالسورة. قوله قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ قال في الكشاف: الظرف في محل النصب على الحال. وأقول: الأصوب أن يجعل نعتا للملأ أي الأشراف حوله على طريقة قوله:
ولقد أمرّ على اللئيم يسبني قوله لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ اليوم يوم الزينة وميقاته وقت الضحى كما مر في «طه» .
قوله هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ استبطاء لهم في الاجتماع وحث عليه كقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق إذا أراد أن يحثه على الانطلاق. قوله لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ لم يكن غرضهم اتباع السحرة في دينهم وإنما غرضهم الأصلي أن لا تتبعوا موسى، فساقوا الكلام مساق المجاز لأنهم إذا اتبعوهم لم يكونوا متبعين لموسى. قوله بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ هي من أيمان الجاهلية ولا يصح الحلف في الإسلام إلا بالله تعالى وبصفاته كما مر في «البقرة» و «المائدة» . وقوله فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ لم يسم فاعله وهو الله تعالى في الحقيقة حين ألقى داعية الإيمان في قلوبهم ويجوز أن ينسب إلى ما عاينوا من المعجزات الباهرة ولك أن لا تقدر فاعلا أي خروا. قوله لا ضَيْرَ أي لا ضير علينا فيما يتوعدنا به من القتل.
قوله إِنَّا نَطْمَعُ الطمع في هذا الموضع يحتمل اليقين كقول إبراهيم وَالَّذِي أَطْمَعُ(5/268)
أَنْ يَغْفِرَ لِي
ويحتمل الظن بناء على أن المرء لا يعلم ما يختاره أو يؤل إليه عند الوفاة.
ومعنى أَنْ كُنَّا لأن كنا وكانوا أوّل طائفة مؤمنين من أهل زمانهم أو من قوم فرعون أو من أهل المشهد. قوله: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ تعليل للإسراء أي بنيت تدبير أمركم على أن تتقدموا لو يتبعكم فرعون وجنوده إلى أن يغشاهم من اليم ما يغشاهم. قوله: لَشِرْذِمَةٌ هي الطائفة القليلة. ثم وصفهم بالقلة واختار جمع السلامة ليدل على أن كل حزب منهم في غاية القلة، وذلك بالنسبة إلى عسكره وإلا فهم كثير في أنفسهم. يروى أن فرعون أرسل في أثرهم ألف ألف وخمسمائة ألف ملك مسور مع كل ملك ألف وخرج فرعون في جمع عظيم، وكانت على مقدّمته سبعمائة ألف كل رجل على حصان وعلى رأسه بيضة، وكان قوم موسى إذ ذاك ستمائة ألف وسبعين ألفا. ويجوز أن يريد بالقلة الذلة والحقارة لا قلة العدد. قوله: وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ معناه أنهم لقلتهم لا يبالي بهم ولا يتوقع غلبتهم ولكنهم يفعلون أفعالا لغيظنا كأخذ الحلي وادّعاء الاستقلال والاستخلاص عن ذل الاستخدام ونحن قوم مجموعون كلمة وائتلافا، ومن عادتنا التيقظ والحذر واستعمال الحزم في الأمور. فالحذر المتيقظ وهو يفيد الثبات والحاذر الذي يجدد حذره. وقيل: هو تام السلاح لأنه فعل ذلك حذرا واحتياطا لنفسه، وكل هذه المعاذير لأجل أن لا يظن به العجز وخلاف ما ادّعاه من القهر والتسلط.
وقرىء حادرون بالدال غير المعجمة، والحادر السمين القوي أراد أنهم أقوياء أشدّاء.
فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ أي بساتينهم التي فيها عيون الماء وَكُنُوزٍ الذهب والفضة. قال مجاهد: سماها كنوزا لأنهم لم ينفقوا منها في طاعة الله تعالى. والمقام الكريم المنازل الحسنة والمجالس البهية. وقال الضحاك: المنابر. وقيل: السرر في الحجال. كَذلِكَ يحتمل النصب أي أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفنا، والجر على الوصف أي مقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم، والرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي الأمر كذلك، وعلى هذا فيوقف على كَرِيمٍ. فَأَتْبَعُوهُمْ أي فلحقوهم. ومن قرأ بالتشديد فظاهر.
والإشراق الدخول في وقت الشروق فلما تراءى الجمعان أي رأى قوم موسى قوم فرعون وحصل كل من الفريقين بمرأى للآخر قالَ أَصْحابُ مُوسى خوفا وفزعا إِنَّا لَمُدْرَكُونَ لملحقون. قال موسى تثبيتا لهم وردعا عماهم عليه من الجزع والفزع كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي بالنصرة والمعونة سَيَهْدِينِ سبيل النجاة والخلاص كما وعدني. ثم بين أنه كيف هداه بقوله فَأَوْحَيْنا الآية. ومعنى فَانْفَلَقَ فضرب فانفلق فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ أي كل جزء متفرق منفلق منه كَالطَّوْدِ وهو الجبل العظيم ومع ذلك وصفه بالعظيم وَأَزْلَفْنا ثَمَّ أي قربنا حيث انفلق البحر الْآخَرِينَ وهم قوم فرعون والمقرب منه بنو إسرائيل أو قوم(5/269)
فرعون أيضا أي أدنينا بعضهم من بعض وجمعناهم حتى لا ينجو منهم أحد، ويجوز أن يراد قدمناهم إلى البحر. وقرىء وأزلقنا بالقاف أي أزللنا أقدامهم حسا بأن لم يكن لهم البحر يبسا كما كان لبني إسرائيل، أو عقلا أي أذهبنا عزهم. والبحر بحر القلزم أو بحر من وراء مصر يقال له أساف. قالت الأشاعرة: إنه تعالى أضاف الإزلاف إلى نفسه مع أن اجتماعهم في طلب موسى كفر. أجاب الجبائي بأن قوم فرعون تبعوا بني إسرائيل وبنو إسرائيل إنما فعلوا ذلك بأمر الله تعالى، فلما كان مسيرهم بتدبير الله وهؤلاء تبعوهم أضافه إلى نفسه توسعا، وهذا كما يتعب أحدنا في طلب غلام له فيجوز أن يقول: أتعبني الغلام لما حدث ذلك عند فعله. أو المراد أزلفناهم إلى الموت والأجل. وقال الكعبي: أراد أنه جمع تفرقهم كيلا يصلوا إلى موسى وقومه، أو أراد أنه حلم عنهم وترك لهم البحر يابسا حتى طمعوا في دخوله. واعترض بأن كل ذلك لا بد أن يكون له أثر في استجلاب داعية قوم فرعون إلى الذهاب خلفهم فيعود المحذور. إِنَّ فِي ذلِكَ الذي حدث في البحر من إنجاء البعض وإغراق البعض أو في ذلك الذي ذكر من القصة بطولها الْآيَةَ عجيبة للمتدبر المتفكر في الأمور الإلهية وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ حين سألوا بعد النجاة أن يجعل لهم موسى إلها غير الله، واتخذوا العجل، واقترحوا اقتراحات خارجة عن قانون الأدب.
ويحتمل أن يعود الضمير إلى هذه الأمة بدليل وَاتْلُ عَلَيْهِمْ [الشعراء: 69] وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان يغتم بتكذيب قومه بعد ظهور المعجزات ونزول الآيات.
التأويل:
الطاء طوله في كمال عظمته، والسين سلامته عن كل عيب ونقص، والميم مجده الذي لا نهاية له. أو الطاء طهارة قلب نبيه عن تعلقات الكونين، والسين سيادته على الأنبياء والمرسلين، والميم مشاهدته جمال رب العالمين. أو الطاء طيران الطائرين بالله، والسين سير السائرين إلى الله، والميم مشي الماشين لله الذين يمشون على الأرض هونا.
إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ من سماء قلوبهم آيَةً من واردات الحق فَظَلَّتْ أعناق نفوسهم لَها خاضِعِينَ فَسَيَأْتِيهِمْ بعد مفارقة الأرواح الأجساد أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ لظهور نتائج معاملاتهم الخبيثة على أرواحهم أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى أرض قلوب العارفين كَمْ أَنْبَتْنا فِيها من أشجار أصناف الإيمان والتوكل واليقين والإخلاص وسائر الأخلاق الكريمة وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ لأن جناب الحق لعزته يجل عن أن يكون شرعة لكل وارد وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يوجد بالسعي الرَّحِيمُ حين أدرك أولياءه بجذبات العناية كما أدرك موسى حين ناداه من الشجرة، وذلك لأنه جعله مظهر لطفه كما أنه جعل فرعون مظهر قهره فصار من العتوّ والاستكبار في غاية الكمال. ويعلم منه أن الإنسان له استعداد في مظهرية(5/270)
صفة القهر ليس لإبليس فلذلك عاند إبليس آدم وقال أنا خير منه وعاند فرعون الرب وقال أنا ربكم الأعلى. وأن له استعدادا في مظهرية صفة اللطف ليس للملك ولهذا صار الإنسان مسجودا للملائكة. أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ فيه أن موسى القلب مرسل إلى فرعون النفس لئلا تستعبد الصفات الروحانية فإن لفرعون النفس في البداية استيلاء على موسى القلب والصفات الروحانية فاستعملهم في قضاء حوائجه وتحصيل مقاصده فعرفه فرعون النفس وقال أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً فإن موسى القلب كان في حجر فرعون النفس إلى أن بلغ أوان الحلم وهي خمس عشرة سنة، فقتل قبطي الشهوة حين كفر بإله الهوى وكان قبل القتل ضالا عن حضرة الربوبية فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ إلى الله لما خفت أن تقطعوا عليّ الطريق إلى الله. رب سموات القلوب وأرض البشرية وما بينهما من المنازل قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ من صفات النفس أَلا تَسْتَمِعُونَ قالَ موسى القلب لتعارفه بربه رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ يعني الآباء العلوية الروحانية. وفي قوله إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ إشارة إلى كمال ضدية القلب والنفس فما يصدر عن القلب تعده النفس من الجنون وبالعكس. رَبُّ مشرق الروح من أفق البدن وَرَبُّ مغربه فيه وَما بَيْنَهُمَا من مدة التعلق وقد مر نظيره في محاجة إبراهيم في «البقرة» لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ في سجن حب الدنيا فإن القلب إذا توجه إلى الله فلا استيلاء للنفس عليه إلا بشبكة حب الجاه والرياسة فإنها آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين. فقال موسى القلب: لا تقدر على أن تسجنني فإن معي عصا الذكر واليد المنزوعة عما سوى الله. وباقي التأويل قد سبق قوله:
فَأَخْرَجْناهُمْ أي مِنْ جَنَّاتٍ صفات الأوصاف الروحانية وَعُيُونٍ الحكمة وَكُنُوزٍ المعارف وَمَقامٍ كَرِيمٍ في حضرة أكرم الأكرمين وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ فيه أن النفس إذا فنيت ورث القلب منها صفاتها وبقوتها تصير إلى مقامات لم يمكنه الوصول إليها بقوة صفاته، ولو مات القلب ورثت النفس منه صفاته وبقوتها تتنزل إلى دركات لم يمكنها الوصول إليها بمجرد صفاتها فَأَتْبَعُوهُمْ أي لحق أوصاف النفس أوصاف القلب عند إشراق شمس الروح فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ فيه أن كل صفة من أوصاف الروح كجبل عظيم في العبور عنه وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ أي قربنا صفات النفس بتبعية صفات القلب إلى بحر الروح. وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ من الأوصاف في بحر الروح بالوصول إلى الحضرة ثُمَّ أَغْرَقْنَا أوصاف النفس في بحر الروحانية فإن الوصول إلى الحضرة من خواص القلب وغاية سير النفس هو الاستغراق في بحر الروحانية إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لأرباب العرفان وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ بهذه المنازل فإنه لا يصير إليها إلا الشاذ من المجذوبين بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] جعلنا الله من المستعدين لها والله أعلم.(5/271)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 122]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88)
إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93)
فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98)
وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108)
وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113)
وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118)
فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
القراآت:
لِي إِلَّا وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وأَجْرِيَ إِلَّا بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص: وأتباعك على أنه جمع تابع أو تبع: يعقوب أَنَا إِلَّا بالمد: أبو نشيط عن قالون مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بفتح ياء المتكلم:
حفص وورش.
الوقوف:
إِبْراهِيمَ م لئلا يوهم أن «إذ» ظرف اتْلُ وإنما هو منصوب باذكر ما تَعْبُدُونَ هـ عاكِفِينَ هـ تَدْعُونَ هـ يَضُرُّونَ هـ يَفْعَلُونَ هـ تَعْبُدُونَ هـ لا لأن(5/272)
الضمير بعده توكيد الْأَقْدَمُونَ هـ والوصل أولى للفاء الْعالَمِينَ هـ لا لأن الَّذِي صفة الرب يَهْدِينِ هـ لا يَشْفِينِ هـ وَيَسْقِينِ هـ يُحْيِينِ هـ لا الدِّينِ هـ بِالصَّالِحِينَ هـ لا الْآخِرِينَ هـ لا النَّعِيمِ هـ لا الضَّالِّينَ هـ لا يُبْعَثُونَ هـ وَلا بَنُونَ هـ لا سَلِيمٍ هـ ط بناء على أن ما بعده إلى آخر أحوال الجنة والنار هو من كلام الله تعالى وهو الظاهر. وقيل: هو من تتمة كلام إبراهيم الْعالَمِينَ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ شافِعِينَ هـ حَمِيمٍ هـ ط الْمُؤْمِنِينَ هـ لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ الْمُرْسَلِينَ ج لأن «إذ» تصلح ظرفا للتكذيب مفعولا لا ذكر تَتَّقُونَ ج هـ لأن ما بعده من تمام المقول أَمِينٌ هـ لا للفاء وَأَطِيعُونِ ج هـ مِنْ أَجْرٍ ج الْعالَمِينَ ج هـ وَأَطِيعُونِ هـ لا الْأَرْذَلُونَ هـ ط يَعْمَلُونَ ج هـ لأن ما بعده من تمام المقول تَشْعُرُونَ هـ لذلك الْمُؤْمِنِينَ ج هـ مُبِينٌ هـ الْمَرْجُومِينَ هـ ط كَذَّبُونِ هـ ج الْمُؤْمِنِينَ هـ الْمَشْحُونِ ج هـ الْباقِينَ هـ لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ ط الرَّحِيمُ هـ.
التفسير:
القصة الثانية قصة إبراهيم عليه السلام وكان يعلم أنهم عبدة أصنام ولكنه سألهم للإلزام والتبكيت. ومثله أهل المعاني بأن يقول أحد للتاجر: ما مالك؟ وهو يعلم أن ماله الرقيق ثم يقول له الرقيق: جمال وليس بمال. وإنما قال في سورة الصافات ماذا تَعْبُدُونَ [الصافات: 85] بزيادة «ذا» لأنه أراد هناك مزيد التوبيخ ولذلك بني الكلام على الزيادة ثم أردفه بقوله أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ [الصافات: 86] وحين صرح هنالك بالتوبيخ لم يجيبوه وهاهنا ظنوا أنه يريد الاستفهام حقيقة فأجابوه ولكنهم بسطوا الكلام بسطا ولم يقتصروا على أَصْناماً بل زادوا ناصبه وعقبوه بقولهم فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ إظهارا للابتهاج والافتخار. قال في الكشاف: وإنما قالوا فَنَظَلُّ لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل. قلت: وهذا مبني على النقل الصحيح والظن به حسن. قال: لا بد في يَسْمَعُونَكُمْ من تقدير حذف المضاف معناه هل يسمعون دعاءكم؟ قلت: ويحتمل أن يكون المحذوف مفعولا ثانيا أي هل يسمعونكم تدعون إذ تدعون وهو حكاية حال ماضية لأن «إذ» للمضي ومعناه استحضار الأحوال الماضية التي كانوا يدعونها فيها. وحين تمسكوا في الجواب بطريقة التقليد قائلين على سبيل الإضراب بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ نبههم إبراهيم بقوله أَفَرَأَيْتُمْ على أن الباطل لا يتغير بأن يكون قديما أو حديثا ولا بأن يكون في مرتكبيه كثرة أو قلة، وصرح بأن معبوديه أعداء لقوله تعالى كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 82] أو لأن الذي يغري على عبادتها هو الشيطان وهو أعدى عدو للإنسان. وإنما لم يقل عدوّ لكم لأنه أراد تصوير المسألة في نفسه ليكون(5/273)
أدل على النصح وأقرب إلى القبول كأنه قال: إني فكرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ. ويحكى عن الشافعي أن رجلا واجهه بشيء فقال: لو كنت بحيث أنت لاحتجت إلى أدب. وقوله إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ استثناء منقطع أي لكن رب العالمين حبيب لي. ثم وصف لهم الرب بأنه الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ أي خلق بدني على كماله الممكن له ثم يهدين في الاستقبال إلى ضروب مصالح الدين والدنيا كامتصاص الدم في البطن والثدي بعد الولادة نظيره ما مر في «طه» الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 50] . ثم نبه بقوله وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ أن الذي يتعلق به قوام البدن من الاغتذاء بالطعام والإساغة بالشراب هو من جملة إنعام الله تعالى لأنه خلق هناك قوى جاذبة وماسكة وهاضمة ودافعة وغيرها، ولولاها لما تم أمر الانتفاع بالغذاء بل نفس الغذاء من جملة نعمه الشاملة، ثم قال وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وذلك أن البدن ليس دائما على النهج الطبيعي بحيث تصدر عنه الأفعال الموضوع هو لها سليمة فاسترداد الصحة بعد زوالها ليس إلا بإذن الله وبما خلق لكل داء دواء وإنما لم يقل أمرضني لأن كثيرا من أسباب المرض يحدث بإسراف الإنسان في المطعم والمشرب. وأيضا الصحة تحتاج إلى سبب قاهر يقسر الأخلاط والقوى على النسبة المطلوبة، أما المرض فإنه بسبب تنافر الأخلاط وطلب كل منها مركزه الأصلي. وأيضا فيه رعاية الأدب في مقام المدح وتعداد النعم وإنما لم يراع هذه النكتة في قوله وَالَّذِي يُمِيتُنِي لأن الإماتة ليست بضر كالمرض. إما بعدم الإحساس وقتئذ، وإما لأنها مقدمة الوصول إلى عالم الخير والراحة. وإنما زاد لفظة «هو» في الإطعام والشفاء لأنهما قد ينسبان إلى الإنسان فيقال: زيد يطعم وعمرو يداوي. فأكد إعلاما بأن ذلك في الحقيقة من الله، واما الإماتة والإحياء فلا يدعيهما مدع فأطلق. ثم أشار إلى ما بعد الإحياء من المجازاة بقوله وَالَّذِي أَطْمَعُ فحمل الأشاعرة الطمع على مجرد الظن والرجاء بناء على أنه لا يجب لأحد على الله شيء. وحمله المعتزلة على اليقين تارة وعلى هضم النفس والتواضع وتعليم الأمة أخرى، كما أنه أضاف الخطيئة إلى نفسه لمثل ذلك. وقد تحمل الخطيئة على المعاريض المنسوبة إليه من قوله إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 89] وقوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء: 63] وقوله لسارة «هي أختي» وإنما علق المغفرة بيوم الدين لأن أثرها يتبين يومئذ وهو في الدنيا خفي. قال بعضهم: فائدة زيادة «لي» هي أن يعلم أن المغفرة فائدتها تعود إليه والله سبحانه لا يستفيد بذلك كمالا لم يكن له. والمراد: أطمع أن يغفر لي لمجرد عبوديتي له واحتياجي إليه لا بواسطة شفيع كما
قال لجبرائيل: أما إليك فلا.
وحين قدم الثناء شرع في الدعاء تعليما لأمته إذا أرادوا مسألة فقال رَبِّ هَبْ لِي(5/274)
حُكْماً
وهو إشارة إلى كمال القوة النظرية وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وهو إشارة إلى كمال القوة العملية. ولقد أجابه حيث قال وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وقيل: الحكم النبوة إذ النبي ذو حكمة وذو حكم. بين عباد الله تعالى وزيف بأنه كان حاصلا فكيف يطلبه؟
والظاهر أنه أراد بالحكم النسب الذهنية المطابقة للخارجية أعني العلوم النظرية كما بينا.
قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على مسألة خلق الأعمال، إنه طلب العلم من الله فلولا أن العلم بخلقه وإلا كان السؤال عبثا. وحمله المعتزلة على منح الألطاف. قيل: الحكم المطلوب بالدعاء إن كان هو العلم بغير الله لزم أن يكون سائلا لما يشغله عن الله وهو باطل، وإن كان العلم بالله بقدر ما هو شرط صحة الإيمان لزم طلب ما هو حاصل لأدنى المؤمنين فضلا عن إبراهيم، فإذن هو العلم الزائد على ما هو ضروري في الإيمان وهو الوقوف على حقيقة الذات والصفات، ثم لا يكشف المقال عنها غير الخيال وبه يصير المؤمن من الواصلين إلى العين دون السامعين إلى الأثر. ثم طلب الذكر الجميل بقوله وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ والإضافة فيه كقوله قَدَمَ صِدْقٍ [يونس: 2] وقال ابن عباس: وقد أعطاه الله ذلك لقوله وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ [الصافات: 78] ولهذا اتفق أهل الأديان قاطبة على حبه وادعاء متابعته. ومدح الكافر ليس مقصودا لذاته من حيث هو كافر وإنما المقصود أن يكون ممدوح كل إنسان ومحمودا بكل لسان. وفائدة الثناء على الشخص بعد وفاته هو انصراف الهمم إلى ما به يحصل له عند الله زلفى وقد يصير ذلك المدح داعيا للمادح أو لمن يسمعه إلى اكتساب مثل تلك الفضائل. وقيل: سأل ربه أن يجعل من ذريته في آخر الزمان من يكون داعيا إلى ملته وهو محمد صلى الله عليه وسلم. ثم سأل ما هو غاية كل سعادة فقال وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وقد مر معنى هذه الوراثة في قوله وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها [الأعراف: 43] وكذلك في سورة مريم تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا [مريم: 63] ثم طلب السعادة الحقيقية لأشد الناس التصاقا به وهو أبوه قائلا وَاغْفِرْ لِأَبِي وقد سبق في آخر التوبة وفي «مريم» ما يتعلق به من المباحث. وهاهنا سؤال: وهو أنه متى حصلت الجنة بدعائه امتنع حصول الخزي فكيف قال بعده وَلا تُخْزِنِي وأيضا قال تعالى إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ [النحل: 27] وما كان نصيب الكافر كيف يستجير منه المعصوم؟ أجاب عنه في التفسير الكبير كما أن حسنات الأبرار سيئات المقربين فكذلك.
درجات الأبرار دركات المقربين، وخزي كل واحد ما يليق بحاله فكأنه سأل الشركة أوّلا ثم الخصوصية ثانيا. وأقول: يحتمل أن يكون هذا الدعاء من تتمة دعائه لأبيه أي لا تخزني ولا تفضحني بسبب تعذيب أبي يوم يبعث الضالون أو العباد كلهم، ومثل هذا الضمير مما يعلم عوده بالقرينة. ويجوز أن يكون سأل الجنة بشرط التعظيم والإجلال، ويجوز أن يكون أخر(5/275)
هذا الدعاء لما يعقبه من حديث يوم القيامة وأهوالها وأحوالها فأراد أن لا ينقطع نظم الكلام. وفي قوله إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ إشارة إلى ما وصفه الله به في قوله تعالى وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات: 84] وفي هذا الاستثناء وجوه منها: أنه منقطع والمضاف محذوف أي إلا حال من أتى الله بقلب سليم والمراد بالحال سلامة القلب والمعنى: أن المال والبنين لا ينفعان وإنما ينفع سلامة القلب عن الأمراض الروحانية كالجهل وسائر الأخلاق الذميمة، ويندرج في سلامة القلب سلامة سائر الجوارح لأنه رئيسها. ولا شك أن المال والبنين ليسا من جنس سلامة القلب فيكون الاستثناء منقطعا. ومنها أنه متصل وذلك على وجهين: أحدهما لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه. وثانيهما أن يجعل من باب قولهم:
تحية بينهم ضرب وجيع والمضاف المحذوف الحال أو السلامة نظيره أن يقال لك: هل لزيد مال وبنون؟ فتقول:
ماله وبنوه سلامة قلبه تريد نفي المال والبنين عنه وإثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك.
ومنها أن يكون الموصول مفعولا لينفع والاستثناء مفرغ أي لا ينفع مال ولا بنون أحدا إلا رجلا سلم قلبه مع ماله وبنيه حيث أنفقه في طاعة الله وما قصر في باب تأديبهم وإرشادهم، أو سلم قلبه من فتنة المال والبنين فلم يكفر ولم يعص. وقد يفسر السليم بالذائب من خشية الله تعالى.
وحين انجرّ الكلام إلى ذكر يوم القيامة وصف الله تعالى أو إبراهيم أحواله وأهواله فقال وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ قال المفسرون: الجنة تقرب من موقف السعداء ليكون لهم فرجا معجلا، وتجعل النار بارزة مكشوفة للأشقياء ليزدادوا غما وحسرة، ولمثل هذا اليوم وبخهم بقوله أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ يعني الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله هل ينفعونكم بنصرتهم لكم أو هل ينفعون أنفسهم بانتصارهم لأنهم وآلهتهم وقود النار وذلك قوله فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ أي الآلهة وَالْغاوُونَ الذين عبدوهم قال جار الله: الكبكبة تكرير الكب جعل التكرير في اللفظ دليلا على التكرير في المعنى كأنه إذا ألقى في جهنم ينكب مرة بعد مرة حتى يستقر في قعرها أعاذنا الله منها. والمراد بجنود إبليس شياطينهم أو متبعوه من عصاة الجن والإنس. قالُوا يعني الغاوين وجنود إبليس وَهُمْ يعني والحال أن الأصنام وعبدتهم فِيها يَخْتَصِمُونَ قال أكثر المفسرين: يجوز أن ينطق الله الأصنام بحيث(5/276)
يصح منها التخاصم. وقيل: إن هذا التخاطب بين العصاة والشياطين إذ سووهم برب العالمين. والمراد بالمجرمين على التفسيرين الرؤساء والكبراء. وعن السدي: الأولون الذين سنوا الشرك. وعن ابن جريج: إبليس وقابيل لأنه سن القتل وأنواع المعاصي: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ خالص يهمه ما يهمنا وفيه نفي الشفعاء والصديق رأسا أو نفي للذين كانوا عدّوهم شفعاء وأصدقاء من الأصنام والرؤساء، أو نفي للانتفاع بهم قصدوا بنفيهم ما يتعلق بهم من الفائدة، فكل عديم النفع حكمه حكم المعدوم. قال جار الله: إنما جمع الشافع ووحد الصديق لكثرة الشفعاء لأجل الخشية عادة، ولكن الصديق الصادق أعز من الكبريت الأحمر حتى زعم بعض الحكماء أنه اسم لا معنى له. وجوز أن يكون الصديق في معنى الجمع والكرة الرجعة إلى الدنيا «ولو» في معنى التمني. وقوله فَنَكُونَ جواب التمني أو عطف في المعنى على كَرَّةً أي ليت لنا كرة فإن نكون، وعلى هذا جاز أن تكون «لو» على أصل الشرط والجواب محذوف وهو لفعلنا كيت وكيت. ثم بين أن فيما كره من قصة إبراهيم عليه السلام لآية لمن يريد أن يستدل بذلك وما كان أكثر قوم إبراهيم بمؤمنين.
القصة الثالثة قصة نوح. ولا ريب أن نبأه عظيم فقد كان يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما، ومع ذلك لم يزد قومه إلا التكذيب. والقوم مؤنث بدليل قوله كَذَّبَتْ وكان أمينا فيهم مشهورا كمحمد صلى الله عليه وسلم في قريش. وكرر قوله فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ تأكيدا وتقريرا في النفوس مع أنه علق كل واحد بسبب وهو الأمانة في الأول وقطع الطمع في الثاني نظيره قول الرجل لغيره: ألا تتقي الله في عقوقي وقد ربيتك صغيرا؟ ألا تتقي الله في عقوقي وقد علمتك كبيرا؟ وقدم الأمر بتقوى الله على الأمر بطاعته لأن تقوى الله علة طاعته. قوله وَما عِلْمِي يريد أيّ شيء علمي ومعناه انتفاء علمه بإخلاص أعمالهم لله عز وجل واطلاعه على باطنهم ومكنون ضميرهم كأنهم طعنوا في إيمانهم أيضا فذكر أن حسابهم على الله وأنه لم يبعث إلا للنذارة. ويجوز أن يكون فسر لهم الرذالة بما هو الرذالة عنده من سوء الأعمال وفساد العقائد فبنى جوابه على ذلك وقال: ما علمي إلا اعتبار الظاهر والله يتولى السرائر.
وفي قوله لَوْ تَشْعُرُونَ إشارة إلى أنهم لا يصدقون بالحساب والجزاء، وفيه إنكار أن يسمى المؤمن رذلا وإن كان أفقر الناس وأوضعهم فالغني غني الدين والنسب نسب التقوى.
رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ ليس إخبارا لأنه علام الغيوب وإنما هو تمهيد مقدمة لطلب الفتح والحكومة. والفلك المشحون المملوء من كل زوجين اثنين مع نوح وأهله.
التأويل:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ القلب إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ وهو الروح وما يتولد(5/277)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
منه نَعْبُدُ أَصْناماً وهو ما سوى الله فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ إلا أن أدركتنا العناية فنعرض عنها: بَلْ وَجَدْنا آباءَنا وهم الأرواح والآباء العلوية كذلك يتعلق بعضهم ببعض فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إن تعلقت فصرت محجوبا بهم عن الله خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ إلى حضرته ويُطْعِمُنِي من طعام العبودية الذي يعيش القلوب، ويسقيني من شراب طهور التجلي وَإِذا مَرِضْتُ بتعلقات الكونين فَهُوَ يَشْفِينِ بالجذبة الإلهية وَالَّذِي يُمِيتُنِي عن أوصاف البشرية ثُمَّ يُحْيِينِ بأوصاف الروحانية ويميتني عن أوصاف الروحانية ثم يحيين بالأوصاف الربانية ثم يميتني عن أنانيتي ثم يحيين بهويته وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يستر ظلمة خطيئة وجودي بطلوع شمس نهار الدين رَبِّ هَبْ لِي من ربوبيتك حُكْماً على بذل وجودي في هويتك وَأَلْحِقْنِي بالذين صلحوا لقبول الفيض الإلهي بلا واسطة. وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ من النفس وصفاتها ليعرضوا عما سوى الله وَاغْفِرْ لِأَبِي الروح إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ حين رد من العالم العلوي إلى السفلي من قولهم «ضل الماء في اللبن» وَلا تُخْزِنِي بتعلقات الكونين قالَ نوح القلب وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعني أراذل الجسد والأعضاء لأنهم عملة عالم الشهادة وأنا من عملة عالم الغيب إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي فيما يعملون من الأعمال الحيوانية لحاجة ضرورية يعفو عنها والشهوة حيوانية يؤاخذهم بها لَوْ تَشْعُرُونَ الفرق بينهما قالُوا أي النفس وصفاتها لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ القلب عما تدعونا إليه على خلاف إرادتنا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ بأحجار الوساوس والهواجس فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ أي في فلك الشريعة المملوء بالأوامر والنواهي والحكم والمواعظ والأسرار والحقائق ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ بطوفان استيلاء الأخلاق الذميمة وآفات الدنيا الدنية، وباقي القصص إشارات إلى رسول القلب المسلم من الله وقومه النفس وصفاتها وإليه المرجع والمآب لما قررناه.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 175]
كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)
أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132)
أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)
وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142)
إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147)
وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152)
قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157)
فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162)
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167)
قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172)
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)(5/278)
القراآت:
أَوَعَظْتَ مدغما: عباس ونصير خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بفتح الخاء وسكون اللام: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وعليّ كَذَّبَتْ ثَمُودُ مثل بَعِدَتْ ثَمُودُ [هود: 95] فارِهِينَ بالألف: ابن عامر وعاصم وحمزة وعليّ وخلف.
الوقوف:
الْمُرْسَلِينَ هـ تَتَّقُونَ هـ أَمِينٌ هـ وَأَطِيعُونِ هـ أَجْرٍ هـ الْعالَمِينَ هـ تَعْبَثُونَ هـ لا تَخْلُدُونَ هـ ج جَبَّارِينَ هـ وَأَطِيعُونِ هـ ج تَعْلَمُونَ هـ ج وَبَنِينَ هـ لا وَعُيُونٍ هـ ج عَظِيمٍ هـ ط الْواعِظِينَ هـ لا للاحتراز عن الابتداء بمقولهم الْأَوَّلِينَ هـ لا لذلك بِمُعَذَّبِينَ هـ ج فَأَهْلَكْناهُمْ ط لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ ط تَتَّقُونَ هـ أَمِينٌ هـ لا وَأَطِيعُونِ هـ أَجْرٍ هـ الْعالَمِينَ هـ آمِنِينَ هـ لا لتعلق الظرف وَعُيُونٍ هـ لا هَضِيمٌ هـ فارِهِينَ هـ ج للآية مع العطف وَأَطِيعُونِ هـ ج لذلك الْمُسْرِفِينَ هـ لا لأن الَّذِينَ صفتهم وَلا يُصْلِحُونَ هـ الْمُسَحَّرِينَ هـ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول مِثْلُنا ز مِنَ الصَّادِقِينَ هـ مَعْلُومٍ هـ ج عَظِيمٍ هـ نادِمِينَ هـ لا الْعَذابُ(5/279)
ط لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ لا أَلا تَتَّقُونَ هـ ج أَمِينٌ هـ لا وَأَطِيعُونِ هـ ج أَجْرٍ ج الْعالَمِينَ هـ ط مِنَ الْعالَمِينَ هـ لا للعطف مِنْ أَزْواجِكُمْ هـ عادُونَ ط الْمُخْرَجِينَ هـ الْقالِينَ هـ يَعْمَلُونَ هـ أَجْمَعِينَ هـ الْغابِرِينَ هـ الْآخَرِينَ هـ ج مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ هـ لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ.
التفسير:
القصة الرابعة قصة هود ولنذكر من تفسيرها ما هو غير مكرر. الريع بالكسر وقرىء بالفتح المكان المرتفع ومنه الغلة لارتفاعها. والآية العلم وفي هذا البناء وجوه: فعن ابن عباس أنهم كانوا يبنون بكل موضع مرتفع علما يعبثون فيه بمن يمر بالطريق إلى هود.
وقيل: كانوا يبنون ذلك ليعرف به فخرهم وغناهم فنهوا عنه ونسبوا إلى العبث وقيل:
كانوا يقتنون الحمام قاله مجاهد. والمصانع مآخذ الماء. وقيل: القصور المشيدة والحصون. ومعنى لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ترجون الخلود في الدنيا أو ظلما وعلوا فوصفوا بكونهم إذ ذاك جبارين. وقيل: الجبار الذي يقتل ويضرب على الغضب. وعن الحسن:
أراد أنهم يبادرون العذاب من غير تفكر في العواقب. والحاصل أن اتخاذ الأبنية الرفيعة يدل على حب العلوّ، واتخاذ المصانع يدل على حب البقاء، والبطش الشديد يدل على حب التفرد بالعلوّ فكأنهم أحبوا العلوّ وبقاء العلوّ والتفرد بالعلوّ وكل هذه لمن له الصفات الإلهية لا العبدية. ثم بالغ في تنبيههم على نعم الله حيث أجملها بقوله وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ إيقاظا لهم عن سنة الغفلة مستشهدا بعلمهم ثم فصلها بقوله أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ عليها تدور معايشكم وَبَنِينَ بهم يتم أمر حفظها والقيام بها وَجَنَّاتٍ يحصل بها التفكه والتنزه وَعُيُونٍ بمائها يكمل النماء. ثم ختم الكلام بتخويفهم تنبيها على أنه كما قدر أن يتفضل عليهم بهذه النعم الجسام فهو قادر على العذاب فيكون فيه مزيد حث على التقوى وكمال تنفر عن العصيان. ثم شرع في حكاية جواب القوم وأنهم قالوا: إن وعظه وعدم وعظه بالنسبة إليهم سيان. وإنما لم يقل «أوعظت أم لم تعظ» مع كونه أخصر لأن المراد سواء علينا أفعلت هذا الفعل الذي هو الوعظ أو لم تكن من مباشريه وذويه رأسا وهذا أبلغ في قلة اعتدادهم بوعظه. من قرأ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ بفتح الخاء فمعناه أن هذا إلا اختلاق الأولين وأكاذيبهم، أو ما هذا إلا خلق الأقدمين نحيا ونموت ولا بعث ولا جزاء. والقراءة الأخرى معناها لسنا نحن إلا على دين الأولين من آبائنا، أو ليس ما نحن عليه من الحياة والموت إلا عادة جارية لا خرق لها، أو ما هذا الذي جئت به من تلفيق الأكاذيب. إلا عادة مستمرة من المتنبين. ثم أكدوا إنكارهم المعاد بقولهم وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ فأظهروا بذلك جلادتهم وقوة نفوسهم فأخبر الله تعالى عن إهلاكهم وقد سبقت كيفية ذلك مرارا.(5/280)
القصة الخامسة قصة صالح. قال جار الله: الهمزة في أَتُتْرَكُونَ يجوز أن تكون للإنكار أي لا تتركون مخلدين في الأمن والراحة ولكل نعمة زوال، ويجوز أن تكون للتقرير أي قد تركتم في أسباب الأمن والفراغ، أجمل أولا بقوله فِي ما هاهُنا أي في الذي استقر في هذا المكان من النعيم، ثم فسره بقوله فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وذكر النخل بعد ذكر الجنات إما تخصيص للجنات بغير النخل، وإما تخصيص للنخل بالذكر تنبيها على فضله ومزيته.
وطلع النخلة ما يبدو منها كنصل السيف وقد مر في «الأنعام» . والهضيم اللطيف الضامر من قولهم «كشح هضيم» أراد أنه وهب لهم أجود النخل وألطفه كالبرني مثلا. وقيل: وصف نخيلهم بالحمل الكثير فإنه إذا كثر الحمل هضم أي لطف. وقيل: الهضيم اللين النضيج كأنه قال: ونخل قد أرطب ثمره. والفراهة الكيس والنشاط ومنه «خيل فرهة» وفارِهِينَ حال من الناحتين. قال علماء المعاني: جعل الأمر مطاعا مجاز حكمي وإنما المطاع بالحقيقة هو الآمر. وفي قوله وَلا يُصْلِحُونَ إشارة إلى أن إفسادهم في الأرض غير مقترن بالإصلاح رأسا. والمسحر الذي سحر كثيرا حتى غلب على عقله. وقيل: هو من السحر الرئة. أرادوا أنه بشر ذو سحر وهو ضعيف لأنه يلزم التكرار بقوله: ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا إلا أن يقال: إنه بيان. والشرب النصيب من الماء كالسقي للحظ من السقي. وقرىء بالضم عن قتادة إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كله ولهم شرب يوم لا تشرب فيه الماء. سؤال:
لم أخذهم العذاب وقد ندموا والندم توبة؟ جوابه كان ندمهم ندم خوف من العقاب العاجل أو ندموا ندم توبة في غير أوانها وذلك عند عيان العذاب. وقيل: ندموا على ترك عقر ولدها وفيه بعد. واللام في العذاب إشارة إلى عذاب يوم عظيم.
القصة السادسة: قصة لوط: أنكر على قومه إتيانهم الذكور من الناس لا الإناث على كثرتهن، أو أنكر عليهم كونهم مختصين من العالمين بهذه الفاحشة. فقوله: مِنَ الْعالَمِينَ يعود على الأول إلى المأتي، وعلى الثاني إلى الآتي. والعالمون على هذا كل ما ينكح من الحيوان ولا شيء من الحيوان يرتكب هذه الفعلة إلا الإنسان. قوله مِنْ أَزْواجِكُمْ إما بيان لما خلق وإما للتبعيض فيراد بما خلق العضو المباح منهن فلعلهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم. والعادي المتجاوز الحد في ظلم أي بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ في جميع المعاصي وهذه واحدة منها، أو بل أنتم قوم أحقاء بأن تنسبوا إلى العدوان حيث فعلتم هذه الجريمة العظيمة. قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عن نهينا لَتَكُونَنَّ من جملة من أخرجناه من بلدنا ولعلهم كانوا يطردون من خالف أراد أنه كامل في قلاهم عصبية للدين، أو أنه معدود في زمرة مبغضيهم كما تقول: فلان من العلماء. فيكون أبلغ من قولك «هو(5/281)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209) وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
عالم» . ثم طلب النجاة من عقوبة عملهم أو سأل العصمة عن مثل عملهم ولقد عصمهم الله إِلَّا عَجُوزاً رضيت بفعلهم وأعانت على ذلك وكانت من أهله بحق الزواج وإن لم تشاركهم في الإيمان. ومعنى فِي الْغابِرِينَ إلا عجوزا مقدرا غبورها أي بقاؤها في الهلاك. واللام في الْمُنْذَرِينَ للجنس لتصلح الفاء علة فعل الذم والمخصوص محذوف أي ساء مطر جنس المنذرين مطر أولئك المعهودين والله أعلم.
[سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 227]
كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)
وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)
وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200)
لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205)
ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210)
وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215)
فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225)
وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)(5/282)
القراآت:
ليكة بلام مفتوحة بعدها ياء ساكنة وبفتح التاء على أنها ممتنعة من الصرف للعلمية والتأنيث، وكذلك في «صاد» : أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر.
الآخرون الْأَيْكَةِ معروفا مجرورا. كِسَفاً بفتح السين: حفص غير الخزاز. الآخرون بسكونها رَبِّي أَعْلَمُ بفتح الياء: نافع وأبو جعفر وابن كثير وأبو عمرو ونَزَلَ بِهِ مخففا الرُّوحُ الْأَمِينُ مرفوعين: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص وأبو زيد عن المفضل وزيد عن يعقوب. الباقون نزل مشددا الرُّوحُ الْأَمِينُ منصوبين أولم تكن بتاء التأنيث آية بالرفع: ابن عامر. الباقون بالياء التحتانية. آيَةً بالنصب: فتوكل بالفاء: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون بالواو مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ بتشديد التاء وكذلك تنزل البزي وابن فليح يتبعهم بالتخفيف: نافع وادي بالياء في الوقف:
يعقوب والسرنديبي عن قنبل وقرأ قتيبة بالإمالة.
الوقوف:
الْمُرْسَلِينَ ج هـ تَتَّقُونَ هـ أَمِينٌ هـ لا وَأَطِيعُونِ هـ ج أَجْرٍ ج الْعالَمِينَ هـ ط الْمُخْسِرِينَ ج هـ الْمُسْتَقِيمِ ج هـ مُفْسِدِينَ ج هـ الْأَوَّلِينَ هـ ط الْمُسَحَّرِينَ هـ لا الْكاذِبِينَ هـ ج نصف آي القرآن الصَّادِقِينَ هـ ط تَعْمَلُونَ هـ الظُّلَّةِ ط عَظِيمٍ هـ لَآيَةً ط مُؤْمِنِينَ هـ الرَّحِيمُ هـ الْعالَمِينَ هـ الْأَمِينُ هـ لا الْمُنْذِرِينَ هـ لا مُبِينٍ هـ الْأَوَّلِينَ هـ إِسْرائِيلَ ط هـ الْأَعْجَمِينَ هـ لا مُؤْمِنِينَ هـ ط الْمُجْرِمِينَ هـ ط بناء على أن لا يُؤْمِنُونَ مستأنف للبيان ولو جعل حالا فلا وقف الْأَلِيمَ هـ لا لا يَشْعُرُونَ هـ لا مُنْظَرُونَ هـ ط يَسْتَعْجِلُونَ هـ سِنِينَ هـ لا للعطف يُوعَدُونَ هـ لا لأن قوله ما أَغْنى جملة نفي أو استفهام قامت مقام الشرط يُمَتَّعُونَ هـ ط مُنْذِرُونَ هـ وقد يوقف عليها بناء على أن ذِكْرى ليس بمفعول له والمراد ذكرناهم والوقف على ذِكْرى جائز ظالِمِينَ هـ الشَّياطِينُ هـ يَسْتَطِيعُونَ هـ ط لَمَعْزُولُونَ هـ ط الْمُعَذَّبِينَ ج هـ الْأَقْرَبِينَ ج هـ للعطف الْمُؤْمِنِينَ هـ تَعْمَلُونَ هـ ج الرَّحِيمِ هـ لا تَقُومُ
هـ لا السَّاجِدِينَ هـ الْعَلِيمُ هـ الشَّياطِينُ هـ ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار أَثِيمٍ ج هـ بناء على أن يُلْقُونَ حال من ضمير الشَّياطِينُ أي تنزل ملقين السمع أو صفة ل كُلِّ أَفَّاكٍ وإن جعل مستأنفا كأن قائلا قال: لم تنزل؟ فقيل: يفعلون كيت وكيت فلك الوقف. كاذِبُونَ(5/283)
هـ ط الْغاوُونَ هـ ط يَهِيمُونَ هـ لا لا يَفْعَلُونَ هـ ظُلِمُوا ط يَنْقَلِبُونَ هـ.
التفسير:
القصة السابعة قصة شعيب وأنه كان أخا مدين دون أصحاب الأيكة ولهذا لم يقل «أخوهم شعيب» .
يروى أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف وكان شجرهم الدوم وهي التي حملها المقل.
قال في الكشاف: قرىء أصحاب ليكة بتخفيف الهمزة وبالجر على الإضافة وهو الوجه، ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد فتوهم قاد إليه خط المصحف في هذه السورة وفي سورة ص، ثم اعترض عليه بأن ليكة اسم لا يعرف. قلت: إنه لا يلزم من عدم العلم بالشيء عدم ذلك الشيء، والظن بالمتواتر يجب أن يكون أحسن من ذلك. أمرهم شعيب بإيفاء الكيل ونهاهم عن الإخسار وهو التطفيف وأن يجعل الشخص خاسرا فكأنه أمره بالإيفاء مرتين توكيدا ثم زاد في البيان بقوله. وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وقد مر في سورة سبحان. قال في الكشاف: إن كان من القسط وهو العدل وجعلت السين مكررة فوزنه «فعلاس» وإلا فهو رباعي. قلت: إن كان مكررا فوزنه «فعلال» أيضا. وقوله وَلا تَبْخَسُوا تأكيدا آخر وقد سبق في «هود» . والجبلة الخليقة حذرهم الله الذي تفضل عليهم بخلقهم وخلق من تقدمهم ممن لولا خلقهم لما كانوا مخلوقين. قال في الكشاف: الفرق بين إدخال الواو هاهنا في قوله وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ وبين تركها في قصة ثمود هو أنه قصد هاهنا معنيان منافيان عندهم للرسالة: كونه مسحرا وكونه بشرا وهناك جعل المعنى الثاني مقررا للأول. قلت: الفرق بين والإشكال في تخصيص كل من القصتين بما خصت به، ولعل السبب فيه هو أن صالحا قلل في الخطاب فقللوا في الجواب، وأكثر شعيب في الخطاب ولهذا قيل له خطيب الأنبياء فأكثروا في الجواب. «وإن» في قولهم وَإِنْ نَظُنُّكَ هي المخففة من الثقيلة عملت في ضمير شأن مقدر. واللام في قوله لَمِنَ الْكاذِبِينَ هي الفارقة. والكسف بالسكون والحركة جمع كسفة وهي القطعة وقد مر في سبحان في اقتراحات قريش. والمعنى إن كنت صادقا في دعوة النبوة فادع الله أن يسقط علينا قطع السماء. وإنما طلبوا ذلك لاستبعادهم وقوعه فأرادوا بذلك إظهار كذبه فحلم عنهم شعيب ولم يدع عليهم بل فوض الأمر إلى الله بقوله: رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ
يروى أن شعيبا بعث إلى أمتين: أصحاب مدين وأصحاب الأيكة. فأهلكت مدين بصيحة جبرائيل، وأهلكت أصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلة
وذلك إنه حبس عنهم الريح سبعا وسلط عليهم الحرّ فأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظل ولا ماء ولا شراب، فاضطروا إلى أن خرجوا إلى الصحراء فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا.(5/284)
وحين سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه القصص المؤكدة بالمكررات المختتمة بالمقررات عاد إلى مخاطبته قائلا وَإِنَّهُ أي وإن الذي نزل عليك من الأخبار لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ أي منزله. والباء في نَزَلَ بِهِ على القراءتين للتعدية ولكنها في قراءة التشديد تقتضي مفعولا آخر هو الروح أي جعل الله تعالى الروح الأمين نازلا به على قلبك محفوظا مفهوما لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ من الذين أنذروا بهذا اللسان وهم خمسة: هود وصالح وشعيب وإسماعيل ومحمد صلى الله عليه وسلم. ويجوز أن يكون قوله بِلِسانٍ متعلقا ب نَزَلَ أي نزله بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ لتنذر به فإنه لو نزله بالأعجمي لقالوا: ما نصنع بما لا نفهمه. ومن هذا الوجه ينشأ فائدة أخرى لقوله عَلى قَلْبِكَ أي نزلناه بحيث تفهمه ولو كان أعجميا لكان نازلا على سمعك دون قلبك.
والظاهر من نقل أئمة اللغة أن القلب والفؤاد مترادفان. ونقل الإمام فخر الدين الرازي عن بعضهم أن القلب هو العلقة السوداء في جوف الفؤاد وذكر كلاما طويلا في أن محل العقل هو القلب دون الدماغ وهو المخاطب في الحقيقة فلهذا قال نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ ونحن قد تركناه لقلة تعلقه بالمقام ولضعف دلائله مع مخالفته لما عليه معظم أرباب المعقول. قوله وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ يعني أن ذكر القرآن مثبت في الكتب السماوية للأمم المتقدمة، وإن معاني القرآن في تلك الزبر. وقد يحتج به لأبي حنيفة في جواز القراءة بالفارسية في الصلاة. وقيل: الضمير فيه وفي أَنْ يَعْلَمَهُ للنبي صلى الله عليه وسلم وأنه حجة ثابتة على نبوته قد شهد بها علماء بني إسرائيل كعبد الله بن سلام وغيره من الذين أسلموا منهم واعترفوا أن نعته وصفته في كتبهم مذكور، وكان مشركوا قريش يذهبون إلى اليهود يتعرفون منهم هذا الخبر.
من قرأ يَكُنْ بالتذكير وآيَةً بالنصب على الخبر والاسم أَنْ يَعْلَمَهُ فظاهر، ومن قرأ تكن بالتأنيث وآيَةً بالرفع على الاسم والخبر أَنْ يَعْلَمَهُ فقيل: ليست بقوية لوقوع النكرة اسما والمعرفة خبرا. ويمكن أن يجاب بأن الفعل المضارع مع أن ليس من المعارف الصريحة، وقد توجه هذه القراءة بتقدير ضمير القصة في تكن وجملته آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ ولَهُمْ لغوا أو لَهُمْ آيَةً وأَنْ يَعْلَمَهُ بدل من آية. قال جار الله: إنما كتب علموء بالواو على لغة من يميل الألف إلى الواو ولذلك كتبت الصلاة والزكوة بالواو. ثم أكد بقوله وَلَوْ نَزَّلْناهُ ما مر من آية لو نزله بالأعجمي فقرأه عليهم بعض الأعجمين لم يؤمنوا به لأنهم لم يكونوا يفهمونه. وقال جار الله: معناه ولو نزلناه على بعض الأعاجم الذي لا يحسن العربية فضلا أن يقدر على نظم مثله فقرأه عليهم هكذا فصيحا معجزا متحدّى به لكفروا به كما كفروا ولتمحلوا لجحودهم عذرا ولسموه سحرا. ثم قال كَذلِكَ أي مثل هذا السلك سَلَكْناهُ في قلوبهم وقررناه فيها فعلى أيّ وجه دبر أمرهم فلا سبيل إلى تغييرهم عما هم(5/285)
عليه من الإنكار والإصرار، وقد سبق مثل هذه الآية في أول «الحجر» . والحاصل أنهم لا يزالون على التكذيب حتى يعاينوا الوعيد، وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن اليأس إحدى الراحتين. قال في الكشاف: ليس الفاء في قوله فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَيَقُولُوا لأجل ترادف العذاب ومفاجأته وسؤال النظرة، وإنما المعنى ترتيبها في الشدة كأنه قيل: لا يؤمنون بالقرآن حتى تكون رؤيتهم العذاب فما هو أشد منها وهو لحوقه بهم مفاجأة. فما هو أشد منه وهو سؤالهم النظرة. نظيره قولك: إن أسأت مقتك الصالحون فمقتك الله، لا تريد الترتيب في الوجود ولكن في الشدة. قلت: هذا معنى صحيح ولكن لا مانع من إرادة الترتيب والتعذيب في الوجود يظهر بالتأمل إن شاء الله العزيز. ثم نكرهم بقوله أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ وفيه إنكار وتهكم أي كيف يستعجل العذاب من لا طاقة له به حتى استمهل بعد أن كان من العمر في مهلة؟ وجوز في الكشاف أن يكون يَسْتَعْجِلُونَ حكاية حال ماضية يوبخون بها عند استنظارهم، أو يكون متصلا بما بعده وذلك أنهم اعتقدوا العذاب غير كائن فلذلك استعجلوه وظنوا أنهم يمتعون بأعمار طوال في سلامة وأمن، فأنكر الله عليهم استعجالهم الصادر عن الأشر والبطر والاستهزاء والاتكال على طول الأمل. ثم قال: هب أن الأمر كما ظنوه من التمتع والتعمير فإذا لحقهم الوعيد أو الأجل أو القيامة هل ينفعهم ذلك؟. عن ميمون بن مهران أنه لقي الحسن في الطواف وكان يتمنى لقاءه فقال له: عظني فتلا عليه هذه الآية فقال له ميمون: لقد وعظت فأبلغت.
ثم بين أنه ما أهلك قرية إلا بعد إلزام الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم، وعلى هذا يكون ذِكْرى متعلقة ب أَهْلَكْنا مفعولا له. ويجوز أن يكون مفعولا مطلقا ل أَنْذِرْ بمعنى التذكرة فإن أَنْذِرْ وذكر متقاربان، أو حالا من الضمير في مُنْذِرُونَ أو مفعولا له متعلقا به أي ينذرونهم ذوي تذكرة أو لأجل الموعظة والتذكير، أو التقدير: هذه ذكرى فالجملة اعتراض. ويجوز أن يكون صفة ل مُنْذِرُونَ على حذف المضاف أي ذوو ذكرى، أو جعلوا ذكرى لبلوغهم في التذكرة أقصى غاياتها.
والبحث عن وجود الواو وعدمه في مثل هذا التركيب قد مر في أول الحجر في قوله وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر: 4] إلا أنا نذكر هاهنا سبب تخصيص تلك الآية بالواو وهذه بعدم الواو فنقول: لا ريب أن الواو تفيد مزيد الربط والاجتماع في الحال وفي الوصف إن جوزتا: فسواء قدرنا الجملتين أعني قوله وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر:
4] وقوله لَها مُنْذِرُونَ حالا أو وصفا فالمقام يقتضي ورود النسق على ما ورد، وذلك أن قوله وَلَها كِتابٌ صفة لازمة للقرية فإن الكتب في اللوح وصف أزلي فناسب أن يكون في(5/286)
اللفظ ما يدل على اللزوم واللصوق وهو الواو، ثم زيد في التأكيد بقوله مَعْلُومٌ وبقوله ما تَسْبِقُ وهذا بخلاف قوله لَها مُنْذِرُونَ فإنها صفة حادثة فأطلقت وجود صدر الجملة عن الواو لذلك والله أعلم. ثم إنه لما احتج على صدق محمد صلى الله عليه وسلم بكون القرآن معجزا منزلا من رب العالمين مشتملا على معاني كتب الأولين وكان الكفار يقولون إنه من إلقاء الجن كحال الكهنة أراد أن يزيل شبهتهم بقوله: وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ التنزل بالوحي وَما يَسْتَطِيعُونَ. ثم بين عدم اقتدارهم بقوله إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ أي عن سماع كلام أهل السماء لَمَعْزُولُونَ وذلك بواسطة رجم الشهب كما أخبر عنه الصادق والمعجزات يتساند بعضها ببعض، ولو فرض أنهم غير مرجومين بالشهب فالعقل يدل على أن الاهتمام بشأن الصديق أقوى منه بشأن العدو، وكان محمد صلى الله عليه وسلم يلعن الشياطين ويأمر الناس بلعنهم فلو كان الغيب بإلقاء الشياطين لكان الكفار أولى بأن يحصل لهم ذلك. وحين أثبت حقية القرآن أمر نبيه بجوامع مكارم الأخلاق ومحاسن العادات قائلا فَلا تَدْعُ والمراد أمته كما مر في نظائره من قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ [البقرة:
120] وغير ذلك وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ فيه أن الاهتمام بشأن من هو أقرب إلى المرء أولى. وفيه أنه يجب أن لا يأخذه في باب التبليغ ما يأخذ القريب للقرب من المساهلة ولين الجانب.
يروى أنه صلى الله عليه وسلم لما نزلت الآية صعد الصفا فنادى الأقرب فالأقرب فخذا فخذا وقال: يا بني عبد المطلب يا بني هاشم يا بني عبد مناف يا عباس عم النبي يا صفية عمة رسول الله، إني لا أملك لكم من الله شيئا سلوني من المال ما شئتم.
وروي أنه جمع بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلا، الرجل منهم يأكل الجذعة ويشرب العس على رجل شاة، فأكلوا وشربوا حتى شبعوا ثم أنذرهم فقال: يا بني عبد المطلب لو أخبرتكم أن بسفح هذا الجبل خيلا أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.
قوله وَاخْفِضْ جَناحَكَ قد مر تفسيره في آخر «الحجر» وفي «سبحان» وزاد هاهنا لِمَنِ اتَّبَعَكَ كيلا يذهب الوهم إلى أن خفض الجناح وهو التواضع ولين الجانب مختص بالمؤمنين من عشيرته. وإنما لم يقتصر على قوله لِمَنِ اتَّبَعَكَ لأن كثيرا منهم كانوا يتبعونه للقرابة والنسب لا للدين. وقال في الكشاف: سبب الجمع بين اللفظين هو أنه سماهم قبل الدخول في الإيمان مؤمنين لمشارفتهم ذلك، أو أراد بالمؤمنين المصدّقين بالألسنة فزاد قوله لِمَنِ اتَّبَعَكَ ليخرج من صدّق باللسان دون الجنان، أو صدق بهما ولم يتبعه في العمل. وحين أمره بالتواضع لأهل الإخلاص في الإيمان أمره بالتبرئة من أرباب العصيان. فاستدل الجبائي به على أن الله تعالى أيضا بريء من عملهم فكيف يكون فاعلا له؟! وأجيب بأنه إن أراد ببراءة الله أنه ما أمر بها فمسلم، وإن أراد أنه لا(5/287)
يريدها فممنوع لانتهاء جميع الحوادث إلى إرادته ضرورة قوله وَتَوَكَّلْ معطوف على قوله فَلا تَدْعُ أو على قوله فَقُلْ أمره بتفويض الأمر في دفع أعاديه إلى العزيز الذي يقهر من ناوأ أولياءه الرحيم الذي لا يخذل من ينصر دينه. قال بعض العلماء: المتوكل من إن دهمه أمر لم يحاول دفعه عن نفسه بما فيه معصية الله عز وجل، ولو وقع في محنة واستعان في دفعها ببعض المخلوقين لم يخرج من حد المتوكلين، ثم عدد مواجب الرحمة وهي رؤيته قيامه وتقلبه في الساجدين أي في المصلين. وللمفسرين فيه وجوه منها: ما
روي أنه حين نسخ فرض التهجد طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه حرصا عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات فوجدها كبيوت الزنابير ذكرا وتلاوة.
فالمراد بتقلبه في الساجدين تصفح أحوال المتهجدين من أصحابه ليطلع عليهم كيف يعملون لآخرتهم. ومنها أن المراد تصرفه فما بين المؤمنين به بالقيام والركوع والسجود والقعود. ويروى عن مقاتل أنه استدل به على وجود فضل صلاة الجماعة في القرآن. ومنها أنه إشارة إلى ما
جاء في الحديث «أتموا الركوع والسجود فو الله إني لأراكم من خلف ظهري»
فالتقلب تقلب بصره فيمن يصلي خلفه.
وقيل: أراد أنه لا يخفى علينا كلما قمت وتقلبت مع الساجدين في كفاية أمور الدين. وقد احتج بالآية علماء الشيعة على مذهبهم أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم لا يكونون كفارا. قالوا: أراد تقلب روحه من ساجد إلى ساجد كما
في الحديث المعتمد عليه عندهم «لم أزل أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات»
وناقشهم أهل السنة في التأويل المذكور وفي صحة الحديث. والأصوب عندي أن لا نشتغل بمنع أمثال هذه الدعوى ونسرح إلى بقعة الإمكان على أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول.
ثم أكد قوله وما تنزلت به الشياطين بقوله هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ قال في الكشاف: تقديره أعلى من تنزل؟ ليكون الاستفهام في صدر الكلام كقولك: أعلى زيد مررت؟ قلت: هذا تكلف بارد لأن الاستفهام في «من» ضمني لا يصرح به قط. والأفاك الكثير الإفك، والأثيم مبالغة آثم وهم الكهنة والمتنبئة كسطيح ومسيلمة وأمثالهما. والضمير في يُلْقُونَ عائد إلى الشياطين كانوا قبل الرجم بالشهب يختطفون بعض الغيوب من الملأ الأعلى بإلقاء السَّمْعَ أي بالإصغاء ثم يرجعون به إلى أوليائهم وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ لأنهم يخلطون الحق المسموع بكلامهم الباطل كما
جاء في الحديث «الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة» .
والقر الصب. وقيل: السمع بمعنى المسموع أي يلقي الشياطين إلى أوليائهم ما يسمعونه من الملائكة. ويحتمل أن يكون الضمير في:
يُلْقُونَ للأفاكين والسمع الأذن أو المسموع أي يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون(5/288)
وحيهم، أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس. وإنما لم يقل «وكلهم كاذبون» لأن الكذوب قد يصدق فيصدق عليه أنه صادق في الجملة لأن هذه عبارة الفصحاء لا يحكمون حكما كليا ما لم تدع إليه ضرورة. والحاصل أنهم كانوا يقيسون حال النبي صلى الله عليه وسلم على حال الكهنة فقيل لهم: إن الأغلب على الكهنة الكذب ولم يظهر من أحوال محمد صلى الله عليه وسلم إلا الصدق، فكيف يكون كاهنا؟ ثم بين ما يعرف منه أن النبي ليس بشاعر كما أنه ليس بكاهن فقال وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ قيل: أي الشياطين. والأظهر أنهم الذين يروون أشعارهم وكان شعراء قريش مثل عبد الله بن الزبعري وأمية بن أبي الصلت يهجون النبي صلى الله عليه وسلم ويجتمع إليهم الأعراب من قومهم يستمعون أهاجيهم فنزلت. ثم بين غوايتهم بقوله أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وهو تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول يمدحون إنسانا معينا تارة ويذمونه أخرى غالين في كلا الطرفين مستعملين التخيل في كل ما يرومونه. وذكر من قبائح خصالهم أَنَّهُمْ يَقُولُونَ عند الطلب والدعاوي ما لا يَفْعَلُونَ ولعمري إنها خصلة شنعاء تدل على الدناءة واللؤم.
قالوا وما فعلوا وأين هم ... من معشر فعلوا وما قلوا
وعن الفرزدق أن سليمان بن عبد الملك سمع قوله:
فبتن بجانبيّ مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام
فقال: وجب عليك الحد. قال: قد درأ الله عني الحد يا أمير المؤمنين وتلا الآية. ثم استثنى الشعراء المؤمنين الصالحين الذين أغلب أحوالهم الذكر والفكر فيما لا بأس به من المواعظ والنصائح، ومدح الحق وذويه، ويكون هجاؤهم على سبيل الانتصار ممن يهجوهم مثل عبد الله بن رواحة وحسان بن ثابت وكعب بن زهير كانوا ينافحون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن كعب بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: اهجهم فو الذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل. وكان يقول لحسان: هاجهم وروح القدس معك.
والحاصل أن النظر في الشعر إلى المعنى لا على مجرد النظم والروي. فإن كان المعنى صحيحا مطابقا للحق والصدق فلا بأس بإدخاله في سلك النظم والقافية بل لعل النظم يروجه ويهيج الطبع على قبوله وهو الذي عناه صلى الله عليه وسلم
«إن من الشعر لحكما» «1» .
وإن كان المعنى فاسدا والغرض غير صحيح فهو
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 90. أبو داود في كتاب الأدب باب 87. الترمذي في كتاب الأدب باب 69. ابن ماجة في كتاب الأدب باب 41. الدارمي في كتاب الاستئذان باب 68. أحمد في مسنده (3/ 456) .(5/289)
الذي توجه الذم إليه. وللانتصار حد معلوم وهو أن لا يزيد على الجواب لقوله تعالى:
فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ [البقرة: 194]
وقال صلى الله عليه وسلم «المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يتعدى المظلوم» «1»
ثم ختم السورة بآية جامعة للوعيد كله فقال وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا خصصه بعضهم بالشعراء إذا خرجوا عن حد الإنصاف، ومالوا إلى الجور والاعتساف، ولعله عام يتناول لكل من ظلم نفسه بالإعراض عن تدبر ما في هذه السورة بل القرآن كله. وقوله أَيَّ مُنْقَلَبٍ صفة لمصدر محذوف والعامل يَنْقَلِبُونَ أي ينقلبون في الدركات السفلى انقلابا أيّ منقلب ولا يعمل فيه سَيَعْلَمُ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله. وعن ابن عباس أنه قرأه بالفاء والتاء والمراد سيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الانفلات وهو النجاة.
التأويل:
ولو نزلناه على بعض الأعجميين فيه إظهار القدرة من وجهين: الأول جعل الأعجمي بحيث يقرأ العربي عليهم كقول القائل: أمسيت كرديا وأصبحت عربيا.
والثاني أن أهل الإنكار لا يصيرون أهل الإقرار ولو أتاهم مثل هذا الإعجاز البين، وذلك لأن الله كذلك يسلكه في قلوبهم فيأتيهم عذاب البعد والطرد في الدنيا بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ لأنهم نيام فإذا ماتوا انتبهوا فيقولون هل نحن منظرون. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ لأنهم خلقوا من النار والقرآن نور قديم فلا يكون للنار المخلوقة قوة حمل النور القديم، ولهذا تستغيث النار من نور المؤمن وتقول: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي. فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ لأن كل من طلب مع الله شيئا آخر حتى الجنة فله عذاب البعد والحرمان من الله.
وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ فيه أن النسب نسب النفوس فإن أكل المرء يشبعه ولا يشبع ولده. إلا إذا أكل الطعام كما أكل والده وهذا معنى المتابعة. إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ لم يقل
«إني بريء منكم»
لأن المراد لا تبرأ منهم وقل لهم قولا جميلا بالنصح والموعظة الحسنة حتى يرجعوا ببركة دعوتك إلى القول الحق، أو ينالوا الجنة بواسطة شفاعتك. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ بأن خلق روح كل ساجد من روحك. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ في الأزل مقالتك «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» لأن أرواحهم خلقت من روحك الْعَلِيمُ باستحقاقك لهذه الكرامة الله تعالى حسبي.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب البر حديث 69. أبو داود في كتاب الأدب باب 39. الترمذي في كتاب البر باب 51. أحمد في مسنده (2/ 235، 488) (4/ 162) .(5/290)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
(سورة النمل)
(مكية حروفها أربعة آلاف وستمائة وتسعة وتسعون كلمها ألف ومائة وتسعة آياتها ثلاث وتسعون)
[سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)
أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
القراآت:
إِنِّي آنَسْتُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. بِشِهابٍ منونا على أن قبسا وهو بمعنى مقبوس بدل أو صفة: عاصم وحمزة وعلي وخلف ورويس.
الباقون بالإضافة مَنْ فِي النَّارِ ممالة: عليّ غير ليث وأبي حمدون وحمدويه وحمزة وفي رواية ابن سعدان والنجاري عن ورش وأبو عمرو غير إبراهيم بن حماد وكذلك في «القصص» .
الوقوف:
طس هـ مُبِينٍ هـ لا بناء على أن هُدىً حال والعامل معنى الإشارة(5/291)
في تِلْكَ أو هو مرفوع بدلا من ال آياتُ أو خبرا بعد خبر وإن كان التقدير هي هدى به فلك الوقف لِلْمُؤْمِنِينَ هـ لا لأن الَّذِينَ صفتهم يُوقِنُونَ هـ يَعْمَهُونَ هـ ط تنصيصا على أن أُوْلئِكَ مبتدأ مستأنف. الْأَخْسَرُونَ هـ عَلِيمٍ هـ ناراً هـ تَصْطَلُونَ حَوْلَها ط الْعالَمِينَ هـ الْحَكِيمُ هـ لا لعطف الجملتين الداخلتين تحت النداء عَصاكَ ط للعدول عن بيان حال الخطاب إلى ذكر حال المخاطب مع حذف أي فألقاها فحييت وَلَمْ يُعَقِّبْ ط لابتداء النداء الْمُرْسَلُونَ هـ لا لأن «إلّا» إن كان بمعنى «لكن» فالاستدراك يوجب الوصل أيضا. رَحِيمٌ هـ وَقَوْمِهِ ط فاسِقِينَ هـ مُبِينٌ ج هـ للآية والعطف وَعُلُوًّا ط لاختلاف الجملتين وتعظيم الأمر بالاعتبار بعد حذف أي فأغرقناهم الْمُفْسِدِينَ هـ.
التفسير:
تلك الآيات التي تضمنتها هذه السورة آيات القرآن الذي علم أنه منزل مبارك مصدق لما بين يديه وكتاب مبين. فإن أريد به اللوح فآياته أنه أثبت فيه كل كائن، وإن أريد به السورة أو القرآن فالغرض تفخيم شأنهما من قبل التنكير. فآياتهما أن إعجازهما ظاهر مكشوف وفيهما من العلوم والحكم ما لا يخفى، ولأن الواو لا تفيد الترتيب فلا حكمة ظاهرة في عكس الترتيب بين ما هاهنا وبين ما في أول «الحجر» . ومعنى كون الآيات هدى وبشرى أنها تزيد في إيمانهم وتبشرهم بالثواب. قال جار الله: يحتمل أن يكون قوله وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ من تتمة الموصول إلا أن الأوجه أن يكون جملة مستقلة ابتدائية شبيهة بالمعترضة بدليل تكرير المبتدأ الذي هو هم فكأنه قيل: وما يؤمن بالآخرة حق الإيقان إلا هؤلاء الجامعون بين الإيمان والعمل الصالح، لأن خوف العاقبة هو الذي يسهل عليهم متاعب التكاليف. وأقول: إنه وصفهم بالإيمان ليكون إشارة إلى معرفتهم المبتدأ، ثم وصفهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهما الطاعة بالنفس والمال، وهذه إشارة إلى وسط. ثم وصفهم بمعرفة المعاد فلا أحسن من هذا النسق. وفيه أن المهتدي بالقرآن حقيقة هو الذي يكون موقنا بأحوال المعاد لا شاكا فيها، آتيا بالطاعات للاحتياط قائلا: إن كنت مصيبا فيها فقد نلت السعادة وإن كنت مخطئا فلم تفتني إلا لذات يسيرة زائلة. ثم أورد وعيد المنكرين للمعاد وإسناد تزيين الأعمال إلى الله ظاهر على قول الأشاعرة، وأما المعتزلة فتأولوه بوجوه منها: أنه استعارة فكأنه لما متعهم بطول العمر وسعة الرزق وجعلوا ذلك التمتع ذريعة إلى اتباع الشهوات وإيثار اللذات فقد زين لهم بذلك أعمالهم. ومنها أنه مجاز حكمي وهو الذي يصححه بعض الملابسات. ولا ريب أن إمهال الشيطان وتخليته حتى زين لهم أعمالهم كما قال وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل: 24] ملابسة ظاهرة للتزيين. ومنها أنه أراد زينا(5/292)
لهم أمر الدين ولا يلزمهم أن يتمسكوا به وذلك بأن بينا لهم حسنه وما لهم فيه من الثواب فَهُمْ يَعْمَهُونَ يعدلون ويتحيرون عما زينا لهم قاله الحسن لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ أي القتل والأسر كيوم بدر. ثم مهد مقدمة لما سيذكر في السورة من الأخبار العجيبة فقال وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ لتؤتاه وتلقنه من عند أيّ حكيم وأيّ عليم. وإِذْ قالَ منصوب ب عَلِيمٍ أو باذكر كأنه قيل: خذ من آثار حكمته وعلمه قصة موسى العجيبة الشأن. والخبر خبر الطريق لأنه كان قد ضله. وفي قوله سَآتِيكُمْ مع قوله في «طه» و «القصص» لَعَلِّي آتِيكُمْ [طه: 10] دليل على أنه كان قوي الرجاء إلا أنه كان يجوّز النقيض، وعد أهله بأنه يأتيهم بأحد الأمرين وإن أبطأ لبعد المسافة أو غيره. قالوا: في «أو» دليل على أنه جزم بوجدان أحد الأمرين ثقة بعناية الله تعالى أنه لا يكاد يجمع بين حرمانين على عبده والاصطلاء بالنار الاستدفاء بها والاجتماع عليها وإنما خصت هذه السورة بقوله فَلَمَّا جاءَها وقد قال في «طه» و «القصص» فَلَمَّا أَتاها [طه: 11] نُودِيَ لأنه كرر لفظ آتِيكُمْ هاهنا بخلاف السورتين فاحترز من تكرار ما يقاربه في الاشتقاق مرة أخرى.
وأَنْ مفسرة لأن النداء فيه معنى القول لا مخففة من الثقيلة بدليل فقدان «قد» في فعلها.
قال جار الله: معنى بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ بورك من في مكان النار، ومن حول مكانها، ومكانها البقعة التي حصلت النار فيها كما قال في القصص نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ [القصص: 30] وسبب البركة حدوث أمر ديني فيها وهو تكليم الله إياه وإظهار المعجزات عليه. وقيل: معنى بورك تبارك، والنار بمعنى النور أي تبارك من في النار وهو الله سبحانه مروي عن ابن عباس. وعن قتادة والزجاج أن من في النار هو نور الله، ومن حولها الملائكة. وقال الجبائي: ناداه بكلام سمعه من الشجرة في البقعة المباركة وهي الشام فكانت الشجرة محلا للكلام والمتكلم هو الله بأن خلقه فيها، ثم إن الشجرة كانت في النار ومن حولها الملائكة. وقيل: من في النار هو موسى لقربه منها، ومن حولها الملائكة. وفي الابتداء بهذا الخطاب عند مجيء موسى بشارة له بأنه قد قضي أمر عظيم تنتشر منه البركة في أرض الشام.
وفي قوله وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ تنزيه له عما لا يليق بذاته من الحدوث والحلول ونحوهما مما هو من خواص المحدثات، وتنبيه على أن الكائن من جلائل الأمور التي لا يقدر عليها إلا رب العالمين. والهاء في إِنَّهُ إما للشأن وإما راجع إلى ما دل عليه سياق الكلام أي أن المتكلم أَنَا وعلى هذا فالله مع وصفيه بيان لانا وفيه تلويح إلى ما أراد إظهاره عليه، يريد أنا القادر القوي على إظهار الخوارق الحكيم الذي لا يفعل جزافا(5/293)
ولا عبثا. وقوله وَأَلْقِ عَصاكَ معطوف على بُورِكَ وكلاهما تفسير ل نُودِيَ والمعنى:
قيل له بورك وألق: ومعنى لَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع يقال: عقب المقاتل إذا كر بعد الفر.
وإنما اقتصر هاهنا على قوله لا تَخَفْ ولم يضف إليه أقبل كما في «القصص» لأنه أراد أن يبني عليه قوله إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ وسبب نفي الخوف عن الرسل مشاهدة مزيد فضل الله وعنايته في حقهم. ثم استثنى من ظلم منهم بترك ما هو أولى به، وقد مر بحث عصمة الأنبياء في أول «البقرة» . وفي الآية لطائف وإشارات منها: أنه أشار بقوله إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إلى أن موسى قد جعل رسولا. ومنها أنه أشار بقوله إِلَّا مَنْ ظَلَمَ إلى ما وجد من موسى في حق القبطي، وبقوله ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ أي توبة بعد ذنب إلى قول موسى رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي [القصص: 16] وقرىء «ألا» بحرف التنبيه.
ومنها أنه أشار بقوله ثُمَّ بَدَّلَ معطوفا على ظَلَمَ إلى أن النبي المرسل بدّل النية ولم يصر على فعله وإلا كان هذا العطف مقطوعا عن الكلام ضائعا، فإنه إذا ظلم ولم يبدل كان خائفا أيضا. ومنها أنه أشار بقوله فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ إلى أن الخوف وإن لحق المستثنى إلا أنه منفي عنه أيضا بسبب غفرانه ورحمته، فنفي الخوف ثابت على كل حال فهذا الاستثناء قريب من تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله:
هو البدر إلا أنه البحر زاخر وكقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
وهذه اللطائف مما سمح بها الخاطر أوان الكتابة أرجو أن تكون صوابا إن شاء العزيز.
قوله وَأَدْخِلْ يَدَكَ وفي «القصص» اسْلُكْ يَدَكَ [القصص: 32] موافقة لأضمم ولأن المبالغة في أَدْخِلْ أكثر منها في اسْلُكْ لأن سلك لازم ومتعد. وهناك قال فَذانِكَ بُرْهانانِ [القصص: 32] وهاهنا قال فِي تِسْعِ آياتٍ وكان أبلغ في العدد فناسب الأبلغ في اللفظ. قال النحويون: متعلق الجار محذوف مستأنف أي أذهب في تسع آيات. أو المراد وأدخل يدك في تسع أي في جملتهن وعدادهن، اذهب إلى فرعون. وتفسير التسع قد مر في آخر «سبحان» وإنما قال هاهنا إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ دون أن يقول وَمَلَائِهِ [الآية: 32] كما في القصص لأن الملأ أشراف القوم وقد وصفهم هاهنا بقوله فَلَمَّا جاءَتْهُمْ إلى قوله ظُلْماً وَعُلُوًّا فلم يناسب أن يطلق عليهم لفظ ينبىء عن المدح. ومعنى مُبْصِرَةً ظاهرة بينة كأنها تبصر بطباق العين فتهدي، ويجوز أن يكون الإبصار مجازا باعتبار إبصار صاحبها وهو(5/294)
كل ذي عقل أو فرعون وقومه. والواو في وَاسْتَيْقَنَتْها للحال وقد مضمرة وفي زيادة أَنْفُسُهُمْ إشارة إلى أنهم أظهروا خلاف ما أبطنوا والاستيقان أبلغ من الإيقان. وقوله ظُلْماً وَعُلُوًّا أي كبرا وترفعا مفعول لأجلهما. وقرىء مُبْصِرَةً بفتح الميم نحو «مبخلة» قرأها علي بن الحسين وقتادة والله أعلم.
التأويل:
طا طلب الطالبين، وسين سلامة قلوبهم من تعلقات غير الله، تلك دلالات القرآن وشواهد أنواره وَكِتابٍ مُبِينٍ فيه بيان كيفية السلوك ولذلك قال هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ بالوصول إلى الله الذين يستقيمون في المعارج لحقائق الصلوات ويؤتون الزكاة أموالهم وأحوالهم بالإضافة على المستحقين زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ الدنيوية النفسانية فَهُمْ يَعْمَهُونَ لعمي قلوبهم عن رؤية الآخرة ونعيمها، ولا يكون في عالم الآخرة أعمى إلا كان أصم وأبكم ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم «حبك للشيء يعمي ويصم» «1»
فبحب الدنيا عميت عين القلب وصمت أذنه وصار أبكم عن العلم اللدني والنطق به، وهو سوء العذاب، وهو الموجب لخسران الدارين مع خسران المولى، وإنما يكون خسران الدارين ممدوحا إذا ربح المولى.
وجد أبو زيد في البادية قحفا مكتوبا عليه خسر الدنيا والآخرة فبكى وقبله وقال: هذا رأس صوفي. وحين أخبر عن مقامات المؤمنين ودركات الكافرين أخبر عن مقام النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ لا من عند جبريل بل مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ تجلى لقلبك بحكمة القرآن عَلِيمٍ يعلم حيث يجعل رسالته. ثم ضرب مثالا لذلك وهو أن موسى القلب لما كشف له أنوار شواهد الحق في ليلة الهوى وظلمة الطبيعة قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ وهم النفس وصفاتها إِنِّي آنَسْتُ ناراً بوادي أيمن السر لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ بتلك النار عن جمود الطبيعة فَلَمَّا جاءَها على قدمي الشوق وصدق الطلب نُودِيَ من الشجرة الروحانية أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي نار المحبة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة وَمَنْ حَوْلَها كالفراش يريد أن يقع فيها وَأَلْقِ عن يد همتك كل ما تعتمد عليه سوى فضل الله فإنه جان في الحقيقة وَلَّى مُدْبِراً هاربا إلى الله وَلَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع إلى غيره فلذلك نودي ب لا تَخَفْ فإن القلوب الملهمة الموصلة إليها الهدايا والتحف والألطاف لا تخاف سوى الله إلّا من ظلم نفسه بالرجوع إلى الغير وَأَدْخِلْ يد همتك في جيب قناعتك تَخْرُجْ بَيْضاءَ نقية من لوث الدارين فِي تِسْعِ آياتٍ من أسباب هلاك النفس وصفاتها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الذين أفسدوا الاستعداد الفطري والله أعلم.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 116. أحمد في مسنده (5/ 194) (6/ 450) .(5/295)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19) وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37) قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
[سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 44]
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24)
أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29)
إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34)
وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39)
قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)(5/296)
القراآت:
وادِ النَّمْلِ ممالة: عباس وقتيبة. وقرأ يعقوب وعلي والسرنديبي عن قنبل بالياء في الوقف. لا يَحْطِمَنَّكُمْ بالنون الخفيفة: عباس ورويس. أَوْزِعْنِي بفتح الياء: ابن كثير وكذلك في «الأحقاف» ما لِيَ لا بفتح ياء المتكلم: ابن كثير وعلي وعاصم لَيَأْتِيَنِّي بنون الوقاية بعد الثقيلة: ابن كثير. فَمَكَثَ بفتح الكاف: عاصم وسهل ويعقوب غير رويس. الآخرون بضمها مِنْ سَبَإٍ بفتح الهمزة لامتناع الصرف:
البزي وأبو عمرو وعن قنبل بهمزة ساكنة. وفي رواية أخرى عنه وعن ابن فليح وزمعة بغير همز. الباقون بهمزة منونة مكسورة، وكذلك في سورة سبأ. أَلَّا يَسْجُدُوا مخففا: يزيد وعلي ورويس. الآخرون بالتشديد. وقال ابن مجاهد: إذا وقفوا على أَلَّا وقفوا على «ألا يا» والابتداء اسجدوا تُخْفُونَ وتُعْلِنُونَ بتاء الخطاب فيهما: علي وحفص والباقون على الغيبة فَأَلْقِهْ بسكون الهاء: حمزة وعاصم غير المفضل وأبو عمرو غير عباس، وقرأ باختلاس حركة الهاء: يزيد وقالون ويعقوب غير زيد وأبو عمرو من طريق الهاشمي عن اليزيدي الباقون بالإشباع إِنِّي أُلْقِيَ بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع أتمدونني بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل وافق به أبو جعفر ونافع وأبو عمرو في الوصل اتمدوني بتشديد النون وبالياء في الحالين: حمزة ويعقوب. الآخرون بإظهار النونين وحذف الياء أتاني الله بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن فليح وحفص. فمن فتح الياء فالوقف بالياء لا غير، من حذف الياء فإنه يقف بغير الياء إلا سهلا ويعقوب فإنهما يقفان بالياء. وقرأ علي آتانِيَ اللَّهُ بالإمالة أَنَا آتِيكَ بالإمالة وكذلك ما بعده: حمزة في رواية خلف وابن سعدان والعجلي وأبي عمرو وخلف لنفسه فلما رأيه بكسر الراء: نصير لِيَبْلُوَنِي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع. اقَيْها
وبابه بالهمز: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل والأحسن تركها. قال في الكشاف: من همز فوجهه أنه سمع سؤقا فأجرى عليه الواحد.
الوقوف:
عِلْماً ج للعدول عن بيان إيتاء الفضل ابتداء إلى ذكر قول المنعم عليهما شكرا ووفاء الْمُؤْمِنِينَ هـ شَيْءٍ ط الْمُبِينُ هـ يُوزَعُونَ هـ النَّمْلِ لا لأن ما بعده جواب «إذا» مَساكِنَكُمْ ج لانقطاع النظم لنهي الغائب مع اتحاد القائل وَجُنُودُهُ لا لأن الواو للحال لا يَشْعُرُونَ هـ الصَّالِحِينَ هـ الْهُدْهُدَ ز على معنى بل أكان من الغائبين على معنى التهديد والأصح أن «أم» متصل بمعنى الاستفهام في ما لِيَ أي أنا لا أراه أو هو غائب الْغائِبِينَ هـ مُبِينٍ هـ يَقِينٍ هـ عَظِيمٌ هـ لا يَهْتَدُونَ هـ لا ومن خفف(5/297)
أَلَّا وقف مطلقا تُعْلِنُونَ هـ الْعَظِيمِ هـ سجدة الْكاذِبِينَ هـ يَرْجِعُونَ هـ كَرِيمٌ هـ الرَّحِيمِ هـ لا لتعلق «أن» مُسْلِمِينَ هـ أَمْرِي ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل تَشْهَدُونِ هـ تَأْمُرِينَ هـ أَذِلَّةً ج لأن قوله وَكَذلِكَ يحتمل أن يكون من تتمة قولها أو هو تصديق من الله لما قالت يَفْعَلُونَ هـ الْمُرْسَلُونَ هـ بِمالٍ ز لانتهاء الاستفهام مع فاء التعقيب وبيان الاستغناء على التعجيل آتاكُمْ ج لاختلاف الجملتين على أن «بل» ترجح جانب الوقف تَفْرَحُونَ هـ صاغِرُونَ هـ مُسْلِمِينَ هـ مَقامِكَ ج للابتداء بإن مع اتحاد القائل أَمِينٌ هـ طَرْفُكَ ط للعدول أَمْ أَكْفُرُ
هـ لِنَفْسِهِ ج كَرِيمٌ هـ لا يَهْتَدُونَ هـ عَرْشُكِ ط هُوَ ج لاحتمال أن يكون ما بعده من كلامها أو من كلام سليمان مُسْلِمِينَ هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ ط كافِرِينَ هـ صَّرْحَ
ج اقَيْها
طوارِيرَ
هْ عالَمِينَ
هـ.
التفسير:
لما فرغ من قصة موسى شرع في قصة ثانية وهي قصة داود وابنه سليمان.
والتنوين في عِلْماً إما للنوع أي طائفة من العلم أو للتعظيم أي علما غزيرا. قال علماء المعاني: الواو في وَقالا للعطف على محذوف لأن هذا مقام الفاء كقولك: أعطيته فشكر. فالتقدير: ولقد آتيناهما علما فعملا به وعلماه وعرفا حق النعمة والفضيلة فيه وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ وبيانه أن الشكر باللسان إنما يحسن إذا كان مسبوقا بعمل القلب وهو العزم على فعل الطاعة وترك المعصية، وبعمل الجوارح وهو الاشتغال بالطاعات فكأنه قال: ولقد آتيناهما علما فعملا به قلبا وقالبا وَقالا باللسان الْحَمْدُ لِلَّهِ قلت: لقائل أن يقول:
الأصل عدم الإضمار وقوله هذا مقام الفاء ممنوع، وإنما يكون كذلك إذا أريد التعقيب والتسبيب فإن كان المراد مجرد الإخبار عما فعل بهما وعما فعلا فالواو كقولك «أعطيته وشكر» . وقوله عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ يجوز أن يكون واردا على سبيل التواضع وإن كانا مفضلين على جميع أهل زمانهما. ويجوز أن يكون واردا على الحقيقة بالنسبة إلى زمانهما أو بالنسبة إلى سائر الأزمنة وهذا أظهر. وإنما وصف العباد بالمؤمنين لئلا يظن أن سبب الفضيلة هو مجرد الإيمان ولكن ما يزيد عليه من الاستغراق في بحر العبودية والعرفان. وفي الاية دليل على شرف العلم وأن العالم يجب أن يتلقى علمه بشكر الله تعالى قلبا وقالبا وما التوفيق إلا منه. قوله وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ عن الحسن أنه المال لأن النبوة عطية مبتدأة، وزيف بأن المال أيضا عطية مبتدأة ولذلك يرث الولد إذا كان مؤمنا ولا يرث إذا كان كافرا أو قاتلا. وما المانع من أن يوصف بأنه ورث النبوة لما قام بها عند موته كما يرث الولد المال إذا قام به عند موته. والظاهر أنه أراد وراثة النبوة والملك معا دليله قوله تشهيرا لنعمة الله(5/298)
ودعاء للناس إلى تصديق المعجزة يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ والمنطق يشمل كل ما يصوت به من المفرد والمؤلف مفيدا وغير مفيد، ومنه قولهم «نطقت الحمامة» . قال المفسرون: إنه تعالى جعل الطير في أيامه مما له عقل وليس كذلك حال الطيور في أيامنا وإن كان فيها ما ألهمه الله تعالى الدقائق التي خصت بالحاجة إليها. يحكى أنه مر على بلبل في شجرة فقال لأصحابه: إنه يقول: إني أكلت نصف تمرة فعلى الدنيا العفا أي التراب.
وصاحت فاختة فأخبر أنها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا. وصاح طاوس فقال: يقول: كما تدين تدان. وأخبر أن الهدهد يقول: استغفروا الله يا مذنبون. والخطاف يقول: قدموا خيرا تجدوه. والرخمة تقول: سبحان ربي الأعلى ملء سمائه وأرضه. والقمريّ يقول: سبحان ربي الأعلى. والقطاة تقول: من سكت سلم. والببغاء تقول: ويل لمن الدنيا همه. والديك يقول: اذكروا الله يا غافلون. والنسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت.
والعقاب يقول: في البعد من الناس أنس. ومعنى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ بعض كل شيء. وقال في الكشاف: أراد كثرة ما أوتي كما تقول «فلان يقصده كل أحد» تريد كثرة قاصديه. وإنما قال عُلِّمْنا وَأُوتِينا لأنه أراد نفسه وأباه، ويجوز أن يريد نفسه فقط لا على طريق التكبر بل على عادة الملوك يعظمون أنفسهم لمصلحة التهييب. وقوله إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ قول وارد على سبيل الشكر والتحدث بالنعم كما
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» «1»
أي أقول هذا شكرا لا فخرا. يروى أن معسكره كان مائة فرسخ في مائة فرسخ.
خمسة وعشرون للجن ومثله للإنس ومثله للطير ومثله للوحش، وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، وكان يوضع منبره في وسطه وهو من ذهب فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فتقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسيّ الذهب والعلماء على كراسيّ الفضة وحولهم الناس وحول الناس الجن والشياطين، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس وترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر، وإنه كان يقول مع ذلك: لتسبيحة واحدة يقبلها الله خير مما أوتي آل داود. ومعنى يُوزَعُونَ يحبسون. قيل: كانوا يمنعون من يتقدم من عسكره ليكون مسيره مع جنوده على ترتيب، ومنه يعلم أنه كان في كل قبيل منها وازع يكون له تسلط على الباقين يكفهم ويصرفهم.
ومعنى أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قطعوه وبلغوا آخره من قولهم «أتى على الشيء» إذا أنفذه
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب 13. ابن ماجة في كتاب الزهد باب 37. أحمد في مسنده (1/ 5) .(5/299)
وبلغ آخره كأنهم أرادوا أن ينزلوا عند منقطع الوادي. ويجوز أن يقصد إتيانهم من فوق لأن الريح كانت تحملهم في الهواء فلذلك عدي ب «على» عن قتادة أنه دخل الكوفة فاجتمع عليه الناس فقال: سلوا عما شئتم وكان أبو حنيفة حاضرا وهو غلام حدث فقال: سلوه عن نملة سليمان أكانت ذكرا أم أنثى؟ فسألوه فأفحم فقال أبو حنيفة: كانت أنثى لقوله تعالى قالَتْ نَمْلَةٌ ولو كان ذكرا لم تجز التاء لأن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على الذكر والأنثى فلا بد من التمييز بالعلامة.
وحين عبر عن تفاهم النمل بلفظ التقاول جعل خطابهم خطاب أولي العقل فحكى أنها قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ أما جواب للأمر وإما نهي بدلا من الأمر أي لا تكونوا بحيث يحطمكم أي يكسركم سليمان وجنوده على طريقة «لا أرينك هاهنا» . وفي قوله سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ دون أن يقول جنود سليمان مبالغة أخرى كما تقول:
أعجبني زيد وكرمه. وفي الآية دلالة على أن من يسير في الطريق لا يلزمه التحرز وإنما يلزم من في الطريق التحرز. وفي قوله وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ تنبيه على وجود الجزم بعصمة الأنبياء كأنها عرفت أن النبي لعصمته لا يقع منه قتل هذه الحيوانات إلا على سبيل السهو. وعن بعضهم أنها خافت على قومها أن يقعوا في كفران نعمة الله تعالى إذا رأوا جلالة سليمان، وهذا معنى الحطم فلذلك أمرتهم بدخول المساكن. وفيه تنبيه على أن مجالسة أرباب الدنيا محذورة. قيل: سمع سليمان كلامها من ثلاثة أميال فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً أي شارعا في الضحك آخذا فيه ولكن لم يبلغ حدّ القهقهة وكمال الضحك. وما
روي أنه صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه
فعلى وجه المبالغة في الضحك النبوي. وإنما أضحكه من قولها شفقتها على قومها وسروره بما آتاه الله من إدراك الهمس واشتهاره بالتحرز والتقوى ولذلك مال إلى الدعاء قائلا: رَبِّ أَوْزِعْنِي قال جار الله: حقيقته اجعلني أزع شكر نعمتك عندي وأربطه لا ينفلت عني فلا أزال شاكرا لك. وإنما أدرج ذكر الوالدين لأن النعمة على الولد نعمة عليهما وبالعكس. ثم طلب أن يضيف لواحق نعمه إلى سوابقها ولا سيما النعم الدينية فقال: وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ ثم دعا أن يجعله في الآخرة من زمرة الصالحين لأن ذلك غاية كل مقصود. يروى أن النملة أحست بصوت الجنود ولم تعلم أنها في الهواء فأمر سليمان الريح فوقفت لئلا يذعرن حتى دخلن مساكنهن، ثم دعا بالدعوة.
القصة الثالثة قصة بلقيس وما جرى بينها وبين سليمان وذلك بدلالة الهدهد،
يروى أن سليمان حين تم له بناء بيت المقدس تجهز للحج مع حشمه فأتى الحرم ومكث به أياما يقرب كل يوم خمسة آلاف ناقة وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة. ثم عزم على السير(5/300)
إلى اليمن فخرج من مكة صباحا فوافى صنعاء وقت الزوال وذلك مسيرة شهر، فرأى أرضا أعجبته بهجتها إلا أنهم لم يجدوا الماء فطلب الهدهد لأنه يرى الماء من تحت الأرض.
وعن وهب أنه أخل بالنوبة التي كانت تنوبه فلذلك تفقده. وقيل: إنه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان فنظر فإذا موضع الهدهد خال فدعا عفريت الطير- وهو النسر- فسأله عنه فلم يجد عنده علمه. ثم قال لسيد الطير- وهو العقاب- عليّ به فارتفعت فنظرت فإذا هو مقبل فقصدته فأقسم عليها بالله لتتركنه فتركته. وقالت: إن نبي الله قد حلف ليعذبنك قال: وما استثنى؟ قالت: بلى قال: أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ أي بعذر واضح.
فلما قرب من سليمان أرخى ذنبه وجناحيه يجرها على الأرض تواضعا له، فلما دنا منه أخذ سليمان برأسه فمده إليه فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله عز وجل فارتعد سليمان وعفا عنه ثم سأله عما لقي في غيبته. وفي تفقد الهدهد إشارة إلى أن الملوك يجب عليهم التيقظ وعدم الغفلة عن أصغر رعيتهم. وأرجع إلى التفسير. قوله ما لِيَ لا أَرَى استبعاد منه أنه لا يراه وهو حاضر في الجند كأن ساترا ستره ثم لاح له أنه غائب فقال أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ وقد مر في الوقوف قوله لَأُعَذِّبَنَّهُ لا شك أن تعذيبه إنما يكون بما يحتمله حاله. فقيل: أراد أن ينتف ريشه ويشمسه وكان هذا عذابه للطير. وقيل: كان يطلي بالقطران ويشمس. وقيل: هو أن يلقيه للنمل لتأكله. وقيل: إيداعه القفص. وقيل: التفريق بينه وبين إلفه. وقيل: أراد لألزمنه صحبة الأضداد كما قيل: أضيق السجون مجالسة الأضداد. وقيل: لألزمنه خدمة أقرانه. ولعل تعذيب الهدهد وذبحه في عصره جائز لمصلحة السياسة كما أباح لنا ذبح كل مأكول لحمه لمصلحة التغذي. وحاصل القسم يرجع إلى قوله ليكونن أحد هذه الأمور الثلاثة: التعذيب أو الذبح أو الإتيان بعذر بين وحجة واضحة.
ويحتمل أن يكون قد عرف إتيانه بالعذر بطريق الوحي فلذلك أدرجه في سلك ما هو قادر على فعله فأقسم عليه. ثم أخبر الله سبحانه أنه أتى بسلطان مبين وذلك قوله فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ أي غير زمان بعيد فَقالَ مخاطبا لسليمان أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ قالوا: فيه إبطال قول من زعم أن إمام الزمان لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه.
وفيه دليل على شرف العلم وأن صاحبه له أن يكافح به من هو أعلى حالا منه. والإحاطة بالشيء علما هو أن يعلمه من جميع جهاته. وقوله مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ من جملة صنائع البديع على أن النبأ خبر له شأن فذكره في هذا الموضع دون أن يقول «من سبا بخبر» حسن على حسن. وسبأ اسم للقبيلة فلا ينصرف أو اسم للحي أو الأب الأكبر فينصرف، وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان، ثم سميت مدينة مأرب بسبأ وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث.
ويحتمل أن يراد بسبأ المدينة أو القوم. ثم شرع في النبأ وهو قوله إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً(5/301)
واسمها بلقيس بنت شراحيل ملك اليمن كابرا عن كابر إلى تبع الأول، ولم يكن له ولد غيرها فورثت الملك وكانت هي وقومها مجوسا عبدة الشمس. والضمير في تَمْلِكُهُمْ يعود إلى سبأ إن أريد به القوم وإلى الأهل المحذوف إن أريد به المدينة. وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ أي بعض كل ما يتعلق بالدنيا من الأسباب. وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ كأنه استعظم لها ذلك مع صغر حالها إلى حال سليمان، أو استعظمه في نفسه لأنه لم يكن لسليمان مثله مع علو شأنه، وقد يتفق لبعض الأمراء شيء لا يكون مثله لمن فوقه في الملك، وقد يطلع بعض الأصاغر على مسألة لم يطلع عليها أحد كما اطلع الهدهد على حال بلقيس دون سليمان. ووصف عرش الله بالعظم إنما هو بالإضافة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض. يحكى من عظم شأنه أنه كان مكعبا ثلاثين في ثلاثين أو ثمانين وكان من ذهب وفضة مكللا بأنواع الجواهر وكذا قوائمه، وعليه سبعة أبيات على كل بيت باب مغلق، قال بعض المعتزلة: في قوله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ دليل على أن المزين للكفر والمعاصي هو الشيطان. وأجيب بأن قول الهدهد لا يصلح للحجة والتحقيق فيه قد مر ولا يبعد أن يلهم الله الهدهد وجوب معرفته والإنكار على من يعبد غيره خصوصا في زمن سليمان عليه السلام.
قوله أَلَّا يَسْجُدُوا من قرأ بالتشديد على أن الجار محذوف فإن كان متعلقا بالصد فالتقدير صدهم لأن أَلَّا يَسْجُدُوا وإن كان متعلقا ب لا يَهْتَدُونَ ف أَلَّا مزيدة أي لا يهتدون إلى أن يسجدوا. ومن قرأ بالتخفيف فقوله أَلَّا حرف تنبيه ويا حرف النداء والمنادى محذوف والتقدير: ألا يا قوم اسجدوا كقوله:
ألا يا أسلمي يا دارميّ على البلى ... ولا زال منهلا بجرعائك القطر
قال الزجاج: السجدة في الآية على قراءة التخفيف دون التشديد. والحق عدم الفرق لأن الذم على الترك كالأمر بالسجود في الاقتضاء. والخبء مصدر بمعنى المخبوء وهو النبات والمطر وغيرهما مما خبأه الله عز وجل من غيوبه، ومن جملة ذلك اطلاع الكواكب من أفق الشرق بعد اختفائها في أفق الغرب، ومنها الأقضية والأحكام والوحي والإلهام، ومنها إنزال الملك وكل أثر علوي. وفي تخصيص وصف الله تعالى في هذا المقام بإخراج الخبء إشارة إلى ما عهده الهدهد من قدرة الله تعالى في إخراج الماء من الأرض، ألهمه هذا التخصيص كما ألهمه تلك المعرفة. ولما انجر كلام الهدهد إلى هذه الغاية قالَ سليمان سَنَنْظُرُ أي نتأمل في صفحات حالك أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ وهذا أبلغ من أن لو قال له(5/302)
«كذبت» لأنه إذا كان معروفا بالكذب كان متهما في كل ما أخبر به. ثم ذكر كيفية النظر في أمره فقال اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ لم يقل إليها لأنه كان قد قال وَجَدْتُها وَقَوْمَها فكأن سليمان قال: فألقه إلى الذين هذا دينهم اهتماما فيه بأمر الدين. ولمثل هذا قال في الكتاب أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ ومعنى ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ تنح عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه تسمع ما يقولون يَرْجِعُونَ من رجع القول كقوله يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ [سبأ: 31]
يروى أنها كانت إذا رقدت غلقت الأبواب ووضعت المفاتيح تحت رأسها، فدخل من كوة وطرح الكتاب على حجرها وهي مستلقية نائمة.
وقيل: نقرها فانتبهت فزعة. وقيل: أتاها والجنود حواليها من فوق والناس ينظرون حتى رفعت رأسها فألقى الكتاب في حجرها. وقيل: كان في البيت كوة تقع الشمس فيها كل يوم فإذا نظرت إليها سجدت فجاء الهدهد فسد تلك الكوة بجناحيه، فلما رأت ذلك قامت إليه فألقى الكتاب إليها. وهاهنا إضمار أي فذهب فألقى ثم توارى ثم كأن سائلا سأل فماذا قالت بلقيس؟ فقيل قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ مصدر بالتسمية أو حسن مضمونه أو هو من عند ملك كريم أو هو مختوم.
يروى أنه طبع الكتاب بالمسك وختمه بخاتمه وقال صلى الله عليه وسلم «كرم الكتاب ختمه» .
وعن ابن المقفع: من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به. ثم إن سائلا كأنه قال لها ممن الكتاب وما هو؟ فقالت إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ كيت وكيت.
سؤال: لم قدم سليمان اسمه على اسم الله؟ والجواب أنها لما وجدت الكتاب على وسادتها ولم يكن لأحد إليها طريق ورأت الهدهد علمت أنه من سليمان وحين فتحت الكتاب رأت التسمية، ولذلك قالت ما قالت، أو لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ فقرأت عنوانه أوّلا ثم أخبرت بما في الكتاب. أو لعل سليمان قصد بذلك أنها لو شتمت لأجل كفرها حصل الشتم لسليمان لا لله تعالى. و «أن» في أَنْ لا تَعْلُوا مفسرة لما ألقي إليها أي لا تتكبروا كما تفعل الملوك.
يروى أن نسخة الكتاب: من عبد الله سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: السلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فلا تعلوا علي وأتوني مسلمين.
وكان كتب الأنبياء عليهم السلام جملا وأنه مع وجازته مشتمل على تمام المقصود لأن قوله بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مشتمل على إثبات الصانع وصفاته، والباقي نهي عن الترفع والتكبر وأمر بالانقياد للتكاليف، كل ذلك بعد إظهار المعجز برسالة الهدهد. قوله قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ استئناف آخر وهكذا إلى تمام القصة. ومعنى أَفْتُونِي أشيروا عليّ بما يحدث لكم من الرأي. والفتوى الجواب في الحادثة وأصلها من الفتاء في(5/303)
السن وقطع الأمر فصله والقضاء فيه، أرادت بذلك استعطافهم وتطييب نفوسهم واستطلاع آرائهم، فأجابوا بأنهم أصحاب القوى الجسدانية والخارجية، ولهم النجدة والبلاء في الحرب، ومع ذلك فوضوا الأمر إليها فما أحسن هذا الأدب. ويحتمل أن يراد نحن من أبناء الحرب لا من أرباب الرأي والمشورة وإنما الرأي إليك، وحيث كان يلوح من وصفهم أنفسهم بالشجاعة والعلم بأمور الحرب أنهم مائلون إلى المحاربة، أرادت أن تنبههم إلى الأمر الأصوب وهو الميل إلى الصلح فلذلك قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وذلك إذا أرادوا قهرها والتسلط عليها ابتداء وإلا فالإفساد غير لازم، بل لعل الإصلاح ألزم إذا سلكت سبيل العدل والإنصاف فليس للظلمة في الآية حجة. ومفعول مُرْسِلَةٌ محذوف أي مرسلة رسلا مع هدية وهي اسم المهدي كالعطية اسم المعطي. وإنما رأت الإهداء أوّلا لأن الهدية سبب استمالة القلوب.
قال صلى الله عليه وسلم «تهادوا تحابوا»
قال في الكشاف: روي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري وحليهن الأساور والأطواق والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج مرصعة اللجم والسروج بالجواهر، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة وتاجا مكللا بالدر والياقوت، وحقا فيه درة عذراء وجزعة معوجة الثقب: وبعثت رجلين من أشراف قومها- المنذر بن عمرو وآخر ذا رأي وعقل- وقالت: إن كان نبيا ميز بين الغلمان والجواري وثقب الدرة ثقبا مستويا وسلك في الخرزة خيطا. ثم قالت: للمنذر: إن نظر إليك نظر غضبان فهو ملك فلا يهولنك، وإن رأيته بشا لطيفا فهو نبي. فأقبل الهدهد فأخبر سليمان فأمر الجن فضربوا لبن الذهب والفضة وفرشوه في ميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ وجعلوا حول الميدان حائطا شرفه من الذهب والفضة، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر فربطوها عن يمين الميدان وعن يساره على اللبنات، وأمر بأولاد الجن وهم خلق كثير فأقيموا عن اليمين وعن اليسار، ثم قعد على سريره والكراسي من جانبيه، واصطفت الشياطين صفوفا فراسخ والأنس كذلك، والوحش والطير كذلك.
فلما دنا القوم ونظروا بهتوا ورأوا الدواب على اللبنات فتقاصرت إليهم نفوسهم ورموا بما معهم، ولما وقفوا بين يديه نظر إليهم بوجه طلق وقال: ما وراءكم؟ وقال: أين الحق؟
وأخبرهم بما فيه. ثم أمر الأرضة فأخذت شعرة ونفذت في الدرة فجعل رزقها في الشجر، وأخذت دودة بيضاء الخيط فأدخلته في الجزعة، ودعا بالماء فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الاخرى ثم تضرب به وجهها، والغلام كما يأخذه يضرب به وجهه، ثم رد الهدية
وذلك قوله على سبيل الإنكار أتمدونني بمال ثم قال على سبيل الإعلام وتعليل الإنكار فَما آتانِيَ اللَّهُ من الكمالات والقربات والدرجات خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ ثم أضرب(5/304)
عن ذلك إلى بيان السبب الذي حملهم عليه وهو أنهم لا يعرفون الفرح إلا في أن يهدي إليهم حظ من الدنيا، فعلى هذا تكون الهدية مضافة إلى المهدي إليه. والمعنى بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ هذه التي أهديتموها تَفْرَحُونَ فرح افتخار على الملوك. ويحتمل أن يكون الكلام عبارة عن الرد كأنه قال: بل أنتم من حقكم أن تأخذوا هديتكم وتفرحوا بها ثم قال للرسول أو للهدهد معه كتاب آخر ارْجِعْ إِلَيْهِمْ ومعنى لا قِبَلَ لا طاقة ولا مقابلة.
والذل أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك، والصغار أن يقعوا مع ذلك في أسر واستعباد
يروى أنه لما رجعت إليها الرسل عرفت أن سليمان نبي وليس لهم به طاقة، فشخصت إليه في أثني عشر ألف
قيل. مع كل قيل ألوف. وأمرت عند خروجها أن يجعل عرشها في آخر سبعة أبيات في آخر قصر من قصور سبعة، وغلقت الأبواب ووكلت به حرسا فلعل سليمن أوحي إليه ذلك فأراد أن يريها بعض ما خصه الله به من المعجزات فلذلك قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها وعن قتادة: أراد أن يأخذه قبل أن تسلم لعلمه أنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها. وقيل: أراد بذلك اختبار عقلها كما يجيء. وقيل: أراد أن يعرف تجملها ومقدار مملكتها قبل وصولها إليه. والعفريت من الرجال الخبيث المنكر الذي يعفر أقرانه، ومن الشياطين الخبيث المارد، ووزنه «فعليت» . قالوا: كان اسمه ذكوان. وآتِيكَ بِهِ في الموضعين يجوز أن يكون فعلا مضارعا وأن يكون اسم فاعل.
ومعنى. أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ إما على ظاهره وهو أن يقوم فيقعد، وإما أن يكون المقام هو المجلس ولا بد فيه من عادة معلومة حتى يصح أن يؤقت به. وعلى هذا فقيل: المراد مجلس الحكم. وقيل: مقدار فراغه من الخطبة. وقيل: إلى انتصاف النهار. وَإِنِّي عَلَيْهِ أي على حمله لَقَوِيٌّ أَمِينٌ آتي به على حاله لا أتصرف فيه بشيء. واختلفوا في الذي عنده علم من الكتاب فقيل: هو الخضر عليه السلام. وقيل: جبرائيل. وقيل: ملك أيد الله به سليمان. وقيل: آصف بن برخيا وزيره أو كاتبه. وقيل: هو سليمان نفسه استبطأ العفريت فقال له: أنا أريك ما هو أسرع مما تقول. وقد يرجح هذا القول بوجوه منها: أن الشخص المشار إليه بالذي يجب أن يكون معلوما للمخاطب وليس سوى سليمان، ولو سلم أن آصف أيضا كان كذلك فسليمان أولى بإحضار العرش في تلك اللمحة والإلزام تفضيل آصف عليه من هذا الوجه. ومنها قول سليمان. هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي ويمكن أن يقال: الضمير راجع إلى استقرار العرش عنده، ولو سلم رجوعه إلى الإتيان بالعرش فلا يخفى أن كمال حال التابع والخادم من جملة كمالات المتبوع والمخدوم، ولا يلزم من أن يأمر الإنسان غيره بشيء أن يكون الآمر عاجزا عن الإتيان بذلك الشيء. واختلفوا أيضا في الكتاب فقيل: هو(5/305)
اللوح. وقيل: الكتاب المنزل الذي فيه الوحي والشرائع. وقيل: كتاب سليمان أو كتاب بعض الأنبياء. وما ذلك العلم؟ قيل: نوع من العلم لا يعرف الآن. والأكثرون على أنه العلم باسم الله الأعظم وقد مر في تفسير البسملة كثير مما قيل فيه. ومما وقفت عليه بعد ذلك أن غالب بن قطان مكث عشرين سنة يسأل الله الاسم الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى فأري في منامه ثلاث ليال متواليات: قل يا غالب يا فارج الهم يا كاشف الغم يا صادق الوعد يا موفيا بالعهد يا منجز الوعد يا حي يا لا إله إلا أنت صل اللهم على محمد وآل محمد وسلم. والطرف تحريك الأجفان عند النظر فوضع موضع النظر فإذا فتحت العين توهمت أن نور العين يمتد إلى المرئي وإذا غمضت توهمت أن ذلك النور قد ارتدّ، فمعنى الآية أنك ترسل طرفك إلى شيء فقبل أن ترده أبصرت العرش بين يديك. يروى أن آصف قال له: مدّ عينك حتى ينتهي طرفك فمدّ عينه فنظر نحو اليمن ودعا آصف فغاص العرش في مكانه ثم ظهر عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله قبل أن يرتدّ طرفه. ومن استبعد هذا في قدرة الله فليتأمل في الحركات السماوية على ما يشهد به علم الهيئة حتى يزول استبعاده.
وقال مجاهد: هو تمثيل لاستقصار مدة الإتيان به كما تقول لصاحبك: افعل هذا في لحظة أو لمحة. وحين عرف سليمان نعمة الله في شأنه وأن ذلك صورة الابتلاء بين أن شكر الشاكر إنما يعود إلى نفس الشاكر لأنه يرتبط به العتيد ويطلب المزيد كما قيل: الشكر قيد للنعمة الموجودة وصيد للنعمة المفقودة. وروي في الكشاف عن بعضهم أن كفران النعمة بوار وقلما أقشعت نافرة فرجعت في نصابها، فاستدع شاردها بالشكر واستدم راهنها بكرم الجوار. قوله «أقشعت نافرة» أي ذهبت في حال نفارها وراهنها أي ثابتها. وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ عن عبادة كل عابد فضلا عن شكر شاكر كَرِيمٌ لا يقطع إمداد نعمه عنه لعله يتوب ويصلح حاله. زعم المفسرون أن الجن كرهوا أن يتزوّجها سليمان فتفضي إليه بإسرارهم لأنها كانت بنت جنية، أو خافوا أن يولد له منها ولد تجمع له فطنة الجن والإنس فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك هو أشد فقالوا له: إن في عقلها شيئا وهي شعراء الساقين ورجلها كحافر الحمار فاختبر عقلها بتنكير العرش وذلك قوله نَكِّرُوا لَها عَرْشَها أي اجعلوه متنكرا متغيرا عن هيئته وشكله كما يتنكر الرجل لغيره لئلا يعرفه. قالوا:
وسعوه وجعلوا مقدمه مؤخره وأعلاه أسفله. وقوله نَنْظُرْ بالجزم جواب للأمر وقرىء بالرفع على الاستئناف. أَتَهْتَدِي لمعرفة العرش أو للجواب الصائب إذا سئلت عنه أو للدين والإيمان بنبوة سليمان إذا رأت تلك الخوارق. وقوله أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ أبلغ من أن لو قال «أم لا تهتدي» كما مر في قوله أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ(5/306)
أَهكَذا
أي مثل ذا عَرْشُكِ لئلا يكون شبه تلقين فقالت كَأَنَّهُ هُوَ ولم تقل: هو هو مع أنها عرفته ليكون دليلا على وفور عقلها حيث لم تقطع في المحتمل وتوقفت في مقام التوقف. أما قوله وَأُوتِينَا الْعِلْمَ فمعطوف على مقدر كأنهم قالوا عند قولها كأنه هو قد أصابت في جوابها وطابقت المفصل وهي عاقلة لبيبة وقد رزقت الإسلام وعلمت قدرة الله وصحة نبوة سليمان بهذه الخوارق. وَأُوتِينَا نحن الْعِلْمَ بالله وبقدرته قبل علمها ولم نزل على دين الإسلام وَصَدَّها عن التقدم إلى الإسلام عبادة الشمس وكونها بين ظهراني الكفرة. والغرض تلقي نعمة الله بالشكر على سابقة الإسلام. وقيل: هو موصول بكلام بلقيس. والمعنى وأوتينا العلم بالله وبقدرته وبصحة نبوة سليمان قبل هذه المعجزة أو الحالة وذلك عند وفدة المنذر. ثم قال سبحانه وَصَدَّها قبل ذلك عما دخلت فيه ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وقيل: الجار محذوف أي وصدها الله أو سليمان عما كانت تعبد، واختبر ساقها بأن أمر أن يبني على طريقها قصر من زجاج أبيض فأجرى من تحته الماء وألقى فيه من دواب البحر السمك وغيره، ووضع سريره في آخر فجلس عليه وعكف عليه الطير والجن والإنس. ثم يلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
أي القصر أو صحن الدارلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً
أي ماء غامرا كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
لتخوض في الماء فإذا هي أحسن الناس ساقا وقدما إلا أنها شعراء، فصرف سليمان بصره وناداهانَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ
أي مملس نْ قَوارِيرَ
هذا عند من يقول: تزوجها وأقرها على ملكها وأمر الجن فبنوا له همدان وكان يزورها في الشهر مرّة فيقيم عندها ثلاثة أيام وولدت له. قالوا: كون ساقها شعراء هو السبب في اتخاذ النورة، أمر به الشياطين فاتخذوها. وقال آخرون: المقصود من الصرح تهويل المجلس، وحصل كشف الساق على سبيل التبع. عن ابن عباس: لما أسلمت قال لها:
اختاري من أزوّجكه؟ فقالت: مثلي لا ينكح الرجال مع سلطان. فقال: النكاح من الإسلام.
فقالت: إن كان كذلك فزوّجني ذا تبع ملك همدان فزوجها إياه ثم ردهما إلى اليمن ولم يزل بها ملكاالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
أي بالكفر في الزمن السالف أو بسوء ظني بسليمان إذ حسبت أنه يغرقني في الماء. وهذا التفسير أنسب بما قبله ولعل في قولهاعَ سُلَيْمانَ
أي مصاحبة له إشارة إلى إسلامها تبع لإسلام سليمان وأنها تريد أن تكون معه في الدارين جميعا والله أعلم.
التأويل:
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ الروح وَسُلَيْمانَ القلب عِلْماً لدنيا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ وهم الأعضاء والجوارح المستعملة في العبودية. وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ لأن كل إلهام وفيض يصدر من الحضرة الإلهية يكون عبوره على داود الروح إلا أنه للطافته لا(5/307)
يحفظها وإنما يحفظها القلب لكثافته، ولذلك كان سليمان أقضى من داود. قوله مَنْطِقَ الطَّيْرِ يعني الرموز والإشارات التي يحفظها بلسان الحال أرباب الأحوال الطائرين في سماء سناء الفناء. وقيل: أراد الخواطر الملكية الروحانية. قوله مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ أي من الصفات الشيطانية والإنسانية والملكية فَهُمْ يُوزَعُونَ على طبيعتهم بالشريعة وادي النمل هوى النفس الحريصة على الدنيا وشهواتها قالَتْ نَمْلَةٌ هي النفس اللوامة يا أيها النمل هي الصفات النفسانية ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ محالكم المختلفة وهي الحواس الخمس وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنهم على الحق وأنتم على الباطل لأن الشمس لاحس عندها من نورها ولا من الظلمة التي تزيلها نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ بتسخير جنودي لي وعلى والديّ وهما الروح والجسد. أنعم على الروح بإفاضة الفيوض، وعلى الجسد باستعماله في أركان الشريعة. وفي قوله بِنَبَإٍ يَقِينٍ إشارة الى أن من أدب المخبر أن لا يخبر إلا عن يقين وبصيرة ولا سيما عند الملوك. وفي قول سليمان سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ إشارة إلى أن خبر الواحد وإن زعم اليقين لا يعوّل عليه إلا بأمارات أخر. كِتابٌ كَرِيمٌ كأنها عرفت أنها بكرامته تهتدي إلى حضرة الكريم: إن ملوك الصفات الربانية إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً الشخص الإنساني أَفْسَدُوها بإفساد الطبيعة الحيوانية وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها وهم النفس الأمارة وصفاتها أَذِلَّةً بسطوات التجلي وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ مع الأنبياء والأولياء. وفي قوله أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها إشارة إلى أن سليمان كان واقفا على أن في قومه من هو أهل لهذه الكرامة وكرامات الأولياء من قوة إعجاز الأنبياءيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ
فيه دليل على أن سليمان أراد أن ينكحها وإلا لم يجوّز النظر إلى ساقيها. أَسْلَمْتُ
نفسي للنكاح عَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ
وفي الله.
تأويل آخر: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ هم أهل العشق الطيارة في فضاء سماء القدس وجوّ عالم الإنس. والهدهد الرجل العلمي الذي عول على فكره وإعمال قريحته في استنباط خبايا الأسرار وكوامن الأستار. عَذاباً شَدِيداً بالرياضة والمجاهدة. أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ بسكين مخالفات الإرادة. سبأ مدينة الاختلاط والإنس بالإنس والمرأة الدنيا وبهجتها، وعرشها العظيم حب الجاه والمناصب يسجدون لشمس عالم الطبيعة وهو الهوى، والهدية عرض الدنيا وزينتها، والإتيان بالعرش قبل إتيانهم هو إخراج حب الجاه من الباطن حتى تنقاد الأعضاء والجوارح بالكلية لاشتغال العبودية. آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الجاه. والعفريت الرياضة الشديدة والذي عنده علم من الكتاب هو الجذبة التي توازي عمل الثقلين، وتنكير العرش تغيير حب الجاه للهوى بحبه للحق، والقصر قصر التصرف في(5/308)
الدنيا للحق بالحق، وكشف الساق كناية عن اشتداد الأمر عليه، والقوارير عبارة عن رؤية بواطن الأمور مع الاشتغال بظواهرها، وهذه من جملة منطق الطير يفهم إن شاء العزيز وحده والله أعلم.
تم الجزء التاسع عشر، ويليه الجزء العشرون وأوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً ...(5/309)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64) قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء العشرون من أجزاء القرآن الكريم
[سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 66]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49)
وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54)
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)
أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)(5/310)
القراآت:
لتنبيه على الجمع المخاطب وهكذا لتقولن: حمزة وعلي وخلف.
الباقون بالنون فيهما على التكلم مهلك بفتح الميم واللام: أبوبكر غير البرجمي وحماد والمفضل. وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام. الباقون بضم الميم وفتح اللام والكل يحتمل المصدر والمكان والزمان أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وأن الناس بالفتح فيهما: عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ورويس أَإِنَّكُمْ مذكور في «الأنعام» يُشْرِكُونَ بياء الغيبة:
أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم أَإِلهٌ مثل أَإِنَّكُمْ الريح على التوحيد: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف يذكرون بياء الغيبة: أبو عمرو وهشام. الآخرون بتاء الخطاب بل أدرك بقطع الهمزة وسكون الدال: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد المفضل بل ادّرك بهمزة موصولة ودال مشددة: الشموني. الباقون مثله ولكن بألف بعد الدال.
الوقوف:
يَخْتَصِمُونَ هـ الْحَسَنَةِ ج لابتداء استفهام آخر مع اتحاد القائل.
تُرْحَمُونَ هـ مَعَكَ ط تُفْتَنُونَ هـ وَلا يُصْلِحُونَ هـ لَصادِقُونَ هـ لا يَشْعُرُونَ هـ مَكْرِهِمْ ط لمن قرأ. «إنا» بكسر الألف على الاستئناف. أَجْمَعِينَ هـ ظَلَمُوا ط يَعْلَمُونَ هـ يَتَّقُونَ هـ تُبْصِرُونَ هـ النِّساءِ ط تَجْهَلُونَ هـ قَرْيَتِكُمْ ج لاحتمال تقدير لام التعليل يَتَطَهَّرُونَ هـ إِلَّا امْرَأَتَهُ ز لاحتمال أن ما بعده مستأنف والأظهر أنه حال تقديره استثناء امرأته مقدرة في الْغابِرِينَ هـ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ هـ اصْطَفى ط يُشْرِكُونَ هـ ط لأن ما بعده استفهام مستأنف و «أم» منقطعة تقديره بل أمن خلق السموات خير أمّا يشركون وكذلك نظائره ماءً ج للعدول مع اتحاد المقول بَهْجَةٍ ط ولاحتمال الحال أي وقد رد خَيْراً ط الْقِتالُ ط عَزِيزاً هـ ج للآية والعطف فَرِيقاً هـ ج لاحتمال أن يكون ما بعده استئنافا أو حالا تَطَؤُها ط قَدِيراً هـ جَمِيلًا هـ عَظِيماً هـ ضِعْفَيْنِ ط يَسِيراً هـ مرتين لا لأن التقدير وقد أعتدنا كَرِيماً هـ مَعْرُوفاً ج للعطف وَرَسُولِهِ ط تَطْهِيراً هـ لوقوع العوارض بين المعطوفين وَالْحِكْمَةَ ط خَبِيراً هـ عَظِيماً هـ مِنْ أَمْرِهِمْ ط مُبِيناً هـ النَّاسِ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال تَخْشاهُ ط مِنْهُنَّ وَطَراً ط مَفْعُولًا هـ لَهُ ط مِنْ قَبْلُ لا مَقْدُوراً هـ لا بناء على أن الَّذِينَ وصف أو بدل إِلَّا اللَّهَ ط حَسِيباً هـ النَّبِيِّينَ ط عَلِيماً هـ.
التفسير:
القصة الرابعة قصة ثمود، والفريقان المؤمن والكافر. وقيل: صالح وقومه قبل أن يؤمن منهم أحد. والاختصام قول كل فريق الحق معي، وفيه دليل على أن الجدال(5/311)
في باب الدين حق. ومعنى استعجالهم بالسيئة قبل الحسنة أنه تعالى قد مكنهم من التوصل إلى رحمة الله وثوابه فعدلوا إلى استعجال عذابه. وقال جار الله: خاطبهم صالح على حسب اعتقادهم وذلك أنهم قدروا في أنفسهم إن التوبة مقبولة عند رؤية العذاب فقالوا: متى وقعت العقوبة تبنا حينئذ، فالسيئة العقوبة، والحسنة التوبة، و «لولا» للتحضيض أي هلا تستغفرون قبل عيان عذابه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بأن يكشف العذاب عنكم. والحاصل أن التوبة يجب أن تقدم على رؤية العذاب ولا يجوز أن تؤخر، وفيه تنبيه على خطئهم وتجهيل لهم قالُوا اطَّيَّرْنا أي تشاء منا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ وكانوا قد قحطوا قالَ طائِرُكُمْ أي سببكم الذي يجيء منه خيركم وشركم عِنْدَ اللَّهِ وهو قضاؤه وقدره أو أراد عملكم مكتوب عنده ومنه ينزل بكم العذاب. ومعنى التطير والطائر قد مر في «الأعراف» وفي «سبحان» . ثم جزم بنزول العذاب بقوله بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ أي تعذبون أو تختبرون أو يفتنكم الشيطان بوسوسة الطيرة. ثم حكى سوء معاملتهم مع نبيهم بقوله وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ يعنى منزلهم المسمى بالحجر وكان بين المدينة والشام تِسْعَةُ رَهْطٍ لم يجمع المميز لأن الرهط في معنى الجمع وهو من الثلاثة إلى العشرة، أو من السبعة إلى العشرة. والتقاسم التحالف فإن كان أمرا فظاهر وإن كان خبرا فمحله نصب بإضمار «قد» أي قالوا متقاسمين. والتبييت العزم على إهلاك العدوّ ليلا. وأشير على الإسكندر بالبيات فقال: ليس من آيين الملوك استراق الظفر. قال في الكشاف: كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحا وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين. ثم قالوا لولاة دمه: ما شهدنا مهلك أهله فإذا ذكروا أحدهما كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعا لا أحدهما. قلت: إنما ارتكب هذا التكلف لأنه استقبح أن يأتي العاقل بالخبر على خلاف المخبر عنه.
يروى أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا: زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فخرجوا إلى الشعب مبادرين وقالوا: إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فهذا مكرهم، فبعث الله صخرة فطبقت عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم، وعذب الله كلا في مكانه ونجى صالحا ومن معه وهذا مكر الله.
وقيل: جاؤا بالليل شاهري سيوفهم وقد أرسل الله الملائكة فدمغوهم بالحجارة يرون الحجارة ولا يرون راميا. من قرأ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ بالفتح فمرفوع المحل بدلا من العاقبة أو خبرا لمحذوف أي هي تدميرهم، أو منصوب على أنه خبر «كان» أي كان عاقبة مكرهم الدمار، أو مجرور تقديره: لأنا وجوز في الكشاف على هذا التقدير أن يكون منصوبا بنزع الخافض. وانتصب خاوِيَةً على الحال والعامل معنى الإشارة في تلك. وإنما قال في هذه السورة وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا موافقة لما بعده فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ وَأَمْطَرْنا وكله على «أفعل» . وقال في «حم السجدة» وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ [فصلت: 18] موافقة لما قبله وما بعده وزينا وقيضنا والله أعلم.(5/312)
القصة الخامسة قصة لوط وَانتصب لُوطاً بإضمار «اذكر» أو بما دل عليه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا و «إذ» بدل على الأول بمعنى مجرد الوقت ظرف على الثاني، ويبصرون إما من بصر الحاسة فكأنهم كانوا معلنين بتلك المعصية في ناديهم، أو أراد ترون آثار العصاة قبلكم، أو من بصر القلب والمراد تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا بمثلها، وعلى هذا فمعنى قوله بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ أنكم تفعلون فعل الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك، أو أراد جهلهم بالعاقبة، أو أراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها. أو الخطاب في قوله تَجْهَلُونَ تغليب ولو قرىء بياء الغيبة نظرا إلى الموصوف وهو قوم لجاز من حيث العربية، وباقي القصة مذكور في «الأعراف» قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ قيل: هو خطاب للوط عليه السلام أن يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة من الذنوب وبالنجاة من العذاب. وقيل: أمر لنبينا صلى الله عليه وسلم بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم وبالتسليم على الأنبياء وأشياعهم الناجين، والأكثرون على أنه خطاب مستأنف لأنه صلى الله عليه وسلم كان كالمخالف لمن تقدمه من الأنبياء من حيث إن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه، فأمره الله سبحانه بأن يشكر ربه على هذه النعمة ويسلم على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة. ثم شرع في الدلالة على الوحدانية والرد على عبدة الأوثان، وفيه توقيف على أدب حسن وبعث على التيمن بالحمد والصلاة قبل الشروع في كل كلام يعتد به، ولذا توارثه العلماء خلفا عن سلف فافتتحوا بهما أمام كل كتاب وخطبة، وعند التكلم بكل أمر له شأن. قال جار الله:
معنى الاستفهام «وأم» المتصلة في قوله آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ إلزام وتبكيت وتهكم بحالهم وتنبيه على الخطأ المفرط والجهل المفرط فمن المعلوم أنه لا خير فيما أشركوه أصلا حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه. قلت: يحمل أن يكون هذا من قبيل الكلام المنصف.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال: بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم.
ثم عدل عن الاستفهام بذكر الذات إلى الاستفهام بذكر الصفات مبتدئا بما هو أبين الحسيات فقال: أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وإنما قال هاهنا وَأَنْزَلَ لَكُمْ واقتصر في إبراهيم على قوله وَأَنْزَلَ [إبراهيم: 32] لأن لفظة لَكُمْ وردت هناك بالآخرة، وليس قوله ما كانَ لَكُمْ مغنيا عن ذكره لأنه نفي لا يفيد معنى الأول. ومعنى الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله فَأَنْبَتْنا تأكيد معنى اختصاص الإنبات بذاته لأن الإنسان قد يتوهم أن له مدخلا في ذلك من حيث الغرس والسقي. والحدائق جمع حديقة البستان عليه حائط من الإحداق والإحاطة. والبهجة الحسن والنضارة لأن الناظر يبتهج به. وإنما لم يقل ذوات بهجة على الجمع لأن المعنى جماعة حدائق كما يقال: النساء ذهبت. ومعنى أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أغيره يقرن به ويجعل شريكا له. قال في الكشاف: قوله بَلْ هُمْ بعد الخطاب أبلغ في(5/313)
تخطئة رأيهم. قلت: إنما تعين الغيبة هاهنا لأن الخطاب في قوله ما كانَ لَكُمْ إنما هو لجميع الناس أي ما صح وما ينبغي للإنسان أن يتأتى منه الإنبات. ولو قال بعد ذلك بل أنتم لزم أن يكون كل الناس مشركين وليس كذلك. وقوله يَعْدِلُونَ من العدل أو من العدول أي يعدلون به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد.
ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها. والقرار المستقر أي دحاها وسواها بحيث يمكن الاستقرار عليها. والحاجز البرزخ كما في «الفرقان» . ثم استدل بحاجة الإنسان إليه على العموم. والمضطر الذي عراه ضر من فقر أو مرض فألجأه إلى التضرع إلى الله سبحانه، وإنه افتعال من الضر. وعن ابن عباس: هو المجهود. وعن السدي: الذي لا حول له ولا قوة. وقيل: هو المذنب ودعاؤه استغفاره. والمضطر اسم جنس يصلح للكل وللبعض فلا يلزم من الآية إجابة جميع المضطرين، نعم يلزم الإجابة بشرائط الدعاء كما مر في «البقرة» وفي ادعوني وقوله وَيَكْشِفُ السُّوءَ كالبيان لقوله يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ والخلافة في الأرض إما بتوارث السكنى وإما بالملك والتسلط وقد مر في آخر «الأنعام» .
وقوله قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ معناه تذكرون تذكرا قليلا، ويجوز أن يراد بالقلة العدم. ثم استدل لحاجة الناس وخصوصا الهداية في البر والبحر بالعلامات وبالنجوم، ثم استدل بأحوال المبدأ والمعاد وما بينهما وذلك أنهم كانوا معترفين بالإبداء ودلالة الإبداء على الإعادة دلالة ظاهرة فكأنهم كانوا مقرين بالإعادة أيضا، فاحتج عليهم بذلك لذلك. والرزق من السماء الماء ومن الأرض النبات. واعلم أن الله سبحانه ذكر قوله أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ في خمس آيات على التوالي وختم الأولى بقوله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ثم بقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ثم بقوله قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ ثم بقوله تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ والسر فيه أن أول الذنوب العدول عن الحق، ثم لم يعلموا ولو علموا ما عدلوا، ثم لم يتذكروا فيعلموا بالنظر والاستدلال فأشركوا من غير حجة وبرهان.
قل لهم يا محمد: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين أن مع الله إلها آخر. وحين بين اختصاصه بكمال القدرة أراد أن يبين اختصاصه بعلم الغيب. قال في الكشاف: هذا على لغة بني تميم يرفعون المستثنى المنقطع على البدل إذا كان المبدل منه مرفوعا يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار كأن أحدا لم يذكر كقوله:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
والمعنى إن كان الله ممن في السموات والأرض فهم يعلمون الغيب كما أن معنى البيت إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس بتا للقول بخلوها عن الأنيس. قلت: لقائل أن يقول: إن(5/314)
استثناء نقيض المقدم غير منتج فلا يلزم من استحالة كون الله سبحانه في كل مكان ممن في السموات والأرض أنهم لا يعلمون الغيب، ولا من امتناع كون اليعافير أنيسا القطع بخلوّ البلدة عن الأنيس. وقال غيره: إن الاستثناء متصل لأن الله سبحانه في كل مكان بالعلم فيصح الرفع عند الحجازيين أيضا. وزيفه في الكشاف بأن كونه في السموات والأرض بالعلم مجاز، وكون الخلق فيهن حقيقة من حيث حصول ذواتهم في تلك الأحياز، ولا يصح أن يريد المتكلم بلفظ واحد حقيقة ومجازا معا. وأجيب بأنا نحمل كون الخلق فيهن على المعنى المجازي أيضا لأنهم أيضا عالمون بتلك الأماكن لا أقل من العلم الإجمالي.
وضعفه في الكشاف بأن فيه إيهام تسوية بين الله وبين العبد في العلم وهو خروج عن الأدب. ومن هنا
قال صلى الله عليه وسلم: بئس خطيب القوم أنت.
لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى.
والحق أن وقوع اللفظ على الواجب وعلى الممكن بمعنى واحد لا بد أن يكون بالتشكيك إذ هو في الواجب أدل وأولى لا محالة، فهذا الوهم مدفوع عند العاقل ولا يلزم منه سوء الأدب، ولهذا جاز إطلاق العالم والرحيم والكريم ونحوهما على الواجب وعلى الممكن معا من غير محذور شرعي ولا عقلي، وليس هذا كالجمع بين الضميرين إذا كان يمكن للقائل أن يفرق بينهما فيزداد الكلام جزالة وفخامة. عن عائشة: من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وعن بعضهم: أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحدا لئلا يأمن الخلق مكره.
قال المفسرون: سأل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة فنزلت.
وأيان بمعنى متى. إلا أنه لا يسأل به إلا عن أمر ذي بال وهو «فعال» من آن يئين فلو سمي به لانصرف، وحين ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب ولا يشعرون البعث الكائن ووقته بين أن عندهم عجزا آخر أبلغ منه وهو أنهم ينكرون الأمر الكائن مع أن عندهم أسباب معرفته فقال بَلِ ادَّارَكَ أي تدارك. ومن قرأ بغير الألف فهو «افتعل» من الدرك أي تتابع واستحكم. ومعنى أدرك بقطع الهمزة انتهى وتكامل علمهم في الآخرة أي في شأنها ومعناها، ويمكن أن يكون وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكما بهم كما يقول لأجهل الناس: ما أعلمك. وإذا لم يعرفوا نفس البعث يقينا فلأن لا يعرفوا وقته أولى. ويحتمل أن تكون أدرك بمعنى انتهى وفني من قولهم «أدركت الثمرة» لأن تلك غايتها التي عندها تعدم. وقد فسره الحسن باضمحل علمهم وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك، وصفهم أوّلا بأنهم لا يشعرون وقت البعث ثم أضرب عن ذلك قائلا إنهم لا يعلمون القيامة فضلا عن وقتها ثم إن عدم العلم قد يكون مع الغفلة الكلية فأضرب عن ذلك قائلا إنهم ليسوا غافلين بالكلية ولكنهم في شك ومرية، ثم إن الشك قد يكون بسبب عدم الدليل فأضرب عن ذلك قائلا إنهم عمون(5/315)
عن إدراك الدليل مع وضوحه، وقد جعل الآخرة مبدأ أعمالهم ومنشأه فلهذا عداه بمن دون «عن» والضمائر تعود إلى من في السموات والأرض. وذلك أن المشركين كانوا في جملتهم فنسب فعلهم إلى الجميع كما يقال: بنو فلان فعلوا. وإنما فعله ناس منهم قاله في الكشاف. قلت: قد تقدّم ذكر المشركين في قوله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ وغيره فلا حاجة إلى هذا التكلف ولو لم يتقدّم جاز للقرينة.
التأويل:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا صالح القلب بالإلهام الرباني إلى صفات القلب وهو الفريق المؤمن، وإلى النفس وصفاتها وهو الفريق الكافر. والسيئة طلب الشهوات واللذات الفانية، والحسنة طلب السعادات الباقية. وكان في مدينة القالب الإنساني تِسْعَةُ رَهْطٍ هم خواص العناصر الأربعة والحواس الخمس يُفْسِدُونَ في أرض القلب بإفساد الاستعداد الفطري تَقاسَمُوا بالموافقة على السعي في إهلاك القلب وصفاته وأن يقولوا لوليه وهو الحق سبحانه. ما أهلكناهم وما حضرنا مع النفس الأمّارة حين قصدت هلاكهم وَمَكَرُوا مَكْراً في هلاك القلب بالهواجس النفسانية والوساوس الشيطانية وَمَكَرْنا مَكْراً بتوارد الواردات الربانية وتجلي صفات الجمال والجلال وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أن صلاحهم في هلاكهم. فمن قتلته فأنا ديته فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أنا أفنينا خواص التسعة وآفاتها وأفنينا قومهم أجمعين وهم النفس وصفاتها فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ وهي القالب والأعضاء التي هي مساكن الحواس خالية عن الحواس المهلكة والآفات الغالبة بِما ظَلَمُوا أي وضعوا من نتائج خواص العناصر وآفات الحواس في غير موضعها وهو القلب، وكان موضعها النفس بأمر الشارع لا بالطبع لصلاح القالب وبقائه وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وهم القلب وصفاته من شر النفس وصفاتها. ولوط الروح إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ وهم القلب والسر والعقل عند تبدل أوصافهم بمجاورة النفس أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وهي كل ما زلت به أقدامهم عن الصراط المستقيم وأماراتها في الظاهر إتيان المناهي على وفق الطبع، وفي الباطن حب الدنيا وشهواتها وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ تميزون الخير من الشر. وإتيان الرجال دون النساء عبارة عن صرف الاستعداد فيما يبعد عن الحق لا فيما يقرب منه فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ وهم القلب المريض بتعلق حب الدنيا والسر المكدر بكدورات الرياء والنفاق والعقل المشوب بآفة الوهم والخيال أَخْرِجُوا الصفات الروحانية من قرية الشخص الإنساني إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ من لوث الدنيا وشهواتها فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ وهم السر والعقل وصفاتهما من عذاب تعلق الدنيا إِلَّا امْرَأَتَهُ وهي النفس الأمارة بالسوء وَأَمْطَرْنا على النفس وصفاتها مطرا بترك الشهوات فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ أي صعب فإن الفطام من المألوفات شديد وهذه(5/316)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
حالة مستدعية للحمد والشكر فلهذا قال قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ من تعلقات الكونين وآفات الوجود المجازي عَلى عِبادِهِ أَمَّنْ خَلَقَ سموات القلوب وأرض النفوس وأنزل من سماء القلب ماء نظر الرحمة فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ من العلوم والمعاني والأسرار أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ من الهوى أَمَّنْ جَعَلَ أرض النفس قَراراً في الجسد وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً من دواعي البشرية وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ من القوى والحواس وَجَعَلَ بَيْنَ بحر الروح وبحر النفس حاجِزاً القلب فإن في اختلاطهما فساد حالهما أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ كما زعمت الطبائعية أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ في العدم بلسان الحال وَيَجْعَلُكُمْ مستعدين لخلافته في الأرض أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ كما يزعم أرباب الحلول والاتحاد أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ بر البشرية وبحر الروحانية وإن كانت الروحانية نورانية بالنسبة إلى ظلمة البشرية والمراد يهديكم بإخراجكم من ظلمات البشرية إلى نور الروحانية، ومن ظلمات خلقته الروحانية إلى نور الربوبية وذلك حين يرسل رياح العناية بين يدي سحاب الهداية أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ كما يقول المنجمون: مطرنا بنوء كذا. وكما يقوله قاصروا النظر: هدانا الشيخ والمعلم إلى كذا أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ بالوجود المجازي ثُمَّ يُعِيدُهُ بالوجود الحقيقي إلى عالم الوحدة وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ من سماء الربوبية لتربية الأرواح ومن أرض بشرية الأشباح أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ كائنا من كان دليله أنه لا يعلم الغيب إلا هو ومن جملته علم قيام الساعة والله أعلم.
[سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 93]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71)
قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76)
وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91)
وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)(5/317)
القراآت:
أيذا أينا بياء مكسورة بعد همزة مفتوحة: ابن كثير ويعقوب غير زيد.
مثله ولكن بالمد: أبو عمرو وزيد أيذا بهمزة مفتوحة ثم ياء مكسورة إِنَّا بكسر الهمزة وبعدها نون مشددة: سهل إِذا من غير همزة الاستفهام آينا بهمزة ممدودة بعدها ياء مكسورة: يزيد وقالون، مثله ولكن من غير مد: نافع غير قالون أَإِذا بهمزتين مفتوحة ثم مكسورة إِنَّا بهمزة مكسورة بعدها نون مشددة: علي وابن عامر هشام يدخل بينهما مدة أَإِذا أَإِنَّا بهمزتين مفتوحة ثم مكسورة فيهما: حمزة وخلف وعاصم. ولا يسمع بفتح الياء التحتانية الصُّمَّ بالرفع: ابن كثير وعباس وكذلك في «الروم» . الآخرون بضم التاء الفوقانية وكسر الميم ونصب الصمّ وما أنت تهدي على أنه فعل العمى بالنصب وكذلك في «الروم» حمزة. الباقون بِهادِي على أنه اسم فاعل العمى بالجر أتوه مقصورا على أنه فعل ماض: حمزة وخلف وحفص والمفضل. الآخرون بالمد على أنه اسم فاعل بما يفعلون على الغيبة: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحماد والأعشى والبرجمي والحلواني عن هشام. فَزَعٍ بالتنوين: عاصم وحمزة وعلي وخلف يَوْمَئِذٍ بفتح الميم: حمزة وأبو جعفر ونافع، الباقون بكسرها تَعْمَلُونَ بتاء الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب وحفص.
الوقوف:
لَمُخْرَجُونَ هـ مِنْ قَبْلُ لا تحرزا عن الابتداء بمقول الكفار الْأَوَّلِينَ هـ الْمُجْرِمِينَ هـ يَمْكُرُونَ هـ صادِقِينَ هـ تَسْتَعْجِلُونَ هـ لا يَشْكُرُونَ هـ وَما يُعْلِنُونَ هـ مُبِينٍ هـ يَخْتَلِفُونَ هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ بِحُكْمِهِ ج تعظيما للابتداء بالصفتين مع اتفاق الجملتين الْعَلِيمُ هـ ج للآية واختلاف الجملتين وللفاء واتصال المعنى(5/318)
أي إذا كان الحكم لله فأسرع التوكل عَلَى اللَّهِ ط الْمُبِينِ هـ مُدْبِرِينَ هـ ضَلالَتِهِمْ ط مُسْلِمُونَ هـ تُكَلِّمُهُمْ ج لمن قرأ بكسر الألف فإنه يحتمل أن يكون الكسر للابتداء ولكونها بعد التكليم لأنه في معنى القول، ومن فتح فلا وقف إذ التقدير تكلمهم بأن لا يُوقِنُونَ هـ يُوزَعُونَ هـ تَعْمَلُونَ هـ لا يَنْطِقُونَ هـ مُبْصِراً ط يُؤْمِنُونَ هـ مَنْ شاءَ اللَّهُ ط داخِرِينَ هـ السَّحابِ ط كُلَّ شَيْءٍ ط تَفْعَلُونَ هـ خَيْرٌ مِنْها لا لأن ما بعده من تتمة الجزاء آمِنُونَ هـ لا لعطف جملتي الشرط فِي النَّارِ هـ تَعْمَلُونَ هـ شَيْءٍ ز للعارض وطول الكلام مع العطف الْمُسْلِمِينَ هـ لا للعطف الْقُرْآنَ ج لِنَفْسِهِ ج الْمُنْذِرِينَ هـ فَتَعْرِفُونَها ط تَعْمَلُونَ هـ.
التفسير:
لما ذكر أن المشركين في شك من أمر البعث عمون عن النظر في دلائله أراد أن يبين عامة شبهتهم وهي مجرد استبعاد إحياء الأموات بعد صيرورتهم ترابا عند الحس.
قال النحويون: العامل في «إذا» ما دل عليه أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ وهو نخرج والمراد الإخراج من الأرض أو من حال الفناء إلى حال الحياة. وإنما ذهبوا إلى هذا التكلف بناء على أن ما بعد همزة الاستفهام وكذا ما بعد «أن» واللام لا يعمل فيما قبلها لأن هذه الأشياء تقتضي صدر الكلام، وتكرير حرف الاستفهام في «إذا» و «أن» جميعا إنكار على إنكار. والضمير في «أنا» لهم ولآبائهم جميعا وقد مر في سورة المؤمنين تفسير قوله لَقَدْ وُعِدْنا وبيان المتشابه فليدّكر. ثم أوعدهم على عدم قبول قول الأنبياء بالنظر في حال الأمم السالفة المكذبة. ولم تؤنث «كان» لأن تأنيث العاقبة غير حقيقي، أو لأن المراد كيف كان عاقبة أمرهم. والمراد بالمجرمين الكافرون لأن الكفر جرم مخصوص وفيه تنبيه على قبح موقع الجرم أياما كان فعلى المؤمن أن يتخوّف عاقبتها ويترك الجرائم كلها كيلا يشارك الكفرة في هذا الاسم الشنيع. ومعنى قوله وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ الآية. قد مر في آخر «النحل» . وفي هذه الآي تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما كان يناله من قومه. ثم إنهم استعجلوا العذاب الموعود على سبيل السخرية فأمره أن يقول لهم عَسى أَنْ يَكُونَ وهذه على قاعدة وعد الملوك ووعيدهم يعنون بذلك القطع بوقوع ذلك الأمر مع إظهار الوقار والوثوق بما يتكلمون. وإن كان على سبيل الرجاء والطمع ولمثل هذا قال رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي دون أن يقول «ردف لكم الذي» . واللام زائدة للتأكيد كالباء في وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ [البقرة:
195] أو أريد أزف لكم ودنا لكم بتضمن فعل يتعدى باللام ومعناه تبعكم ولحقكم. وقال بعضهم: المقتضي للعذاب والمؤثر فيه حاصل في الدنيا إلا أن الشعور به غير حاصل كما للسكران أو النائم، فتمام العذاب إنما يحصل بعد الموت وإن كان طرف منه حاصلا في(5/319)
الدنيا فلهذا ذكر البعض. ثم ذكر أنه متفضل عليهم بتأخير العقوبة في الدنيا ولكنهم لا يشكرون هذه النعمة فيستعجلون وقوع العقاب بجهلهم، وفيه دليل على أن نعمة الله تعم الكافر والمؤمن. ثم بين أنه مطلع على ما في صدورهم مما يخفون كالقصود والدواعي وعلى ما يظهرون من أفعال الجوارح وغيرها، ولعل الغرض أنه يعلم ما يخفون وما يعلنون من عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومكايدهم وهو معاقبهم على ذلك. ثم أكد ذلك بأن المغيبات كلها ثابتة في اللوح المحفوظ، والعاقبة إما مصدر كالعافية، وإما اسم غير صفة كالذبيحة والربيئة، وإما صفة والتاء للمبالغة كالراوية في قولهم «ويل للشاعر من راوية السوء» كأنه قيل: وما من شيء شديد الغيبوبة إلا وهو مثبت في الكتاب الظاهر المبين لمن ينظر فيه من الملائكة. ثم بين لدفع شبه القوم إعجاز القرآن المطابق قصصه لما في التوراة والإنجيل مع كونه صلى الله عليه وسلم أميا، والمطابق غرضه لما هو الحق في نفس الأمر، وقد حرفه بنوا إسرائيل وجهه كاختلافهم في شأن المسيح في كثير من الشرائع والأحكام، وذكر أنه هدى ورحمة لمن آمن منهم وأنصف أو منهم ومن غيرهم.
ثم ذكر أن من لم ينصف منهم فالله يقضي بينهم بحكمه أي بما يحكم به وهو عدله لأنه لا يقضي إلا بالعدل فسمى المحكوم به حكما وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لا يغالب فيما يريد الْعَلِيمُ بما يحكم وبمن يحكم لهم أو عليهم. ثم أمره بالتوكل وقلة المبالاة بأعداء الدين وعلل ذلك بأمرين: أحدهما أنه على الحق الأبلج وفيه أن صاحب الحق حقيق بالوثوق بنصرة الله، وثانيهما قوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى لأنه إذا علم أن حالهم لانتفاء جدوى السماع كحال الموتى أو كحال الصم الذين لا يسمعون ولا يفهمون والعمي الذين لا يبصرون ولا يهتدون، صار ذلك سببا قويا في إظهار مخالفتهم وعدم الاعتداد بهم. وقوله إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ تأكيد لأن الأصم إذا توجه إلى الداعي لم يرج منه سماع فكيف إذا ولى مدبرا وهداه عن الضلالة كقولك «سقاه عن العمية» . ثم بين أن إسماعه لا يجدي إلا على الذين علم الله أنهم يصدقون بآياته فَهُمْ مُسْلِمُونَ أي مخلصون منقادون لأمر الله بالكلية.
ثم هدد المكلفين بذكر طرف من أشراط الساعة وما بعدها فقال وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ أي دنا وشارف أن يحصل مؤاده ومفهومه عَلَيْهِمْ وهو ما وعدوا به من قيام الساعة والعذاب أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ وهي الجساسة. وقد تكلم علماء الحديث فيها من وجوه:
أحدها في مقدار جسمها. فقيل: إن طولها ستون ذراعا. وقيل: إن رأسها يبلغ السحاب.
وعن أبي هريرة: ما بين قرنيها فرسخ للراكب. وثانيها في كيفية خلقتها فروي لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها رأس ثور وعين خنزير وأذن فيل وقرن(5/320)
أيل وعنق نعامة وصدر أسد ولون نمر وخاصرة هر وذنب كبش وخف بعير وما بين المفصلين اثنا عشر ذراعا. وثالثها في كيفية خروجها
عن علي رضي الله عنه أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثها.
وعن الحسن: لا يتم خروجها إلا بعد ثلاثة أيام. ورابعها مكان خروجها،
سئل النبي صلى الله عليه وسلم من أين تخرج الدابة؟ فقال: من أعظم المساجد حرمة على الله
يعني المسجد الحرام. وقيل: تخرج من الصفا فتكلمهم بالعربية.
وخامسها في عدد خروجها روي أنها تخرج ثلاث مرات تخرج بأقصى اليمن ثم تكمن ثم تخرج بالبادية، ثم تكمن دهرا طويلا فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة وأكرمها على الله فما يهولهم إلا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد، فقوم يهربون وقوم يقفون نظارة. وسادسها فيما يصدر عنها من الآثار والعجائب فظاهر الآية أنها تكلم الناس، وفحوى الكلام أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ قال جار الله: معناه أن الناس كانوا لا يوقنون بخروجي لأن خروجها من الآيات. ومن قرأ (إن) مكسورة فقولها حكاية قول الله فلذلك قالت بِآياتِنا أو المعنى بآيات ربنا فحذف المضاف أو سبب الإضافة اختصاصها بالله كما يقول بعض خاصة الملك: خيلنا وبلادنا. وإنما هي خيل مولاه وبلاده. عن السدي: تكلمهم ببطلان الأديان كلها سوى دين الإسلام. وعن ابن عمر:
تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه ثم تستقبل المشرق ثم الشام ثم اليمن فتفعل مثل ذلك.
روي بينا عيسى يطوف بالبيت ومعه المسلمون وإذ تضطرب الأرض تحتهم تحرك القنديل وينشق الصفا مما يلي المسعى فتخرج الدابة من الصفا ومعها عصا موسى وخاتم سليمان، فتضرب المؤمن في مسجده أو فيما بين عينيه بعصا موسى فتنكت نكتة بيضاء فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه ويكتب بين عينيه «مؤمن» وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه ويكتب بين عينيه «كافر» .
وروي أنها تقول لهم: يا فلان أنت من أهل الجنة ويا فلان أنت من أهل النار. وقيل: تكلمهم من الكلم على معنى التبكيت والمراد به الجرح وهو الوسم بالعصا والخاتم.
ثم ذكر طرفا مجملا من أهوال يوم القيامة قائلا وَيَوْمَ أي واذكر يوم نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً أي جماعة كثيرة مِمَّنْ يُكَذِّبُ هذه للتبيين والأولى للتبعيض وقوله بِآياتِنا يحتمل معجزات جميع الرسل أو القرآن خاصة. وقد مر معنى قوله فَهُمْ يُوزَعُونَ في وصف جنود سليمان أي يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا فيكبكبوا في النار. وعن ابن عباس: الفوج أبو جهل والوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة يساقون بين يدي أهل مكة، وكذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار. والواو في قوله وَلَمْ(5/321)
تُحِيطُوا
للحال كأنه قيل: أكذبتم بآياتي بادي الرأي من غير الوقوف على حقيقتها وأنها جديرة بالتصديق أو بالتكذيب. ويجوز أن تكون الواو للعطف والمعنى أجحدتموها ومع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتفهمها، فقد يجحد المكتوب إليه كون الكتاب من عند من كتبه ومع ذلك لا يدع تفهم مضمونه وأن يحيط بمعانيه. قال جار الله: أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ للتبكيت لا غير لأنهم لم يعملوا إلا التكذيب ولم يشتهر من حالهم إلا ذلك. وجوّز أن يراد ما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب أم ماذا كنتم تعملون من غير ذلك كأنكم لم تخلقوا إلا لأجله. وقال غيره: أراد لما لم يشتغلوا بذلك العمل المهم وهو التصديق فأيّ شيء يعملونه بعد ذلك؟ لأن كل عمل سواه فكأنه ليس بعمل. قال المفسرون: يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها وذلك قوله وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله فيشغلهم عن النطق والاعتذار. ثم بعد أن خوّفهم بأهوال القيامة وأحوالها ذكر ما يصلح أن يكون دليلا على التوحيد وعلى الحشر وعلى النبوّة مبالغة في الإرشاد إلى الإيمان والمنع من الكفر فقال أَلَمْ يَرَوْا الآية.
ووجه دلالته على التوحيد أن التقليب من النور إلى الظلمة وبالعكس لا يتم إلا بقدرة قاهرة، ودلالته على الحشر أن النوم يشبه الموت والانتباه يشبه الحياة، ودلالته على النبوّة أن كل هذا لمنافع المكلفين وفي بعثة الرسل إلى الخلق أيضا منافع جمة، فما المانع لمفيض الخيرات من إيصال بعض المنافع دون البعض، أو من رعاية بعض المصالح دون البعض؟
ووصف النهار بالإبصار إنما هو باعتبار صاحبه وقد مر في «يونس» . والتقابل مراعى في الآية من حيث المعنى كأنه قيل: ليسكنوا فيه وليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب. ثم عاد إلى ذكر علامة أخرى للقيامة فقال وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وقد تقدم تفسيره في «طه» و «المؤمنين» . وقوله فَفَزِعَ كقوله وَنادى [الأعراف: 48] وَسِيقَ [الزمر: 73] والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قال أهل التفسير: إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة. وهم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل. وقيل: هم الشهداء. وعن الضحاك: الحور وخزنة النار وحملة العرش. وعن جابر أن منهم موسى لأنه صعق مرة. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة فَفَزِعَ موافقة لقوله وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وفي «الزمر» قال فَصَعِقَ [الزمر: 68] لأن معناه فمات وقد سبق إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] .
ومعنى داخِرِينَ صاغرين أذلاء. وقيل: معنى الإتيان حضورهم الموقف بعد النفخة الثانية. وجوّز أن يراد رجوعهم إلى أمره وانقيادهم له. قال أهل المناظرة: إن الأجسام(5/322)
الكبار إذا تحركت حركة سريعة على نهج واحد في السمت والكيفية ظن الناظر أنها واقفة مع أنها تمر مرا حثيثا، فأخبر الله سبحانه أن حال الجبال يوم القيامة كذلك تجمع فتسير كما تسير الريح السحاب، فإذا نظر الناظر حسبها جامدة أي واقفة في مكان واحد. وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ قال جار الله صُنْعَ اللَّهِ من المصادر المؤكدة كقوله «وعد الله» إلا أن مؤكده محذوف وهو الناصب ل يَوْمَ يُنْفَخُ والمعنى يوم ينفخ في الصور فكان كيت وكيت، أثاب الله المحسنين وعاقب المجرمين صنع الله، فجعل الإثابة والمعاقبة من جملة الأشياء التي أتقنها وأتى بها على وجه الحكمة والصواب. قلت: لا يبعد أن يكون الناصب ل يَوْمَ يُنْفَخُ هو «اذكر» مقدرا، ويكون صُنْعَ اللَّهِ مصدرا مؤكدا لنفسه أي صنع تسيير الجبال ومرها صنع الله. قال القاضي عبد الجبار: في قوله أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ دلالة على أن القبائح ليست من خلقه وإلا وجب وصفها بأنها متقنة ولكن الإجماع مانع منه. وأجيب بأن الآية مخصوصة بغير الأعراض فإن الأعراض لا يمكن وصفها بالإتقان وهو الإحكام لأنه من أوصاف المركبات. قلت: ولو سلم وصف الأعراض بالإتقان فوصف كل الأعراض به ممنوع فما من عام إلا وقد خص، ولو سلم فالإجماع المذكور لعله ممنوع يؤيده قوله إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ وإذا كان خبيرا بكل أفعال العباد على كل نحو يصدر عنهم وخلاف معلومه يمتنع أن يقع فقد صحت معارضة الأشعري، وعلى مذهب الحكيم وقاعدته صدور الشر القليل من الحكيم لأجل الخير الكثير لا ينافي الإتقان والله أعلم. ثم فصل أعمال العباد وجزاءها بقوله مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها إلى آخر الآيتين. وبيان الخيرية بالأضعاف وبأن العمل منقض والثواب دائم، وبأن فعل السيد بينه وبين فعل العبد بون بعيد على أن الأكل والشرب إنما هو جزاء الأعمال البدنية، وأما الأعمال القلبية من المعرفة والإخلاص فلا جزاء لها سوى الالتذاذ بلقاء الله والاستغراق في بحار الجمال والجلال جعلنا الله أهلا لذلك. وقيل: المراد فله خير حاصل منها. وعن ابن عباس: أن الحسنة كلمة الشهادة التي هي أعلى درجات الإيمان. واعترض عليه بأنه يلزم منه أن لا يعاقب مسلم.
وأجيب بأنه يكفي في الخيرية أن لا يكون عقابه مخلدا. ثم وعد المحسنين أمرا آخر وهو قوله وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وآمن يعدّى بالجار وبنفسه. والتنوين في فزع في إحدى القراءتين إما للنوع وهو فزع نوع العقاب فإن فزع الهيبة والجلال يلحق كل مكلف وهو الذي أثبته في قوله فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وإما للتعظيم أي من فزع شديد لا يكتنهه الواصف وهو خوف النار آمنون. وأما حال العصاة فأن تكب في النار فعبر عن الجملة بالوجه لأنه أشرف أو لأنهم يلقون في الجحيم منكوسين. وقوله هَلْ(5/323)
تُجْزَوْنَ
الخطاب فيه إما على طريقة الالتفات وإما على سبيل الحكاية بإضمار القول أي يقال لهم عند الكب هذا القول. ثم ختم السورة بخلاصة ما أمر به رسوله وذلك أشياء منها:
عبادة الرب سبحانه. ثم وصف الرب بأمرين احترازا من أرباب أهل الشرك أولهما كونه ربا لما هو أقرب في نظر قريش وهو بلدة مكة حرسها الله. وفيه نوع منة عليهم كقوله حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: 67] وثانيهما عام وهو قوله وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ومنها أمره بالإسلام وهو الإذعان الكلي لأوامر الله بجميع أعضائه وجوارحه. ومنها أمره بتلاوة القرآن أي بتلوّه أي أتباعه وقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل ما أمر به أتم قيام حتى خوطب بقوله ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى [طه: 2] ثم لما بين سيرته ذكر أن نفع الاهتداء ووبال الضلال لا يعود إلا إلى المكلف أو عليه وليس على الرسول إلا البلاغ والإنذار. ثم جعل ختم الخاتمة الأمر بالحمد كما هو صفة أهل الجنة وبعد أمره بالحمد على نعمة النبوة والرسالة هدّد أعداءه بما سيريهم في الآخرة من الآيات الملجئة إلى الإقرار وذلك حين لا ينفعهم الإيمان. قاله الحسن. وعن الكلبي: هي الدخان وانشقاق القمر وما حل بهم من العقوبات في الدنيا. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ولكنه من وراء جزاء العاملين.
التأويل:
قُلْ سِيرُوا في أرض البشرية فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ لأن خواص نفوسهم أنموذج من جهنم كما أن خواص أهل القلوب أنموذج من الجنة وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ لأنه خمر طينة آدم بيديه أربعين صباحا ونفخ فيه من روحه فهو مطلع على قالبه وعلى قلبه ولهذا قال وَما مِنْ غائِبَةٍ من الخواص في سماء القلب وأرض القالب إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ وهو علم الله تعالى أن هذا القرآن يقص لأن كل كتاب كان مشتملا على شرح مقام ذلك النبي ولم يكن لنبي مقام في القرب مثل نبينا، فلا جرم لم يكن في كتبهم من الحقائق مثل ما في القرآن ولهذا قال إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي بين هذه الأمة وبين أمة كل نبي بحكمه أي بحكمته بأن يبلغ متابعي كل نبي إلى مقام نبيهم ويبلغ متابعي نبينا صلى الله عليه وسلم إلى مقام المحبة. فاتبعوني يحببكم الله وَهُوَ الْعَزِيزُ الذي لعزته لا يهدي كل مثمن إلى مقام حبيبه الْعَلِيمُ بمن يستحق هذا المقام. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ في دعوة الخلق إلى الله وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ وذلك بعد البلوغ ومضى زمان الرعي في مراتع البهيمية أَخْرَجْنا لَهُمْ من تحت أرض البشرية دَابَّةً تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ وهي النفس الناطقة فإنها إلى الآن كانت موصوفة بصفة الصمم والبكم بتبعية النفس الأمارة التي لا توقن هي وصفاتها بالدلائل. وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ(5/324)
كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ
من كلامه وهي صفات الروح والقلب وذلك بعد التصفية والمداومة على الذكر والفكر، حتى إذا رجعوا إلى الحضرة قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بعد أن كنتم مصدقيها عند خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] وهذا خطاب فيه استبطاء وعتاب وقع قول يحبهم عليه بدل ما ظلموا فهم لا ينطقون
كقوله «من عرف الله كل لسانه»
أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً جعلنا ليل البشرية سببا لاستجمام القلب ونهار الروحانية بتجلي شمس الربوبية مبصرا يبصر به الحق من الباطل. وَيَوْمَ يُنْفَخُ إسرافيل المحبة في صور القلب فَفَزِعَ من في سموات الروح من الصفات الروحانية ومن في أرض البشرية من الصفات النفسانية إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ من أهل البقاء الذين أحيوا بحياته وأفاقوا بعد صعقة الفناء وهي النفخة الأولى في بداية تأثير العناية للهداية وإلقاء المحبة التي تظهر القيامة في شخص المحب. وفزع الصفات هيجانها للطلب بتهييج أنوار المحبة إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ وهو الخفي وهي لطيفة في الروح بالقوة وإنما تصير بالفعل عند طلوع شموع الشواهد وآثار التجلي فلا يصيبه الفزع بالنفخة الأولى ولا تدركه الصعقة بالنفخة الثانية وَتَرَى جبال الأشخاص جامِدَةً على حالها وَهِيَ تَمُرُّ بالسير في الصفات وتبديل الأخلاق مَرَّ السَّحابِ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ وهي القلب والرب هو الله كما أن رب بلدة القالب هو النفس الأمارة وأنه تعالى حرم بلدة القلب على الشيطان كما قال يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس: 5] دون أن يقول «في قلوب الناس» سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها فيه إذا لم ير الآيات لم يمكن عرفانها اللهم اجعلنا من العارفين واكشف عنا غطاءنا بحق محمد وآله صلى الله وسلم عليهم.(5/325)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)
(سورة القصص)
(مكية سوى آية نزلت بجحفة إِنَّ الَّذِي فَرَضَ إلخ حروفها 5800 كلمها 1441 آياتها 88)
[سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 21]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)
وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9)
وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14)
وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)(5/326)
القراآت:
ويرى بفتح الياء وإمالة الراء فرعون وهامان وجنودهما مرفوعات:
حمزة وعلي وخلف وهكذا قرؤا قوله وحزنا بضم الحاء وسكون الزاي الباقون بفتحها.
الوقوف:
طسم كوفي. الْمُبِينِ هـ يُؤْمِنُونَ هـ نِساءَهُمْ ط الْمُفْسِدِينَ هـ الْوارِثِينَ هـ لا للعطف يَحْذَرُونَ هـ أَرْضِعِيهِ ج للفاء مع احتمال الابتداء بإذا الشرطية وَلا تَحْزَنِي ج للابتداء بإن مع أن التقدير فإنا. مِنَ الْمُرْسَلِينَ هـ وَحَزَناً ط خاطِئِينَ هـ وَلَكَ ط لا تَقْتُلُوهُ ق والوجه الوصل لأن الرجاء بعده تعليل للنهي.
لا يَشْعُرُونَ هـ فارِغاً ط الْمُؤْمِنِينَ هـ قُصِّيهِ ز بناء على أن التقدير فتبعته فبصرت لا يَشْعُرُونَ هـ لا بناء على أن الواو للحال أي وقد حرمنا وقوله فَقالَتْ عطف على قوله فَبَصُرَتْ والحال معترض ناصِحُونَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ وَعِلْماً هـ الْمُحْسِنِينَ هـ يَقْتَتِلانِ لا لأن ما بعده صفة الرجلين ظاهرا ولكن مع إضمار أي يقال لهما هذا من شيعته وهذا من عدوّه، وليس ببعيد أن يكون مستأنفا من عَدُوِّهِ الأول ج لأن ما يتلوه معطوف على قوله فوجد مع اعتراض عارض من عَدُوِّهِ الثاني لا للعطف عليه مع عدم اتحاد القائل الشَّيْطانِ ط مُبِينٌ هـ فَغَفَرَ لَهُ ط الرَّحِيمُ هـ لِلْمُجْرِمِينَ هـ يَسْتَصْرِخُهُ ط مُبِينٌ ط لَهُما لا لأن ما بعده جواب «لما» بِالْأَمْسِ ط للابتداء بالنفي والوصل أوجه لاتحاد القائل الْمُصْلِحِينَ هـ يَسْعى ز لعدم العاطف مع اتحاد القول مِنَ النَّاصِحِينَ هـ يَتَرَقَّبُ ز لما قلنا في يَسْعى الظَّالِمِينَ هـ.
التفسير:
فاتحة هذه السورة كفاتحة سورة الشعراء. نَتْلُوا عَلَيْكَ على لسان جبرائيل مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ أي طرفا من خبرهما متلبسا بِالْحَقِّ أو محقين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأن التلاوة إنما تنفع هؤلاء. ثم شرع في تفصيل هذا المجمل وفي تفسيره كأن سائلا سأل:
وكيف كان نبؤهما؟ فقال مستأنفا إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ أي طغى وتكبر في أرض مملكته وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً فرقا يشيعونه على ما يريد ويطيعونه أو جعلهم أصنافا في استخدامه فمن بان وحارث وغير ذلك، أو فرقا مختلفة بينهم عداوة ليكونوا له أطوع وهم(5/327)
بنو إسرائيل والقبط. وقوله يَسْتَضْعِفُ حال من الضمير في جَعَلَ أو صفة شِيَعاً أو مستأنف. ويُذَبِّحُ بدل منه. وقوله إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ بيان أن القتل من فعل أهل الفساد لا غير لأن الكهنة إن صدقوا فلا فائدة في القتل، وإن كذبوا فلا وجه للقتل اللهم إلا أن يقال: إن النجوم دلت على أنه يولد ولد لو لم يقتل لصار كذا وكذا، وضعفه ظاهر لأن المقدر كائن البتة وَنُرِيدُ حكاية حال ماضية معطوفة على قوله إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فهذه أيضا تفسير للنبأ. وجوز أن يكون حالا من الضمير في يَسْتَضْعِفُ أي يستضعفهم هو ونحن نريد أن نمنّ عليهم في المآل، فجعلت إرادة الوقوع كالوقوع. وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً مقدمين في أمور الدين والدنيا. وعن ابن عباس: قادة يقتدى بهم في الخير. وعن مجاهد:
دعاة إلى الخير وعن قتادة: ولاة أي ملوكا. ومعنى الوراثة والتمكين في أرض مصر والشام هو أن يرثوا ملك فرعون وينفذ فيه أمرهم، والذي كانوا يحذرون منه هو ذهاب ملكهم وهلاكهم على يد مولود منهم. يروى أنه ذبح في طلب موسى تسعون ألف وليد.
قال ابن عباس: إن أم موسى لما قربت ولادتها أرسلت إلى قابلة من القوابل التي وكلهن فرعون بالحبالى وكانت مصافية لأم موسى وقالت لها: قد نزل بي ما نزل ولينفعني حبك، فعالجتها فلما وقع على الأرض هالها نور بين عينيه، وارتعش كل مفصل منها ودخل حبه قلبها، ثم قالت: ما جئتك إلا لأخبر فرعون ولكن وجدت لابنك هذا حبا شديدا فاحفظيه. فلما خرجت القابلة من عندها أبصرها نفر من بعض العيون فجاء إلى بابها ليدخل على أم موسى فقالت أخته: يا أماه هذا الحرس فلفته في خرقة ووضعته في تنور مسجور لم تعقل ما تصنع لما طاش من عقلها. فدخلوا فإذا التنور مسجور وإذا أم موسى لم يتغير لها لون ولم يظهر لها لبن فقالوا:
لم دخلت القابلة عليك؟ قالت: إنها حبيبة لي دخلت للزيارة. فخرجوا من عندها ورجع إليها عقلها فقالت: يا أخت موسى أين الصبي؟ فقالت: لا أدري سمعت بكاءه في التنور، فانطلقت إليه وقد جعل الله النار عليه بردا وسلاما. فلما ألح فرعون في طلب الولدان خافت على ابنها أن يذبح فألهمها الله تعالى أن تتخذ له تابوتا ثم تقذف التابوت في النيل. فجاءت إلى النجار وأمرته بنجر تابوت طوله خمسة أشبار في عرض خمسة فعلم النجار بذلك فجاء إلى موكل بذبح الأبناء فاعتقل لسانه فرجع ثم عاد مرات فعلم أنه من الله فأقبل على النجر.
وقيل: لما فرغ من صنعة التابوت ثم أتى فرعون يخبره فبعث معه من يأخذه فطمس الله على عينيه وقلبه بألم فلم يعرف الطريق، وأيقن أنه من الله وأنه هو المولود الذي يخافه فرعون فآمن في الوقت وهو مؤمن آل فرعون. وانطلقت أم موسى وألقته في النيل، وكانت لفرعون بنت لم يكن له ولد غيرها، وكان لها كل يوم ثلاث حاجات ترفعها إلى أبيها، وكان بها برص شديد وكان فرعون قد شاور الأطباء والسحرة في أمرها فقالوا: يا أيها الملك لا تبرأ(5/328)
هذه إلا من قبل البحر يوجد منه شبيه الإنس فيؤخذ من ريقه فيلطخ به برصها فتبرأ من ذلك في يوم كذا من شهر كذا حين تشرق الشمس. فلما كان ذلك اليوم غدا فرعون في مجلس له على شفير النيل ومع آسية زوجته، وأقبلت بنت فرعون في جواريها حتى جلست على الشاطئ إذ أقبل النيل بتابوت تضربه الأرياح والأمواج وتعلق بشجرة فقال فرعون: ائتوني به، فابتدروه بالسفن من كل جانب حتى وضعوه بين يديه فعالجوا فتح الباب فلم يقدروا عليه وعالجوا كسره فلم يقدروا عليه، فنظرت آسية فرأت نورا في جوف التابوت لم يره غيرها فعالجته ففتحته فإذا هو صبي صغير في مهده يمص إبهامه لبنا، وإذا نور بين عينيه فألقى الله محبته في قلوب القوم، وعمدت ابنة فرعون إلى ريقه فلطخت به برصها فبرئت وضمته إلى صدرها. فقال الأعزة من قوم فرعون: إنا نظن أن هذا هو الذي تحذر منه، فهمّ فرعون بقتله فاستوهبته امرأة فرعون وتبنته فترك قتله.
قال علماء البيان: اللام في قوله لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا لام العاقبة وأصلها التعليل إلا أنه وارد هنا على سبيل المجاز استعيرت لما يشبه التعليل من حيث إن العداوة والحزن كان نتيجة التقاطهم كما أن الإكرام مثلا نتيجة المجيء في قولك «جئتك لتكرمني» وبعبارة أخرى، إن مقصود الشيء والغرض منه هو الذي يؤل إليه أمره فاستعملوه هذه اللام فيما يؤل إليه الأمر على سبيل التشبيه وإن لم يكن غرضا. ومعنى كونهم خاطئين هو أنهم أخطؤا في التدبير حيث ربوا عدوّهم في حجرهم أو أنهم أذنبوا وأجرموا، وكان عاقبة ذلك أن يجعل الله في تربيتهم من على يديه هلاكهم. قال النحويون قُرَّتُ عَيْنٍ خبر مبتدأ محذوف أي هو قرة عين ولا يقوى أن يجعل مبتدأ ولا تَقْتُلُوهُ خبرا لأن الطلب لا يقع خبرا إلا بتأويل، ولو نصب لكان أقوى لأن الطلب من مظان النصب.
روي في حديث أن آسية حين قالت قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ قال فرعون: لك لا لي،
ولو قال هو قرة عين لي كما هو لك لهداه الله كما هداها. ثم إنها رأت فيه مخايل اليمن ودلائل النفع وتوسمت فيه أمارات النجابة فقالت عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً فإنه أهل للتبني وذلك لما عاينت من النور وارتضاع الإبهام وبرء البرصاء. قال في الكشاف وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من آل فرعون. وقوله إِنَّ فِرْعَوْنَ الآية. جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم والتقدير: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا. وقالت امرأة فرعون كذا وهم لا يشعرون أنهم على خطأ عظيم في التقاطه ورجاء النفع منه وتبنيه. قلت: لا يبعد أن تكون الجملة حالا من فاعل قالَتْ أي قالت كذا وكذا في حال عدم شعورهم بالمئال وهو أن هلاكهم على يده وبسببه. وقال الكلبي: أي لا يشعرون بنو إسرائيل وأهل مصر أنا التقطناه.(5/329)
قوله سبحانه وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً قال الحسن: أي فارغا من كل هم إلا من هم موسى. وقال أبو مسلم: فراغ الفؤاد هو الخوف والإشفاق كقوله وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ [إبراهيم: 43] أي جوف لا عقول فيها وذلك أنها حين سمعت بوقوعه عند فرعون طار عقلها جزعا ودهشا. وقال محمد بن إسحاق والحسن في رواية: أي فارغا من الوحي الذي أوحينا إليها وذلك قولنا فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي الغرق وسائر المخاوف وَلا تَحْزَنِي والخوف غم يلحق الإنسان لمتوقع، والحزن غم يلحقه لواقع فنهيت عنهما جميعا، فجاءها الشيطان وقال لها: كرهت أن يقتل فرعون ولدك فيكون لك أجر فتوليت إهلاكه. ولما أتاها خبر موسى أنه وقع إلى يد فرعون أنساها عظيم البلاء ما كان من عهد الله إليها. وقال أبو عبيدة: فارغا من الخوف فالله تعالى يقول لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها وهل يربط إلا على قلب الجازع المحزون؟ أما من فسر الفراغ بحصول الخوف فعنده معنى قوله إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ هو أنها كادت تحدث بأن الذي وجدتموه ابني قاله ابن عباس. وفي رواية عكرمة كادت تقول وابناه من شدة وجدها به، وذلك حين رأت الموج يرفع ويضع. وقال الكلبي:
ذلك حين سمعت الناس يقولون إنه ابن فرعون. ثم قال لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها بإلهام الصبر كما يربط على الشيء المتفلت ليستقر ويطمئن لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدّقين بوعد الله وهو قوله إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ. وأما من فسره بعدم الخوف فالمعنى عنده أنها صارت مبتهجة مسرورة حين سمعت أن فرعون تبناه وعطف عليه، وأن الشأن أنها قاربت أن تظهر أنه ولدها لولا أن ألهمناها الصبر لتكون من المؤمنين الواثقين بوعد الله لتبني فرعون وتعطفه. والأول أظهر بدليل قوله وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ أي اقتفي أثره وانظري أين وقع وإلى من صار، وكانت أخته لأبيه وأمه واسمها مريم فَبَصُرَتْ بِهِ أي أبصرته عَنْ جُنُبٍ عن بعد أي نظرت إليه مزورّة متجانفة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بحالها وغرضها. والتحريم هاهنا لا يمكن حمله على النهي والتعبد ظاهرا فلذلك قيل: إنه مستعار للمنع لأن من حرم عليه شيء فقد منعه. وكان لا يقبل ثدي مرضع إما لأنه تعالى منع حاجته إلى اللبن وأحدث فيه نفار الطبع عن لبن سائر النساء، وإما لأنه أحدث في ألبانهن من الطعم ما ينفر عنه طبعه.
وعن الضحاك: أن أمه أرضعته ثلاثة أشهر فعرف ريحها. والْمَراضِعَ جمع مرضعة وهي المرأة التي تصلح للإرضاع، أو جمع مرضع وهو الثدي، أو الرضاع، فالأول مكان والثاني مصدر ومِنْ قَبْلُ أي من قبل قصصها أثره، أو من قبل أن رددناه إلى أمه، أو من قبل ولادته في حكمنا وقضائنا.
روي أنها لما قالت وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ قال هامان: إنها لتعرفه وتعرف أهله، فقالت: إنما أردت وهم للملك ناصحون.
والنصح إخلاص العمل من شائبة(5/330)
الفساد. والمراد أنهم يضمنون رضاعه والقيام بمصالحه ولا يمنعون ما ينفعه في تربيته وغذائه. فانطلقت إلى أمها بأمرهم فجاءت بها والصبي يعلله فرعون شفقة عليه وهو يبكي يطلب الرضاع، فحين وجد ريحها استأنس والتقم ثديها. فقال لها فرعون: ومن أنت منه فقد أبى كل ثدي إلا ثديك؟ قالت: إني امرأة طيبة الريح طيبة اللبن لا أوتى بصبي إلا قبلني فدفعه إليها وعين أجرها. قال في الكشاف: إنما أخذت الأجر على إرضاع ولدها لأنه مال حربي استطابته على وجه الاستباحة. قلت: ولعل ذلك لدفع التهمة فإن مال الحربي لم يكن مستطابا بدليل قوله وأحلت لي الغنائم قالوا: كانت عالمة بأن الله تعالى سينجز وعده ولكن ليس الخبر كالعيان فلهذا قال سبحانه وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ أي أكثر الناس لا يَعْلَمُونَ حقية وعده في ذلك العهد وبعده لإعراضهم عن النظر في آيات الله. وقال الضحاك ومقاتل: يعني أهل مصر لا يعلمون أن الله وعد رده إليها. قلت: ويؤيد هذا القول أنه اقتصر على الضمير دون أن يقول «ولكن أكثر الناس» كما قال في سورة يوسف وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف: 21] وقيل: هذا تعريض بما فرط منها حين سمعت بخبر موسى فجزعت وأصبح فؤادها فارغا، وعلى هذا يحتمل أن يكون قوله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ من جملة ما يعلمها أي ولتعلم حقية وعد الله وهذا الاستدراك. وجوز في الكشاف أن يتعلق الاستدراك بقوله وَلِتَعْلَمَ المقصود أن الرد به إنما كان لهذا الغرض الديني وهو العلم بصدق وعد الله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن هذا هو الغرض الأصلي الذي ما سواه تبع له من قرة العين وذهاب الحزن.
ثم بين سبحانه كمال عنايته في حقه كما بين في قصة يوسف قائلا: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وزاد هاهنا قوله وَاسْتَوى فقيل: بلوغ الأشد والاستواء بمعنى واحد. والأصح أنهما متغايران. والأشد عبارة عن البلوغ، والاستواء إشارة إلى كمال الخلقة. وعن ابن عباس:
الأشد ما بين الثمانية عشر إلى ثلاثين، والاستواء من الثلاثين إلى الأربعين. وهو عند الأطباء سن الوقوف. فلعل يوسف أعطى النبوة في سن النمو وأعطى موسى إياها في سن الوقوف. والعلم التوراة، والحكم السنة، وحكمة الأنبياء سنتهم- قيل: ليس في الآية دلالة على أن هذه النبوة كانت قبل قتل القبطي أو بعده لأن الواو في قوله وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ لا تفيد الترتيب. قلت: يشبه أن يستدل على أن النبوة كانت بعد قتل القبطي بأنها كانت بعد تزوجه بنت شعيب، والتزوج كان بعد فراره منهم إلى مدين كما قرره تعالى في هذه السورة.
وقد أجمل ذلك في الشعراء حيث قال حكاية عن موسى فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً [الشعراء: 21] وعلى هذا يمكن أن يراد بالواو(5/331)
الترتيب ويكون المعنى: آتيناه سيرة الحكماء والعلماء قبل البعث فكان لا يفعل فعلا يستجهل فيه. أما المدينة فالجمهور على أنها القرية التي كان يسكنها فرعون عن فرسخين من مصر. وقال الضحاك: هي عين شمس. وقيل: هي مصر. وحين غفلتهم بين العشاءين أو وقت القائلة أو يوم عيد اشتغلوا فيه باللهو. وقيل: أراد غفلتهم عن ذكر موسى وأمره، وذلك أنه حين ضرب رأس فرعون بالعصا ونتف لحيته في الصغر أمر فرعون بقتله فجيء بجمر فأخذه في فيه فقال فرعون لا أقتله ولكن أخرجوه عن الدار والبلد فأخرج ولم يدخل عليهم حتى كبر والقوم نسوا ذكره. قاله السدي. وقيل: إن الغفلة لموسى من أهلها وذلك أنه لما بلغ أشده وآتاه الله الرشد علم أن فرعون وقومه على الباطل فكان يتكلم بالحق ويعيب دينهم وينكر عليهم، فأخافوه فلا يدخل قرية إلا على تغفل وتستر. قال الزجاج: قوله هذا وَهذا وهما غائبان على جهة الحكاية أي وجد فيها رجلين يقتتلان إذا نظر الناظر إليهما قال: هذا من شيعته وهذا من عدوه. عن مقاتل: أن الرجلين كانا كافرين إلا أن أحدهما من بني إسرائيل والآخر من القبط. واحتج عليه بأن موسى قال له إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ والمشهور أن الذي من شيعته كان مسلما كأنه قال ممن شايعه على دينه. وإنما وصفه بالغي لأنه كان سبب قتل رجل وهو يقاتل آخر على أن بني إسرائيل فيهم غلظة الطباع فيمكن أن ينسبوا إلى الغواية بذلك الاعتبار، ألا ترى أنهم قالوا بعد مشاهدة الآيات: اجعل لنا إلها.
يروى أن القبطي أراد أن يتسخر الإسرائيلي في حمل الحطب إلى مطبخ فرعون.
وقيل: إن الإسرائيلي هو السامري فَاسْتَغاثَهُ سأله أن يخلصه منه فَوَكَزَهُ أي دفعه بأطراف الأصابع أو بجمع الكف فَقَضى عَلَيْهِ أي أماته وقتله. الطاعنون في عصمة الأنبياء قالوا: إن كان القبطي مستحق القتل فلم قال هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ وقال رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وإن لم يكن مستحق القتل كان قتله معصية وذنبا؟ وأيضا قوله هذا مِنْ عَدُوِّهِ يدل على أنه كان كافرا حربيا وكان دمه مباحا والاستغفار من القتل المباح غير جائز.
وأجيب أنا نختار أنه للكفرة كان مباح الدم إلا أن الأولى تأخير قتله إلى زمان آخر. فقوله هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ معناه إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان، أو هذا إشارة إلى عمل المقتول وهو كونه مخالفا الله، أو هو إشارة إلى المقتول يعني أنه من جند الشيطان وحزبه، والاستغفار من ترك الأولى سنة المرسلين، أو أراد أني ظلمت نفسي حيث قتلت هذا الكافر ولو عرف ذلك فرعون لقتلني به فَاغْفِرْ لِي فاستره على هذا كله. إذا سلم أنه كان نبيا في ذلك الوقت وفيه ما فيه قالت المعتزلة: في قوله هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ دليل على أن المعاصي ليست بخلق الله. ولقائل أن يقول: الشيطان من خلق الله فضلا عما يصدر عن الشيطان على أن المشار إليه يحتمل أن يكون شيئا آخر كما قررنا.(5/332)
قوله بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ قيل: أراد به القوة وأنه لن يستعملها إلا في مظاهرة أولياء الله وعلى هذا يكون ما أقدم عليه من إعانة الإسرائيلي على القبطي طاعة، إذ لو كانت معصية لصار حاصل الكلام بما أنعمت عليّ بقبول توبتي فإني أكون مواظبا على مثل تلك المعصية.
وقال القفال: الباء للقسم كأنه أقسم بما أنعم الله عليه من المغفرة أن لا يظاهر مجرما. وأراد بمعاونة المجرمين إما صحبة فرعون وانتظامه في جملته حيث كان يركب بركوبه كالولد مع الوالد وكان يسمى ابن فرعون، وإما مظاهرة من تؤدي مظاهرته إلى ترك الأولى. وقال الكسائي والفراء: إنه خبر ومعناه الدعاء كأنه قال: فلا تجعلني ظهيرا والفاء للدلالة على تلازم ما قبلها وما بعدها. وفي الآية دلالة على عدم جواز إعانة الظلمة والفسقة حتى بري القلم وليق الدواة. عن ابن عباس: أنه لم يستثن أي لم يقل. فلن أكون إن شاء الله فابتلي به مرة أخرى. وفي هذه الرواية نوع ضعف فإنه ترك الإعانة في المرة الثانية، ولئن صحت فلعله أراد أنه جرت صورة تلك القضية عليه إلا أن الله عصمه، وبعد موت القبطي من الوكز فَأَصْبَحَ موسى من غد ذلك اليوم خائِفاً يَتَرَقَّبُ الأخبار وما يقال فيه فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ يطلب نصرته بصياح وصراخ فنسبه موسى لذلك إلى الغواية، فإن كثرة المخاصمة على وجه يؤدّي إلى الاستنصار خلاف طريقة الرشد. فغويّ بمعنى غاو. وجوز بعض أهل اللغة أن يكون بمعنى مغو لأنه أوقع موسى فيما أوقع ثم طلب منه مثل ذلك وهو نوع من الإغواء. قال بعضهم: لما خاطب موسى الإسرائيلي بأنه غويّ ورأى فيه الغضب ظن لما هم بالبطش أنه يريده فقال أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ وزعموا أنه لم يعرف قتله بالأمس إلا هو وصار ذلك سببا لظهور القتل ومزيد الخوف. وقال آخرون: بل هو قول القبطي وقد كان عرف القضية من الإسرائيلي وهذا القول أظهر لأن قوله إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ لا يليق إلا أن يكون قولا للكافر. قال جار الله:
الجبار الذي يفعل ما يريد من الضرب والقتل بظلم لا ينظر في العواقب ولا يدفع بالتي هي أحسن. وقيل: هو العظيم الذي لا يتواضع لأمر الله عز وجل. وحين وقعت هذه الواقعة انتشر الحديث في المدينة وهموا بقتل موسى فأخبره بذلك رجل وهو قوله وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ أي من أبعد مسافاتها إليه. وقوله يَسْعى صفة أخرى لرجل أو حال لأنه قد تخصص بالوصف، وإن جعل الظرف صلة لجاء حتى يكون المجيء من هنالك تعين أن يكون يسعى وصفا. قال العلماء: الأظهر في هذه السورة أن يكون الظرف وصفا وفي «يس» أن يكون صلة، ولذلك خصت بالتقدم ويؤيده ما جاء في التفسير أنه كان يعبد الله في جبل، فلما سمع خبر الرسل سعى مستعجلا. والائتمار التشاور لأن كل واحد من المتشاورين يأمر صاحبه بشيء أو يشير عليه بأمره ومعنى يَأْتَمِرُونَ بِكَ يتشاورون بسببك. وقوله لَكَ مِنَ(5/333)
النَّاصِحِينَ
كقوله فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف: 20] وقد مر أن الجار في مثل هذه الصورة بيان لا صلة. فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ المكروه من جهتهم وأن يلحق به قالَ ملتجئا إلى الله رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وفيه دليل على أن قتله القبطي لم يكن ذنبا وإلا لم يكونوا ظالمين بطلب القصاص.
التأويل:
إِنَّ فِرْعَوْنَ النفس الأمارة استولى على من في الأرض الإنسانية وَجَعَلَ أَهْلَها وهم الروح والسر والعقل أصنافا في الاستخدام لاستيفاء الشهوات يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً وهم صفات القلب، الأبناء الصفات الحميدة المتولدة من ازدواج الروح والقلب، والنساء الصفات الذميمة المتولدة من ازدواج النفس والبدن إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ للاستعداد الفطري. وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ النفس وَهامانَ الهوى وَجُنُودَهُما من الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية. أُمِّ مُوسى السر لأن القلب تولد من ازدواج الروح والسر أَنْ أَرْضِعِيهِ من لبن الروحانية فقد حرم عليه مراضع الحيوانية أو الدنيوية. فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ في الدنيا في تابوت القالب وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أي من القلوب المحدّثين كما قال بعضهم: حدثني قلبي عن ربي فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ وهم صفات النفس والقوى البشرية من الجاذبة والماسكة والهاضمة وغيرها فإنها أسباب لتربية الطفل لِيَكُونَ لَهُمْ في العاقبة عَدُوًّا يجادلهم بطريق الرياضات والمخالفات. وَحَزَناً بترك الشهوات واللذات وبالدعوة إلى ما لا يلائم هواهم من طاعة الله. وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ النفس وهي الجثة لا تقتلوا القلب بسيف الشهوات والانهماك في أسباب اللذات الحسيات. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا بأن ينجينا من النار. قال أهل التحقيق: لما كان اعتقاد الجثة في تربية موسى القلب أنه يكون قرة عينها وولدها فلا جرم نفعها الله بالنجاة ورفع الدرجات، وحين لم يكن لفرعون النفس في حقه هذا الاعتقاد بل كان يتوقع الهلاك منه كان هلاكه على يده بسيف الصدق وسم الذكر. وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنه لو لم يوفق لإهلاكهم لكان هلاكه على أيديهم. فُؤادُ أُمِّ مُوسى هو سر السر، أخت موسى القلب هو العقل. ودخل مدينة القالب عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها وهم الصفات النفسانية فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ صفتين. إحداهما من صفات القلب والأخرى من صفات النفس. وفي قوله هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إشارة إلى أن قتل كافر صفات النفس بالجهاد معها إن لم يكن بأمر الحق وعلى سبيل المتابعة لم يعتدّ به فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ الذين أجرموا بأن جاهدوا كفار صفات النفس بالطبع والهوى لا بالشرع كالفلاسفة والبراهمة إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ لأنك تنازع ذا سلطان قويّ قبل أوانه وهو فرعون النفس. وَجاءَ رَجُلٌ هو العقل مِنْ أَقْصَى مدينة الإنسانية أي من أعلى مرتبة(5/334)
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32) قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
الروحانية يَسْعى في طلب نجاة موسى القلب فأخرج من مدينة البشرية إلى صحراء الروحانية خائِفاً من سطوات فرعون النفس يَتَرَقَّبُ مكايدهم.
[سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 42]
وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26)
قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31)
اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36)
وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41)
وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)(5/335)
القراآت:
رَبِّي أَنْ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ويصدر بفتح الياء وضم الدال: ابن عامر ويزيد وأبو عمرو وأبو أيوب. الآخرون بضم الياء وكسر الدال إِنِّي أُرِيدُ سَتَجِدُنِي إِنْ بفتح ياء المتكلم فيهما: أبو جعفر ونافع إِنِّي آنَسْتُ إِنِّي أَنَا اللَّهُ وإِنِّي أَخافُ بفتح ياء المتكلم في الكل: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وو لعلي آتيكم بفتح الياء: هم وابن عامر جَذْوَةٍ بفتح الجيم: عاصم وبضمها حمزة وخلف. الباقون بكسرها. مِنَ الرَّهْبِ بفتح الراء وسكون الهاء: حفص، وبفتحهما أبو عمرو وسهل ويعقوب وأبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بضم الراء وسكون الهاء فَذانِكَ بتشديد النون: ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو مَعِي بالفتح: حفص ردا بغير همز: أبو جعفر ونافع وابن كثير. الآخرون بضم الراء وهمزة في الوقف يُصَدِّقُنِي بالرفع: حمزة وعاصم يُكَذِّبُونِ بالياء في الحالين: يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل قال موسى بغير واو: ابن كثير رَبِّي أَعْلَمُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. ومن يكون على التذكير: حمزة وعلي وخلف والمفضل لا يرجعون بفتح الياء وكسر الجيم: نافع ويعقوب وعلي وخلف.
الوقوف:
السَّبِيلِ هـ يَسْقُونَ هـ لأنه رأس آية عند الأكثرين مع عطف المتفقتين تَذُودانِ ج لعدم العاطف وطول الكلام مع اتحاد الفاعل خَطْبُكُما ط الرِّعاءُ ز لأن ما بعده منقطع لفظا ومعنى كأنه قال: فلم خرجتما فقالتا تعريضا بالاستقامة وأبونا شيخ كَبِيرٌ ط فَقِيرٌ هـ عَلَى اسْتِحْياءٍ ز لعدم العاطف مع اتحاد القائل، ومن وقف على تَمْشِي ويجعل على استحياء حالا مقدما أي قالت مستحيية فلا وجه له في الوقف لَنا ط لأن جواب «لما» منتظر وقبله حذف أي فذهب معها فلما جاءه فكأن الفاء لاستئناف القصص لأن قال جواب «لما» . لا تَخَفْ ز لأن قوله نَجَوْتَ غير متصل به نظما وليفصل بين البشارتين أي لا تخف ضيما وقد نجوت من ظلم فرعون الظَّالِمِينَ هـ اسْتَأْجِرْهُ ج للابتداء بأن مع اتحاد القول واحتمال التعليل الْأَمِينُ هـ حِجَجٍ ج للشرط مع الفاء عِنْدِكَ ج لابتداء النفي مع الواو عَلَيْكَ ج الصَّالِحِينَ هـ وَبَيْنَكَ ج لابتداء الشرط عَلَيَّ ط وَكِيلٌ هـ ناراً هـ لعدم العاطف وطول الكلام مع اتحاد القائل تَصْطَلُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ لا عَصاكَ ط لحق الحذف أي فألقاها(5/336)
فحييت فلما رآها وَلَمْ يُعَقِّبْ ط لا تَخَفْ ج لمثل ما مر أي لا تخف بأس العصا إنك أمنت بها بأس فرعون الْآمِنِينَ هـ سُوءٍ ز لعطف الجملتين المتفقتين مع طول الكلام هـ وَمَلَائِهِ ط فاسِقِينَ هـ يَقْتُلُونِ هـ يُصَدِّقُنِي ز للابتداء بأن مع اتحاد القول واحتمال التعليل يُكَذِّبُونِ هـ بِآياتِنا ج أي لا يصلون إليكما بسبب آياتنا وعلى إِلَيْكُما أوجه أي أنتم الغالبون بآياتنا الْغالِبُونَ هـ الْأَوَّلِينَ هـ الدَّارِ ط الظَّالِمُونَ هـ غَيْرِي ج لتنويع الكلام إِلى إِلهِ مُوسى لا لأن ما بعده مقوله أيضا الْكاذِبِينَ هـ لا يُرْجَعُونَ هـ فِي الْيَمِّ ج للابتداء بأمر الاعتبار واختلاف الجملتين مع فاء التعقيب الظَّالِمِينَ هـ إِلَى النَّارِ ج لعطف الجملتين المختلفتين لا يُنْصَرُونَ هـ لَعْنَةً ط لمثل ذلك الْمَقْبُوحِينَ هـ.
التفسير:
ذهب بعض المفسرين إلى أن موسى خرج وما قصد مدين ولكنه سلم نفسه إلى الله تعالى وأخذ يمشي من غير معرفة طريق فأوصله الله إلى مدين. وقد يؤيد هذا التفسير ما روي عن ابن عباس أنه خرج وليس له علم بالطريق إلا حسن ظنه بربه، ويحتمل أن يكون معنى قول ابن عباس أنه لما خرج قصد مدين لأنه وقع في نفسه أن بينه وبينهم قرابة لأنهم من ولد مدين بن إبراهيم وهو كان من بني إسرائيل لكن لم يكن له علم بالطريق بل اعتمد على فضل الله تعالى. أما أنه قصد مدين فلقوله سبحانه وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ أي قصد نحو هذه القرية ولم تكن في سلطان فرعون وبينها وبين مصر مسيرة ثمان. وأما أنه اعتمد على فضل الله فلقوله. عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ أي وسطه وجادّته نظيره قول جده إبراهيم عليه السلام إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 99] وكذا الخلف الصدق يقتدي بالسلف الصالح فيهتدي. قال السدي: لما أخذ في المسير جاءه ملك على فرس فسجد له موسى من الفرح فقال: لا تفعل واتبعني فاتبعه نحو مدين. عن ابن جريج أنه خرج بغير زاد ولا ظهر ولم يكن له طعام إلا ورق الشجر. وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وكان بئرا فيما روي وورود الماء مجيئه والوصول إليه ضدّ الصدور. وَجَدَ عَلَيْهِ أي على شفيره ومستقاه أُمَّةً مِنَ النَّاسِ جماعة كثيرة العدد أصنافا يَسْقُونَ مواشيهم وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ أي في مكان أسفل من مكانهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ أي تدفعان وتطردان أغنامهما لأن على الماء من هو أقوى منهما فلم يتمكنا من السقي، وكانتا تكرهان المزاحمة على الماء واختلاط أغنامهما بأغنامهم أو اختلاطهما بالرجال. وقيل: تذودان الناس عن غنمهما. وقيل: تذودان عن وجوههما نظر الناظر. وبالجملة حذف مفعول تَذُودانِ لأن الغرض تقرير الذود لا المذود. وكذا في يَسْقُونَ ولا نَسْقِي المقصود هو ذكر السقي لا المسقي، وكذا في قراءة من(5/337)
قرأ حَتَّى يُصْدِرَ من الإصدار أي حتى يصدر الرعاء مواشيهم الغرض بيان الإصدار. قالَ ما خَطْبُكُما هو مصدر بمعنى المفعول أي ما مخطو بكما من الذياد قالَتا لا نَسْقِي الآية.
سألهما عن سبب الذود فذكرتا أنا ضعيفتان مستورتان لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يفرغوا وما لنا رجل يقوم بذلك. وَأَبُونا شَيْخٌ قد أضعفه الكبر فلا يصلح للقيام به، وهذه الضرورة هي التي سوغت لنبي الله شعيب أن رضي لابنتيه بسقي الماشية على أن الأمر في نفسه ليس بمحظور، ولعل العرب وخصوصا أهل البدو منهم لا يعدّونه قادحا للمروءة. وزعم بعضهم أن أباهما هو ثيرون ابن أخي شعيب وشعيب مات بعد ما عمي وهو اختيار أبي عبيد ينميه إلى ابن عباس. وعن الحسن أنه رجل مسلم قبل الدين من شعيب. أما قوله فَسَقى لَهُما فمعناه فسقى غنمهما لأجلهما وفيه قولان: أحدهما أنه سأل القوم فسمحوا وكان لهم دلو يجتمع عليها أربعون رجلا فيخرجونها من البئر فاستقى موسى بها وحده وصب الماء في الحوض ودعا بالبركة، ثم قرب غنمهما فشربت حتى رويت ثم سرحهما مع غنمهما. والثاني أنه عمد إلى البئر وعليها صخرة لا يقلها إلا سبعة رجال أو عشرة أو أربعون أو مائة- أقوال- فأقلها وحده وسقى أغنامهما، كل ذلك في شمس وحر. ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ظل شجرة فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ذهب أكثر المفسرين الظاهريين ومنهم ابن عباس إلى أنه طلب من الله طعاما يأكله. وعدي فَقِيرٌ باللام لأنه ضمن معنى سائل وطالب. وعن الضحاك أنه مكث سبعة أيام لم يذق فيها طعاما إلا بقل الأرض وإن خضرته تتراءى في بطنه من الهزال، وفيه دليل على أنه نزع الدلو وأقل الصخرة بقوة ربانية. وقال بعض أهل التحقيق: أراد إني فقير من الدنيا لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدين، وذلك أنه كان عند فرعون في ملك وثروة فأظهر الرضا بهذا الذل شكرا لله.
يروى أنهما لما رجعتا إلى أبيهما قبل الناس وأغنامهما حفل بطان قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا. فقال لإحداهما: اذهبي فادعيه لي
وذلك قوله سبحانه فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قيل: من جملة حيائها أنها قد استترت بكم درعها ثم قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ عن عطاء بن السائب أنه حين قال رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ رفع صوته بدعائه ليسمعهما فلذلك قيل له لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا وضعفت الرواية بأن هذا نوع من الدناءة وضعف اليقين بالله فلا يليق بالنبي.
وقد روي أنها حين قالت: ليجزيك كره ذلك. ولما قدم إليه الطعام امتنع وقال: إنا أهل بيت لا نبيع ديننا بدنيانا ولا نأخذ على المعروف ثمنا حتى قال شعيب هذه عادتنا مع كل من ينزل بنا.(5/338)
سؤال: كيف ساغ لموسى أن يعمل بقول امرأة وأن يمشي معها وهي أجنبية؟
الجواب: العمل بقول الواحد حرا أو عبدا ذكرا كان أو أنثى سائغ في الأخبار، والمشي مع الأجنبية لا بأس به في حال الاضطرار مع التورع والعفاف، ويؤيده ما
روي أن موسى تبعها فألزقت الريح ثوبها بجسدها فوصفته فقال لها: امشي خلفي وانعتي لي الطريق. قال الضحاك: لما دخل عليه قال له: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا موسى بن عمران بن يصهر ابن قاهث بن لاوى بن يعقوب.
وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ أي المقصوص من لدن ولادته إلى قتل القبطيّ وفراره خوفا من فرعون وملئه ف قالَ له شعيب لا تَخَفْ من فرعون أو ضيما نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فلا سلطان لفرعون بأرضنا قالَتْ إِحْداهُما وهي كبراهما اسمها صفراء وكانت الصغرى صفيراء يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ قال النحويون: جعل القوي الأمين اسما لكونه معرفة صريحة أولى من جعل «أفعل» التفضيل المضاف اسما لكونه قريبا من المعرفة، ولكن كمال العناية صار سببا للتقديم. وورود الفعل وهو اسْتَأْجَرْتَ بلفظ الماضي للدلالة على أنه أمر قد جرب وعرف. وقال المحققون: إن قولها هذا كلام حكيم جامع لا مزيد عليه لأنه إذا اجتمعت هاتان الخصلتان أعني الكفاية والأمانة اللتين هما ثمرتا الكياسة والديانة في الذي يقوم بأمرك، فقد حصل مرادك وكمل فراغك. عن ابن عباس أن شعيبا أحفظته الغيرة فقال: وما علمك بقوّته وأمانته؟ فذكرت إقلال الحجر ونزع الدلو وأنه صوّب رأسه أي خفضه حين بلغته رسالته، وأنه أمرها بالمشي خلفه فلذلك قال أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ وليس هذا عقدا حتى تلزم الجهالة في المعقود عليها ولكنه حكاية عزم وتقرير وعد ولو كان عقدا لقال أنكحتك ابنتي فلانة. وفي قوله هاتَيْنِ دليل على أنه كانت له غيرهما. قال أهل اللغة: تَأْجُرَنِي من أجرته إذا كنت له أجيرا فيكون ثَمانِيَ حجج ظرفه أو من أجرته كذا إذا أثبته إياه فيكون الثماني مفعولا به ثانيا ومعناه رعية ثماني حجج فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً أي عمل عشر حجج فَمِنْ عِنْدِكَ أي فإتمامه من عندك لا من عندي إذ هو تفضل منك وتبرع وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ الزام أتم الأجلين أو بالتكاليف الشاقة في مدة الرعي، وإنما أعامل معك معاملة الأنبياء يأخذون بالأسمح- بالحاء لا بالجيم- قال أهل الاشتقاق: حقيقة قولهم شققت عليه وشق عليه الأمر أنه إذا صعب الأمر فكأنه شق عليه ظنه باثنين يقول تارة أطيقه وتارة لا أطيقه. ثم أكد وعد المسامحة بقوله سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ عموما أو في باب حسن المعاملة. وقوله إِنْ شاءَ اللَّهُ أدب جميل كقول إسماعيل سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: 102] أي على الذبح. وفيه أن الاعتماد في جميع الأمور على معونة الله والأمر موكول إلى مشيئته. استدل الفقهاء بالآية على أن العمل قد يكون مهرا كالمال،(5/339)
وعلى أن إلحاق الزيادة بالثمن والمثمن جائز، وعلى أن عقد النكاح لا يفسده الشروط التي لا يوجبها العقد. ويمكن أن يقال: إنه شرع من قبلنا فلا يلزمنا. وجوّز في الكشاف أن يكون استأجره لرعية ثماني سنين بمبلغ معلوم ووفاه إياه ثم أنكحه ابنته. وجعل قوله عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي عبارة عما جرى بينهما قالَ موسى ذلِكَ الذي شارطتني عليه قائم بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ و «ما» مؤكدة لإبهام أيّ زائدة في شيوعها فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي لا يعتدي عليّ في طلب الزيادة فإن قضيت الثماني فلا أطالب بالزيادة وإن قضيت العشر باختياري فلم أطالب بالزيادة أيضا. وقيل: أراد أيهما قضيت فلا أكون متعديا.
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تزوّج كبراهما
وقيل صغراهما ولا خلاف في أنه قضى أوفى الأجلين.
قال القاضي في قوله فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ دليل على أنه لم يزد على العشرة وفيه نظر لأنه لا يفهم من هذا التركيب إلا أن الإيناس حاصل على عقيب مجموع الأمرين، ولا يدل على أن ذلك حصل عقيب أحدهما وهو قضاء الأجل ويؤيده ما روي عن مجاهد أنه بعد العشر المشروط مكث عشر سنين أخر. قال أهل اللغة: الجذوة بحركات الجم العود الغليظ كانت في رأسه نار أو لم تكن، وشاطىء الوادي جانبه، و «من» الأولى والثانية كلتاهما لابتداء الغاية أي أتاه النداء من شاطىء الوادي من قبل الشجرة، فالثانية بدل من الأولى بدل الاشتمال لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ، ووصفت البقعة بالمباركة لأن فيها ابتداء الرسالة والتكليم. احتجت المعتزلة على مذهبهم أن الله تعالى يتكلم بكلام يخلقه في جسم بقوله مِنَ الشَّجَرَةِ وقال أهل السنة: مما وراء النهر إن الكلام القديم القائم بذات الله غير مسموع والمسموع من الشجرة وهو الصوت والحرف دال على كلام الله. وذهب الأشعري إلى أن الكلام الذي ليس بحرف ولا صوت يمكن أن يكون مسموعا كما أن الذات التي ليست بجسم ولا عرض يمكن أن تكون مرئية.
روي أن شعيبا كانت عنده عصيّ الأنبياء فقال لموسى بالليل: ادخل البيت فخذ عصا من تلك العصيّ فأخذ عصا هبط بها آدم من الجنة ولم تزل الأنبياء يتوارثونها حتى وقعت إلى شعيب فمسها وكان مكفوفا فشعر بها فقال: غيرها، فما وقع في يده إلا هي سبع مرات فعلم أن له شأنا.
وعن الكلبي: الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ومنها كانت عصاه، ولما أصبح قال له شعيب: إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك وإن كان الكلأ هناك أكثر لأن فيها تنينا أخشاه عليك وعلى الغنم. فأخذت الغنم ذات اليمين ولم يقدر على منعها فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله فنام فإذا بالتنين قد أقبل فحاربته العصا حتى قتلته وعادت إلى موسى دامية فارتاح لذلك. وحين رجع إلى شعيب مس الغنم فوجدها ملأى البطون غزيرة(5/340)
اللبن فأخبره موسى ففرح وعلم أن لموسى والعصا شأنا. قيل: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو فإن موسى ذهب ليقتبس النار فكلمه الملك الجبار وقد مر في النمل تفسير قوله فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ إلى قوله مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [الآية: 10] أما قوله وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فذكر جار الله له معنيين: أحدهما حقيقة وهو أنه لما قلب الله العصا حية فزع واضطرب فاتقاها بيده كما يفعل الخائف من الشيء فقيل له: إن اتقاءك بيدك فيه نقصان قدرك عند الأعداء فإن ألقيتها، فكما تنقلب حية فادخل يدك تحت عضدك مكان اتقائك بها ثم أخرجها بيضاء ليحصل الأمران: اجتناب النقص وإظهار معجزة أخرى. وثانيهما مجاز وهو أن يراد بضم الجناح التجلد وضبط النفس حتى لا يضطرب فيكون استعارة من فعل الطائر لأنه إذا خاف أرخى جناحيه وإلا ضمهما. ومعنى مِنَ الرَّهْبِ من أجل الخوف.
والفرق بين هذه العبارة وبين قوله اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أن الغرض هناك خروج اليد بيضاء وهاهنا الغرض إخفاء الخوف أو أراد بالجناح المضموم هاهنا اليد اليمنى وبالجناح المضموم إليه في قوله وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ اليد اليسرى، وقيل: إن الرهب هو الكم بلغة حمير وزيفه النقاد. من قرأ فَذانِكَ بالتخفيف فمثنى ذاك، ومن قرأ بالتشديد فمثنى ذلك وأصله ذان لك قلبت اللام نونا وأدغمت. وسميت الحجة برهانا لبياضها وإنارتها من قولهم «امرأة برهرهة» أي بيضاء، والعين واللام مكررتان. والدليل على زيادة النون قولهم «أبره الرجل» إذا جاء بالبرهان ونظيره «السلطان» من السليط الزيت، لإنارتها. وظاهر الكلام يقتضي أنه تعالى أمره بذلك قبل لقاء فرعون، والسر فيه أن يكون على بصيرة من أمره عند لقاء المعاند اللجوج. وزعم القاضي أنه في حال أداء الرسالة لأن المعجز إنما يظهر ليستدل المرسل إليه على الرسالة ولا يخفى ضعف هذا الكلام لأن الحكمة في الإظهار لا تنحصر في الاستدلال بل لعل هناك أنواعا أخر من الحكم والمقاصد قد ذكرنا واحدا منها. ومما يؤكد أن هذا الكلام قد جرى ولم يكن هناك أحد غير موسى قوله معتذرا رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً الآية. والردء اسم ما يعان به من ردأته أي أعنته فعل بمعنى مفعول به ويُصَدِّقُنِي بالرفع صفة وبالجزم جواب كما مر في قوله وَلِيًّا يَرِثُنِي [مريم: 6] والمراد بتصديق أخيه أن يذب ويجادل عنه لا أن يقول: صدقت فإن هذا القدر لا يفتقر إلى البيان والفصاحة لأن سحبان وباقلا يستويان فيه. ويجوز أن يكون الضمير في يُصَدِّقُنِي لفرعون. وجوّز جار الله أن يكون من الإسناد المجازي بناء على أن يصدق مسند إلى هارون وهو ببيانه وبلاغته سبب تصديق فرعون يؤيده قوله إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قال الجبائي:
إنما سأل موسى أن يرسل هارون بأمر الله تعالى ولم يكن ليسأل ما لا يأمن أن يجاب أو لا يكون حكمة. ولقائل أن يقول: لعله سأله مشروطا على معنى إن اقتضت الحكمة ذلك كما(5/341)
يقول الداعي في دعائه. وقال السدي: علم أن الاثنين أقوى من الواحد فلهذا سأل اعترض القاضي بأن هذا من حيث العادة وأما من حيث الدلالة فلا فرق بين معجزة ومعجزتين، لأن المبعوث إليه في أيهما نظر علم وإن لم ينظر فالحال واحدة. هذا إذا كانت طريقة الدلالة بين المعجزتين واحدة، فأما إذا اختلف وأمكن في إحداهما من إزالة الشبهة ما لا يمكن في الأخرى فغير ممتنع أن يقال: إنهما بمجموعهما أقوى من واحدة كما قال السدي، لكن ذلك لا يتأتى في موسى وهارون لأن معجزتهما كانت واحدة.
قال جار الله معنى سَنَشُدُّ عَضُدَكَ سنقوّيك بأخيك إما لأن اليد تشتد بشدة العضد وجملة البدن يقوى على مزاولة الأمور بشدة اليد، وإما لأن الرجل واشتداده بالأخ شبه باليد في اشتدادها باشتداد العضد. والسلطان التسلط والغلبة والحجة الواضحة. وقوله بِآياتِنا إما متعلق بمقدر أي اذهبا بآياتنا، أو متعلق بظاهر وهو نَجْعَلُ أو فَلا يَصِلُونَ. ويجوز أن يكون بيانا ل الْغالِبُونَ كأنه قيل: بماذا نغلب؟ فقيل: بآياتنا. وامتنع أن تكون صلة ل الْغالِبُونَ لتقدمه، ويجوز أن تكون قسما جوابه فَلا يَصِلُونَ مقدما عليه مثله. ويجوز أن يكون من لغو القسم الذي لا جواب له كقولك «زيد وأبيك منطلق» والمراد الغلبة بالحجة والبرهان في الحال أو بالدولة والمملكة في المآل، وصلب السحرة بعد تسليم ثبوته لا يقدح في قوله وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ لأن الدولة الباقية أعلى شأنا وسِحْرٌ مُفْتَرىً أي سحر تعمله أنت ثم تنسبه إلى الله فهو كذب من هذا الوجه، أو سحر ظاهر افتراؤه لا سحر يخفى افتراؤه، أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر فإن كل سحر ففاعله يوهم خلافه فهو المفترى. ومعنى ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ قد مر في سورة المؤمنين. قال جار الله فِي آبائِنَا حال عن هذا أي كائنا في زمانهم وأيامهم قلت: لا مانع من أن يكون الظرف لغوا ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك وقد سمعوا بنحوه، أو يريدوا أنهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته، أو أرادوا أن الكهان لم يخبروا بمجيء ما جاء به موسى. وكل هذه المقالات لا تصدر إلا عن المحجوج اللجوج الذي قصارى أمره التمسك بحبل التقليد.
من قرأ قالَ مُوسى بغير واو فعلى طريقة السؤال والجواب. ووجه قراءة الأكثرين أنهم قالوا ذلك وَقالَ مُوسى هذا ليوازن العاقل الناظر بين القولين فيتبين له الغث من السمين.
وقوله رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ إفحام للخصم المعاند إذ لا سبيل إلى دفاعه بالحجة أي يعلم أني محق وأنهم مبطلون. وقوله وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ يعني العاقبة الحميدة كأن المذمومة غير معتدّ بها ضم طريقة الوعيد إلى الإفحام المذكور. وقيل: معناه ربي أعلم بالأنبياء السالفة فهو جواب لقولهم ما سَمِعْنا بِهذا وقال جار الله: رَبِّي أَعْلَمُ(5/342)
بحال من أهله للفلاح حيث جعله نبيا ووعده حسنى العقبى، ولو كان كاذبا كما يزعمون لم يؤهله لذلك لأنه لا يفلح عنده الظالمون، واعلم أن فرعون كان من عادته عند ظهور حجة لموسى أن يتعلق في دفع تلك الحجة بشبهة يروّجها على أغمار قومه فذكر هاهنا أمرين:
الأوّل قوله ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فكأنه استدل بعدم الدليل على عدم المدلول وهو خطأ من جهة أن الدليل على المدلول وهو وجود الصانع أكثر من أن يحصى، ومن جهة أن عدم الدليل لا يستلزم عدم المدلول. وأما قوله غَيْرِي فقد تكلف له بعضهم أنه لم يرد به أنه خالق السموات والأرض وما فيهما فإن امتناع ذلك بديهي، وإنما أراد به نفي الصانع والاقتصار على الطبائع وأنه لا تكليف على الناس إلا أن يطيعوا ملكهم وينقادوا لأمره.
الثاني قوله فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ وقد تكلفوا له هاهنا أيضا فقيل: إنه يبعد من العاقل أن يروم صعود السماء بآلة، ولكنه أراد أنه لا سبيل إلى إثبات الصانع من حيث العقل كما مر، ولا من حيث الحس فإن الإحساس به يتوقف على الصعود وهو متعذر، وإلا فابن يا هامان مثل هذا البناء وإنما قال ذلك تهكما. فبمجموع هذه الأشياء قرر أنه لا دليل على الصانع، ثم رتب النتيجة عليه وهو قوله وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ يحتمل أن يريد لأعلمه من الكاذبين. والأكثرون من المفسرين على أنه بنى مثل هذا البناء جهلا منه أو تلبيسا على ملئه حيث صادفهم أغبى الناس وأخلاهم من الفطن.
يروى أن هامان جمع العمال حتّى اجتمع منهم خمسون ألف بناء سوى الأجراء، وأمر بطبخ الآجر والجص ونجر الخشب وضرب المسامير فشيدوه حتى بلغ مبلغا لا يقدر الباني أن يقوم عليه، فبعث الله جبريل عند غروب الشمس فضربه بجناحه فقطعه ثلاث قطع، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، ووقعت قطعة في البحر، وقطعة في المغرب ولم يبق أحد من عماله إلا قد هلك.
وروي في القصة أن فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشابة نحو السماء فأراد الله أن يفتنهم فردّت إليه وهي ملطوخة بالدم فقال: قد قتلت إله موسى، فعند ذلك بعث الله جبرائيل لهدمه.
قال أهل البيان: إن صح حديث ردّ النشابة ملطوخة فقد تهكم به بالفعل كما ثبت التهكم بالقول في غير موضع. وإنما قال فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ ولم يقل: اطبخ لي الآجر. لأن هذه العبارة أحسن، ولأن فيه تعليم الصنعة، وقد كان أوّل من عمل الآجر فرعون. عن عمر أنه حين سافر إلى الشام ورأى القصور المشيدة بالآجر قال: ما علمت أن أحدا بنى الآجر غير فرعون. والطلوع والاطلاع الصعود يقال: طلع الجبل واطلع.
وفي قوله سبحانه وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ يعني أرض مصر بِغَيْرِ الْحَقِّ إشارة إلى أن الاستكبار بالحق إنما هو لله تعالى كما
جاء في الحديث القدسي «الكبرياء(5/343)
ردائي والعظمة إزاري»
فهو كقوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة: 61] وفي قوله وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ دليل على أنهم كانوا منكري البعث كالطبائعيين. وفي قوله فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ دلالة على علو شأنه تعالى وعظمة سلطانه وإشارة إلى استحقار فرعون وجنوده وعدده وإن كانوا أكثر من رمال الدهناء كأنه شبههم بحصيات أخذهن أحد في كفه فطرحهن في البحر. استدلت الأشاعرة بقوله وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أن خالق الشر وجاعل الكفر هو الله سبحانه. وقالت المعتزلة: معنى الجعل التسمية والحكم بذلك كما يقال: جعله بخيلا وفاسقا إذا حكم بالبخل والفسق عليه وسماه بالبخيل والفاسق، أو أراد خذلناهم ومنعناهم الألطاف حتى كانوا أئمة الكفر داعين إلى النار أي إلى موجباتها من الكفر والمعاصي. وقال أبو مسلم: معنى الإمامة التقدم وذلك أنه تعالى عجل لهم العذاب فصاروا متقدمين لمن وراءهم من الكفرة إلى النار. وقال بعضهم:
أراد بالإمامة أنهم بلغوا في ذلك الباب أقصى النهايات حتى استحقوا أن يقتدى بهم. ثم بين بقوله وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ أن عقاب الآخرة سينزل بهم على وجه لا يمكن التخلص منه. وقال في الكشاف: أراد وخذلناهم في الدنيا ويوم القيامة هم مخذولون كما قال وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً أي طردا وإبعادا عن الرحمة وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ أي من المطرودين المبعدين. وقال الليث: قبحه الله قبحا بالفتح وقبحا بالضم أي نحاه عن كل خير. وقال ابن عباس: من المشهورين بسواد الوجه وزرقة العين. وعن بعضهم أنه تعالى يقبح صورهم ويقبح عليهم عملهم فيجمع لهم بين الفضيحتين.
التأويل:
وحين توجه تلقاء مدين عالم الروحانية وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً من أوصاف الروح يَسْقُونَ مواشي أخلاقهم من ماء فيض الإلهي. وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ السر والخفي ابنتا شعيب الروح يمنعان من استقاء ماء الفيض الإلهي. قال الشيخ الإمام الرباني نجم الدين المعروف بداية: وذلك لأن لمعان أنوار الفيض يرد على الروح في البداية بالتدريج فينشأ منه الخفي، وهو لطيفة ربانية مودعة في الروح بالقوة فلا يحصل بالفعل إلا بعد غلبة الواردات الربانية ليكون واسطة بين الحضرة والروح في قبول تجليات صفات الربوبية والفيوض الإلهية، فيكون في هذه المدة بمعزل عن الاستقاء. وكذا السر وهو لطيفة روحانية متوسطة بين القلب والروح قابلة لفيض الروح، مؤدية إلى القلب وهو أيضا بمعزل عن استقاء ماء فيض الروح عند اشتغال القلب بمعالجات النفس وإصلاح القالب إلى حين توجه موسى القلب إلى مدين عالم الروحانية وذلك قولهما لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وهم صفات الروح ويصرفوا مواشيهم وهي الصفات الإنسانية عن ماء الفيض الإلهي، فإذا صدروا استقينا(5/344)
مواشينا من الأوصاف والأخلاق من أفضلة مواشيهم في حوض القوى وَأَبُونا وهو شعيب الروح لا يقدر على سقيه من الأوصاف الإنسانية إلا بالأجر والوسائط، وإنا لا نطيق أن نسقي لضعف حالنا، فسقي موسى القلب مواشيهما بقوّة استفادها من الجسد وقوّة استفادها من الروح لأنه متوسط بين العالمين ولهذا سمي قلبا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ إلى العناية فطلب الفيض الإلهي بلا واسطة وهكذا ينبغي أن يكون السالك لا يقنع بما وجد من المعارف أبدا.
فَجاءَتْهُ إِحْداهُما فيه أن القلب يحتاج في الوصول إلى حضرة شعيب الروح أن يستمد من الخفي أو السر. لا تَخَفْ نجوث فيه أن القلب إذا وصل إلى مقام الروح نجا من ظلمات النفس وصفاتها إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ من النفس والجسد الْقَوِيُّ الْأَمِينُ لأن القلب استفاد القوّة من الجسد والأمانة من الروح ثَمانِيَ حِجَجٍ فيه أن الروح في تبليغ القلب إلى مقام الخفي يحتاج إلى تسييره في مقامات صفاته الثمانية المخصوصة به في خلافة الحق وهي: الحياة والإرادة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام والبقاء. وتمام ذلك إلى العشرة راجع إلى خصوصيته وهما المحبة والأنس مع الله أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ في التخلق بأخلاقك اليمانية وفي المحبة والأنس مع الله فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ أي ليس لك أن تمنعني العبور عن المحبة لأنك من خصوصيتك بالخلافة مجبول على تلك الصفات الثمانية. وأما المحبة والأنس مع الله فصفتان مخصوصتان بالحضرة. ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ولهذا كل إنسان من المؤمن والكافر فإنه مجبول على تلك الأوصاف وليس من زمرة يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] إلا مؤمن موحد. فلما اتصف موسى القلب بالأوصاف الثمانية وغلبت عليه محبة الله واستأنس به وصار بجميع صفاته متوجها إلى حضرة القدس آنَسَ من طور الحضرة نار نور الألوهية. وفي قوله لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إشارة إلى أن السالك لا بد له من تجريد الظاهر عن الأهل والمال وتفريد الباطن عن تعلقات الكونين. نور يبدو وإذا بدا استمكن شمس طلعت ومن رآها آمن. وفي قوله لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ إشارة إلى أن الأوصاف الإنسانية جامدة من برودة الطبيعة لا تتسخن إلا بجذوة نار المحبة بل بنار الجذبة الإلهية مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ وهو السر في بقعة البدن من شجرة وجود الإنسان مِنَ الرَّهْبِ أي رهبة من فوات وصال الحضرة وَأَخِي هارُونُ هو العقل فمن خصوصيته تصديق الناطق بالحق قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً لأن النفس خلقت من أسفل عالم الملكوت ومنكسة، والقلب خلق وسط عالم الملكوت متوجها إلى الحضرة فلهذا ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] وما صدقت النفس ما رأت فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ أي في طبائع الكواكب فإنها آباء النفس وأمهاتها العناصر والطبائع منكوسة إلى عالم السفل لا يعرفون مقام الوحدة فلا يعرفون بالتوحيد. فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ الشيطان عَلَى الطِّينِ البشرية(5/345)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
بنفخ الوساوس والغرور فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً من المقدمات الخيالية والوهمية فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ أغرقوا في ماء شهوات الدنيا ويم هممها فأدخلوا نار الحسرة والندامة.
[سورة القصص (28) : الآيات 43 الى 70]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52)
وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62)
قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)(5/346)
القراآت:
سِحْرانِ عاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون ساحران تظاهرا بالتخفيف اتفاقا تجبى إليه بتاء التأنيث: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب. الباقون على التذكير يعقلون بياء الغيبة، شجاع واليزيدي الباقون بتاء الخطاب إلا أبا عمرو فإنه مخير ثُمَّ هُوَ بسكون الهاء، علي والحواني عن قالون تَبَرَّأْنا مثل أَنْشَأْنا.
الوقوف:
يَتَذَكَّرُونَ هـ الشَّاهِدِينَ هـ لا للاستدراك الْعُمُرُ ج لاختلاف الجملتين مع العطف آياتِنا ج لما مر مُرْسِلِينَ هـ يَتَذَكَّرُونَ هـ الْمُؤْمِنِينَ هـ ما أُوتِيَ مُوسى ط مِنْ قَبْلُ ج للفصل بين الخبر والطلب مع اتحاد القائل تَظاهَرا ج للتعجب من عنادهم كافِرُونَ هـ صادِقِينَ هـ أَهْواءَهُمْ ط مِنَ اللَّهِ ط الظَّالِمِينَ هـ يَتَذَكَّرُونَ هـ لأن الَّذِينَ مبتدأ يُؤْمِنُونَ هـ مُسْلِمِينَ هـ يُنْفِقُونَ هـ أَعْمالُكُمْ ط لابتداء الكلام مع اتحاد المقول عَلَيْكُمْ ط لذلك الْجاهِلِينَ هـ مَنْ يَشاءُ ط لعطف الجملتين المتفقتين بِالْمُهْتَدِينَ هـ أَرْضِنا ط لا يَعْلَمُونَ هـ مَعِيشَتَها ج للفصل بين الاستفهام والإخبار مع فاء التعقيب قَلِيلًا ط الْوارِثِينَ هـ آياتِنا ج للعدول مع اتفاق الجملتين ظالِمُونَ هـ وَزِينَتُها ج فصلا بين المعنيين المتضادّين وَأَبْقى ط تَعْقِلُونَ هـ الْمُحْضَرِينَ هـ تَزْعُمُونَ هـ أَغْوَيْنا ج غَوَيْنا ج لعدم العاطف مع اتحاد القائل إِلَيْكَ ج لما قلنا مع زيادة النفي المقتضى للفصل يَعْبُدُونَ هـ الْعَذابَ ج لجواز تعلق «لو» بمحذوف أي لو اهتدوا لما لقوا ما لقوا، ويجوز تعلقها ب يَهْتَدُونَ والوقف على لَهُمْ أي لو كانوا يهتدون لرأوا العذاب بقلوبهم يَهْتَدُونَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ لا يَتَساءَلُونَ هـ الْمُفْلِحِينَ هـ وَيَخْتارُ ز وقد يوصل على معنى ويختار الذي كان لهم فيه الخيرة وفيه بعد الْخِيَرَةُ هـ يُشْرِكُونَ هـ يُعْلِنُونَ هـ إِلَّا هُوَ ط وَالْآخِرَةِ ز لعطف الجمل تُرْجَعُونَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه بعد تتميم قصة موسى أراد أن يبين إعجاز نبينا صلى الله عليه وسلم فذكر أوّلا أنه أعطى موسى الكتاب بعد إهلاك فرعون وقومه حال كون الكتاب أنوارا للقلوب وإرشادا(5/347)
لأهل الضلال وسببا لنيل الرحمة إرادة أن يتذكروا، ويجوز أن يعود ترجي التذكر إلى موسى. ثم أجمل عظائم أحوال موسى وبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك فقال وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ أي بجانب المكان الواقع في شق الغرب وهو ناحية الشام التي فيها قضى إلى موسى أمر الوحي والاستنباء. وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ على ذلك فقد يكون الشخص حاضرا ولا يكون شاهدا ولا مشاهدا. قال ابن عباس: التقدير لم تحضر ذلك الموضع ولو حضرت فما شاهدت تلك الوقائع فإنه يجوز أن يكون هناك ولا يشهد ولا يرى. ثم قال وَلكِنَّا أَنْشَأْنا بعد عهد موسى إلى عهدك قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فاندرست العلوم والشرائع ووجب إرسالك إلى آخرهم قرنا وهو القرن الذي أنت فيه، فأرسلناك وعرّفناك أحوال الأنبياء. وحاصل الآية أنه ذكر سبب الوحي الذي هو إطالة الفترة ودل به على المسبب والغرض بيان إعجازه كأنه قال: إن في إخبارك عن هذه الأشياء من غير حضور ولا مشاهدة ولا تعلم من أهله، دلالة ظاهرة على نبوّتك. ثم فصل ما أجمل فذكر أوّل أمر موسى وبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن هناك وهو قوله وَما كُنْتَ ثاوِياً مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ وهم شعيب والمؤمنون به تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا قال مقاتل: أي لم تشهد أهل مدين وأنت تقرأ على أهل مكة خبرهم، ولكنا أرسلناك إلى أهل مكة وأنزلنا عليك هذه الأخبار ولولا ذلك ما علمتها. وقال الضحاك: يقول يا محمد: إنك لم تكن رسولا إلى أهل مدين تتلو عليهم الكتاب وإنما الرسول غيرك وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ في كل زمان رسولا فأرسلنا إلى أهل مدين شعيبا وأرسلناك إلى العرب لتكون خاتم الأنبياء. ثم ذكر أوسط أمر موسى وأشرف أحواله وبين أنه لم يكن هناك فقال وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا الأظهر أنه يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه. وعن بعض المفسرين أنه أراد قوله وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها إلى قوله الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 156] وقال ابن عباس: إذ نادينا أمتك في أصلاب آبائهم يا أمة محمد أجيبكم قبل أن تدعوني وأعطيكم قبل أن تسألوني وأغفر لكم قبل أن تستغفروني. قال: وإنما قال الله تعالى ذلك حين اختار موسى سبعين رجلا لميقات ربه.
وقال وهب: لما ذكر الله لموسى فضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: يا رب أرنيهم. قال: إنك لن تدركهم وإن شئت أسمعتك أصواتهم. قال: بلى يا رب. فقال: يا أمة محمد فأجابوه من أصلاب آبائهم فقال سبحانه: أجبتكم قبل أن تدعوني الحديث كما ذكر ابن عباس.
وروى سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا قال: «كتب الله كتابا قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ثم وضعه على العرش ثم نادى يا أمة محمد: إن رحمتي سبقت غضبي، أعطيتكم قبل أن تسألوني، وغفرت لكم قبل أن تستغفروني، من(5/348)
لقيني منكم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله أدخله الجنة» «1» .
قوله وَلكِنْ رَحْمَةً أي ولكنا علمناك رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ثم فسر الرحمة بقوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ أي في زمان الفترة بينك وبين عيسى وهو خمسمائة وخمسون سنة. وقيل:
كانت حجة الأنبياء قائمة عليهم ولكنه ما بعث إليهم من يجدد تلك الحجة عليهم، فبعثه الله تعالى تقريرا لتلك التكاليف وإزالة لتلك الفترة. قوله وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ هي امتناعية وجوابها محذوف. والفاء في قوله فَيَقُولُوا للعطف على أن تصيبهم. وقوله لَوْلا أَرْسَلْتَ هي تحضيضية. والفاء في فَنَتَّبِعَ جواب «لولا» ، وذلك أن التحضيض في حكم الأمر لأن كلا منهما بعث على الفعل. والمعنى: ولولا أنهم قائلون إذا عوقبوا على ما قدّموا من الشرك والمعاصي هلا أرسلت إلينا رسولا محتجين علينا بذلك لما أرسلنا إليهم. والحاصل أن إرسال الرسول لأجل إزالة هذا العذر. قال أصحاب البيان: القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل، ولكن العقوبة لما كانت هي السبب للقول أدخلت عليها «لولا» وجيء بالقول معطوفا عليها بفاء السببية تنبيها على أنهم لو لم يعاقبوا على كفرهم ولم يعاينوا العذاب لم يقولوا لولا أرسلت إلينا رسولا، فالسبب في قولهم هذا هو العقاب لا غير لا التأسف على ما فاتهم من الإيمان، وفي هذا بيان استحكام كفرهم وتصميمهم. قال الجبائي: في الآية دلالة على وجوب اللطف وإلا لم يكن لهم أن يقولوا لولا أرسلت. وقال الكعبي: فيه دليل على أنه تعالى يقبل حجة العباد فلا يكون فعل العبد بخلق الله وإلا لكان للكافر أعظم حجة على الله تعالى. وقال القاضي: فيه إبطال الجبر لأن اتباع الآيات لو كان موقوفا على خلق الله فأيّ فائدة في قولهم هذا. ومعارضة الأشاعرة بالعلم والداعي معلومة.
ثم بين أنهم قبل البعثة يتعلقون بشبهة وبعد البعثة يتعلقون بأخرى فلا مقصود لهم إلا العناد فقال فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ أي الرسول المصدّق بالكتاب المعجز قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من الكتاب المنزل جملة ومن سائر المعجزات كقلب العصا حية واليد البيضاء وفلق البحر، فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله أَوَلَمْ يَكْفُرُوا وفيه وجوه:
أحدها أن اليهود أمروا قريشا أن يسألوا محمدا مثل ما أوتي موسى فقال تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا هؤلاء اليهود الذين اقترحوا هذا السؤال بموسى مع تلك الآيات الباهرة. والذين أوردوا هذا الاقتراح يهود مكة، والذين كفروا بموسى من قبل أو بما أوتي موسى من قبل هم الذين كانوا
__________
(1)
رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 381، 433) . إلى قوله «سبقت غضبي» .
[.....](5/349)
في زمن موسى إلا أنه تعالى جعلهم كالشيء الواحد لتجانسهم في الكفر والعنت. وقال الكلبي:
إن مشركي مكة بعثوا رهطا إلى يهود المدينة يسألهم عن محمد وشأنه فقالوا: إنا نجده في التوراة بنعته وصفته، فلما رجع الرهط إليهم فأخبروهم بقول اليهود قالوا: إنه كان ساحرا كما أن محمدا ساحر فقال الله تعالى في حقهم أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ. وقال الحسن: قد كان للعرب أصل في أيام موسى فالتقدير: أولم يكفر آباؤهم بأن قالوا في موسى وهارون ساحران تظاهرا أي تعاونا. وقال قتادة: أولم يكفر اليهود في عصر محمد بما أوتي موسى من قبل من البشارة بعيسى ومحمد عليه السلام ف قالوا ساحران والأظهر أن كفار مكة وقريش كانوا منكرين لجميع النبوات. ثم إنهم طلبوا من محمد معجزات موسى فقال الله تعالى: أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى بل بما أوتي جميع الأنبياء من قبل؟ فعلم أنه لا غرض لهم في هذا الاقتراح إلا التعنت. من قرأ ساحران بالألف فظاهر، وأما من قرأ سِحْرانِ فإما بمعنى ذوي سحر أو على جعلهما سحرين مبالغة في وصفهما بالسحر، أو على إرادة نوعين من السحر، أو على أن المراد هو القرآن والتوراة. وضعفه أبو عبيدة بأن المظاهرة بالناس وأفعالهم أشبه منها بالكتب. وأجيب بأن الكتابين لما كان كل واحد منهما يقوّي الآخر لم يبعد أن يقال على سبيل المجاز تعاونا كما يقال تظاهرت الأخبار. وفي تكرار قالُوا وجهان: أحدهما قالوا ساحران مرة وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ من موسى ومحمد أو بكل من الكتابين كافِرُونَ مرة. وثانيهما أن يكون قوله وَقالُوا معطوفا على أَوَلَمْ يَكْفُرُوا ثم عجزهم بقوله قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أي مما أنزل على موسى ومما أنزل عليّ. قال ابن عباس فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ معناه فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج. وقال مقاتل: فإن لم يمكنهم أن يأتوا بكتاب أفضل منهما. وهذا أشبه بالآية، وهذا الشرط شرط يدل بالأمر المتحقق لصحته وإلا فالظاهر أن لو قيل فإذا لم يستجيبوا. ويجوز أن يقصد بحرف الشك التهكم. وإنما لم يقل «فإن لم يأتوا» لأن قوله فَأْتُوا أمر والأمر دعاء إلى الفعل فناسب الاستجابة والتقدير: فإن لم يستجيبوا دعاءك إلى الإتيان بالكتاب الأهدى فاعلم أنهم صاروا محجوجين ولم يبق لهم شيء إلا اتباع الهوى.
وفي قوله وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ حال كونه بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إشارة إلى فساد طريقة التقليد. استدلت الأشاعرة بقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي الذين وضعوا الهوى مكان الهدى على أن هداية الله تعالى خاصة بالمؤمن. وقالت المعتزلة: الألطاف منها ما يحسن فعلها مطلقا ومنها ما لا يحسن إلا بعد الإيمان وإليه الإشارة بقوله وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17] والآية محمولة على القسم الثاني دون الأول وإلا كان عدم الهداية عذرا لهم. ثم أجاب عن قولهم هلا أوتي محمد كتابه دفعة واحدة بقوله وَلَقَدْ(5/350)
وَصَّلْنا
أي أنزلنا عليهم القرآن إنزالا متصلا بعضه في أثر بعض ليكون ذلك أقرب إلى التذكر والتذكير والتنبيه فإنهم يطلعون في كل يوم على فائدة زائدة وحكمة جديدة. ويجوز أن يراد بتوصيل القول جعل بيان على إثر بيان والمعنى أن القرآن أتاهم متتابعا متواصلا ووعدا ووعيدا وقصصا وعبرا إلى غير ذلك من معاني القرآن إرادة أن يتعظوا فيفلحوا.
ويحتمل أن يكون المراد: بينا الدلالة على كون هذا القرآن معجزا مرة بعد أخرى.
وحين أقام الدلالة على النبوة أكد ذلك بقوله الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل القرآن هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ قال قتادة: إنها نزلت في أناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة حقة يتمسكون بها، فلما بعث الله محمدا آمنوا به من جملتهم سلمان وعبد الله بن سلام. وقال مقاتل: نزلت في أربعين من مسلمي أهل الإنجيل اثنان وثلاثون جاؤا مع جعفر من أرض الحبشة في السفينة، وثمانية جاؤا من الشام. وعن رفاعة بن قرظة: نزلت في عشرة أنا أحدهم. والتحقيق أن كل من حصل في حقه هذه الصفة يكون داخلا في الآية لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم حكى عنهم ما يدل على تأكد إيمانهم وقوله إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا تعليل للإيمان به لأن كونه حقا من الله يوجب الإيمان به. وقوله إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ بيان لقولهم آمنا به لأن إيمانهم احتمل أن يكون قريب العهد وأن يكون بعيده فأخبروا أن إيمانهم به متقادم، وذلك لما وجدوا في كتب الأنبياء من البشارة بمقدمه فأذعنوا له وتلقوه بالقبول كما هو شأن كل مسلم، ومعنى مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل وجوده ونزوله. وفي قوله يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أقوال بصبرهم على الإيمان بالتوراة والإيمان بالقرآن أو بصبرهم على أذى المشركين وعلى أذى أهل الكتاب، أو بصبرهم على الإيمان بالقرآن قبل نزوله وعلى الإيمان به بعد نزوله وهذا أقرب، لأنه لما بين أنهم آمنوا بعد البعثة وبين أنهم كانوا مؤمنين به قبل البعث ثم أثبت لهم الأجر مرتين وجب أن ينصرف إلى ذلك. وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ وهي الطاعة السَّيِّئَةَ وهي المعاصي المتقدمة أي يدفعون بالحلم الأذى. يروى أنهم لما أسلموا لعنهم أبو جهل فسكتوا عنه. وقال السدي: عاب اليهود عبد الله بن سلام وشتموه وهو يقول: سلام عليكم. مدحهم بالإيمان ثم بالطاعات البدنية ومكارم الأخلاق، ثم بالطاعات المالية وهو الإنفاق مما رزقهم، ثم بالتحمل والتواضع. وإنما يجب أن يقوله الحليم في معارضة السفيه وهو قوله وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ وهو كل ما ينبغي أن يلقى ويترك أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لأهل ذلك اللغو لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ سلام توديع ومتاركة لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نطلب مخالطتهم وعشرتهم ولا نجازيهم بالباطل على باطلهم وهذا خلق مندوب إليه ولو بعد الأمر بالقتال فلا(5/351)
نسخ. ثم ذكر أن الهداية إنما تتعلق بمشيئة الله.
قال الزجاج: أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب وذلك أنه قال عند موته: يا معشر بني هاشم أطيعوا محمدا وصدّقوه تفلحوا وترشدوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عم تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم وتدعها لنفسك؟ قال:
فما تريد يا ابن أخي؟ قال: أريد منك كلمة واحدة أن تقول لا إله إلا الله أشهد لك بها عند الله. قال: قد علمت أنك صادق ولكني أكره أن يقال جبن عند الموت.
وقد مر مثل هذا النقل في سورة الأنعام في تفسير قوله تعالى وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ [الأنعام: 26] .
واعلم أنه لا منافاة بين هذه الآية وبين قوله وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:
52] لأن الذي نفاه هداية التوفيق وشرح الصدر والتي أثبتها هداية الدعوة والبيان، وبحث الأشاعرة والمعتزلة هاهنا معلوم. وحيث بين أن وضوح الدلائل لا يكفي ما لم ينضم إليه هداية الله سبحانه حكى عنهم شبهة أخرى متعلقة بالدنيا وذلك أنهم قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا
يروى أن الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا لنعلم أن الذي تقوله حق ولكن يمنعنا من ذلك أن تسلبنا العرب بسرعة أي يجتمعون على محاربتنا ويخرجوننا، فأجاب الله سبحانه عن شبهتهم بقوله أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً
يروى أن العرب كانوا يشتغلون بالنهب والغارة خارج الحرم وما كانوا يتعرضون البتة لسكان الحرم وقد زاد الله حرمته بقوله وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: 97] وبين مزيته بقوله يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ قالوا: الكل هاهنا بمعنى الأكثر. قلت: يحتمل أن يكون على أصله. وانتصب رِزْقاً على أنه مصدر لأن يُجْبى بمعنى يرزق، أو على أنه مفعول لأجله. وإن جعلته بمعنى مرزوق كان حالا من الثمرات لتخصصها بالإضافة. وحاصل الجواب أنه لما جعل الحرم آمنا وأكثر فيه الرزق حال كونهم معرضين عن عبادة الله تعالى مقبلين على عبادة الأوثان، فبقاء هذه الحالة مع الإيمان أولى. ولا يخفى أن التخطف على تقدير وقوعه لا يصلح عذرا لعدم الإيمان، فإن درجة الشهادة أعلى وأجل، ومضرة التخطف أهون من العقاب الدائم إلا أنه تعالى احتج عليهم بما هو معلوم من عادة العرب وهو أنهم كانوا لا يتعرضون لقطان الحرم والأمر البين للحس أولى بأن يفحم به الخصم فلذلك قدمه الله تعالى. وفي الآية دلالة على صحة المحاجة. لإزالة شبهة المبطلين. قالت الأشاعرة: الأرزاق إنما تصل إليهم على أيدي الناس وقد أضاف الرزق إلى نفسه فدل ذلك على أن أفعال العباد مستندة إلى الله. ومن تأمل في الآية علم أن العبد يجب أن لا يخاف ولا يرجو إلا من الله.
ثم أجاب عن شبهتهم بحديث آخر مخلوط بالوعيد. وانتصب مَعِيشَتَها بنزع(5/352)
الخافض كقوله وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] أو على أنه ظرف مكان مجازا كأن النظر استقر في المعيشة، أو على حذف المضاف أي بطرت أيام معيشتها كخفوق النجم، أو بتضمين بطرت معنى كفرت وعطلت، والبطر سوء احتمال الغنى وهو أن لا يحفظ حق الله فيه. ومعنى إِلَّا قَلِيلًا قال ابن عباس: أي لم يسكنها إلا المسافر ومارّ الطريق يوما أو ساعة. ويجوز أن يكون شؤم معاصيهم بقي في ديارهم فكل من سكنها من أعقابهم لم يسكن إلا قليلا. وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ كقوله وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 180] لأنه الباقي بعد فناء خلقه. ثم كان لسائل أن يقول: ما بال الكفرة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم لم يهلكوا مع تماديهم في الغي؟ فقال وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي في القرية التي هي قصبتها وأصلها وغيرها من توابعها وأعمالها رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا بوحي وتبليغ وذلك لتأكيد الحجة وقطع المعذرة. قال في الكشاف: يحتمل أن يراد وما كان في حكم الله وسابق قضائه أن يهلك القرى في الأرض حتى يبعث في أم القرى- يعني مكة- رسولا وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء. وكان لقائل أن يقول: ما بال الكفار بعد مبعث محمد لم يهلكهم الله مع تكذيبهم وجحودهم فقال وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ
بالشرك وأهل مكة ليسوا كذلك فمنهم من قد آمن ومنهم من سيؤمن ومنهم من يخرج من نسله من يؤمن. ثم أجاب عن شبهتهم بجواب ثالث وذلك أن حاصل شبهتهم أن قالوا: تركنا الدين لأجل الدنيا. فبين تعالى بقوله وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ الآية. أن ذلك خطأ عظيم لأن ما عند الله خير وأبقى لأنه أكثر وأدوم. ونبه على جهلهم بقوله أَفَلا تَعْقِلُونَ ويرحم الله الشافعي حيث قال: إذا أوصى بثلث ماله لأعقل الناس صرف ذلك الثلث إلى المشتغلين بطاعة الله تعالى، لأن أعقل الناس من أعطى القليل وأخذ الكثير. نظير الآية
قوله صلى الله عليه وسلم «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت» «1» .
قال البرهان: إنما السورة «وما أوتيتم» الواو وفي الشورى فَما أُوتِيتُمْ [الآية: 36] بالفاء لأنه لم يتعلق بما قبله هاهنا كثير تعلق، وقد تعلق في الشورى بما قبلها أشد تعلق، ولأنه عقب ما لهم من المخافة ما أوتوه من الأمنة والفاء حرف التعقيب والواو والمجرد العطف. وإنما زاد في هذه السورة وَزِينَتُها.
لأن المراد هاهنا جميع أعراض الدنيا من الضرورات ومن الزين، فالمتاع ما لا غنى عنه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن والمنكوح، والزينة وغيرها كالثياب الفاخرة والمراكب الرائعة والدور المشيدة. وأما في «الشورى» فلم يقصد الاستيعاب بل ما هو
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 25. ابن ماجة في كتاب الزهد باب 31. أحمد في مسنده (4/ 124) .(5/353)
مطلوبهم في تلك الحالة من النجاة والأمن في الحياة فلم يحتج إلى ذكر الزينة. ثم زاد البيان المذكور تأكيدا بقوله أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ لأن وعد الله يترتب عليه الإنجاز البتة وصاحبه يلقى الموعود لا محالة. وتقدير الكلام: أبعد التفاوت المذكور بين ما عند الله وبين متاع الحياة الدنيا يسوّي بين أهل الجنة وبين أبناء الدنيا؟ ومعنى «ثم» في قوله ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تراخي حال الإحضار عن حال التمتع، لا تراخي وقته عن وقته. وتخصيص لفظ الْمُحْضَرِينَ بالذين أحضروا للعذاب أمر عرف من القرآن. قال الله تعالى لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [الصافات: 57] فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ [الصافات: 127] ويمكن أن يقال: إن في اللفظ إشعارا به لأن الإحضار مشعر بالتكليف والإلزام وذلك لا يليق بمجالس اللذة والأنس وإنما يليق بمواضع الإكراه والوحشة. قيل: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم وأبي جهل. وقيل:
في علي وحمزة وأبي جهل. وقيل: في عمار بن ياسر والوليد بن المغيرة. ثم ذكر من وصف القيامة قائلا وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أي فاذكر ذلك اليوم. ومعنى الاستفهام في أَيْنَ التوبيخ والتهكم. ومفعولا تَزْعُمُونَ محذوفان تقديره تزعمونهم شركائي. قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي وجب وثبت وهو مفهوم لأملأن جهنم وهم الشياطين ورؤساء الكفر.
وهؤُلاءِ مبتدأ والَّذِينَ أَغْوَيْنا صفته والعائد إلى الموصول محذوف والخبر أَغْوَيْناهُمْ والتقدير: هؤلاء الذين أغويناهم أغويناهم فغووا غيا مثل ما غوينا. قال أهل السنة: أرادوا كما أن فوقنا مغوين أغوونا بقسر وإلجاء فنحن أيضا أغويناهم بالوسوسة والتسويل وبكل ما أمكن حتى غووا. وقالت المعتزلة: يعنون أنا ما غوينا إلا باختيارنا فكذلك هم ما غووا إلا باختيارهم وإن إغواءنا ما ألجأهم إلى الغواية بل كانوا مختارين في الإقدام على تلك العقائد والأعمال فيكون كما حكي عن الشيطان وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم: 22] ثم قالوا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم ومن عقائدهم وأعمالهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ إنما كانوا يعبدون هؤلاء أهواءهم الفاسدة.
وإخلاء الجملتين من العاطف لكونهما مقررتين لمعنى الجملة الأولى.
وحين حكى التوبيخ المذكور ثم ما يقوله الشياطين أو أئمة الكفر اعتذارا ذكر ما يشبه الشماتة بهم من استغاثتهم آلهتهم وخذلانهم لهم وعجزهم عن نصرتهم وهو قوله: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ زعم جم غفير من المفسرين أن جواب «لو» محذوف. فقال الضحاك ومقاتل: يعني المتبوع والتابع يرون العذاب ولو أنهم كانوا يهتدون في الدنيا ما أبصروه في الآخرة ولعلموا أن العذاب حق، أو لو كانوا يهتدون بوجه من وجوه الحيل لدفعوا به العذاب. وقيل: أراد ورأوا العذاب لو كانوا يبصرون شيئا ولكنهم صاروا(5/354)
مبهوتين بحيث لا يبصرون شيئا فلا جرم ما رأوه. وقيل: الضمير للأصنام أي كانوا أحياء مهتدين لشاهدوا العذاب. وقيل: «لو» للتمني أي تمنوا لو كانوا مهتدين. ثم بكتهم بالاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل. ومعنى فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ أن أخبار المرسلين والمرسل إليهم صارت كالعمى عليهم جميعا لا يهتدون إليهم فهم لا يتساءلون كما يسأل بعض الناس بعضا في المشكلات لأنهم متساوية الأقدام في العجز عن الجواب، وإذا كانت الأنبياء لهول ذلك اليوم يتلعثمون في الجواب عن مثل هذا السؤال كما قال سبحانه يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا [المائدة: 109] فما ظنك بضلال أممهم؟! قال القاضي: الآية تدل على بطلان قول المجبرة، لأن فعلهم لو كان خلقا من الله تعالى وجب وقوعه بالقدرة والإرادة ولما عميت عليهم الأنباء ولقالوا: إنما كذبنا الرسل من جهة خلقك فينا تكذيبهم ومن جهة القدرة الموجبة لذلك. وكذا القول فيما تقدّم لأن الشيطان كان له أن يقول: إنما أغويت لخلقك فيّ الغواية، وإنما قبل من دعوته لمثل ذلك لتكون الحجة لهم على الله قوية والعذر ظاهرا. وعارضته الأشاعرة بالعلم والداعي.
والذي اعتمد عليه القاضي في دفع هذا المشكل المعضل في كتبه الكلامية قوله خطأ قول من يقول إنه يمكن وخطأ قول من يقول إنه لا يمكن فالواجب السكوت. وزيفه الأشعري بأن الكافر لو أورد هذا السؤال على ربه لما كان لربه عنه جواب إلا السكوت فتكون حجة الكافر قوية وعذره ظاهرا. ولقائل أن يقول: السكوت عن جواب الكافر جواب كما قيل: جواب الأحمق السكوت. وحين فرغ من توبيخ الكفار وتهديدهم أتبعه ذكر التائبين وأنهم من المفلحين. و «عسى» من الكريم تحقيق أو الترجي عائد إلى التائب. ثم إن القوم كانوا يذكرون شبهة أخرى وهي قولهم لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: 31] فأجاب الله تعالى عنها بقوله وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ لأنه المالك المطلق المنزه عن النفع والضر فله أن يخص من شاء بما شاء. وعلى مذهب المعتزلة هو حكيم فلا يفعل إلا الحكمة والخير. وقوله ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ بيان لقوله وَيَخْتارُ والخيرة من التخير كالطيرة من التطير في أنه اسم مستعمل بمعنى المصدر وهو التخير وهو بمعنى المتخير كقولهم «محمد خيرة الله من خلقه» . وقد مر في الوقف أن بعضهم يقف على ما يَشاءُ ثم يقول وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ قال أبو القاسم الأنصاري: يعلم من هذا متعلق المعتزلة في إيجاب الصلاح والأصلح عليه، وأي صلاح في تكليف من علم أنه لا يؤمن بالله ولو لم يكلفه لاستحق الجنة والنعيم من فضل الله. فإن قيل: إنما كلفه ليستوجب على الله ما هو الأفضل لأن المستحق أفضل من المتفضل به قلنا: إذا علم أن ذلك الأفضل لا يحصل فتوريطه للعقاب الأبدي لا يكون رعاية للمصلحة. ثم قولهم «المستحق خير من(5/355)
المتفضل به» ممنوع لأن ذلك التفاوت إنما يحصل في حق من يستنكف من تفضله، أما الذي حصل ذاته وصفاته بإحسانه فكيف يستنكف من تفضله؟ قلت: لقائل أن يقول: مجرد الاستبعاد لا يصلح للمنع على أن لذة الأجر يستحيل أن تحصل بدون الأجر. ثم نزه نفسه بقوله سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ والغرض أن الخلق والاختيار والإعزاز والإذلال والإهانة والإجلال كلها مفوض وجوبها إليه ليس لأحد فيه شركة ومنازعة. ثم أكد ذلك بقوله وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ من عداوة نبيه وَما يُعْلِنُونَ من مطاوعتهم فيه.
ويحتمل أن يكون عاما يشمل السرائر والظواهر كلها وهو المستأثر بالإلهية. ولا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير لما قبله لَهُ الْحَمْدُ فِي الدار الْأُولى على نعمه الفائضة على البر والفاجر وَفي الدار الْآخِرَةِ كقولهم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر: 34] وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] والتحميد هناك على وجه اللذة لا التكليف. قال أهل السنة: الثواب يستحق عند المعتزلة فلا يستحق الحمد بفعله من أهل الجنة، وأما أهل النار فلم ينعم عليهم حتى يستحق الحمد منهم. والجواب ما ذكرناه أن تحميدهم يجري مجرى التنفس. قال القاضي: إنه يستحق الحمد من أهل النار أيضا بما فعل بهم في الدنيا من التمكين والتيسير والألطاف وسائر النعم، وأنهم بإساءتهم لا يخرج ما أنعم الله به عليه من أن يوجب الشكر. وقال في التفسير الكبير: فيه نظر، لأن أهل الآخرة مضطرون إلى معرفة الحق فإذا علموا أن التوبة واجبة القبول وأن الشكر مما يوجب الثواب فلا بد أن يتوبوا ويشتغلوا بالشكر ليستحقوا الثواب ويتخلصوا من العقاب. ولقائل أن يقول:
لا يلزم من وجوب قبول التوبة واستحقاق الجزاء على العمل في دار التكاليف أن يكون الأمر كذلك في غير دار التكاليف. ثم بين بقوله وَلَهُ الْحُكْمُ أن القضاء بين العباد مختص به فلولا حكمه لما نفذ على العبد حكم سيده، ولا على الزوجة حكم زوجها، ولا على الابن حكم أبيه، ولا على الرعية حكم سلطانهم، ولا على الأمة حكم رسولهم وإلى محل حكمه وقضائه يرجع كل عبيده وإمائه.
التأويل:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى القلب مقام القرب والوحي والمكالمة وكشف العلوم بعد هلاك فرعون النفس وصفاتها لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إذ كانوا في عالم الأرواح مستمعين خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] وَما كُنْتَ في غرب العدم بل كنت في شرق الوجود في عالم الأرواح إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى أمر اتخاذ العهد منه أن يؤمن بك كقوله وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران: 81] وما كنت في عالم الشهادة وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً في عالم الشهادة فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ فاحتجوا بالنفس وصفاتها ونسوا تلك(5/356)
العهود والمواثيق وَما كُنْتَ مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ كشعيب وموسى، إذ أخذت منهما الميثاق أن يؤمنا بك وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ للرسل الذين أخذنا الميثاق منهم. ولولا أن تصيبهم التقدير، ولولا أن مقتضى العناية الأزلية في حق هذه الأمة ودفع حجتهم علينا فإنا ناديناهم وهم في العدم فأسمعناهم نداءنا ولم نوفقهم للإجابة فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ يعني محمدا. وفيه أن له رتبة أن يقول أنا الحق لفنائه عن نفسه بالكلية وبقائه بربه وكل من سواه فليس له أن يقول ذلك إلا بطريق المتابعة لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ لو لم يكونوا محتجبين بكفرهم عن رؤية كماله لقالوا: لولا أوتي مثل ما أوتي محمد من مقام المحبة ومقام لي مع الله وقت بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما يعني الكتاب المشتمل على العلم اللدني فإنه أهدى إلى الحضرة من الكتب الموقوفة على السماع والمطالعة، ومن لم تكن له هذه الرتبة فإنه محجوب عن الحضرة بهوى نفسه كما قال فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ حقيقة الْكِتابَ في عالم الأرواح مِنْ قَبْلِهِ نزوله في عالم الأشباح هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ في عالم الصورة ولهذا قالوا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ ولذلك قال يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ أي في العالمين بِما صَبَرُوا على مخالفات الهوى وموافقات الشرع وَيَدْرَؤُنَ بالأعمال الصالحات ظلمة المعاصي، أو بحسنة الذكر صدأ حب الدنيا عن مرآة القلوب، أو بحسنة نفي ما سوى الله شرك الوجود المجازي وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ من الوجود المجازي يُنْفِقُونَ في طلب الوجود الحقيقي: وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ وهو طلب ما سوى الله أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا في طلب الوجود الحقيقي وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ في طلب الفاني إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وذلك أن للقلب بابين: أحدهما إلى النفس والجسد وهو مفتوح أبدا، والآخر إلى الروح والحضرة وهو مغلوق لا يفتحه إلا الفتاح الذي بيده كل مفتاح كما قال أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [محمد: 24] وقال: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح: 1] وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الذين أصابهم رشاش النور وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ
بجذبات الألوهية من أرض الأنانية أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً في مقام الهوية يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ حقائق كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً من العلوم اللدنية وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذوق العلم اللدني لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا أي لم تسكن في قرى القلوب الفاسد استعدادها إِلَّا قَلِيلًا من نور الإسلام بعبور الخواطر الروحانية في الأحايين وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ بأن رجع نور الإسلام إلى الحضرة بعد فساد الاستعداد حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها أي روحها لأن القلب من متولدات الروح رَسُولًا من وارد نفحات الحق الوعد الحسن للعوام الجنة، وللخواص الرؤية وللأخص الوصول والوصال كما
أوحى إلى عيسى «تجوّع ترنى تجرد تصل إلي»
أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا راعوا(5/357)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75) إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
طريقة الأدب ولم يقولوا كما أغويتنا مثل ما قال إبليس فَبِما أَغْوَيْتَنِي [الأعراف: 16] أي أَغْوَيْناهُمْ بتقديرك كَما غَوَيْنا بقضائك وهذا من خصوصية تكريم بني آدم بحفظ البعداء طريقة الأدب كما يحفظها أهل القرب على بساط الكرامة وَرَأَوُا الْعَذابَ يعني لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لرأوا عذاب الفطام عن المألوفات والشهوات والله أعلم بالخفيات.
[سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 88]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80)
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85)
وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)(5/358)