وأحسنت إليه بكذا وكذا ثم إنه يقابلني بالشر والإساءة إنه بريء من ذلك. فغرضه من
قوله «إنه يقابلني بالشر»
النفي والتبعيد. أو نقول: لم لا يجوز أن يكون قوله جَعَلا لَهُ على حذف المضاف أي جعلا أولادهما له شريكا؟ وكذا فيما آتاهُما أي آتى أولادهما عبر عنهم بلفظ التثنية مرة لكونهم صنفين أو نوعين ذكرا وأنثى وبلفظ الجمع أخرى وهو قوله فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ سلمنا أن الضمير في جَعَلا وفي آتاهُما لآدم وحواء إلا أنهما كانا عزما أن يجعلا وقفا على خدمة الله وطاعته ثم بدا لهما فكانا ينتفعان به في مصالح الدنيا، فأريد بالشرك هذا القدر. وعلى هذا فإنما قال تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. أو نقول: إنما سمياه عبد الحرث اعتقادا منهما إنه إنما سلم من الآفات ببركة دعائه، وقد يسمى المنعم عليه عبد المنعم ومنه قول بعض العلماء أنا عبد من علمني حرفا. فلما حصل الإشراك في لفظ العبد صارا معاتبين بذلك والله تعالى أعلم. ثم أقام الحجة على أن الأوثان لا تصلح للإلهية فقال أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ اعتبر اللفظ أوّلا فوحد والمعنى ثانيا، وإنما جمع بالواو والنون بناء على معتقدهم أنهم عقلاء. واحتجت الأشاعرة بها في مسألة خلق الأعمال فإنها تدل على أن غير الله لا يخلق ثم بيّن أن المعبود يجب أن يكون قادرا على إيصال النفع ودفع الضر وهذه الأصنام ليست كذلك فقال وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وهو المعونة على العدة وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ولا يدفعون عن أنفسهم مكروها فإن من أراد كسرهم لم يقدروا على دفعه. والحاصل أن الأصنام لا تنصر من أطاعها ولا تقتص ممن عصاها بل عبدتهم هم الذين يدفعون عنهم ويحامون عليهم. ثم ذكر أنها كما لا تنفع ولا تضر فكذلك لا علم لها بشيء من الأشياء وأنها لا يصح منها إذا دعيت إلى الخير والصلاح الاتباع ولا ينفصل حال من يخاطبهم ممن يسكت عنهم فقال وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ ويجوز أن يكون المراد وإن تطلبوا منهم كما تطلبون من الله الخير لا يتبعوكم إلى مرادكم وطلبتكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله بدليل قوله بعد فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ ثم قوّى هذا الكلام بقوله سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ وإعرابه شبيه بما تقدم في أول سورة البقرة في قوله سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ [البقرة: 6] وإنما عطف الاسمية على الفعلية لأن هؤلاء المشركين كانوا إذا وقعوا في مهم ومعضلة تضرعوا إلى تلك الأصنام، وإذا لم تحدث تلك الواقعة بقوا ساكتين صامتين فقيل لهم: لا فرق بين إحداثكم دعاءهم وبين أن تستمروا على صمتكم. ثم أكد بيان أنها لا تصلح للإلهية بقوله إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فسئل أنه كيف يحسن وصف الجمادات بأنها(3/361)
عباد؟ وأجيب بعد تسليم اختصاص العباد بالعقلاء بأن ذلك ورد على معتقدهم أنها عقلاء.
وفيه أيضا نوع من الاستهزاء أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم ولا فضل لهم عليكم فلم قبلتموها آلهة لكم وأربابا؟. ثم بين عدم التفاضل بقوله فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنها آلهة ولام الأمر للتعجيز فإنه إذا ظهر لكل عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنها لا تصلح للعبودية وأنها والعباد سواء بل هم أخس وأدون بدليل قوله أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها الآية. وذلك أن كل ما هو من شأنه أن يكون له هذه الأعضاء والآلات فإذا كان فيها قوي محركة ومدركة كان هو أفضل ممن خلت أعضاؤه عن هذه القوى فكيف يليق بالأفضل الأكرم الأشرف خدمة المفضول الخسيس الدنيء؟ وإنما قلنا كل ما من شأنه أن يكون له هذه الأعضاء لأن من جل عن ثبوت هذه الأعضاء والجوارح له فعدم هذه الأشياء بالنسبة إليه فضيلة وكمال، فإن القادر القاهر من غير افتقار إلى آلة وعدّة كان أشرف ممن يفتقر في أفعاله إلى الآلات فضلا عمن لا فعل لآلته، فلا يرد اعتراض بعض أغمار المشبهة أن الله تعالى لو لم تكن له هذه الأعضاء لكان عدمها دليلا على عدم إلهيته.
ثم إنهم كانوا يخوّفون رسول الله صلى الله عليه وسلم بآلهتهم كما قال قوم هود إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ [هود: 54] فقال عز من قائل لنبيه قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ أمر من الكيد المكر فَلا تُنْظِرُونِ نهي عن الإنظار والإمهال والخطاب لهم ولشركائهم جميعا. وهذا قول واثق بعصمة الله أن لا يبالي بغير الله كائنا من كان. ثم لما أمره صلى الله عليه وسلم بالتبري حثه على التولي فقال إِنَّ وَلِيِّيَ أي ناصري عليكم اللَّهُ الآية. وفيه أن الواجب على كل عامل عبادة الذي يتولى تحصيل منافع الدارين. أما الدينية الأخروية فبسبب إنزال الكتاب المشتمل على العلوم الجمة، وأما الدنيوية فهو المراد بقوله وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أي من عباده أن ينصرهم فلا يضرهم عداوة من عاداهم في ذلك يأس المشركين أن يضره كيدهم. يحكى أن عمر بن عبد العزيز كان لا يدخر لأولاده شيئا فقيل له في ذلك فقال: إما أن يكون ولدي من الصالحين فوليه الله ولا حاجة له إلى مالي، وإما أن يكون من المجرمين وقد قال تعالى فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ ومن رده الله لم أشتغل بإصلاح مهماته. أقول: وفي التقريب بالآية الثانية نظر لأنها حكاية كلام موسى اللهم إلا أن يقال التقريب في التقرير. ثم أعاد وصف الأصنام بمثل الصفات المذكورة فقال وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الآية. قال الواحدي: إنما أعيد هذا المعنى لأن الأول مذكور على جهة التقريع وهذا مذكور على جهة الفرق بين من يجوز له العبادة وبين من لا(3/362)
يجوز كأنه قيل: الإله المعبود يجب أن يكون بحيث يتولى الصالحين وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكون صالحة للإلهية وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا لا سماع سمع ولا سماع إجابة وَتَراهُمْ تحسبهم يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوّروا أصنامهم بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليك وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ لا يدركون المرئي. وقيل: الضمير في قوله وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إلى آخر الآية يعود إلى المشركين المار ذكرهم في قوله قُلِ ادْعُوا والمراد أنهم بلغوا في الجهل والحماقة إلى أنك لو دعوتهم وأظهرت أنواع الحجة والبرهان لم يسمعوا بعقولهم البتة وَتَراهُمْ إلى الناس وإليك ينظرون ولكنهم لشدّة إعراضهم عن قبول الحق لم ينتفعوا بذلك النظر فكأنهم عمي يصدقه قوله في موضع آخر فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] .
التأويل:
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لأرباب العقول النظر والاستدلال لتحصيل الإيمان، ولأرباب القلوب الولوج والكشف لحصول الإيقان والعيان وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يعني عالم الملك المخلوق من مادة بخلاف عالم الملكوت الذي أبدع من غير شيء وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ يعني أجل فنائهم عما سوى الحق، فإن لم يؤمنوا بطريق النظر استدلالا فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد النظر يُؤْمِنُونَ، يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ يريد الساعة التي يظهر الله تعالى فيها آثار صفة القهارية لإفناء عالم الصورة فلا يبقى منه داع ولا مجيب فيجيب هو بنفسه لمن الملك اليوم لله الواحد القهار لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ من الحياة الأبدية ورفع الحاجات البشرية.
خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي الروح وخلق منها زوجها وهي القلب لِيَسْكُنَ إِلَيْها لأن القلب بين أصبعين من أصابع الرحمن فكان الروح يشم من القلب نسائم نفحات ألطاف الحق حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً في البداية بظهور أدنى أثر من آثار الصفات البشرية في القلب الروحاني فَلَمَّا أَثْقَلَتْ كثرت آثار الصفات خاف الروح والقلب على أنفسهما عن تبدل الصفات الروحانية الأخروية النورانية بالصفات النفسانية الدنيوية الظلمانية ف دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً قابلا للعبودية لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا أي الروح والقلب لَهُ شُرَكاءَ أي جعلا وجه النفس إلى الدنيا ونعيمها فصارت عبد البطن وعبد الخميصة وعبد الدرهم والدينار. وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً أي لا تستطيع الدنيا ومن فيها للروح والقلب والنفس تقوية وتربية إلا بالله وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ للبقاء والدوام.(3/363)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 206]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
القراآت:
طيف بسكون الياء: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي.
الباقون: طائِفٌ على وزن «فاعل» يَمُدُّونَهُمْ من الإمداد: أبو جعفر ونافع.
الآخرون: بفتح الياء وضم الميم من المد الْعَفْوَ وَأْمُرْ مدغما: أبو عمرو. وقرىء بغير همز حيث كان: يزيد والشموني وحمزة في الوقف.
الوقوف:
الْجاهِلِينَ هـ بِاللَّهِ ط عَلِيمٌ هـ مُبْصِرُونَ هـ ج لأن قوله وَإِخْوانُهُمْ مبتدأ إلا أن المعنى يقتضي الوصل لبيان اختلاف حالي الفريقين لا يُقْصِرُونَ هـ اجْتَبَيْتَها ط مِنْ رَبِّي ج لاختلاف الجملتين بلا عطف مع اتحاد المقول يُؤْمِنُونَ هـ تُرْحَمُونَ هـ مِنَ الْغافِلِينَ هـ يَسْجُدُونَ هـ.
التفسير:
لما ذكر فساد طريقة عبدة الأصنام وبين النهج القويم والصراط المستقيم أرشد إلى مكارم الأخلاق والعفو الفضل وكل ما أتى من غير كلفة. واعلم أن الحقوق التي تستوفى من الناس إما أن يجوز إدخال المساهلة فيها وهو المراد بقوله خُذِ الْعَفْوَ ويدخل فيه التخلق مع الناس بالخلق الحسن وترك الغلظة والفظاظة، ومن هذا الباب أن يدعو الخلق إلى الدين الحق بالرفق واللطف كما قال في حق نبيه صلى الله عليه وسلم فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] وإما أن لا يجوز دخول المسامحة فيها وذلك قوله وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وهو والمعروف. والعارفة كل أمر عرف أنه لا بد من الإتيان به ويكون وجوده خيرا من عدمه، فلو اقتصر في هذا القسم على الأخذ بالعفو ولم يبذل في ذلك وسعه كان راضيا بتغيير الدين وإبطال الحق. ثم أمر بالمعروف ورغب فيه ونهى عن المنكر ونفر عنه فربما أقدم بعض الجاهلين على السفاهة والإيذاء فلهذا قال وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
قال عكرمة: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبرائيل ما هذا؟ فقال: لا أدري حتى أسأل ثم رجع فقال: يا محمد إن ربك أمرك أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو(3/364)
عمن ظلمك.
قال أهل العلم: تفسير جبرائيل مطابق للفظ الآية فإنك إذا وصلت من قطعك فقد عفوت عنه، وإذا أعطيت من حرمك فقد أمرت بالمعروف، وإذا عفوت عمن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهل.
يروى عن جعفر الصادق رضي الله عنه: ليس في القرآن العزيز آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية
ولبعض المفسرين في تفسير الآية طريق آخر قالوا خُذِ الْعَفْوَ أي ما أتوك به عفوا فخذه ولا تسأل ما وراء ذلك فنسخت بآية الزكاة وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي بإظهار الدين الحق وهذا غير منسوخ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي المشركين وهذا منسوخة بآية القتال. والحق أن تخصيص أخذ العفو بالمال تقييما للمطلق من غير دليل، ولو سلم فإيجاب الزكاة بالمقادير المخصوصة لا ينافي ذلك لأن آخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم أموال الناس وأن لا يشدد الآمر على المزكي. وأيضا لا يمتنع أن يؤمر النبي بأن لا يقابل سفاهة المشركين بمثلها ولكن يقاتلهم، وإذا كان الجمع بين الأمرين ممكنا فلا حاجة إلى التزام النسخ.
قال أبو زيد: لما نزل قوله وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف يا رب والغضب؟ فنزل وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ
أي غرز ونخس جعل النزغ نازغا كما قيل: جدّ جدّه. عن أبي زيد: نزغت ما بين القوم أي أفسدت ما بينهم وأصله الإزعاج بالحركة إلى الشر، وأكثر ما يكون ذلك عند الغضب. ونزغ الشيطان وسوسته في القلب بما يسوّل للإنسان من المعاصي وعلاجه ودفعه إنما يكون بالاستعاذة وهي الاستخلاص عن حول الإنسان وقوته إلى حول الرحمن وقوته والإعراض عن مقتضى الطبع والإقبال على أوامر الشرع
عن معاذ بن جبل قال: استبّ رجلان عند النبي حتى عرف الغضب في وجه أحدهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب غضبه أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
قال بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء: لو لم يجز على النبي الإقبال على وسوسة الشيطان لم يأمر بالاستعاذة. والجواب أن كلمة «إن» لا تفيد وقوع الشرط، ولو سلم فمن أين علم أنه صلى الله عليه وسلم قبل تلك الوسوسة منه؟ ولو سلم فمحمول على ترك الأولى. ثم ختم الآية بقوله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ليعرف أن القول اللساني بدون المعارف الحقيقية عديم الفائدة وكأنه تعالى قال: اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع، وأحضر معنى الاستعاذة في ضميرك فإني عليم. ثم بين أن حال المتقين قد تزيد على حال النبي في باب وسوسة إبليس فإن النبي لا يكون له إلا النزع الذي هو كابتداء الوسوسة، وأما المتقون فقد يمسهم الشيطان وذلك قوله إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ قال الفراء: الطائف كالخاطر وجوز بعضهم أن يكون مصدرا كالعاقبة ولكنه بلا تاء. والأصح أنه اسم فاعل من طاف يطوف أو من طاف به الخيال يطيف طيفا. ومن قرأ طيف فهو إما(3/365)
مصدر أي لمسة من الشيطان، وإما مخفف طيف «فيعل» من طاف يطيف كلين، أو من طاف يطوف كهين. قال في الكشاف: وهذا تأكيد وتقرير لما تقدم من وجوب الاستعاذة بالله عند نزغ الشيطان وأن المتقين هذه عادتهم إذا أصابهم نزغ من الشيطان وإلمام بوسوسته. ومفعول تَذَكَّرُوا محذوف أي تذكروا ما أمر الله به ونهى عنه فأبصروا السداد. واعلم أن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا استقبح من المغضوب عليه عملا من الأعمال ثم اعتقد في نفسه كونه قادرا وفي المغضوب عليه كونه عاجزا هذا إذا كان واقفا على ظلمات عالم الأجسام فيغتر بظواهر الأمور، أما إذا انكشف له نور من عالم العقل عرف أن المغضوب عليه إنما أقدم على ذلك العمل لأن الله تعالى خلق فيه داعية جازمة وقد علم منه تلك الحالة في الأزل، ومتى كان كذلك فلا سبيل إلى تركها فحينئذ يفتر غضبه كما
قال صلى الله عليه وسلم: «من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب»
وأيضا إنه كم أساء في العمل وقد تجاوز عنه وإن الله أقدر عليه وإنه إذا أمضى الغضب كان شريكا للسباع المؤذية، وإذا اختار العفو كان مضاهيا للأنبياء والأولياء مستأهلا للثواب الجزيل، وإنه ربما انقلب الضعيف قويا. وبالجملة فالمراد من قوله تعالى إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ ما ذكرنا من الاعتقادات، والمراد من قوله تَذَكَّرُوا الأمور تفيد ضعف تلك الاعتقادات، أما قوله وَإِخْوانُهُمْ فالضمير فيه يرجع إلى الشيطان، وجمع لأن المراد به الجنس كقوله أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة: 257] والضمير المرفوع في يَمُدُّونَهُمْ يرجع إلى الإخوان لأن شياطين الإنس يعضدون شياطين الجن على الإغواء والإضلال، أو إلى الشياطين فيكون الخبر جاريا على غير من هو له. والمعنى وإخوان الشياطين ليسوا بمتقين فإن الشياطين يمدونهم أي يكونون مددا لهم في الغي. وجوّز أن يراد بالإخوان الشياطين والضمير المجرور يعود إلى الجاهلين فيكون الخبر جاريا على ما هو له. قال في الكشاف: والأوّل أوجه لأن إِخْوانُهُمْ في مقابلة الَّذِينَ اتَّقَوْا قال الواحدي: عامة ما جاء في التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على «أفعلت» كقوله أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ [المؤمنون: 55] وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ [الطور: 22] أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ [النمل: 36] وما كان بخلافه فإنه يجيء على مددت قال وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة: 15] فالوجه هاهنا قراءة العامة ووجه الضم الاستهزاء والتهكم نحو فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] أما قوله ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ فالإقصار الكف عن الشيء. قال ابن عباس: أي لا يمسك الغاوي عن الضلال والمغوي عن الإضلال، ومعنى «ثم» تبعيد عدم الإقصار عن المدد فإنه يجب على العاقل إذا أقبل علي غي أن يمسك عنه سريعا أن يتمادى فيه وينهمك ولهذا قيل:(3/366)
الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل. ثم ذكر نوعا واحدا من إغوائهم فقال وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بآية وذلك أنهم كانوا يطلبون آيات معينة ومعجزات مخصوصة على سبيل التعنت كقولهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] ثم إنه صلى الله عليه وسلم ما كان يأتيهم بها فعند ذلك قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها يقال اجتبى الشيء بمعنى جباه لنفسه أي جمعه، وجبى إليه فاجتباه أي أخذه، والمعنى هلا افتعلتها وجئت بها من عند نفسك لأنهم كانوا يقولون إن هذا إلا إفك مفترى وكانوا ينسبونه إلى السحر. والمراد هلا أخذتها واقترحتها على إلهك ومعبودك إن كنت صادقا في أن الله يجيب دعاءك ويسعف باقتراحك؟ وعند هذا أمر رسوله أن يذكر في الجواب إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي ولست بمفتعل للآيات أو لست بمقترح لها. ثم بين أن عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحوها ألا يقدح في الغرض لأن ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة بالغة قاهرة كافية في تصحيح النبوة فكان طلب الزيادة من التعنت فقال هذا يعني القرآن بَصائِرُ إطلاق لاسم المسبب على السبب، وذلك أن فيه حججا بينة تفيد القلوب بصيرة وكشفا هُدىً للمستدلين الواصلين بالنظر والاستدلال إلى درجة العرفان. فالبصائر لأصحاب عين اليقين، والهدى لأرباب علم اليقين، والرحمة لغيرهم من الصالحين المقلدين، والجميع لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ولما عظم شأن القرآن بتلك الأوصاف علم المكلفين أدبا حسنا في بابه فقال وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا والإنصات السكوت للاستماع. قال العلماء: ظاهر الأمر للوجوب فمقتضاه أن يكون الاستماع والسكوت واجبا وقت قراءة القرآن في صلاة وغير صلاة وهو قول الحسن وأهل الظاهر. وعن أبي هريرة كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت. وقال قتادة: كان الرجل يأتي وهم في الصلاة فيسألهم كم صليتم وكم بقي وكانوا يتكلمون في الصلاة لحوائجهم فنزلت. ثم صار سنة في غير الصلاة أن ينصت القوم إذا كانوا في مجلس يقرأ فيه القرآن. وقيل: نزلت في ترك الجهر بالقراءة وراء الإمام لما
روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في الصلاة المكتوبة وقرأ أصحابه رافعين أصواتهم فخلطوا عليه صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وقال سعيد بن جبير ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار وجماعة: نزلت في الإنصات عند الخطبة يوم الجمعة، وزيف بأن اللفظ عام فكيف يجوز قصره على قراءة القرآن في الخطبة أو على الخطبة نفسها بناء على أنها قد تسمى قرآنا لاشتمالها عليه. وأجيب بأن كلمة «إذا» لا تفيد العموم بدليل أنه إذا قال لزوجته إذا دخلت الدار فأنت طالق فإنها لا تطلق مرة ثانية بدخول الدار مرة أخرى، وبدليل أن الشافعي أوجب على المأموم أن يقرأ الفاتحة، ورد بأن المأموم إنما يقرأ الفاتحة في حال سكتة(3/367)
الإمام كما قال أبو سلمة: للإمام سكتتان فاغتنم القراءة في أيهما شئت يعني سكتة بين التكبير إلى أن يقرأ، وأخرى بين القراءة إلى أن يركع. واعترض بأن سكوت الإمام واجب أم لا. والأول باطل بالإجماع، وعلى الثاني يجوز أن لا يسكت وحينئذ يلزم أن تحصل قراءة المأموم مع قراءة الإمام فيفضي إلى ترك الاستماع. وأيضا فهذا السكوت ليس له حد محدود والمأمومون مختلفون ببطء القراءة وسرعتها، فربما لا يتمكن المأموم من إتمام قراءة الفاتحة في مقدار سكوت الإمام فيلزم المحذور المذكور. وأيضا الإمام في هذا السكوت يصير كالتابع للمأموم وذلك غير جائز. قال الواحدي: الإنصات هو ترك الجهر عند العرب وإن كان يقرأ في نفسه إذا لم يسمع أحدا. وأورد عليه أن غاية توجيهه هو أن الإنصات مع قراءة الإمام ممكن لكن إمكان حصول الاستماع مع قراءته ممنوع، فإن الاستماع عبارة عن كونه بحيث يحيط بذلك الكلام المسموع على الوجه الكامل، ولعل الإنصاف أن الاستماع على تقدير الإنصاف المفسر ممكن أن يحصل مع قراءة الإمام. هذا وقد سلم كثير من الفقهاء عموم اللفظ إلا أنهم جوّزوا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد وذلك هاهنا
قوله صلى الله عليه وآله: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»
وذهب الإمام مالك وهو القول القديم للشافعي: إنه لا يجوز للمأموم قراءة الفاتحة في الصلاة الجهرية عملا بمقتضى هذا النص ويجب عليه القراءة في الصلاة السرية لأن الآية دلالة لها على هذه الحالة. وفي الآية تفسير آخر وهو أن الخطاب في الآية مع الكفار وذلك أن كون القرآن بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله استمعوا له وأنصتوا ليقفوا على مبانيه ومعانيه فيعترفوا بإعجازه ويستغنوا بذلك على طلب سائر المعجزات، ومما يؤكد هذا التفسير قوله في آخر الآية لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ والترجي إنما يناسب حال الكفار لا حال المؤمنين الذين حصل لهم الرحمة جزما في قوله وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ويمكن أن يجاب بأن الأطماع من الكريم واجب فلم يبق إلا الفرق. وقيل: المراد باستماع القرآن العمل بما فيه.
ثم أمر نبيه وأمته تبعيته صلى الله عليه وسلم بالذكر العام- قرآنا كان أو غيره- على سبيل الدوام، وذلك أن استماع القرآن كان الذكر الخفي فقال وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ وفي الآية قيود:
الأوّل: تخصيصه اسم الرب دون الإله وغيره تنبيها على أن سبب الذكر هو التربية والإنعام وليدل على الطمع والرجاء. والثاني: ذكر الرب في النفس ليكون أدخل في الإخلاص وأبعد عن الرياء. قيل: ذكره في النفس هو أن يكون عارفا بمعاني الأسماء التي يذكرها بلسانه. قال بعض المتكلمين: الذكر النفساني هو الكلام النفسي الذي يثبته الأشاعرة.(3/368)
الثالث والرابع: قوله تَضَرُّعاً وَخِيفَةً أي متضرعا وخائفا، فالتضرع لإظهار ذلة العبودية.
والخوف إما خوف العقاب فهو مقام المذنبين، وإما خوف الجلال وهو مقام العارفين فإذا كوشفوا بالجمال عاشوا وإذا كوشفوا بالجلال طاشوا، وأما خوف الخاتمة بل خوف السابقة فإنها علة الخاتمة. الخامس: قوله وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ والمراد أن يقع ذلك الذكر متوسطا بين الجهر والإخفاء. قال ابن عباس: هو أن يذكر ربه على وجه يسمع نفسه وإنما أخر هذا عن الذكر القلبي لأن الخيال يتأثر من الذكر القلبي فيوجب قوة في النفس ولا يزال يتزايد في ذلك إلى أن يجري الذكر على لسانه بل يسري في جميع أعضائه وجوارحه وأركانه سريانا معتدلا خاليا عن التكلف بريئا من التعسف. السادس: قوله بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ والغدوّ مصدر غدا يغدو والمراد وقت الغدو كما يقال دنا الصباح أي وقته.
وقيل: إنه جمع غدوة وأما الآصال فإنها جمع الأصيل وهو الوقت بعد العصر إلى المغرب. وقد يقال: اشتقاقه من الأصل واليوم بليلته. إنما يبتديء في الشرع من أول الليل فسمي آخر النهار أصيلا لكونه ملاصقا لما هو الأصل لليوم الثاني. وخص هذان الوقتان بالذكر لأن الغدو عند ما ينقلب الحيوان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة، والعالم يتحول من الظلمة التي هي طبيعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودية، وفي الآصال الأمر بالضد وهدان النوعان من التغير العجيب دليلان قاهران باهران على وجود صانع قدير وحكيم خبير فوجب أن يكون المكلف فيهما مشتغلا بالذكر والحضور، ويمكن أن يكون المراد مداومة الذكر والمواظبة عليه بقدر الإمكان. السابع:
قوله وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ وفيه إشارة إلى أن الذكر القلبي يجب أن يداوم عليه ولا يزال الإنسان يستحضر جلال الله وكبرياءه بحسب الطاقة البشرية ليتنور جوهر النفس ويستعد لقبول الإشراقات القدسية فيضاهي سكان حظائر الجبروت مدحهم الله بقوله إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ومعنى عند دنو الشرف والقرب من عنايته وألطافه لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ فيداومون على ذلك وَيُسَبِّحُونَهُ يبرئونه وينزهونه عن كل سوء وهذا يرجع إلى المعارف والعلوم وَلَهُ يَسْجُدُونَ بحضرته بغاية الخضوع والاستكانة، وهذا يعود إلى أعمال الجوارح. وفي هذا الترتيب دليل على أن الأصل في الطاعة والعبودية أعمال القلوب ويتفرع عليه أعمال الجوارح. والمقصود من الآية أن الملائكة مع غاية طهارتهم ونهاية عصمتهم وبراءتهم عن بواعث الشهوة والحسد والغضب ودواعي الحقد والحسد يواظبون على العبودية والطاعة، فالإنسان مع كونه مبتلى بظلمات عالم الطبيعة وكدورات الزلات البشرية أولى بأن يداوم على ذكر معبوده، وينجذب ما أمكن إلى العالم العقلي ومقره الأصلي ويصفي مرآة قلبه عن أصداء الهواجس وينتقش بالجلايا القدسية والمعارف الحقية(3/369)
والله وليّ التوفيق.
التأويل:
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وهو طلب الحق لأنه معروف العارفين وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ الذين يطلبون غير الله مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ في طلب غير الله فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من طلب غير الله إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا هم أرباب القلوب فإن التقوى من شأن القلب كما
قال صلى الله عليه وسلم: «التقوى هاهنا»
وأشار إلى صدره. طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ نزغ من العمل الشيطاني يراه القلب بنور التقوى ويعرفه فيذكره أنه يفسده ويكدر صفاءه فيجتنبه وَإِخْوانُهُمْ يعني إخوان القلوب وهم النفوس الأمارة وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ أي لم تأت القلوب بِآيَةٍ من الله لتعجز النفوس عن تكذيبها قالُوا أي النفوس للقلب لولا اختلقتها من خاصية قلبيتك لتزكية النفوس قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ إلهام الحق فلا أقدر على تزكية النفوس إلا بقوة الإلهام الرباني. فَاسْتَمِعُوا بآذانكم الظاهرة وَأَنْصِتُوا بألسنتكم الباطنة لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالاستماع بالسمع الحقيقي وذلك
قوله: «كنت له سمعا وبصرا فبي يسمع وبي يبصر» «1»
فمن سمع القرآن من بارئه فقد سمع من قارئه وهذا سر الرحمن علم القرآن فهو المستعد لخطاب وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ بأن تبدل أخلاقها الله تَضَرُّعاً في البداية وهو من باب التكلف وَخِيفَةً في الوسط وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ في النهاية وهو مقام الفناء فإن إفشاء سر الربوبية كفر في غدوّ الأزل وآصال الأبد، فإن الذاكر والذكر والمذكور هو الله ولهذا قال في الأزل فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة: 152] ومن هنا قال يوسف بن الحسين الرازي: ما قال أحد الله إلا الله وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ الذين لا يعلمون أن الذاكر والذكر والمذكور هو الله إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ وهم الذين بقوا ببقاء الله يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ لأنهم أفنوا أخلاقهم في أخلاقه يُسَبِّحُونَهُ ينزهونه عن الحلول والاتصال والاتحاد وَلَهُ يَسْجُدُونَ في الوجود والعدم من الأزل إلى الأبد منه المبدأ وإليه المنتهى.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 38.(3/370)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
(سورة الأنفال
مدنية إلا سبع آيات من قوله وإذ يمكر بك إلى قوله يحشرون حروفها 5294 كلمها 1231 آياتها خمس وسبعون.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
القراآت:
مُرْدِفِينَ بفتح الدال: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل. الباقون: بالكسر.
الوقوف:
عَنِ الْأَنْفالِ ط وَالرَّسُولِ ج لعطف المختلفين مع الفاء ذاتَ بَيْنِكُمْ ص مُؤْمِنِينَ هـ يَتَوَكَّلُونَ هـ ج لاحتمال جعل الَّذِينَ مبتدأ والوصل أولى فيكون الوقف على يُنْفِقُونَ ويكون الثناء بحقيقة الإيمان منصرفا إلى قوله هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ط كَرِيمٌ هـ ج لما يجيء في التفسير بِالْحَقِّ ص لطول الكلام لَكارِهُونَ هـ لا ينظرون هـ الْكافِرِينَ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ ج لاحتمال كون «إذ» متعلقا بمحذوف وهو «اذكر» أو بقوله ويحق مُرْدِفِينَ هـ قُلُوبُكُمْ ج لابتداء النفي مع احتمال الحال عِنْدِ اللَّهِ ط حَكِيمٌ هـ.(3/371)
التفسير:
روى عكرمة عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من فعل كذا فله كذا، فذهب شبان الرجال وجلس الشيوخ تحت الرايات فلما كانت القسمة جاء الشبان يطلبون نفلهم وقالت الشيوخ: لا تستأثروا علينا فإنا كنا تحت الرايات ولو انهزمتم كنا ردأ لكم فأنزل الله تعالى يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ فقسمها بينهم بالسواء.
وعن عبادة بن الصامت قال: لم هزم العدوّ يوم بدر واتبعتهم طائفة يقتلونهم، أحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم واستولت طائفة بالعسكر والنهب، فلما نفى الله العدوّ رجع الذين طلبوهم وقالوا: لنا النفل نحن طلبنا العدوّ وبنا قفاهم الله وهزمهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أنتم بأحق به منا نحن أحدقنا برسول الله لا ينال العدوّ منه صلى الله عليه وسلم غزة. وقال الذين استولوا على العسكر والنهب: نحن أخذناه واستولينا عليه فهو لنا فنزلت الآية، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم بالسواء.
وعن سعد بن أبي وقاص لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص فأخذت سيفه فأعجبني فجئت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف. فقال: ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض أي في المقبوض من الغنائم، فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أنزلت سورة الأنفال عليه فقال: «يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وإنه الآن قد صار لي فاذهب فخذه.»
والنفل بالتحريك الغنيمة وجمعه الأنفال وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهرا. قال الأزهري: هو ما كان زيادة على الأصل فسميت الغنائم بذلك لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم الذين لم تحل الغنائم لهم. وصلاة التطوّع نافلة لأنها زائدة على الفرض وقال تعالى وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً [الأنبياء: 72] أي زيادة على ما سأل. والضمير في يَسْئَلُونَكَ عائد إلى جامع معينين من الصحابة لهم تعلق بالغنائم كما قررنا. وحسن العود وإن لم يجر لهم ذكر في اللفظ لدلالة الحال عليهم، ولفظ السؤال وإن كان مبهما إلا أن تعيين الجواب يدل على أن المراد أنهم سألوا عن الأنفال كيف مصرفها ومن المستحق لها. قال الزجاج: إنما سألوا عنها لأنها كانت حراما على من كان قبلهم. وضعف بأن الآية دلت على أنها مسبوقة بالتنازع والتنافس فسألوا عن كيفية قسمتها لا عن حلها وحرمتها. وعن عكرمة أن المراد من هذا السؤال الاستعطاء أي يطلبون منك الغنائم. وقال في الكشاف: النفل ما ينفله الغازي أي يعطاه زائدا على سهمه من المغنم وهو أن يقول الإمام تحريضا على البلاء في الحرب. من قتل قتيلا فله سلبه.
أو قال لسرية ما أصبتم فهو لكم أو فلكم نصفه أو ربعه. ولا يخمس النفل ويلزم الإمام(3/372)
الوفاء بما وعد به. وهذا التفسير يناسب خبر سعد بن أبي وقاص في إعطاء السيف إياه.
وعن ابن عباس في بعض الروايات أن المراد بالأنفال ما شذ عن المشركين إلى المسلمين من غير قتال من دابة أو عبد أو متاع فهو إلى النبي صلى الله عليه وسلم يضعه حيث يشاء. وعن مجاهد:
إن الأنفال الخمس الذي جعله الله لأهل الخمس. وعلى هذا فالقوم إنما سألوا عن الخمس فنزلت الآية. ثم أمر بالشروع في الجواب فقال قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي حكمها مختص بالله ورسوله يأمر الله بقسمتها على ما تقتضيه حكمته ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر في قسمتها مفوّضا إلى رأي أحد. قال مجاهد وعكرمة والسدي:
إنها منسوخة بقوله وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ [الأنفال: 41] الآية. وضعف بأن جعل أربعة أخماسها ملكا للغانمين لا ينافي كون الحكم فيها لله والرسول، ولو فسر الأنفال بالخمس أو بالسلب فلا إشكال. ثم حثهم على ترك المنازعة وعلى المؤاخاة والمصافاة فقال فَاتَّقُوا اللَّهَ أي عقابه ولا تقدموا على معصيته واتركوا المنازعة والمخاصمة بسبب هذه الأموال وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي التي هي بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومودة وموافقة. لما كانت الأحوال واقعة في البين قيل لها ذات البين كما أن الأسرار لما كانت مضمرة في الصدور قيل لها ذات الصدور. ثم ختم الآية بقوله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي كاملي الإيمان تنبيها على أن كمال الإيمان موقوف وإصلاح ذات البين وطاعة الله ورسوله.
ثم وصف المؤمنين الكاملين فقال إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي فزعت لذكره استعظاما لجلاله وحذرا من أليم عقابه. وقد يطمئن القلب بعد ذلك إذا تذكر كمال رأفته وجزيل ثوابه كقوله ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر: 23] وقيل: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم لمعصية فيقال له اتق الله فينزع وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً قالت العلماء: زيادة الإيمان تكون على ثلاثة أنحاء: الأوّل: بقوّة الدليل وبكثرته، فإن كل دليل مركب لا محالة من مقدمات. ولا شك في أن النفوس مختلفة في الإشراق والإنارة، والأذهان متفاوتة بالذكاء والغباوة، فكل من كان جزمه بالمقدمات أكثر وأدوم كان علمه بالنتيجة أكمل وأتم، وكذا من سنح له على المطلوب دليلان كان علمه أتم ممن لا يجد على المطلوب سوى دليل واحد ولذا يورد العلماء دلائل متعددة على مدلول واحد ولله در القائل: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد. الثاني: بتعدد التصديق وتجدده فمن المعلوم أن من صدق إنسانا في شيئين كان تصديقه أزيد من تصديق من صدقه في شيء واحد، فمعنى الآية أنهم كلما سمعوا آية متجددة أتوا بإقرار جديد. الثالث: أن يقال:
الإيمان عبارة عن مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل كما ينبىء عنه ظاهر الآية لأنه لما ذكر(3/373)
الأمور الخمسة قال أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ فدل ذلك على أن كل تلك الخصال داخلة في مسمى الإيمان ويؤيده
ما رواه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبة من الإيمان» «1»
وإذا كان الإيمان عبارة عن مجموع الأركان الثلاثة فبسبب التفاوت في العمل يظهر التفاوت في الإيمان، وإن لم يكن التفاوت في الإقرار والاعتقاد متصورا. أما قوله وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيفيد الحصر أي لا يتوكلون إلا على ربهم وهذه الصفات مرتبة على أحسن جهات الترتيب فالأولى الفزع من عقاب الله، والثانية الانقياد لتكاليفه، والثالثة الانقطاع بالكلية عما سواه. ثم لما فرغ من أعمال القلوب وهي الخشية والتسليم والتوكل شرع في وصفهم بأعمال الجوارح وذكر منها رأسها وسنامها وهما الصلاة والصدقة، ثم عظمهم بقوله أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا وفي أُولئِكَ وفي توسيط الفصل وتعريف الخبر وإيراد حَقًّا من المبالغات ما لا يخفى وحَقًّا صفة مصدر محذوف أي إيمانا حقا وهو مصدر مؤكد للجملة قبله، وقال الفراء: معناه أخبركم بذلك إخبارا حقا، وقيل:
إنه منوط بما بعده أي حقا لهم درجات. واعلم أن الأئمة اتفقوا على أن الرجل المؤمن يجوز له أن يقول أنا مؤمن، ثم اختلفوا في أنه هل يجوز له أن يضيف إليه حقا أو لا بل يستثني فيقول إن شاء الله. والأوّل مذهب أصحاب أبي حنيفة لما ورد في الآية، ولأن الشك في الإيمان لا يجوز لأن التصديق والإقرار كلاهما محقق. والثاني مذهب أصحاب الشافعي، وأجابوا عن الآية بأنه لا نزاع في أن الموصوف بالصفات المذكورة مؤمن حقا إنما النزاع في أن القائل أنا مؤمن هل هو موصوف بتلك الصفات جزما أم لا. وأما حديث الشك فمبني على أن الإيمان عبارة عن الأركان الثلاثة، ولا ريب أن كون الإنسان آتيا بالأعمال الصالحة أمر مشكوك فيه، والشك في أحد أجزاء الماهية يوجب الشك في حصول تلك الماهية، فإن النزاع لفظي على أنا لا نسلم أن الاستثناء لأجل الشك وإنما هو لزوال العجب أو لعدم القطع بحسن الخاتمة، أو لنوع من الأدب ففيه تفويض بالأمر إلى علم الله وحكمه كقوله لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 27] وإنه تعالى منزه عن الشك والريب. عن الحسن أن رجلا سأله أمؤمن أنت؟ قال: الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألني عن قوله إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ فو الله لا أدري
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 57، 58. البخاري في كتاب الإيمان باب 3. أبو داود في كتاب السنّة باب 14. النسائي في كتاب الإيمان باب 16.(3/374)
أمنهم أنا أم لا. وعن الثوري: من زعم أنه مؤمن بالله حقا ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية. وهذا إلزام منه يعني كما لا يقع بأنه من أهل الجنة حقا فلا يقطع بأنه مؤمن حقا. ويحكى عن أبي حنيفة أنه قال لقتادة: لم تستثني في إيمانك؟ فقال: اتباعا لإبراهيم في قوله وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي [الشعراء: 82] فقال له: هلا اقتديت به في قوله أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى [البقرة: 260] قيل: وكان لقتادة أن يقول وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] وفيه ما فيه. ثم أخبر عن مآل حالهم فقال لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي سعادات روحانية متفاوتة في الصعود والارتفاع، ولكن استغراق كل واحد في سعادته الخاصة به يمنعه عن التألم من حال من فوقه كما قال سبحانه وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ، وَمَغْفِرَةٌ [الحجر: 47] وتجاوز عن سيئاتهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ هو نعيم الجنة المقرون بالدوام والتعظيم. والكرم اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن في بابه نقله الواحدي عن أهل اللغة. فالله سبحانه موصوف بأنه كريم لأنه محمود في كل ما يحتاج إليه، والقرآن كريم لأنه يوجد فيه بيان كل شيء وقالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [النمل: 29] وقال مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ [لقمان: 10] وقال وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً [الإسراء: 23] قال بعض العارفين:
المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة من الاشتغال بغير الله. والرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفته ومحبته.
قوله عز من قائل كَما أَخْرَجَكَ يقتضي تشبيه شيء بهذا الإخراج وذكروا فيه وجوها: الأوّل: أن المشبه محذوف تقديره هذا الحال كحال إخراجك. والمعنى أن حالهم في كراهة ما صنعت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجك للحرب، وذلك
أنه صلى الله عليه وسلم لما رأى كثرة المشركين يوم بدر وقلة المسلمين قال: «من قتل قتيلا فله كذا وكذا» .
ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا. ترغيبا لهم في القتال، فلما انهزم المشركون قال سعد بن عبادة:
يا رسول الله لو أعطيت هؤلاء ما سميته لهم بقي خلق كثير بغير شيء فنزلت قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ
يصنع فيها ما يشاء فأمسك المسلمون عن الطلب وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهة. والثاني: أن ينتصب الكاف على أنه صفة مصدر الفعل المقدّر في قوله قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي ثبت الحكم واستقر بأن الأنفال لله وإن كرهوا ثباتا مثل إخراج ربك إياك إلى القتال وإن كرهوا، ووجه تخصيص هذا المشبه به بالذكر من بين سائر أحكام الله أن القصة واحدة ووجه جعل الإخراج مشبها به كونه أقوى في وجه الشبه لأن مدار القصة عليه. وقيل: التقدير هو أن الحكم بكونهم مؤمنين حق كما أن حكم الله بإخراجك من بيتك لأجل القتال حق. الثالث: قال الكسائي: الكاف متعلق بما بعده وهو قوله(3/375)
يُجادِلُونَكَ والتقدير كما أخرجك ربك من بيتك بالحق على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه. والبيت بيته صلى الله عليه وآله بالمدينة أو المدينة نفسها لأنها مهاجره ومسكنه فلها به اختصاص كاختصاص البيت بساكنه، ومعنى بالحق أي إخراجا ملتبسا بالحكمة والصواب وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ في موضع الحال أي أخرجك في حال كراهة بعضهم.
ثم بين الكراهة بقوله يُجادِلُونَكَ ويجوز أن تكون الجملة بدلا أو خبرا بعد خبر.
روي أن قريش أقبلت من الشام فيها تجارة عظيمة ومعهم أربعون راكبا- منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام- فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقي العير لكثرة الخير وقلة القوم، فلما خرجوا بلغ أهل مكة خبر خروجهم فنادى أبو جهل فوق الكعبة يا أهل مكة النجاء النجاء على كل صعب وذلول، عيركم، أموالكم إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبدا. وقد رأت أخت العباس ابن عبد المطلب رؤيا فقالت لأخيها: إني رأيت عجبا رأيت كأن ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل فرمى بها فلم يبق بيت من بيوت مكة إلا أصابه حجر من تلك الصخرة. فحدث بها العباس فقال أبو جهل: ما يرضى رجالهم أن يتنبأوا حتى تتنبأ نساؤهم. فخرج أبو جهل بجميع أهل مكة وهم النفير على ما قيل في المثل السائر: «لا في العير ولا في النفير» فقيل له: إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس إلى مكة فقال: لا والله لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزور ونشرب الخمور ونقيم القينات والمعازف ببدر فيتسامع جميع العرب بمخرجنا وأن محمدا لم يصب العير. فمضى بهم إلى بدر ونزل جبرائيل فقال: يا محمد إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريشا فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه وقال: ما تقولون إن القوم قد خرجوا من مكة على كل صعب وذلول فالعير أحب إليكم أم النفير؟ قالوا: بل العير أحب إلينا من لقاء العدوّ. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ردّ عليهم فقال: إن العير قد مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدوّ. فقام عند غضب النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر فأحسنا أي الكلام، ثم قام سعد بن عبادة فقال: انظر فامض فو الله لو سرت إلى عدن ما تخلف عنك رجل من الأنصار. ثم قال: المقداد بن عمرو: يا رسول الله امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: 24] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ما دامت عين تطرف. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «أشيروا عليّ أيها الناس» . وهو يريد الأنصار(3/376)
لأنهم قالوا له حين بايعوه على العقبة إنا براء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ونساءنا فكان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوف أن يكون الأنصار لا ترى عليهم نصرته إلا على عدوّ دهمه بالمدينة. فقام سعد بن معاذ فقال:
لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجل. قال: قد آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق نبيا لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدوّنا، إنا بالصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك بنا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشطه قول سعد ثم قال:
«سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم» .
ولنرجع إلى التفسير. قوله فِي الْحَقِّ أي في تلقي النفير بعد ما تبين أي بعد إعلام النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم هم المنصورون وجدالهم قولهم ما كان خروجنا إلا للعير.
وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب وذلك لكراهتهم القتال كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ المتيقن لمشاهدة أسبابه من قلة العدد والعدد. روي أنه ما كان منهم إلا فارسان. وانتصب بإضمار «اذكر» . قوله وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وقوله أَنَّها لَكُمْ بدل من إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وهما العير أو النفير وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ أي تتمنون أن يكون لكم العير لأنها الطائفة التي لا حدة لها ولا شدّة. والشوكة الحدّة مستعارة من واحدة الشوك وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ يثبته ويعليه بِكَلِماتِهِ بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة من إنزال الملائكة وأسر الكفرة وقتلهم وطرحهم في قليب بدر وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أي يستأصلهم. والدابر الآخر يعني أنكم تريدون العاجل وسفساف الأمور والله يريد معاليها وما يرجع إلى تقوية الدين وشتان ما بين المرادين. قوله لِيُحِقَّ الْحَقَّ متعلق بمحذوف أي لإظهار الإسلام وإبطال الكفر. فعل ما فعل وإنما قدّر المحذوف متأخرا ليفيد معنى الاختصاص أي ما فعل ذلك إلا لتحقيق الحق وإبطال الباطل وقيل:
يتعلق ب يَقْطَعَ فإن قيل: الحق حق لذاته والباطل باطل في ذاته وما ثبت للشيء لذاته فإنه يمتنع تحصيله بجعل جاعل. قلنا: المراد إظهار كون الحق حقا والباطل باطلا وذلك يكون تارة بإظهار الدلائل والبيان، وتارة بتقوية رؤساء الحق وقهر رؤساء الباطل. فإن قيل: أليس في الكلام تكرار؟ قلنا: لا إذ المراد بالأوّل تثبيت ما وعده في هذه الواقعة من الظفر بالأعداء، والمراد الثاني إعلاء الإسلام ومحق الكفر. والحاصل أن الأول جزئي أي(3/377)
أنتم تريدون العير والله يريد إهلاك النفير، والثاني كلي يشمل هذه القضية وغيرها من القضايا التي حصل في ضمنها إعلاء كلمة الله وقمع بكلمة الكفر. احتجت الأشاعرة بقوله كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ وقوله لِيُحِقَّ الْحَقَّ على أن الأعمال والعقائد كلها بخلق الله وبتكوينه ولا يمكن أن يقال: المراد من إظهار الحق وضع الدلائل عليه لأن هذا المعنى حاصل بالنسبة إلى المسلم والكافر وقبل هذه الواقعة وبعدها فلا يبقى للتخصيص فائدة.
والمعتزلة تمسكوا بالآية على إبطال قول من يقول إنه لا باطل ولا كفر إلا والله مريد له، لأن ذلك ينافي إرادة تحقيق الحق وإبطال الباطل. وأجيب بأن اللام في الْحَقَّ ينصرف إلى المعهود السابق أي في هذه القضية فلم قلتم: إنه كذلك في جميع الصور وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أي الكافرون أو المشركون كقوله وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ [التوبة: 32] وفي موضع آخر وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف: 90] وقوله إِذْ تَسْتَغِيثُونَ بدل من قوله وَإِذْ يَعِدُكُمُ وقيل: يتعلق بقوله لِيُحِقَّ الْحَقَّ واستغاثتهم أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال طفقوا يدعون الله يقولون: يا غياث المستغيثين أغثنا.
وعن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف وإلى أصحابه ثلاثمائة، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو: اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فما زال كذلك حتى سقط رداؤه، فأخذه أبو بكر فألقاه على منكبه والتزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك منا شدّتك بالدعاء ربك فإنه سينجز لك ما وعدك.
ويروى أنه لما اصطف القوم قال أبو جهل: اللهم أولانا بالحق فانصره. ورفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده بالدعاء المذكور.
ومعنى تستغيثون تطلبون الإغاثة، يقول الواقع في بلية أغثني أي فرج عني فَاسْتَجابَ لَكُمْ، أَنِّي أي بأني مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ بكسر الدال وفتحها من أردفته إياه إذا أتبعته متعديا إلى مفعولين، أو من ردفته إذا أتبعته أي جئت بعده متعديا إلى مفعول واحد. ومعنى الأوّل جاعلين بعضهم أو مجعولين بعضهم تابعا لبعض أو أنفسهم تابعين للمؤمنين يحرسونهم أو لملائكة أخرى.
ومعنى الثاني تابعين بعضهم للبعض أو للمؤمنين يقدمونهم على ساقتهم يحفظونهم أو لغيرهم من الملائكة. واختلف في قتال الملائكة يوم بدر
فقيل: نزل جبرائيل في خمسمائة ملك على الميمنة وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي بن أبي طالب في صور الرجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم فقاتلت،
وقيل: قاتلت يوم بدر ولم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين. وعن أبي جهل أنه قال لابن مسعود: من أين كان ذلك الصوت الذي كنا نسمع ولا نرى شخصا؟ قال: من(3/378)
الملائكة. فقال أبو جهل: هم غلبونا لا أنتم.
وروي أن رجلا من المسلمين بينا هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه فنظر إلى المشرك قد خر مستلقيا وشق وجهه، فحدث الأنصاري رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: صدقت ذاك من مدد السماء.
وعن أبي داود المازني قال: تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي. قيل: لم يقاتلوا وإنما كانوا يكثرون السواد ويثبتون المؤمنين وإلا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا، وقد أجبنا عن هذه الشبهة في تفسير سورة آل عمران وكذا في تفسير قوله وَما جَعَلَهُ اللَّهُ الآية. وقد مر هنالك وقد بقي علينا بيان المتشابه فنقول: حذف لكم هاهنا لأن المخاطبين معلومون في قوله فَاسْتَجابَ لَكُمْ وقدم قُلُوبُكُمْ وأخر به في «آل عمران» ازدواجا بين الخطابين وعكس هاهنا ازدواجا بين الغائبين. ثم إن قصة بدر سابقة على قصة أحد فقيل في الأنفال إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ليستقر الخبر وجعله في آل عمران صفة لأن الخبر قد سبق والله أعلم.
التأويل:
كثرة السؤال توجب الملال وإنما سألوا ليكون لهم الأنفال فأجيبوا على خلاف ما تمنوا. وقيل: الأنفال لله والرسول قطعا لطريق الاعتراض والسؤال. وأصلحوا ما بينكم من الأخلاق الردية والهمم الدنية وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بالتسليم والائتمار زادَتْهُمْ إِيماناً بحسب تزايد الأنوار كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ فيه أنه أخرج المؤمن الحفي عن أوصاف البشرية إلى مقام العبودية بجذبات العناية كَما أَخْرَجَكَ من وطن وجودك بالحق وهو تجلي صفات الجمال والجلال وَإِنَّ فَرِيقاً هم القلب والروح لَكارِهُونَ للفناء عند التجلي، فإن البقاء محبوب عند كل ذي وجود يُجادِلُونَكَ أي الروح والقلب فِي مجيء الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ مجيئه كأنهم ينظرون إلى الفناء ولا يرون البقاء بعد الفناء كمن يساق إلى الموت وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ أيها السائرون إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إما الظفر بالأعداء وهي النفوس وإما عير الواردات الروحانية وغنائم الأسرار الربانية.
وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ أي أردتم أن لا تجاهدوا عدوّ النفس ذات المكر والحيلة والهوى، واستحليتم الواردات والشواهد الغيبية وذلك أن السير قسمان: سير السالكين على أقدام الطاعات وتبديل الصفات النفسانية إلى جنات الروحانية، وسير المجذوبين على أجنحة عنقاء الجذبات إلى وراء قاف الأنانية، فكان موسى من السالكين إلى ميقات ربه لم يجاوز طور النفس فكان مقامه مع الله المكالمة، وكان محمد من المجذوبين وكان سيره على جناح جبرائيل إلى سدرة المنتهى ومنها على رفرف الجذبة الإلهية إلى قاب قوسين أو أدنى، فكان مكانه المشاهدة فمن العناية أن لا يكل الله السائر إلى ما يوافق طبعه وهواه(3/379)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
كما قال وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ أي بجذباته وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ النفوس الأمارة بالسوء. إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ يعني استغاثة الروح والقلب من النفس إلى الله عند استيلاء صفاتها بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ هم الصفات الملكية والروحانية إِلَّا بُشْرى لَكُمْ بتبديل الأخلاق وَمَا النَّصْرُ بإهلاك النفس وصفاتها إلا بتجلي صفته القهارية إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يوصل إليه إلا بعد فناء الوجود حَكِيمٌ في كل ما يفعل بمن يفعل والله أعلم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 11 الى 19]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
القراآت:
يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ ابن كثير وأبو عمرو. يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ من باب الأفعال: أبو جعفر ونافع. الباقون يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ من باب التفعيل. ويقال من الإنزال: ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو عمر. والآخرون: بالتشديد رَمى بالإمالة:
حمزة وعلي وخلف ويحيى. مُوهِنُ من الأفعال كَيْدِ بالنصب: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وسهل ورويس مُوهِنُ من الأفعال كَيْدِ بالجر للإضافة: حفص. الباقون مُوهِنُ بالتشديد كَيْدِ بالنصب وَأَنَّ اللَّهَ بالفتح: ابن عامر وأبو جعفر ونافع وحفص والمفضل. الباقون: بالكسر.
الوقوف:
الْأَقْدامَ هـ ط لتعلق «إذ» بمحذوف هو «اذكر» . الَّذِينَ آمَنُوا ط كُلَّ بَنانٍ ط رَسُولَهُ
الأوّل جْ عِقابِ
هـ النَّارِ هـ الْأَدْبارَ هـ جَهَنَّمُ ط الْمَصِيرُ هـ ط قَتَلَهُمْ ص لعطف المتفقتين رَمى ج لاحتمال أن تكون الواو(3/380)
مقحمة واللام متعلقا بما قبله واحتمال أن تكون عاطفة على وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أو على محذوف أي لتستبشروا وليبلى حَسَناً ط عَلِيمٌ ط الْكافِرِينَ هـ الْفَتْحُ ج للفصل بين الجملتين المتضادتين مع العطف خَيْرٌ لَكُمْ ج لذلك نَعُدْ ج كَثُرَتْ ط لمن قرأ «وإن» بالكسر الْمُؤْمِنِينَ هـ.
التفسير:
قال في الكشاف إِذْ يُغَشِّيكُمُ «إذ» بدل ثان من إِذْ يَعِدُكُمُ أو منصوب بالنصر أو بما في عند الله من معنى الفعل أو بما جعله الله أو بإضمار اذكروا وأَمَنَةً مفعول لأجله ومِنْهُ صفة لها أي أمنة حاصلة لكم من عند الله. ولما كان غشيان النعاس وكذا إغشاؤه وتغشيته متضمنا لمعنى تنعسون كان فاعل الفعل المعلل والعلة واحدا كما هو شريطة انتصاب المفعول له. والمعنى إذ تنعسون لأمنتكم أو يغشاكم النعاس فتنعسون أمنا. وجوّز على قراءة الإغشاء والتغشية أن تكون الأمنة بمعنى الإيمان أي ينعسكم إيمانا منه. وجوّز أن ينتصب الأمنة على أنها للنعاس الذي هو فاعل يُغَشِّيكُمُ أي يغشاكم النعاس لأمنه على أن إسناد الأمن إلى النعاس إسناد مجازي وهو لأصحاب النعاس على الحقيقة، أو على أن المراد أنه أنامكم في وقت كان من حق النعاس في مثل ذلك الوقت المخوف أن لا يقدم على غشيانكم وإنما غشاكم أمنة حاصلة له من الله لولاها لم يغشكم على طريقة التمثيل والتخييل، وقد مر فوائد هذا النعاس في سورة آل عمران. ومن نعم الله تعالى عليهم في تلك الواقعة إنزال المطر عليهم وكان فيه فوائد: إحداها: تحصيل الطهارة، والثانية: إذهاب رجز الشيطان. وقيل: هو الجنابة التي أصابتهم لأنها من تخييل الشيطان ولا تكرار لأن الأولى عام وهذه خاص. وقيل: المراد المني لأنه شيء مستخبث مستقذر وعلى هذا يكون في الآية دلالة على نجاسة المني لقوله وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر: 5] وقيل: المراد وسوسة الشيطان إليهم وتخويفه إياهم من العطش وذلك أن المشركين سبقوهم إلى الماء ونزل المؤمنون في كثيب أعفر تسوخ فيه الأقدام على غير ماء فناموا فاحتلم أكثرهم فتمثل لهم إبليس في صورة إنسان فقال لهم: أنتم يا أصحاب محمد تزعمون أنكم على الحق وأنكم تصلون على غير وضوء وعلى الجنابة وقد عطشتم، ولو كنتم على حق لما غلبكم هؤلاء على الماء وما ينتظرون بكم إلا أن يجهدكم العطش فإذا قطع العطش أعناقكم مشوا إليكم فقتلوا من أحبوا وساقوا بقيتكم إلى مكة. فحزنوا حزنا شديدا وأشفقوا فأنزل الله المطر فمطروا ليلا حتى جرى الوادي واتخذ أصحاب رسول الله الحياض على عدوة الوادي وسقوا الركاب واغتسلوا وتوضأوا وتلبد الرمل الذي كان بينهم وبين العدوّ حتى ثبتت عليه الأقدام وكانت هذه ثالثة الفوائد وأشار إليها بقوله وَيُثَبِّتَ بِهِ(3/381)
أي بالماء الْأَقْدامَ وقيل: الضمير عائد إلى الربط الذي يدل عليه قوله لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ والمراد من تثبيت الأقدام الصبر في مواطن القتال، وذلك أن من كان قلبه ضعيفا فرّ ولم يقف فلما ربط الله على قلوبهم أي قوّاها ثبتت أقدامهم ومعنى «على» أن القلوب امتلأت من ذلك الربط حتى كأن علاها وارتفع فوقها. قال الواحدي: يشبه أن يكون على صلة والمعنى وليربط قلوبكم بالنصر وما أوقع فيها من اليقين.
روي أن المطر نزل على الكافرين أيضا ولكن الموضع الذي نزل الكفار فيه كان موضع التراب فعظم الوحل وصار مانعا لهم من المشي والاستقرار.
فقوله وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ يدل مفهومه على أن حال الأعداء كان بخلاف ذلك. ومن جملة النعم قوله إِذْ يُوحِي رَبُّكَ وهو بدل ثالث من إِذْ يَعِدُكُمُ ومنصوب ب يُثَبِّتَ أو بذكر أني معكم الخطاب للملائكة والمراد أني معينكم على التثبيت فثبتوهم. وقيل: الخطاب للمؤمنين لأن المقصود من هذا الكلام إزالة التخويف والملائكة ما كانوا يخافون الكفار. وقوله فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا في هذا التثبيت وجوه: أحدها: أنه مفسر لقوله سَأُلْقِي فَاضْرِبُوا ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة، ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم واجتماعهما غاية النصرة. وثانيها:
أن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم وتصح عزائمهم ونياتهم في القتال فالإلهام من الملائكة كالوسوسة من الشياطين. وثالثها: أن الملائكة كانوا يتشبهون بصور رجال من معارفهم وكانوا يعدونهم النصر والظفر. ومعنى فَوْقَ الْأَعْناقِ أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها إزالة الرأس من الجسد. وقيل:
أراد ضرب إلهام لأن الرؤوس فوق الأعناق. والبنان الأصابع سميت بذلك لأن بها صلاح أحوال الإنسان التي يريد أن يقيمها من أبن بالمكان أي أقام به، والمراد نفي الأطراف من اليدين والرجلين. ثم اختلفوا فمنهم من قال: المراد أن يضربوهم كما شاؤا لأن ما فوق العنق هو الرأس وهو أشرف الأعضاء والبنان عبارة عن أضعف الأعضاء فذكر الأشرف والأخس تنبيها على كل الأعضاء. بوجه آخر الضرب إما وقع على مقتل أو غير مقتل، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معا. ومنهم من قال: الأوّل إشارة إلى القتل، وقطع البنان عبارة عن إفناء آلات المدافعة والمحاربة ليعجزوا عن القتال. وجوّز في الكشاف أن يكون قوله سَأُلْقِي إلى قوله كُلَّ بَنانٍ تلقينا للملائكة ما يثبتونهم به أي قولوا لهم قول سألقي، أو يكون واردا على الاستئناف كأنهم قالوا: كيف نثبتهم؟ فقيل: قولوا لهم قول سألقي. فالضاربون على هذا هم المؤمنون لِكَ
العقاب العاجل من الضرب والقتل وقع عليهم أَنَّهُمْ شَاقُّوا
بسبب مشاقتهم ومخالفتهم لَّهَ وَرَسُولَهُ
ثم بيّن أن الذي نزل بهم في ذلك اليوم شيء يسير وقدر نزر في جنب ما أعد الله لهم ولأمثالهم في(3/382)
الآجل فقال مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
أي له. والكاف في لِكَ
للرسول أو لكل من له أهلية الخطاب، في ذلِكُمْ للكفرة على طريقة الالتفات ومحله الرفع تقديره: ذلكم العذاب المعجل من القتل والأسر أو العذاب ذلكم، أو النصب والتقدير: عليكم ذلكم أي الزموه فذوقوه أو هو كقولك زيدا فاضربه. قال في الكشاف:
وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عطف على ذلِكُمْ في وجهيه أو نصب على أن الواو بمعنى «مع» والمعنى: ذوقوا هذا العذاب العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة. فوضع الظاهر موضع ضمير الخطاب. قلت: ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر أي وأن للكافرين عذاب النار حق أو بالعكس أي والحكم والشأن أن للكافرين. وفي ذكر الذوق إشارة إلى أن عذاب الدنيا شيء قليل بالنسبة إلى عذاب الآخرة.
قوله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً قال الأزهري: أصل الزحف هو أن يزحف الصبي على استه قبل أن يقوم، شبّه بزحف الصبي مشي الطائفتين تتمشى كل فئة مشيا رويدا إلى الفئة الأخرى تتدانى للضرب. فانتصابه على الحال من الفريقين أي، إذا لقيتموهم متزاحفين هم وأنتم، ويجوز أن يكون حالا من الذين كفروا.
والزحف الجيش الدهم الذي يرى لكثرته كأنه يزحف أي يدب دبيبا سمي بالمصدر، والجمع زحوف والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال وهم كثير جم وأنتم قليل فلا تفروا فضلا عن حالتي المداناة والمساواة، ويجوز أن يكون حالا من المخاطبين وهم المؤمنون أي إذا ذهبتم إليهم للقتال فلا تنهزموا ومعنى فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ لا تجعلوا ظهوركم مما يليهم أو هو تقدمة نهي عن الفرار يوم حنين حين تولوا مدبرين وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفا. وفي قوله مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ أمارة عليه، ثم بين أن الانهزام محرم إلا في حالتين فقال إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ هو المكر بعد الفرّ يخيل إلى عدوّه أنه منهزم ثم يعطف عليه وهو نوع من خدع الحرب أَوْ مُتَحَيِّزاً أي منحازا إِلى فِئَةٍ
إلى جماعة أخرى من المسلمين سوى الفئة التي هو فيها. وعلى هذا انتصب مُتَحَرِّفاً ومُتَحَيِّزاً على أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال ووجد صحته من أنه ليس في الكلام نفي ظاهر هو أنه في معنى النفي كأنه قيل: ومن لا يقدم أو لا يعطف عليهم في حال من الأحوال إلا في حال التحرف أو التحيز، ويجوز أن يكون الاستثناء تاما على أن الموصوف محذوف والتقدير:
ومن يولهم دبره إلا رجلا منهم متحرفا أو متحيزا. ووزن متحيزا «متفيعل» لأنه من حاز يجوز فعل به ما فعل بأيام، لو كان «متفعلا» لقيل «متحوزا» .
عن ابن عمر: خرجت سرية وأنا فيهم ففروا، فلما رجعوا إلى المدينة استحيوا فدخلوا البيوت فقلت: يا رسول الله نحن(3/383)
الفرارون فقال: بل أنتم العكارون وأنا فئتكم.
والعكرة البكرة. وعن ابن عباس أن الفرار من الزحف في غير هاتين الصورتين من أكبر الكبائر. واحتج القاضي بالآية على القطع بوعيد الفساق من أهل الصلاة. وأجيب بأنه مشروط بعدم العفو. وعن أبي سعيد الخدري والحسن وقتادة والضحاك أن هذا الحكم مختص بيوم بدر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان حاضرا بنفسه، لأنه تعالى وعدهم النصرة، ولأنه كان أول جهاده فناسب التشديد ولهذا منع من أخذ الفداء. وأكثر المفسرين على أنه عام في جميع الحروب لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. قال أكثر المفسرين: إن المؤمنين لما كسروا أهل مكة وقتلوا وأسروا أقبلوا على التفاخر وكان القائل يقول قتلت وأسرت فقيل لهم: فلم تقتلوهم. والفاء جواب شرط محذوف تقديره إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن صلى الله عليه وسلم قتلهم لأنه هو الذي أنزل الملائكة وألقى الرعب في قلوبهم وشاء النصر والظفر وقوّى قلوبكم وربط عليها.
ولما طلعت قريش قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذبون رسولك اللهم إني أسألك ما وعدتني» فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها فقال: - لما التقى الجمعان- لعلي: أعطني قبضة من حصباء الوادي فأعطاه فرمى بها في وجوههم وقال: «شاهت الوجوه» فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا فنزلت وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
أي وما رميت أنت يا محمد إذ رميت وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أثبت الرمية للرسول صلى الله عليه وسلم لأن صورتها وجدت منه عليه السلام ونفاها عنه لأن أثرها فوق حد تأثير القوى البشرية.
قال حكيم بن حزام: لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء إلى الأرض كأنه صوت حصاة وقعت في طست، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصباء فانهزمنا،
وعن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: أقبل أبي بن خلف يوم أحد إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريده فاعترض له رجال من المؤمنين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فخلوا سبيله فاستقبله مصعب ابن عمير أخو بني عبد الدار ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبيّ من فرجة بين سابغة البيضة والدرع فطعنه بحربته فسقط أبي من فرسه ولم يخرج من طعنته دم وكسر ضلعا من أضلاعه، فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا له: ما أعجزك إنما هو خدش فقال:
والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لما أتوا أجمعين فمات أبيّ إلى النار قبل أن يقدم مكة فأنزل الله في ذلك وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى
وقيل: نزلت في خيبر حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوس فرمى منها بسهم فأقبل السهم يهوي حتى قتل كنانة بن أبي الحقيق وهو على فراشه.
وأصح الأقوال هو الأوّل كيلا يدخل في أثناء القصة كلام أجنبي، نعم لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقائع لأن العبرة بعموم اللفظ لا(3/384)
بخصوص السبب. وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً وليعطهم عطاء جميلا فعل ما فعل وما فعله إلا لذلك. قال القاضي: ولولا أن المفسرين أجمعوا على أن معنى البلاء هاهنا النعمة وإلا لكان يحتمل المحنة أي الذي فعله تعالى يوم بدر كان كالسبب في حصول تكليف شاق عليهم فيما بعد ذلك من الغزوات. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لكلامكم عَلِيمٌ بضمائركم. وهذا يجري مجرى التحذير والترهيب كيلا يغتر العبد بظواهر الأمور ذلِكُمْ الغرض أي الغرض ذلكم وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ إعرابه كما مر في قوله وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ [الأنفال: 14] قال ابن عباس: ينبىء رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول إني قد أوهنت كيد عدوّك حتى قتلت جبابرتهم وأسرت أشرافهم.
قال السدي والكلبي والحسن: كان المشركين حين خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة أخذوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين فأنزل الله تعالى خطابا لهم على سبيل التهكم إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ
وقال عكرمة: قال المشركون:
اللهم لا نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق فنزلت. وروي أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أفجر وأقطع للرحم فأحنه اليوم أي فأهلكه. وقيل: إنه خطاب للمؤمنين الذين استغاثوا الله وطلبوا النصر. ثم خاطب الكفار بقوله وَإِنْ تَنْتَهُوا أي عن عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وأسلم وإن تعودوا لمحاربته نعد لنصرته عليكم.
وجوّز بعضهم أن يكون الخطاب في الجميع للمؤمنين أي إن تكفوا عن المنازعة في أمر القتال أو عن طلب الفداء فهو خير لكم وَإِنْ تَعُودُوا إلى تلك المنازعات نَعُدْ إلى ترك نصرتكم. ثم ختم الآية بقوله وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ تقديره على قراءة الفتح ولأن الله معين المؤمنين كان ذلك.
التأويل:
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً فيه تغليب الحال إلى ضده بأمر التكوين كما قال للنار كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [الأنبياء: 69] كذلك قال للخوف كن أمنا على محمد وأصحابه فكان يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ من سماء الروحانية ماء الإلهام الرباني لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من دنس الصفات النفسانية والحيوانية وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ وساوس الشيطان وهواجسه وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ بالصدق والإخلاص والمحبة والتوكل واليقين وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ على طريق الطلب أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا فيه أن التثبيت من الله لا من غيره، وكذلك إلقاء الرعب في قلوبهم وغير ذلك. إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إذا لقيتم كفار النفوس وصفاتها مجتمعين على قهر القلوب وصفاتها فلا تنهزموا فتقعوا عن صراط الطلب إِلَّا مُتَحَرِّفاً إلا قلبا يتحرف ليتهيأ لأسباب القتال مع النفس أو راجعا إلى الاستمداد من(3/385)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
الروح وصفاتها أو إلى ولاية الشيخ أو إلى حضرة الله تعالى مستمدا في قمع النفس وقهرها بطريق المجاهدة فإنها تورث المشاهدة فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ نفى القتل عن الصحابة بالكلية أو حاله إلى نفسه فقال وَلكِنَّ ولم ينف الرمي عن النبي بالكلية حيث قال إِذْ رَمَيْتَ لأن الله تعالى كان قد تجلى بالقدرة وكأن يده يد الله كما كان حال عيسى حين تجلى له بصفة الإحياء كان يحيي الموتى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ فيجتهدوا في متابعته إلى أن يبلغوا هذا المقام إِنْ تَسْتَفْتِحُوا أي تفتحوا أبواب قلوبكم بمفتاح الصدق والإخلاص وترك ما سوى الله في طلب التجلي فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ بالتجلي فأنه تعالى متجل في ذاته أزلا وأبدا فلا تغير له وإنما التغير في أحوال الخلق، فهم عند انغلاق أبواب قلوبهم محرومون وعند انفتاح أبوابها محظوظون وَإِنْ تَنْتَهُوا عن طلب غير الله فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا إلى طلب الدنيا وزخارفها نَعُدْ إلى خذلانكم ونكالكم ونكلكم إلى أنفسكم ودواعيها وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ لا يقوم شيء من الدنيا والآخرة وما فيهما مقام شيء مما أعدّ لأهل الله وخاصته.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 30]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)
القراآت:
وَلا تَوَلَّوْا بالإدغام: البزي وابن فليح.
الوقوف:
تَسْمَعُونَ هـ ج للآية وللعطف لا يسمعون هـ لا يَعْقِلُونَ هـ لَأَسْمَعَهُمْ ط مُعْرِضُونَ هـ لِما يُحْيِيكُمْ ج لعطف المتفقتين مع اعتراض الظرف تُحْشَرُونَ هـ خَاصَّةً ج لما مر الْعِقابِ هـ تَشْكُرُونَ هـ تَعْلَمُونَ هـ فِتْنَةٌ(3/386)
لا للعطف عَظِيمٌ
هـ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ط الْعَظِيمِ هـ أَوْ يُخْرِجُوكَ ط وَيَمْكُرُ اللَّهُ ط الْماكِرِينَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه بعد ذكر نحو من قصة بدر والغنائم. أدّب المؤمنين أحسن تأديب فأمرهم بطاعته وطاعة رسوله في قسمة الغنائم وغيرها ثم قال وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ فوحد الضمير لأن التولي إنما يصح في حق الرسول بأن يعرضوا عنه وعن قبول قوله وعن معونته في الجهاد، أو لأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقوله وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62] وكقولك الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان وجوّز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة أي لا تولوا عن هذا الأمر وامتثاله وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ لم يبين أنهم ماذا يسمعون إلا أنه يعلم من مساق الكلام في السورة أن المراد وأنتم تسمعون دعاءه إلى الجهاد أو المراد وأنتم تسمعون الأمر المذكور، أو وأنتم تصدقون بدليل قوله وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ لأنهم ليسوا بمصدقين فلا يصح دعوى السماع منهم. وتحقيق ذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يقبل التكليف ويلتزمه إلا بعد أن يسمعه، فجعل السماع كناية عن القبول، ثم أكد التكاليف المذكورة بقوله إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ أي إن شر من يدب على الأرض، أو إن شر البهائم. والفرق بين التفسيرين أن الأوّل حقيقة إلا أنه ذكر في معرض الذم كقولك لمن لا يفهم الكلام هو شبح وجسد. والثاني مذكور في معرض التشبيه بالبهائم بل جعلهم شرّها لجهلهم وعدولهم عن الانتفاع بالحواس كقوله بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: 179] ومعنى عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه وقضائه. ثم قال وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ أي في هؤلاء الصم البكم خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ عن ابن جريج: هم المنافقون. وعن الحسن: أهل الكتاب، وقيل: بنو عبد الدار بن قصي لم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويد بن حرملة كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه فقتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء.
وروي أنهم سألوا النبي أن يحيي لهم قصي ابن كلاب وعيره من أمواتهم ليخبروهم بصحة نبوّته، فبيّن تعالى أنه لو علم فيهم خيرا وهو انتفاعهم بقول هؤلاء الأموات لأحياهم حتى يسمعوا كلامهم ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون هذا الكلام إلا على سبيل العناد والتعنت. وأنهم لو أسمعهم الله كلامهم لتولوا عن قبول الحق ولأعرضوا عنه على عادتهم المستمرة.
واعلم أن معلومات الله تعالى على أربعة أقسام:
جملة الموجودات، وجملة المعدومات، وإن كل واحد من الموجودات لو كان معدوما فكيف يكون حاله، وإن كل واحد من المعدومات لو كان موجودا فكيف يكون حاله،(3/387)
والأولان علم بالواقع، والآخران الباقيان علم بالمقدر ومن هذا القبيل. قوله تعالى وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وتقدير الكلام لو حصل فيهم خيرا لأسمعهم الله الحجج والمواعظ فعبر عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده، وأورد على الآية أنها على صورة قياس شرطي فإذا حذفنا الحد الأوسط بقيت النتيجة: لو علم الله فيهم خيرا لتولوا ولكن كلمة «لو» وضعت للدلالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيكون التولي منتفيا لأجل انتفاء علم الله الخير فيهم بل لأجل انتفاء الخير فيهم. لكن انتفاء التولي خير من الخيرات فأوّل الكلام يقتضي نفي الخير عنهم وآخره يقتضي. حصول الخير فيهم وهذا تناقض والجواب المنع من أن الحد الأوسط مكرر لأن المراد بالإسماع الأوّل إسماع التفهم وإلزام القبول، والمراد بالإسماع الثاني صورة الإسماع فحسب، وأيضا كلمة «لو» في المقدمة الثانية هي التي تجيء للمبالغة بمعنى «أن»
كقوله صلى الله عليه وسلم: «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه»
فإذا لا تعلق لإحدى الجملتين بالأخرى فلا قياس. واستدلت الأشاعرة بالآية على أن صدور الإيمان عن الكافر محال لأن الصادق قد أخبر أنهم على تقدير الإسماع معرضون وخلاف علمه وخبره محال. وقال في الكشاف: لو علم الله فيهم خيرا أي انتفاعا باللطف للطف بهم حتى يسمعوا سماع المصدقين ولو لطف بهم لما نفع فيهم اللطف فلذلك منعهم ألطافه، أو ولو لطف بهم فصدقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا وتزييف هذا التفسير سهل. ثم علم المؤمنين أدبا آخر فقال اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ فوحد الضمير كما مر. والمراد بالاستجابة الطاعة والامتثال، وبالدعوة البعث والتحريض.
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على باب أبيّ بن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال: ما منعك عن إجابتي؟ قال: كنت أصلي. قال: ألم تخبر فيما أوحي إليّ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ؟
قال: لا جرم لا تدعوني إلا أجبتك،
وقد يتمسك الفقهاء بهذا الخبر على أن ظاهر الأمر للوجوب وإلا فلم يتوجه اللوم. ثم قيل: إن هذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: إن دعاءه كان لأمر لم يحتمل التأخير وإذا وقع مثله للمصلي فله أن يقطع صلاته. ثم الإحياء لا يمكن أن يحمل على نفس الحياة لأن إحياء الحي محال فذكروا فيه وجوها: قال السدي: هو الإسلام والإيمان لأن الإيمان حياة القلب والكفر موته بدليل قوله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ [الأنعام: 95] أي المؤمن من الكافر. وقال قتادة: يعني القرآن لأن فيه العلم الذي به الحياة الحقيقية. والأكثرون على أنه الجهاد لأن وهن أحد العدوّين سبب حياة الآخر، ولأن الجهاد سبب حصول الشهادة التي توجب الحياة الدائمة لقوله بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [آل عمران: 169] ، وقيل: إنه عام في كل حق وصواب فيدخل فيه القرآن(3/388)
والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة. والمراد لما يحييكم الحياة الطيبة كما قال فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [آل عمران: 169] ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ اختلف الناس فيه بحسب اختلافهم في مسألة الجبر والقدر فنقل الواحدي عن ابن عباس والضحاك:
يحول بين الكافر وطاعته ويحول بين المطيع ومعصيته. فالسعيد من أسعده الله والشقي من أضله الله، والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ويخلق فيها القصود والدواعي والعقائد حسبما يريد، وتقرير ذلك من حيث العقل وجوب انتهاء جميع الأسباب إليه. ثم ختم الآية بقوله وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ليعلم أنهم مع كونهم مجبورين خلقوا مثابين ومعاقبين إما للجنة وإما للنار لا يتركون مهملين معطلين. وقالت المعتزلة: إن من حال الله بينه وبين الإيمان فهو عاجز وأمر العاجز سفه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وإنه تعالى أمر بالاستجابة لله وللرسول فلو لم تكن الإجابة ممكنة فكيف يأمر بها، ولو كان الأمر بغير المقدور جائزا لكان القرآن حجة للكفار على الرسول لا له عليهم. فإذا لا يمكن حمل الآية على ما قاله أهل الجبر. فتأويلها أن الله يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بسبب الموت يدل عليه قوله وَأَنَّهُ أي وأن الشأن أو الله إليه تحشرون والمقصود الحث على الطاعة قبل نزول سلطان الموت، أو أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يتمناه بقلبه تسمية للشيء باسم محله فكأنه قيل: بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على طول البقاء فإن الأجل يحول دون الأمل أو المراد سارعوا إلى الطاعة ولا تمتنعوا عنها بسببب ما تجدون في قلوبكم من الضعف والجبن فإن الله مقلب القلوب من حالة العجز والجبن إلى القوة والشجاعة وقد يبدل بالأمن خوفا وبالخوف أمنا، وبالذكر نسيانا وبالنسيان ذكرا، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى، فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب من أفعال القلوب فلا. وقال مجاهد: المراد بالقلب العقل والمعنى بادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون. ولا تأمنوا زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف فلا يقدر على الكفر والإيمان. وعن الحسن: إن الغرض التنبيه على أنه تعالى مطلع على بواطن العبد وضمائره، وإن قربه من عبده أشد من قرب قلبه منه كقوله وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ثم حذرهم الفتن والاختلاف فقال وَاتَّقُوا فِتْنَةً قيل: هو العذاب. وقيل: افتراق الكلمة. وقيل: إقرار المنكر بين أظهرهم. وقوله لا تُصِيبَنَّ إما أن يكون جوابا للأمر وجاز دخول النون المؤكدة فيه مع خلوه من الطلب لأن فيه معنى النهي كقولك: انزل عن الدابة لا تطرحك وإن شئت قلت لا تطرحنك. وعلى هذا «من» في مِنْكُمْ للتبعيض. وقيل: الجواب محذوف والمعنى إن أصابتكم لا تصيب بعضكم وهم الظالمون حال كونهم خَاصَّةً(3/389)
ولكنها تعم الظالمين وغيرهم لأنه يحسن من الله تعالى ذلك بحكم المالكية أو لاشتمال ذلك على نوع من الصلاح، وإما أن يكون نهيا بعد أمر و «من» للبيان كأنه قيل: احذروا ذنبا أو عقابا. ثم قيل لا تصيبنكم تلك العقوبة خاصة على ظلمكم كأن الفتنة نهيت عن ذلك الاختصاص على طريق الاستعارة. وهكذا إن جعلت الجملة الناهية صفة للفتنة على إرادة القول أي اتقوا فتنة مقولا فيها لا تصيبن كقوله:
جاؤا بمذق هل رأيت الذئب قط عن الحسن: نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة على ما قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها زمانا وما رأينا أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها. وعن السدي: نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الجمل.
وروي أن الزبير كان يسامر النبي صلى الله عليه وسلم يوما إذ أقبل علي فضحك إليه الزبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف حبك لعلي؟ فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني أحبه كحبي لولدي أو أشد حبا. قال: فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟
ثم ختم الآية بقوله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ والمراد منه الحث على لزوم الاستقامة. ثم ذكرهم نعمه عليهم فقال وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ وانتصابه على أنه مفعول به أي وقت أنكم قَلِيلٌ يستوي فيه الواحد والجمع مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ أرض مكة قبل الهجرة تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ يستلبونكم لكونهم أعداء لكم فَآواكُمْ إلى المدينة وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ بمظاهرة الأنصار وبإمدادكم بالملائكة يوم بدر وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الغنائم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي ينقلكم من الشدة إلى الرخاء، ومن البلاء إلى النعماء والآلاء حتى تشتغلوا بالشكر والطاعة فكيف يليق بكم أن تشتغلوا بالمنازعة في الأنفال؟، ثم منعهم من الخيانة في الأمانة.
يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحا من أرض الشام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة بن مروان بن المنذر وكان مناصحا لهم لأن عياله وماله في أيديهم. فبعثه إليهم فقالوا له: ما ترى هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار إلى حلقه إنه أي إن حكم سعد بن معاذ هو الذبح. قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله فنزلت الآية. فشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال:
والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله عليّ. فمكث سبعة أيام حتى خرّ مغشيا عليه ثم تاب الله عليه فقيل له: قد تيب عليك في نفسك. فقال: لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني. فجاءه فحله بيده فقال: إن من تمام توبتي أن(3/390)
أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي. فقال صلى الله عليه وسلم: يجزيك الثلث أن تتصدق به.
وقال السدي: كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا فيفشونه ويلقونه إلى المشركين فنهاهم الله عن ذلك. وقال ابن زيد: نهاهم الله أن يخونوا كما صنع المنافقون يظهرون الإيمان ويسرون الكفر.
وعن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فعلم النبي صلى الله عليه وسلم خروجه وعزم على الذهاب إليه فكتب إليه رجل من المنافقين إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فنزلت.
وقال الزهري والكلبي: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة بخروج النبي صلى الله عليه وسلم إليها حكاه الأصم. قال القاضي: والأقرب أنها في الغنائم. فالخيانة فيها خيانة الله لأنها عطيته، وخيانة لرسوله لأنه القيم بقسمتها، وخيانة للمؤمنين الغانمين فلكل منهم فيها حق. قال: ويحتمل أن يراد بالأمانة كل ما تعبد به كأن معنى الآية إيجاب أداء التكاليف بأسرها في الغنيمة وغيرها على سبيل التمام والكمال من غير نقص ولا إخلال، ومعنى الخون النقص كما أن معنى الوفاء التمام فإذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت النقصان فيه، وقد استعير فقيل: خان الدلو الكرب، وخان الشتار السبب.
والكرب حبل قصير يوصل بالرشاء ويكون على العراقيّ سمي كربا لأنه يكرب من الدلو أي يقرب منه. واشتار العسل إذا اجتناه وجمعه. وتخونوا يحتمل أن يكون جزما داخلا في حكم النهي وأن يكون نصبا بإضمار أن كقوله وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة: 42] ومعنى الآية على الوجه العام لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه ورسوله بأن لا تستنوا به وأماناتكم فيما بينكم بأن لا تحفظوها وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله، أو تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عمدا لا سهوا. وقيل: وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن. ثم لما كان الداعي إلى الخيانة هو محبة الأموال والأولاد ولعل ما فرط من أبي لبابة كان بسبب ذلك نبه الله سبحانه على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك الحب فقال أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
أي أنها سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب أو هي محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون على حدوده في ذلك الباب وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
فعليكم أن تزهدوا في الدنيا وما يتعلق بها وتنوطوا هممكم بما يفضي إلى السعادات الروحانية الباقية. ويمكن أن يتمسك بالآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل لكونه مفضيا إلى الأجر العظيم عند الله هو أفضل من الاشتغال بالنكاح لأدائه إلى الفتنة. ثم رغب في التقوى التي توجب الإعراض عن محبة الأموال والأولاد وعن التهالك في شأنهم فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ في ارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر ويَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً فارقا بينكم وبين الكفار في الأحوال الباطنة(3/391)
بالاختصاص بالمعرفة والهداية وانشراح الصدر وإزالة الغل والحسد والمكر وسائر الأخلاق الذميمة والأوصاف السبعية والبهيمية، وفي الأحوال الظاهرة بإعلاء الكلمة والإظهار على أهل الأديان كلهم، وفي أحوال الآخرة بالثواب الجزيل والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة. وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ يستر عليكم في الدنيا صغائركم إن فرطت منكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ في دار الجزاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فإذا وعد بشيء وفى به أحسن الإيفاء. ومن عظيم فضله أنه يتفضل بذاته من غير واسطة وبدون التماس عوض وكل متفضل سواه فإنه لا يتفضل إلا بعد أن يخلق الله فيه داعية التفضل وبعد أن يمكن المتفضل عليه من الانتفاع بذلك. وبعد أن يكون قد تصوّر فيه ثوابا أو ثناء، أو حمله على ذلك رقة طبع أو عصبية وإلا فلا فضل في الحقيقة إلا لله سبحانه فلهذا وصفه بالعظم. ثم لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم بقولهم وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ ذكر رسوله نعمته عليه وذلك دفع كيد المشركين عنه حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في نجاته من مكرهم وفيما أتاح له من حسن العاقبة. والمعنى واذكر وقت مكرهم.
فإن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين: ذكروا أن قريشا اجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا شيخ من نجد ما أنا من تهامة دخلت مكة فسمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا. فقالوا: هذا من نجد لا بأس عليكم به. فقال أبو البختري من بني عبد الدار: رأيي أن تحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه وتسدوا بابه غير كوّة وتلقون إليه طعامه وشرابه منها وتتربصوا به ريب المنون، فقال إبليس: بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم. فقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما صنع واسترحتم. فقال: بئس الرأي يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما وتعطوه سيفا صارما فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا. فقال الشيخ: صدق هذا الفتى هو أجودكم رأيا. فتفرقوا على رأي أبي جهل مجمعين على قتله، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن الله له في الهجرة فأمر عليا عليه السلام فنام في مضجعه وقال له: اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه. وباتوا مترصدين فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا عليا فبهتوا وخيب الله سعيهم واقتصوا أثره فأبطل مكرهم.
ومعنى لِيُثْبِتُوكَ قال ابن عباس:
ليوثقوك ويسجنوك لأنه لا يقدر على الحركة وهو إشارة إلى رأي أبي البختري. وقوله أَوْ(3/392)
يَقْتُلُوكَ
إشارة إلى رأي أبي جهل. وقوله أَوْ يُخْرِجُوكَ أي من مكة إشارة إلى رأي هشام. وأنكر القاضي حديث إبليس في القصة وتصويره نفسه بصورة الإنس. قال: لأن ذلك التغيير إن كان بفعل الله فهو إعانة للكفار على المكر، وإن كان من فعل إبليس فلذلك لا يليق بحكمة الله تعالى لأن إقدار إبليس على تغيير صورة نفسه إعانة له على الإغواء والتلبيس. هذا ما حكى عن القاضي وذهب عليه أن هذا الاعتراض وارد على خلق إبليس نفسه وعلى خلق سائر أسباب الشرور والآثام وقد أجبنا عن أمثال ذلك مرارا، وقد عرفت تفسير المكر في سورة آل عمران. والحاصل أنهم احتالوا في إبطال أمر محمد والله نصره وقواه فضاع فعلهم وظهر صنع الله. فإن قيل: لا خير في مكرهم فكيف قال والله أنه خير الماكرين؟ وأجيب بأن المراد أقوى الماكرين، أو المراد أنه لو قدر في مكرهم خير لكان الخير في مكره أكثر، أو المراد أنه في نفسه خير.
التأويل:
إن شر من دب في الوجود هم الصُّمُّ عن استماع كلام الحق. يسمع القلب والقبول الْبُكْمُ عن كلام الحق والكلام مع الحق. والأصم لا بد أن يكون أبكم فلذلك خصا بالذكر الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أنهم لماذا خلقوا فلا جرم يؤل حالهم من أن يكونوا خير البرية إلى أن يكونوا شرّ الدواب اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ إنه تعالى يطلب بالمحجة من العبد الإجابة كما يطلب العبد للحاجة منه الإجابة، فالاستجابة لله إجابة الأرواح للشهود وإجابة القلوب للشواهد، وإجابة الأسرار للمشاهدة، وإجابة الخفي للفناء في الله، والاستجابة للرسول بالمتابعة لما يحييكم يفنيكم عنكم ويبقيكم به وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بسطوات أنوار جماله وجلاله بين مرآة قلبه وظلمة أوصاف قالبه وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ بالفناء عنكم والبقاء به وَاتَّقُوا أيها الواصلون فتنة ابتلاء النفوس بحظوظها الدنيوية والأخروية. لا تصيب النفوس الظالمة فقط بل تصيب ظلمتها الأرواح النورانية والقلوب الربانية فتجتذبها من حظائر القدس ورياض الأنس إلى حضائض صفات الإنس وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ يعاقب الواصلين بالانقطاع والاستدراج عند الالتفات إلى ما سواه وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ أيها الأرواح والقلوب قَلِيلٌ لم ينشأ بعد لكما الصفات الأخلاق الروحانية مُسْتَضْعَفُونَ من غلبات صفات النفس لإعواز التربية بألبان آداب الطريقة ولانعدام جريان أحكام الشريعة عليكم إلى أوان البلوغ. يخافون أن تسلبكم النفوس وصفاتها والشيطان وأعوانه فَآواكُمْ إلى حظائر القدس وَأَيَّدَكُمْ بالواردات الربانية وَرَزَقَكُمْ المواهب الطاهرة من لوث الحدوث. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يعني الأرواح والقلوب المنوّرة بنور الإيمان المستسعدة بسعادات العرفان لا تَخُونُوا اللَّهَ فيما آتاكم من المواهب(3/393)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
فتجعلوها شبكة لاصطياد الدنيا ولا تخونوا الرسول بترك السنة والقيام بالبدعة وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ التي هي محبة الله، وخيانتها تبديلها بمحبة المخلوقات وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ إنكم تبيعون الدين بالدنيا والمولى بالأولى فِتْنَةٌ
يختبركم الله بها بالتمييز الموافق من المنافق، والصديق من الزنديق. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بهذه المقامات والكرامات إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ من غير الله يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً يفض عليكم من سجال جماله وجلاله القديم ما تفرقون به بين الحدوث والقدم وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سيئات وجودكم الفاني وَيَغْفِرْ لَكُمْ يستركم بأنوار جماله وجلاله وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وهو البقاء بالله بعد الفناء فيه لِيُثْبِتُوكَ أيها الروح في أسفل سافلين الطبيعة أو يعدموك بانعدام آثارك أَوْ يُخْرِجُوكَ من عالم الأرواح وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ يصلح حال أهل الصلاح البتة.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 31 الى 40]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
القراآت:
بما تعملون، بَصِيرٌ بتاء الخطاب: يعقوب.
الوقوف:
مِثْلَ هذا لا لأن الابتداء بأن هذا إلا أساطير الأولين قبيح الْأَوَّلِينَ هـ أَلِيمٍ هـ وَأَنْتَ فِيهِمْ ط يَسْتَغْفِرُونَ هـ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ ط لا يَعْلَمُونَ هـ وَتَصْدِيَةً ط تَكْفُرُونَ هـ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ط يُغْلَبُونَ ط لأن ما بعده مبتدأ يُحْشَرُونَ هـ لا لتعا اللام فِي جَهَنَّمَ ط الْخاسِرُونَ هـ ما قَدْ سَلَفَ ط لابتداء الشرط(3/394)
مع العطف الْأَوَّلِينَ هـ كُلُّهُ لِلَّهِ ط بَصِيرٌ هـ مَوْلاكُمْ ط النَّصِيرُ هـ.
التفسير:
لما حكى مكرهم في ذات محمد صلى الله عليه وآله حكى مكرهم في دينه.
وروي أن النضر بن الحرث خرج إلى الحيرة تاجرا واشترى أحاديث كليلة ودمنة وقصة رستم وإسفنديار، وكان يقعد مع المستهزئين والمقتسمين فيقرأ عليهم ويقول هذا مثل ما يذكره محمد من قصص الأوّلين، ولو شئت لقلت مثل قوله، وهذا منه ومن أمثاله صلف تحت الراعدة لأنهم لم يتوانوا في مشيئتهم لو ساعدتهم الاستطاعة.
ويروى عن النضر أو عن أبي جهل على ما في الصحيحين أن أحدهما قال ما معناه اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ الآية. وهذا أسلوب من العناد بليغ لأن قوله هُوَ الْحَقَّ بالفصل وتعريف الخبر تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين هذا هو الحق. ومعنى حِجارَةً مِنَ السَّماءِ الحجارة المسوّمة للعذاب أي إن كان القرآن هو المخصوص بالحقية فعاقبنا على إنكاره بالسجيل كما فعلت بأصحاب الفيل أو بنوع آخر من جنس العذاب الأليم. ومراده نفي كونه حقا فلذلك علق بحقيته العذاب كما لو علق بأمر محال فهو كقول القائل إن كان الباطل حقا فأمطر علينا حجارة.
وعن معاوية أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة. قال: أجهل من قومي قومك قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الحق إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له.
ثم شرع في الجواب عن شبهتهم فقال وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ اللام لتأكيد النفي دلالة على أن تعذيبهم بعذاب الاستئصال والنبي بين أظهرهم غير مستقيم عادة تعظيما لشأن النبي وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ قال قتادة والسدي: المراد نفي الاستغفار عنهم أي لو كانوا ممن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذبهم. وقيل: اللفظ عام لأن المراد بعضهم وهم الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المستضعفين المؤمنين فهو كقولك: قتل أهل المحلة فلانا وإنما قتله واحد منهم أو اثنان. وقيل: وصفوا بصفة أولادهم والمعنى وما كان الله معذب هؤلاء الكفار وفي علم الله أنه يكون لهم أولاد يؤمنون بالله ويستغفرونه، وفي علم الله أن فيهم من يؤل أمره إلى الإيمان كحكيم بن حزام والحرث بن هشام وعدد كثير ممن آمن يوم الفتح وقبله وبعده. وفي الآية دلالة على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب. قال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبي الله والاستغفار. أما النبي فقد مضى وأما الاستغفار فهو باق إلى يوم القيامة. ثم بين أنه يعذبهم إذا خرج الرسول من بينهم فقال وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وأي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم يعني لا حظ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة. قيل: لحقهم هذا العذاب(3/395)
المتوعد به يوم بدر. وقيل: يوم فتح مكة بدليل قوله وَهُمْ يَصُدُّونَ أي كيف لا يعذبون وحالهم أنهم يصدون عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله عام الحديبية. والأوّلون قالوا: إن إخراجهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من الصدّ. وعن ابن عباس أن هذا العذاب عذاب الآخرة والذي نفاه عنهم هو عذاب الدنيا وكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصدّ من نشاء وندخل من نشاء فنفى الله استحقاقهم الولاية بقوله وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ من المسلمين وليس كل مسلم يصلح لذلك فضلا عن مشرك وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ كان فيهم من كان يعلم وهو يعاند ويطلب الرياسة، أو أراد بالأكثر الجميع كما يراد بالقلة العدم. ثم ذكر بعض أسباب سلب الولاية عنهم فقال وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً المكاء «فعال» كالثغاء والرغاء من مكا يمكو إذا صفر. والتصدية التصفيق «تفعلة» من الصدى وهو الصوت الذي يرجع من الجبل فيكون في الأصل معتل اللام، أو من صدّ يصدّ مضاعفا أي صاح فقلبت الدال الأخيرة ياء كالتقضي في التقضض، وأنكر هذا الاشتقاق بعضهم وصوّبه الأزهري وأبو عبيدة. قال جعفر بن ربيعة: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن المكاء والتصدية فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيرا. وقيل: هو أن يجعل بعض أصابع اليمين وبعض أصابع الشمال في الفم ثم يصفر به. وقيل: تصويت يشبه صوت المكّاء بالتشديد وهو طائر معروف. عن ابن عمر:
كانوا يطوفون بالبيت عراة وهم مشبكون بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون. فالمكاء والتصدية على هذا نوع عبادة لهم فلهذا وضعا موضع الصلاة بناء على معتقدهم. وفيه أن من كان المكاء والتصدية صلاته فلا صلاة له كقول العرب: ما لفلان عيب إلا السخاء أي من كان السخاء عيبه فلا عيب له. وقال مجاهد ومقاتل: كانوا يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف والصلاة عند المسجد الحرام يستهزؤن به ويخلطون عليه فجعل المكاء والتصدية صلاة لهم كقولك: زرت الأمير فجعل جفائي صلتي أي أقام الجفاء مقام الصلة. ثم خاطبهم على سبيل المجازاة بقوله فَذُوقُوا الْعَذابَ عذاب القتل والأسر يوم بدر أو عذاب الآخرة بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم وأفعالكم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة.
ولما شرح أحوال هؤلاء الكفار في الطاعات البدنية أتبعها شرح أحوالهم في الطاعات المالية فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ الآية. قال مقاتل والكلبي: نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا: أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة ونبيه ومنبه ابنا حجاج وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحرث وحكيم بن حزام وأبيّ بن خلف وزمعة بن أسود والحرث بن عامر بن نوفل والعباس ابن عبد المطلب. وكلهم من(3/396)
قريش وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزر. وقال سعيد بن جبير وابن أبزى:
نزلت في أبي سفيان بن حرب استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش- والأحبوش جماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة- وأنفق عليهم أربعين أوقية من فضة. والأوقية اثنان وأربعون مثقالا- قاله في الكشاف. وقال محمد بن إسحق عن رجاله: لما أصيب قريش يوم بدر فرجع فلهم إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره مشى عبد الله بن أبي ربيعة وعكرمة بن أبي جهل وصفوان ابن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير تجارة فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال الذي أفلت على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرا لمن أصيب منا فأنزل الله تعالى الآية. ومعنى لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أن غرضهم فى الإنفاق كان هو الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يكن عندهم كذلك. ثم أخبر عن الغيب على وجه الإعجاز فقال فَسَيُنْفِقُونَها أي سيقع منهم هذا الإنفاق ثم تكون عاقبة إنفاقها ندما وحسرة فكأن ذاتها تصير ندما وتنقلب حسرة ثم يغلبون آخر الأمر وإن كانت الخرب بينهم وبين المؤمنين سجالا لقوله كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] ومعنى «ثمك» في الجملتين إما التراخي في الزمان لما بين الإنفاق المذكور وبين ظهور دولة الإسلام من الامتداد، وإما التراخي في الرتبة لما بين بذل المال وعدم حصول المقصود من المباينة. ثم قال وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي الكافرون منهم ولم يقل «ثم يغلبون وإلى جهنم يحشرون» لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه فذكر أن الذي بقوا على الكفر لا يكون حشرهم إلا إلى جهنم دون من أسلم منهم. ثم بين الغاية والغرض فيما يفعل بهم من الغلبة ثم الحشر إلى جهنم فقال لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ أي الفريق الخبيث من الكفار مِنَ الفريق الطَّيِّبِ وهم المؤمنون وَيَجْعَلَ الفريق الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً عبارة عن الجمع والضم وفرط الازدحام. يقال: ركم الشيء يركمه إذا جمعه وألقى بعضه على بعض أُولئِكَ الفريق الخبيث هُمُ الْخاسِرُونَ وقيل: الخبيث والطيب صفة المال أي ليميز المال الخبيث الذي أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المال الطيب الذي أنفقه المهاجرون والأنصار في نصرته فيركمه فيضم تلك الأموال الخبيثة بعضها على بعض فيلقيه في جهنم ويعذبهم بها كقوله فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ [التوبة: 35] وعلى هذا فاللام في قوله لِيَمِيزَ اللَّهُ يتعلق بقوله ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً قاله في الكشاف. ولا يبعد عندي أن يتعلق ب يُحْشَرُونَ وأُولئِكَ إشارة إلى الذين كفروا. ولما بين ضلالهم في عباداتهم البدنية والمالية أرشدهم إلى(3/397)
الطريق المستقيم وما يتبعه من الصلاح فقال قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي قل لأجلهم هذا القول وهو أن ينتهوا عما هم عليه من عداوة الرسول وقتاله بالدخول في السلم والإسلام يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من الكفر والمعاصي. ولو كان المراد خطابهم بهذا القول لقيل: «أن تنتهوا يغفر لكم» . وقد قرأ بذلك ابن مسعود وَإِنْ تَعُودُوا لقتاله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ منهم الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر أو سنة الذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم فأهلكوا أو غلبوا كقوله كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] واستدل كثير من العلماء منهم أصحاب أبي حنيفة الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الإسلام لأن الخطاب مع الكفر باطل بالإجماع وبعد زواله لا يؤمر بقضاء العبادات الفائتة، بل ذهب أبو حنيفة إلى أن المرتد إذا أسلم لم يلزمه قضاء العبادات المتروكة في حال الردة وقبلها وفسر وَإِنْ يَعُودُوا بالعودة إلى الردة. واختلفوا في أن الزنديق هل تقبل توبته أم لا؟ والصحيح أنها مقبولة لشمول الآية جميع الكفار
لقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن نحكم بالظاهر»
ولأنه يكلف بالرجوع ولا طريق له إلا التوبة، فلو لم تقبل لزم تكليف ما لا يطاق. ثم أمر بقتالهم إن أصروا على الكفر فقال وَقاتِلُوهُمْ الآية. وقد مر تفسيره في سورة البقرة إلا أنه زاد هاهنا لفظة كُلُّهُ في قوله وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ لأن القتال هاهنا مع جميع الكفار وهناك كان مع أهل مكة فحسب فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر وأسلموا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ يثيبهم على توبتهم وإسلامهم. ومن قرأ بتاء الخطاب أراد فإن الله بما تعملون من الجهاد في سبيله والدعوة إلى دينه بصير يجازيكم عليه أحسن الجزاء. وَإِنْ تَوَلَّوْا ولم ينتهوا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ ناصركم ومتولي أموركم يحفظكم ويدفع شر الكفار عنكم فإنه نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ فثقوا بولايته ونصرته.
التأويل:
قالوا قد سمعنا وما سمعوا في الحقيقة وإلا لم يقولوا لو نشاء لقلنا فإن كلام المخلوق لن يكون مثل كلام الله. ثم انظر كيف استخرج الله منهم عقيب دعواهم لَقُلْنا مِثْلَ هذا قولهم اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ ليعلم أن من هذا حاله كيف يكون مثل القرآن مقاله، ولو كان لهم عقل لقالوا إن كان هذا حقا فاهدنا له ومتعنا به وبأنواره وأسراره وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ لأنه رحمة للعالمين والرحمة تنافي العذاب إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ، وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يعني أكثر المتقين أو لا يَعْلَمُونَ أنهم أولياؤه لأن الولي قد لا يعرف أنه ولي إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ كذلك دأب كفار النفوس ينفقون أموال الاستعداد الفطري في غير طلب الله وإنما تصرفها في استيفاء اللذات والشهوات فستندم حين لا ينفع الندم ثُمَّ يُغْلَبُونَ لا يظفرون(3/398)
بمشتهيات النفس كلها ولأجلها، والذين كفروا من الأرواح والقلوب التابعة والنفوس إِلى جَهَنَّمَ البعد والقطيعة يُحْشَرُونَ، لِيَمِيزَ اللَّهُ الأرواح والقلوب الخبيثة من الطيبة التي لا تركن إلى الدنيا ولا تنخدع بانخداع النفوس. فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فيجعل الأرواح الخبيثة فوق النفوس الخبيثة فيلقي الجميع في جهنم القطعية قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من الأرواح والقلوب أي ستروا النور الروحاني بظلمات صفات النفس إِنْ يَنْتَهُوا عن اتباع الهوى يُغْفَرْ لَهُمْ يستر لهم تلك الظلمات بنور الفرقان والرشاد. وَقاتِلُوهُمْ كفار النفوس حَتَّى لا تَكُونَ آفة مانعة عن الوصول وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ببذل الوجود وفقد الموجود لنيل الوجود وكرامة الشهود والله تعالى أعلم.
تم الجزء التاسع ويليه الجزء العاشر وأوله: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ..(3/399)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء العاشر من أجزاء القرآن الكريم
[سورة الأنفال (8) : الآيات 41 الى 49]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
القراآت:
بِالْعُدْوَةِ بكسر العين في الحرفين: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب.
الباقون: بالضم. من حيي بياءين: أبو جعفر ونافع وخلف وسهل ويعقوب والبزي ونصير وأبو بكر وحماد. الباقون: بالإدغام. وَلا تَنازَعُوا بالإدغام: البزي وابن فليح(3/400)
وَتَذْهَبَ بالجزم للجزاء عن هبيرة وَإِذْ زَيَّنَ وبابه مدغما: أبو عمرو وعلي وحمزة في رواية خلاد ابن سعدان وهشام إِنِّي أَرى، إِنِّي أَخافُ بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. تَراءَتِ الْفِئَتانِ بالإمالة: نصير.
الوقوف:
وَابْنِ السَّبِيلِ ط لتعلق حرف الشرط بمحذوف يدل عليه ما قبلها تقديره: واعلموا واعتقدوا هذه الأقسام إن كنتم. الْجَمْعانِ ط قَدِيرٌ هـ أَسْفَلَ مِنْكُمْ ط فِي الْمِيعادِ لا لعطف لكن مَفْعُولًا لا لتعلق اللام مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ط عَلِيمٌ لا لتعلق «إذ» قَلِيلًا ط مِنْكُمْ ط الصُّدُورِ هـ مَفْعُولًا ط الْأُمُورُ هـ تُفْلِحُونَ هـ ج للآية وللعطف وَاصْبِرُوا ط الصَّابِرِينَ هـ ج لما ذكر عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ط مُحِيطٌ هـ جارٌ لَكُمْ ط أَخافُ اللَّهَ ط الْعِقابِ هـ دِينُهُمْ ط حَكِيمٌ هـ.
التفسير:
لما أمر سبحانه بالقتال في قوله وَقاتِلُوهُمْ [الأنفال: 39] والمقاتلة مظنة حصول الغنيمة أعاد حكم الغنيمة ببيان أوفى وأشفى فقال وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ أي الذي حزتم من أموال الكفرة قهرا. وقوله مِنْ شَيْءٍ بيان «ما» أي من كل ما يقع عليه اسم الشيء حتى المخيط والخيط. وقوله فَأَنَّ لِلَّهِ بالفتح مبتدأ محذوف الخبر. وروى الجعفي عن أبي عمرو فإن الله بالكسر. قال في الكشاف: والمشهورة آكد وأثبت للإيجاب كأنه قيل: فلا بد من ثبات الخمس فيه ولا سبيل إلى الإخلال به لأنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات كقولك: ثابت واجب حق لازم كان أقوى لإيجابه من النص على واحد. عن الكلبي أن الآية نزلت ببدر. وقال الواقدي: كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة. واعلم أن الآية تقتضي أخذ الخمس من الغنائم واختلفوا في كيفية قسمة ذلك الخمس على أقوال أشهرها: أن ذلك الخمس يخمس حتى يكون مجموع الغنيمة ومقسما بخمسة وعشرين قسما عشرون الغنائم بالاتفاق لأنهم كسبوها كالاحتطاب والاصطياد، وأما الخمسة الباقية فواحد منها كان لرسول الله ويصرف الآن ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كسد الثغور وعمارة الحصون والقناطر والمساجد وأرزاق القضاة والأئمة الأهم فالأهم، وواحد لذوي القربى يعني أقارب رسول الله من أولاد هاشم والمطلب ابني عبد مناف دون عبد شمس ونوفل وهما ابنا عبد مناف أيضا لما
روي عن عثمان بن عفان وجبير بن مطعم- وكان عثمان من بني عبد شمس وجبير من بني نوفل- أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك(3/401)
الله منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة؟
فقال صلى الله عليه وسلم: إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد- وشبك بين أصابعه- يستوي في هذا السهم غنيهم وفقيرهم إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين.
وثلاثة أخماس الخمس الباقية لليتامى والمساكين وابن السبيل.
وهذا عند الإمامين أبي حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة قال: إن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ساقط بموته وكذلك سهم ذوي القربى وإنما يعطون لفقرهم فهم أسوة سائر الفقراء. فعلى مذهب الإمامين. معنى قوله سبحانه فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [التوبة:
62] فأن لرسول الله خمسة كقوله وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ وعن أبي العالية إيجاب سهم آخر لله وأنه يقسم الخمس على ستة أسهم. والذاهبون إلى هذا القول اختلفوا فقيل:
إن ذلك السهم لبيت المال. وقيل: يصرف إلى مصالح الكعبة لما
روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الخمس فيضرب بيده فبه فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة فهو سهم الله.
وعن ابن عباس أنه كان يقسم على ستة لله وللرسول سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل، وكذلك روي عن عمرو ومن بعده من الخلفاء.
وروي أن أبا بكر منع بني هاشم الخمس وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم، فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غني لا يعطى هو ولا يتيم موسر من الصدقة شيئا،
وروي عن زيد بن علي أنه قال:
ليس لنا أن نبني منه قصورا ولا أن نركب منه البراذين. وقيل: الخمس كله للقرابة لما
روي عن علي عليه السلام أنه قيل له: إن الله تعالى قال وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ فقال:
أيتامنا ومساكيننا.
وعن الحسن: في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لولي الأمر من بعده. وعند مالك بن أنس الأمر في الخمس مفوّض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين الأصناف الخمسة عند الشافعي وإن رأى أعطى بعضهم دون بعض، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فذاك. فعند هذا يكون معنى قوله فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ أن من حق الخمس أن يكون متقربا به إلى الله لا غير. ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلا لها على غيرها كقوله وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ وحاصل الآية إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل على عبدنا فاعلموا علما يتضمن العمل والطاعة أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به فاقطعوا عنه أطماعكم واقنعوا بالأخماس الأربعة يَوْمَ الْفُرْقانِ يوم بدر لأنه فرق فيه بين أهل الحق وأهل الباطل. والجمعان فريقاهما والذي أنزل عليه يومئذ الآيات والملائكة والنصر والتأييد وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فبذلك نصر القليل على الكثير إِذْ أَنْتُمْ بدل(3/402)
من يوم الفرقان بِالْعُدْوَةِ بالكسر والضم شط الوادي أي جانبه وحافته. وقال أبو عمرو:
هي المكان المرتفع والدُّنْيا تأنيث الأدنى يعني الجانب الذي يلي المدينة وقلب الواو ياء فيه على القياس لأن «فعلى» من بنات الواو وتقلب ياء كالعليا، وأما القصوى تأنيث الأقصى فإنه كالقود في مجيئه على الأصل وقد جاء القصيا أيضا قليلا والعدوة القصوى مما يلي مكة وَالرَّكْبُ يعني الأربعين الذين كانوا يقودون العير أَسْفَلَ مِنْكُمْ بالساحل وهو نصب على الظرف مرفوع المحل خبرا للمبتدأ أي مكانا أسفل من مكانكم. والفائدة في ذكر مراكز الفرق الثلاث تصوير وقعة بدر وما دبر الله سبحانه من عجيب صنعه وكمال رأفته ونصره حتى كان ما كان. وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كانت في مكان فيه الماء وكانت أرضا لا بأس بها، وأما العدوة الدنيا فهي رخوة تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وعبدتهم، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحروب بعيالهم وأثقالهم ليبعثهم الذب عن الحرم على بذل مجهودهم حيث لم يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه. وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أنتم وأهل مكة على موضع تتلاقون فيه لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من هيبة الرسول والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما تيسر بتوفيق الله وتسبيبه وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أي ليظهر أَمْراً كانَ مَفْعُولًا مقدرا وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك. وقوله لِيَهْلِكَ بدل من لِيَقْضِيَ بدل الخاص من العام واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام، وذلك أن وقعة بدر كان فيها من الآيات والمعجزات ما يكون الكافر بعدها كالمكابر لنفسه فكفره صادر عن وضوح بينة أي لا شك في كفره وعناده كما أنه لم يبق شك للمسلمين في حقية دين الإسلام. وفي قوله لِيَقْضِيَ ولِيَهْلِكَ دلالة على أن أفعاله تعالى مستتبعة للحكم والمقاصد والغايات خلاف ما عليه ظاهر الأشاعرة. وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ لدعائكم عَلِيمٌ بنياتكم إِذْ يُرِيكَهُمُ منصوب باذكر أو بدل آخر من يوم الفرقان أو متعلق بعليم أي يعلم تدابيركم إذ يريكهم فِي مَنامِكَ أي في رؤياك قَلِيلًا أراه وإياهم في رؤياه قليلا فأخبر بذلك أصحابه فكان تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوهم. وقيل: في منامك أي في عينك في اليقظة لأن العين موضع النوم وفيه تكلف. وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً على ما هم عليه لَفَشِلْتُمْ والفشل الجبن والخور. وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أمر الحرب والإقدام وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ عصم من الفشل والتنازع إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم ما سيحدث فيها من مواجب الإقدام والإحجام وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ يبصركم إياهم إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا نصب على الحال لأن(3/403)
الرؤية رؤية العين لا القلب وقد استوفت الإراءة مفعولية فلن يتعدى إلى ثالث وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ الحكمة في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهرة مع أن في ذلك تصديقا لرؤيا النبي، وأما تقليل المؤمنين في أعين الكفار فالحكمة في ذلك أن يجترىء الكفار عليهم قلة مبالاة بهم وأن يستعدّوا لهم كما ينبغي لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا فعل ما فعل من التقليل وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فيه أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زادا للمعاد. ثم علم المؤمنين آداب اللقاء في الحروب فقال إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا لقتالهم ولا تفروا واللقاء اسم غلب في القتال فلهذا ترك وصف الفئة بالمحاربين ونحو ذلك، والأمر بالثبات في القتال لا ينافي الرخصة في التحرف والتحيز فلعل الثبات في الحرب لا يحصل إلا بهما. وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً في مواطن الحرب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تظفرون بمرادكم من النصر والمثوبة. وفيه إشعار بأن العبد لا يجوز له أن يفتر عن ذكر ربه في أي شغل وعمل كان، ولو أن رجلا أقبل من المغرب إلى المشرق منفقا أمواله لله، والآخر من المشرق إلى المغرب ضاربا بسيفه في سبيل الله كان الذاكر لله أعظم أجرا. وقيل: المراد من هذا الذكر أن يدعو على العدو: اللهم اخذلهم اللهم اقطع دابرهم ونحو ذلك والأولى حمله على العموم وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في سائر ما يأمر به لأن الجهاد لا ينفع إلا مع التمسك بسائر الطاعات وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا منصوب بإضمار «أن» أو مجزوم لدخوله في حكم النهي ويظهر التقدير «أن» في قوله
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ على القراءتين. والريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها وتمشيته على وفق المشيئة بالريح وهبوبها. يقال: هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. وقيل:
الريح حقيقة ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله.
وفي الحديث: «نصرت بالصبا» «1»
حذرهم التنازع واختلاف الرأي نحو ما وقع لهم بأحد بمخالفتهم رسول الله. احتج نفاة القياس بالآية لأن القول به يفضي غالبا إلى النزاع المنهي عنه. وكذا القائلون: بأن النص لا يجوز تخصيصه بالقياس.
قال أهل السير: إن أهل مكة حين نفروا لحماية العير أتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة أن ارجعوا فقد سلمت عيركم، فأبى أبو جهل وقال: حتى نقدم بدرا نشرب بها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب. فوافوها فسقوا كؤوس
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الاستسقاء باب 26، كتاب بدء الخلق باب 5. مسلم في كتاب الاستسقاء حديث 17. أحمد في مسنده (1/ 223، 228، 341) .(3/404)
المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان فنهى الله المؤمنين أن يكونوا مثلهم بطرين مرائين بأعمالهم كإطعام الطعام ونحوه فقال وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ الآية. وصفهم بأوصاف ثلاثة: أولها: البطر وهو الطغيان في النعمة ويقال أيضا شدّة المرح. والتحقيق إن النعم إذا كثرت من الله على العبد فإن صرفها في مرضاته وعرف حق الله فيها فذاك هو الشكر وإن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمكاثرة على أبناء الزمان فذاك هو البطر. وثانيها: رئاء الناس وهو القصد إلى إظهار الجميل مع قبح النية وفساد الطوية، أو هو إظهار الجميل مع قبح النية وفساد الطوية، أو هو إظهار الطاعة مع إبطان المعصية كما أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطال الكفر. وثالثها قوله وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي يمنعون عن قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم. قال الواحدي: معناه وصدا عن سبيل الله ليكون عطفا للاسم على الاسم، أو يكون الكل أحوالا على تأويل بطرين مرائين صادّين أو يبطرون ويراءون ويصدّون. واعترض عليه في التفسير الكبير بأنه تارة يقيم الاسم مقام الفعل والأخرى بالعكس ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها، وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبر عن الأولين بالمصدر وعن الثالث بالفعل. ثم ذكر السبب فقال: إن أبا جهل ورهطه كانوا مجبولين على البطر والرياء فذكرا بلفظ الاسم تنبيها على أصالتهم فيهما، وأما الصدّ فإنما حصل في زمان ادعاء محمد النبوة فذكر بلفظ الفعل الدال على التجدد. قلت: لو جعلنا قوله وَيَصُدُّونَ عطفا على صلة «الذين» لم يحتج إلى هذه التكلفات التي اخترعها الإمامان. وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ فيه زجر عن التصنع والافتخار، ويعلم منه أن المعصية مع الانكسار أقرب إلى الخلاص من الطاعة مع الاستكبار. وَإِذْ زَيَّنَ معناه واذكر إذ زين أو هو معطوف على ما قبله من النعم وأقربها قوله وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ وفي هذا التزيين وجهان: أحدهما. أن الشيطان زين بوسوسته من غير أن يتمثل بصورة إنسان وهو قول الحسن والأصم. وفي الكشاف: زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجرئهم. فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم أي بطل كيده حين نزلت جنود الله. وثانيهما: أنه ظهر في صورة إنسان وذلك أن المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر ذكروا الذي بينهم وبين بني كنانة من الحرب فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني وكان من أشرافهم في جند من الشياطين معه راية وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ أي لا غالب كائن لكم ولو كان لكم مفعولا بمعنى لا غالب إلا إياكم لانتصب كما يقال لا ضاربا زيدا. وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أي مجيركم من بني كنانة أو(3/405)
من كل عدوّ يعرض من البشر. ومعنى الجار هاهنا الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن الجار. فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي التقى الجمعان بحيث رأت كل واحدة الأخرى نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ والنكوص الإحجام عن الشيء أي رجع. وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ قيل: كانت يده في يد الحرث بن هشام فلما نكص قال له الحرث إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحالة فقال إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ أي من نزول الملائكة ودفع في صدر الحرث وانطلق وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم، فلما أسلموا علموا أنه الشيطان.
وفي الحديث: «ما رؤي إبليس يوما أصغر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزول الرحمة إلا ما رأى يوم بدر» «1» .
وأما قوله إِنِّي أَخافُ اللَّهَ فقد قيل: إنه لما رأى جبريل خافه، وقيل: لما رأى الملائكة ينزلون من السماء خافهم لأنه ظن أن الوقت الذي أنظر إليه قد حضر. قال قتادة: صدق في قوله إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ وكذب في قوله: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وقوله وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ يجوز أن يكون من بقية حكاية كلام إبليس، ويجوز أن يكون اعتراضا وظرفه إِذْ يَقُولُ أو لا ظرف له وإِذْ يَقُولُ ينتصب بذكر على أنه كلام مبتدأ منقطع عما قبله ولهذا فقد العاطف. والْمُنافِقُونَ قوم من الأوس والخزرج بالمدينة وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يجوز أن يكون من صفة المنافقين وأن يراد قوم من قريش أسلموا وما قوي الإسلام في قلوبهم ولم يهاجروا. ثم إن قريشا لما خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أولئك نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا، وقال محمد بن إسحق: ثم قتلوا جميعا مع المشركين يوم بدر. غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ قال ابن عباس: معناه أنه خرج بثلاثمائة وثلاثة عشر إلى زهاء ألف وما ذلك إلا لأنهم اعتمدوا على دينهم. وقيل: المراد أن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت. ثم قال جوابا لهم وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ يكل أمره إليه ويثق بفضله فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب يسلط الضعيف القليل على القوي الكثير حَكِيمٌ يوصل العذاب إلى أعدائه والرحمة إلى أوليائه.
التأويل:
وَاعْلَمُوا يا أهل الجهاد الأكبر أَنَّما غَنِمْتُمْ عند رفع الحجب من أنوار المشاهدات وأسرار المكاشفات فلكم أربعة أخماسه تعيشون بها مع الله وتكتمونها عن الأغيار وتنفقون خمسها في الله مخلصا وللرسول متابعا وَلِذِي الْقُرْبى يعني الإخوان في
__________
(1) رواه مالك في الموطأ في كتاب الحج حديث 245. [.....](3/406)
الله مواصلا وَالْيَتامى يعني أهل الطلب من الذين غاب عنهم مشايخهم قبل بلوغهم إلى حد الكمال وَالْمَساكِينِ الذين تمسكوا بأيدي الإرادة بأذيال إرشادكم وَابْنِ السَّبِيلِ يعني الصادر والوارد من الصدق والإرادة مراعيا جانب كل طائفة على حسب صدقهم وإرادتهم واستعدادهم. إن كنتم وصلتم في متابعة الرسول إلى الإيمان بالله عيانا وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا في سفر فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم: 10] يَوْمَ الْفُرْقانِ الذي فيه الرحمن علم القرآن يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع الصفات الإنسانية وجمع الأخلاق الربانية فصار لمحمد صلى الله عليه وسلم مع الله خلوة لا يتبعه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على أن يوصلكم في متابعة رسوله إلى هذا المقام وهو الفناء عن الوجود والبقاء بالمعبود إِذْ أَنْتُمْ أيها الصادقون في الطلب بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا نازلة وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أي الأرواح بأقصى عالم الملكوت بارزة وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني الهياكل والقوالب في أسفل سافلي الطبيعة. وَلَوْ تَواعَدْتُمْ أيها الأرواح والنفوس والأجساد لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ لما بينكم من التباين والتضاد وَلكِنْ جمعكم الله بالقدرة والحكمة لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وهو إيصال كل شخص إلى رتبته التي استعد لها لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ عن حجة ثابتة عليه وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ فالأشقياء يبقون في سجين الطبيعة ونار القطيعة، وأما السعداء فأرواحهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، قال ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً [الفجر: 28] ونفوسهم مع الملائكة المقربين كما قال فَادْخُلِي فِي عِبادِي [الفجر: 29] وأبدانهم في جنات النعيم كما قال وَادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر: 30] إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ لمن دعاه للوصول والوصال بالغدو والآصال عَلِيمٌ بمن يستحق الإذلال أو يستأهل الإجلال إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا مع كثرتهم في الصورة ليدل على قلتهم في المعنى لَفَشِلْتُمْ على عادة طبع الإنسان وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ من الخوف البشري وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لأنهم نظروا إليكم بالأبصار الظاهرة فلم يدركوا كثرة معناكم ومددكم بالملائكة. وإِذا لَقِيتُمْ فِئَةً هي النفس وهواها والشيطان وأعوانه والدنيا وزينتها فَاثْبُتُوا على ما أنتم عليه من اليقين والصدق والإخلاص والطلب وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا من ديار أوصافهم وتركوا الدنيا وداروا البلاد وزاروا العباد ليتباهوا بذلك على الإخوان والأقران. وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فظنوا أنهم بلغوا مبلغ الرجال وأنه لا يضرهم التصرف في الدنيا وارتكاب بعض المنهيات بل ينفعهم في نفي الرياء والعجب إذ هو طريق أهل الملامة.
فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ فئة الأرواح والقلوب وفئة النفوس وصفاتها وأمد الله تعالى فئة(3/407)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
الأرواح والقلوب بالأوصاف الملكية والواردات الربانية حتى انقادت النفوس لها نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ زهق باطله وصار مخالفا للنفس كما قال إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ، إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ لأنه يرى بنظر الروحانية تجلي الأنوار الربانية من القلوب، ولو وقع على الشيطان من ذلك تلألؤ لأحرقه ولهذا قال إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وفيه إشارة إلى أنه غير منقطع الرجاء من رحمة الله إنه أرحم الراحمين.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 50 الى 66]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
القراآت:
تتوفى بتاء التأنيث: شامي. الباقون: بالتذكير وَلا يَحْسَبَنَّ بياء الغيبة: ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص والمفضل. الآخرون: بتاء الخطاب. إِنَّهُمْ بالفتح: ابن عامر لِلسَّلْمِ بكسر السين: أبو بكر وحماد تُرْهِبُونَ بالتشديد: رويس.(3/408)
الباقون: بالتخفيف من الإرهاب وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ بالياء التحتانية: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بالتاء الفوقانية وَعَلِمَ مبنيا للمفعول ضعفاء بالمد جمعا: يزيد وقرأ حمزة وعاصم غير المفضل وخلف لنفسه ضَعْفاً بفتح الضاد. الآخرون بالضم. فإن لم يكن منكم مائة بالتحتانية: عاصم وحمزة وعلي وخلف.
الوقوف:
كَفَرُوا لا لأن فاعل يَتَوَفَّى الملائكة. وما قيل إن المتوفي هنا الله غير صحيح لاختلال النظم وفساد المعنى لأن الكفار لا يستحقون أن يتوفاهم الله بلا واسطة. وَأَدْبارَهُمْ ج لحق الإضمار أي يقولون ذوقوا الْحَرِيقِ هـ لِلْعَبِيدِ هـ لا لتعلق الكاف فِرْعَوْنَ لا للعطف. مِنْ قَبْلِهِمْ ط بِذُنُوبِهِمْ ط الْعِقابِ هـ بِأَنْفُسِهِمْ لا لعطف «أنّ» على «أنّ» عَلِيمٌ هـ لا للكاف مِنْ قَبْلِهِمْ ط بِآياتِ رَبِّهِمْ ج لاختلاف الجملتين من الفاء آلِ فِرْعَوْنَ ج لأن الواو تصلح للاستئناف والحال ظالِمِينَ هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ ج لاحتمال الوصف واحتمال النصب والرفع على الذم لا يَتَّقُونَ هـ يَذَّكَّرُونَ هـ عَلى سَواءٍ ط الْخائِنِينَ هـ سَبَقُوا ط لمن قرأ إِنَّهُمْ بالكسر لا يُعْجِزُونَ هـ مِنْ دُونِهِمْ ج لاحتمال الجملة بعده الوصف والاستئناف لا تَعْلَمُونَهُمُ ج لذلك يَعْلَمُهُمْ ط لا تُظْلَمُونَ هـ عَلَى اللَّهِ ط الْعَلِيمُ هـ حَسْبَكَ اللَّهُ ط بَيْنَ قُلُوبِهِمْ الأول ط بَيْنَهُمْ ط حَكِيمٌ هـ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هـ عَلَى الْقِتالِ ط مِائَتَيْنِ ج لابتداء الشرط مع العطف لا يَفْقَهُونَ هـ ضَعْفاً ج مِائَتَيْنِ ج بِإِذْنِ اللَّهِ ط الصَّابِرِينَ هـ.
التفسير:
لما شرح أحوال هؤلاء الكفار في حياتهم شرح أحوالهم حين وفاتهم.
وجواب «لو» محذوف، وترى في معنى الماضي الخاصية «لو» ، وكذا يَتَوَفَّى لخاصية «إذ» وإذ نصب على الظرف قاله في الكشاف. ويمكن أن يكون مفعولا به والمعنى لو رأيت أو عاينت أو شاهدت وقت قبض الملائكة أرواح الكفار لرأيت أمرا فظيعا.
يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ قال مجاهد: يريد بالأدبار الأستاه ولكن الله كريم يكني.
وفي تخصيص العضوين بالضرب نوع من الخزي والنكال. وعن ابن عباس: المراد ما أقبل منهم وما أدبر. وذلك أن المشركين كانوا إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيف، وإذا ولّوا ضربوا أدبارهم فلا جرم قابلهم الله بمثله في وقت خروج أرواحهم. ومعنى عَذابَ الْحَرِيقِ مقدمة عذاب النار أو عذاب النار نفسها في الآخرة تبشيرا لهم بذلك. وعن ابن عباس أن معهم مقامع من حديد كلما ضربوا بها التهبت النار.(3/409)
قوله ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ الآية قد مر تفسيرها في آخر آل عمران، ويحتمل أن تكون هنا حكاية كلام الملائكة. ولما بين سبحانه ما أنزله بأهل بدر من الكفار عاجلا أم آجلا ذكر أن هذه سنة في فرق الكفرة كلهم فقال كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ يريد أن عادتهم وعملهم الذي داموا عليه كعادة آل فرعون فجوزي هؤلاء بالقتل والسبي كما جوزي أولئك بالإهلاك والإغراق. ثم ذكر ما يجري مجرى العلة في العقاب الذي أنزله بهم فقال ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ حذف النون لكثرة الاستعمال. ومعنى الآية أن ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله لم يستقم في حكمته وتدبيره أن يغير نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بهم من الأحوال والأخلاق. والغرض أن آل فرعون ومشركي مكة قد فتح الله عليهم أبواب الخيرات وأزال الموانع وسهل السبل ومنّ عليهم بإنزال الكتب وإرسال الرسل، ثم إنهم قابلوا هذه النعم بالكفر والفسوق والعصيان فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ للأقوال عَلِيمٌ بالأحوال فيجزي كل فريق بما يستأهله. ثم ذكر مرة أخرى قوله كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وفي التكرير بعد التأكيد فوائد استنبطها العلماء منها أن الثاني كالتفصيل للأول لأن الإغراق كالبيان للأخذ بالذنوب. ومنها أن الأول لعله في حال الموت والثاني لما بعد الموت. قلت: ويشبه أن يكون بالعكس لأن الإهلاك والإغراق بحال الموت أنسب. ومنها أن الأول إخبار عن عذاب لم يمكن الله أحدا من فعله وهو ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند نزع أرواحهم. والثاني إخبار عن عذاب مكن الناس من فعل مثله وهو الإهلاك والإغراق. ومنها أن المراد في الأول كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ فيما فعلوا وفي الثاني كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ فيما فعل بهم فهم فاعلون في الأول ومفعولون في الثاني. ومنها أن المراد بالأول كفرهم بالله، وبالثاني تكذيبهم الأنبياء لأن التقدير: كذبوا الرسل برد آيات ربهم. ومنها أن يجعل الضمير في كَفَرُوا وكَذَّبُوا لكفار قريش أي كفروا بآيات الله كدأب آل فرعون، وكذبوا بآيات ربهم كدأب آل فرعون. ومنها أن الأول إشارة إلى أنهم أنكروا دلائل الإلهية فكان لازمه الأخذ، والثاني إشارة إلى أنهم أنكروا دلائل التربية والإحسان فكان لازمه الإهلاك والإغراق. ثم ختم الآية بقوله وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ أي وكل واحد من غرقى القبط وقتلى قريش وممن قبلهم من الكفرة كانوا ظالمي أنفسهم بالكفر والمعاصي، وظالمي غيرهم بالإيذاء والإيحاش، فلا جرم دمرهم الله بسبب ظلمهم.
ثم خص من الظلمة سرهم فقال إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ الآية. جعلهم شر الدواب لأن شر الناس الكفار وشر الكفار المصرون منهم وأشار إلى هذا بقوله فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وشر(3/410)
المصرين الناكثون للعهود وأشار إليهم بقوله الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ و «من» للتبعيض ومفعول عاهَدْتَ محذوف أي الذين عاهدتهم وهم بعض أولئك الكفرة يعني الأشراف الذين معهم تليق المعاهدة ثُمَّ يَنْقُضُونَ عطف المستقبل على الماضي لفائدة الاستمرار وأن من شأنهم نقض العهد فِي كُلِّ مَرَّةٍ من مرات المعاهدة. ومعنى «ثم» تبعيد النقض عن المعاهدة. قال ابن عباس: هم بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا عليه المشركين بالسلاح يوم بدر وقالوا: قد نسينا وأخطأنا ثم عاهدهم فنكثوا وأعانوا عليه يوم الخندق وَهُمْ لا يَتَّقُونَ عاقبة الغدر وما فيه من العار والنار. ثم أمر رسوله بالمخاشنة معهم والغلظة عليهم جزاء على قبح فعلهم وسوء عقيدتهم فقال فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ تصادفنهم وتظفرن بهم في الحرب فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ والتشريد التفريق مع الاضطراب أي ففرق عن محاربتك من وراءهم. وقال عطاء: معناه أكثر فيهم القتل حتى يخافك غيرهم. والضمير في لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ لمن خلفهم لأنه إذا نكل بالناكثين وقتلهم شر قتلة لن يجسر عليه أحد بعدهم اتعاظا بحالهم وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ معاهدين خِيانَةً ونكثا بأمارات تلوح لك فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ فاطرح إليهم العهد عَلى سَواءٍ على طريق مستو قصد أي أخبرهم أخبارا مكشوفا بينا أنك قطعت ما بينك وبينهم ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد فيكون ذلك خيانة منك. وقيل: على استواء في العلم بنقض العهد. وقيل: على استواء في العداوة. قال في الكشاف: الجار والمجرور في موضع الحال كأنه قيل: فانبذ إليهم ثابتا على طريق قصد سوي، أو حاصلين على استواء في العلم، أو العداوة على أنها حال من النابذ والمنبوذ إليهم معا. قلت: ويحتمل أن يكون حالا من المنبوذ أي حال كون المنبوذ وهو العهد واقعا على طريق واضح فيكون كناية عن تحقير شأن العهد إذ ذاك، أو عن انكشاف حاله في النبذ. قال أهل العلم: إن آثار نقض العهد إذا ظهرت فإما أن تظهر ظهورا محتملا أو ظهورا مقطوعا به. فإن كان الأول وجب الإعلام به كما هو مذكور في الآية. وذلك أن قريظة عاهدوا النبي صلى الله عليه وسلم ثم أجابوا أبا سفيان ومن معه من المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وآله خوف الغدر منهم به وبأصحابه فههنا يجب على الإمام أن ينبذ إليهم على سواء ويؤذنهم بالحرب، أما إذا ظهر نقض العهد ظهورا قطعيا فلا حاجة إلى نبذ العهد إليهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأهل مكة لما نقضوا العهد. ثم بيّن حال من فاته في يوم بدر ولم يتمكن من التشفي منه والانتقام كيلا يبقى حسرة في قلبه فقد كان فيهم من بلغ في أذيته مبلغا عظيما فقال وَلا يَحْسَبَنَّ من قرأ بتاء الخطاب فمفعوله(3/411)
الأول الَّذِينَ كَفَرُوا وثانيه سَبَقُوا أي فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ كل من المكسورة والمفتوحة تعليل له إلا أن المكسورة على طريقة الاستئناف كأن سائلا سأل ما لهم لا يحسبون سابقين؟ فأجيب بما أجيب. والمفتوحة تعليل صريح والجار محذوف أي لأنهم يعجزون الله من الانتقام منهم ولا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم. أو عجزت فلانا وعجزته جعلته أو وجدته عاجزا. والمراد لا تحسبنهم أنهم لما تخلصوا من الأسر والقتل يوم بدر فقد تخلصوا من العقاب عاجلا أم آجلا. ومن قرأ بالياء التحتانية تذكر فيه وجوها منها «أن» فاعله الَّذِينَ كَفَرُوا ومفعولاه سَبَقُوا على أن الأصل أن سبقوا فحذفت «أن» كقوله وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ويؤيده قراءة ابن مسعود أنهم سبقوا. ومنها أن الفعل وقع على أنهم لا يعجزون على أن لا صلة وسبقوا في موضع الحال. ومنها أن المفعول الأول محذوف للعلم به والتقدير لا يحسبنهم أو لا يحسبن أنفسهم الذين كفروا وسبقوا. ومنها أن فاعله محذوف أي لا يحسبن قبيل المؤمنين الذين كفروا سبقوا. ثم إنه لما أنفق لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا آلة وعدة، أمرهم الله أن لا يعودوا لمثله ويتأهبوا لقتال الأعداء فقال وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ عن
عكرمة: هي الحصون.
وعن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر ثم قال: إلا إن القوة الرمي قالها ثلاثا ومات عقبة عن سبعين قوسا في سبيل الله
والأصح أنها عامة في كل ما يتقوى به في الحرب من آلة وعدّة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «القوة الرمي» «1»
كقوله: «الحج عرفة» «2»
وفيه تنبيه على أن المذكور جزء شريف في جملة المقصود وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ هو اسم للخيل التي تربط في سبيل الله الخمس فما فوقها. ويجوز أن يكون جمع ربيط كفصال وفصيل، والظاهر أنه بمعنى المرابطة. ويجوز أن يكون قوله وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تخصيصا للخيل من بين ما يتقوّى به كقوله وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فلا ريب أن ربط الخيل من أقوى آلات الجهاد. روي عن ابن سيرين أنه سئل عمن أوصى بثلث ماله في الحصون فقال: يشتري به الخيل فتربط في سبيل الله ويغزي عليها. فقيل له: إنما أوصى في الحصون. فقال: ألم تسمع قول الشاعر:
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 167. أبو داود في كتاب الجهاد باب 23. الترمذي في كتاب تفسير سورة 8 باب 5. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 19. الدارمي في كتاب الجهاد باب 14.
أحمد في مسنده (4/ 157) .
(2) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة البقرة باب 22. أبو داود في كتاب المناسك باب 68. ابن ماجة في كتاب المناسك باب 57. الدارمي في كتاب المناسك باب 54.(3/412)
ولقد علمت على توقّي الردى ... أن الحصون الخيل لا مدر القرى
وعن عكرمة أن الخيل هاهنا الإناث لأنها أولى بالربط لتفيد النسل. وقيل: هي الفحول لأنها أقوى على الكر والفر. والظاهر العموم. ثم ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء فقال تُرْهِبُونَ بِهِ أي بما استطعتم عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ لأن الكفار إذا علموا تأهب المسلمين للقتال لم يجسروا عليهم وخافوهم وربما يدعوهم ذلك إلى الانقياد والطاعة وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ يريد بالأوّلين أهل مكة وبالآخرين اليهود على قول ولكنه لا يجاريه قوله لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ والمنافقين على قول. واعترض عليه بأنهم لا يرهبون لانخراطهم في سلك المسلمين ظاهرا. وأجيب بأن الخائن خائف فكلما اشتدت شوكة المسلمين ازداد المنافقون في أنفسهم خوفا ورعبا فربما يدعوهم ذلك إلى الإخلاص.
وعن السدي: هم أهل فارس. وروي ابن جريج عن سليمان بن موسى أنهم كفرة الجن
وجاء في الحديث إن الشيطان لا يقرب صاحب فرس ولا دارا فيها فرس عتيق
وروي أن صهيل الخيل يرهب الجن. وقيل: المراد بالآخرين أعداء المرء من دينه فإن المسلم قد يعاديه مسلم آخر. ثم رغبهم في الإنفاق في باب الجهاد فقال وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي ثوابه وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ لا تنقصون من ثواب أعمالكم شيئا. ثم رخص في المصالحة إن مال الأعداء إليها فقال وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ الآية جنح له وإليه جنوحا إذا مال. وإنما قيل فَاجْنَحْ لَها لأن السلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب، أو بتأويل الخصلة أو الفعلة. عن ابن عباس ومجاهد أن الآية منسوخة بقوله قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [التوبة: 29] وبقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة: 5] والأولى أن يقال: إنها ثابتة فليس بحتم أن يقاتل المشركون أبدا، أو يجابوا إلى الهدنة أبدا، وإنما الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وذويه، فإذا رأى الصلاح في الصلح فذاك. والمصلحة قد تظهر عند ضعف المسلمين إما لقلة العدد أو لقلة المال وبعد العدوّ وقد تكون مع القوة للطمع في إسلامهم أو قبولهم الجزية إذا خالطوا المسلمين أو بأن يعينوه على قتال غيرهم. وأما مدة المهادنة فإذا لم يكن بالمسلمين ضعف ورأى الإمام الصلاح في المهادنة فقد قال الشافعي يهادون أربعة أشهر فما دونها لقوله تعالى فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة: 2] وذلك كان في أقوى ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من تبوك.
وإن كان بالمسلمين ضعف جازت الزيادة بحسب الحاجة إلى عشر سنين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم حين صالح أهل مكة بالحديبية على وضع القتال عشر سنين. إلا أنهم(3/413)
نقضوا العهد قبل كمال المدة وإن نقضت المدة والحاجة باقية استأنف العقد. ثم قال وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله ليكون عونا لك على السلامة وينصرك عليهم. إذا نقضوا العهد وعدلوا عن الوفاء كما كان من شأن قريظة والنضير.
وعن مجاهد نزلت فيهم إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ للأقوال الْعَلِيمُ بالأحوال. وفيه زجر عن نقض الصلح ما أمكن. ثم ذكر حكما من أحكام المهادنة فقال وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ محسبك وكافيك اللَّهُ والمعنى أنهم إن صالحوا على سبيل المخادعة وجب قبول ذلك الصلح لأن الحكم فيه يبنى على الظاهر كما أن أصل الإيمان مبني على الظاهر. ولا تنافي بين هذه الآية وبين ما تقدم من قوله وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ [الأنفال: 58] لأن هذه المخادعة محمولة على أمور خفية تدل على الغل والنفاق، وذلك الخوف محمول على أمارة قوية يدل على كونهم قاصدين للشر وإثارة الفتنة. ثم أكد كون الله تعالى كافيا له بقوله هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ أي من غير واسطة أسباب معتادة. وَبِالْمُؤْمِنِينَ أي بوساطة الأنصار. ثم بين أنه كيف أيده بالمؤمنين فقال وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ قال جمع من المفسرين: هم الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك أشرافهم ودق جماجمهم، فرفع الله تعالى ذلك بلطيف صنعه، والأولى حمله على العموم والتأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآيات الباهرة لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية والانطواء على الضغائن في الأمور المستحقرة لم تكد تأتلف أهواؤهم وينتظم شملهم، ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله حتى بذلوا دونه المهج والأرواح والأموال فليس ذلك الأمن مقلب القلوب والأحوال.
والتحقيق في الباب أن المحبة لا تحصل إلا عند تصور حصول خير من المحبوب. ثم إن كان سبب انعقاد المحبة أمرا سريع التغير كالمال أو الجاه أو اللذة الجسمانية كانت تلك المحبة بصدد الزوال والاضمحلال، فالمعشوق يريد العاشق لماله، والعاشق يحب المعشوق لاستيفاء لذة بهيمية، فمهما حصل مرادهما كانا متحابين ومتى لم يحصل عادا متباغضين وإن كان سبب انعقاد المودة كمالا حقيقيا روحانيا دائما لم يتصور لها تغير وزوال. ثم إن العرب كانوا قبل مقدم النبي صلى الله عليه وسلم مقبلين على المفاخرة والتسابق في المال والجاه والتعصب والتفرق، فلا جرم كانوا متحابين تارة ومتباغضين أخرى، فلما جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى عبادة الله تعالى والإعراض عن الدنيا والإقبال على تحصيل السعادة الأبدية الروحانية توحد مطلبهم وصاروا إخوانا متراحمين متحابين في الله ولله. إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي قادر قاهر على تقليب القلوب والدواعي فاعل لكل ما يفعل على وجه الإحكام والإتقان أو على حسب المصالح على اختلاف القولين في مسألة الجبر(3/414)
والقدر. قال القاضي: لولا ألطاف الله تعالى ساعة فساعة لما حصلت هذه الأحوال.
ونظيره أنه يضاف علم الولد وأدبه إلى أبيه أنه لم يحصل ذلك إلا بمعونة الأب وتربيته، وأجيب بأنه عدول عن الظاهر والآية صريحة في أن العقائد والإرادات والكراهات كلها بخلق الله تعالى وإيجاده، اللهم يا مصرف القلوب ومقلبها ثبت قلبي على دينك ووفقني لمتابعة نبيك إنك قادر على ما تشاء ولا يكون إلا ما تشاء.
ثم إنه سبحانه لما وعد نبيه النصر والكفاية عند مخادعة الأعداء وعده النصر والكفاية على الإطلاق فقال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ومحل وَمَنِ اتَّبَعَكَ منصوب بمنزلة «زيدا» في قولك «حسبك وزيدا درهم» قال الفراء: وليس بكثير في كلامهم أن يقولوا حسبك وأخيك بل المستعمل أن يقال: حسبك وحسب أخيك بإعادة الجار. فلو كان قوله وَمَنِ اتَّبَعَكَ مجرورا لقيل حسبك وحسب من اتبعك. ومعنى الآية كفاك وكفى أتباعك من المؤمنين الله ناصرا. وجوّز أن يكون محل الرفع أي كفاك الله وكفاك المؤمنون فيكون كقوله هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ ويؤكده ما
روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر فصاروا أربعين فأنزل الله تعالى الآية.
ثم بيّن سبحانه أن كفايته مشروطة بالجد والاجتهاد في الجهاد فقال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ والتحريض في اللغة كالتحضيض وهو الحث على الشيء. وذكروا في اشتقاقه أنه من الحرض وهو الإشراف على الهلاك من شدّة الضنى كأنه ينسبه إلى الهلاك لو تخلف عن المأمور، أو كأنه يأمره أن يبالغ فيه وفي تحصيله حتى يدنو من التلف. وفي قوله إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ عدّة من الله وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم بعون الله وتأييده. واعترض عليه بأنه يلزم منه أن لا يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين، ويمكن أن يجاب بعد تسليم وقوع مثل ذلك أن الخلل لعله يكون من فقدان الشرط وهو الصبر. قال بعض العلماء: هذا خبر في معنى الأمر كقوله وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ [البقرة: 233] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [البقرة: 228] بدليل قوله الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ والنسخ أبدل على رغبتهم في أن يلقوا قبله من تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل وتعريف الخبر، أو من جهة تعريف الخبر وإقحام الفصل. قال الفراء:
قد جمع بين «إما» و «أن» في هذه الآية بخلاف قوله وإِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ لأن الفعل هاهنا في موضع أمر بالاختيار أعني في موضع نصب كقول القائل: اختر ذا أو ذا. كأنهم قالوا: اختر أن تلقى بخلاف تلك الآية فإن الأمر لا يصلح هناك. قال موسى(3/415)
للسحرة ألقوا ما ترغبون فيه ازدراء بشأنهم وقلة مبالاة وثقة بأن الأمر الإلهي يغلب ولن بالكفر كفر. فالجواب من وجوه: أحدها: أنه إنما أمرهم بشرط أن يعلموا في فعلهم أن يكون حقا فإذا لم يكن كذلك فلا أمر البتة كقول القائل: اسقني الماء من الجرة. فهذا إنما يكون أمرا بشرط حصول الماء من الجرة. والثاني: أن موسى علم أنهم جاءوا لذلك فلا بد أن يفعلوه ودفع النزاع في التقديم والتأخير. الثالث: أنه أذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليتمكن من الإقدام على إبطاله كمن يريد سماع شبهة ملحد ليبحث عنها ويكشف عن ضعفها يقول له: هات وقل ومراده أن يجيب عنها ويبين لكل أحد ضعفها وسقوطها فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الأعراف: 116] قال القاضي: لو كان السحر حقا لكانوا قد سحروا قلوبهم لا أعينهم فثبت أنهم خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه. وقال الواحدي: بل المراد أنهم قلبوا الأعين عن صحة إدراكها بسبب تلك التمويهات.
وروي أنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق وجعلوا الزئبق دواخل العصي فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض فخيل إلى الناس أنها تسعى
وَاسْتَرْهَبُوهُمْ [الأعراف: 116] أي أرهبوهم والسين زائدة كأنهم استدعوا رهبتهم.
وقال الزجاج: اشتدت رهبة الناس فبعثوا جماعة ينادون عند إلقاء ذلك أيها الناس احذروا فهذا هو الاسترهاب وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف: 116] كما زعموا أن ذلك سحر لا يطيقه سحرة أهل الأرض. عن ابن عباس أنه خيل إلى موسى عليه السلام أن حبالهم وعصيهم حيات مثل عصا موسى فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن الق عصاك. وفي رواية الواحدي عنه أن المراد بالوحي هاهنا الإلهام وهاهنا إضمار والتقدير: فألقاها فإذا هي تلقف. قال الجوهري: لقفت الشيء بالكسر ألقفه وتلقفته أيضا تناولته بسرعة و «ما» في ما يأفكون موصولة أو مصدرية بمعنى ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزوّرونه، أو أفكهم نحوه ودنوت منه
وجدت القشعريرة فقال لي: من الرجل؟ قلت له: من العرب سمعت بك وبجمعك ومشيت معه حتى إذا تمكنت منه قتلته بالسيف وأسرعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أني قتلته فأعطاني عصاه وقال: أمسكها فإنها آية بيني وبينك يوم القيامة.
وقال عكرمة: إنما أمر الرجل أن يصبر لعشرة والعشرة لمائة حال ما كان المسلمون قليلين فلما كثروا خفف الله عنهم ولهذا قال ابن عباس: أيما رجل فر من ثلاثة فلم يفر، فإن فر من اثنين فقد فر. والحاصل أن الجمهور ادّعوا أن قوله الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ناسخ لحكم الآية المتقدمة وأنكر ذلك أبو مسلم الأصفهاني قال: لأن لفظ الآية ورد على الخبر. سلمنا أنه بمعنى الأمر لكن لم قلتم إن التقدير ليكن العشرون(3/416)
يغلب فإن قيل: إن إلقاءهم الحبال والعصي معارضة المعجز بالسحر وذلك كفر والأمر صابرين في مقابلة المائتين، ولم لا يجوز أن يكون المراد إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين فليشتغلوا بجهادهم، وإذا كان الشرط غير حاصل في حق هؤلاء لقوله وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم فلا يتصور النسخ. ولفظ التخفيف لا يقتضي ورود التثقيل قبله لأن مثل هذا الكلام قد تقوله العرب ابتداء. ومما يدل على عدم النسخ تقارن الآيتين، والناسخ يجب أن يكون بعد المنسوخ بزمان. وهذا حاصل قول أبي مسلم وهو إنما يستحق الجواب لو لم يحصل قبله إطباق على حصول هذا النسخ والله تعالى أعلم. ومعنى قوله وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً ظهر معلومه فلا يبقى لهشام حجة في مذهبه أنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا بعد وقوعها. والمراد بالضعف قبل الضعف في البدن وقيل في البصيرة والاستقامة في الدين وكانوا متفاوتين في ذلك. والظاهر أن المراد الضعف الإنساني المذكور في قوله وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء: 28] .
التأويل:
يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ لأن الكافر ذاهب عن الدنيا مع تعلقه بها فيحصل له ألم من جهة الخلف ويقبل على الآخرة ولا نور له يبصر به ما أمامه فيحصل له تألم من قدام ولَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً مبدلا حسن تقديم واستعداد أعطاهم الله بضده حَتَّى يُغَيِّرُوا بالكفر والتكذيب ما بِأَنْفُسِهِمْ من نعم الاستعداد الفطري الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ يا روح في الأزل لأن نورك وصفتك غلب على ظلمة النفس وصفاتها فَشَرِّدْ يا روح بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أي بالغ في تبديل صفات النفس وفي تزكيتها بحيث يؤثر نور تبدلها في الصفات التي وراءها فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ أي أظهر عداوتك معهم وَجاهِدْهُمْ أنهم لا يعجزون أي النفوس الكافرة تحت تصرفي فلا تقنطوا من رحمتي في إصلاح حالهم من قوة الروح وغلبات صفاتها وإعداده بمداومة الذكر وقطع التعلق وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ ومن ربط القلب بطريق المراقبة لئلا يلتفت إلى الدنيا وزينتها تُرْهِبُونَ بالذكر والمراقبة عَدُوَّ اللَّهِ الشيطان وَعَدُوَّكُمْ النفس والهوى وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ من نفوس شياطين الإنس لا تَعْلَمُونَهُمُ أنهم عدوّكم من الأحباب والأصدقاء والأقرباء اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ أنهم عدوّ لكم كقوله إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ [التغابن: 14] وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ من شهوات النفس ولذاتها وزينتها بطريق الذكر والمراقبة يُوَفَّ إِلَيْكُمْ فوائد من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بين الروح والقلب والسر وبين النفس وصفاتها. لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ وجودك من السعي والجد والاجتهاد لما بين الروح النوراني والنفس الظلماني من التضاد وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بين الروح والنفس وبين القلب والقالب ليكون الشخص الإنساني طلسما على كنز وجوده لم يكسر الطلسم(3/417)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
للوصول إلى الكنز والله أعلم.
[سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 75]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
القراآت:
أن تكون بالتاء الفوقانية: أبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد أسارى يزيد والمفضل. الآخرون أَسْرى من الأسارى. يزيد أبو عمرو والمفضل. الباقون من الأسرى. مِنْ وَلايَتِهِمْ بكسر الواو حمزة. والباقون: بفتحها.
الوقوف:
فِي الْأَرْضِ ط لتقدير الاستفهام أي أتريدون الْآخِرَةَ ط حَكِيمٌ هـ عَظِيمٌ هـ وَاتَّقُوا اللَّهَ ط رَحِيمٌ هـ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ط رَحِيمٌ هـ مِنْهُمْ ط حَكِيمٌ هـ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ط حَتَّى يُهاجِرُوا ج مِيثاقٌ ط بَصِيرٌ هـ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ط كَبِيرٌ هـ حَقًّا ط كَرِيمٌ هـ مِنْكُمْ ط فِي كِتابِ اللَّهِ ط عَلِيمٌ هـ.
التفسير:
هذا حكم آخر من أحكام الجهاد ومعنى ما كان ما صح وما استقام والإثخان كثرة القتل وإشاعته من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة والمعنى فيه تذليل الكفر وإضعافه وإعزاز الإسلام وإظهاره بإشاعة القتل في الكفرة.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسبعين أسيرا- فيهم العباس عمه وعقيل بن أبي طالب- فاستشار أبا بكر.
فيهم فقال: قومك وأهلك فاستبقهم لعل الله أن يتوب عليهم وخذ منهم فدية تقوي بها أصحابك. وقال عمر: كذبوك وأخرجوك فقدّمهم واضرب أعناقهم فإن هؤلاء أئمة الكفر وإن الله أغناك عن الفداء، مكن عليا من عقيل وحمزة من العباس ومكني من فلان لنسيب(3/418)
له فلنضرب أعناقهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله ليليّن قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم: 36] ومثلك يا عمر مثل نوح قال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] ثم قال لأصحابه: أنتم اليوم عالة فلا يفلتن أحد منهم إلا بفداء أو ضرب عنق.
وروي إنه قال لهم: إن شئتم قتلتموهم وإن شئتم فاديتموهم واستشهد منكم بعدّتهم. فقالوا: بل نأخذ الفداء فاستشهدوا بأحد وكان فداء الأسارى عشرين أوقية وفداء العباس أربعين أوقية.
وعن محمد بن سيرين كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهما.
وروي أنهم لما أخذوا الفداء نزلت الآية فدخل عمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو وأبو بكر يبكيان فقال: يا رسول الله أخبرني فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت فقال: أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه.
وروي أنه قال: لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه غير عمر. وسعد بن معاذ لقوله: كان الإثخان في القتل أحب إليّ.
واعلم أن الطاعنين في عصمة الأنبياء عليهم السلام تمسكوا في هذا المقام بوجوه: الأول: وَما كانَ لِنَبِيٍّ صريح في النهي وقد حصل الأسر بدليل قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى. الثاني: أنهم أمروا بالقتل يوم بدر في قوله فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ فكان الأسر معصية. وأجيب بأن قوله حَتَّى يُثْخِنَ يدل على أن الأسر كان مشروعا ولكن بشرط الإثخان ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقا عظيما فلعل العتاب إنما ترتب لأن الإثخان أمر غير مضبوط فظنوا أن ذلك القدر من القتل بلغ حد الإثخان فأخطأوا في الاجتهاد وكان قوله فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ تكليفا مختصا بحالة الحرب فلم يتناول الأسر بعد انهزام الكفار. الثالث: قالوا: الحكم بأخذ الفداء معصية وإلا لم يتوجه الذم في قوله تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا أي حطامها سمي بذلك لأنه سريع الزوال كالعرض قسيم الجوهر وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي ثوابها أو ما هو سبب الجنة وهو إعزاز الإسلام بإشاعة القتل في أعدائه. وقرىء بجر الآخرة أي عرض الآخرة على التقابل. وَاللَّهُ عَزِيزٌ يغلب أولياؤه على أعدائه ويقهرونهم ويلجئونهم إلى القتل والفداء بعد الأسر ولكنه حَكِيمٌ لا يرخص في أخذ الفداء إلا بعد إفشاء القتل في الأعداء.
والجواب أن كل ذلك محمول على ترك الأولى وكذا الكلام في قوله لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أي لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح وهو أنه لا يعاقب أحدا يخطىء في الاجتهاد لأنهم نظروا في أن استبقاءهم ربما كان سببا في إسلامهم وتوبتهم وحصول أولاد(3/419)
منهم مسلمين، وإن فداءهم يتقوى به على الجهاد في سبيل الله، وخفي عليهم أن قتلهم أعزّ للإسلام وأهيب لمن وراءهم. قال ابن عباس: هذا الحكم إنما كان يوم بدر لأن المسلمين كانوا قليلين فلما كثروا وقوي إسلامهم أنزل الله بعد ذلك في الأسارى حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: 4] قال بعض العلماء: هذا الكلام يوهم أن مقتضى الآيتين مختلف وليس كذلك فإن كلتاهما تدل على أنه لا بد من تقديم الإثخان على الداء. وعن سعيد بن جبير لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ بأنه سيحل لكم الفدية وكأن قرب الوقت من التحليل يوجب تخفيف العقاب. وقال محمد بن إسحق لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ أنه لا يعذب أحدا إلا بعد تأكيد الحجة وتقديم النهي. وحاصل هذا القول يرجع إلى ترك الأولى ذلك أن الأولى وغير الأولى يشتركان في كونهما مباحين وإنما يعاتب على ترك الأولى لا على سبيل العقوبة بل على سبيل الحث على فعل الأولى. وعن بعضهم المراد حكم الله بأنه لا يعذب من شهد بدرا. واعترض بأنه يلزم أن لا يكونوا مكلفين. والجواب أن عدم العقاب على الذنب لا يوجب عدم التكليف فلعل التكليف لأجل زيادة الثواب.
وقيل: لولا كتاب سبق بالعفو عن هذه الواقعة لكان استحقاق مس العذاب حاصلا.
روي أنهم أمسكوا عن الغنائم أو عن أخذ الفداء لأنه من جملة الغنائم فنزلت فَكُلُوا
والفاء للتسبيب ومعنى الآية قد أبحت لكم الغنائم فكلوا وحَلالًا نصب على الحال من المغنوم أو صفة للمصدر أي أكلا حلالا وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما يستقبل فلا تقدموا على شيء لم تؤمروا به إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط منكم من ترك الأولى رَحِيمٌ فبذلك رخص لكم فيما رخص من أخذ الفداء ثم قال لاستمالة قلوب الأسارى يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ إن يظهر معلومه أن فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً وهو الإيمان والعزم على طاعة الله وطاعة رسوله في جميع التكاليف والتوبة عن الكفر وعن جميع المعاصي ويدخل فيه العزم على نصرة الرسول والتوبة عن محاربته يُؤْتِكُمْ في الدنيا خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من المنافع العاجلة وَيَغْفِرْ لَكُمْ في الآخرة، أو المراد بالخير إيصال الثواب وبالمغفرة إزالة العقاب. ثم إنا قد نعلم أن كل من خلص من الأسر وآمن فقد آتاه الله في الدنيا خيرا لدلالة الآية على ذلك إجمالا، وذلك الخير إن كان دينيا فلا شك أن كلهم قد وجدوا ذلك لأن قليل الدنيا مع الإيمان أعظم من كثير الدنيا مع الكفر، وإن كان دنيويا فتفضيل ذلك غير معلوم إلا ما
روي عن بعضهم كالعباس روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفا، فتوضأ لصلاة الظهر وما صلى حتى فرقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله وكان يقول: هذا خير مما أخذ مني وأنا أرجو(3/420)
المغفرة.
وقال ابن عباس: نزلت الآية في العباس وعقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحرث.
وكان العباس أسر يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر فلم تبلغه النوبة حتى أسر فقال العباس. كنت مسلما إلا أنهم استكرهوني فقال صلى الله عليه وسلم: إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا. قال العباس: وكلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يترك ذلك الذهب عليّ فقال: أما شيء خرجت به تستعين به علينا فلا. قال: وكلفني الرسول صلى الله عليه وسلم فداء ابن أخي عقيل بن أبي طالب عشرين أوقية وفداء نوفل بن الحرث. فقال العباس:
تركتني يا محمد أتكفف قريشا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: لا أدري ما يصيبني في وجهي فإن حدث فيّ حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل. فقال العباس: وما يدريك؟ قال: أخبرني به ربي. قال العباس: فأنا أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك عبده ورسوله والله لم يطلع عليه أحد إلا الله، ولقد دفعته إليها في سواد الليل ولقد كنت مرتابا في أمرك فأما إذا أخبرتني بذلك فلا ريب. قال العباس: فأبدلني الله خيرا من ذلك لي الآن عشرون عبدا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا، وأعطاني زمزم ما أحب أن لي بها جمع أموال أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي.
ثم قال وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ أي نكث ما بايعوك عليه،
روي أنه صلى الله عليه وسلم لما أطلقهم من الأسر عهد معهم أن لا يعودوا إلى محاربته وإلى معاضدة المشركين كما هو العادة فيمن يطلق من الحبس والأسر.
وقيل: المراد من الخيانة منع ما ضمنوا من الفداء. فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ في كفرهم به ونقض ما أخذ على كل عاقل من ميثاقه. فَأَمْكَنَ أي المؤمنين مِنْهُمْ يوم بدر قتلا وأسرا فذاقوا وبال أمرهم فسيمكن المؤمنين منهم مرة أخرى إن أعادوا الخيانة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم حَكِيمٌ فيجازيهم على حسب أعمالهم.
واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ظهرت نبوته بمكة ودعا الناس هناك إلى الدين ثم انتقل منها إلى المدينة، فمن المؤمنين من وافقه في الهجرة وهم المهاجرون الأولون، ومنهم من لم يوافقه في ذلك، ومنهم من هاجر بعد هجرته فذكر في خاتمة هذه السورة أحكام هذه الأصناف وأحوالهم مع ذكر أنصاره بالمدينة ومع ذكر الكفار أيضا فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ويدخل فيه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والانقياد لجميع التكاليف وَهاجَرُوا فارقوا الأوطان وتركوا الأقارب والجيران في طلب مرضاة الله وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أما المجاهدة بالأموال فلأنهم إذا فارقوا الديار ضاعت(3/421)
مساكنهم ومزارعهم وضيعاتهم وبقيت في أيدي الأعداء واحتاجوا إلى الإنفاق في تلك العزيمة والسفرة وفي الغزوات والمحاربات، وأما المجاهدة بالأنفس فيكفي في وصف ذلك أنهم أقدموا على قتال أهل بدر من غير آلة ولا عدّة والأعداء في غاية الكثرة ونهاية الشدّة، وذلك يدل على أنهم أزالوا أطماعهم عن الحياة وبذلوا أرواحهم في سبيل الله وكانوا أول الناس إقداما على هذه الأفعال والتزاما لهذه الخصال، ولهذه المسابقة أثر عظيم في تقوية الدين لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا [الحديد: 10] وذلك أن غيرهم يقتدي بهم وتقوى دواعيهم بما يرون منهم، والمحن تخف على القلوب بالمشاركة، ولأن المهاجرين لهم سابقة في الإسلام ذكر الله تعالى الأنصار بعدهم فقال وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أي الذين أنزلوا المهاجرين بهم وجعلوا لهم مأوى أي نصروهم على أعدائهم أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أطبق جم غفير من المفسرين كابن عباس وغيره على أن المراد بهذه الولاية الإرث كان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون القرابة حتى نسخ ذلك بقوله وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ واستبعد الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله هذا التفسير لأنه يستلزم النسخ واستلزام النسخ محذور منه ما أمكن، ولأن لفظ الولاية يشعر بالقرب حيث يطلق دون الإرث كقولهم: السلطان ولي من لا ولي له. وقال سبحانه أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [يونس: 62] فإذن المراد أن المهاجرين والأنصار يعظم بعضهم بعضا وبينهم معاونة وتناصر وأنهم يد واحدة على الأعداء، وأن حب كل واحد لغيره جار مجرى حبه لنفسه، أما قوله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فوجهت قراءة حمزة بأن تولي بعضهم بعضا شبه بالعمل والصناعة والتجارة والقصارة كأنه بتولية صاحبه يزاول أمرا ويباشر عملا. قال المفسرون: لا يجوز أن يكون المراد بهذه الولاية النصرة والمعونة وإلا لم يصح عطف وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ
عليه لأن الشيء لا يعطف على مثله، فالمراد بها الإرث كما مر. وأجيب بأنا لو حملناهما على التعظيم زال الإشكال وحصل التغاير لأن أهل الإيمان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض الأحوال مع أنهم لا يوالونهم بمعنى الإجلال والتعظيم، وكذا قد ينصر المرء عبده ولا تعظيم جعل الله تعالى حكم هؤلاء المؤمنين متوسطا بين الأولين وبين الكفرة من حيث إنه نفى عنهم الولاية قبل أن يهاجروا وأثبت لهم النصرة عند الاستنصار إلا على الكفار المعاهدين لأنهم لا يبدأون بالقتال. ثم قال وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ظاهره إثبات الموالاة بينهم والغرض نهي المسلمين عن موالاتهم وإن كانوا أقارب، وأن يتركوا(3/422)
يتوارث بعضهم بعضا. وفيه أن المشركين واليهود والنصارى لما اشتركوا في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم صارت هذه الجهة موجبة لانضمام بعضهم إلى بعض وقرب بعضهم من بعض وإن كان كل واحد منهم في نهاية الإنكار لصاحبه وذلك من أدل الدلائل أن تلك العداوة ليست لأجل الدين ولكنها محض الحسد والعناد، ومن جعل الولاية في هذه الآيات بمعنى الإرث استدل بذلك على أن الكفار في التوارث على اختلاف مللهم كأهل ملة واحدة، فالمجوسي يرث الوثني، والنصراني يرث المجوسي، واليهودي يرث النصراني وبالعكس. ثم قال إِلَّا تَفْعَلُوهُ أي ما أمرتكم به من موالاة المسلمين المهاجرين ومن عدم موالاة غير المهاجرين إلا في حالة الاستنصار ومن عدم موالاة الكفرة أصلا تَكُنْ فِتْنَةٌ أي تحصل مفاسد عظيمة فِي الْأَرْضِ من تفرق الكلمة واختلاط المؤمن بالكافر
ووقوع الهرج والمرج. ثم كرر تعظيما لشأن المؤمنين وثناء عليهم قوله وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا الآية. فوصفهم بأنهم هم المؤمنون حقا ولَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وقد تقدم تفسير مثله في أول السورة. والحاصل أن هذه السعادات العالية إنما حصلت لهم لأنهم أعرضوا عن اللذات الجسمانية فتركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال، وفيه تنبيه على أنه لا طريق إلى تحصيل السعادات إلا بالإعراض عن هذه الجسمانيات. ثم وصف اللاحقين بالهجرة بعد السابقين إليها فقال وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ نقل الواحدي عن ابن عباس: أن المراد بعد الحديبية وهي الهجرة الثانية. وقيل: بعد نزول الآية. وقيل: بعد يوم بدر والأصح أن المراد والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى فَأُولئِكَ مِنْكُمْ ألحقهم بالأولين تشريفا للآخرين وتعظيما لشأن السابقين، ولولا كون القسم الأول أشرف لما صح هذا الإلحاق. ثم ختم الكلام بقوله وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي ذوو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ أي أحق بهم وأجدر فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكمه وقسمته أو في اللوح أو في القرآن وهو آية المواريث. وهذه الآية ناسخة عند الأكثرين للتوراث بالهجرة والنصرة، أما الذين فسروا تلك الولاية بالنصرة والمحبة والتعظيم فإنهم قالوا: لما كانت تلك الولاية مخالفة للولاية بسبب الميراث بيّن الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة ذلك الوهم أعني إزالة وهم من يجعل الولاية بمعنى الإرث. وقد تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام وهم ذوو قرابة ليست بسبب فرض ولا عصوبة أو كل قريب يخرج عن أصحاب الفروض والعصبات وإنهم عشرة أصناف: الجد أو الأم وكل جد وجدة ساقطين، وأولاد البنات، وبنات الإخوة، وأولاد الأخوات، وبنو الإخوة للأم والعم للأم،(3/423)
وبنات الأعمام والعمات والأخوال والخالات. والخلاف في أنه إذا لم يوجد ذو فرض أو عصبة فهل يورث ذوو الأرحام أو يوضع المال في بيت المال؟ فقدمهم أبو حنيفة على بيت المال للآية، وعكس الشافعي وقال: إن الآية مجملة في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية فلما قال فِي كِتابِ اللَّهِ كان معناه في الحكم الذي بينه الله في كتابه فصارت هذه الآية مقيدة بأحكام آية الميراث فلا تبقى حجة في توريث ذوي الأرحام. واعلم أنه سبحانه قال في أول الآيات وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في براءة بتقديم فِي سَبِيلِ اللَّهِ لأن في هذه السورة تقدم ذكر المال والفداء والغنيمة في قوله تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وفي قوله لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ أي من الفداء وفي قوله فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ وفي براءة تقدم ذكر الجهاد في سبيل الله وهو قوله وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ [التوبة: 16] وفي قوله كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: 19] ثم إنه حذف من الآية الثانية بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ اكتفاء بما في الأولى وحذف في الثالثة فِي سَبِيلِ اللَّهِ أيضا اكتفاء بما في الآيتين قبلها والله أعلم. ثم ختم السورة بقوله إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ والمراد أن هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكم وصواب وصلاح وليس فيها عيب وعبث، لأن العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلا بالصواب ونظيره أن الملائكة لما قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها قال مجيبا لهم إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: 30] .
التأويل:
ما كانَ لِنَبِيٍّ الروح أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى أي نفس مأسورة وقوى موجهة إلى تدبير أمور المعاش والدعوة إلى الله وإن كان تصرفا بالحق للحق حتى يشيع في أرض البشرية قتل القوى والنفوس المنطبعة بسيف الرياضة والمجاهدة، لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الوحي يتحنث في غار حراء تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا فيه إشارة إلى أن الإنسان إذا وكل إلى نفسه وطبعه يكون مائلا إلى الدنيا راغبا فيها وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ منكم أي ليس الإنسان من سجيته وطبعه أن يميل إلى الآخرة إنما هو بتوفيق الله إياه وبعنايته الأزلية لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ بأن الإنسان لا يكون منجذبا نحو عالم الأرواح بالكلية وإنما يكون متوسطا بين العالمين مراعيا للطرفين لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ من فداء النفس المأسورة وهو التفاتها إلى تدبير البدن عَذابٌ عَظِيمٌ هو عذاب القطيعة والبعد عن عالم النور فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ من أوقات الجهاد الأكبر من الأنوار والأسرار عند رفع الأستار حَلالًا طَيِّباً نفوسكم عن لوث محبنها فكل ما يشغل المرء عن الالتفات إلى الله فهو شرك وصنم. وَاتَّقُوا اللَّهَ عما سواه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يستر بأنوار(3/424)
وجوده ظلمات وجودكم رَحِيمٌ بكم حيث يغنيكم عنكم ويبقيكم به. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى من النفوس المأسورة التي أسرت في الجهاد الأكبر عند استيلاء سلطان الذل عليها إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً من الاطمئنان إلى ذكر الله والانقياد لأحكامه يُؤْتِكُمْ خَيْراً مما أخذ منكم من اللذات الفانية وأسبابها وذلك هو البقاء الحقيقي والذوق السرمدي وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ يعني الميل إلى ما جبلت النفوس عليه من طموح إلى الزخارف الدنيوية فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ بالتجاوز عن حدود الشريعة ورسوم الطريقة فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ عند استيلاء الذكر عليها وقتلها بسيف الرياضة وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالها حَكِيمٌ فيما دبر من أمر جهادها وتزكيتها. وَالَّذِينَ آوَوْا ذكر الله ومحبته في القلوب وَنَصَرُوا المحبة بالذكر الدائم والطلب القائم أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في المرافقة والموافقة في الطلب والسير إلى الله وَالَّذِينَ آمَنُوا بأن الطلب حق وَلَمْ يُهاجِرُوا عن أوصافهم وأفعالهم ووجودهم المجازي. وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ تمسكوا بأذيال إرادة الواصلين منكم فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ بأن تدلوهم على طريق الحق بمعاملتكم وسيركم ليقتدوا بكم وبأحوالكم إِلَّا عَلى قَوْمٍ أي إلا على بعض أحوالكم مما سالحتهم عليه نفوسكم بعد ما جاهدتموها وأسرتموها وأمنتم شرها، فلا تدلوا الطلاب على هذه الأحوال لئلا يميلوا إلى الصلح في أوان الجهاد فَأُولئِكَ مِنْكُمْ يشير إلى أن المتأخرين إذا دخلوا في زمرة المتقدمين الواصلين فهم منهم وإنهم ذوو رحم الوصول لأنه ليس عند الله صباح ولا مساء ولهذا
قال عليه الصلاة والسلام: «أمتي كالمطر لا يدري أوّلهم خير أم آخرهم» .(3/425)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
(سورة التوبة)
(مدنية حروفها 10087 كلمها 2479 وآياتها 129)
[سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 16]
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)(3/426)
القراآت:
وَرَسُولِهِ بالنصب: روح وزيد. الباقون: بالرفع. أَئِمَّةَ بهمزتين:
عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام يدخل بينهما مدة. الباقون أيمة بهمز ثم ياء. لا أَيْمانَ بكسر الهمزة: ابن عامر. الباقون: بالفتح جمع يمين يعملون بياء الغيبة: عباس.
الوقوف:
مِنَ الْمُشْرِكِينَ ط مُعْجِزِي اللَّهِ لا للعطف الْكافِرِينَ هـ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لا للعطف وَرَسُولِهِ ط لَكُمْ ج لابتداء الشرط مع الواو مُعْجِزِي اللَّهِ ط أَلِيمٍ هـ للاستثناء مُدَّتِهِمْ ط الْمُتَّقِينَ هـ مَرْصَدٍ ج سَبِيلَهُمْ ط رَحِيمٌ هـ مَأْمَنَهُ ط لا يَعْلَمُونَ هـ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ج لأن «ما» للجزاء مع اتصالها بالفاء فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ط الْمُتَّقِينَ هـ وَلا ذِمَّةً ط قُلُوبُهُمْ ج فاسِقُونَ هـ ج لأن ما بعده يصلح وصفا واستئنافا. يَعْمَلُونَ هـ وَلا ذِمَّةً ط الْمُعْتَدُونَ هـ فِي الدِّينِ ط يَعْلَمُونَ هـ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ لا لتعلق «لعلهم» بقوله فَقاتِلُوا وما بينهما اعتراض يَنْتَهُونَ هـ أَوَّلَ مَرَّةٍ ط أَتَخْشَوْنَهُمْ ج لأن ما بعده مبتدأ مع الفاء مُؤْمِنِينَ هـ لا للعطف قُلُوبِهِمْ ط مَنْ يَشاءُ ط حَكِيمٌ هـ وَلِيجَةً ط تَعْمَلُونَ هـ.
التفسير:
قد عد في الكشاف من أسماء هذه السورة «براءة» وذلك واضح، و «التوبة» لأن فيها ذكر التوبة على المؤمنين و «المقشقشة» لأنها تقشقش من النفاق أي تبرئ منه و «المبعثرة» و «المثيرة» و «الحافرة» و «الفاضحة» و «المنكلة» و «المشردة» و «المخزية» و «المدمدمة» لأنها تبعثر عن أسرار المنافقين تبحث عنها وتثيرها وتحفر عنها وتفضحهم وتنكلهم وتشرد بهم وتخزيهم وتدمدم عليهم. وعن حذيفة: إنكم تسمونها سورة التوبة وإنما هي سورة العذاب، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه. وعن ابن عباس: ما زالت تقول وَمِنْهُمْ حتى حسبنا أن لا تدع أحدا. وللعلماء خلاف في سبب إسقاط التسمية من أولها.
فعن ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان في ذلك فقال: كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما نزلت عليه سورة يقول: ضعوها في موضع كذا، وكانت براءة آخر القرآن نزولا وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين موضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصة الأنفال فقرنت بينهما وكأنه أراد بالمشابهة.
ما روي عن أبيّ بن كعب في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذ العهود، فوضعت إحداهما بجنب الأخرى. واستبعد جمع من العلماء هذا القول لأنا لو جوّزنا في بعض السور أن لا يكون ترتيبها من الله على سبيل الوحي لجوزنا مثله في سائر السور وفي آيات السورة الواحدة وذلك يفضي إلى تجويز الزيادة والنقصان في القرآن على ما يقول به(3/427)
الإمامية. وقال بعض العلماء: إن الصحابة اختلفوا في أن «الأنفال» مع «التوبة» سورتان أم سورة واحدة لأنهما مائتان وست آيات فهما بمنزلة إحدى الطوال، وكلتاهما وردت في القتال والمغازي، فلمكان هذا الاختلاف فرجوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول إنهما سورتان، ولم تكتب البسملة تنبيها على قول من يرى أنهما واحدة فعملوا عملا يدل على أن هذا الاشتباه حاصل. وفيه أنهما لما لم يسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا متشددين في ضبط الدين وحفظ القرآن من التغيير والتحريف وذلك يبطل قول الإمامية، وفيه دليل على أن البسملة آية من كل سورة والإجازات كتابتها هاهنا بل عند كل مقطع كلام.
وعن ابن عباس: سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن ذلك فقال: لأن بسم الله الرحمن الرحيم أما وأن هذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهود.
وذكر سفيان بن عيينة هذا المعنى وأكده بقوله تعالى وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النساء: 94] فقيل له: أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل الحرب «بسم الله الرحمن الرحيم» ؟. فأجاب بأن ذلك ابتداء منه يدعوهم إلى الله ولم ينبذ إليهم عهدهم ولهذا قال في آخر الكتاب وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] ومما يؤكد شبهة من زعم أنهما سورة واحدة هو أن ختم الأنفال وقع بإيجاب أن يوالي المؤمنون بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية، وقوله بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ تأكيد لذلك الكلام وتقرير له. ومعنى البراءة انقطاع العصمة وهي خبر مبتدأ محذوف وو «من» لابتداء الغاية متعلق بمحذوف لا بالبراءة لفساد المعنى. والمعنى هذه براءة واصلة من الله ورسوله إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ كما تقول: كتاب من فلان إلى فلان. ويجوز أن يكون بَراءَةٌ مبتدأ لتخصصها بصفتها هي الجار والمجرور كما قلنا والخبر محذوف كما ذكرنا نظيره قولك: رجل من بني تميم في الدار. كان قد أذن الله في معاهدة المشركين فاتفق المسلمون مع رسول الله وعاهدوهم فلما نقضوا العهد أوجب الله النبذ إليهم وكأنه قيل للمسلمين: اعلموا أن الله ورسوله قد برئا من العهد الذي عاهدتم به المشركين. روي أنهم كانوا عاهدوا المشركين من غير أهل مكة وغيرهم من العرب فنكثوا إلا ناسا منهم وهم بنو ضمرة وبنو كنانة، فنبذ العهد إلى الناكثين وأمروا أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر آمنين أين ساروا. والأشهر هي الحرم لقوله فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ والسياحة الضرب في الأرض والاتساع في السير والبعد عن المدن وموضع العمارة مع الإقلال من الطعام والشراب منه يقال للصائم سائح لتركه المطعم والمشرب. والمعنى في هذا الأمر إباحة الذهاب مع الأمان وإزالة الخوف.
روي أن فتح مكة كان سنة ثمان من الهجرة وكان(3/428)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ولّى عتاب بن أسيد الوقوف بالناس في الموسم، فاجتمع في تلك السنة في المواقف ومعالم الحج المسلمون والمشركون ونزلت هذه السورة سنة تسع، وكان أمر فيها أبا بكر على الموسم فلما نزلت السورة أتبعه عليا راكب العضباء ليقرأها على أهل الموسم فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر؟ فقال: لا يؤدي عني إلا رجل مني، فلما دنا علي سمع أبو بكر الرغاء فوقف وقال: هذا رغاء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور.
وروي أن أبا بكر لما كان ببعض الطريق هبط جبريل عليه السلام وقال: يا محمد لا يبلغن رسالتك إلا رجل منك فأرسل عليا فرجع أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أشيء نزل من السماء؟ قال: نعم.
فسر وأنت على الموسم وعلي ينادي بالآي. فلما كان قبل التروية خطب أبو بكر وحدّثهم عن مناسكهم وقام علي يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: يا أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم. فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية. وعن مجاهد ثلاث عشرة. ثم قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده. فقالوا عند ذلك: يا علي أبلغ ابن عمك أنا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد إلا طعن بالرماح وضرب السيوف.
استدلت الإمامية بهذه القصة على تفضيل علي كرم الله وجهه وعلى تقديمه. وأجاب أهل السنة بأنه أمر أبا بكر على الموسم وبعث عليا خلفه لتبليغ هذه الرسالة حتى يصلي علي خلف أبي بكر ويكون ذلك جاريا مجرى التنبيه على إمامة أبي بكر. وأما
قوله: «لا يبلغ عني إلا رجل مني»
فذلك لأن المتعارف بين العرب أنه إذا عقد السيد الكبير منهم لقوم حلفا أو عاهد عهدا لم يحل ذلك العهد إلا هو أو رجل من ذوي قرابته كأخ أو عم. فلو تولاه أبو بكر لجاز أن يقولوا هذا خلاف ما يعرف فينافي نقض العهد فأزيلت علتهم بتولية ذلك عليا. وقيل: لما أحضر أبا بكر لتولية أمر الموسم أحضر عليا لهذا التبليغ تطبيبا للقلوب ورعاية للجوانب. ولنرجع إلى التفسير. قال ابن الأنباري:
في الكلام إضمار التقدير: فقل لهم سيحوا. ويكون ذلك رجوعا من الغيبة إلى الحضور كقوله وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً [الدهر: 21، 22] واختلفوا في الأشهر الأربعة.. فعن الزهري أن براءة نزلت في شوال والمراد شوال وذو القعدة وذو الحجة والمحرم. وقيل: هي عشرون من ذي الحجة والمحرم وصفر وربيع الأول وعشر من ربيع الآخر. وكانت حرما لأنهم أومنوا فيها وحرم قتلهم وقتالهم، أو سميت حرما على التغليب لأن ذا الحجة والمحرم منها. وقيل: ابتداء المدّة من عشر ذي القعدة إلى(3/429)
عشر من ربيع الأول لأن الحج في تلك السنة كان في ذلك الوقت للنسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السنة الثانية في ذي الحجة. قال المفسرون: هذا تأجيل من الله للمشركين فمن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر حطت إلى أربعة ومن كانت مدته أقل رفعت إليها. والمقصود من هذا التأجيل أن يتفكروا في أنفسهم ويحتاطوا في الأمر ويعلموا أنه ليس لهم بعد هذه المدة إلا أحد أمور ثلاثة: الإسلام أو قبول الجزية أو السيف. فيصير ذلك حاملا لهم على قبول الإسلام ظاهرا وإلى هذا المعنى أشار بقوله وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ أي اعلموا أن هذا الإمهال ليس لعجز ولكن لمصلحة ولطف ليتوب من تاب، وفيه ضرب من التهديد كأنه قيل: افعلوا في هذه المدة كل ما أمكنكم من إعداد الآلات والأدوات فإنكم لا تفوتون الله وهو مخزيكم أي مذلكم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالعذاب. وقوله مُخْزِي الْكافِرِينَ من باب الالتفاف من الحضور إلى الغيبة. ومن وضع الظاهر موضع المضمر ليكون فيه إشارة إلى أن سبب الإخزاء هو الكفر.
ثم أراد أن يعلم جميع الناس البراءة المذكورة فقال وَأَذانٌ وارتفاعه كارتفاع براءة على الوجهين، ثم الجملة معطوفة على مثلها. وخطىء الزجاج في قوله «إنه معطوف على براءة» لأنه لو عطف عليها لكان هو أيضا مخبرا عنه بالخبر الأوّل وهو إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ لكنه غير مقصود بل المقصود الإخبار عنه بقوله إِلَى النَّاسِ والأذان اسم بمعنى الإيذان الإعلام كالأمان والعطاء بمعنى الإيمان والإعطاء ومنه أذان الصلاة. أمر الله تعالى بهذا الإعلام يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ وهو الجمع الأعظم الذي حضر فيه المؤمن والمشرك والعاهد الناكث وغير الناكث ليصل الخبر إلى جميع الأطراف ويشتهر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يحج في السنة الآتية فأمر بإظهار هذه البراءة لئلا يحضر الموقف غير المؤمنين الموحدين وقيل: يوم الحج الأكبر يوم عرفة لأن فيه أعظم أعمال الحج وهو الوقوف بعرفة ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «الحج عرفة» «1» وهو قول عمر وسعيد بن المسيب وابن الزبير وعطاء وطاوس ومجاهد وإحدى الروايتين عن علي عليه السلام وابن عباس ورواية المسوّر بن مخرمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة فقال: أما بعد فإن هذا يوم الحج الأكبر.
وقال ابن عباس في رواية عطاء: هو يوم النحر. ووافقه قول الشعبي والنخعي والسدي والمغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير. وذلك أن معظم أفعال الحج من الطواف والحلق والرمي والنحر يقع فيه. ومثله ما
روي عن علي رضي الله عنه أن رجلا أخذ بلجام دابته فقال: ما يوم الحج الأكبر؟ فقال: يومك هذا خلّ عن دابتي يعني يوم النحر.
وعن ابن
__________
(1) المصدر السابق.(3/430)
عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: هذا يوم الحج الأكبر.
قال ابن جريج عن مجاهد: يوم الحج الأكبر أيام منى كلها وهو قول سفيان الثوري. وكان يقول: يوم الحج الأكبر أيامه كلها كيوم صفين ويوم الجمل يراد به الحين والزمان، لأن كل حرب من هذه الحروب دامت أياما كثيرة. وعلى هذا فقد وصف الحج بالأكبر لأن العمرة تسمى الحج الأصغر. وقيل: الحج الأكبر القران والأصغر الإفراد. عن مجاهد أيضا: هذا وقد حذفت الباء التي هي صلة الأذان تخفيفا والتقدير أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وقوله وَرَسُولِهِ بالرفع مبتدأ محذوف الخبر أي ورسوله أيضا كذلك، أو هو معطوف على المنوي في بَرِيءٌ أي بريء هو ورسوله. وجاز العطف من غير تأكيد بالمنفصل للفصل. وقرىء بالجر على الجوار أو على أن الواو للقسم كقوله سبحانه لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر: 72] والفرق بين قوله بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وبين قوله أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ أن المقصود من الكلام الأول هو الإخبار بثبوت البراءة، والمقصود من هذا الثاني إعلام جميع الناس بما حصل وثبت. وأيضا المراد بالأول البراءة من العهد، وبالثاني البراءة التي هي نقيض الموالاة، ولهذا لم يصف المشركين ثانيا بوصف معين كالمعاهدة تنبيها على أن الموجب لهذه البراءة وهو كفرهم وشركهم ولهذا أتبعه قوله فَإِنْ تُبْتُمْ أي عن الشرك فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وفيه ترغيب في التوبة والإقلاع الموجب لزوال البراءة وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن التوبة أو بقيتم على التولي والإعراض عن الإيمان والوفاء فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ فائتين أخذ الله وعقابه. قال بعض العلماء: قوله سبحانه فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ليس بتكرار لأن الأول للمكان والثاني للزمان.
وَبَشِّرِ يا محمد أو يا من له أهلية الخطاب. وفيه من التهكم والتهديد ما فيه كيلا يظن أن عذاب الدنيا لو فات وزال خلصوا من العذاب بل العذاب الشديد معدّ لهم يوم القيامة.
أما قوله إِلَّا الَّذِينَ قد قال الزجاج: إن الاستثناء يعود إلى قوله بَراءَةٌ والتقدير: براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلا الذين لم ينقضوا العهد. وقال في الكشاف:
وجهه أن يكون مستثنى من قوله فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ لأن الكلام خطاب للمسلمين والتقدير: فقولوا لهم سيحوا إلا الذين عاهدتم ثم لم ينقضوا فأتموا إليهم عهدهم. وقيل:
استثناء من قوله إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ ومعنى لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً لم يقتلوا منكم أحدا ولم يضروكم قط. ومعنى لَمْ يُظاهِرُوا لم يعاونوا أي لم يقدموا على المحاربة بأنفسهم ولم يهيجوا أقواما آخرين. وقرىء ينقضوكم بالضاد المعجمة أي لم ينقضوا عهدكم.
ومعنى فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ أدوه إليهم تاما كاملا. قال ابن عباس: بقي لحي من كنانة من(3/431)
عهدهم تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم. ثم ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ يعني أن قضية التقوى أن لا يسوى بين القبيلين ولا يجعل الوفي كالغادر، ومن جملة الغادرين بنو بكر عدوا على خزاعة عيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهرتهم قريش بالسلاح حتى وفد عمرو بن سالم الخزاعي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشد:
لا هم إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيك الأتلدا
إن قريشا أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ذمامك المؤكدا
هم بيتونا بالحطيم هجدا ... وقتلونا ركعا وسجدا
فقال صلى الله عليه وسلم: لا نصرت إن لم أنصركم
ومعنى ناشد محمدا أذكر له الحلف والعهد لأنه كان بين أبيه عبد المطلب وبين خزاعة حلف قديم. والأتلد الأقدم.
ثم بين حكم انقضاء أجل الناكثين فقال فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ أي التي أبيح فيها للناكثين أن يسيحوا. وانسلاخ الشهر تكامله جزءا فجزءا إلى أن ينقضي كانسلاخ الجلد عما يحويه، شبه خروج المتزمن عن زمانه بانفصال المتمكن عن مكانه فكلاهما ظرف فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ يعني الناقضين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من حل أو حرم وفي أي وقت كان. وَخُذُوهُمْ وأسروهم والأخيذ الأسير وَاحْصُرُوهُمْ امنعوهم من التصرف في البلاد وقيدوهم. وقال ابن عباس: حصرهم أن يحال بينهم وبين المسجد الحرام.
وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ أي في كل ممر ومجاز ترقبوهم هناك. وانتصابه على الظرف كما مر في قوله لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف: 16] فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ إن حصلوا على شروطها فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ المراد من التخلية الكف عنهم وإطلاقهم من الأسر والحصر عن البيت الحرام، أو عن التصرف في مهماتهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم ما سلف لهم من الكفر والغدر. قال الشافعي: إنه تعالى أباح دماء الكفار بجميع الطرق والأحوال ثم حرمها عند التوبة عن الكفر وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فما لم يوجد أحد هذه الأمور لم يوجد هذا المجموع، فوجب أن تبقى إباحة الدم على الأصل. فتارك الصلاة يقتل، ولعل أبا بكر استدل بمثل ذلك على جواز قتال مانعي الزكاة. وحمل أكثر الأئمة الإقامة والإيتاء هاهنا على اعتقاد وجوبهما والإقرار بذلك وإن كان له وجه عدول عن الظاهر.
وعن الحسن أن أسيرا نادى بحيث يسمع النبي صلى الله عليه وسلم أتوب إلى الله ولا أتوب إلى محمد ثلاثا. فقال صلى الله عليه وسلم:
«عرف الحق لأهله فأرسلوه» .
قال بعض العلماء: ذكر التوبة هاهنا عبارة عن تطهير القوة النظرية عن الجهل، وذكر الصلاة والزكاة عبارة عن تطهير القوة العملية عما لا ينبغي، ولا(3/432)
ريب أن كمال السعادة منوط بهذا المعنى جعلنا الله من أهلها. لما أوجب الله سبحانه بعد انسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين دل ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم وأن ما ذكره الرسول قبل ذلك من أنواع الدلائل والبينات كفي في إزاحة علتهم فينتج ذلك أن أحدا من المشركين لو طلب الدليل والحجة يلتفت إليه بل يطالب إما بالإسلام أو بالجزية أو بالقتل، فأزال الله تعالى بكمال رأفته هذه الشبهة فقال وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ الآية. قال علماء العربية: ارتفع أَحَدٌ بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره:
وإن استجارك أحد استجارك. كرهوا الجمع بين المفسر والمفسر فحذفوا المفسر.
والغرض بناء الكلام على الإبهام ثم التفسير من حيث إنّ «إن» من مظان وقوع الفعل بعده. وأيضا ذكر الفاعل هاهنا أهم لما بينا أن ظاهر الدليل يقتضي إباحة دم المشرك فقدم ليدل على مزيد العناية بصون دمه عن الإهدار. يقال: استجرت فلانا أي طلبت منه أن يكون جارا لي أي محاميا وحافظا من أن يظلمني ظالم، ومنه يقال: أجاره الله من العذاب أي أنقذه. والمعنى وإن جاءك أحد من المشركين بعد انسلاخ الأشهر لا عهد بينك وبينه.
فاستأمنك ليسمع ما تدعو إليه من التوحيد والقرآن فأمنه حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ سماع تدبر وتأمل ثُمَّ أَبْلِغْهُ داره التي يأمن فيها إن لم يسلم ثم قاتله إن شئت فيها، وفيه أن المقصود من شرع القتل قبول الدين والإقرار بالتوحيد وأن النظر في دين الله من أعلى المقامات فإن الكافر الذي دمه مهدر لما أظهر من نفسه كونه طالبا للنظر والاستدلال زال ذلك الإهدار ووجب على الرسول أن يبلغه مأمنه، أما زمان مهلة النظر فليس في الآية ما يدل على ذلك ولعله مفوّض إلى اجتهاد الإمام، فمتى ظهر على ذلك المشرك علامات كونه طالبا للحق باحثا عن وجه الاستدلال أمهل وترك، ومتى ظهر عليه كونه معرضا عن الحق دافعا للزمان بالأكاذيب لم يلتفت إليه وأبلغ المؤمن. ويشبه أن يقال: المدة أربعة أشهر وهو الصحيح من مذهب الشافعي. والمذكور في الآية كونه طالبا لسماع القرآن إلا أنه ألحق به كونه طالبا لسماع الدلائل والجواب الشبهات لأنه تعالى علل وجوب الإجارة بكونه غير عالم حيث قال في آخر الآية ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ فكل من حصلت فيه هذه العلة وجبت إجارته. وفي سماع كلام الله وجوه: قيل أراد جميع القرآن لأن تمام الدلائل والبينات فيه. وقيل: سماع سورة براءة لأنها مشتملة على كيفية المعاملة مع المشركين والأولى حمله على كل الدلائل، وإنما خص القرآن بالذكر لأنه الكتاب الحاوي لمعظم الدلائل. واعلم أن الأمان قد يكون عاما يتعلق بأهل إقليم أو بلدة أو ناحية وهو عقد المهادنة ويختص بالإمام وقد مر في تفسير قوله تعالى وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها(3/433)
وقد يكون خاصا يتعلق بأفراد الكفار وهذا يصح من الولاة ومن آحاد المسلمين أيضا وهذا مقصود الآية وإنه ثابت غير منسوخ.
روي عن سعيد بن جبير أن رجلا من المشركين جاء إلى علي رضي الله عنه فقال: أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل؟ قال: «لا» . واستدل بالآية.
وعن السدي والضحاك هو منسوخ بقوله فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ وشرط الأمان الإسلام والتكليف فيصح من العبد والمرأة والفاسق.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «يسعى بذمتهم أدناهم» «1»
وعن أم هانىء قالت: أجرت رجلين من أحمائي فقال صلى الله عليه وسلم: «أمنا من أمنت» .
ويعتبر أن الإسلام والتكليف الاختيار فلا يصح أمان المكره على عقد الأمان، وينعقد الأمان بكل لفظ مفيد للغرض صريحا كقوله: أجرتك أو لا تخف، وكناية كقوله: أنت على ما تحب أو كن كيف شئت، ومثله الكتابة والرسالة والإشارة المفهمة.
روي عن عمر أنه قال: والذي نفسي بيده لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى مشرك فنزل على ذلك ثم قتله لقتلته.
هذا إذا دخل الكافر بلا سبب أما إذا دخل لسفارة فلا يتعرض له، وكذا إذا دخل لسماع الدلائل وقصد التجارة لا يفيد الأمان إلا إذا رأى الإمام مصلحة في دخول التجار. وحكم الأمان إذا انعقد عصمة المؤمن من القتل والسبي فإن قتله قاتل ضمن بما يضمن له الذمي، ولا يتعدى الأمان إلى ما خلفه في دار الحرب من أهل ومال، وأما الذي معه منهما فإن وقع التعرض لأمانه اتبع الشرط وإلا فالأرجح أن لا يتعدى الأمان إلى ذلك. وقد بقي في الآية مسألة أصولية هي أن المعتزلة استدلوا بالآية على أن كلام الله تعالى هو هذه الحروف المسموعة ويتبع ذلك أن يكون كلامه محدثا لأن دخول هذه الحروف في الوجود على التعاقب. وأجيب بأن هذه المسموعة فعل الإنسان وليست هي التي خلقها الله تعالى أوّلا عندكم فعلمنا أن هذا المسموع ليس كلام الله بالاتفاق فيجب ارتكاب التجوز البتة، ونحن نحمله على أنها هي الدالة على الكلام النفسي فلهذا أطلق عليها أنها كلام الله كما أن الجبائي قال: إن كلام الله شيء مغاير لهذه الحروف والأصوات وهو باق مع قراءة كل قارئ. وزعم بعض الناس حين رأوا أنه تعالى جعل كلامه مسموعا أن هذه الحروف والأصوات قديمة ليلزم قدم كلامه تعالى وفيه ما فيه، ثم أكد المعاني المذكورة من أول السورة إلى هاهنا فقال على سبيل الاستنكار والاستبعاد كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ المرفوع اسم كان وفي خبره
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجزية باب 10، 17. كتاب الاعتصام باب 5. مسلم في كتاب العتق حديث 20. أبو داود في كتاب المناسك باب 95. الترمذي في كتاب الولاء باب 3. النسائي في كتاب القسامة باب 10، 14. ابن ماجه في كتاب الديات باب 31. أحمد في مسنده (2/ 398) .(3/434)
ثلاثة أوجه: الأول كَيْفَ وقدم للاستفهام، الثاني لِلْمُشْرِكِينَ وعند على هذين ظرف للعهد أو ليكون أو للجار أو هو وصف للعهد. الثالث الخبر عِنْدَ اللَّهِ ولِلْمُشْرِكِينَ تبيين أو متعلق ب يَكُونُ وكَيْفَ حال من العهد يعني محال أن يثبت لهؤلاء عهد وهم أضداد لكم يضمرون الغدر في كل عهد، فلا تطعموا في الوفاء منهم ولا تتوانوا في قتلهم. ثم استثنى منهم المعاهدين عند المسجد الحرام الذين لم يظهر منهم نكث كبني كنانة وبني ضمرة ثم بيّن حكمهم فقال فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ في «ما» وجهان: أحدهما أن تكون زمانية وهي المصدرية على التحقيق أي استقيموا لهم مدة استقامتهم لكم. الثاني شرطية أي إن استقاموا لكم على العهد فاستقيموا لهم على مثله. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ فيه إشارة إلى أن الوفاء بالعهد والاستقامة عليه من أعمال المتقين.
ثم كرر الاستبعاد فقال كَيْفَ وحذف الفعل لكونه معلوما أي كيف يكون لهم عهد وَحالهم أنهم إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي يغلبوكم، ويظفروا بكم وذلك أن الغلبة من الكمال عند الشخص وكل من تصور في نفسه كمالا فإنه يريد أن يظهر ذلك لغيره فأطلق الظهور على الغلبة لكونه من لوازمها لا يَرْقُبُوا لا يراعوا فِيكُمْ ولا ينتظروا بكم إِلًّا وَلا ذِمَّةً قال في الصحاح: الأل العهد والقرابة. ووجه ذلك في الكشاف بأن اشتقاقه من الأل هو الجؤار والأنين لأنهم إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم، وسميت به القرابة لأنها تعقد بين الرجلين ما لا يعقده الميثاق. وفي الصحاح أيضا أن الأل بالكسر من أسماء الله عزّ وجلّ.
وفي الكشاف أنه قرىء «إيلا» بمعناه. وقيل: جبرئيل وجبرئلّ من ذلك. وقيل: منه اشتق الأل بمعنى القرابة كما اشتقت الرحم من الرحمن. قال الزجاج: الأل عندي على ما توجبه اللغة يدور على معنى الحدّة من ذلك الألة الحربة، وأذن مؤللة محدّدة. ومعنى العهد والقرابة غير خارج من ذلك، والذمة العهد وجمعها ذمم وذمام وهو كل أمر لزمك وكان بحيث لو ضيعته لزمك مذمة. وقال أبو عبيدة: الذمة ما يتذمم منه أي ما يجتنب فيه الذم. قال في الكشاف يُرْضُونَكُمْ كلام مبتدأ في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن مقرر لاستبعاد الثبات منهم على العهد وإباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل. ثم قال سبحانه وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ عن ابن عباس: لا يبعد أن يكون بعض هؤلاء الكفار قد أسلم وتاب فلهذا لم يحكم بالفسق على الكل. والظاهر أنه أراد أن أكثرهم فساق في دينهم لا يتحرزون عن الكذب ونقض العهد الذي هو مذموم في جميع الأديان والنحل اشْتَرَوْا استبدلوا بِآياتِ اللَّهِ بالقرآن أو بالإسلام ثَمَناً قَلِيلًا هو اتباع الأهواء فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ فصرفوا عنه غيرهم وعدلوا هم(3/435)
أنفسهم. قال مجاهد: أراد الأعراب الذين جمعهم أبو سفيان وأطعمهم. وقيل: يبعد أن يراد طائفة من اليهود الذين أعانوا المشركين على نقض العهود، فإن هذا اللفظ من القرآن كالأمر المختص باليهود ولأنه وصفهم بقوله لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً ولو أراد المشركين كان تكرارا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ المتجاوزون حدود الله في دينه وما يوجبه العهد والعقد. ثم قال فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فإن كان هذا في اليهود وما ذكره قبل في الكفار فلا تكرار، وإن كان كلاهما في الكفار فجزاء الأول تخلية سبيلهم وجزاء الثاني قوله فَإِخْوانُكُمْ أي فهم إخوانكم فِي الدِّينِ فلم يكن من التكرار في شيء. قال ابن عباس: حرمت هذه الآية دماء أهل القبلة: وَنُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لأنهم هم المنتفعون بالبيان. وهذه جملة معترضة تفيد الحث على التأمل في أحكام المشركين وعلى المحافظة على مواردها وَإِنْ نَكَثُوا يعني هؤلاء التائبين أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ أي من بعد إسلامهم حتى يكونوا مرتدين، أو المراد نكث المشركين عهودهم ومواثيقهم. والنكث نقض طاقات الخيط من بعد برامه. وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ثلبوه وعابوه فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ هي جمع إمام وأصلها «أأممة» كمثال وأمثلة نقلت حركة الميم إلى الهمزة وأدغمت الميم في الميم، وهو من وضع الظاهر موضع المضمر دلالة على أن من كان بهذه المثابة من الغدر وقلة الوفاء وعدم الحياء فهو عريق في الكفر متقدم فيه لا يشق كافر غباره. وقيل: خص سادتهم بالذكر لأن من سواهم يتبعهم لا محالة. ثم أبدى غرض القتال بقوله لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ليعلم أن الباعث على قتالهم هو ردهم إلى طاعة معبودهم رحمة عليهم لا أمر نفساني وداع شهواني ووسط بين الأمر بالقتال وبين الحامل عليه قوله إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ تنبيها على العلة الفاعلية للقتال، أثبت لهم الأيمان أوّلا في الظاهر حيث قال وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ ثم نفاها عنهم في الحقيقة لأن إيمانهم ليست مما يعد أيمانا إذ لم يوفوا بها. وبهذا تمسك أبو حنيفة في أن يمين الكافر لا تكون يمينا، وعند الشافعي يمينهم يمين لأنه تعالى وصفها بالنكث ولو لم تكن منعقدة لم يتصور نكثها. ومن قرأ لا أَيْمانَ لهم بالكسر أي لا إسلام لهم أو لا يعطون الأمان بعد الردة والنكث فظاهر. قال العلماء: إذا طعن الذمي في دين الإسلام طعنا ظاهرا جاز قتله لأن العهد معقود معه على أن لا يطعن فإذا طعن فقد نكث عهده وخرج من الذمة.
ثم شرع في ذكر سائر الأسباب المحرّضة على القتال فقال أَلا تُقاتِلُونَ قال أهل المعاني: إذا قلت: ألا تفعل كذا. فإنما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده. وإذا قلت:
ألست تفعل فإنما تقول فى ذلك في فعل تحقيق وجوده. والفرق أن «لا» ينفي بها(3/436)
المستقبل فإذا دخلت عليه الألف صار تحضيضا على فعل ما يستقبل و «ليس» مستعمل في نفي الحال فإذا دخلت عليه الألف صار لتحقيق الحال.
قال ابن إسحق والسدي والكلبي: نزلت فى كفار مكة نكثوا أيمانهم بعد عهد الحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة وهموا بإخراج الرسول من مكة حتى هاجر أو من المدينة. يريد اليهود هموا بإخراجه منها ونكثوا عهده وظاهروا أبا سفيان عليه صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب.
وقيل: همت قريش يوم الحديبية بأن يدخلوه صلى الله عليه وسلم مكة ثم يخرجوه قبل أن يتم حجه استخفافا به صلى الله عليه وسلم،
وعلى هذا أريد بالهم العزم على الفعل وإن لم يوجد وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بالقتال يعني يوم بدر لأنهم حين سلم العير قالوا: لا ننصرف حتى نستأصل محمدا ومن معه. أو المراد أنهم قاتلوا حلفاءه من خزاعة، أو المراد أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم أولا بالكتاب المنير وتحداهم به فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى المقاتلة والبادئ أظلم. والحاصل أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء للقتال حقيق بأن لا تترك مقاتلته وأن يوبخ من فرط فيها. ثم زاد في التوبيخ فقال فيه أَتَخْشَوْنَهُمْ تقريرا للخشية منهم وتقوية لداعية القتال كما إذا قلت للرجل: أتخشى خصمك لأنه يستنكف أن ينسب إلى كونه خائفا من خصمه.
ثم بيّن ما يجب أن يكون الأمر عليه قائلا فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يعني أن قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا الله، لأن قدرته أتم وعقابه أشدّ بل لا قدرة إلا له ولا يكون إلا ما يريد. وفي الفاء نوع من تعليل لأن الاستفهام في معنى النهي كأنه قيل: لا تخشوهم لأن الله أحق بالخشية وأحرى بالطاعة، وفيه نوع مجازاة كأنه قيل:
إن صح أنكم مؤمنون فلا تخشوا إلا الله. ثم زاد في تأكيد الأمر بالقتال فقال قاتِلُوهُمْ ورتب عليه خمس نتائج: الأولى: قوله يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ أي القتل والأسر واغتنام الأموال، وهذا لا ينافي وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: 33] لأنه أراد هناك عذاب الاستئصال. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أن الذي يدخل في الوجود من الأفعال كلها من الله يظهرها على أيدي العباد. واعترض الجبائي بأنه لو كان كذلك لجاز أن يقال: كذب الله أنبياءه على لسان الكفرة. وأجيب بأن الأمر كذلك عندنا إلا أنا لا نقوله رعاية للأدب كما لا يقال يا خالق الخنافس والحشرات. وكما أنكم لا تقولون يا مسهل أسباب الزنا واللواط ويا دافع الموانع عنها. الثانية: وَيُخْزِهِمْ قيل: هو الأسر.
وقيل: المراد ما نزل بهم من الذل والهوان حين شاهدوا أنفسهم مقهورين في أيدي المؤمنين وهو قريب من الأول. أو هو هو. وقيل: هو عذاب الآخرة. الثالثة: وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ أورد عليه أن النصر يستتبعه إخزاء الخصم فأي حاجة إلى إفراده بالذكر؟ والجواب(3/437)
أن المغايرة كافية في إفراد كل من المتلازمين بالذكر على أنه من المحتمل أن يحصل لهم الخزي من جهة المؤمنين إلا أن المؤمنين يحصل لهم آفة لسبب آخر، فلما وعدهم النصر على الإطلاق زال ذلك الاحتمال. الرابعة: وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ هم خزاعة.
وعن ابن عباس: بطون من اليمن وسبأ، قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديدا فبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكون إليه فقال: أبشروا فإن الفرج قريب.
الخامسة: وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ قيل: شفاء الصدر وإذهاب غيظ القلب كلاهما بمعنى فيكون تكرارا. والجواب أن القلب أخص من الصدر كقوله:
يا دار ميّة بالعلياء فالسند أو شفاء الصدر إشارة إلى الوعد بالفتح، ولا ريب أن الانتظار شاق وإن كان مع الثقة بالموعود فإذهاب غيظ القلب إشارة إلى الفتح وقد حصل الله لهم هذه المواعيد كلها وكان ذلك دليلا على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وإعجازه. ثم قال وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وهو ابتداء كلام للإخبار بأن بعض أهل مكة يتوب عن كفره وقد وقع، فقد أسلم ناس منهم وحسن إسلامهم. وقرىء وَيَتُوبُ بالنصب بإضمار «أن» ودخول التوبة في جملة ما أجيب به الأمر من طريق المعنى كقوله فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون: 10] أما أن التوبة كيف تقع جزاء للمقاتلة فذلك من قبل الكفرة واضح فإن القتال قد يصير سببا لتوبة بعضهم عن الكفر، وأما من جهة المؤمنين فلعل القتال كان شاقا على بعضهم فإذا أقدم عليه صار ذلك العمل جاريا مجرى التوبة عن تلك الكراهة. وأيضا إن حصول النصر والظفر إنعام عظيم والعبد إذا شاهد توالي النعم لم يبعد أن يصير ذلك داعيا له إلى أن يتوب عن جميع الذنوب وقد تصير كثرة المال والجاه سببا لتحصيل اللذات بالطريق الحلال فينتهي عن الحرام. وأيضا الإنسان حريص على ما منع فإذا انفتحت عليه أبواب الخيرات الدنيوية فربما يصير ذلك سببا لانقباضه عن الدنيا وإعراضه عنها وهذا هو أحد الوجوه التي ذكروها في تفسير قوله تعالى حكاية عن سليمان رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي [ص: 35] يعني بعد حصول هذا الملك لا ينبغي للنفس الاشتغال بالدنيا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بكل ما يجري في ملكه وملكوته حَكِيمٌ مصيب في أفعاله وأقواله وأحكامه وتدابيره. عن ابن عباس أن قوله أَلا تُقاتِلُونَ الآية. ترغيب في فتح مكة لأن النتائج المذكورة مشاكلة لتلك الأحوال. واستبعده الحسن لأن هذه السورة نزلت بعد فتح مكة بسنة. ثم بين أنه ليس الغرض من إيجاب القتال نفس القتال وإنما المقصود أن يؤتى به انقيادا لأمر الله ولتكاليفه ليظهر المخلص من المنافق فقال أَمْ حَسِبْتُمْ الآية.
وقد مرّ وجه إعرابه في آل عمران عند قوله أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا [آل عمران: 142] .(3/438)
وقوله وَلَمْ يَتَّخِذُوا معطوف على جاهَدُوا داخل في حيز الصلة. والوليجة لبطانة يعني الحبيب الخالص «فعلية» من ولج كالدخيلة من دخل، أو هو الرجل يكون في القوم وليس منهم. قال الواحدي: يقال هو وليجتي وهم وليجتي يستوي فيه الواحد والجمع. ومعنى الآية لا تحسبوا أن تتركوا على ما أنتم عليه ولم يظهر بعد معلوم الله من تميز المجاهدين المنافقين من المجاهدين الخلص الذين جاهدوا لوجه الله ولم يتخذوا حبيبا من الذين يضادون رسول الله والمؤمنين. ثم ختم الآية بقوله وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ليعلموا أنه لم يزل عالما بالأشياء لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فيجدّوا في استقامة السيرة ويجتهدوا في نقاء السريرة.
التأويل:
بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ من النفوس المشركة التي اتخذت الهوى وصنم الدنيا معبودا فهادنها الروح والقلب في أوان الطفولية لاستكمال القالب وتربيته فَسِيحُوا في أرض البشرية أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ هي مدة كمال الأوصاف الأربعة: النباتية والحيوانية والشيطانية والإنسانية وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الصفات الناسوتية يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يوم الوصول إلى كعبة الجمال والحج الأصغر الوصول إلى كعبة القلب إن زيارة كعبة الوصال حرام على مشركي الصفات الناسوتية فَإِنْ تُبْتُمْ عن الناسوتية بإفنائها في اللاهوتية فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ من قيامكم بالناسوت وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ ركنتم إلى غير الله فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ عن التصرف فيكم. أما لأهل السعادة فبالجذبات الأزلية، وأما لأهل الشقاوة فبأليم عذاب القطيعة إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ أيها القلوب والأرواح من مشركي النفوس على التوافق في العبودية ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شيئا من وظائف الشريعة وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من الشيطان والدنيا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ بالمداراة والرفق إلى أوان طلوع قمر العناية ونجم الجذبة والهداية. فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ استكملت مدة التربية تمام الأوصاف الأربعة فَاقْتُلُوا النفوس المشركة بسيف النهي عن الشهوات حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في الطاعة بأن تكلفوها إياها وفي المعصية بأن تزجروها عنها وَخُذُوهُمْ بآداب الطريقة وَاحْصُرُوهُمْ احبسوهم في حصار الحقيقة وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ راقبوهم في الأحوال كلها فَإِنْ تابُوا رجعوا إلى طلب الحق وَأَقامُوا الصَّلاةَ أدّوا حق العبودية وَآتَوُا الزَّكاةَ تزكت عن الأخلاق الذميمة فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ اتركوا التشديد عليهم بالرياضات ليعملوا بالشريعة بعد الوصول إلى الحقيقة فإن النهاية هي الرجوع إلى البداية وَإِنْ أَحَدٌ من مشركي صفات النفس اسْتَجارَكَ يا قلب لترك ما هو المخصوص به من الصفات الذميمة فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ(3/439)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
كَلامَ اللَّهِ
حتى يلهم بإلهام ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ وهو وارد الجذبة الإلهية، وإن الجذبة إذا تعلقت بصفة من صفات النفس تنجذب النفس بجميع صفاتها ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ الله وأسراره فلا يميلون إليه ويعلمون الدنيا وشهواتها فيركنون إليها. كَيْفَ يَكُونُ لمشركي النفوس ثبات على العهد وقد جبلت ميالة إلى السفليات وغايتها بعد إصلاح حالها أن تميل إلى نعيم الجنات إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وهو مقام الوصول المحرم على أهل الدنيا وهو مقام أهل الله وخاصته، الذين تنورت نفوسهم بأنوار الجمال والجلال فيثبتها الله على العهد بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ على الصراط المستقيم فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ بشرحها في متسع رياض الشريعة ولا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً لا يحفظوا حقوق الجنسية فإن الأرواح والقلوب والنفوس مزدوجة في عالمي الأمر والخلق يُرْضُونَكُمْ بالأعمال الظاهرة وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ فيما يعملون خارجون عن الصدق والإخلاص اشْتَرَوْا بدلالات توصلهم إلى الله ثَمَناً قَلِيلًا من متاع الدنيا ومصالحها فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قطعوا طريق الحق على الأرواح والقلوب فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ رفقاؤكم في طلب الحق فارعوا حقوقهم فإن لنفسك عليك حقا. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أن السير إلى الله من أعظم المقامات وأهم المهمات وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ أنكروا مذهب السلوك أَئِمَّةَ الْكُفْرِ النفوس وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ يعني الواردات الغيبية بانسداد روزنة القلب أَوَّلَ مَرَّةٍ في أوان الطفولية. أَتَخْشَوْنَهُمْ في فوات حظوظهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ بفوات حقوقها. وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ يعني وحشة الأرواح والقلوب وكدورتها وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ بالرجوع إلى الحق قبل التمادي في الباطل من غير حاجة إلى رياضة شديدة وَاللَّهُ عَلِيمٌ باستعدادات النفوس حَكِيمٌ فيما يدبر لكل منها. أَمْ حَسِبْتُمْ أيها النفوس الأمارة أَنْ تُتْرَكُوا بلا رياضة وَلِيجَةً أولياء من الشيطان والدنيا والهوى.
[سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 28]
ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)
خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)(3/440)
القراآت:
مسجد الله ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون: على الجمع يُبَشِّرُهُمْ خفيفا: حمزة وعشيراتكم على الجمع: أبو بكر وحماد وجبلة وَضاقَتْ ونحو ممالة: حمزة رَحُبَتْ ثُمَّ مظهرا: أبو جعفر ونافع وابن كثير وخلف ويعقوب وعاصم غير الأعشى.
الوقوف:
بِالْكُفْرِ ط أَعْمالُهُمْ ج لعطف المختلفين خالِدُونَ هـ الْمُهْتَدِينَ هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط عِنْدَ اللَّهِ ط الظَّالِمِينَ هـ لئلا يشتبه بالوصف وَأَنْفُسِهِمْ لا لأن ما بعده خبر «الذين» عِنْدَ اللَّهِ ط الْفائِزُونَ هـ مُقِيمٌ هـ لا لأن ما بعده حال أَبَداً ط عَظِيمٌ هـ عَلَى الْإِيمانِ ط الظَّالِمُونَ هـ بِأَمْرِهِ ط الْفاسِقِينَ هـ كَثِيرَةٍ لا لعطف الظرف على الظرف حُنَيْنٍ لا لأن «إذ» ظرف نَصَرَكُمُ. مُدْبِرِينَ هـ ج للآية والعطف. كَفَرُوا ط الْكافِرِينَ هـ مَنْ يَشاءُ ط رَحِيمٌ هـ هذا ج إِنْ شاءَ ط حَكِيمٌ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه بدأ السورة بذكر البراءة من المشركين وبالغ في إيجاب ذلك بتعداد فضائحهم وقبائحهم، ثم أراد يحكي شبهاتهم التي كانوا يحتجون في أن هذه البراءة غير جائزة مع الجواب عنها.
قال المفسرون: لما أسر العباس يوم بدر أقبل عليه(3/441)
المسلمون فعيروه بالكفر وقطيعة الرحم وأغلظ علي رضي الله عنه له القول فقال العبّاس:
ما لكم تذكرون مساوينا ولا تذكرون محاسننا؟ فقال علي عليه السلام: ألكم محاسن؟
فقال: نعم إنا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحاج ونفك العاني فأنزل الله تعالى ردا عليهم ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ
ما صح لهم وما استقام أن يعمروا مسجد الله يعني المسجد الحرام. ومن قرأ على الجمع فإما أن يراد جميع المساجد فيشمل المسجد الحرام أيضا الذي هو أشرفها وهذا آكد لأن طريقه طريق الكناية كما لو قلت: فلان لا يقرأ كتب الله كنت أنفي لقراءته القرآن من تصريحك بذلك، أو يراد المسجد الحرام وجمع لأنه قبلة المساجد كلها وإمامها فعامره كعامر جميع المساجد، أو لأن بقعة منه مسجد. قال الفراء: العرب قد تضع الواحد مكان الجمع كقولهم: فلان كثير الدرهم، وبالعكس كقولهم: فلان يجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا ملكا واحدا. وعمارة المسجد إما لزومه وإما كثرة إتيانه للصلاة والاعتكاف، ولا شك أنه ليس للمشرك ذلك وإما مرمته وتعهده، وليس للمشرك هذا أيضا لأنه يجري مجرى الإنعام على المسلمين ولا ينبغي أن يكون للكافر منه على أهل الإسلام، ولأن دخوله المسجد يؤدي إلى تلوث المسجد إما لكونه نجسا في الحكم، وإما لأنه قلما يحترز من النجاسات. وما
روي أنه صلى الله عليه وآله أنزل وفد ثقيف في المسجد وهم كفار وشدّ ثمامة بن أثال الحنفي على سارية من سواري المسجد
محمول على تعظيم شأنه صلى الله عليه وسلم كأنه أراد أن يكون ذلك بمحضر منه وهو في المسجد. وقوله شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ حال من الواو في يَعْمُرُوا والمعنى ما استقام لهم أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة معابد الله مع الكفر به. وفي تفسير هذه الشهادة أقوال أصحها أنهم أقروا على أنفسهم بعبادة الأوثان وتكذيب النبي والقرآن ولهذا قال السدي: هي أن النصراني إذا قيل له ما أنت؟ قال:
نصراني. واليهودي يقول: يهودي، وعابد الوثن يقول: أنا عابد الوثن. وقيل: هي قولهم في طوافهم «لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك» . وعن ابن عباس أنه قال: المراد أنهم يشهدون على محمد بالكفر. وإنما جاز هذا التفسير لقوله تعالى لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 128] ثم بيّن تعالى ما هو الحق في هذا الباب فقال أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الصادرة عنهم كإكرام الوالدين وبناء الربط وإطعام الجائع لأنه لا يفيد مع الكفر طاعة لأن الكفر يوجب عقاب الأبد ولهذا قال وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ ولإفادة هذا التركيب الحصر احتجت الأشاعرة به على خلاص صاحب الكبيرة. ثم وصف من له استئهال عمارة المسجد فقال إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لأن(3/442)
المرء ما لم يعرف المبدأ والمعاد لا يصح منه التوجه إليه. وإنما طوى ذكر الرسول تنبيها على أنه واسطة والتوجه الحقيقي من الله وإلى الله ولهذا ورد في الحديث: «المصلي يناجي ربه» . وقيل: إن المشركين كانوا يقولون إن محمدا ادّعى رسالة الله طلبا للرياسة والملك فلنفي هذه التهمة ترك ذكره صلى الله عليه وسلم. وقيل: دل عليه بقوله وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ لأنهما معلومتان من أفعاله صلى الله عليه وسلم ولما في الصلاة من التشهد وقبلها الأذان والإقامة. ثم إن إقامة الصلاة لا ريب أن فيها عمارة المسجد والحضور فيه، وأما إيتاء الزكاة فإنما كان سببا للعمارة لأنه يحضر المسجد طوائف الفقراء والمساكين لأخذ الزكاة، ولأن إيتاء الزكاة واجب وبناء المسجد وإصلاحه نفل والإنسان ما لم يفرغ عن الواجب لم يشتغل بالنافلة، فلو لم يكن مؤديا للزكاة فالظاهر أنه لم يشتغل بعمارة المسجد. ثم قال وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ليعلم أنه لو أتى المسجد وبناه رياء وسمعة لم يكن عامرا له. فعلى المؤمن أن يختار في جميع الأحوال رضوان الله على غيره فإن ذلك لو ضره في العاجل فسينفعه في الآجل وفي إدخال كلمة «إنما» في صدر الآية تنبيه على أن من لم يكن موصوفا بالصفات المذكورة لم يكن من أهل عمارة المسجد، وأن المسجد يجب صونه عن غير العبادة.
فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقا ذكرهم الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة»
وعنه صلى الله عليه وسلم: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش»
وقال صلى الله عليه وآله: قال الله تعالى: «إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زوّاري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحقّ على المزور أن يكرم زائره»
ومن عمارة المساجد تعظيمها والدرس فيها وقمها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح.
فعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة وحملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوؤه» .
وفي قوله فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ حسم لأطماع الكفار في الانتفاع بأعمالهم فإن الموصوفين بالصفات المذكورة إذا كان اهتداؤهم المستعقب لصلاح حالهم في الدارين دائرا بين عسى ولعل فما ظنك باهتداء المشركين ومغبتهم؟ وفيه أن المؤمن يجب أن لا يغتر بالله عزّ وجلّ. هذا وقد مر أن بعض الأمة ذهبوا إلى أن «عسى» من الله الكريم واجب. وقال بعضهم: إن الرجاء راجع إلى العباد.
ثم إنه قال أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ ومعناه هبوا أن عمارة المسجد وسقي الحجيج يوجب لكم نوعا من الفضيلة إلا أن هذه الأعمال في مقابلة الإيمان بالله والجهاد شيء(3/443)
نزر. قال المفسرون: إنها نزلت في مناظرة جرت بين فريقين إلا أنهم اختلفوا فقيل:
«كافر» و «مؤمن» لقوله كَمَنْ آمَنَ وقصة ما مر أن العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر قال: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد فلقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج. وروي أن المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج وعمار المسجد الحرام أفنحن أفضل أم محمد وأصحابه؟ فقالت اليهود لهم: أنتم أفضل. وقيل: إن كلا الفريقين مؤمن لقوله أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً وهذا يقتضي أن يكون للمفضول أيضا درجة.
وقصته ما
روى عن النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: لا أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج. وقال الآخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم: فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ولكني إذا صليت دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه ففعل فأنزل الله الآية.
ويروى عن الحسن والشعبي أن طلحة قال: أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه ولو أشاء بت فيه. وقال العباس: وذلك بعد إسلامه أنا صاحب السقاية والقائم عليها. وقال عليّ رضي الله عنه: ما أدري ما تقولان لقد صليت ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد فنزلت.
وعن ابن سيرين: قال عليّ رضي الله عنه للعباس بعد إن كان أسلم: ألا تهاجر ألا تلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم؟ ففقال: ألست في أفضل من الهجرة، ألست أسقي حاج بيت الله وأعمر المسجد الحرام؟ فنزلت هذه الآية. فقال العباس: ما أراني إلا ترك سقايتنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرا» .
والسقاية والعمارة مصدران من سقي وعمر، ولا بد من تقدير مضاف أي أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن، أو أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كخصال من آمن؟ ثم كان لسائل أن يسأل ما بال أحد الفريقين لا يشبه بالآخر فلا جرم قال مستأنفا لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ ثم صرح بالمفضول فقال وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي المشركين إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ وأي ظلم أشنع من وضع أخس الموجودات وهو الأصنام مقام أشرفها وهو الله سبحانه. وإنما لم يهدهم الله لعدم قابلية وقع في استعدادهم الفطري. وذلك لكونهم مظاهر القهر فافهم. ثم صرح بالفريق الفاضل فقال الَّذِينَ آمَنُوا الآية. ثم من قال إن الفريقين المتناظرين كافر ومؤمن أورد عليه أن قوله أَعْظَمُ دَرَجَةً وجب أن يكون للمفضول أيضا درجة ولكنه ليس للكافر درجة.
وأجيب بأن هذا وارد على حسب ما كانوا يقدرونه لأنفسهم من الدرجة والفضيلة نظيره(3/444)
قوله أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ. أو المراد أنهم أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفا بالهجرة ولا الجهاد وإن كان مؤمنا فضلا عن الكافر. أو المراد ترجيح الإيمان والهجرة والجهاد على السقاية والعمارة. ولا شك أنهما من أعمال والخير وموجبان للثواب لولا الكفر. وفي قوله عِنْدَ اللَّهِ تشريف عظيم لقوله وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وكذا في قوله وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ لدلالته على انحصار الفوز فيهم. ثم فسر الفوز بقوله يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ التنكير فيها يفيد أنها وراء وصف الواصف، قال المتكلمون: الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فالتبشير بالرحمة والرضوان إشارة إلى غاية التعظيم ونهاية الإجلال والجنات إشارة إلى حصول المنافع العظيمة. وقوله لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ إشارة إلى خلوص تلك المنافع عن شوائب الكدورات. ثم عبر عن دوامها بثلاثة ألفاظ مؤكدات أولها مُقِيمٌ وثانيها خالِدِينَ وثالثها أَبَداً وقال أهل التحقيق: الفرح بالنعمة قد يكون من حيث إنها نعمة وقد يكون من حيث إن المنعم خصه بها كالسلطان إذا أعطى بعض الحاضرين تفاحة مثلا، ثم النعمة قد تكون حسية وقد تكون عقلية فقوله يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ إشارة إلى أعلى المراتب وهو مقام العارفين الذين نظرهم على مجرد سماع البشارة لا على المبشر به. وقوله بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ إشارة إلى المرتبة الوسطى وهم العاكفون على عتبة اللذات الروحانية العقلية. وقوله جَنَّاتٍ إلى آخره إشارة إلى المرتبة السفلى وهم الواقفون عند ساحات مواقع اللذات الحسيات. وفي تخصيص الرب بالمقام إشارة إلى أن الذي رباكم في الدنيا بالنعم التي لا حد لها يبشركم بخيرات دائمة وسعادات باقية لا حصر لها. ويجوز أن تكون الرحمة إشارة إلى رضا العبد بقضائه فيسهل عليه الغموم والآفات، والرضوان إشارة إلى رضاه عن العبد فيكون كقوله ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر: 28] ثم أكد المعاني المذكورة بقوله اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ وفي تصدير الجملة الاسمية بأن وفي لفظ «عند» وتقديمه وتنكير «أجر» ووصفه بالعظم مبالغات لا تخفى.
قال الكلبي: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بالهجرة إلى المدينة جعل الرجل يقول لأبيه ولأخيه ولقرابته إنا قد أمرنا بالهجرة فمنهم من يسرع إلى ذلك ويعجبه، ومنهم من تتعلق به زوجته وعياله وولده فيقولون: ننشدك الله أن لا تدعنا إلى غير شيء فنضيع فيرق فيجلس معهم ويدع فنزل فيهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الآيتين.
وذكروا في وجه النظم أن هذه الآية جواب عن شبهة أخرى قالوها وهي أنه كيف يمكن دعوى البراءة من الكفار وبينهم وبين المسلمين قرابات ومواصلات ومعاملات؟ فذكر الله تعالى أن الانقطاع(3/445)
عن الآباء والأبناء والإخوان واجب بسبب الكفر. ومعنى استحبوا اختاروا وهو في الأصل طلب المحبة. ثم إن النهي كان يحتمل أن يكون نهي تنزيه لا تحريم فلإزالة الوهم ختم الآية بقوله وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قال ابن عباس: يريد أنه يكون مشركا مثلهم لأن الرضا بالشرك شرك.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يطعم أحدكم طعم الإيمان حتى يحب في الله ويبغض في الله حتى يحب في الله أبعد الناس ويبغض في الله أقرب الناس» «1»
وعن ابن عباس: هي في المهاجرين خاصة كان قبل فتح مكة من آمن لم يتم إيمانه إلا بأن يهاجر ويصارم أقاربه الكفرة ويقطع موالاتهم.. فقالوا: يا رسول الله إن نحن اعتزلنا من يخالفنا في الدين قطعنا آباءنا وأبناءنا وعشائرنا وذهبت تجارتنا وهلكت أموالنا وخربت ديارنا ضائعين فنزلت قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ الآية. فهاجروا فجعل الرجل يأتيه ابنه وأبوه وأخوه أو بعض أقاربه فلا يلتفت إليه ولا ينزله ولا ينفق عليه ثم رخص لهم بعد ذلك.
وقيل: نزلت في التسعة الذين ارتدوا ولحقوا بمكة فنهى الله عزّ وجلّ عن موالاتهم. قال الواحدي: عشيرة الرجل أهله الأدنون وهم الذين يعاشرونه. ومن قرأ على الوحدة فلأن العشيرة اسم جمع. ومن قرأ على الجمع فلأن كل واحد من المخاطبين له عشيرة. قال الأخفش: لا تكاد العرب تجمع عشيرة على عشيرات وإنما يجمعونها على عشائر القرآن حجة عليه. والاقتراب الاكتساب والتركيب يدور على الدنو والكاسب يدني الشيء من نفسه ويدخله تحت ملكه. والترتيب المذكور في الآية غاية الحسن لأن أعظم الأسباب الداعية إلى المخالطة القرابة القريبة ثم البعيدة، ثم إنه يتوسل بتلك المخالطة إلى إبقاء الأموال المكتسبة ثم إلى التجارات المثمرة، وفي آخر المراتب الرغبة في الأوطان التي بنيت للسكنى، فبيّن تعالى أنه يجب تحمل هذه المضار في الدنيا ليبقى الدين سليما، وذكر أنه إن كانت رعاية هذه المصالح الدنيوية أولى عندهم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن المجاهدة في سبيل الله فَتَرَبَّصُوا انتظروا بما تحبون حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ عن الحسن هو عقوبة عاجلة أو آجلة. وقيل: يعني القتال. وعن ابن عباس: هو فتح مكة وفيه بعد لما روي أن هذه السورة نزلت بعد فتح مكة وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن طاعة الله إلى معصيته ولا يخفى ما فيه من التهديد.
ثم لما أوجب ترك مصالح الدنيا لأجل الدين أراد أن يبين أن كل من أعرض عن الدنيا لأجل مصالح دينه فإن الله تعالى يراعي مصالح دنياه فيفوز بسعادة الدارين وضرب لنا مثلا فقال لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ قال الواحدي: النصر المعونة على الأعداء
__________
(1)
رواه أبو داود في كتاب السنّة باب 15. الترمذي في كتاب القيامة باب 60. أحمد في مسنده (3/ 438، 440) بلفظ «من أحب لله وأبغض لله ... فقد استكمل الإيمان» .(3/446)
خاصة، والمواطن جمع موطن وهو كل موضع أقام به الإنسان لأمر. ومواطن الحرب مقاماتها ومواقعها. وامتناعها من الصرف لأنه على صيغة منتهى الجموع ولا هاء كمساجد. والمواطن الكثيرة غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم وهي على ما في الصحاح تسع عشرة منها: غزوة بدر وقريظة والنضير وأحد وغزوة الخندق وذات الرقاع وغزوة بني المصطلق وغزوة أنمار وغزوة ذي قرد وخيبر والحديبية والفتح. وَيَوْمَ حُنَيْنٍ أي يوم حنين. واستبعد صاحب الكشاف عطف الزمان على المكان فقال: معناه في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين، وجوّز أن يراد بالموطن الوقت كمقتل الحسين رضي الله عنه.
قال علي: أن الواجب أن يكون يوم حُنَيْنٍ منصوبا بالفعل مضمر لا بهذا الظاهر أي ونصركم يوم حنين لأن قوله إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ بدل من يَوْمَ حُنَيْنٍ فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصح لأن كثرتهم لم تعجبهم في جميع المواطن ولم يكونوا كثيرا في جميعها، وجوّز أن يكون «إذ» منصوبا بإضمار «اذكر» . قلت: ولعله لا حاجة إلى هذه التكلفات فلا استبعاد في عطف الزمان والمكان، وما جعل بدلا عن الزمان لا يلزم أن يكون بدلا عن المكان حتى يكون الفعل الأوّل مقيدا بهما جميعا. وحنين ودا بين مكة والطائف. قال المفسرون: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقد بقيت أيام من شهر رمضان خرج متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف. واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ فعن عطاء عن ابن عباس كانوا ستة عشر ألفا. وقال قتادة: كانوا اثني عشر ألفا وعشرة آلاف من الذين حضروا مكة وألفان من الطلقاء الأسارى الذين أعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف. وبالجملة كانوا عددا كثيرين وكانت هوازن وثقيف أربعة آلاف، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة. فهذه الكلمة ساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي المراد من قوله إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ وقيل: قالها أبو بكر. وقيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعيد لأنه كان في جميع الأحوال متوكلا على الله منقطع القلب عن الدنيا وأسبابها. ثم قال فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً والإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة أي لم تعطكم الكثرة شيئا يدفع حاجتكم ولم تفدكم وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ «ما» مصدرية والباء بمعنى «مع» والرحب السعة والجار والمجرور في موضع الحال أي متلبسة برحبها كقولك: دخلت عليه بثياب السفر، والمعنى أنكم لشدة ما لحقكم من الرعب لم تجدوا في الأرض ذات الطول والعرض موضعا يصلح لهربكم إليه وكأنها ضاقت عليكم ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ أي انهزمتم انهزاما.
قال البراء بن عازب: كانت هوازن رماة فلما حملنا عليهم انكشفوا وأكببنا على(3/447)
الغنائم فاستقبلونا بالسهام فانكشف المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا العباس بن عبد المطلب وأبو سفيان بن الحرث، والذي لا إله إلا الله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم دبره قط، ولقد رأيته وأبو سفيان أخذ بالركاب والعباس آخذ بلجام الدابة وهو يقول:
أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطلب وطفق يركض بغلته نحو الكفار لا يبالي وكانت بغلته شهباء ثم قال للعباس: ناد المهاجرين والأنصار وكان العباس رجلا صيتا فنادى يا أصحاب الشجرة فرجعوا ونزلت الملائكة عليهم ثياب بيض وهم على خيول بلق، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده كفا من الحصباء فرماهم بها وقال: شاهت الوجوه، فما زال جدهم مدبرا وحدهم كليلا ولم يبق منهم أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب فانهزموا
وذلك قوله سبحانه ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ رحمته التي سكنوا بها وآمنوا عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ الذين كانوا انهزموا وعلى الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وقع الهرب.
وَأَنْزَلَ الله جُنُوداً لَمْ تَرَوْها يعني الملائكة ستة عشر ألفا أو ثمانية آلاف أو خمسة آلاف على اختلاف الروايات. وعن سعيد بن المسيب قال: حدّثني رجل كان من المشركين يوم حنين: قال لما كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم فلما انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء تلقانا رجال بيض الوجوه حسان فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا وركبوا أكتافنا. واختلفوا في قتال الملائكة فقيل: قاتلوا. وقيل: ما قاتلوا إلا يوم بدر وإنما نزلوا في هذا اليوم لتكثير السواد ولإلقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين. ثم قال وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي بالقتل والأسر وأخذ الأموال وسبي الذراري. واحتجت الأشاعرة بإنزال السكينة وهي داعية السكون والثبات وبقوله وَعَذَّبَ على أن الدواعي والأفعال كلها بخلق الله تعالى.
ثم ختم الآية بقوله وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ واعلم أن الحنفية تمسكوا في مسألة الجلد مع التغريب بقوله تعالى الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا [النور: 2] قالوا الفاء للجزاء اسم للكافي وكون الجلد كافيا يمنع أن يكون غيره مشروعا معه. وأجابت الشافعية بأنه قال تعالى في هذه الآية وَذلِكَ أي الأخذ والأسر جَزاءُ الْكافِرِينَ سمي العذاب العاجل جزاء مع أنه غير كاف لأن العذاب الآجل باق. أما قوله ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي يسلم ناس منهم.
روي أن ناسا منهم جاؤا تائبين فأسلموا وقالوا: يا رسول الله أنت خير الناس وأبرهم وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. قيل سبي يومئذ ستة آلاف نفس وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى. فقال: إن عندي ما ترون العساكر الفقراء وإن خير القول أصدقه،(3/448)
اختاروا وإما ذراريكم ونساءكم وإما أموالكم. قالوا: ما كنا نعدل بالأحساب شيئا. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء جاؤا مسلمين وإنا خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئا. فمن كان بيده شيء وطابت نفسه أن يرده فشأنه ومن لا فليعطنا وليكن قرضا علينا حتى نصيب شيئا فنعطيه مكانه. قالوا: رضينا وسلمنا فقاال: إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا. فرفعت إليه صلى الله عليه وسلم العرفاء أن قد رضوا.
ثم إنه سبحانه أجاب عن شبهة أخرى لهم وذلك أن عليا عليه السلام حين قرأ عليهم براءة فنبذ إليهم عهدهم قال أناس: يا أهل مكة ستعلمون ما تلقونه من الشدة لانقطاع السبل وفقد الحمولات فقال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ قال في الكشاف: هو مصدر كالقذر ومعناه ذو ونجس. وقال الليث: إنه صفة يستوي فيه الواحد وغيره: رجل نجس وقوم نجس وامرأة نجس. قلت: ويجوز أن يجعل المصدر نعتا للمبالغة في الوصف. واختلف في تفسير كون المشرك نجسا فعن ابن عباس أن أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير. وعن الحسن من صافح مشركا توضأ وهو قول الهادي من أئمة الزيدية. وأما الفقهاء فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم واحتج القاضي على ذلك بما
روي أنه صلى الله عليه وسلم شرب من أوانيهم
وبأنه لو كان نجس العين لما تبدلت النجاسة بسبب الإسلام، وأوّلوا الآية بأن معناها أنهم لا يغتسلون عن الجنابة ولا يتوضؤون عن الحدث، أو أنهم بمنزلة الشيء النجس في وجوب الاجتناب والاحتراز عنهم، أو أن كفرهم الذي هو صفة لهم بمنزلة النجاسة الملتصقة بالشيء فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وهي السنة التاسعة من الهجرة التي وقع النداء فيها بالبراءة من المشركين واختلفوا في هذا النهي فعن أبي حنيفة وأصحابه أن المراد أن لا يحجوا ولا يعتمروا كما كانوا يفعلونه في الجاهلية، والدليل عليه قول علي عليه السلام في النداء: ألا لا يحج بعد عامنا هذا مشرك. وقال الشافعي: المراد المنع من الدخول فيه وهو ظاهر النص. وقاس مالك سائر المساجد على المسجد الحرام في المنع من الدخول فيه. وقيل: المراد أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه ويعزلوا عن ذلك. وعن عطاء أن المراد بالمسجد الحرام والحرم وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله، ونهي المشركين أن يقربوه راجع إلى نهي المسلمين عن تمكينهم منه لقوله وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً أي فقرا بسبب منع المشركين وموضع التجارات ليس هو عين المسجد بل الحرم كله. ومن قال إن المراد منعهم من الحج قال إنهم إذا لم يحضروا الموسم لم يحصل للمسلمين ما كان لهم في قدومهم عليهم من الأرفاق والمكاسب فلهذا خافوا الفقر، ثم وعدهم الله إزالة الفقر بقوله فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ أي من تفضله بوجه آخر قال عكرمة: أنزل الله عليهم(3/449)
المطر فكثر خيرهم. وعن الحسن: جعل الله لهم أخذ الجزية بدلا عن ذلك. وقيل:
أغناهم من الفيء. وعن مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش وحملوا الطعام إلى مكة فكان ذلك أعود عليهم. واعلم أن هذا إخبار بالغيب وقد وقع فكان معجزا. ومعنى إِنْ شاءَ تعليم وإرشاد وأن لا يغتر المسلمون بذلك فيتركوا التضرع إلى الله واللجأ إليه، وليعلم أن حصول ذلك لا يكون في كل الأوقات لأغراض ومقاصد لا يعلمها إلا ضابط الأمور ورابط الأسباب، ولهذا ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ أي بأحوالكم حَكِيمٌ لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة وصواب.
التأويل:
ما كان لمشركي النفوس الأمارة أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ وهي القلوب وهم مصرون على ما جبلوا عليه من التمرد وتعبد الهوى. حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ التي صدرت عنهم رياء وسمعة إِنَّما يَعْمُرُ القلوب مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ صدق بأن المقصود والمعبود هو الله، وعمل لنيل السعادات الأخروية وأدام المناجاة مع الله بصدق الطلب، وزكى نفسه عن الأخلاق الذميمة ولم يخف فوات الخطوط الدنيوية وإنما يخاف فوات الحقوق الإلهية. سِقايَةَ الْحاجِّ خدمة هذه الطائفة للأغراض الفاسدة وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الأعمال الموجبة لعمارة القلوب إذا كانت مشوبة بالرياء والهوى لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ الطالبون والبطالون وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين يضعون الأعمال الصالحة في غير موضعها الَّذِينَ آمَنُوا أي القلوب المؤمنة وَهاجَرُوا أي الأرواح المهاجرة إلى القوالب وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الجهاد الأكبر بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ببذل الموجود والوجود جميعا يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بعد الخلاص عن حبس الوجود بتجلي صفات لطفه وجنات الشواهد والكشوف إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ أي من وصل إلى مقام العندية فالله يعظم أجره لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ الآيتان. فيهما إشارة إلى أن آثر محبة المخلوق على محبة الخالق فقد أبطل الاستعداد الفطري لقبول الفيض الإلهي.
وَيَوْمَ حُنَيْنٍ أي حين حنت قلوبكم شوقا إلى لقاء ربها وحسبتم أنكم تبلغونه بكثرة الطاعات، وضاقت عليكم أرض الوجود ثم أعرضتم عن الطلب إذ احتجبتم بحجب العجب مدبرين إلى عالم الطبيعة الحيوانية ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ هي واردات ترد على الأرواح والقلوب فتسكن إلى ربها على رسول الروح وعلى القلوب المؤمنة وَأَنْزَلَ جُنُوداً من المواهب الربانية وعذب النفوس المتمردة باستعمالها في أحكام الشريعة وآداب الطريقة ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ أي علاج النفوس المتمردة ثم يتوب الله من بعد ذلك العلاج بجذبة ارْجِعِي، إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ النفوس العابدة للدنيا والشيطان والهوى(3/450)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
فَلا يَقْرَبُوا القلب بَعْدَ عامِهِمْ هذا وهو حالة البلوغ وجريان قلم التكليف على الإنسان، نهى القلوب حينئذ عن اتباع النفوس وأمرها بقتالها ومنعها عن طوافها لئلا تنجس كعبة القلب بنجاسة شرك النفس وأوصافها الذميمة وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً حظوظا يستلذ بها عند اتباع النفس فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ بعد انقطاع تصرفات النفس عن القلب بالواردات الربانية والكشوف الروحانية إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بمستحقي فضله حَكِيمٌ فيما دبر من قتال النفوس.
[سورة التوبة (9) : الآيات 29 الى 37]
قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)
القراآت:
عُزَيْرٌ ابْنُ بالتنوين مكسورة للساكنين: عاصم وعلي وسهل ويعقوب.
الباقون: بغير تنوين. يُضاهِؤُنَ بالهمز. عاصم. الآخرون يُضاهِؤُنَ بحذف(3/451)
الهمزة. أَنْ يُطْفِؤُا ولِيُواطِؤُا بحذف الهمزة فيهما. يزيد وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة اثْنا عَشَرَ بسكون العين: يزيد والخزاز إِنَّمَا النَّسِيءُ بالتشديد: ورش من طريق النجاري وحمزة في الوقف. الباقون: بباء بعدها همزة. يُضَلُّ بضم الياء وفتح الضاد: علي وحمزة غير العجلي وحفص وخلف لنفسه. يضل بضم الياء وكسر الضاد: العجلي وأوقية ورويس. الباقون يضل بفتح الياء وكسر الضاد.
الوقوف:
صاغِرُونَ هـ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ط بِأَفْواهِهِمْ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف مِنْ قَبْلُ ط قاتَلَهُمُ اللَّهُ ج يُؤْفَكُونَ هـ ابْنَ مَرْيَمَ ج لاحتمال الجملة بعده أن تكون حالا واستئنافا. واحِداً ج لأن ما بعده يصلح ابتداء ووصفا إِلَّا هُوَ ط يُشْرِكُونَ هـ الْكافِرُونَ هـ كُلِّهِ لا لتعلق «لو» بما قبله الْمُشْرِكُونَ هـ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ط فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا لتعلق الفاء أَلِيمٍ هـ لا أي في يوم. وَظُهُورُهُمْ ط تَكْنِزُونَ هـ حُرُمٌ ط يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ط الْمُتَّقِينَ هـ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ ط أَعْمالِهِمْ ط الْكافِرِينَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما ذكر شبهات المشركين وأجاب عنها بأجوبة صحيحة أراد أن يبين أحكام أهل الكتاب والمقصود تميزهم من المشركين في الحكم لأن الواجب في المشركين القتال إلى الإسلام، والواجب في أهل الكتاب القتال إلى الإسلام أو الجزية.
واعلم أنه تعالى ذكر صفات أربع وأمر بقتال من اتصف بها ثم بين الموصوفين بها بقوله مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ فدل ذلك على أن أهل الكتاب متصفون بتلك الصفات فالصفة الأولى أنهم لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ فأورد عليه أن القوم يقولون نحن نؤمن بالله، وأجيب بأن إيمانهم بالله كلا أيمان لأنهم مشبهة وحلولية. واعترض ثانيا بأن كل من نازع في صفة من صفات الله وكان منكرا لله لزم أن يكون أكثر المتكلمين كذلك فالأشعري من أهل السنة أثبت البقاء صفة، والقاضي أنكره، وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة، والباقون أنكروه، والقاضي أثبت لله إدراك الطعوم وإدراك الروائح والحرارة والبرودة والأستاذ أبو إسحق أنكره، والقاضي أثبت للصفات سبعة أحوال معللة بغير الصفات وغيره أنكره، وعبد الله ابن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمرا ولا نهيا ولا خبرا ثم صار كذلك عند الإنزال، والآخرون أنكروه، وقوم من قدماء الأشاعرة أثبتوا لله خمس كلمات: الأمر والنهي والاستخبار والخبر والنداء. والمشهور أن كلام الله واحد. واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور لله؟. وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق فأكثر من أن تحصى هاهنا. وأجيب بأن المجسم خالف في الذات لأنه يقول إن الإله جسم والبرهان دل على(3/452)
أن إله العالم ليس بجسم ولا جسماني. وأما الخلاف في المسائل المذكورة فراجع إلى الصفة فظهر الفرق. نعم إنا نكفر الحلولية والحروفية القائلين بأن كلام الله تعالى حل في كل لسان وفي كل جسم كتب فيه القرآن كما نكفر النصارى القائلين بأن أقنوم الكلمة حلت في عيسى.
الصفة الثانية: أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر لأن اليهود والنصارى ينكرون المعاد الجسماني. والقرآن دل على أن أهل الجنة يأكلون ويشربون وباللذات يتمتعون، وأما السعادات الروحانية فمتفق عليها. الصفة الثالثة: وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أي لا يحرّمون ما حرم الله في القرآن، والرسول في سنته كالخمر والخنزير ونحوهما. وقال أبو روق: أي لا يعملون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام توافق مشتهاهم. الصفة الرابعة: وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي لا يعتقدون صحة دين الإسلام الذي هو الحق. يقال: فلان يدين بكذا إذا اتخذ ذلك دينه ومعتقده. وقيل: الحق هو الله.
ثم ذكر غاية القتال فقال حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ فعله من جزى يجزي إذا قضى ما عليه.
قال الواحدي: هي ما يعطى المعاهد على عهده. وقال في الكشاف: سميت جزية لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه، أو لأنهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل. ومعنى عَنْ يَدٍ إن أريد بها يد المعطي أي عن يد مؤاتية غير ممتنعة يقال: أعطى بيده إذا انقاد وأصحب، أو المراد حتى يعطوها عن يد إلى نقدا غير نسيئة ولا مبعوثا على يد أحد، وإن أريد بها يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية أي بسببها كقوله:
ينهون عن أكل وعن شرب أي يتناهون في السمن بسببهما. أو المراد عن إنعام عليهم فإن قبول الجزية منهم بدلا عن أرواحهم نعمة عظيمة عليهم. قيل: إن من اليهود موحدة فما وجه إيجاب الجزية عليهم؟ والجواب أنه إذا ثبت وجوب الجزية على بعضهم لزم القول في حق الكل لعسر الامتياز ولوجود الصفات الباقية فيهم. أما مقدار الجزية
فعن أنس: قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل محتلم دينارا،
وقسم عمر على فقرائهم في المدينة اثني عشر درهما، وعلى الأوساط أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين. فذهب الشافعي إلى أن أقل الجزية دينار ولا يزاد على الدينار إلا بالتراضي. وذهب أبو حنيفة إلى قسم عمر. والمجوس سبيلهم سبيل أهل الكتاب
لقوله صلى الله عليه وسلم: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب»
ويروى أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر
وذلك أن لهم شبهة كتاب. ومعنى ذلك أن كتبهم وهي الصحف التي أنزلت على إبراهيم صلى الله عليه وسلم(3/453)
قد رفعت إلى السماء لأحداث أحدثوها. وليس المقصود من أخذ الجزية تقرير الكفرة على كفرهم بدينار واحد حتى يصير موجبا للطعن، وإنما الغرض حقن دمائهم وإمهالهم مدة لعلهم يتفكرون في كتابهم فيعرفون صدق محمد وما دعاهم إليه. وأيضا فيه حرمة أنبيائهم وحرمة كتابهم وحرمة آبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل. وأما قوله وَهُمْ صاغِرُونَ فمعناه أنه لا بد مع أخذ الجزية من إلحاق الذل والصغار بهم. والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عزّ الإسلام وذل الكفر ويسمع الدلائل فالظاهر أن مجموع ذلك يحمله على الانتقال إلى الإسلام. وفسروا الصغار في الآية بأخذ الجزية على سبيل الإهانة بأن يكون الذمي قائما والمسلم الذي يأخذ الجزية قاعدا ويأمره بأن يخرج يده من جيبه ويحني ظهره ويطأطىء رأسه فيصب ما معه في كفة الميزان ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمتيه. وهذه الهيئة مستحبة على الأصح لا واجبة. وقيل: الصغار هو نفس أخذ الجزية. والجزية تسقط بالإسلام عند أبي حنيفة دون الشافعي. وإنها تؤخذ عند أبي حنيفة في أوّل السنة وعند الشافعي في آخرها. ولا تؤخذ من فقير لا كسب له ولا من امرأة وخنثى ولا صبي ولا مجنون وعبد ولا من سيده بسببه، وتضرب على الزمن والعسيف والشيخ الفاني والراهب والأعمى على الأصح من قولي الشافعي، لأن الجزية بمنزلة الكراء يستوي فيه المعذورون وغيرهم. قال الشافعي في أحد قوليه. العاجز عن الكسب يعقد له الذمة بالجزية فإذا تم الحول أخذنا إن أيسر وإلا فهي في ذمته إلى أن يوسر وهكذا في كل حول. ولا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه الذي فوضه إليه لأنه من الأمور الكلية.
وكيفية العقد أن يقول: أقررتكم وأذنت لكم في الإقامة في دار الإسلام على أن تبذلوا كذا وتنقادوا لأحكام الإسلام التي يراها الإمام. ولا يقرأ أهل الكتاب بالجزية في أرض الحجاز لما
روي أنه صلى الله عليه وسلم عليه وسلم قال: «أخرجوا اليهود من الحجاز»
قال الشافعي: هو مكة والمدينة ومخالفيهما أي قراهما.
وما روي أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بأن يخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب
فمحمول على أنه أراد الحجاز جمعا بين الحديثين.
وقد بقي في الآية نكتة ذكرها بعض العلماء في أن المسلم لا يقتل بالذمي قال: لأن قوله قاتِلُوا مشتمل على إباحة دمهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم فلما قال حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ علمنا أن المجموع انتفى عند إعطاء الجزية، ولكن انتفاء المجموع يكفي فيه انتفاء أحد جزأيه وأحد الجزأين- وهو وجوب قتلهم- مرتفع بالاتفاق فيبقى الآخر وهو عدم وجوب القصاص بقتلهم بعد أداء الجزية كما كان. ولقائل أن يقول: لا نزاع في الاحتمال ولكن ما الدليل على عدم وجوب القصاص وأنت بصدد إثباته؟.(3/454)
ولما حكم في الآية المتقدمة أن أهل الكتاب لا يؤمنون بالله شرع في إثبات تلك الدعوى فقال وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ الآية. العلم مبتدأ والابن خبره ومن أسقط التنوين من عزير فلأنه اسم أعجمي زائد على ثلاثة أحرف فيمتنع من الصرف كعازر.
وقيل: منصرف لكونه عربيا وكان الوجه كسر التنوين كقراءة عاصم ولكنه أسقط التنوين للساكنين على مذهب بعضهم. أو لأن الابن وقع وصفا والخبر محذوف وهو معبودنا.
وطعن في هذا الوجه عبد القاهر باستلزامه احتمال توجه الذم إلى الخبر دون الوصف، وحينئذ يحصل تسليم كونه ابنا لله ومعلوم أن ذلك كفر. وهذا قول ناس من اليهود بالمدينة وما هو بقول كلهم إلا أنه جاء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد.
يقال: فلان يركب الخيول أو يجالس الملوك. ولعله لم يركب أو لم يجالس إلا واحدا.
عن ابن عباس: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا ذلك.
وعنه أيضا أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فأنساهم الله التوراة ونسخها من صدورهم، فتضرع عزير إلى الله تعالى وابتهل إليه فعاد حفظ التوراة إلى قلبه فأنذر قومه، فلما جربوه وجدوه صادقا فيه فقالوا:
هذا ابن الله. وقال عبيد بن عمير: إنما قال هذا القول رجل من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء. وقيل: لعل هذا المذهب كان فاشيا فيهم ثم انقطع، ولا عبرة بإنكار اليهود قول الله أصدق. وقال في الكشاف: الدليل على أن هذا القول كان فيهم أن الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب. وأما النصارى فلا شك أنهم يقولون ذلك وقد حكى الواحدي في سبب ذلك أن أتباع عيسى كانوا على الحق بعد رفع عيسى إلى السماء حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود وكان في اليهود رجل شجاع، يقال له بولس.
قتل جمعا من أصحاب عيسى ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا ونحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار وإني أحتال فأضلهم، فعرقب فرسه وأظهر الندامة بما كان يصنع ووضع على رأسه التراب وقال: نوديت من السماء ليس لك توبة إلا أن تنتصر وقد تبت فأدخله النصارى الكنيسة. ومكث سنة لا يخرج وتعلم الإنجيل فصدقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس واستخلف عليهم رجلا اسمه نسطور وعلمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، وتوجه إلى الروم وعلمهم اللاهوت والناسوت وقال: ما كان عيسى إنسانا ولا جسما ولكنه الله. وعلم رجلا آخر- يقال له يعقوب- ذلك ثم دعا رجلا- يقال له ملكا- فقال له: إن الإله لم يزل ولا يزال عيسى. ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكل واحد منهم: أنت خليفتي فادع الناس إلى نحلتك، ولقد رأيت عيسى في المنام ورضي عني وإني غدا أذبح نفسي لمرضاة عيسى، ثم دخل المذبح فذبح نفسه. هذا هو(3/455)
السبب في وقوع هذا الكفر في طوائف النصارى. والأقرب أن لفظ الابن قد وقع في الإنجيل على سبيل التشريف حيث قال: إنك أنت الابن الوحيد كما وقع لفظ الخليل في حق إبراهيم عليه السلام. وقال المسيح عليه السلام للحواريين: أحبوا أعداءكم وباركوا على لاعنيكم وأحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا على من يؤذيكم لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء الذي أشرق شمسه على الصالحين والفجرة. ثم إن القوم لأجل عداوة اليهود ولأجل أن يقابلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطرف الآخر حملوا لفظ الابن على البنوة الحقيقية والله تعالى أعلم يحقيقة الحال. ثم قال سبحانه ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ وفائدة هذا التخصيص- وكل قول فإنما يقال بالفم- أنه قول لا يعضده برهان بل البرهان دال على نقيضه لاستحالة إثبات الولد لمن هو مبرأ عن الحاجة والشهوة والمضاجعة واتخاذ الصاحبة، فما هو إلا لفظ يفوهون به فارغ من معنى تحته كالألفاظ المهملة التي لا تجاوز الحناجر ولا يؤثر معناها في القلب بل لا معنى لها حتى تؤثره، نظيره قوله وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ [النور: 15] أو نقول: إن الإنسان قد يختار مذهبا ولكن لا يصرح به ولا يذكره بلسانه، أما إذا نطق به فذلك هو الغاية في اختياره وإذا ساعده عليه دليل كان نهاية في الحسن والتأثير. فالمراد بالقول المذهب وأنهم يصرحون به لا يخفونه البتة، أو أنه مذهب لا يساعده دليل فلا تأثير له في القلوب. ويحتمل أن يراد أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت في الأفواه والألسنة يضاهنون من قرأ بغير همز فظاهر لأنه من ضاهى يضاهي منقوصا أي شاكل، ومن قرأ بالهمز فلمجيء ضاهأت من قولهم امرأة ضهيأ على وزن «فعيل» وهي التي شاكلت الرجال في أنها لا تحيض ومن جعل ضهيأ على «فعلأ» بزيادة الهمزة كما في «غرقىء» لقشرة البيض السفلى لمجيء ضهياء ممدودا بمعناه فلا ثبت في هذا الثاني عنده. ولا بد من تقدير مضاف أي يضاهي قولهم قول الذين، حذف المضاف وأقيم الضمير المضاف إليه مقامه فانقلب مرفوعا لفقد الجار. والمعنى أن قول هؤلاء المعاصرين للنبي من أهل الكتاب يشبه قول قدمائهم أي إنه كفر قديم فيهم غير مستحدث، أو يضاهي قول أهل الكتاب قول المشركين القائلين الملائكة بنات الله. وقيل: الضمير في يُضاهِؤُنَ للنصارى فقط أي يشاكل قول النصارى «المسيح ابن الله» قول اليهود «عزير ابن الله» لأن اليهود أقدم منهم. ثم قال على عادة محاورات العرب معجبا ومستفهما على سبيل الإنكار قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحق أي هم أحقاء بأن يقال لهم هذا تعجبا من شناعة قولهم كما يقال القوم ركبوا شنعاء: قاتلهم الله ما أعجب فعلهم، ولمن ضل عن الطريق أين تذهب؟. ثم وصفهم(3/456)
بضرب آخر من الإشراك فقال اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ قال أهل المعاني: الحبر العالم الذي يعبر عما يريد بأحسن بيان، والراهب الذي ظهرت آثار الرهبة من قلبه على وجهه ولباسه، ولكن في عرف الاستعمال اختص الأحبار بعلماء اليهود من ولد هارون، والرهبان بعلماء النصارى من أصحاب الصوامع. واختلفوا في معنى اتخاذهم إياهم أربابا بعد الاتفاق على أنه ليس المراد أنهم جعلوهم آلهة العالم فقال أكثر المفسرين: المراد أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم.
نقل أن عدي بن حاتم كان نصرانيا فانتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ سورة براءة، فلما وصل إلى هذه الآية قال عدي: إنا لسنا نعبدهم فقال: أليس تحرّمون ما أحلّ الله وتحلون ما حرم الله؟ فقلت: بلى. فقال: فتلك عبادتهم.
قال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف قول الأحبار والرهبان فكانوا يأخذون بأقوالهم وما كانوا يقبلون حكم الله. قال العلماء: إنما لم يلزم تكفير الفاسق بطاعة الشيطان خلاف ما عليه الخوارج لأن الفاسق وإن كان يقبل دعوة الشيطان إلا أنه يلعنه ويستخف به بخلاف أولئك الأتباع المعظمين لمتبوعهم. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في مسائل كانت تلك الآيات مخالفة لمذهبهم فيها فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وكانوا ينظرون إليّ كالمتعجب يعني كيف الآيات مع أن الرواية عن سلفنا. وردت بخلافها، ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا ساريا في عرف الأكثرين. وقلت: ولعلهم توقفوا لحسن ظنهم بالسلف لأنهم ربما وقفوا من تلك الآي على ما لم يقف عليه الخلف. وقيل في تفسير هذه الربوبية: إن الجهال والحشوية إذا بالغوا في تعظيم شيخهم وقدوتهم فقد يميل طبعهم إلى الحلول والاتحاد، وقد يساعدهم الشيخ في ذلك إذا كان مزوّرا طالبا للدنيا وقد يرضى بسجودهم له تعظيما وإجلالا مع أن السجود عبادة لا تليق إلا بالله. وإذا كان هذا مشاهدا في هذه الأمة فكيف بالأمم السالفة؟! وأما المسيح فحين جعلوه ابنا لله فقد أهلوه للعبادة والإلهية، ولعل السبب في إفراد المسيح بالذكر أن قولهم فيه أشنع من قولهم في الأحبار والرهبان، أو لأن القول بإلهية المسيح مخصوص بأحد الفريقين. فلو قيل اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيح ابن مريم أربابا لأوهم اشتراك الفريقين في اتخاذ المسيح ربا وَما أُمِرُوا الضمير للمتخذين. والذي أمرهم بذلك أدلة العقل والكتب السماوية، وفي القرآن حكاية عن المسيح إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ [المائدة: 72] ويجوز أن يكون الضمير للأحبار والرهبان أي وما أمر هؤلاء الذين هم عندهم أرباب إلا بأن يكونوا مربوبين. ثم نزه نفسه عن مقالة(3/457)
الظالمين فقال سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ثم ذكر نوعا آخر من قبائح أفعال أهل الكتاب وهو سعيهم في إبطال أمر محمد وجدهم في إخفاء الدلائل الدالة على صحة نبوّته فقال يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ أي دينه الثابت بالدليل المشبه بالنور لاشتراكهما في الاهتداء بهما. وذلك أن دين محمد مؤيد بالمعجزات الباهرة التي بمثلها ثبتت نبوّة موسى وعيسى ولا سيما بالقرآن، وحاصل شرعه تعظيم الله وتنزيهه عما لا يليق به والانقياد لطاعته وصرف النفس عن الأمور الفانية والترغيب في السعادات الباقية، ثم إنهم بكلماتهم الركيكة وشبهاتهم السخيفة أرادوا إبطال هذه الدلائل فكانوا كمن يريد إبطال نور الشمس الذي هو أشد الأنوار المحسوسة بسبب أن ينفخ فيه. ولا ريب أن ذلك سعي باطل وكيد زاهق ولهذا قال وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أي لم يرد الله إلا ذلك إلا أن الإباء يفيد زيادة على عدم الإرادة وهي المنع والامتناع قال:
وإن أرادوا ظلمنا أبينا امتدح بذلك ولا يجوز أن يمتدح بأنه يكره الظلم لأن ذلك يستوي فيه القوي والضعيف. وفيه وعد بمزيد النصرة والقوة وإعلاء الدرجة. ثم أكد ذلك المعنى بقوله هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى أي بكثرة الدلائل والمعجزات وَدِينِ الْحَقِّ لاشتماله على أمور تظهر لكل أحد كونه موصوفا بالصواب ومطابقا للحكمة ومؤديا إلى صلاح الدنيا والآخرة. ثم بيّن غاية أمره وتمام حكمه فقال لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أي ليجعل الرسول أو دين الحق غالبا على أهل الأديان كلهم أو على كل دين. عن أبي هريرة أنه قال هذا وعد من الله بأن يجعل الإسلام ظاهرا على جميع الأديان، وتمام هذا إنما يظهر عند خروج المهدي ونزول عيسى. وقال السدي: ذلك عند خروج المهدي عليه السلام لا يبقى أحد إلا دخل الإسلام وأدّى الخراج. قلت: قد دخل في عصرنا من الملوك الكفرة ومن أشياعهم في الإسلام ما لا يعدّ ولا يحصى، وازدياد ذلك كل يوم دليل ظاهر على أن الكل سيدخلون في الإسلام.
وقد جاء في الحديث: «زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتى ما زوي لي منها» «1»
وقيل: ليظهر الإسلام على غيره في جزيرة العرب.
وهذا تخصيص أوجبه ضيق العطن. وقيل: ليظهر الرسول على جميع شرائط الدين حتى لا يخفى عليه شيء من مدارك الأحكام. وقيل ليظهره بالحجة والبرهان لأن غلبة الكفار في
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (5/ 278، 284) (4/ 123) . مسلم في كتاب الفتن حديث 19. أبو داود في كتاب الفتن باب 1. الترمذي في كتاب الفتن باب 14. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 9.(3/458)
بعض الأقطار ظاهرة. ولقائل أن يقول: إن المسلمين في تلك البلاد وإن قلوا غالبون على الكفار وإن كثروا بدليل أنهم لا يمنعونهم من إظهار شعائر الإسلام والتزام أحكامه، قوله هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ فيه مدح منه تعالى لنفسه من جهة أنه هو القادر على إبداء مثل هذا الأمر العظيم ومن جهة أنه هو الغالب على إيصاله إلى حيث شاء وأراد من غير معاند ولا منازع، ومن جهة أنه هو المعطي لمثل هذه النعمة التي لا يوازيها نعمة وهي نعمة الهدى والإسلام. وقوله وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وفي الآية الثانية وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ إما متساويا الدلالة تنبيها على أن اليهود والنصارى أيضا مشركون، وإما تخصيص بعد تعميم، ولعله رغم لأنف مشركي قريش ثم لما وصف رؤساء اليهود والنصارى بالتكبر والتجبر وادعاء الربوبية والترفع على الخلق أراد أن يصفهم بالطمع والحرص فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ الآية. وفيه تنبيه على أن مقصودهم من إظهار تلك الربوبية والتجبر تحصيل حطام الدنيا. قال الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله. ولعمري أن من تأمل في أحوال أهل الناقوس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم وشرح أحوالهم، فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يعلق خاطره بجميع المخلوقات وأنه من الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك ويتحمل الذل والدناءة في تحصيله. وفي قوله كَثِيراً دلالة على أن هذه الطريقة طريقة بعضهم لا كلهم، فإن العالم لا يخلو عن المحق وإطباق الكل على الباطل وإثبات ذلك كالممتنع، وهذا يوهم أنه كما أن إجماع هذه الأمة على الباطل لا يحصل فكذلك في سائر الأمم. وعبر عن أخذهم أموال الناس بالأكل تسمية للشيء باسم ما هو أعظم مقاصده. وأيضا من أكل شيئا فقد ضمه إلى نفسه ومنعه عن الوصول إلى غيره كما لو أخذه، ولهذا فإن من أخذ أموال الناس فإذا طولب بردها قال أكلتها وما بقيت فلا قدرة لي على ردّها. وفي تفسير الباطل وجوه: منها أنهم كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع وفي إخفاء نعت محمد وتأويل الدلائل الدالة على نبوّته. ومنها أنهم كانوا يدّعون عند عوامهم الحمقى أنه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم وبذل الأموال في مرضاتهم، والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب. ومنها أنهم قالوا لا طريق إلى تقوية دينهم إلا إذا كان أولئك الفقهاء أقوياء عظماء أصحاب الجاه والحشمة والأموال كما يفعله المزوّرون في زماننا هذا. أما قوله وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فمعناه يبالغون في المنع من متابعة محمد كيلا يبطل جاههم وحشمتهم عند العوام لو أقروا بدينه.(3/459)
ثم قال سبحانه وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الكنز هو المال المدفون وقد كنزه يكنزه.
والتركيب يدل على الجمع ومنه ناقة كناز مكتنزة اللحم، واكتنز الشيء اجتمع. قيل:
المراد بقوله وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الأحبار والرهبان لما وصفهم بالحرص الشديد، أراد أن يصفهم بالامتناع من إخراج الواجبات عن أموالهم. وقيل: المقصود مانعو الزكاة من المسلمين. ووجه النظم أنه لما كان حال من أمسك مال نفسه بالباطل كذلك فما ظنك بحال من سعى في أخذ مال غيره بالباطل والخديعة؟! عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر فقلت له: ما أنزلك هذه البلاد؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب. وقلت: نزلت فينا وفيهم فصار ذلك سببا للوحشة. فكتب إلي عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة، فلما قدمت المدينة انحرف الناس عني كأنهم لم يروني من قبل، فذكرت ذلك لعثمان فقال: إن شئت تنحيت فكنت قريبا. قلت: إني والله لا أدع ما كنت أقول. وعن الأحنف قال: لما قدمت المدينة رأيت أبا ذر يقول: بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفه، ويوضع على نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه. فلما سمع القوم ذلك تركوه فاتبعته وقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم. فقال: ما عسى يصنع بي قريش. واختلف علماء الصحابة في هذا الكنز المذموم فقال الأكثرون: هو المال الذي لم تؤدّ زكاته. عن عمر بن الخطاب: مال أديت زكاته فليس بكنز. وقال ابن عمر: كل ما أديت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لم تؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض. وقال جابر: إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت عنه شره وليس بكنز. وعن ابن عباس: قوله وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ يريد الذين لا يؤدّون زكاة أموالهم. قال القاضي: ويندرج فيه سائر الحقوق من الكفارات والديون ونفقة الحج والجهاد والإنفاق على الأهل والعيال وضمان المتلفات وأروش الجنايات. وقال الأقلون: كل مال كثير فهو مذموم سواء أديت زكاته أو لم تؤد.
وحجة الأولين قوله تعالى لَها ما كَسَبَتْ [البقرة: 286] وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ [محمد: 36]
وقوله عليه السلام: كل امرئ أحق بكسبه» «1» «نعم المال الصالح للرجل الصالح ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان باطنا، وما بلغ أن يزكى ولم يزك فهو كنز وإن كان ظاهرا» «2» . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع من الأغنياء كعثمان بن
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (4/ 197، 202) .
(2) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 4. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 3.(3/460)
عفان وعبد الرحمن بن عوف وكان يعدّهم من أكابر المؤمنين، وقد ندب إلى إخراج الثلث أو الأقل في المرض.
ولو كان جمع المال محرما لكان يأمر المريض أن يتصدق بالكل بل الصحيح في حال صحته. حجة الأقلين عموم الآية وما
روى سالم بن الجعد أنها لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تبا للذهب تبا للفضة قالها ثلاثا فقالوا له صلى الله عليه وسلم:
أي مال نتخذ؟ قال: «لسانا ذاكرا وقلبا خاشعا وزوجة تعين أحدكم على دينه» .
وقوله: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها» «1» وتوفي رجل فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كية. وتوفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال:
كيتان.
وعن عليّ رضي الله عنه: كل مال زاد على أربعة آلاف فهو كنز أديت منه الزكاة أو لم تؤد.
ومن المعقول أن الله تعالى خلق الأموال لدفع الحاجات فإذا حصل للمرء منه ما زاد على قدر حاجته ومنع منه الغير كان مانعا من ظهور حكمة الله ودافعا لوجوه الإحسان إلى عبيده. وقد رام طائفة من العلماء الجمع بين القولين فقالوا: كان هذا قبل أن تفرض الزكاة، فأما بعد فرض الزكاة فالله أعدل وأكرم من أن يجمع عبده مالا من حيث أذن له فيه ويؤدي عنه ما أوجب عليه ثم يعاقبه. وقال أهل التحقيق: النهي عن جمع المال محمول على التقوى لأن تزايد المال لا حد له يقف هنالك فينجز إلى تضييع العمر تارة في تحصيله وأخرى في حفظه، لأنه كلما ازداد المال ازدادت لذته بذلك فيشتد حرصه ولا ينقطع البتة، وقد يفضي إلى الطغيان والخذلان كقوله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى [العلق: 6، 7] ولو لم يكن في الفقر سوى الانكسار وقلة التعلق وفراغ البال لكفى بها منقبة وفخرا، وكل ما يلهيك عن الله ولم يكن في سبيل الله فعدمه خير من وجوده. وأما ظاهر الفتوى فهو أن صاحب المال الكثير لا عتب عليه إذا أدّى منه حقوقه.
هذا ومن حمل الآية على وعيد مانعي الزكاة في النقود قاس الزكاة في المواشي عليه.
وقد ورد أيضا في الحديث: «ما من صاحب إبل أو بقر أو غنم» «2»
وهو مشهور. ولا ريب أن الأصل المعتبر في الأموال هو النقدان، وسائر الأمتعة إنما تحصيل بهما وتدور عليهما.
ولمن أوجب الزكاة في الحلي المباح الاستدلال بالآية لأن الذهب والفضة يشمله، ومن لم يوجب الزكاة فيه خصص عموم الآية بما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا زكاة في الحلي المباح»
ولم يصححه أبو عيسى الترمذي. وبتقدير أن يصح حملوه على اللآلئ لقوله تعالى
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (5/ 168) .
(2) رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 2.(3/461)
وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها [فاطر: 12] ولقائل أن يقول: لو حملنا الحلي في الحديث على اللآلئ لم تبق لقيد المباح فائدة، ثم إنه تعالى ذكر شيئين الذهب والفضة ثم قال وَلا يُنْفِقُونَها فقيل: الضمير عائد إلى المعنى وهو الكنوز أو الأموال، أو لأن كل واحد منهما جملة واحدة وافية وعدة كثيرة ودراهم ودنانير فهو كقوله وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] وقيل: إلى اللفظ أي ولا ينفقون الفضة. وحذف الذهب إما لأنه داخل في الفضة من حيث كونهما جوهرين ثمينين نفيسين مقصودين بالكنز فأغنى ذكر أحدهما عن الآخر كقوله وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: 11] وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً
[النساء: 112] وإما لأن التقدير والذهب كذلك كما أن معنى قوله:
فإني وقيار بها لغريب وقيار كذلك. ثم قال فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ تهكما مثل قولهم: تحيتهم الضرب وإكرامهم الشتم. ولو قيل: البشارة وهي الخبر الذي يؤثر في القلب فيتغير بسببه لون بشرة الوجه سواء كان من الفرح أو من الغم كان حقيقة يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها معناه أن النار تحمى عليها أي يوقد عليها نار ذات حمى وحر شديد من قوله نارٌ حامِيَةٌ [القارعة:
11] ولو قيل يوم تحمى أي الكنوز كقولك: أحميت الحديد لم يفد هذا المعنى وإنما ذكر الفعل مع أن الإحماء للنار لأنه مسند إلى الجار والمجرور بعد حذف النار كما تقول:
رفعت القصة إلى الأمير. فإن لم تذكر القصة قلت: رفع إلى الأمير. فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ذكر العلماء في تخصيص هذه الأعضاء بالكي وجوها منها. إن حصول الأموال يقصد به فرح القلب يظهر أثره في الوجه وشبع ينتفخ بسببه الجنبان ولبس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم فعورضوا بنقيض المقصود. ومنها أن هذه الأعضاء يعظم تألمها لكونها مجوّفة ولما في داخلها من الأعضاء الشريفة. ومنها أنهم يكوون على الجهات الأربع، أما من قدام فعلى الجبهة، وأما من خلف فعلى الظهر، وأما من اليمين واليسار فعلى الجنبين. ومنها أن المراد وقوع الكي على كل الأعضاء لأنها إما في غاية النظافة ومثاله الجبهة، وإما في غاية الصلابة ومثاله الظهر، وإما متوسطة ومثاله الجنبان.
ومنها أن الجمال في الوجه والقوة في الظهر والجنبين والإنسان إنما يطلب المال للجمال والقوة فعورض بإزالتهما. ومنها قول أبي بكر الوراق: خصت بالذكر لأن صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جنبيه، وإذا قعد بجنبه تباعد وتجافى عنه وولى ظهره. وأنا أقول:
يحتمل أن يراد بالجباه قدام الشخص حيث لم يقدم لنفسه خير، أو بالظهور جهة الخلف(3/462)
حيث خلف ما أعقبه الحسرات وبالجنوب اليمين والشمال حيث لم يصرف المال في مرضاة الله وأنفقه في معصيته وسخطه وهذا بالتأويل أليق. ثم الذي جعل كيا هو كل ماله أو قدر الزكاة الظاهر أنه الكل لأنه لما لم يخرج منه الحق كان ذلك الجزء شائعا في كل ماله فناسب أن يعذب بكل الأجزاء ثم قال هذا ما كَنَزْتُمْ والتقدير فيقال لهم هذا ما كنزتم لِأَنْفُسِكُمْ وفيه توبيخ وإشعار بأنهم عورضوا بنقيض ما قصدوا وأكد ذلك بقوله فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ما مصدرية أو موصولة والمعنى اعرفوا وبال كونكم كانزين، أو ذوقوا وبال المال الذي كنتم تكنزونه.
ثم ذكر نوعا آخر من قبائح أعمال اليهود والنصارى والمشركين فقال إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ الآيتان وذلك أنه تعالى لما حكم في كل وقت بحكم خاص فإذا غيروا تلك الأوقات بسبب النسيء والكبيسة كان ذلك سعيا منهم في تغيير حكم الله بحسب الهوى فكان ذلك زيادة في كفرهم. واعلم أن المعالم الشرعية كلها منوطة بالشهور القمرية الهلالية لقوله سبحانه قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189] والسنة القمرية عبارة عن اثني عشر شهرا قمريا بدليل قوله تعالى إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً قال أبو علي الفارسي: لا يجوز أن يتعلق قوله فِي كِتابِ اللَّهِ بقوله عِدَّةَ الشُّهُورِ للفصل بالأجنبي وهو الخبر أعني اثنا عشر. فقوله فِي كِتابِ اللَّهِ ويَوْمَ خَلَقَ الثاني بدل من الأول وهو من عند. والتقدير إن عدّة الشهور عند الله في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض. وفائدة الإبدالات تقرير الكلام في الأذهان لأنه يعلم منه أن ذلك العدد واجب عند الله وثابت في عمله في أول ما خلق الله العالم. ويجوز أن يكون فِي كِتابِ اللَّهِ صفة اثنا عشر أي اثنا عشر شهرا مثبتة في كتاب الله وعلى هذا لا يجوز أن يراد بالكتاب كتاب من الكتب لأن يَوْمَ متعلق به ولا تتعلق الظروف بأسماء الأعيان. لا يقال: غلامك يوم الجمعة بل الكتاب يكون مصدرا بمعنى المفعول أي فيما أثبته في ذلك اليوم اللهم إلا إذا قدر الكلام هكذا. إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا مكتوبا في كتاب الله يوم خلق. قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ. وقيل: القرآن.
مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ثلاثة سرد أي مسرودة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو رجب ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ يعني أن تحريم الأشهر الحرم الدين المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل وقد توارثته العرب منهما، وكانوا يعظمونها ويحرّمون القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه تركه فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أي في الأشهر الأربعة أَنْفُسَكُمْ بأن تجعلوا حرامها حلالا. عن عطاء قال: تالله ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في(3/463)
الأشهر الحرام إلا أن يقاتلوا وما نسخت. وعن الحسن مثله لأنه فسر الدين القيم بأنه الثابت الدائم الذي لا يزول. وعن عطاء الخراساني: أحلت القتال في الأشهر الحرم بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وقيل: معناه لا تأثموا فيهن بيانا لعظم حرمتهن كما عظم أشهر الحج بقوله فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ [البقرة: 197] والسبب فيه أن لبعض الأوقات أثرا في زيادة الثواب أو العقاب كالأمكنة، وكانت الحكماء يختارون لإجابة الدعاء أوقاتا مخصوصة. وفيه فائدة أخرى هي أن الإنسان جبل مطبوعا على الظلم والفساد، ومنعه من ذلك على الإطلاق شاق عليه فخص بعض الأزمنة والأمكنة بطاعة ليسهل عليه الإتيان بها فيهما ولا يمتنع عن ذلك. ثم لو اقتصر على ذلك فهو أمر مطلوب في نفسه وإن جره ذلك إلى الاستدامة والاستقامة بحسب الإلفة والاعتياد أو لاعتقاده أن الإقدام على ضد ذلك يبطل مساعيه السالفة فذلك هو المطلوب الكلي. ولا ريب أن تخصيص ذلك من الشارع أقرب إلى اتحاد الآراء وتطابق الكلمة. وقيل: الضمير في قوله فِيهِنَّ عائد إلى اثْنا عَشَرَ والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مدة عمره، أو المراد المنع من النسيء على ما يجيء. قال الفراء: الأولى رجوع الضمير إلى الأربعة لقربها ولما ذكرنا أن لهذه الأشهر مزيد شرف، فناسب أن تخص بالمنع من الظلم، ولأن العرب تختار فيما بين الثلاثة إلى العشرة ضميرا الجماعة، وفيما جاوز العشرة وهو جمع الكثرة تختار ضمير الوحدة. قال حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما
ويقال: لثلاث خلون من شهر كذا ولإحدى عشرة ليلة خلت. ثم قال عز من قائل وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ وظاهر الآية يدل على إباحة القتال في جميع الأشهر لأن الأمر الوارد عقيب الحرمة يدل على الإباحة. ومعنى كَافَّةً جميعا لأنهم إذا اجتمعوا تزاحموا فكف بعضهم بعضا. ونصبه على المصدر عند بعضهم لأنه مثل العاقبة والعافية. وقال الزجاج:
نصبه على الحال. ولا يجوز أن يثنى ويجمع ويعرف باللام كقولك: قاموا معا وقاموا جميعا. وفي وجه التشبيه في قوله كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً قولان: فعن ابن عباس:
قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال كما أنهم يستحلون قتال جميعكم. وقيل:
قاتلوهم بأجمعكم غير متفرقين في مقاتلة الأعداء ومقابلتهم. فعلى الأول يكون كَافَّةً حالا من المفعول وعلى الثاني يكون حالا من الفاعل وفي قوله وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ حث لهم على التقوى وعلى الجهاد بضمان النصر والمعونة. ثم فسر الظلم المنهي عنه في الآية المتقدمة وأكد النهي عنه بقوله إِنَّمَا النَّسِيءُ وهو مصدر نسأ إذا أخر كالنذير والنكير. وقال(3/464)
قطرب: أصله الزيادة من قوله: نسأت المرأة إذا حبلت لزيادة الولد فيها. وردّ بأنه يقال لها ذلك فيؤول لتأخر حيضها. وقيل: هو معنى منسوء كقتيل بمعنى مقتول. واعترض بأن المؤخر هو الشهر المعنى إلى أن الشهر زيادة في الكفر وهذا الحمل غير صحيح. ويمكن أن يجاب بأن المراد أن العمل الذي بسببه يصير الشهر الحرام مؤخرا زيادة في الكفر. احتج الجبائي هاهنا بأن الكفر يقبل الزيادة فكذا الإيمان. وأيضا أطلق الكفر على هذا العمل فتركه يكون إيمانا فلا يكون الإيمان مجرد الاعتقاد والإقرار. وأجيب بأن الزيادة راجعة إلى الكمال وإنما سمي هذا العمل كفرا لأنه يؤول إلى اعتقاد تحليل ما هو حرام وبالعكس. وفي قوله يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا بحث مشهور بين المعتزلة وغيرهم أن إسناد الإضلال إلى الله تعالى بالمجاز أو بالحقيقة وقد مر مرارا. قوله يُحِلُّونَهُ عاماً الضمير فيه عائد إلى النسيء. قال الواحدي:
أي يحلون التأخير عاما وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا فيه في الشهر الحرام.
ويحرّمون التأخير عاما آخر وهو الذي يتركون فيه الشهر الحرام على تحريمه. قال المفسرون: إنهم كانوا أصحاب حروب وغارات وكان يشق عليهم مكث ثلاثة أشهر متوالية من غير قتل وغارة، فإذا اتفق لهم في شهر منها أو في المحرم حرب وغارة أخروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر. قال الواحدي وأكثر العلماء: على أن هذا التأخير كان من المحرم إلى صفر. ويروى أنه حدث ذلك في كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعا في قومه وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه. ثم يقوم في القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرّموه. والأكثرون على أنهم كانوا يحرمون من جملة شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ أي ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوا ولم يعلموا أنهم خالفوا ترك القتال ووجوب التخصيص وذلك قوله تعالى فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ أي من القتال وترك الاختصاص. قال أهل اللغة: يقال تواطأ القوم على كذا إذا اجتمعوا عليه كأن واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه. والإيطاء في الشعر من هذا وهو أن يأتي في القصيدة بقافيتين لفظهما ومعناهما واحد. قال ابن عباس: إنهم ما أحلوا شهرا من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهرا آخر من الحلال، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا آخر من الحرام لأجل أن تكون عدة الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله تعالى فهذا هو المراد بالمواطأة. وللآية تفسيرا آخر وهو أن يكون المراد بالنسيء كبس بعض السنين القمرية بشهر حتى يلتحق بالسنة الشمسية، وذلك أن السنة القمرية أعني اثني عشر شهرا قمريا هي ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما وخمس وسدس من(3/465)
يوم على ما عرف من علم النجوم وعمل الزيجات، والسنة الشمسية وهي عبارة عن عود الشمس من أية نقطة تفرض من الفلك إليها بحركتها الخاصة ثلاثمائة وخمسة وستون يوما وربع يوم إلا كسرا قليلا، فالسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بعشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة وخمس ساعة تقريبا، وبسبب هذا النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل فيكون الحج واقعا في الشتاء مرة وفي الصيف أخرى، وكذا في الربيع والخريف، فكان يشق الأمر عليهم إذ ربما كان وقت الحج غير موافق لحضور التجار من الأطراف فكان يختل أسباب تجاراتهم ومعايشهم فلهذا السبب أقدموا على عمل الكبيسة بحيث يقع الحج دائما عند اعتدال الهواء، وإدراك الثمار والغلات وذلك بقرب حلول الشمس نقطة الاعتدال الخريفي، فكبسوا تسع عشر سنة قمرية بسبعة أشهر قمرية حتى صارت تسع عشرة سنة شمسية فزادوا في السنة الثانية شهرا ثم في الخامسة ثم في السابعة ثم في العاشرة ثم في الثالثة عشرة ثم في السادسة عشرة ثم في الثامنة عشرة، وذلك ترتيب بهر يحوج عند المنجمين، وقد تعلموا هذه الصفة من اليهود والنصارى فأنهم يفعلون هكذا لأجل أعيادهم، فالشهر الزائد هو الكبس وسمي بالنسيء لأنه المؤخر والزائد مؤخر عن مكانه، وهذا التفسير يطابق ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع وكان في جملة ما خطب به: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» «1»
والمعنى رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه وعاد الحج في ذي الحجة وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية. وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة في نفس الأمر فكانت حجة أبي بكر قبلها وفي ذي القعدة التي سموها ذا الحجة. وإنما لزم العتب عليهم في هذا التفسير لأنهم إذا حكموا على بعض السنين بأنها ثلاثة عشر شهرا كان مخالفا لحكم الله بأن عدّة الشهور اثنا عشر شهرا أي لا أزيد ولا أنقص وإليه الإشارة بقوله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ على هذا التفسير. ويلزمهم أيضا ما لزمهم في التفسير الأول من تغيير الأشهر الحرم عن أماكنها، فيجوز أن تكون الإشارة إلى المجموع. ومعنى قوله يُحِلُّونَهُ عاماً أي يحلون النسيء في عام الكبس ويحرمونه عاما أي في غير سنة الكبس. ومعنى قوله لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ما روي أنه كان يقوم في الموسم منهم خطيب ويقول: أنا أنسئ لكم في هذه السنة شهرا وكذا أفعل في كل سنين أقبلت حتى يأتي حجكم وقت الإدراك فينسىء المحرم ويجعله كبيسا. ثم إنه متى انتهت النوبة إلى
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (5/ 73) .(3/466)
الشهر الحرام فتكرر حرم عليهم واحدا برأيه وعلى وفق مصلحتهم، وأحل الآخر. وباقي في الآية قد مر في تفسير مثله مرارا والله تعالى أعلم.
التأويل:
قاتِلُوا النفوس الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بتعبده وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي لا يعملون للآخرة وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ من حب الدنيا فإنها رأس كل خطيئة وحَرَّمَ رَسُولُهُ على نفسه وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أي لا يطلبون الحق مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من النفوس الملهمة بالواردات الربانية حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وهي معاملتها على خلاف طبعها عَنْ يَدٍ عن حكم صاحب قوة وهو الشارع وقالت يهود النفس أن عزير القلب ابْنُ اللَّهِ وذلك إذا انعكس عن مرآه القلب آثار أنوار الواردات إلى النفس المظلمة فتنورت، كما أن اليهود لما سمعت التوراة والعلوم التي هم عنها بمعزل من عزير قالوا إنه ابن الله وَقالَتِ النَّصارى القلوب إن مسيح الروح ابن الله، وذلك أن الروح ربما يتجلى للقلب في صفة الربوبية والخلافة مقترنا بصفة إبداع الحق وبتشريف إضافة وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: 29] يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ وهم النفوس الكافرة الذين اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ أي قلوبهم وَرُهْبانَهُمْ أي أرواحهم أَرْباباً والمسيح ابن مريم وهو الخفي وذلك أن الخفي هو أول مظهر للفيض الإلهي الذي منه التربية ثم الروح ثم القلب ثم النفس ثم القالب. فالنفس من قصر نظرها ترى التربية من القالب، ثم يرتقي نظرها إلى أن ترى التربية من القلب، ثم يرتقي نظرها إلى أن ترى الكل من الحق فإن رؤية ذلك من شأن القلب كقوله ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11] يُرِيدُونَ أي النفوس أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ الذي رش على الأرواح في بدء الخلق بِأَفْواهِهِمْ أي بأفواه استيفاء الشهوات واللذات الجسمانيات هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ وهو النور المرشش بالهداية إلى الله وطلب الحق لِيُظْهِرَهُ في طلب الحق على طلب غيره إِنَّ كَثِيراً من أحبار القلوب ورهبان الأرواح لَيَأْكُلُونَ أي يتمتعون بحظوظ النفس وهواها وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ حرصا وطمعا في الاستمتاع بحظوظ النفوس وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ ليقطعوا مسافة البعد عن الله بقدمي ترك الدنيا وقمع الهوى يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ الحرص فَتُكْوى بِها جباه القلوب والأرواح لأنهم امتنعوا بذلك عن التوجه إلى الحق وَجُنُوبُهُمْ حيث لا تتجافى جنوبهم عن مضاجع المكونات وَظُهُورُهُمْ حيث لم يقضوا حق التواضع والخشوع فيقال لهم هذا الذي أصابكم من ألم الحرمان وعذاب القطيعة بسبب ما كَنَزْتُمْ فَذُوقُوا الآن ألم كي نار الحرص لأنكم لم تذوقوه في الدنيا حيث كنتم في منام الغفلة مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ فيه إشارة إلى أن الطالب المضطر إلى(3/467)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
تحصيل قوت نفسه وعياله يجب أن يجعل أوقات عمره أثلاثا: ثلثا لطلب المعاش وترتيب مصالح الدنيا، وثلثا للطاعات التي ينتفع بها في الآخرة، وثلثا من ذلك حرام أن يقع في خاطره غير المولى. ومن استغنى عن الموانع فيحرم عليه صرف لحظة في غير طلب الحق وإلى هذا المعنى أشار بقوله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وفيه تنبيه على أن من لم يكن هكذا كان في سلوكه اعوجاج. ثم ذكر أن من شأن النفوس المشركة أنها إن أقبلت على طاعة أخرتها عن وقتها وهو النسيء الموجب لازدياد كفرها لأنها قد خالفت الشرع من حيث تركها الطاعة باختيارها، ومن حيث إنها اعتقدت أن ذلك التأخير مما لا بأس به.
[سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 49]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49)
القراآت:
وَكَلِمَةُ اللَّهِ بالنصب: يعقوب. الباقون: بالرفع.(3/468)
الوقوف:
إِلَى الْأَرْضِ ط مِنَ الْآخِرَةِ ط قَلِيلٌ هـ شَيْئاً ط قَدِيرٌ هـ مَعَنا ج لعطف فَأَنْزَلَ على نَصَرَهُ مع عوارض الظروف. السُّفْلى ط إلا لمن قرأ وَكَلِمَةُ بالنصب الْعُلْيا ط حَكِيمٌ هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط تَعْلَمُونَ هـ الشُّقَّةُ ط مَعَكُمْ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال. أَنْفُسَهُمْ ج لواو الابتداء والحال.
لَكاذِبُونَ هـ عَنْكَ ج لحق الاستفهام مع اتصال الكلام معنى. الْكاذِبِينَ هـ وَأَنْفُسِهِمْ ط بِالْمُتَّقِينَ هـ يَتَرَدَّدُونَ هـ الْقاعِدِينَ هـ الْفِتْنَةَ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال لَهُمْ ط بِالظَّالِمِينَ كارِهُونَ هـ وَلا تَفْتِنِّي ط سَقَطُوا ط بِالْكافِرِينَ هـ.
التفسير:
لما شرح الله معايب هؤلاء الكفار عاد إلى الترغيب في قتالهم.
عن ابن عباس أنها نزلت في غزوة تبوك سنة عشر وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أقام بالمدينة أياما فأمر بجهاد الروم فاستثقله الناس لكون الزمان زمان صيف وللقحط ولبعد المسافة ولمزيد احتياج إلى الاستعداد ولشدة الحر وللخوف من عسكر الروم ولوجود أسباب الرفاهية بالمدينة لكون الوقت وقت إدراك الثمار وحصول الغلات.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خرج في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك ليستعد الناس تمام العدة.
وأصل النفر الخروج إلى مكان لأمر هاج عليه واسم ذلك القوم الذين يخرجون النفير. وأصل اثَّاقَلْتُمْ تثاقلتم كما قلنا في فَادَّارَأْتُمْ [البقرة: 72] ومعناه تباطأتم. وإنما عدّي بإلى لتضمين معنى الميل والإخلاد كقوله أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ [الأعراف: 176] أي مال إلى الدنيا وشهواتها. وقيل: المراد لتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها. ومعنى الاستفهام في ما لَكُمْ الإنكار. وقرىء اثَّاقَلْتُمْ على الاستفهام للإنكار أيضا فيكون جواب «إذا» فعلا آخر مدلولا عليه باثاقلتم كنحو ملتم، وذلك أن جواب «إذا» عامل في «إذا» ، والاستفهام لا يعمل فيما قبله. ويجوز على هذه أن يكون «إذا» لمجرد الظرفية والعامل فيه ما في ما لَكُمْ من معنى الفعل كأنه قيل: ما تصنعون إذا قيل لكم و «من» في مِنَ الْآخِرَةِ للبدل كقوله لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ كأنه قيل: قد ذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلى القتال وبينا أنواع فضائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم، ولو لم يكن فيه إلا طاعة المعبود المستلزمة لثواب الآخرة لكفى به باعثا. فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ أي في جنبها وفي مقابلها. إِلَّا قَلِيلٌ ويجوز أن يراد بالقلة العدم إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي. والظاهر أن هذا التثاقل لم يصدر من جميع المخاطبين لاستحالة إطباق(3/469)
هذه الأمة على المعصية والضلالة إلا أنه طالما أعطى للأكثر حكم الكل وأطلق لفظ الكل على الأغلب. ثم لما رغبهم في الجهاد بعرض الثواب عليهم رغبتهم فيه بعرض العقاب فقال إِلَّا تَنْفِرُوا ورتب عليه ثلاث خصال: الأولى قوله يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً قيل: هو عذاب الدنيا. عن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر. وقال الحسن:
الله أعلم بالعذاب الذي كان ينزل عليهم. وقيل: هو عذاب الآخرة فإن الأليم لا يليق إلا به. وقيل: إنه تهديد بالعذاب المطلق الشامل للدارين. الثانية قوله وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يعني قوما آخرين خيرا منهم وأطوع. قيل: هم أهل اليمن. عن أبي روق.
وقيل: أبناء فارس عن سعيد بن جبير. وقيل: يحتمل أن يراد بهم الملائكة. وقال الأصم:
معناه أنه يخرجه من بين أظهركم وهي المدينة والأصح إبقاء الآية على الإطلاق. الثالثة قوله وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً قال الحسن: الضمير لله وفيه أنه غني عنهم في نصرة دينه بل في كل شيء. وقال آخرون: الضمير للرسول لأن الله وعده أن يعصمه ووعد الله كائن لا محالة. وفي قوله وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تنبيه على أنه قادر على نصرة رسوله بأي وجه أراد، وقادر على إيقاع العذاب بكل من يخالف أمره كائنا من كان. عن الحسن وعكرمة أن الآية منسوخة بقوله وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [التوبة: 122] والصحيح أنها خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفروا فلا نسخ.
قال الجبائي: في الآية دلالة على إبطال مذهب المرجئة من أن أهل القبلة لا وعيد لهم.
وقال القاضي: فيها دلالة على وجوب الجهاد سواء كان مع الرسول أولا لقوله تعالى ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ ولم ينص على أن القائل هو الرسول. ومن قال إن الضمير في قوله لا تَضُرُّوهُ عائد إلى الرسول فجوابه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها. ثم رغبهم في الجهاد بطريق آخر فقال إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ وهذا كالتفسير لما تقدم.
والمعنى إن لم تشتغلوا بنصره فإن الله سينصره بدليل أن الله نصره وقواه حال ما لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد. وفيه أنه لما أوجب له النصرة وقتئذ فلن يخذله بعد ذلك. وقوله إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي ألجئوه إلى أن خرج ظرف لنصره، وثانِيَ اثْنَيْنِ نصب على الحال ومعناه أحد اثنين لأنه إذا حضر اثنان فكل واحد منهما ثان للآخر وواحد منهما. وقوله إِذْ هُما فِي الْغارِ بدل من إذ أخرجه وإِذْ يَقُولُ بدل ثان والغار نقب عظيم في الجيل والمراد به هاهنا نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمين مكة على مسيرة ساعة. واعلم أنا قد ذكرنا في سورة الأنفال
أن قريشا ومن بمكة تعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنفال: 30] فأمره(3/470)
الله تعالى أن يخرج هو وأبو بكر الصديق إلى الغار. فخرج وأمر عليا أن يضطجع على فراشه فلما وصلا إلى الغار دخل أبو بكر يلتمس ما في الغار فقال له الرسول: مالك؟
فقال: بأبي أنت وأمي، الغيران مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك، فخرق عمامته وسد الحجرة وبقي حجر واحد فوضع عقبه عليه كيلا يخرج منه ما يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا وقيل: طلع المشركون فوق الغار فاشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما! وقيل: لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أعم أبصارهم. فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون له قد أخذ الله أبصارهم عنه.
استدل أهل السنة بالآية على أفضلية أبي بكر وغاية اتحاده ونهاية صحبته وموافقة باطنه ظاهره وإلا لم يعتمد الرسول عليه في مثل تلك الحالة، وأنه كان ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وفي العلم
لقوله «ما صب في صدري شيء إلا وصببته في صدر أبي بكر»
وفي الدعوة إلى الله لأنه صلى الله عليه وسلم عرض الإيمان أولا على أبي بكر فآمن، ثم عرض أبو بكر الإيمان على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة أخرى من أجلة الصحابة، وكان لا يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزوات وفي أداء الجماعات وفي المجالس والمحافل، وقد أقامه في مرضه مقامه في الإمامة، ولما توفي دفن بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ثاني اثنين من أول أمره إلى آخره، ولو قدرنا أنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك السفر لزم أن لا يقوم بأمره ولا يكون وصيه إلا أبو بكر. وأن لا يبلغ ما حدث في ذلك الطريق من الوحي والتنزيل إلا أبو بكر. وقوله لا تَحْزَنْ نهى عن الحزن مطلقا والنهي يقتضي الدوام والتكرار فهو لا يحزن قبل الموت وعنده وبعده. ولا شك أن من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين لقوله إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:
128] قال الحسين بن فضيل: من أنكر صحبة غير أبي بكر من الصحابة فإنه يكون كذابا مبتدعا، ومن أنكر صحبة أبي بكر فإنه يكون كافرا لأنه خالف قول الله تعالى إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ أجابت الشيعة بأن كونه ثاني اثنين ليس أعظم من كون الله رابعا لكل ثلاثة في قوله ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة: 7] وهذا عام في حق كل كافر ومؤمن. وكون المصاحبة موجبة للتشريف معارض بقوله تعالى للكافر قالَ لَهُ صاحِبُهُ(3/471)
وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ
[الكهف: 37] وكما احتمل أن يقال إنه عليه السلام استخلصه لنفسه في هذا السفر لأجل الثقة، احتمل أن يكون ذلك لأجل إنه خاف أن يدل الكفار عليه أو يوقفهم على أسراره لو تركه. ثم إن حزنه لو كان حقا لم ينه عنه فهو ذنب وخطأ. سلمنا دلالة الآية على فضل أبي بكر إلا أن اضطجاع علي رضي الله عنه على فراشه أعظم من ذلك فيه من خطر النفس. أجاب أهل السنة بأن كون الله رابعا لكل ثلاثة أمر مشترك، وكونه ثاني اثنين تشريف زائد اختص الله أبا بكر به على أن المعية هنالك بالعلم والتدبير وهاهنا بالصحبة والمرافقة، فأين إحداهما من الأخرى؟! والصحبة في قوله قالَ لَهُ صاحِبُهُ مقرونة بما تقتضي الإهانة والإذلال وهو قوله أَكَفَرْتَ وفي الآية مقرونة بما يوجب التعظيم والإجلال وهو قوله ولا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا قالوا: والعجب أن الشيعة إذا حلفوا قالوا: وحق خمسة سادسهم جبريل. واستنكروا أن يقال: وحق اثنين الله ثالثهما. والاحتمال الذي ذكروه مدفوع بما روي أن أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة للرسول وأن عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام مدة مكثهما في الغار وذلك ثلاثة أيام وقيل بضعة عشر يوما.
وروي أن جبريل عليه السلام أتاه وهو جائع فقال هذه أسماء قد أتتك بحيسة ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر به أبا بكر،
ولو كان أبو بكر قاصدا له لصاح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار، ولقال ابنه وابنته نحن نعرف مكان محمد. وكون حزنه معصية معارض بقوله تعالى لموسى لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى [طه: 68] وقول الملائكة لإبراهيم لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ [الذاريات 28] ثم إنا لا ننكر أن اضطجاع علي رضي الله عنه على فراش الرسول طاعة وفضيلة إلا أن صحبة أبي بكر أعظم لأن الحاضر أعلى حالا من الغائب، ولأن عليا رضي الله عنه ما تحمل المحنة إلا ليلة وأبو بكر مكث في الغار أياما، وإنما أختار عليا للنوم على فراشه لأنه كان صغيرا لم يظهر عنه بعد دعوة بالدليل والحجة ولا جهاد بالسيف والسنان بخلاف أبي بكر فإنه قد دعا حينئذ جماعة إلى الدين وكان يذب عن الرسول بالنفس والمال، فكان غضب الكفار على أبي بكر أشد من غضبهم على عليّ رضي الله عنه ولهذا لم يقصدوا عليا بضرب ولا ألم لما عرفوا أن المضطجع هو. ثم زعم أهل السنة أن الضمير في قوله فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ عائد إلى أبي بكر لا إلى الرسول لأنه أقرب المذكورين فإن التقدير: إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر ولأن الخوف كان حاصلا لأبي بكر والرسول كان آمنا ساكن القلب بما وعده الله من النصر، ولو كان خائفا لم يمكنه إزالة الخوف عن غيره بقوله لا تَحْزَنْ ولناسب أن يقال: فأنزل الله سكينته(3/472)
عليه فقال لصاحبه لا تحزن. واعترض بأن قوله وَأَيَّدَهُ عطف على فَأَنْزَلَ فواجب أن يتحد الضميران في حكم العود. وأجيب بأن قوله وَأَيَّدَهُ معطوف على قوله فَقَدْ نَصَرَهُ والتقدير: إلا تنصروه فقد نصره في واقعة الغار وأيده في واقعة بدر والأحزاب وحنين بالملائكة، والظاهر أن الحزن لا يبعد أن يكون شاملا للنبي صلى الله عليه وسلم أيضا من حيث البشرية كقوله وَزُلْزِلُوا [البقرة: 214] ويكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: فأنزل الله سكينته عليه إذ يقول، أو يكون فَأَنْزَلَ معطوفا على نصره. والمراد بالسكينة ما ألقي في قلبه من الأمنة التي سكن عندها قلبه وعلم أنه منصور لا محالة كقوله في قصة حنين ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ [التوبة: 26] وقوله وَجَعَلَ يعني يوم بدر وسائر الوقائع كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا وهي دعوتهم إلى الكفر وعبادة الأصنام السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ وهي دعوته إلى الإسلام أو كلمة التوحيد لا إله إلا الله هِيَ الْعُلْيا وفي توسيط كلمة الفصل- أعني هي- تأكيد فضل كلمة الله في العلو وأنها المختصة بالعلاء دون سائر الكلم. قال الفراء: لا أحب قراءة نصب الكلمة لأن الأجود حينئذ أن يقال:
وكلمته هي العليا. ألا ترى أنك تقول: أعتق أبوك غلامه ولا تقول أعتق أبوك غلام أبيك؟
قلت: وفي الرفع أيضا الاستئناف وما في الجملة الاسمية من الثبات وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قاهر غالب لا فعل له إلا الصواب.
ثم لما توعد من لا ينفر مع الرسول وضرب له من الأمثال ما وصف عقبه بالأمر الجزم فقال انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا قال المفسرون: أي خفافا في النفور لنشاطكم وثقالا عنه لمشقته عليكم، أو خفافا لقلة عيالكم وثقالا لكثرتهم، أو خفافا من السلاح وثقالا منه، أو ركبانا ومشاة، أو شبانا وشيوخا، أو مهازيل وسمانا، أو صحاحا ومراضا، والصحيح التعميم، وأن المراد انفروا سواء كنتم على الصفة التي يخف عليكم الجهاد معها أو على ضدها. قال الأكثرون: ظاهر هذا الأمر يقتضي تناول جميع الناس حتى المرضى والعاجزين ويؤيده ما
روي عن ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أعليّ أن أنفر؟ قال: ما أنت إلا خفيف أو ثقيل فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه فنزل قوله لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ [النور: 61]
وقال مجاهد: إن أبا أيوب شهد بدرا مع الرسول الله ولم يتخلف عن غزوات المسلمين ويقول: قال الله انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فلا أجدني إلا خفيفا أو ثقيلا. وعن صفوان بن عمرو قال: كنت واليا على حمص فلقيت شيخا كبيرا قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت:
يا عم لقد أعذر الله إليك. فرفع حاجبيه وقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافا وثقالا إلا أنه(3/473)
من يحبه الله يبتليه. وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل: إنك عليل صاحب ضرر. فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل فإن لم تمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. وعن أنس قال: قرأ أبو طلحة هذه الآية فقال: ما أسمع الله عذر أحدا فخرج مجاهدا إلى الشام حتى مات.
وقال السدي: جاء المقداد بن الأسود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عظيما سمينا وشكا إليه وسأله أن يأذن له فنزل فيه انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالًا فاشتد شأنها على الناس فنسخها الله بقوله لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى [التوبة: 91] الآية.
وقيل: لا حاجة إلى التزام النسخ لأن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك بالاتفاق، ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم خلف من النساء والرجال أقواما فذلك يدل على أن هذا الوجوب ليس على الأعيان ولكنه من فروض الكفايات. فمن أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يخرج لزمه ذلك ومن أمره أن يبقى لزمه أن يبقى. ولقائل أن يقول: لا نزاع في هذا إنما النزاع في الضعفاء والمرضى. ثم قال وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وفيه إيجاب للجهاد بهما إن أمكن، أو بالنفس إن لم يكن مال زائد على أسباب الجهاد، أو بالمال بأن يستنيب من يغزو وعنه إن لم تكن له نفس سليمة صالحة للجهاد وهذا قول كثير من العلماء. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يعني أنه خير في نفسه أو أنه خير من القعود لما فيه من الراحة والدعة والنعيم العاجل. وإنما قال إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لأن ما يحصل من الخيرات في الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن وعد الله حق. ثم نزل في المتخلفين عن غزوة تبوك من المنافقين لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً قال الزجاج: أي لو كان المدعو إليه فحذف لدلالة ما تقدم عليه.
والعرض ما عرض لك من منافع الدنيا ومنه قولهم: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، والمراد بالقرب سهولة مأخذه وَسَفَراً قاصِداً أي وسطا بين القرب والبعد وكل متوسط بين الإفراط والتفريط فهو قاصد أي ذو قصد لأن كل أحد يقصده. والشقة المسافة الشاقة الشاطة، ووصف المسافة البعيدة بالبعد مبالغة نحو جد جدّة. وفحوى الكلام لو كانت المنافع قريبة الحصول والسفر وسطا لَاتَّبَعُوكَ طمعا في الفوز بتلك المنافع ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة. ثم أخبر أنه سيجدهم إذا رجع من الجهاد يحلفون بالله إما ابتداء على طريق إقامة العذر وإما عند ما يعاتبهم بسبب التخلف وقد وقع كما أخبر فكان معجزا. وبِاللَّهِ متعلق ب سَيَحْلِفُونَ أو هو من جملة كلام المتخلفين والقول مقدر في الوجهين أي سيحلفون بالله قائلين لَوِ اسْتَطَعْنا وقوله لَخَرَجْنا سادّ مسدّ جوابي القسم ولو جميعا. قيل: في الآية دلالة على أن قوله انْفِرُوا خطاب(3/474)
للمستطيعين وإلا لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذرا في التخلف. قال الجبائي: فيها دليل على أن الاستطاعة قبل الفعل وإلا لما كذبهم الله تعالى، فإن لم من يخرج إلى القتال لم يكن مستطيعا للقتال عند من يجعل الاستطاعة مع الفعل. وقال الكعبي: زائدا عليه فإن قيل: لم لا يجوز أن يراد أنهم ما كان لهم زاد ولا راحلة ولا يراد نفس القدرة؟ قلنا إن من لا راحلة له يعذر في ترك الخروج فمن لا قدرة له أولى. وأيضا الظاهر من الاستطاعة قوة البدن وإذا أريد به المال فلأنه يعين على ما يفعله الإنسان بقوة البدن. وأجيب بأن المعتزلة سلموا أن القدرة على الفعل لا تتقدم الفعل إلا بوقت واحد فإن الإنسان الجالس في مكان لا يكون قادرا في هذا الزمان على أن يفعل فعلا في مكان بعيد عنه وإنما يقدر على فعله في المكان الملاصق لمكانه. فالقوم الذين تخلفوا ما كانوا قادرين على القتال عندنا وعندهم فيلزمهم ما ألزموه علينا فوجب المصير إلى تفسير الاستطاعة بالزاد والراحلة فيسقط السؤال. ولقائل أن يقول: إنهم وإن كانوا غير قادرين على القتال إلا أنهم كانوا قادرين على الاشتغال بأسباب القتال فيعود السؤال. قال في الكشاف يُهْلِكُونَ بدل من سَيَحْلِفُونَ أو حال أي يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب، أو حال من ضمير لَخَرَجْنا أي لخرجنا معكم وإن ألقينا أنفسنا في التهلكة. وإنما جاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم. حلف بالله ليفعلن أو لأفعلن فالغيبة على الإخبار والتكلم على الحكاية.
قلت: وفي الوجه الأخير نظر للزوم بناء أول الكلام على التكلم وآخره على الغيبة، ولعل الصحيح حينئذ أن لو قيل: لخرجنا معكم نهلك أنفسنا والله تعالى أعلم.
ثم بين أن ذلك التخلف من بعضهم كان بإذن الرسول ولهذا توجه عليه العتاب بقوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ فإن العفو يستدعي سابقة الذنب. وبقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ فإنه استفهام في معنى الإنكار وبيان لما كنى عنه بالعفو. قال قتادة وعمرو بن ميمون: شيئان فعلهما الرسول لم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من الأسارى. فعاتبه الله بطريق الملاطفة كما تسمعون. والذي عليه المحققون أنه محمول على ترك الأولى. وقوله عَفَا اللَّهُ عَنْكَ إنما جاء على عادة العرب في التعظيم والتوقير فيقدمون أمثال ذلك بين يدي الكلام يقولون: عفا الله عنك ما صنعت في أمري، رضي الله عنك ما جوابك عن كلامي، وعافاك الله ألا عرفت حقي. وبعد حصول العفو من الله تعالى يستحيل أن يكون قوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ واردا على سبيل الذم والإنكار بل يحمل على ترك الأكمل والأولى لا سيما وهذه الواقعة كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا. قال كثير من العلماء:
في الآية دلالة على جواز الاجتهاد لأنه عليه السلام أذن لهم من تلقاء نفسه من غير أن(3/475)
يكون من الله في ذلك إذن وإلا لم يعاتب أو منع وإلا كان عاصيا بل كافرا لقوله وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: 47] ولا ريب أنه لا يكون بمجرد التشهي فيكون بالاجتهاد ثم إنه لم يمنع من الاجتهاد مطلقا وإنما منع إلى غاية هي قوله حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ ولا يمكن أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي وإلا كان ترك ذلك كبيرة فتعين أن يحمل التبين على استعلام الحال بطريق الاجتهاد ليكون الخطأ واقعا في الاجتهاد لا في النص ويدخل تحت
قوله «ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد» «1»
وفي الآية دلالة على وجوب الاحتراز عن العجلة وترك الاغترار بظواهر الأمور. قال قتادة: عاتبه الله كما تسمعون ثم رخص له في سورة النور في قوله فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ [الآية: 62] . قال أبو مسلم: يحتمل أن يريد بقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ الإذن في الخروج لا في القعود، فقد يكون الخروج غير صواب لكونهم عينا للمنافقين على المسلمين، وإذا كان هذا محتملا فلا تتعين الآية لرخصة الإذن في القعود. وقال القاضي: هذا بعيد لأن سياق الآية يدل على أن الكلام في القاعدين وفي بيان حالهم.
ثم ذكر أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا لأن الاستئذان من علامات النفاق فقال لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا أي في أن يجاهدوا، وكان الأكابر من المهاجرين والأنصار يقولون: لا نستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد وكانوا بحيث لو أمرهم بالقعود شق عليهم ذلك. ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أمره الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يبقى في المدينة شق عليه ذلك ولم يرض إلى أن
قال له الرسول صلى الله عليه وسلم «أنت مني بمنزلة هارون من موسى»
وقيل: إن حرف النفي مضمر كإضمار الجار والتقدير في أن لا يجاهد والآن سياق الآية يدل على ذم من يستأذن في القعود.
وعلى هذا يمكن أن يقال: معناه كراهة أن يجاهدوا وفي قوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ رمز إلى أنهم من جملة المتقين وأن لهم ثوابهم. ثم بين الذين من شأنهم الاستئذان فقال إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الآية. وفيه أن الشاك في أمر الدين وفي أصوله لا في بعض مسائله غير مؤمن بالله تعالى، وفيه أن محل الريب واليقين هو القلب وأن الإيمان ليس مجرد الإقرار باللسان وإلا لم يصح نفيه عن المنافقين. ومعنى قوله فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ أن الشاك متردد بين النفي والإثبات غير حاكم بأحد الطرفين. وتقريره أن الاعتقاد إما أن يكون جازما
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 21. مسلم في كتاب الأقضية حديث 15. أبو داود في كتاب الأقضية باب 2. الترمذي في كتاب القضاة باب 3. ابن ماجه في كتاب الأحكام باب 3.
أحمد في مسنده (2/ 187) (4/ 198) .(3/476)
أولا، فالجازم إن كان غير مطابق فهو الجهل وإن كان مطابقا فإما بضرورة أو نظر فهو العلم أولا وهو اعتقاد المقلد. وغير الجازم إن كان أحد الطرفين راجحا عنده فالراجع هو الظن والمرجوح هو الوهم، وإن تساوى الطرفان فهو الريب والشك فلهذا كانت الحيرة والتردد من شأن صاحبه كما أن الثبات والاستقرار ديدن المستبصر. قال المفسرون: إن المستأذنين هم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلا. ثم نعى على المنافقين سوء فعالهم فقال وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً قال ابن عباس: يريد من الماء والزاد والراحلة لأن سفرهم بعيد والزمان شديد، فتركهم العدّة دليل على أنهم أرادوا التخلف. قال العلماء: وفيه إشارة إلى أنهم كانوا مياسير قادرين على تحصيل الأهبة والعدّة. وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أي انطلاقهم فَثَبَّطَهُمْ والتثبيط رد الإنسان عن الفعل الذي هم به.
ومعنى الاستدراك أن قوله وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ يعطي معنى نفي الخروج وكأنه قيل: ما خرجوا ولكن تنبطوا لأن الله تعالى صرفهم عن ذلك كما تقول: ما أحسن إليّ زيد ولكن أساء إليّ. ومثل هذا يسمى في علم البديع صنعة الاستدراك. وقد يقال: تأكيد الذم بما يشبه المدح. ولو قيل مثل هذا في المنع لقيل تأكيد المدح بما يشبه الذم. وهاهنا سؤال وهو أن خروجهم مع الرسول إن كان مفسدة فلم عاتب الله رسوله في إذنه لهم بالقعود، وإن كان مصلحة فلم كره الله انبعاثهم؟ والجواب أنه كان مفسدة لقوله عقيب ذلك لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا وحديث العتاب ظاهر عند من لا يجوز الاجتهاد على الأنبياء لتمكنهم من استعلام الصواب بطريق الوحي، وكذا على قول أبي مسلم. ومما يوهم أنه صلى الله عليه وسلم أذن لهم في الخروج قوله تعالى في هذه السورة فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً [التوبة: 83] وقوله في سورة الفتح سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ إلى قوله قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا [الفتح: 15] وأما عندنا فإنما لم يستحسن الله من الرسول صلى الله عليه وسلم إذنه لهم بالقعود وإن كان قعودهم مصلحة لأنه أذن لهم قبل إتمام التفحص وإكمال التدبر ولأنه لو لم يأذن لهم فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم فكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم ولا تبقى حاجة إلى إظهار نفاقهم بوجوه أخر دالة على هتك أستارهم وكشف أسرارهم. قال معتزلة البصرة: في الآية دلالة على أنه تعالى موصوف بصفة الكراهة كما أنه موصوف بصفة الإرادة. قالت الأشاعرة: معنى كره الله أنه أراد عدم ذلك الشيء، وزيف بأن العدم لا يصلح أن يكون متعلق الإرادة لأن العدم مستمر فتعلق الإرادة به يكون تحصيلا للحاصل. ويمكن أن يجاب بأن الإرادة صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن(3/477)
على الآخر سواء في ذلك طرف الوجود وطرف العدم، وطرف العدم غير حاصل إلا بإرادة العدم فكيف يكون تعلق الإرادة به تحصيلا للحاصل؟ وأيضا عدم الشيء المخصوص ليس عدما محضا. أما قوله وَقِيلَ اقْعُدُوا فيحتمل أن يكون قد جعل إلقاء الله في قلوبهم كراهة الخروج أمرا بالقعود، ويحتمل أن يراد به قول الشيطان بطريق الوسوسة، أو قول بعضهم لبعض لما أرادوا الاجتماع على التخلف، أو هو قول الرسول كأنه غضب عليهم حين استأذنوه فقال على سبيل الزجر اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ فاغتنموا هذه اللفظة وقالوا قد أذن لنا فلهذا عوتب بقوله لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ أي لم ذكرت هذه اللفظة التي أمكنهم أن يتوسلوا بها إلى تحصيل غرضهم. ومعنى قوله مَعَ الْقاعِدِينَ ذم لهم وتعجيز وإلحاق بالنساء والصبيان والزمنى الذين شأنهم الجثوم في البيوت. رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ
قال المفسرون: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي عسكره على ذي حدة- أسفل من ثنية الوداع- ولم يكن بأقل العسكرين، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب فأنزل الله يعزي نبيه لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا
فيكون استثناء متصلا من أعم العام، وحمله على الاستثناء المنقطع بناء على أن التقدير ما زادوكم خيرا إلا خبالا ضعيف. والخبال في اللغة الفساد ومنه المخبل للمعتوه، وللمفسرين عبارات قال الكلبي: إلا شرا. وقال سلمان إلا مكرا. وقال الضحاك: إلا غدرا. وقيل: إلا خبثا. وقيل: هو الاضطراب في الرأي وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لآخرين حتى يختلفوا وتتفرق كلمتهم. قالت المعتزلة: دلت الآية على أنه كره انبعاثهم لاشتماله على هذا الخبال والشر. وفيه دليل على أنه تعالى لا يريد إلا الخير والصلاح.
ولقائل: أن يقول إثبات حكم كلي بحكم جزئي غير معقول. واعلم أنه سبحانه عد من مفاسد خروجهم ثلاثة: الأول: قوله ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا الثاني: وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ قال في الكشاف: زيد ألف في الكتابة لأن الفتحة كانت تكتب ألفا قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريبا من نزول القرآن وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفا أخرى ونحوه أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ [الآية: 21] في النمل لَآتَوْها [الآية: 14] في الأحزاب ولا رابع لها في القرآن. وفي الإيضاع قولان لأهل اللغة فقال أكثرهم: هو متعد يقال: وضع البعير إذا عدا، وأوضعه الراكب إذا حمله على العدو. وعلى هذا يكون في الآية حذف والتقدير: ولأوضعوا ركائبهم. وقال الأخفش وأبو عبيد: إنه جاء لازما ويقال: أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيرا حثيثا. ومنه ما
روي أن(3/478)
النبي صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفة وعليه السكينة وأوضع في وادي محسر
أي أسرع. قال الواحدي: والآية تشهد للأخفش وأبي عبيد. وعلى القولين المراد في الآية السعي بين المسلمين بالتضريب والنميمة والمبالغة في الأول أكثر لأن الراكب أسرع من الماشي. ومعنى خِلالَكُمْ أي فيما بينكم. والخلل الفرجة فيما بين الشيئين.
ويَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أي يبغون لكم. قال الأصمعي: يقال ابغني كذا وابغ لي أي اطلبه لأجلي. ومعنى الفتنة هنا افتراق الكلمة والتشويش في المقاصد فعند ذلك يحصل الانهزام أسرع ما يكون. فالحاصل من النوع الأول اختلاف الآراء، ومن الثاني المشي بالنميمة لتسهيل ذلك الغرض. وأما النوع الثالث فذلك قوله وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ قال مجاهد وابن زيد: أي عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم. وقال قتادة: فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم وإذا تعاضد الفاعل والقابل وقع الأثر على أكمل الوجوه لا محالة.
واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم؟ وأجيب بأن ذلك إنما يقع لمن قرب عهده بالإسلام أو لمن جبل على الجبن والفشل أو لمن حسن ظنه ببعض المنافقين لقرابة أو هيبة، وقلما يخلو الأقوياء من ضعيف سخيف أو أهل الحق من مبطل منافق ولهذا ختم الآية بقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم وغيرهم بإلقاء الفتنة فيما بينهم.
ثم سلى نبيه بتوهين كيد أهل النفاق قديما وحديثا فقال لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل وقعة تبوك.
قال ابن جريج: هو أن اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: المراد ما فعله عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه.
ومعنى الفتنة السعي في تشتيت شمل المسلمين والاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة فسلمهم الله منه وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حرفوها ودبروا كل الحيل والمكايد. ومنه فلان حوّل قلب إذا كان دائرا حول مصايد المكايد حَتَّى جاءَ الْحَقُّ الذي هو القرآن وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ غلب دينه وشرعه وَهُمْ كارِهُونَ رد الله مكرهم في نحرهم وأتى بضد مقصودهم. ولما كان الأمر كذلك في الماضي فكذا يكون الحال في المستقبل لقوله وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [التوبة: 32] وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي في القعود وَلا تَفْتِنِّي ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت. احتمل أن يكون قد ذكره على سبيل السخرية أو على سبيل الجد بأن كان يغلب على ظن ذلك المنافق صدق محمد وإن كان غير جازم به بعد. وقيل: لا تفتني أي لا تلقني في التهلكة فإني إن(3/479)
خرجت معك هلك مالي وعيالي.
وقيل: قال الجد بن قيس قد علمت الأنصار أني مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم، ولكني أعينك بما لي فاتركني، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك فنزلت الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني سلمة- وكان الجد منهم- من سيدكم يا بني سلمة؟
قالوا: جد بن قيس غير أنه بخيل جبان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد الشعر البراء ابن معرور.
أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة النفاق والتمرد عن قبول التكليف المستتبع لشقاء الدارين ولهذا ختم الآية بقوله وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ أما في الدنيا فلإحاطة أسبابها بهم من النعي عليهم بالنفاق وإفشاء الأسرار وهتك الأستار وتحقير المقدار، وأما في الآخرة فلمآل حالهم إلى الدرك الأسفل من النار.
التأويل:
أيها الأرواح والقلوب المؤمنة ما مصيبتكم وبلواكم إذا قيل لكم بالإلهام الرباني اخرجوا من الدنيا وما فيها في طلب والسير إليه، أثاقلتم إلى أرض الدنيا وشهواتها. إِلَّا تَنْفِرُوا من سجن الدنيا وقيود شهواتها يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً باستيلاء ظلمات الصفات النفسانية وغلبات الأوصاف السبعية والشيطانية وبألم البعد عن الحضرة الربانية وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ من الأرواح والقلوب العاشقة الصادقة بل من العقول الكاملة المفارقة إِلَّا تَنْصُرُوهُ والرسول الوارد الرباني فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا أي النفوس الأمارة الكافرة من أرض القبول. ثانِيَ اثْنَيْنِ ثاني النفس الملهمة إِذْ هُما فِي غار العدم. وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا بجعل النفس المطمئنة بجذبة ارْجِعِي [الفجر: 28] واصلة إلى مقام العنديه انْفِرُوا أيها الطلاب خِفافاً مجردين من علائق الأهل والأولاد والأموال وَثِقالًا متلبسين بها، أو خِفافاً مجذوبين بالعناية وَثِقالًا سالكين بالهداية وَجاهِدُوا بقدمي بذل الأموال والأنفس. وقدّم إنفاق المال لأن بذل النفس مع بقاء صفاتها الذميمة غير معتبر، ومن صفاتها الذميمة الحرص على الدنيا والبخل بها ذلكم خير لكم لأن الحاصل من المال ومن النفس الوزر والوبال. والحاصل من الطلب الوصول والوصال لَوْ كانَ مطلوبك يا محمد عَرَضاً قَرِيباً هو الدنيا ونعيمها وَسَفَراً قاصِداً هو تتبع شهوات النفس وهواها لَاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ لأنها الخروج من الدنيا والعقبى. وَسَيَحْلِفُونَ يعني أرباب النفوس لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يا أهل القلوب. عَفَا اللَّهُ عَنْكَ قدم العفو على العتاب تحقيقا لقوله لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ بين أوصافهم(3/480)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
الذميمة النفسانية والحيوانية بلا داعية لخروج إلى الأنوار الروحانية لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وهي متابعة الأنبياء فَثَبَّطَهُمْ حبسهم في سجن البشرية ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا فيه إشارة إلى أن قعود أهل الطبيعة في حبس البشرية صلاح لأرباب القلوب وأصحاب السلوك لأنهم لو خرجوا لا عن نية صادقة وعزيمة صالحة ما زادوهم إلا تشويشا وتفرقة لأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم. لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ يعني أن صفات النفس قبل البلوغ كانت تستخدم الروح في شهواتها حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وهو العقل القابل لأوامر الشرع وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وهو التكليف وَمِنْهُمْ أي من صفات النفس مَنْ يَقُولُ وهو الهوى ائْذَنْ لِي في القعود عن الارتقاء في مدارج المعارف والمشارع وَلا تَفْتِنِّي يا روح بتكليفي ما ليس من شأني. وذلك أن الهوى مركب المحبة تستعمله الروح في تصاعده إلى ذروة الكمال والوصال. أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي إن فتنة الهبوط هي الفتنة بالحقيقة وَإِنَّ جَهَنَّمَ البعد والقطيعة من لوازم كفار النفس وصفاتها أعاذنا الله منها.
[سورة التوبة (9) : الآيات 50 الى 59]
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54)
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)
القراآت:
هَلْ تَرَبَّصُونَ بإظهار اللام وتشديد التاء: البزي وابن فليح، وقرأه حمزة وعلي وهشام مدغما حتى لا يجتمع ساكنان. الباقون: بإظهار اللام وتخفيف التاء أَنْ تُقْبَلَ بالياء التحتانية: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بالفوقانية. مُدَّخَلًا بضم الميم(3/481)
وسكون الدال: سهل ويعقوب. الباقون: بالدال المشددة المفتوحة. يَلْمِزُكَ بضم الميم: سهل ويعقوب. الآخرون: بكسرها سوى عباس فإنه مخير.
الوقوف:
تَسُؤْهُمْ ج لابتداء شرط آخر مع واو العطف فَرِحُونَ هـ لَنا ج للابتداء لفظا مع الاتحاد معنى هُوَ مَوْلانا ط لابتداء إخبار من الله أو الحكاية عنهم.
الْمُؤْمِنُونَ هـ الْحُسْنَيَيْنِ ط للاستئناف بعد تمام الاستفهام بِأَيْدِينا ط والوصل أصح لأن الفاء جواب نَتَرَبَّصُ مُتَرَبِّصُونَ هـ مِنْكُمْ ط. فاسِقِينَ هـ كارِهُونَ هـ وَلا أَوْلادُهُمْ ط كافِرُونَ هـ لَمِنْكُمْ ط يَفْرَقُونَ هـ يَجْمَحُونَ هـ فِي الصَّدَقاتِ ط للشرط مع الفاء يَسْخَطُونَ هـ وَرَسُولُهُ لا إلى قوله راغِبُونَ لأن الكل يتعلق ب «لو» وجواب «لو» بعد التمام محذوف أي لكان خيرا لهم.
التفسير:
هذا نوع آخر من خبث ضمائر المنافقين. عن ابن عباس: الحسنة في يوم بدر والمصيبة في يوم أحد. والأولى حمله على العموم إذ معلوم من حال المنافقين أنهم كانوا في كل حسنة وعند كل مصيبة بالوصف الذي ذكر الله تعالى. ومعنى أَخَذْنا أَمْرَنا أي أمرنا الذي نحن موسومون به من التيقظ والتحرر وحسن الرأي والتدبير. ومِنْ قَبْلُ أي من قبل ما وقع ويَتَوَلَّوْا أي عن مقام التحدث بذلك إلى أهاليهم أو أعرضوا عن الرسول وَهُمْ فَرِحُونَ مسرورون ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول في جوابهم لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا قيل: أي في اللوح المحفوظ من خير أو شر أو خوف أو رجاء أو شدة أو رخاء. وفائدته أنه إذا علم الإنسان أن الذي وقع امتنع أن لا يقع- لأن خلاف معلوم الله ومقدوره محال- زالت عنه منازعة النفس وهانت عليه المصائب. وقيل:
أي في عاقبة أمرنا من الظفر بالعدوّ وإظهار دين الله على كل الأديان فيكون المقصود أن أحوال المسلمين وإن كانت مختلفة في الغم والسرور والمحنة إلا أن العاقبة والدولة تكون لهم والظفر يقع في جانبهم فلا معنى لفرح المنافقين في الحال. وقال الزجاج: معناه لن يصيبنا إلا ما اختصنا الله به من النصرة عليكم أو الشهادة، وعلى هذا القول يقع ما في الآية الثانية كالمكرر هُوَ مَوْلانا لا يتولى أمورنا إلا هو يفعل بنا ما يريد من أسباب التهاني والتعازي، لا اعتراض لأحد عليه. وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فيه تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يعلق الرجاء إلا برب الأرباب فإنهم يتعلقون بالوسائط والأسباب.
ثم أمره بجواب ثان فقال قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ التربص التمسك بما ينتظر به مجيء حينه ومنه تربص بالطعام إذا تمسك به إلى حين زيادة سعره. والحسنى تأنيث الأحسن وهي صفة الحالة أو الخصلة أو العاقبة يعني النصرة أو الشهادة. وفي(3/482)
الأولى إحراز الغنيمة والظفر بالأعداء، وفي الثانية إبقاء الذكر والفوز بنعيم الآخرة.
وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ قارعة مثل قارعة عاد وثمود وقيل:
عذاب الله يشمل عذاب الدارين أَوْ بِأَيْدِينا يعني القتل بأن يظهر نفاقكم ويأمر بقتلكم كالكافر الحربي فَتَرَبَّصُوا أمر للتهديد نحو ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:
49] ثم ذكر أنهم إن أتوا بشيء من صورة البر لم يكن له قدر عند الله ولا ينتفعون به في الآخرة، والغرض أن أسباب الذل والهوان مجتمعة عليهم في الدنيا والأخرى.
عن ابن عباس نزلت في الجد بن قيس حين قال النبي صلى الله عليه وسلم ائذن لي في القعود وهذا مالي أعينك به.
ولا يبعد أن يكون السبب خاصا والحكم عاما. وأَنْفِقُوا لفظه أمر ومعناه خبر كقوله فيما يجيء اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ [التوبة: 80] ومعناه أنفقوا وانظروا هل يتقبل منكم واستغفر لهم، أو لا تستغفر لهم وانظر هل ترى اختلافا بين حال الاستغفار وتركه؟
ومثله قول كثير لعزة:
أسيئي بنا أو أحسني لا ملومة كأنه يقول: امتحني لطف محلك عندي وعامليني بالإساءة والإحسان وانظري هل تجدين منى تفاوتا في الحالين. وإنما يجوز إقامة الخبر والطلب أحدهما مقام الآخر إذا دل الكلام عليه فيعدل عن الأصل لإفادة المبالغة. وانتصب طَوْعاً أَوْ كَرْهاً على الحال ومعناه طائعين من غير إلزام من الله ورسوله أو ملزمين من جهتهما. وسمي الإلزام كراها لأنهم منافقون فكان إلزام الله إياهم الإنفاق شاقا عليهم كالإكراه. ويحتمل أن يراد طائعين من غير إكراه من رؤسائكم أو ملزمين من جهتهم، وذلك أن رؤساء أهل النفاق كانوا يحملونهم على الإنفاق إذا رأوا فيه مصلحة. ومعنى لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ أن الرسول لا يقبله منكم، أو أنه لا يقع مقبولا عند الله. ثم علل عدم القبول بقوله إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ قال الجبائي: فيه دليل على أن الفسق يحبط الطاعات. وأجيب بأن الفسق هاهنا بمعنى الكفر ولا يلزم منه كون الفسق المطلق كذلك. وإنما قلنا إن الفسق بمعنى الكفر لقوله سبحانه وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ الآية علل منع القبول بأمور ثلاثة: أولها: الكفر بالله وبرسوله. وثانيها وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى قال المفسرون: معناه أنه إن كان في جماعة صلى وإن كان وحده لم يصل، وفيه أنه يصلي للناس لا لله، وفيه أنه غير معتقد للصلاة ووجوبها فلهذا لزم منه الكفر.
وثالثها: وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ وذلك أنهم لا ينفقون رغبة في ثواب الله وإنما ينفقون لأجل المصالح الدنيوية، فهم في حكم الكارهين وإن أنفقوا مختارين يعدون الإنفاق مغرما ومنعه مغنما خلاف
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «أدوا زكاة أموالكم(3/483)
طيبة بها نفوسكم» .
قيل: الكفر بالله سبب مستقل في منع القبول فكيف ضم إليه الأمرين الآخرين؟ والجواب أنها أمارات ويجوز توارد الأمارات المتعددة على شيء واحد. بوجه آخر أطلق كفرهم أولا ثم قيده بعدم اعتقادهم وجوب الصلاة والزكاة، وبعبارة أخرى حكم عليهم بالكفر مطلقا ثم خص من أنواع كفرهم هذين تفظيعا لشأن تارك الصلاة والزكاة.
قال في الكشاف: وقرأت في بعض الأخبار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره للمؤمن أن يقول كسلت كأنه ذهب إلى هذه الآية، وأن الكسل من صفات المنافقين.
قال بعض العلماء: وجه الجمع بين قوله فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] وبين مضمون هذه الآية وهو أن شيئا من أعمال البر لا يكون مقبولا عند الله مع الكفر، هو أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقاب. ولقائل أن يقول: لو لم يكن مقبولا بوجه لم يكن له في التخفيف أيضا أثر. وقيل: في الآية دلالة على أن الصلاة لازمة للكفار وإلا لم يكن الإتيان بها على وجه الكسل مانعا من تقبل طاعاتهم كما أن قيامهم وقعودهم وسائر تصرفاتهم على وجه الكسل ليس مانعا من التقبل بالإنفاق. ثم لما قطع رجاء المنافقين عن منافع الآخرة أراد أن يبيّن أن ما يظنونه من منافع الدنيا فهو أيضا في الحقيقة سبب لتعذيبهم وبلائهم وتشديد المحنة عليهم فقال مخاطبا للرسول صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد فَلا تُعْجِبْكَ الآية. ونظيره وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ [طه: 131] وإنما قال فَلا تُعْجِبْكَ بالفاء لأن ما قبله مستقبل يصلح للشرط أي إن يكن فيهم ما ذكرنا من الإتيان بالصلاة على وجه الكسل وغير ذلك فهذا جزاؤه، وهذ بخلاف ما سيجيء في الآية الأخرى من هذه السورة. والإعجاب سرور المرء بالشيء مع نوع من الافتخار واعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه، وأنه من البعيد في حكم الله أن يزيل ذلك الشيء عنه ويحصله لغيره كقوله ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً [الكهف: 35] ولا شك أن هذه خصلة مذمومة من جهة استغراق النفس في ذلك الشيء وانقطاعها عن الله، ومن جهة استبعاد إزالته في قدرة الله، ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم «ثلاث مهلكات: شح مطاع وهوى متيع وإعجاب المرء بنفسه»
والمقصود من الآية زجر الناس عن الانصباب إلى الدنيا والمنع من التهالك في حبها، فإن المسكن الأصلي هو الآخرة لا الأولى. وقوله إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ إعرابه كما مر في قوله يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [النساء: 26] قال مجاهد والسدي وقتادة:
في الآية تقديم وتأخير والتقدير: فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة كأنهم نظروا إلى أن المال والولد لا يكونان عذابا بل هما من نعم الله تعالى على عباده، وأورد عليه أنهما لا يكونان عذابا في الآخرة أيضا. فإن(3/484)
تكلفوا وقالوا: أراد بذلك أنهما سبب العذاب فقد استغنوا عن التقديم والتأخير لأنهما قد يكونان سببا للعذاب في الدنيا أيضا. وبوجه أخر، المال والولد وكذا الإعجاب بهما يكونان. في الدنيا لا محالة، فأي فائدة في ذكرها؟ واعلم أن الأموال والأولاد قد يكونان سببا للتعذيب في الدنيا والآخرة، وذلك أن كل ما كان حبه للشيء أشد كان خوفه عن فواته أكثر وحزنه على فواته أعظم. فصاحب المال أبدا إما في خوف فوات المال وإما في حزن فواته وإما في تعب حفظه وتثميره. ثم إن الدنيا حلوة خضرة فإذا كثر ماله انصب بكليته إليه ويفضي إلى طغيانه وقساوة قلبه إلى أن ينسى حب الله وذكر الآخرة. ثم إنه إن بقي عليه ذلك إلى آخر عمره فعند الموت يعظم أسفه على مفارقته وكان كمن ينتقل من بستان ونعيم إلى سجن وجحيم وعند الحشر يكون حلاله حسابا وحرامه عذابا فثبت أن حصول المال سبب لعذاب الدارين. إلا من يتصرف فيه بالحق ومثله يكون نادرا، وكذا الكلام في الولد. وهذا المعنى وإن كان عاما للكل إلا أن المنافقين لهم وجوه اختصاص بالتعذيب. وذلك أن الرجل إذا كان مؤمنا بالله واليوم الآخر علم أنه إنما خلق للآخرة لا للدنيا فيفتر حبه للأمور الدنيوية بخلاف المنافق الذي اعتقد أن لا سعادة إلا هذه الخيرات العاجلة. وأيضا إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكفلهم إنفاق الأموال وبعث الأولاد إلى الغزو والجهاد، وكانوا لا يعتقدون في ذلك فائدة أخروية، وكانوا في أشق تكليف، وكانوا مبغضين للنبي صلى الله عليه وسلم مع أنهم كانوا مضطرين إلى بذل المال وبعث الأولاد إلى خدمته، وكانوا خائفين من افتضاحهم وإظهار نفاقهم وتعريض أولادهم وأموالهم للنهب والسبي، وكثير منهم كان لهم أولاد أتقياء مخلصون كحنظلة بن أبي عامر غسلته الملائكة، وكعبد الله بن عبد الله بن أبيّ شهد بدرا وكان عند الله بمكان، وهم خلق كثير كانوا يزيفون طريق آبائهم في النفاق ويقدحون فيهم، والابن إذا صار هكذا تأذى الأب بسبه ولأجل هذه المعاني ذكر بعض العلماء أن التقدير: يريد الله أن يزيد في أموالهم ليعذبهم. أما قوله وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ أي تخرج وَهُمْ كافِرُونَ فقد قالت الأشاعرة: فيه دليل على أنه تعالى أراد منهم الكفر. وأورد الجبائي عليه أن المريض إذا قال للطبيب أريد أن تدخل علي في حالة مرضي لم يلزم منه كونه مريدا لمرض نفسه، والجواب أن أمثال هذه موكولة إلى قرائن الحال ففي قول المريض لا ريب أن المطلوب هو دخول الطبيب، وكون الدخول واقعا في تلك الحالة من ضرورات كونه مريضا وهو طبيبه. وفي الآية ليس المراد زهوق الروح فقط لأن المسلم والمنافق في ذلك سيان، فالمراد وقوع الزهوق في حالة الكفر فيكون الكفر منهم مرادا بالضرورة. وقال في الكشاف: المراد الاستدراج(3/485)
بالنعم كقوله إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران: 178] كأنه قيل: ويريد أن يديم عليهم نعمه إلى أن يموتوا وهم كافرون مشغولون بالتمتع عن النظر للعاقبة. ومن قبائح أفعال المنافقين ما حكى الله سبحانه عنهم في قوله وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي على دينكم. ثم قال وَما هُمْ مِنْكُمْ أي ليسوا على دينكم. وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يخافون القتل فيظهرون الإيمان تقية.
ثم أكد نفاقهم بقوله لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً مفرا فيتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم، فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن من صميم القلب. والمغارات جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور الإنسان فيه أي يستتر. والمدخل بالتشديد مفتعل من الدخول أدغمت التاء في الدال لقرب مخرجيهما. والتدخل «تفعل» من الإدخال ومعناه المسلك الذي يتحفظ بالدخول فيه. قال الكلبي وابن زيد: نفق كنفق اليربوع. والمراد أنهم لو وجدوا مكانا على أحد هذه الوجوه مع أنها شر الأمكنة لَوَلَّوْا إِلَيْهِ يقال: ولي إليه بنفسه إذا انصرف وولي غيره إذا صرفه وَهُمْ يَجْمَحُونَ أي يسرعون إسراعا لا يرد وجوهم شيء. ومنه الفرس الجموح لا يرده اللجام. والحاصل أنهم من شدة تأذيهم وتنفرهم من الرسول والمسلمين صاروا بهذه الحالة. قال بعض العلماء: إنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء والأقرب حملها على المعاني المتغايرة، فالملجأ الحصون، والمغارات الكهوف في الجبال، والمدخل السرب تحت الأرض كالآبار والله تعالى أعلم. ومن جملة قبائحهم قوله وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ الآية. قال الزجاج: لمزت الرجل ألمزه وألمزه بكسر الميم وضمها إذا عبته. وفرق الليث فقال: اللمز العيب في الحضور، والهمز الغيب في الغيبة، واعلم أن العيب في الصدقات يحتمل وجوها:
الأول: في أخذها بأن يقال انتزاع كسب الإنسان من يده غير معقول لأن الله هو المتكفل بمصالح عبيده إن شاء أفقرهم وإن شاء أغناهم. الثاني: أن يقال: هب أنك تأخذ الزكوات إلا أن ما تأخذه كثير فوجب أن تقنع بأقل من ذلك. الثالث: هب أنك تأخذ هذا الكثير إلا أنك تصرفه إلى غير مصرفه فيكون العيب قد وقع في قسمة الصدقات وفي تفريقها وهذا هو الذي دلت الأخبار على أنهم أرادوه.
عن أبي سعيد الخدري بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين قال له ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج: أعدل يا رسول الله. فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل فنزلت.
وعن الكلبي هو أبو الجواظ قال: ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم وهو يزعم أنه يعدل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا أبا لك أما كان موسى راعيا. أما كان داود راعيا فلما ذهب قال(3/486)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: احذروا هذا وأصحابه فإنهم منافقون.
وقيل: هم المؤلفة قلوبهم. ثم بيّن أن عيبهم ذلك وسخطهم لأجل نصيب نفسهم لا للدين فقال فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعطف قلوب أهل مكة يومئذ بتوفير الغنائم عليهم فضجر المنافقون. ومعنى إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ فهم يسخطون. وفائدته أن يعلم أن الشرط مفاجىء للجزاء ومتهجم عليه. ثم أرشدهم إلى ما صلاحهم في نفس الأمر فقال وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا الآية ورتبه على أربع مراتب: الأولى: الرضا بما آتاهم الله ورسوله لعلمهم بأنه تعالى حكيم يعلم عواقب الأمور، فكل ما كان حكما له وقضاء منه كان حقا وصوابا ولا اعتراض عليه. الثانية: أن يظهر أثر ذلك الرضا على لسانهم وهو قولهم حَسْبُنَا اللَّهُ كفانا فضله وصنعه، لغيرنا المال ولنا الرضا والتسليم وذكر الحبيب.
الثالثة: أن نزل من هذه المرتبة العالية كان واثقا بأن الله لا يهمله وسيعوضه من فضله في غنيمة أخرى. الرابعة الرغبة إلى الله بأنه المقصد الحقيقي والمقصود الأصلي من الإيمان والطاعة والمال والمنال.
يروى أن عيسى عليه الصلاة والسلام مر بقوم يذكرون الله فقال:
ما الذي يحملكم عليه؟ قالوا: الخوف من عقاب الله. فقال: أصبتم. ومر على قوم آخرين يذكرون الله فقال: ما الذي حملكم عليه؟ فقالوا: الرغبة في الثواب. فقال: أصبتم. ومر على قوم ثالث مشتغلين بالذكر فسألهم فقالوا: لا نذكره للخوف من العقاب ولا للرغبة في الثواب بل لإظهار ذلة العبودية وعزة الربوبية وتشريف القلب بمعرفته وتشريف اللسان بذكره. فقال: أنتم المحقون.
التأويل:
إِنْ تُصِبْكَ يا روح حَسَنَةٌ من عواطف الحق تحزن النفس وصفاتها فبها تظفر الروح عليها وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ من الموانع والقواطع أخذنا نصيبنا من المراتع الحيوانية لما خالفناه في السير إلى العالم الروحاني. قُلْ يا روح لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا لا علينا فإن الفترات والوقفات للتربية لا للرد. وانظر وقل هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا أيتها النفس وصفاتها إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ الإحسان والعواطف الربانية والوقفة والفترة الموجبة لحسن التربية. بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ هو الابتلاء بالمصائب من الخوف والجوع وغيرهما أَوْ بِأَيْدِينا بالمنع من المخالفات وبكثرة الرياضات والمجاهدات طَوْعاً أو رياء أَوْ كَرْهاً أي نفاقا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ لأن أعمال اللسان وغيره من الجوارح من غير عمل القلب ليست بمقبولة وإن كان عمل القلب بدون الجوارح مقبولا
لقوله صلى الله عليه وسلم «نية المؤمن أبلغ من عمله»
وباقي الآيات إشارات إلى أن من أمارات النفاق عدم الرضا بقسمة الخلاق وحال المخلص بالعكس.(3/487)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
[سورة التوبة (9) : الآيات 60 الى 69]
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69)
القراآت:
أُذُنُ خَيْرٍ كلاهما بالرفع والتنوين: الأعشى والمفضل. الباقون:
بالإضافة. وَرَحْمَةٌ بالجر: حمزة الآخرون: بالرفع الم تعلموا بتاء الخطاب: جبلة عن المفضل الباقون: بياء الغيبة إِنْ نَعْفُ نُعَذِّبْ كلاهما بالنون ونصب طائِفَةٍ عاصم غير المفضل. الباقون: على البناء للمفعول بياء الغيبة في الأول، وبتاء التأنيث في التالي.
الوقوف:
وَابْنِ السَّبِيلِ ط أي فرض الله فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ط حَكِيمٌ هـ هُوَ أُذُنٌ ط آمَنُوا مِنْكُمْ ط أَلِيمٌ هـ لِيُرْضُوكُمْ ط لاحتمال الواو الحال أو الاستئناف.
مُؤْمِنِينَ هـ خالِداً فِيها ط الْعَظِيمُ هـ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ط اسْتَهْزِؤُا ط لاحتمال الهمزة في «إن» للتعليل تَحْذَرُونَ هـ وَنَلْعَبُ ط تَسْتَهْزِؤُنَ هـ بَعْدَ إِيمانِكُمْ ط مُجْرِمِينَ هـ مِنْ بَعْضٍ ط كيلا تصير الجملة صفة لبعض المنافقين وهي صفة لكلهم(3/488)
أَيْدِيَهُمْ ط فَنَسِيَهُمْ ط الْفاسِقُونَ هـ فِيها ط حَسْبُهُمْ ط لاختلاف النظم مع اتحاد المقصود في إتمام الجزاء وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ ج لذلك مُقِيمٌ هـ لا بناء على تعلق الكاف وَأَوْلاداً ط خاضُوا ط وَالْآخِرَةِ ج الْخاسِرُونَ هـ.
التفسير:
إن المنافقين لما لمزوا الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات بيّن لهم الله سبحانه مصرفها كيلا يبقى لهم طعن إذا وجدوا فعله موافقا لحكم الله فقال إِنَّمَا الصَّدَقاتُ الآية. وفي تصدير الكلام بإنما دلالة على أنه لا حق لأحد في الصدقات إلا لهؤلاء، ويؤيده ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل: إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق. وإلا فهو صداع في الرأس وداء في البطن.
ولنتكلم في تعريف هؤلاء الأصناف. فالأول والثاني: الفقراء والمساكين.
ولا شك أن كلا من الصنفين محتاجون لا يفي دخلهم بخرجهم إنما الكلام في أنهما متساويا الدلالة أو أحدهما أسوأ حالا. فعن أبي يوسف ومحمد والجبائي أنهما واحد حتى لو أوصى لزيد وللفقراء والمساكين بمال كان لزيد النصف لا الثلث. قال الجبائي: إنه تعالى ذكرهما باسمين ليؤكد أمرهم في الصدقات. والفائدة فيه أن أصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم. وعند الشافعي الفقير أسوأ حالا لأنه تعالى أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعا لحاجاتهم فالذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم، ومما يدل على إشعار الفقر بالشدّة العظيمة قوله تعالى تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ [القيامة:
25] جعل الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الفقر، وقد سأل المسكنة في قوله «اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين»
فكأنه سأل توسط الحال، ولهذا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أشياء معلومة مع أنه تعالى أجاب دعاءه ظاهرا فأماته مسكينا. وتقييده تعالى المسكين بقوله ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: 16] يدل على أن المسكين قد لا يكون كذلك.
وقال تعالى أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ [الكهف: 79] وكان ابن عباس يفسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئا كأهل الصفة، والمسكين بأنه الطوّاف الذي يسأل الناس. والغالب أنه يحصل له منهم شيء وقريب منه قول من قال سمي مسكينا لأنه الدائم السكون إلى الناس. ولما كان المسكين هو السائل لما قلنا فالمحرم في قوله سبحانه وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 19] هو الفقير صاحب الحرمان. واتفق الناس على أن الفقير ضد الغني ولم يقل أحد أن الغنى والمسكنة ضدان فلعل الترفع هو ضد التمسكن. وقال أبو حنيفة: المسكين أسوأ حالا لقوله تعالى أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ [البلد: 16] وقد تقدم الكلام عليه ولأنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة ولا فاقة أعظم(3/489)
من الجوع ونقل الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين هو الذي لا شيء له، وقال يونس: قلت لأعرابي، أفقير أنت؟ قال: لا والله بل مسكين.
وقيل: سمي مسكينا لأنه يسكن حيث يحضر لأجل أنه لا بيت له ولا منزل. وأجيب بأنه تعالى جعل الكفارة للمسكين ذي المتربة وهو الفقير بعينه وإنما النزاع في المسكين المطلق والروايات معارضة بأمثالها والله أعلم. الصنف الثالث: العاملون على الصدقات وهم السعاة الجباة للصدقة. قال ابن عمر وابن الزبير والشافعي: يعطى هؤلاء أجور أمثالهم لأنها أجرة للعمل. وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات لأنهم صنف من الثمانية، والصحيح أن الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملا على الصدقات لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى أن يبعث أبا رافع عاملا على الصدقات وقال: أما علمت أن مولى القوم منهم. وفائدة التعدية بعلى التسليط والولاية. يقال: فلان على بلدة كذا إذا كان واليا عليها. واختلفوا في أن الإمام هل له حق لأنه هو العامل في الحقيقة أو لا حق له لخروجه عن الأصناف؟ والجمهور على أن العامل يأخذ نصيبه وإن كان غنيا لأن ذلك أجرة عمله. وعن الحسن أنه لا يأخذ إلا مع الحاجة. الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم.
عن ابن عباس هم قوم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وكانوا خمسة عشر رجلا منهم أبو سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن أعطى كل رجل منهم مائة من الإبل.
قال العلماء: لعل مراد ابن عباس إنه لا يمتنع في الجملة صرف الأموال إلى المؤلفة وإلا فلم يكن ما أعطاهم من الصدقات. ويروى أن أبا بكر الصديق أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصدقاته وصدقات قومه أيام الردة. والذي استقر عليه رأى الأئمة أن المؤلفة ثلاثة أقسام: ضعيف النية في الإسلام، وشريف بإعطائه يتوقع سلام نظرائه، والمتألف على جهاد من يليهم من الكفار ومانعي الزكاة حيث يكون ذلك أهون للإمام من بعث جيش يعطى كل واحد ما رأى الإمام باجتهاده، هذا كله إذا كانوا مسلمين، فأما الكفار الذين يميلون إلى الإسلام فيرغبون فيه بإعطاء مال، والذين يخاف شرهم فيتألفون لدفع الشر بمال فلا يعطون شيئا من الزكاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس والآن لا يعطون أصلا لقوة الإسلام والاستغناء عن تألفهم ولأنه ليس في الآية دلالة على أن المؤلفة يجوز أن يكونوا من الكفار فلا ينبغي أن يقال إن حكم الآية منسوخ، الصنف الخامس قوله وفي الرقاب. قال الزجاج: تقديره وفي فك الرقاب، وللأئمة في تفسيره أقوال فعن ابن عباس أنهم المكاتبون وهو مذهب الشافعي قال: إذا عجزوا عن أداء النجوم بأن يكون لهم شيء أو لا يفي ما في أيديهم(3/490)
بنجومهم صرف إليهم أو إلى سيدهم بإذنهم ما يعينهم على العتق. وقال مالك وأحمد وإسحق: المراد أنه يشتري به عبيد فيعتقون. وعن أبي حنيفة وأصحابه. وهو قول سعيد بن جبير والنخعي، أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب لأن قوله وَفِي الرِّقابِ يقتضي أن يكون له فيه مدخل وذلك ينافي كونه تاما فيه. وقال الزهري: سهم الرقاب نصفه للمكاتبين المسلمين ونصفه يشتري به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون. قال المفسرون: إنما عدل عن اللام إلى «في» لأن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة. ففي الرقاب يوضع نصيبهم في تخليص رقابهم عن الرق أو الأسر ولا يدفع إليهم، وفي الغارمين يصرف المال إلى قضاء ديونهم، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاج إليه في الغزو، وفي ابن السبيل كذلك يصرف إلى ما يبلغه المقصد. وقال في الكشاف: إنما عدل للإيذان بأنهم أرسخ في استحقاق التصديق عليهم ممن سبق لأن «في» للوعاء فنبه به على أنهم أحقاء بأن يجعلوا مصبا للصدقات. وتكرير «في» في قوله وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين الصنف السادس الغارمون قال الزجاج: أصل الغرم لزوم ما يستحق وسمي العشق غراما لكونه أمرا شاقا لازما. وفلان مغرم بالنساء، وسمي الدين غرما لأنه شاق لازم. فالغارمون المديونون والدين إن حصل بسبب معصية لم يدخل في الاية لأن المعصية لا تستوجب الإعانة وإن حصل لا بالمعصية فهو مقصود الآية سواء حصل بسبب نفقات ضرورية أو لإصلاح ذات البين. وإن كان متمولا أو للضمان إن أعسر هو والأصيل وكل داخل في الآية.
روى الأصم في تفسيره أنه صلى الله عليه وسلم لم قضى بالغرة في جنين قالت العاقلة: لا نملك الغرة يا رسول الله، فقال لحمد ابن مالك: أعنهم بغرة من صدقاتهم، وكان حمد على الصدقة يومئذ. وإنما يعطى الغارم قدر دينه إن لم يقدر على شيء وإن قدر على بعض أعطى الباقي.
الصنف السابع قوله فِي سَبِيلِ اللَّهِ يعني الغزاة. قال الشافعي: يجوز له أن يأخذ من مال الصدقات وإن كان غنيا وهو مذهب مالك وأحمد وإسحق وأبي عبيد. وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجا وظاهر لفظ الآية لا يوجب القصر على الغزاة فلهذا نقل القفال عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقة إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن كلها في سبيل الله. الصنف الثامن ابن السبيل وهو المسافر لا لأجل معصية، يعطى ما يبلغه(3/491)
المقصد أو موضع ماله إن كان له في الطريق مال. قال الشافعي: ويدخل في المسافر الشاخص من وطنه أو من بلد كان مقيما به منشئا للسفر والغريب المجتاز ببلدنا والله أعلم.
ولنذكر طرفا من أحكام هذه الأصناف:
الحكم الأول: اتفقوا على دخول الزكاة الواجبة في قوله إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لقوله في موضع آخر خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103]
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» «1»
واختلفوا في الصدقة المندوبة فمنهم من قال تدخل، والفائدة أن تعلم أن مصارف جميع الصدقات ليست إلا هؤلاء الأصناف، والأقرب اختصاص الآية بالواجبة لدخول لام التمليك في الأصناف، والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة ولأن الآية تدل على الحصر في الأصناف الثمانية والصدقة المندوبة يجوز صرفها إلى وجوه أخر كالمساجد والمدارس وتجهيز الموتى، ولأن الصدقات تنصرف إلى معهود سابق وهو الصدقات الواجبة في قوله وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ.
الحكم الثاني: في الآية دلالة على أن الزكاة إنما يتولى أخذها الإمام أو نائبه لأنه تعالى جعل للعاملين سهما منها. والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات ويتأكد هذا النص بقوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة الأموال الباطنة بنفسه إنما يعرف بدليل آخر كقوله فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [الذاريات: 19] وإذا كان حقا لهما وجب أن يجوز دفعه إليهما ابتداء، وإذا كان الإمام جائرا فالتفريق بنفسه أفضل.
الحكم الثالث: مذهب أبي حنيفة أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء وأبي العالية والنخعي، لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الثمانية فلا يلزم أن يكون كل جزء من أجزائها كصدقة زيد مثلا موزعا على كل واحد منهم، ولأن الرجل الذي لا يملك إلا عشرين دينارا فأخرج نصف دينار لو كلفناه أن يقسمه على أربعة وعشرين لدفع كل ثلاثة منها إلى ثلاثة من كل
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 4، 32، 42. مسلم في كتاب الزكاة حديث 1، 3، 4. أبو داود في كتاب الزكاة باب 2. الترمذي في كتاب الزكاة باب 7. النسائي في كتاب الزكاة باب 5.
ابن ماجه في كتاب باب 6. الدارمي في كتاب الزكاة باب 11. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 1، 2. أحمد في مسنده (2/ 92) (3/ 30) .(3/492)
صنف صار كل قسم حقيرا صغيرا غير منتفع به في مهم معتبر. وعن سعيد بن جبير لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحب إلي. وقال الشافعي: لا بد من صرفها، إلى الأصناف الثمانية وهو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز. واحتجوا عليه بأن الله تعالى ذكر هذه القسمة في نص الكتاب ثم أكدها بقوله فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وهو في معنى المصدر المؤكد لأن قوله إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ في قوة قوله فرض الله الصدقات لهم، وهذا كالزجر عن مخالفة الآية.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «إن الله تبارك وتعالى لم يرض بقسمة ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه» .
ثم ختم الآية بقوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ أي بتقدير الأنصباء والمصالح حَكِيمٌ لا يفعل إلا ما هو الأصوب والأصلح وكل هذه المؤكدات دليل على وجوب الاحتياط في صرف الزكاة، ومن هاهنا قال الشافعي: لا بد في كل صنف من ثلاثة لأنه تعالى ذكر أكثر الأصناف بلفظ الجمع وأقل الجمع ثلاثة، فإن دفع نصيب الفقراء إلى اثنين غرم للثالث أقل متمول على الأقيس لا الثلث، لأن التفضيل في أفراد الصنف جائز للمالك لأن العدد من كل صنف غير محصور فيصعب اعتبار التسوية بخلاف التسوية بين الأصناف لأنهم محصورون فتسهل التسوية بينهم.
الحكم الرابع: العامل والمؤلفة قلوبهم مفقودان في زماننا فبقي أن تصرف الزكاة إلى الأصناف الستة الباقية كما لو فقد بعض الأصناف في بلد فإنه يصرف إلى الباقين، ولا يؤمر بالنقل إلى بلد وجدوا فيه جميعا والأحوط رعاية التسوية بينهم على ما يقوله الشافعي، أما إذا لم يفعل ذلك فإنها مجزئة عند سائر الأئمة. أما الحكمة في إيجاب الزكاة فهو أن المال محبوب بالطبع لأن القدرة من صفات الكمال والمال سبب. لحصول القدرة على المشتهيات والمآرب لكن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت الحكمة الإلهية تكليف مالك المال إخراج طائفة منه كسرا للنفس ومنعا من انصبابها بالكلية إليه. فإيجاب الزكاة علاج صالح لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب وهو المراد من قوله خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ أي عن دنس الاستغراق في حب المال. وأيضا إن كثرة الأموال توجب القوة والقدرة والشدة، وتزايد تلك اللذات يدعو الإنسان إلى تحصيل الأموال المتزايدة فتصير المسألة دورية لا مقطع لها ولا آخر فأثبت الشرع لها مقطعا وآخرا وهو صرف طائفة من المال في طلب مرضاة الله ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ويفضي في الأغلب إلى الطغيان وقساوة القلب.
وأيضا النفس الناطقة لها قوتان: نظرية وكمالها في التعظيم لأمر الله، وعملية وكمالها في(3/493)
الشفقة على خلق الله فأوجب الله الزكاة ليتصف جوهر الروح بهذا الكمال ويصير بسبب ذلك محسنا إلى الخلق، وإذا أحسن إليهم أمدوه بالدعاء والهمة. وأيضا المال سمي مالا لكثرة ميل كل أحد إليه وهو غاد ورائح سريع الزوال مشرف على التلف والبوار، فإذا أنفقه لوجه الله بقي بقاء لا يمكن زواله. وفي إنفاق المال تشبه بالمجردات والمفارقات وليس الغنى إلا عن الشيء لا به لأن الاستغناء عن الشيء صفة الحق والاستغناء بالشيء صفة المخلوقين العاجزين، ففي الأمر بالزكاة نقل للإنسان من درجة أدنى إلى درجة أعلى.
وأيضا للإنسان روح وبدن ومال فإذا بذلك الروح في الاستغراق في بحار معرفة الله، وبذل البدن في العبودية لله والصلاة له فكيف يليق به أن لا يبذل المال في ابتغاء مرضاته؟! وأيضا إذا فضل المال عن قدر الحاجة وحضر إنسان آخر محتاج فههنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال، أما في حق المالك فهو أنه سعى اكتسابه وتحصيله وتعلق قلبه به، وأما في حق الفقير فلاحتياجه الموجب للتعلق به فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت حكمة الشارع رعاية كل منهما بقدر الإمكان. ورجح جانب المالك لأن له حق الاكتساب وحق التعلق فأبقى عليه الكثير وأمر بصرف جزء يسير إلى الفقير توفيقا بين الأمرين وجمعا بين المصلحتين مع رعاية المال عن التعطيل فلا معطل في الوجود.
وأيضا الأغنياء خزان الله لأن المال مال الله وهم عبيده ولولا أنه ألقاها في أيديهم لما ملكوا منها حبة، فكم من عاقل لا يملك ملء بطنه، وكم من غافل تأتيه الدنيا عفوا صفوا. وليس بمستبعد أن يقول الملك لخزّانه اصرفوا طائفة من مال خزانتي إلى المحتاجين من عبيدي. وأيضا إن الأغنياء لو لم يلزموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملتهم شدة الحاجة على تحصيل المال من وجوه منكرة كالسرقة ونحوها أو على الالتحاق بأعداء المسلمين.
وقال صلى الله عليه وسلم «الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر»
وكأن الله تعالى يقول للغني أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين فأخرج من يدك نصيبا منه حتى تصبر على فقدان المال فتصير من الصابرين، ويقول للفقير ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين ولكني أوجبت على الغني أن يصرف إليك طائفة من المال لتشكرني فتكون من الشاكرين. وأيضا أراد الله سبحانه أن يكون الغني منعما على الفقير بما يؤديه إليه ويكون الفقير منعما على الغني بما قبله منه ليحصل الخلاص في الدنيا من الذم والعار وفي الآخرة من عذاب النار.
ثم حكى نوعا من فضائح المنافقين وهو أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الطعن والذم هُوَ أُذُنٌ
عن ابن عباس كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم(3/494)
ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فنحلف له. فقال الجلاس بن سويد، نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإنما محمد أذن سامعة فنزلت الآية.
وقال محمد بن إسحق بن يسار وغيره: نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحرث وكان رجلا أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم «من أراد أن ينظر إلى الشيطان فليننظر إلى نبتل بن الحرث» وكان ينم حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له: لا تفعل فقال: إنما محمد أذن من حدثه شيئا صدقه نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدّقنا.
وقال السدي: اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت فأرادوا إن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه فتكلموا وقالوا إن كان ما يقوله محمد حقا لنحن شر من الحمير فغضب الغلام وقال: والله إن ما يقول محمد حق وإنكم لشر من الحمير، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا أن عامرا كاذب وحلف عامر أنهم كذبة. وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق من كذب الكاذب فنزلت الآيتان.
قال علماء اللغة: الأذن الرجل الذي يصدق بكل ما يسمع ويقبل قول كل أحد سمي بالجارحة التي هي آلة السماع كأن جملته أذن سامعة ومثله قولهم للربيئة عين. وفسر إيذاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يقولون له أذن وذلك أنهم قصدوا به المذمة وأنه ليس ذا ذكاء ولا بعيد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع. ويجوز أن يراد بالإيذاء أنواع أخر سوى هذا القول أي يؤذونه بالغيبة والنميمة وسائر أنواع الأذية ويقولون في وجه الاعتذار عن ذلك هو أذن يقبل كل ما يسمع، فنحن نأتيه فنعتذر إليه فيسمع عذرنا فيرضى، ثم إنه سبحانه أجاب عن قولهم فقال قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ بالإضافة كقولهم: رجل صدق يريدون الجودة والصلاح. ومجوز الإضافة هو الملابسة كأنه قيل:
نعم هو أذن ولكن نعم الأذن إذ أريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بإذن في غير ذلك ويؤيده قراءة حمزة رَحْمَةٌ بالجر عطفا عليه عطف الخاص على العام أي هو أذن خير ورحمة لا يسمع ولا يقبل غيرهما. ثم بين كونه أذن خير بأنه يُؤْمِنُ بِاللَّهِ أي يقرّ به ويعترف بوحدانيته لما قام عنده من الأدلة وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ يسلم لهم قولهم لوثوقه بقولهم وعلمه بإخلاصهم لا لكونه من أهل الغرة والبله وَهو رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ باللسان دون الجنان لأنه يجري أمركم على الظاهر ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم فإن الله هو الذي يتولى السرائر ولهذا ختم الآية بقوله وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وأما من قرأ أُذُنُ خَيْرٍ بالرفع فيهما فعلى أن الإذن(3/495)
خبر مبتدأ محذوف وخَيْرٍ كذلك أي هو أذن هو خير. والمعنى هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم لأنه يقبل معاذيركم ويتغافل عن جهالاتكم فتحفظ بذلك دماؤكم وأموالكم. وقيل: التقدير قل أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد. ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن وهو قوله يُؤْمِنُ بِاللَّهِ إلى آخره. ووجه ثالث ذكره صاحب النظم واستحسنه الواحدي وهو أن قوله أُذُنٌ وإن كان رافعا في الظاهر لكنه نصب في الحقيقة على الحال وتأويله: قل هو أذنا خير لكم.
ذكر أن من قبائح المنافقين إقدامهم على الإيمان الكاذبة فقال يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أي كان من الواجب أن يرضوا الله تعالى بالإخلاص والتوبة لا بإظهار ما يستسرون خلافه. وإنما لم يقل يرضوهما تعظيما لله بالإفراد بالذكر، أو المراد والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، أو وقع الاكتفاء بذكر الله لأن رضا الله ورضا رسوله شيء واحد كما يقال إحسان زيد وإجماله بعثني ومعني إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ أي بزعمهم. ثم وبخهم بقوله أَلَمْ يَعْلَمُوا وذلك أنه يقال ذلك لمن تتولع في تعليمه مدة ثم لم يظهر عليه أثر العلم والرشد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم طال مكثه فيهم وكثر تحذيره عن المعصية وترغيبه في الطاعة. والضمير في قوله أَنَّهُ للشأن وفائدته مزيد التعظيم والتهويل. والمحادة المخالفة لأن كلا منهما في حد غير حد صاحبه كالمشاقة لأن كلا منهما في شق آخر. وقال أبو مسلم: هي من الحديد حديد السلاح. ثم ذكر في الجزاء قوله فَأَنَّ لَهُ بالفتح أي فحق أن له نارَ جَهَنَّمَ وقيل «أن» مكرر للتأكيد والتقدير فله نار جهنم. وقيل «فإن» معطوف على «أنه» وجواب من محذوف وهو يهلك. قال الزجاج: يجوز كسر «أن» على الاستئناف بعد الفاء ولكن القراءة بالفتح.
ونقل الكعبي في تفسيره أنه قرىء بالكسر.
قال السدي: قال بعض المنافقين: والله لوددت إني قدمت فجلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء فيفضحنا فأنزل الله تعالى يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ وقال مجاهد: كانوا يقولون القوم بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا فنزلت. والضمير في عَلَيْهِمْ وتُنَبِّئُهُمْ للمؤمنين وفي قُلُوبِهِمْ للمنافقين، ويجوز أن تكون الضمائر كلها للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم وكأنها تخبر عما في بواطنهم وتذيع عليهم أسرارهم. قيل: المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحي لأنه غير قائل به؟ وأجيب بأنهم عرفوا ذلك بالتجربة أو كفرهم كان كفر عناد أو كانوا شاكين في صحة نبوته والشاك في أمر خائف من وقوعه، أو هذا الخبر في معنى الأمر أي ليحذر المنافقون. عن أبي(3/496)
مسلم أنهم أظهروا هذا الحذر على سبيل الاستهزاء ولهذا أجابهم الله بقوله اسْتَهْزِؤُا وهو أمر تهديد إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ مظهر ما تحذرونه من نفاقكم أو محصل إنزال السورة لأن الشيء إذا حصل بعد عدم فكأن فاعله أخرجه من العدم إلى الوجود. قوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ الآية.
عن ابن عمر أن رجلا من المنافقين قال في غزوة تبوك. ما رأيت مثل هؤلاء الفراء أرغب بطونا أي أوسع ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله وأصحابه. فقال واحد من المؤمنين: كذبت وأنت منافق. ثم ذهب ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به عنا الطريق قال ابن عمر: رأيت عبد الله بن أبيّ يشتد قدام رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن؟ ما يلتفت إليه ولا يزيد عليه.
وقال الحسن وقتادة: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات. فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك فقال: احبسوا عليّ الركب فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا فقالوا: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب.
قال الواحدي: أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ثم كثر حتى أطلق على كل دخول فيه تلويث وأذى أي كنا نخوض في الباطل كما يخوض الركب لقطع الطريق. ثم أمر نبيه بأن يقول في جوابهم أَبِاللَّهِ أي بتكاليفه أو بأسمائه أو بقدرته حيث استبعدتم إعانته النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على فتح قصور الشام وَآياتِهِ يعني القرآن وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ لم يعبأ باعتذارهم فجعلوا كأنهم معترفون بوقوع الاستهزاء منهم فأوقع الإنكار على الاستهزاء بالله بأن أولى الاستفهام الذي يفيد التقرير المستهزأ به ولم يقل «أتستهزؤن بالله» . ثم قال: لا تَعْتَذِرُوا نقل الواحدي عن أئمة اللغة أن معنى الاعتذار محو أثر الذنب أو قطعه من قولهم: اعتذر المنزل إذا درس.
واعتذرت المياه إذا انقطعت، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع. والعذر سبب لقطع اللوم، نهاهم الله عن الاعتذار بالخوض واللعب لأن الشيء الذي يوجب الكفر لا يصلح للعذر. ثم بين ذلك بقوله قَدْ كَفَرْتُمْ أي صريحا بَعْدَ إِيمانِكُمْ أي بعد الإيمان الذي أظهرتموه. وفيه أن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر بالله صريح لأن العمدة الكبرى في الإيمان هو التعظيم لأمر الله ولشرائعه. إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ ذكر المفسرون أنهم كانوا ثلاثة، استهزأ اثنان وضحك الثالث، ولما كان ذنب الضاحك أخف لأنه لم يوافق(3/497)
القوم في الكفر فلا جرم عفا الله عنه. وفيه إشارة إلى أنه من خاض في عمل باطل فعليه أن يجتهد في التقليل ويحذر من الانهماك فإنه يرجى له ببركة ذلك القليل أن يعفو الله عنه الكل. قال الزجاج: الطائفة في اللغة الجماعة لأنها المقدار الذي يمكنه أن يطيف بالشيء، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة قال تعالى وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور: 2] وأقله الواحد. وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال: الطائفة الواحد فما فوقه. ووجه بأن من اختار مذهبا فإنه ينصره ويذب عنه من كل الجوانب فلا يبعد أن يسمى طائفة بهذا السبب والتاء للمبالغة. وقال ابن الأنباري: العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد وقال تعالى الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران: 173] يعني نعيم بن مسعود. ثم علل كونه معذبا للطائفة الثانية بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ أي مصرين مستمرّين على الجرم، ويجوز أن يكون سبب العفو عن الطائفة الأولى إحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق، ويجوز أن يراد بالعذاب العذاب العاجل. ومن قرأ أن يعف على البناء للمفعول والتذكير فلأنه مستند إلى الظرف كما تقول: سير بالدابة دون سيرت.
وقرىء بالتأنيث ذهابا إلى المعنى كأنه قيل: إن ترحم طائفة.
ثم ذكر جملة أحوال المنافقين وأن إناثهم في ذلك كذكورهم فقال الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي في صفة النفاق وأريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في قولهم إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وتقرير قوله وَما هُمْ مِنْكُمْ ثم فصل ذلك المجمل ببيان مضادة حالهم الحال المؤمنين فقال يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وهو كل قبيح عقلا أو شرعا وأعظم ذلك تكذيب الله ورسوله. وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وهو كل حسن عقلا أو شرعا وأعظم ذلك الإخلاص في الإيمان وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن كل خير أو عن كل واجب كصدقة أو زكاة أو اتفاق في سبيل الله، وهذا أولى ليتوجه الذم بتركه. وقبض الأيدي كناية عن الشح والبخل كبسطها في الكرم والسخاء نَسُوا اللَّهَ أغفلوا أمره وتركوا ذكره وذلك أن النسيان الحقيقي لا يتوجه عليه الذم فَنَسِيَهُمْ جازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته وهذا على سبيل المزاوجة والطباق. وإنما جعل النسيان عبارة عن ترك الذكر لأن من نسي شيئا لم يذكره فدل بذكر الملزوم على اللازم. ثم قال إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ وفيه دليل على أنهم هم الكاملون في الفسق وأن على المسلم أن يحترز عما يكسبه هذا الاسم. ثم بين مآل حال أهل النفاق والكفر فقال وَعَدَ اللَّهُ الآية ومعنى خالِدِينَ فِيها مقدرين الخلود فيها قاله في الكشاف ويحتمل أن يراد مستأهلين للخلود هِيَ حَسْبُهُمْ كافيهم في الجزاء والإيلام ومع ذلك فقد لعنهم الله ليكون العذب مقرونا(3/498)
بالإهانة والطرد وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ نوع آخر من العذاب الدائم سوى عذاب النار، أو عذاب عاجل لا ينفكون عنه من تعب النفاق والخوف من افتضاحهم. ثم شبه المنافقين بالكفار الذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن الخيرات فقال ملتفتا من الغيبة إلى الخطاب كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي أنتم مثل الذين أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم. فعلى الأول محل الكاف رفع وعلى الثاني نصب. ثم وصف أولئك الكفار بأنهم كانوا أشد قوة أي جسامة من هؤلاء المنافقين وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ وهو ما خلق للإنسان أي قدر له من خير كما قيل له قسم لأنه قسم ونصيب لأنه نصب أي أثبت. فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ قيل: ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانيا ثم تكريره في حق الأوّلين ثالثا؟ وأجيب بأنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ، فلما قرر تعالى هذا الذم عاد فشبه حال المنافقين بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة. قال جار الله: نظيره أن تقول لبعض الظلمة أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب وأنت تفعل مثل فعله. وأما قوله وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك التقدمة. ومعنى «كالذي» كالخوض الذي خاضوه أو كالفوج الذي خاضوا. وقيل: أصله كالذين فحذف النون. ثم بين أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال أما في الدنيا فبسبب الفقر والانتقال من العز إلى الذل ومن القوة إلى الضعف، وأما في الآخرة فلأنهم هلكوا وبادوا وانتقلوا إلى العقاب الدائم وخسران الدارين. فهؤلاء المنافقون المشاركون لهم في هذه الأعمال والفضائح مع ضعف بنيتهم وقلة عددهم وعددهم أولى بخزي الدارين وخسار الأمرين.
التأويل:
إِنَّمَا الصَّدَقاتُ وهي صدقات مواهب الله كما
قال صلى الله عليه وسلم «ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا لله فيها صدقة على من يشاء من عبادة الفقراء وهم الأغنياء بالله الذين فنوا عنهم وبقوا به»
وَالْمَساكِينِ الذين لهم بقية أوصاف الوجود ألقوا سفينة القلب في بحر الطلب وقد خرقها خضر المحبة وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [الكهف:
73] وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وهم أرباب الأعمال كما كان الفقراء والمساكين أرباب الأحوال وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ الذين تتألف قلوبهم بذكر الله وَفِي الرِّقابِ الذين يريدون أن يتخلصوا عن رق الموجودات تحر لعبودية موجدها. والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
وَالْغارِمِينَ الذين استقرضوا من مراتب المكونات أوصافها وطبائعها وخواصها وهم(3/499)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
محبوسون في سجن الوجود فهم معاونون بتلك الصدقات للخلاص عن حبس الوجود وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ المجاهدين الجهاد الأكبر مع كفار النفوس والهوى والشيطان والدنيا وَابْنِ السَّبِيلِ المسافرون عن أوصاف الطبيعة وعالم البشرية، السائرون إلى الله على أقدام الشريعة والطريقة فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ أوجبها على ذمة كرمه كما قال «ألا من طلبني وجدني» وَاللَّهُ عَلِيمٌ بطالبيه حَكِيمٌ في معاونتهم بعد الطلب كقوله «من تقرب إليّ شبرا تقربت إليه ذراعا» وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ رأوا محامده بنظر المذمة والعيب قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ أي سامعيته خير لكم لأن له مقام السامعية يسمع ما يوحى إليه يُؤْمِنُ بِاللَّهِ عيانا وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ لأن فوائد إيمانه تعود إليهم كما تعود إلى نفسه وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا لأنهم يهتدون بهداه وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ والحذر لا يغني عن القدر إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ إظهارا للفضل والرأفة نُعَذِّبْ طائِفَةً إظهار للقهر والعزة ولكن إظهار اللطف بلا سبب. وإظهار القهر لا يكون إلا بسبب أنهم كانوا مجرمين وبَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لأن أرواحهم كانت في صف واحد في الأزل فمعاملاتهم من نتائج خصوصيات أرواحهم نَسُوا اللَّهَ ولو ذكروه قبل الإتيان بالمعاصي لم يفعلوا ما فعلوا، ولو ذكروه بعد الإتيان لاستغفروا فغفر لهم هِيَ حَسْبُهُمْ لأنها نصيبهم في الأزل كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً بالاستعداد الفطري وضيعوها في الاستمتاع العاجل فخسروا رأس المال ولم يربحوا.
[سورة التوبة (9) : الآيات 70 الى 79]
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74)
وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79)(3/500)
القراآت:
وَالْمُؤْتَفِكاتِ وبابه بغير همز: أبو عمرو غير شجاع وورش ويزيد والحلواني عن قالون والأعشى وحمزة في الوقف.
الوقوف:
وَالْمُؤْتَفِكاتِ ط بِالْبَيِّناتِ ج لابتداء النفي مع فاء التعقيب.
يَظْلِمُونَ هـ أَوْلِياءُ بَعْضٍ م لما مر. وَرَسُولَهُ ط سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ ط حَكِيمٌ هـ عَدْنٍ ط أَكْبَرُ ط الْعَظِيمُ هـ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ط جَهَنَّمُ ط الْمَصِيرُ هـ ما قالُوا ط لَمْ يَنالُوا ج مِنْ فَضْلِهِ ط خَيْراً لَهُمْ ج وَالْآخِرَةِ ج وَلا نَصِيرٍ هـ مِنَ الصَّالِحِينَ هـ مُعْرِضُونَ هـ يَكْذِبُونَ هـ عَلَّامُ الْغُيُوبِ هـ ج لاحتمال النصب أو الرفع على الذم. وكونه بدلا من الضمير في نَجْواهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ط.
سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ط لإتمام الجزء مع اختلاف النظم. أَلِيمٌ هـ.
التفسير:
لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في تكذيب الأنبياء والاشتغال بالنعيم الزائل بين أن أولئك الكفار من هم فذكر ست طوائف سمع العرب أخبارهم لأن بلادهم- وهي الشام- قريبة من بلادهم وقد بقيت آثارهم مشاهدة، ولهذا صدر الكلام بحرف الاستفهام للتقرير. فأوّلهم قوم نوح وقد أهلكوا بالإغراق، وثانيهم: قوم عاد وأهلكوا بالريح العقيم، وثالثهم: ثمود وأخمدوا بالصيحة، ورابعهم: قوم إبراهيم سلط الله عليهم البعوض وكفى شر ملكهم وهو نمرود ببعوضة واحدة سلطها على دماغه، وخامسهم:
أصحاب مدين قوم شعيب أخذتهم الرجفة، وسادسهم: أصحاب المؤتفكات قوم لوط أمطر الله عليهم الحجارة بعد أن جعل مدائنهم عاليها سافلها. والائتفاك الانقلاب سميت مدائنهم بذلك لأن الله تعالى قلبها عليهم. ويمكن أن يراد بالمؤتفكات الناس لانقلاب أحوالهم من الخير إلى الشر. ثم قال أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ أي بالمعجزات ولا بد بعد هذا من إضمار والتقدير فكذبوهم فأهلكهم الله. فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ قالت المعتزلة:
أي ما صح منه الظلم ولكنهم استحقوا ذلك بسبب كفرهم، وقد مر الكلام في أمثال ذلك.
ثم بين أن شأن المؤمنين في الدنيا والآخرة بخلاف المنافقين فقال وَالْمُؤْمِنُونَ الآية قال بعض العلماء: إنما قال هاهنا أَوْلِياءُ بَعْضٍ وهناك مِنْ بَعْضٍ [الآية: 66] لأن نفاق(3/501)
أتباع المنافقين حصل بسبب التقليد لأكابرهم بمقتضى الطبع والعادة بخلاف الموافقة بين المؤمنين فإنها بسبب المشاركة في الاستدلال والتوفيق والهداية. وأقول: كون بعض المنافقين من بعض يوجب اشتراكهم في أمر من الأمور بالجملة كالدار أو حكم من الأحكام الشرعية أو سيرة وطريقة وهذا هو المقصود، ولكنه يحتمل أن يكون تكلفا أو بطريق النفاق لأن سببه انعقاد غرض من الأغراض الدنيوية العاجلة فذكر الله تعالى اشتراكهم في ذلك بلفظ «من» لمكان الاحتمال المذكور. وأما تشارك المؤمنين في السيرة فلما كان سببه الإخلاص والعصبية للدين والاجتماع على ما يفضي إلى سعادة الدارين كانت الموالاة بينهم محققة فصرح الله تعالى بذلك. ثم وصفهم بأضداد صفات المنافقين فقال يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهاتان الصفتان بالنسبة إلى غيرهم. ثم قال وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وهاتان لهم في أنفسهم وهما بإزاء قوله في صفة المنافقين وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كارِهُونَ [التوبة: 54] .
ثم وصفهم بالطاعة على الإطلاق فقال وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في كل ما يأتون ويذرون. ثم ذكر ما أعدّ لهم من الثواب على سبيل الإجمال فقال أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ والسين تفيد المبالغة في إنجاز الوعد بالرحمة كما يؤكد الوعيد به إذا قلت سأنتقم منك يوما يعني أنك لا تفوتني وإن تباطأ ذلك. ثم ختم الآية بقوله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وفيه ترغيب للمؤمنين وترهيب للكافرين لأن العزيز هو من لا يمنع من مرادة في عباده من رحمة أو عقوبة. والحكيم هو الذي يدبر عباده على وفق ما يقتضيه العدل والصلاح. ثم فصل ما أجمل من الرحمة بقوله وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ لآية. وقد كثر كلام أصحاب الآثار في معنى جنات عدن
فقال الحسن: سألت عمران بن الحصين وأبا هريرة عن ذلك فقالا:
على الخبير سقطت سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «هو قصر في الجنة من اللؤلؤ وفيه سبعون دارا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتا من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريرا على كل سرير سبعون فراشا على كل فراش زوجة من الحور العين، وفي كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام، وفي كل بيت سبعون وصيفة يعطى المؤمن من القوة ما يأتي على ذلك أجمع» .
وعن ابن عباس أنها دار الله لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر. وقال ابن مسعود: جنات عدن بطنان الجنة أي وسطها قاله الأزهري. وبطنان الأودية المواضع التي يستنقع فيها السيل واحدها بطن. وقال عطاء عن ابن عباس: هي قصبة الجنة وسقفها عرش الرحمن وهي المدينة التي فيها الرسل والأنبياء والشهداء وأئمة الهدى. وسائر الجنات حولها. وفيها عين التسنيم وفيها قصور الدر والياقوت والذهب. فتهب الريح من تحت العرش فتدخل عليها كثبان المسك الأبيض.(3/502)
وقال عبد الله بن عمر: وإن في الجنة قصرا يقال له عدن حوله البروج وله خمسة آلاف باب على كل باب خمسة آلاف حبرة لا يدخله إلا نبي أو صدّيق أو شهيد. وفي هذه الأخبار دلالة على أن عدنا علم ويؤيده قوله جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ [مريم: 61] ولو لم يكن علما لم يوصف بالمعرفة. ولا ريب أن أصله صفة من قولك عدن بالمكان إذا أقام به، ومنه المعدن للمكان الذي تخلق فيه الجواهر. وعلى هذا فالجنات كلها جنات عدن. إلا أن يغلب الاسم على بعضها. وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ شيء يسير من رضاه أَكْبَرُ من ذلك كله لأن رضاه سبب كل فوز وكرامة وكل خطب مع رضا المولى هين، وكل نعيم مع سخطه منغص. وفيه دليل على أن السعادات الروحانية أعلى حالا وأشرف مآلا من السعادات الجسمانية بل لانسبة لتلك اللذة والابتهاج إلى هذه على أن الاعتراف بالسعادات الجسمانية واجب من حيث الشرع ذلِكَ الموعود والرضوان هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ وحده دون ما يعده الناس فوزا.
في الحديث «إن الله عز وجل يقول لأهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك فيقول أنا أعطيكم أفضل من ذلك قالوا وأي شيء أفضل من ذلك قال أدخل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبدا» «1»
ثم عاد مرة أخرى إلى شرح أحوال المنافقين فقال يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ قال الضحاك: أي جاهد الكفار واغلظ على المنافقين لأن المنافق لا تجوز محاربته في ظاهر الشرع. وضعف بأن النسق يأباه. وقيل: المراد بهؤلاء المنافقين هم الذين عرفه الله حالهم فصاروا كسائر الكفرة فجاز قتالهم، وزيف بأنه وإن علم حالهم بالوحي إلا أنه مأمور بأن يحكم بالظاهر والقوم كانوا يظهرون الإسلام فكيف يجوز قتالهم؟ والصحيح أن الجهاد بذل المجهود في حصول المقصود وهو شامل للسيف واللسان، فالمراد جاهد الكفار بالسيف والمنافقين بالحجة واغلظ عليهم في الجهادين جميعا عن ابن مسعود: إن لم يستطع بيده فبلسانه، فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه، فإن لم يستطع فبقلبه بأن يكرهه ويبغضه ويتبرأ منه. وحمل الحسن جهاد المنافقين على إقامة الحدود عليهم إذا تعاطوا أسبابها. واعترض عليه بأن إقامة الحدود واجبة على كل فاسق فلا يكون لهذا تعلق بالنفاق. واعتذر عنه بأنه قال ذلك لأن عنده أن كل فاسق منافق أو
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 51. كتاب التوحيد باب 38. مسلم في كتاب الجنة حديث 9. الترمذي في كتاب الجنة باب 18. [.....](3/503)
لأن الغالب ممن يقام عليه الحد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم كونه منافقا.
قال الضحاك: خرج المنافقون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وكانوا إذا خلا بعضهم إلى بعض سبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وطعنوا في الدين، فنقل ما قالوا حذيفة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل النفاق ما هذا الذي بلغني عنكم؟ فحلفوا ما قالوا شيئا من ذلك فأنزل الله تعالى يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وعن قتادة أن رجلين اقتتلا رجل من جهينة ورجل من غفار فظهر الغفاري على الجهني فنادى عبد الله بن أبيّ يا بني الأوس انصروا أخاكم فو الله ما مثلنا محمد إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك وقال لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ [المنافقون: 8] فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فجعل يحلف بالله ما قال فنزلت الآية.
ومعنى قوله وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ أنهم أظهروا الكفر بعد ما كانوا يظهرون الإسلام. أما قوله وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا فهو الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم عند مرجعه من تبوك، وذلك أنه توافق خمسة عشر رجلا منهم على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة بالليل، وكان عمار بن ياسر أخذ بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها، فبيناهم كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل وبقعقعة السلام فالتفت فإذا هم قوم متلثمون فقال: إليكم إليكم يا أعداء الله فهربوا. وقيل: همّ المنافقون بقتل عامر بن قيس لرده على الجلاس بن سويد وقد مر في تفسير قوله يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ [التوبة: 62] وقيل: أرادوا أن يتوجوا عبد الله بن أبي وإن لم يرض رسول الله صلى الله عليه وسلم. وَما نَقَمُوا وما أنكروا وما عابوا إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ كقول القائل.
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم وذلك أنهم كانوا حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في ضنك من العيش لا يركبون الخيل ولا يحوزون الغنيمة فظفروا بالغنائم وجمعوا الأموال.
وروي أنه قتل للجلاس مولى فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألفا فاستغنى،
ثم استعطف قلوبهم بعد صدور هذه الجنايات العظيمة عنهم فقال فَإِنْ يَتُوبُوا بك يعني ذلك الرجوع خَيْراً لَهُمْ وكان الجلاس ممن تاب فحست توبته وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يعرضوا عن التوبة يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا بالقتل والسبي واغتنام الأموال. وقيل: بما ينالهم عند الموت ومعاينة ملائكة العذاب. وقيل: في القبر وأما عذاب الآخرة فمعلوم وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ يحتمل أرض الدنيا وأرض القيامة.
ثم بين أن هؤلاء كما ينافقون الرسول والمؤمنين فكذلك ينافقون ربهم فيما يعاهدونه(3/504)
عليه فقال وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ
يروى عن أبي أمامة الباهلي أن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع الله أن يرزقني مالا فقال: ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه. ثم قال مرة أخرى فقال: أما ترضى أن تكون مثل نبي الله، فو الذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال فضة وذهبا لسارت. فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله أن يرزقني مالا لأوتين كل ذي حق حقه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزق ثعلبة مالا. فاتخذ غنما فنمت كما ينمو الدود فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة، فسأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر خبره فقال: يا ويح ثعلبة ثلاثا وأنزل الله عز وجل خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103] فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة رجلا من جهينة ورجلا من بني سليم، وكتب لهما كيف يأخذان الصدقة وقال لهما. مرا بثعلبة وبفلان رجل من بني سليم فخذا صدقاتهما. فخرجا حتى أتيا ثعلبة فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية ما أدري ما هذا، انطلقا حتى تفرغا ثم تعودان إليّ. فانطلقا وأخبرا السلمي فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصدقة ثم استقبلهم بها فلما رأوها قالوا: ما يجب هذا عليك وما نريد أن نأخذ هذا منك. قال: بلى خذوه فإن نفسي بها طيبة. فأخذوها منه ثم رجعا على ثعلبة فقال: أروني كتابكما ثم قال:
ما هذه إلا أخت الجزية، انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآهما قال: يا ويح ثعلبة قبل أن يكلمهما ودعا للسلمي بالبركة ثم نزلت الآية وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من أقارب ثعلبة، فخرج إليه وقال: يا ويحك يا ثعلبة قد أنزل الله فيك كذا وكذا.
فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله أن يقبل منه صدقته فقال: إن الله قد منعني أن أقبل منك صدقتك. فجعل يحثو التراب على رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك قد أمرتك فلم تطعني. فلما أبى أن يقبل منه شيئا رجع إلى منزله وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئا، ثم أتى أبا بكر حين استخلف فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي من الأنصاري فاقبل صدقتي. فقال: لم يقبلها رسول الله وأنا أقبلها؟ فقبض أبو بكر وأبى أن يقبلها، ثم جاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها في خلافة عثمان ولم يقبل صدقته واحد من الخلفاء اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأقول وما ذاك إلا بشؤم اللجاج أولا وآخرا. قال بعض العلماء: المعاهدة أعم من أن تكون باللسان أو بالقلب. وقال المحققون: إنه لا بد من التلفظ بها لما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفوسهم ولم(3/505)
يتلفظوا به» «1»
ولأن قوله عز من قائل وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ ظاهره مشعر بالقول اللساني. والمراد بالفضل إيتاء المال بطريق التجارة أو الاستغنام ونحوهما. وأصل لَنَصَّدَّقَنَّ لنتصدقن أدغمت التاء في الصاد. والمصدق المعطي لا السائل كقوله تعالى وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ [يوسف: 88] ومعنى قوله وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ عن ابن عباس أنه أراد الحج. ولعل المراد إخراج كل ما يجب إخراجه إذ لا دليل على التقييد. ثم وصفهم بصفات ثلاث فقال فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فالبخل عبارة عن منع الحق الشرعي، والتولي نقض العهد، والإعراض أراد به الإحجام عن تكاليف الله وأن ذلك منهم عادة معتادة، ولترتب هذا الذم عل أمنع الصدقة ولإطلاق لفظة البخل عليه وهو في عرف الشرع عبارة عن منع الواجب. ذكر العلماء أن الصدقة الملتزمة في قوله لَنَصَّدَّقَنَّ هي الصدقة الواجبة. وأن الرجل قد عاهد ربه أن يقوم بما يلزمه من الإنفاقات الواجبة. إن وسع الله عليه دون ما يلتزمه الإنسان بالنذر من المندوبات إذ لا دليل في الآية على ذلك مع أن سبب النزول يأباه. فإن قيل: الزكاة لا تلزم بسبب الالتزام وإنما تلزم بسبب ملك النصاب وحلول الحول. قلنا إن قوله لَنَصَّدَّقَنَّ لا دليل فيه على الفور بل المراد لنصدقن في وقته الذي يليق به. وفي الآية دلالة على أن الرجل حين عاهد بهذا العهد كان مسلما ثم إنه لما بخل بالمال ولم يف بالعهد صار منافقا ويؤكده قوله سبحانه فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً عن الحسن وقتادة أن أعقب مسند إلى ضمير البخل أي أورثهم البخل نفاقا متمكنا في قلوبهم لأنه كان سببا فيه وباعثا عليه، وكذا التأويل إن جعل عائدا إلى التولي أو الإعراض. وضعت بأن حاصل هذه الأمور كونه تاركا لأداء الواجب وذلك لا يمكن جعله مؤثرا في حصول النفاق فى القلب لأن ترك الواجب عدم والنفاق جهل وكفر وهو أمر وجودي والعدم لا يؤثر في الوجود، ولأن هذا الترك قد يوجد في حق كثير من الفساق مع أنه لا يحصل معه النفاق، ولأنه لو أوجب حصول الكفر في القلب لأوجبه سواء كان الترك جائزا شرعا أو محرما فسبب اختلافات الأحكام الشرعية لا يخرج السبب عن كونه مؤثرا، ولأن البخل أو التولي أو الإعراض هو بعينه خلاف ما وعدوا الله به فيصير تقدير الآية إن التولي أوجب النفاق بسبب التولي وهذا كلام كما ترى فلم يبق إلا أن يسند الفعل إلى الله تعالى فيكون فيه دليل
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 15. مسلم في كتاب الإيمان حديث 201، 202. أبو داود في كتاب الطلاق باب 15. الترمذي في كتاب الطلاق باب 8. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 14. أحمد في مسنده (2/ 255، 293) .(3/506)
على أن خالق الكفر في القلوب هو الله، ومن هنا قال الزجاج: معناه أنهم لما ضلوا في الماضي فالله تعالى يضلهم عن الدين في المستقبل ومما يؤكد القول بأن الضمير في فَأَعْقَبَهُمْ لله أن الضمير في قوله إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ عائد إلى الله. وللمعتزلة أن يقولوا:
النفاق وإن سلم أنه وجودي لكنه أمر شرعي ولا يبعد جعل شيء عدمي أمارة عليه. وأيضا الترك المقرون بالتولي والإعراض لا نسلم أنه لا يحصل معه النفاق، ولا يلزم من كون الترك المحرم موجبا للكفر بجعل الشارع كون الترك الجائز كذلك، ولا نسلم أن البخل هو بعينه إخلاف الوعد والكذب بل قد يقع البخل من غير سبق وعد. سلمنا عود الضمير إلى الله لكن من أين يلزم كونه خالقا للكفر والنفاق، ولم لا يجوز أن يراد فأعقبهم الله العقوبة على النفاق بإحداث الغم في قلوبهم وضيق الصدور ما ينالهم من الذل والخوف، أو يراد فخذلهم حتى نافقوا وتمكن في قلوبهم نفاقهم فلا ينفك عنها إلى أن يموتوا؟ ولأهل السنة أن يقولوا هذا عدول عن الظاهر مع أن الدلائل الدالة على وجوب انتهاء الكل إلى مشيئة الله وتقديره تعضد ما قلناه. قال العلماء: ظاهر الآية يدل على أن نقض العهد وخلف الوعد يورث النفاق، فعلى المسلم أن يبالغ في الاحتراز عنه. ومذهب الحسن البصري أن نقض العهد يوجب النفاق لا محالة تمسكا بهذه الآية
وبقوله صلى الله عليه وسلم «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق وإن صلى وصام وزعم أنه مؤمن إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان» «1»
وقال عطاء بن أبي رباح: حدثني جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ذكر قوله «ثلاث من كن فيه فهو منافق» في المنافقين خاصة الذين حدثوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذبوه واؤتمنوا على سره فخانوه ووعدوه أن يخرجوا معه إلى الغزو فأخلفوه.
ونقل أن عمرو بن عبيد فسر الحديث فقال: إذا حدث عن الله كذب عليه وعلى دينه ورسوله، وإذا وعد أخلف كما ذكره الله فيمن عاهده، وإذا اؤتمن على دين الله خان في السر وكان قلبه على خلاف لسانه. ونقل أن واصل بن عطاء أرسل إلى الحسن رجلا فقال: إن أولاد يعقوب حدثوه في قولهم فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ [يوسف: 17] فكذبوا، ووعدوه في قولهم وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [يوسف: 12] فأخلفوا وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه، فهل تحكم بكونهم منافقين؟ فتوقف الحسن في مذهبه. قال أهل التفسير: قوله إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ دل على أن ذلك المعاهد يموت على ذلك وكان كما أخبر فيكون إخبارا بالغيب ومعجزا. قال الجبائي: هذا اللقاء لا شك أنه ليس بمعنى الرؤية لأن الكفار لا يرونه بالاتفاق فدل على
__________
(1) رواه أحمد في كتاب الإيمان باب 24. مسلم في كتاب الإيمان حديث 107- 109. الترمذي في كتاب الإيمان باب 14.(3/507)
أن اللقاء في القرآن ليس بمعنى الرؤية، وضعف بأنه لا يلزم من عدم كون هذا اللقاء بمعنى الرؤية كون كل لقاء ورد في القرآن كذلك كقوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة: 46] .
ثم وبخهم على التجاهل أو عدم العلم بعلم الله وإحاطته بضمائرهم وتناجيهم فقال أَلَمْ يَعْلَمُوا الآية. والسر ما ينطوي عليه الصدر، والنجوى ما يكون بين اثنين وأكثر مع الإخفاء عن غيرهم. والترتيب يدل على التخليص كما مر في الإنجاء كان المتناجيين تخلصا عن غيرهما ومنه خَلَصُوا نَجِيًّا [يوسف: 80] ومعنى الآية كيف تتجرؤون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتناجي فيما بينهم مع أنه تعالى يعلم ذلك من حالهم كما يعلم الظاهر ويعاقب عليه كما يعاقب على الظاهر لأنه العالم بجميع المعلومات على أي وجه يفرض؟!
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم ذات يوم وحثهم على أن يجمعوا الصدقات، فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم وقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالي ثمانية آلاف جئتك بنصفها فاجعلها في سبيل الله وأمسكت نصفها لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت وفيما أمسكت فبارك الله في مال عبد الرحمن حتى إنه خلف امرأتين يوم مات فبلغ ثمن ماله لهما مائة وستين ألف درهم. وقيل صولحت إحداهما على ثمانين ألفا. وتصدق يومئذ عاصم بن عدي العجلاني بمائة وسق من تمر، وجاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر وقال: أجرت الليلة الماضية نفسي من رجل لإرسال الماء إلى نخيله فأخذت صاعين من تمر، أمسكت أحدهما لعيالي وأقرضت الآخر لربي، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضعه في الصدقات فلمزهم المنافقون وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلّا رياء وسمعة، وأما أبو عقيل فإنه جاء بصاعه ليذكر مع سائر الأكابر والله غني عن صاعه فأنزل الله سبحانه الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ
أي المتطوعين فأدغمت. والتطوع التنفل وهو الطاعة لله بما ليس بواجب.
والجهد بالضم والفتح شيء قليل يعيش به المقل، قاله الليث. وقال الفراء: الضم لغة أهل الحجاز والفتح لغيرهم. وفرق ابن السكيت بينهما فقال: الجهد بالضم الطاقة وبالفتح المشقة. وقال الشعبي: الأول في العمل والثاني في القوة سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ خير لا دعاء كقوله اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ [البقرة: 15] وقد عرفت أن هذا من قبيل المشاكلة، أو المراد منه لازم السخرية وهو إيقاع الذل والهوان بهم. وقال الأصم: المراد أنه تعالى يكلفهم إنفاق المال مع أنه لا يثيبهم عليه، وإنما توجه الذم على المنافقين في هذا اللمز لأن الحكم بالرياء لمن يعطي الكثير كعبد الرحمن بن عوف(3/508)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
وعاصم حكم على بواطن الأمور وذلك أمر استأثر الله به ورسوله. وأيضا لمز الفقير على جهد المقل سفه لأنه لما لم يقدر إلا عليه فقد بذلك كل ما له فعلم منه غالبا أنه إن قدر على أكثر من ذلك لم يكن منه منع، وسعي الإنسان في أن يضم نفسه إلى أهل الخير والدين خير له من أن يضم نفسه إلى أهل الكسل والبطالة، ولو لم تكن فيه إلا الثقة بالله والدخول في زمرة من يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة لكفى به منقبة وفضلا.
التأويل بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لأن التعارف في عالم الأرواح يوجب التآلف في عالم الأشباح يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ الحقيقي أي بطلبه والمطلوب هو الله لقوله «فأحببت أن أعرف» وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهو ما يقطع العبد عن الله وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ الحقيقية وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ يعني ما فضل عن كفافهم الضروري وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ بخلاف المنافقين فإنهم يطيعون النفس والهوى وَمَساكِنَ طَيِّبَةً على مراتب النفوس الطيبة فإن الطيبات للطيبين يا أَيُّهَا النَّبِيُّ يعني القلب الذي له نبأ من مقام الانباء جاهِدِ النفوس الكافرة بسيف الصدق والمخالفات، وجاهد نفوس المريدين الذين يدعون الإرادة في الظاهر دون الباطن وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ في المأخذات بأحكام الشريعة والطريقة حتى تتمرن نفوسهم وإلا وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ القطيعة وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وهي التي توجب الإنكار والاعتراض على الشيخ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا أي أثبتوا لأنفسهم مرتبة الشيخوخة قبل أوانها وَما نَقَمُوا إلا أن الشيخ رباهم بلبان فضل الله عن حلمة الولاية فلم يحتملوا لضيق حوصلة الهمة، ومربد الطريقة أعظم من مربد الشريعة فلهذا يكون عذابه أليما في الدنيا والآخرة كما قال الجنيد: لو أقبل صديق إلى الله ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة فإن ما فاته أكثر مما ناله وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ باستعداده الفطري لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ جعلنا متمكنين من اكتساب الكمال لَنَصَّدَّقَنَّ لنصرفن كل ما أعطانا فيما أعطى لأجله إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ أي يلقون جزاء النفاق وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ يعلم ما توسوس به أنفسهم وهو غيب عن الخلق ويعلم ما يستكن في قلوبهم وهو غيب في نفوسهم ولهذا قال الْغُيُوبِ. سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ ذكره بلفظ الماضي ليعلم ان سخرية المنافقين نتيجة سخرية الله بهم في الأزل.
[سورة التوبة (9) : الآيات 80 الى 89]
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84)
وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)(3/509)
القراءات:
مَعِيَ أَبَداً بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص والمفضل مَعِيَ عَدُوًّا بالفتح: حفص فقط.
الوقوف:
أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ط فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ط وَرَسُولِهِ ط الْفاسِقِينَ هـ فِي الْحَرِّ ط حَرًّا م لأن المعنى لو كانوا يفقهون حرارة النار لما قالوا لا تنفروا في الحر. ولو وصل لأوهم أن جهنم لا يكون نارها أشد حرا إذا لم يفقهوا ذلك يَفْقَهُونَ هـ كَثِيراً ج لأن جَزاءً يصلح أن يكون مفعولا له أو مصدر محذوف أي يجزون جزاء يَكْسِبُونَ هـ مَعِيَ عَدُوًّا ط الْخالِفِينَ هـ عَلى قَبْرِهِ ط فاسِقُونَ هـ وَأَوْلادُهُمْ ط كافِرُونَ هـ الْقاعِدِينَ هـ لا يَفْقَهُونَ هـ وَأَنْفُسِهِمْ ط الْخَيْراتُ ز لابتداء وعد الفلاح على التعظيم بدليل تكرار أُولئِكَ مع اتفاق الجملتين.
الْمُفْلِحُونَ هـ خالِدِينَ فِيها ط الْعَظِيمُ هـ.
التفسير:
عن ابن عباس ان عند نزول الآية الأولى في المنافقين قالوا: يا رسول الله استغفر لنا واشتغل بالاستغفار لهم فنزل اسْتَغْفِرْ لَهُمْ الآية، ومن المفسرين من قال: إنهم طلبوا من الرسول صلّى الله عليه وسلم أن يستغفر لهم وإن الله نهاه عنه. والنهي عن الشيء لا يدل على أن المنهي أقدم على ذلك الفعل. ثم إن الدليل قد يدل على أنه ما اشتغل بالاستغفار لأن المنافق كافر، وقد ظهر في شرعه ان الاستغفار للكافر غير جائز، ولأن الاستغفار للمنافق يجري مجرى إغرائه على مزيد النفاق ولأنه يلزم أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلم غير مجاب الدعوة وإن أكثر في الدعاء. ومن الفقهاء من قال: التخصيص بالعدد المعين يدل على أن الحال(3/510)
فيما وراء ذلك العدد بخلافه لما
روي أنه لما نزلت الآية قال صلى الله عليه وسلم: لأزيدن على السبعين فنزل سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [المنافقون: 6] فكف عنه.
فلولا أنه فهم بدليل الخطاب أن الأمر فيما وراء السبعين بالخلاف لم يقل لأزيدنّ على ذلك. وأجيب بأنه أراد إظهار الرحمة والرأفة بأمته ودعاء لهم إلى ترحم بعضهم لبعض لا أنه فهم منه ذلك، كيف وقد قال تعالى فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ وأردفه بقوله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. فليس المقصود بهذا العدد تحديد المنع وإنما هو كقول القائل لمن يسأله حاجة: لو سألتني سبعين مرة لم أقضها. ولهذا بين العلة التي لأجلها لا ينفعهم استغفار الرسول وهي كفرهم وفسقهم، وهذا المعنى قائم في الزيادة على السبعين.
وذكر بعضهم لتخصيص السبعين وجها هو أن السبعة عدد شريف لأنه عدد السموات والأرضين والبحار والأقاليم والنجوم السيارة والأعضاء وأيام الأسبوع، فضرب السبعة في عشرة لأن الحسنة بعشر أمثالها. وقيل: خص بالذكر لأنه صلى الله عليه وسلم كبّر على حمزة سبعين تكبيرة وكأنه قال: إن تستغفر لهم سبعين مرة بإزاء تكبيراتك على حمزة. هذا وقد مر في تفسير قوله قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [التوبة: 53] أن هذا أمر في معنى الخبر كأنه قيل: لن يغفر الله لهم استغفرت لهم أم لا، وانتصاب سبعين على المصدر كقولك: ضربته عشرين ضربة. ثم ذكر نوعا آخر من قبائح أفعالهم فقال فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ قيل: إنهم احتالوا أن يتخلفوا وكان الأولى أن يقال فرح المتخلفون. وأجيب بأنهم استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لهم وخلفهم بالمدينة في غزوة تبوك، أو أريد خلفهم كسلهم ونفاقهم والشيطان، أو المجاهدون لما لم يوافقوهم في القعود فكأنهم خلفوهم، أو أطلق عليهم المخلفون باعتبار أنهم سيصيرون ممنوعين من الخروج في الآية الآتية فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إلى قوله وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا ومعنى بِمَقْعَدِهِمْ بقعودهم قاله مقاتل. أو بموضع قعودهم وهو المدينة قاله ابن عباس. ومعنى خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سار وأقاموا قاله قطرب والزجاج فانتصابه على أنه مفعول له أي قعد والأجل خلافه أو على الحال مثل «فأرسلها العراك» أي مخالفين له. وقال الأخفش ويونس: الخلاف بمعنى الخلف أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن جهة الأمام التي يقصدها الإنسان يخالفها جهة الخلف وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا كيف لا يكرهون وليس فيهم باعث الإيمان وداعي الإخلاص ومعهم صارف الكفر والنفاق؟ وفيه تعريض بالمؤمنين الباذلين أموالهم وأرواحهم في الله المؤثرين ذلك على الدعة والخفض. واعلم أن الفرح بالإقامة يدل على كراهية الذهاب إلا أنه صريح بذلك للتوكيد، ولعل المراد أنه مال طبعهم إلى الإقامة لإلفهم بالبلد واستئناسهم بالأهل والولد، وكرهوا الخروج إلى الغزو لأنه تعريض بالنفس(3/511)
والمال للقتل والإهدار. قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ أن بعد هذه الدار دار أخرى وبعد هذه الحياة حياة أخرى. وهذه المشقة منقضية سهلة وتلك باقية صعبة ولبعضهم وكأنه صاحب الكشاف:
مسرة أحقاب تلقيت بعدها ... مساءة يوم أنها شبه أنصاب
فكيف بأن تلقى مسرة ساعة ... وراء تقضيها مساءة أحقاب
وفي هذا استجهال عظيم لهم. ثم قال فَلْيَضْحَكُوا وهو خبر إلا أنه أخرج على لفظ الأمر للدلالة على أنه حتم لا يكون غيره ومعناه فسيضحكون قليلا أي ضحكا قليلا أو زمانا قليلا وسيبكون كثيرا.
يروى أن أهل النفاق يبكون في النار عمر الدنيا لا يرقأ لهم دمع ولا يكتحلون بنوم.
ثم عرف نبيه وجه الصلاح في سائر الغزوات فقال فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ أي إن ردّك إلى المدينة. الرجع متعد مثل الرد، والرجوع لازم.
وإنما قال طائفه لأن منهم من تاب عن النفاق وندم أو اعتذر بعذر صحيح. وقيل: لم يكن المخلفون كلهم منافقين فأراد بالطائفة المخلفين من المنافقين. فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ إلى غزوة أخرى بعد غزوة تبوك فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً عاقبهم بإسقاط عن ديوان الغزاة جزاء على تخلفهم لما فيه من الذم والطرد وصلاحا لأمر الجهاد لما في استصحابهم من المفاسد المذكورة في قوله لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [التوبة: 47] ويعني بأول مرة غزوة تبوك. وإنما لم يقل أول المرات معرفا مجموعا لأن المعنى إن فصلت المرات مرة مرة كانت هذه أولها نظيره «هو أفضل رجل» يعني إن عدّ الرجال رجلا رجلا كان هو أفضلهم. وإنما لم يقل «أولى مرة» لأن أكثر اللغتين «هند أكبر النساء» ولا يكاد يقال «هي كبرى امرأة» فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ كقوله وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ [التوبة: 46] والخالف من يخلف الرجل في قومه. وعن الأصمعي أنه الفاسد من خلف اللبن والنبيذ إذا فسد. وعن الفراء معناه المخالف. قال قتادة: ذكر لنا أن الخالفين الذين أمروا بالقعود كانوا اثني عشر رجلا.
عن ابن عباس أنه لما اشتكى عبد الله ابن أبيّ ابن سلول عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فطلب منه أن يصلي عليه إذا مات ويقوم على قبره ويعطيه قميصه الذي يلي جلده ليكفن فيه ففعل كل ذلك.
وعنه قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: لما توفي عبد الله بن أبيّ دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه فقام إليه، فلما وقف عليه يريد الصلاة تحوّلت حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله أعلى عدوّ الله عبد الله ابن أبيّ القائل يوم كذا كذا وكذا؟ أعدد أيامه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتبسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: أخر عني يا عمر إني خيرت فاخترت، قد قيل لي استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن(3/512)
تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم، ولو أعلم أني إن زدت على السبعين غفر له لزدت. قال: ثم صلى عليه ومشى معه فقام على قبره حتى فرغ منه قال: فعجبت من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم. قال: فو الله ما كان إلا يسيرا حتى نزل وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً الآية. فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ولا قام على قبره حتى قبضه الله.
قال المفسرون: وكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما فعل بعبد الله بن أبيّ قال: وما يغني عنه قميصي وصلاتي من الله، والله إن كنت لأرجو أن يسلم به ألف من قومه وكان كما قال.
وقيل: لعل السبب فيه أنه لما طلب من الرسول قميصه الذي مس جلده ليدفن فيه غلب على ظن الرسول أنه انتقل إلى الإيمان لأنه وقت يتوب فيه الكافرة فرغب أن يصلي عليه. وذكر من أسباب دفع القميص أن العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ أسيرا ببدر ولم يجدوا له قميصا طويلا فكساه عبد الله قميصه، ومنها أن المشركين قالوا له يوم الحديبية إنا لا ننقاد لمحمد ولكنا ننقاد لك. فقال: إن لي في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فشكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صنيعه. ومنها أنه كان لا يرد السائل لقوله تعالى وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ [الضحى: 10] ومنها أن ابنه عبد الله كان من الصالحين فالرسول أكرمه لمكان ابنه. ومنها إظهار الرأفة والرحمة كما مر.
قوله ماتَ صفة لأحد وأَبَداً ظرف لقوله لا تُصَلِّ وإنه يحتمل تأبيد النفي ونفي التأبيد والظاهر الأول، لأن القرائن تدل على منعه من أن يصلي عل أحد منهم منعا كليا دائما.
قال الزجاج: معنى قوله وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له فمنع هاهنا منه.
وقال الكلبي: معناه لا تقم بإصلاح مهمات قبره وإِنَّهُمْ كَفَرُوا تعليل للنهي ويرد عليه أن الكفر حادث وحكم الله قديم والحادث لا يكون علة للقديم. وأجيب بأن العلة هاهنا بمعنى الإمارة المعرفة للحكم. قال في الكشاف: وإنما قيل مات وماتوا بلفظ الماضي والمعنى على الاستقبال على تقدير لكون والوجود لأنه كائن موجود لا محالة. وإنما وصفهم بالفسق بعد وصفهم بالكفر لأن الكافر قد يكون عدلا في دينه، والكذب والنفاق والخداع والجبن والخبث مستقبح في جميع الأديان. أما قوله وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ فقد سبق مثله في هذه السورة بتفاوت ألفاظ فوجب علينا أن نذكر سبب التفاوت، ثم فائدة التكرار فنقول والله تعالى أعلم بمراده: إنما ذكر النهي هاهنا بالواو وهناك بالفاء لأنه لا تعلق له هاهنا بما قبله وهو موتهم على حالة الفسق خلاف ما هنالك. وإنما قال هاهنا وَأَوْلادُهُمْ بدون «لا» لأن المراد هنالك الترقي من الأدون إلى الأعلى وهو أن إعجاب أولئك الأقوام بأولادهم فوق إعجابهم بأموالهم(3/513)
كقولك: لا يعجبني أمر النائب ولا أمر المنوب. وهاهنا أراد المعية فقط إما اكتفاء بما سبق هناك، وإما لأن هؤلاء أقوام آخرون لم يكن عندهم تفاوت بين الأمرين. وقيل: إنه هناك لما علق الثاني بالأول تعليق الجزاء بالشرط أكد معنى النهي بتكرار «لا» ، وإنما قال هاهنا أَنْ يُعَذِّبَهُمْ لأنه إخبار عن قوم ماتوا على الكفر فتعلق الإرادة بما هم فيه وهو العذاب. وأما في الآية المتقدمة فالمفعول محذوف وقد مر. وقيل: الفائدة فيه التنبيه على أن التعليل في أحكام الله محال وأنه أينما ورد حرف التعليل فمعناه «أن» ، وإنما حذف الحياة هاهنا اكتفاء بما ذكر هنالك وقيل تنبيها على أن الحياة الدنيا لا تستحق أن تسمى حياة لخستها. وأما فائدة التكرير فهي المبالغة في التحذير من الأموال والأولاد لأنها جذابة للقلوب فتحتاج إلى صارف قوي، ويحتمل أن تكون الأولى في قوم والثانية في آخرين. وقيل: الثانية في اليهود والأولى في المنافقين. ثم عاد إلى توبيخ المنافقين فقال وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أي تمامها ويجوز أن يزاد عليها كما يقع القرآن والكتاب على بعضه. وقيل: هي براءة لأن فيها الأمر بالإيمان والجهاد أَنْ آمِنُوا «أن» هي المفسرة لأن إنزال السورة في معنى القول. وقال الواحدي: تقديره بأن آمنوا وإنما قدم الأمر بالإيمان لأن الاشتغال بالجهاد لا يفيد إلا بعد الإيمان أُولُوا الطَّوْلِ ذو الفضل والسمعة من طال عليه طولا قاله ابن عباس والحسن. وقال الأصم: الرؤساء والكبراء المنظور إليهم، وخصوا بالذكر لأن الذم لهم ألزم إذ لا عذر لهم في القعود مَعَ الْقاعِدِينَ مع أصحاب الأعذار من الضعفة والزمنى. والخوالف النساء اللواتي تخلفن في البيت، وجوز بعضهم أن يكون الخوالف جمع خالف وكان يصعب على المنافقين تشبيههم بالخوالف. ثم قال وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ كقوله خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] وقد مر البحث فيه، وقال الحسن:
الطبع بلوغ القلب في الكفر إلى حد كأنه مات عن الإيمان. وقالت الأشاعرة: هو حصول داعية الكفر المانعة من الإيمان. والطبع في اللغة الختم وهو التأثير في الطين ونحوه، ومنه الطبع للسجية التي جبل عليها الإنسان فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ أسرار حكمة الله في الجهاد أو في الذهاب من السعادة وما في التخلف من الشقاء. وفي قوله لكِنِ الرَّسُولُ نكتة هي أنه إن تخلف هؤلاء فقد أنهض إلى الغزو من هو خير منهم وأصدق نية كقوله فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ [الأنعام: 89] ثم ذكر منافع الجهاد على الإجمال فقال وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وهي شاملة لمنافع الدارين. وقيل: هي الحور لقوله فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ [الرحمن: 70] وقوله وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ المراد منه الخلاص من المكاره. ثم فصل ما أجمل فقال أَعَدَّ اللَّهُ الآية وقيل: الخيرات(3/514)
الفلاح في الدنيا وهذه في الآخرة. والْفَوْزُ الْعَظِيمُ عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعة ودرجة عالية.
التأويل:
إنما لم يؤثر استغفار الرسول في حقهم لقصور في القائل لا لتقصير في الفاعل، والأثر يتوقف على الأمرين جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من رين القلوب وكدورة الأرواح بظلمة الصفات الحيوانية. وَهُمْ كافِرُونَ مستورو القلوب بحجاب حب الأموال والأولاد. لهم الخيرات لما سعوا سعي العبودية نالوا خيرات الربوبية، هُمُ الْمُفْلِحُونَ المتخلصون عن حجب صفات النفس ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إذ لا حجاب أعظم من حجاب النفس والله أعلم.
تم الجزء العاشر من تفسير النيسابوري ويليه الجزء الحادي عشر وأوله وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ.........(3/515)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الحادي عشر من أجزاء القرآن الكريم
[سورة التوبة (9) : الآيات 90 الى 99]
وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
القراآت:
الْمُعَذِّرُونَ من الأعذار: قتيبة ويعقوب. الباقون: بالتشديد دائِرَةُ السَّوْءِ بضم السين وكذلك في الفتح: أبو عمرو وابن كثير. الآخرون بفتحها قُرْبَةٌ بضم الراء: نافع غير قالون. الباقون بإسكانها وكلاهما بمعنى.
الوقوف:
وَرَسُولَهُ ط أَلِيمٌ هـ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ط مِنْ سَبِيلٍ ط رَحِيمٌ هـ لا للعطف، ما يُنْفِقُونَ هـ أَغْنِياءُ ج لاحتمال أن يكون رَضُوا مستأنفا أو وصفا.
مَعَ الْخَوالِفِ لا لأن الواو إما للعطف أو للحال. لا يَعْلَمُونَ هـ إِلَيْهِمْ ط مِنْ(3/516)
أَخْبارِكُمْ
ط تَعْمَلُونَ هـ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ط عَنْهُمْ ط رِجْسٌ ز لاختلاف الجملتين مع شدة اتصال المعنى في إتمام الوعيد. جَهَنَّمُ ج لأن جزاء يصلح أن يكون مفعولا له أو مفعولا مطلقا لمحذوف أي يجزون جزاء يَكْسِبُونَ هـ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ط لابتداء الشرط مع فاء التعقيب. الْفاسِقِينَ هـ عَلى رَسُولِهِ ط حَكِيمٌ هـ الدَّوائِرَ ط دائِرَةُ السَّوْءِ ط عَلِيمٌ هـ الرَّسُولِ ط لَهُمْ ط فِي رَحْمَتِهِ ط رَحِيمٌ هـ.
التفسير:
لما شرح أحوال منافقي المدينة شرع في أحوال المنافقين من أهل البدو فقال وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ. من قرأ بالتخفيف فهو من أعذر إذا اجتهد في العذر وبالغ فيه ومنه قولهم: من أنذر فقد أعذر. فكأنه تعالى فصل بين أصحاب العذر وبين الكافرين فالمعذرون هم الذين أتوا بالعذر وهم أسد وغطفان قالوا: إن لنا أتباعا وعيالا وإن بنا جهدا فأذن لنا في التخلف.
وقيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طيء على أهالينا ومواشينا فقال صلى الله عليه وآله: سيغنيني الله عنكم.
وعن مجاهد: نفر من غفار. ومن قرأ بالتشديد ففيه وجهان: الأوّل أن يكون من التعذير وهو التقصير في الأمر والتواني فيه وحقيقته أن يوهم أن له عذرا فيما يفعل ولا عذر له. الثاني وقد ذكره الفراء والزجاج وابن الأنباري أنه من الاعتذار والأصل فيه المعتذرون أدغمت التاء في الذال بعد نقل حركتها إلى العين. والاعتذار قد يكون بالكذب كقوله تعالى:
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا وقد يكون صحيحا كقول القائل:
ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر أي ما جاء بعذر صحيح. فإذا أخذنا بقراءة التخفيف كان المعذرون صادقين، وإذا أخذنا بقراءة التشديد وفسرناها بالمعتذرين فاحتمل الأمران. ومن المفسرين من رجح جانب صدقهم لأنه تعالى ميزهم من الكاذبين بقوله: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ومنهم من مال إلى أنهم كاذبون. روى الواحدي بإسناده عن أبي عمرو أنه قال: إن أقواما تكلفوا عذرا بباطل وهم الذين عناهم الله بقوله وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ وتخلف آخرون لا بعذر ولا بشبهة عذر جراءة على الله وهم الذين أرادهم الله بقوله: وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وهم منافقو الأعراب الذين لم يجيئوا ولم يعتذروا وظهر بذلك أنهم كذبوا الله ورسوله في ادعائهم الإيمان. سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي من الأعراب عَذابٌ أَلِيمٌ في الدنيا بالقتل وفي العقبى بالنار. وإنما قال: مِنْهُمْ لعلمه بأن بعضهم سيؤمن ويتخلص من هذا العقاب. ثم ذكر أن تكليف الجهاد ساقط عن أصحاب الأعذار الحقيقية فقال لَيْسَ عَلَى(3/517)
الضُّعَفاءِ
وهم الذين في أبدانهم ضعف في أصل الخلقة أو لهرم وَلا عَلَى الْمَرْضى ويدخل فيه أصحاب العمى والعرج والزمانة وكل من كان موصوفا بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ في الغزو على أنفسهم حَرَجٌ قيل:
هم مزينة وجهينة وبنو عذرة، وفيه دليل على أنه لا يحرم عليه الخروج إذا أمكنه الإعانة بمقدار القدرة كحفظ متاع المجاهدين وتكثير سوادهم وإنما يكون ذلك طاعة مقبولة منه إذا لم يجعل نفسه كلا ووبالا عليهم. ثم إنه شرط في جواز القعود النصح لله ورسوله ليحترزوا بعدهم عن إلقاء الإرجاف وإثارة الفتن ويقوموا على إصلاح مهمات بيوتهم.
وبالجملة على كل ما له مدخل في طاعة الله ورسوله وموافقة السر العلن كما يفعل المولى الناصح بصاحبه. ثم قال: ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ أي المعذورين الناصحين مِنْ سَبِيلٍ للعتاب والمؤاخذة. قال بعض أهل الظاهر كداود الأصفهاني وغيره: إن المحسن هو الآتي بالإحسان ورأس الإحسان وسنامه هو قول لا إله إلا الله محمد رسول الله. فهذا يدل على أن المكلف إذا تكلم بهذه الكلمة برئت ذمته عن مطالبة نفسه وماله إلا بدليل منفصل كما أن السلطان لو قال لأهل مملكته تكليفي عليكم كذا وكذا وبعد ذلك لا سبيل لأحد على أحد كان ذلك دليلا على أنه لا تكليف عليهم فيما وراء ذلك لأن باب النفي لا نهاية له فلا ينضبط إلا بهذا الطريق. وعلى هذا لو ورد في القرآن ألف تكليف أو أقل أو أكثر كان ذلك تنصيصا على أن التكاليف محصورة فيها وفيما وراءها ليس لله على الخلق تكليف وأمر ونهي، وبهذا الطريق تصير الشريعة مضبوطة ويكون القرآن وافيا ببيان التكاليف والأحكام، ولا حاجة إلى التمسك بالقياس لأن هذا النص دل على أن الأصل براءة الذمة. فإن كان القياس مفيدا للبراءة أيضا فضائع، وإن كان يفيد شغل الذمة صار مخصصا لعموم النص، وإنه لا يجوز لأن النص أقوى من القياس. ولما ذكر الضعفاء والمرضى والفقراء بيّن قسما رابعا وهم الذين لا يجدون الراحلة وإن قدروا على الزاد فقال: وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ أي على المركوب. قلت: قال في الكشاف: هو حال من الكاف في أَتَوْكَ بإضمار «قد» أي إذا ما أتوك قائلا لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وجوز أن يكون واسطة بين الشرط والجزاء كالاعتراض. قلت: ويحتمل أن يكون بدلا من أَتَوْكَ. قال مجاهد: هم أبناء مقرن معقل وسويد والنعمان،
وقيل: أبو موسى الأشعري وأصحابه أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله يستحملونه ووافق منه غضبا فقال: والله ما أحملكم ولا أجد ما أحملكم عليه فتولوا وهم مدبرون يبكون فدعاهم وأعطاهم ذو داغر الذري. فقال أبو موسى: ألست حلفت يا رسول الله فقال: أما إني إن شاء الله لا أحلف(3/518)
بيمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني.
وقيل: هم البكاءون سبعة نفر من الأنصار معقل بن يسار وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب وعلبة بن زيد وسالم بن عمير وثعلبة بن عنمة وعبد الله بن مغفل، أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله فقالوا: يا نبي الله إن الله عز وجل قد ندبنا للخروج معك فاحملنا على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة نغزو معك. فقال: لا أجد ما أحملكم عليه فولوا وهم يبكون.
وقوله تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ كقولك تفيض دمعا وهو أبلغ من يفيض دمعها لأن العين جعلت كلها فائضة. و «من» للبيان والجار والمجرور في محل النصب على التمييز.
حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا أي على أن لا يجدوا. إِنَّمَا السَّبِيلُ أي سبيل الخطاب والعتاب في أمر الغزو والجهاد عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ في التخلف وهم أغنياء. ثم قال على سبيل الاستئناف رَضُوا كأنه قيل ما لهم استأذنوا وهم قادرون على الاستعداد؟ فقيل:
رضوا بالدناءة والانتظام في جملة الخوالف ومن جملة أسباب الاستئذان أن طبع الله تعالى على قلوبهم. قال أهل العلم: لما قال في الآية الأولى وإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ [التوبة: 86] قال هناك وَطُبِعَ [التوبة: 87] ليكون المجهول مبنيا على المجهول بخلافه في هذه الآية. ثم إن العلم فوق الفقه فكان أنسب بالمقام الذي جرى فيه ذكر الله. أما قوله قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ فإنه علة المنع من الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصير عذره مقبولا فإذا علم بأن القوم يكذبونه وجب عليه تركه. وقوله قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ علة لانتفاء التصديق. وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ يعني رؤية وقوع أي سيقع أنكم هل تبقون على الحالة التي تظهرونها أم لا. وفي قوله ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ تخويف شديد وفيه أنه مطلع على بواطنهم الخبيثة وضمائرهم المملوءة من النفاق والكذب. وإنما لم يقل في هذه الآية و «المؤمنون» كما في الآية التي تجيء، لأن هذه في المنافقين ولا يطلع على ما في باطنهم إلا الله ثم رسوله باطلاع الله إياه أو بنور نبوته كما قال قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ والآية الأخرى في المؤمنين وعباداتهم ظاهرة للكل. وختم آية المنافقين بقوله ثُمَّ تُرَدُّونَ لأنه وعيد فقطعه عن الأول بخلاف آية المؤمنين حيث وصلها بالواو لأنه وعد من الله. ثم ذكر أن منافقي الأعراب سيؤكدون أعذارهم بالأيمان الكاذبة مثل ما حكى تعالى عن منافقي المدينة فقال: سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ أي لأجلكم إِذَا انْقَلَبْتُمْ أي رجعتم إِلَيْهِمْ ولم يذكر المحلوف عليه. والظاهر أنهم حلفوا على أنهم ما قدروا على الخروج ولكن بين غرضهم من الحلف فقال لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ أرادوا الصفح والعفو فأمر الله المؤمنين بإعطاء طلبتهم ولكن على سبيل المقت لا الصفح ولهذا قال ابن عباس: أراد ترك الكلام(3/519)
والسلام.
وقال مقاتل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة: لا تجالسوهم ولا تكلموهم وكانوا ثمانين رجلا منهم جد بن قيس ومعتب بن قشير. ثم بين علة الاجتناب عنهم فقال:
إِنَّهُمْ رِجْسٌ
فكأنهم نجس العين فلا سبيل إلى تطهيرهم بالعتاب والتوبيخ وفي أمثالهم إنما يعاتب الأديم ذو البشرة. المعاتبة المعاودة وبشرة الأديم ظاهره الذي عليه الشعر أي إنما يعاد إلى الدباغ من الأديم ما سلمت بشرته، يضرب لمن فيه مراجعة ومستعتب وإذا لم تكن المعاتبة نافعة فيهم فتركها هو الصواب وَمَأْواهُمْ جهنم منقلبهم النار عتابا توبيخا.
ثم بين أنهم طلبوا إعراض الصفح بقوله يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ نهاهم عن الرضا بقوله فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ الآية، ذلك أن إرادة المؤمن يجب أن تكون موافقة لإرادة الله، وأي فائدة في رضا المؤمنين إذا كان الله تعالى ساخطا عليهم؟. ثم عدد مثالب الأعراب وأراد بهم جمعا معينين كانوا يوالون منافقي المدينة. قال أهل اللغة: رجل عربي إذا كان نسبه إلى العرب ثابتا، ورجل أعرابي إذا كان بدويا سواء كان من العرب أو من مواليهم وجمعه أعراب كالمجوسي والمجوس واليهودي واليهود. فالأعرابي إذا قيل له يا أعرابي فرح، وإذا قيل للعربي يا أعرابي غضب، وذلك أن من استوطن القرى العربية فهو عربي ومن نزل البادية فهو أعرابي ولهذا لا يجوز أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب وإنما هم عرب.
قال صلى الله عليه وسلم: «لا تؤمنّ امرأة رجلا ولا فاسق مؤمنا ولا أعرابي مهاجرا» «1»
قيل: إنما سمى العرب عربا لأن أولاد إسماعيل عليه السلام نشؤا بالعربة وهي من تهامة ونسبوا إلى بلدهم، وكل من يسكن جزيرة العرب وينطق بلسانهم فهو منهم. وقيل: لأن ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم لما في لسانهم من الفصاحة والبلاغة، يحكى عن بعض الحكماء أنه قال: حكمة الروم في أدمغتهم وذلك لأنهم يقدرون على التركيبات العجيبة، وحكمة الهند في أوهامهم، وحكمة اليونان في أفئدتهم وذلك لكثرة ما لهم من المباحث العقلية، وحكمة العرب في ألسنتهم وذلك لحلاوة ألفاظهم وعذوبة عباراتهم. وإنما حكم على الأعراب بأنهم أشد كفرا ونفاقا لأنهم يشبهون الوحوش. سئل بعض الحكماء ما بال أهل البادية لا يحتاجون إلى الطبيب؟ فقال: كما لا يحتاج حمر الوحش الى البياطرة ولاستيلاء الهواء الحار عليهم الموجب لكثرة الطيش والخروج عن الاعتدال، وإن من أصبح وأمسى مشرفا عليه أنوار النبوة ومشرفا باستماع مواعظه وآدابه كيف يكون مساويا
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 31، 78.(3/520)
لمن نشأ كما يشاء من غير سياسة سائس ولا تأديب مؤدب؟! وإن شئت فقس الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «إن الجفاء والقسوة في الفدّادين» «1»
أي الأكارين لأنهم يفدّون أي يصيحون. وقوله: وَأَجْدَرُ أي أولى وأحق ب أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ أي مقادير تكاليفه وأحكامه وما تنتهي إليه الأدلة العقلية والسمعية وَاللَّهُ عَلِيمٌ بما في قلوب أهل البدو والحضر وأصحاب الوبر والمدر حَكِيمٌ في كل ما قدر من الشرائع وما يتبعها من الجزاء. ثم نوع جنس الأعراب فقال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً هو مفعول ثان ليتخذ لأنه بمعنى الجعل والاعتقاد والزعم أي يعتقد أن الذي ينفقه في سبيل الله غرامة وخسران. وقد عرفت أن أصل الغرم اللزوم كأنه اعتقد أنه لزمه لأمر من خارج كتقية أو رياء ليس مما ينبعث من النفس، والمغرم إما مصدر أو موضع.
وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ نوب الزمان وتصاريفه ودوله وكأنها لا تستعمل إلا في المكروه تشبيها بالدائرة التي تحيط بما في ضمنها بحيث لا يوجد منها مخلص. ثم خيّب الله ظنونهم بالإسلام وذويه بأن دعا عليهم بقوله: عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وإنها جملة معترضة كقوله غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة: 64] والسوء بالفتح مصدر أضيف إليه الدائرة للملابسة كقولك «رجل صدق» . قال في الكشاف: وهو ذم للدائرة لأن من دارت عليه ذامّ لها وبالضم اسم بمعنى البلاء. والعذاب، والمراد أنهم لا يرون في محمد ودينه إلا ما يسوءهم. وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالهم عَلِيمٌ بنياتهم. قيل: هم أعراب أسد وغطفان وتميم. ثم ختم الكلام بذكر الصالحين منهم فقال: وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ الآية.
والمعنى أنهم يعتقدون ما ينفقونه سببا لحصول القربات عند الله وسببا لصلوات الرسول عليهم لأنه كان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله: اللهم صل على آل أبي أوفى. ثم إنه تعالى شهد لهم ولأمثالهم بصحة ما اعتقدوه فقال على طريق الاستئناف مؤكدا بحرفي التنبيه والتحقيق أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ ثم فسر القربة بقوله: سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ والسين لتحقيق الوعد. قيل: هم عبد الله ذو البجاد بن ورهطه، أخذت أمه بجادا وهو كساء مخطط فشقته نصفين فردّته بأحدهما وأزرته بالثاني وبعثته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان قائده والله أعلم.
التأويل:
الناس ثلاثة: المتضررون المعذرون المعترفون بتقصيرهم، والقاعدون الكذابون، والناصحون المخلصون في الطلب ولكن فيهم الضعفاء والمرضى والفقراء فلا حرج عليهم في القعود عن طلب الكمال بالظواهر مع اشتغال البواطن في الطلب بقدر
__________
(1) رواه البخاري في كتاب المغازي باب 74. أحمد في مسنده (2/ 258) (33/ 322) .(3/521)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
الاستعداد. وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ بطريق المتابعة لِتَحْمِلَهُمْ على جناح الهمة النبوية وتوصلهم إلى مقامات لم يكونوا بالغيها بجناحي البشرية والروحانية قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ ترفعا ودلالا واستيراء لزناد أشواقهم كما قيل لموسى لن تراني زيادة لشوقه وهم أغنياء لهم الاستعدادات الكاملة فلم يستعملوها في طلب الكمال كسلا وميلا إلى اللذات العاجلة. الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً إن في عالم الإنسانية بدوا هو نفسه وحضرا هو قلبه، والكفر والنفاق للنفس مقتضى الذات كما أن الإيمان للقلب لذاته بالفطرة، وقد يصير القلب كافرا بسراية النفس وقد تصير النفس مؤمنه بسراية القلب، ولكن النفس تكون أشد كفرا من القلب الكافر كما أن القلب يكون أشد إيمانا من النفس المؤمنة. حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ يعني الواردات النازلة على الروح فإن القلب حضر الروح كما أن المدينة حضر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن النفوس من يعتقد أن ما يصرف من أوقاته في طلب الكمال ضائع وخسار وينتظر بالقلب اشتغالا وفترة. عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ باستيلاء القلب عليها وقهرها بما يخالف هواها وَاللَّهُ سَمِيعٌ يجيب هذا الدعاء عَلِيمٌ بمن ينبغي أن يسمع في حقه.
[سورة التوبة (9) : الآيات 100 الى 110]
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)(3/522)
القراآت:
من تحتها بزيادة من: ابن كثير. والباقون بحذفها وبالنصب على الظرف. والْأَنْهارُ بالرفع: يعقوب. الآخرون بالجر. إِنَّ صَلاتَكَ على التوحيد:
حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون على الجمع بكسر التاء علامة للنصب مُرْجَوْنَ بواو ساكنة بعد الجيم: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى أبي بكر وحماد. الباقون بالهمزة المضمومة بعد الجيم. الَّذِينَ اتَّخَذُوا بغير واو:
أبو جعفر ونافع وابن عامر أَسَّسَ بُنْيانَهُ مجهولا في الحرفين: ابن عامر ونافع حرف بسكون الراء: ابن عامر وحمزة وخلف ويحيى وحماد. الباقون بالضم هارٍ بالإمالة:
أبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو وعلي غير ليث، وابن حمدون وحمدويه والنجاري عن ورش وابن ذكوان غير ابن مجاهد والنقاش ويحيى وحماد إلى أن قرأها يعقوب. الباقون إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ فعلا ماضيا أو مضارعا بحذف التاء من التفعل: ابن عامر ويزيد وحمزة وحفص والمفضل وسهل ورويس. تقطع مضارعا مجهولا من التقطع: روح. الباقون تقطع مضارعا مجهولا من التقطيع.
الوقوف:
بِإِحْسانٍ لا لأن قوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خبر وَالسَّابِقُونَ أَبَداً ط هـ الْعَظِيمُ هـ مُنافِقُونَ ط لمن قدر ومن أهل المدينة قوم مردوا، ومن وصل وقف على أَهْلِ الْمَدِينَةِ تقديره هم مردوا عَلَى النِّفاقِ ط ومن قدر ومن أهل المدينة قوم احتمل أن يجعل لا تَعْلَمُهُمْ صفة للقوم فلم يقف لا تَعْلَمُهُمْ ط نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ط عَظِيمٍ هـ ج لاحتمال أن يكون التقدير ومنهم آخرون وأن يكون معطوفا على مُنافِقُونَ أو على قوم المقدر سَيِّئاً ط عَلَيْهِمْ ط رَحِيمٌ هـ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ط لَهُمْ ط عَلِيمٌ هـ الرَّحِيمُ هـ وَالْمُؤْمِنُونَ ط تَعْمَلُونَ هـ يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ط حَكِيمٌ هـ مِنْ قَبْلُ ط الْحُسْنى ط لَكاذِبُونَ هـ أَبَداً ط أَنْ تَقُومَ فِيهِ ط أَنْ يَتَطَهَّرُوا ط الْمُطَّهِّرِينَ هـ فِي نارِ جَهَنَّمَ ط الظَّالِمِينَ ط قُلُوبِهِمْ ط حَكِيمٌ هـ.
التفسير:
لما ذكر الأعراب المخلصين بين أن فوق منازلهم منازل أعلى وأجل وهي منازل السابقين الأوّلين والتابعين لهم بإحسان قال ابن عباس: السابقون الأوّلون من المهاجرين هم الذين صلوا إلى القبلتين وشهدوا بدرا. وعن الشعبي: هم الذين بايعوا بيعة الرضوان بالحديبية ومن الأنصار أهل بيعة العقبة الأولى وكانوا سبعة نفر، وأهل بيعة(3/523)
العقبة الثانية وكانوا سبعين، والذين آمنوا حين قدم عليهم أبو زرارة مصعب بن عمير فعلمهم القرآن. والظاهر أن الآية عامة في كل من سبق في الهجرة والنصرة. قال أهل السنة: لا شك أن أبا بكر أسبق في الهجرة أو هو من السابقين فيها وقد أخبر الله تعالى عنهم بأنه رضي عنهم. ولا شك أن الرضا معلل بالسبق إلى الهجرة فيدوم بدوامه، فدل ذلك على صحة إمامته وإلا استحق اللعن والمقت. قال أكثر العلماء: كلمة «من» في قوله مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ للتبعيض، وإنما استحق السابقون منهم هذا التعظيم لأنهم آمنوا وفي عدد المسلمين في مكة والمدينة قلة وفيهم ضعف فقوي الإسلام بسببهم وكثر عدد المسلمين واقتدى بهم غيرهم. وقد قيل: من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها. وقيل: للتبيين ليتناول المدح جميع الصحابة.
وروي عن حميد بن زياد أنه قال: قلت يوما لمحمد بن كعب القرظي: ألا تخبرني عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان بينهم؟
فقال لي: إن الله تعالى قد غفر لهم وأوجب لهم الجنة في كتابه محسنهم ومسيئهم. قلت له: في أي موضع أوجب لهم الجنة؟ قال: سبحان الله ألا تقرأ قوله تعالى: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ إلى آخر الآية؟
أوجب لجميعهم الرضوان وشرط على التابعين شرطا لم يشترط عليهم وهو الاتباع بالإحسان وذلك أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة لا السيئة، أو بإحسان في القول وهو أن لا يقولوا فيهم سوءا ويحفظوا لسانهم عن الاغتياب والطعن في حقهم. قال العلماء: معنى رضا الله عنهم قبول طاعاتهم. ثم عاد إلى شرح أحوال المنافقين فقال: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ هو خبر ومِنَ الْأَعْرابِ بيان أو حال ومُنافِقُونَ مبتدأ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عطف على الخبر أو خبر لمبتدأ آخر بناء على أن التقدير ومن أهل المدينة قوم مَرَدُوا التركيب يدل على الملابسة والبقاء على هيئة واحدة من ذلك «صرح ممرد» و «غلام أمرد» و «أرض مرداء» لا نبات فيها وتمرد إذا عتا فإن من لم يقبل قول غيره ولم يلتفت إليه بقي كما كان على هيئته الأصلية من غير تغير. فمعنى مردوا على النفاق تمهروا وتمرنوا وبقوا عليه حذاقا معوّدين إلى حيث لا تعلم أنت نفاقهم مع وفور حدسك وقوة ذكائك. ثم قال سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ قال ابن عباس: هما العذاب في الدنيا بالفضيحة والعذاب في القبر.
روى السدي عن أبي مالك أنه صلى الله عليه وسلم قام خطيبا يوم الجمعة فقال: اخرج يا فلان إنك منافق، اخرج يا فلان إنك منافق، حتى أخرج ناسا وفضحهم.
وقال مجاهد: هما القتل والسبي وعذاب القبر. وقال قتادة: بالدبيلة وعذاب القبر. وقال محمد بن إسحق: هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام والمسلمين ثم عذابهم في القبور. وقال الحسن: بأخذ الزكاة من أموالهم وبعذاب القبر. وقيل: أحد العذابين(3/524)
ضرب الملائكة الوجوه والإدبار والآخر عند البعث يوكل بهم عنق من نار. ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ هو الدرك الأسفل من النار. قال الكلبي: وممن حولكم جهينة ومزينة وأشجع وأسلم وغفار، ومن أهل المدينة عبد الله بن أبي وجد بن قيس ومعتب بن قشير وأبو عامر الراهب وأضرابهم. ثم قال وَآخَرُونَ وهو معطوف على مُنافِقُونَ أو مبتدأ.
واعْتَرَفُوا صفته وخَلَطُوا خبره عَسَى اللَّهُ جملة مستأنفة. وقيل: خَلَطُوا حال بإضمار «قد» عَسَى اللَّهُ خبر. وللمفسرين خلاف في أنهم قوم من المنافقين تابوا عن نفاقهم أو قوم من المسلمين تخلفوا عن غزوة تبوك لا للكفر والنفاق ولكن للكسل ثم ندموا على ما فعلوا. عن ابن عباس في رواية الوالبي نزلت في قوم كانوا قد تخلفوا ثم ندموا وقالوا نكون في الكن والظلال مع النساء ورسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الجهاد. روي أنهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام.
وقيل: كانوا عشرة فسبعة منهم حين بلغهم ما نزل في المتخلفين فأيقنوا بالهلاك أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد وقالوا: والله لا نطلق أنفسنا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا ويعذرنا. فقدم رسول الله فدخل المسجد وصلى ركعتين- وكانت هذه عادته كلما قدم من سفر- فرآهم موثقين فسأل عنهم فقالوا: هؤلاء تخلفوا عنك فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم. فقال رسول الله: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم حتى أومر بإطلاقهم فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم فقالوا:
يا رسول الله هذه أموالنا وإنما تخلفنا عنك بسببها فتصدق بها وطهرنا. فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا فنزل خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً. الآية.
والاعتراف هو الإقرار بالشيء عن معرفة والمراد أنهم أقروا بذنوبهم وهذه كالمقدمة للتوبة لأن الاعتراف بالذنب لا يكون توبة إلا إذا اقترن به الندم على الماضي والعزم على تركه في الحال وفي الاستقبال. خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً أي خلطوا كل واحد منهما بالآخر كقولك:
خلطت الماء واللبن. وهذا أبلغ من قولك: خلطت الماء باللبن. لأنك جعلت في الأول كلا منهما مخلوطا ومخلوطا به كأنك قلت: خلطت الماء باللبن واللبن بالماء. ويجوز أن يكون الواو بمعنى الباء من قولك: بعت شاة ودرهما أي شاة بدرهم. وذلك أن الواو للجمع والباء للإلصاق فهما متقاربان. ويجوز أن يقال: الخلط هاهنا بمعنى الجمع. قال أهل السنة: فيه دليل على نفي القول بالمحابطة لأنه لو لم يبق العملان لم يتصور اختلاطهما.
وفي قوله عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ دليل على وقوع التوبة التي أخبر بحصول مقدمتها وهي الاعتراف منهم، وفيه دليل على قبول توبتهم لأن عَسَى من الكريم إطماع(3/525)
واجب. وفائدته أن يكون المكلف على الطمع والإشفاق فلا يتكل ولا يهمل، وفيه أن التوبة بخلق الله. وقالت المعتزلة: معنى أن يتوب أن يقبل التوبة. ورد بأنه عدول عن الظاهر مع أن الدليل العام وهو وجوب انتهاء الكل إلى مشيئته وتكوينه يعضد ما قلناه.
ثم قال سبحانه خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً عن الحسن: كانوا يقولون ليس المراد من هذه الآية الصدقة الواجبة وإنما هي صدقة كفارة الذنب الذي صدر عنهم وبهذا يحصل النظم بينها وبين ما قبلها كما مر. وقال أكثر الفقهاء: المراد بها الزكاة ووجه النظم أنهم لما أظهروا التوبة والندامة أمروا بإخراج الزكاة الواجبة تصحيحا لدعواهم. ومما يدل على ذلك أن الأمر ظاهره الوجوب وأيضا التطهير والتزكية يناسب الواجب لا التطوع. وفي قوله مِنْ أَمْوالِهِمْ دلالة على أن القدر المأخوذ بعض تلك الأموال، وتعيين ذلك البعض إنما عرف من السنة. وفي إضافة المال إليهم دليل على أن المال مالهم ولا شركة للفقير فيه فتكون الزكاة متعلقة بذمته حتى لو تلف النصاب بعد الوجوب بقي الحق في ذمة المالك وهو قول الشافعي. وقوله تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ التاء فيهما للخطاب أي تطهرهم أيها الآخذ وتزكيهم بواسطة تلك الصدقة. وقيل: التاء في تُطَهِّرُهُمْ للتأنيث والضمير للصدقة وفيه نوع انقطاع للمعطوفين. قال العلماء: المعطوفان متغايران لا محالة فالتزكية مبالغة في التطهير أو هي بمعنى الإنماء كأنه تعالى جعل النقصان سببا للإنماء والزيادة والبركة، أو المراد بالتزكية تعظيم شأنهم والإثناء عليهم. قال أبو حنيفة: ظاهر الآية يدل على أن الزكاة طهرة للآثام فلا تجب إلا حيث يمكن حصول الآثام وذلك لا يعلم إلا في حق البالغ العاقل دون الصبي والمجنون. وقال الشافعي: تجب الزكاة في مالهما لأنه لا يلزم من انتفاء سبب معين انتفاء الحكم مطلقا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ قال ابن عباس: معناه ادع لهم. فمن هنا قال الشافعي: السنة للإمام إذا أخذ الصدقة أن يدعو للمتصدق ويقول:
أجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت. وقال آخرون بظاهر اللفظ لما
روي عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كان أبي من أصحاب الشجرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل على آل فلان فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى.
وأكثر الأئمة الآن على أنه لا تحسن الصلاة لغير النبي على غيره إلا تبعا. وأطلق بعضهم- كالغزالي وإمام الحرمين- لفظ الكراهة وقالوا: السلام أيضا في معنى الصلاة.
وأما الشيعة فإنهم يذكرون الصلاة والسلام في حق آل الرسول أيضا كعلي وأولاده عليه السلام وهم على العموم من القرشيين بنو هاشم والمطلب دون بني أمية وبني نوفل وغيرهم. قالوا: لأنها كانت جائزة في حق من يؤدي الزكاة فكيف يمتنع ذكره أو لا يحسن(3/526)
في أهل بيت الرسول؟ ولأن الكل أجمعوا على جوازها بالتبعية فما الفرق؟ وأما السلام فلا كلام عليه لأنه جائز في حق جمهور المسلمين فكيف لا يجوز في آل الرسول؟ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ والسكن ما يسكن إليه المرء وتطمئن به نفسه، وذلك لأن دعاءه يستجاب البتة فيتطهرون بها، وكيف لا يفيض إشراق نفسه عليهم بتوجهه إليهم والترحم لهم؟ احتج مانعو الزكاة بها في زمان أبي بكر قالوا: الوجوب مشروط بحصول السكن والآن لا سكن. وردّ عليهم بسائر الآيات.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حكم بصحة توبة هؤلاء قال الذين لم يتوبوا هؤلاء الذين تابوا كانوا بالأمس معنا لا يكلمون ولا يجالسون فما لهم فنزلت أَلَمْ يَعْلَمُوا يعني غير التائبين.
وقيل: معناه ألم يعلم التائبون قبل أن يتاب عليهم وتقبل صدقاتهم أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ الصحيحة ويقبل الصدقات الصادرة عن خلوص النية. وفائدة توسط هو أن يعلم أن الإلهية هي الموجبة لقبول التوبة لاستغنائه عن طاعة المطيعين ومعصية المذنبين فإذا انتقل العبد من حالة المعصية إلى حالة الطاعة وجب على كرمه قبول توبته. وفيه أيضا أن قبول التوبة ليس إلى الرسول. وفي قوله عَنْ عِبادِهِ دون «من» إشارة إلى البعد الذي يحصل للعبد عن الله بسبب العصيان أو إلى تبعيده نفسه عن الله هضما وانكسارا. وفي إضافة أخذ الصدقات إلى الله بعد أن أمر الرسول بالأخذ تشريف عظيم لهذه الطاعة، وأنها من الله بمكان، وأنه يربيها كما يربي أحد نافلوه حتى إن اللقمة تكون عند الله أعظم من أحد وقد جاء هذا المعنى في الحديث. ثم أمر نبيه بأن يقول للتائبين أو لغير التائبين ترغيبا لهم في التوبة اعْمَلُوا فيه نوع تهديد وتخويف فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وقد مر تفسير مثله عن قريب. والحاصل أنه كأنه قيل لهم اجتهدوا في العمل فإن له في الدنيا حكما وهو أن يراه الله ورسوله والمؤمنون، وفي الآخرة حكما وهو الجزاء. وبوجه آخر كأنه قيل: إن كنت من المحققين فاعمل لله، وإن كنت من الظاهريين فاعمل لتفوز بثناء شهداء الخلق وهم الرسول والمؤمنون فإنهم شهداء الله يوم القيامة، والشهادة لا تصح إلا بعد الرؤية. ولا شك أن رؤية الله تعالى شاملة لأفعال القلوب والجوارح جميعا. أما رؤية الرسول والمؤمنين فلا تشمل أفعال القلوب إلا بإرادة الله واطلاعه وإفشائه. واعلم أنه تعالى قسم المخلفين إلى ثلاثة أقسام: منهم المنافقون الذين مردوا على النفاق، والثاني التائبون المتعرفون بذنوبهم، والثالث الذين بقوا مرقوفا أمرهم وذلك قوله وَآخَرُونَ وإعرابه كإعراب قوله وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا ومعنى مُرْجَوْنَ أي مؤخرون من أرجيته وأرجأته إذا أخرته ومنه قوله: أَرْجِهْ وَأَخاهُ [الأعراف: 111] كما مرّ، وبه سميت المرجئة لأنهم جازمون بغفران ذنب التائب ولكن(3/527)
يؤخرونها إلى مشيئة الله ويقولون: إنهم مرجون لأمر الله. وقال الأوزاعي: لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان. وقال ابن عباس: نزلت في كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، أمر رسول الله أصحابه أن لا يسلموا عليهم ولا يكلموهم ولم يفعلوا كما فعل أبو لبابة وأصحابه من شد أنفسهم على السواري وإظهار الجزع والغم، فلما علموا أن أخذا لا ينظر إليهم فوضوا أمرهم إلى الله وأخلصوا نياتهم فقبلت توبتهم ونزل فيهم وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا كما سيجيء. وقال الحسن: إنهم قوم من المنافقين حذرهم الله بهذه الآية إن لم يتوبوا. وقوله: إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ التشكيك فيه راجع إلى العباد أي ليكن أمرهم على الخوف والرجاء وكان يقول أناس هلكوا إن لم ينزل الله لهم عذرا، ويقول آخرون:
عسى الله أن يغفر لهم. قال الجبائي: جعل أمرهم دائرا بين التعذيب والتوبة فدل ذلك على انتفاء القسم الثالث وهو العفو من غير التوبة، وأجيب بأنه يجوز أن تكون المنفصلة مانعة الجمع فقط. ولما ذكر أصناف المنافقين وبين طرائقهم المختلفة قال: وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا كأنه قال: ومنهم الذين اتخذوا. في الكشاف: أن محله النصب على الاختصاص، أو الرفع على الابتداء وخبره محذوف أي وممن وصفوا هؤلاء الأقوام. قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وعامة أهل التفسير: كانوا اثني عشر رجلا بنوا مسجدا يضارّون به مسجد قباء.
وروي أن بني عمرو بن عوف لما بنوا مسجد قباء بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم فأتاهم فصلى فيه فحسدتهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا: نبني مسجدا كذلك.
واعلم أنه سبحانه حكى أن الباعث لهم على هذا العمل كان أمورا أربعة: الأول الضرار وهو المضارة والثاني الكفر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالإسلام وذلك أنهم أرادوا تقوية أهل النفاق، والثالث التفريق بين المؤمنين لأنهم أرادوا أن لا يحضروا مسجد قباء فتقل جماعتهم ولا سيما إذا صلى النبي في مسجدهم فيؤدي ذلك إلى اختلاف الكلمة وبطلان الألفة، والرابع قوله: وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وقوله مِنْ قَبْلُ يتعلق ب حارَبَ أي من قبل بناء مسجد الضرار. وقال في الكشاف: إنه متعلق ب اتَّخَذُوا والمراد من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلف. قال الزجاج: الإرصاد الانتظار. وقال ابن قتيبة: الانتظار مع العداوة.
وقال الأكثرون: إنه الإعداد. والمراد بمن حارب أبو عامر الراهب والد أبي حنظلة الذي غسلته الملائكة، وسماه رسول الله الفاسق وكان قد تنصر في الجاهلية وترهب وطلب العلم فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم عاداه لأنه زالت رياسته وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد: لا أجد قوما يقاتلونك إلا قاتلتك معهم فلم يزل يقاتله إلى يوم(3/528)
حنين، فلما انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام وأرسل الى المنافقين أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح فإني ذاهب إلى قيصر وآت بجنود ومخرج محمدا وأصحابه من المدينة، فبنوا مسجدا وانتظروا أبا عامر ليصلي بهم في ذلك المسجد. ثم أخبر الله تعالى عن نفاقهم بقوله: وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا
أي ما أردنا ببناء هذا المسجد إِلَّا الخصلة الْحُسْنى وهي الصلاة وذكر الله والتوسعة على المسلمين.
قال المفسرون. إنهم لما بنوا مسجدهم وافق ذلك غزوة تبوك فأتوا رسول الله وقالوا: بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة والليلة المطيرة والليلة الشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة. فقال صلى الله عليه وسلم:
إني على جناح سفر وحال شغل وإذا قدمنا إن شاء الله صلينا فيه. فلما قفل من الغزوة سألوه إتيان المسجد فنزل لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً الآية فدعا بمالك بن الدخشم ومعن بن عدي وعامر بن السكن ووحشي- قاتل حمزة- فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه وأحرقوه ففعلوا وأمر أن يتخذ مكانه كناسة تلقى فيه الجيف والقمامة، ومات أبو عامر بالشام بقنسرين.
وقال الحسن: همّ رسول الله أن يذهب إلى ذلك المسجد فناداه جبرائيل لا تقم فيه.
ولا ريب أن النهي عن القيام فيه يستلزم النهي عن الصلاة فيه. ثم بيّن علة النهي فقال: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أي من ابتداء وجوده أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ والمعنى لو كان القيام في غيره جائزا لكان هذا أولى لاشتماله على الخيرات الكثيرة فكيف إذا كان غيره مشتملا على المفاسد الكثيرة من الضرار وغيره؟ قالت الشيعة في هذا المقام: إن المسجد إذا كان مبنيا على التقوى من أول يوم كان أولى بالصلاة فيه فالإمام أولى بأن يكون متقيا من أول عمره وما ذاك إلا عليّ عليه السلام لأنه لم يكفر بالله طرفة عين. واختلفوا في هذا المسجد فقيل: مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة،
عن أبي سعيد الخدري سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الذي أسس على التقوى. فأخذ الحصباء وضرب بها الأرض وقال: هو مسجدكم هذا مسجد المدينة. وقيل: هو مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهي يوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس وخرج يوم الجمعة،
قال في الكشاف: وهذا أولى لأن الموازنة بين مسجدي قباء أوقع. وقال القاضي: كل مسجد بني على التقوى فإنه يدخل فيه كما لو قال قائل لرجل صالح أحق أن تجالسه لم يكن ذلك مقصورا على واحد. وأيضا كل مسجد بني مباهاة أو رياء وسمعة أو لغرض سوى وجه الله أو بمال غير طيب فهو لاحق بمسجد الضرار. ثم ذكر لمسجد التقوى وصفا آخر وذلك قوله: فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا فقيل: إنه التطهر من الذنوب بالتوبة والاستغفار والإخلاص كما أن أهل مسجد الضرار(3/529)
وصفوا بأضداد هذه الأمور من الضرار والكفر والتفريق، ولأن طهارة الباطن أشد تأثيرا من طهارة الظاهر في القرب من الله. وقيل: إنه التطهر بالماء وذلك أنهم كانوا لا ينامون الليل على الجنابة ويتبعون الماء أثر البول.
وروي أنها لما نزلت مشى رسول الله ومعه المهاجرون حتى وقف على باب مسجد قباء فإذا الأنصار جلوس فقال: أمؤمنون أنتم؟
فسكت القوم. ثم أعادها فقال عمر: يا رسول الله إنهم لمؤمنون وأنا معهم. فقال عليه السلام: أترضون بالقضاء؟ قالوا: نعم قال: أتصبرون على البلاء؟ قالوا: نعم. قال:
أتشكرون في الرخاء؟ قالوا: نعم. فقال صلى الله عليه وسلم: مؤمنون ورب الكعبة. فجلس ثم قال: يا معشر الأنصار إن الله عز وجل قد أثنى عليكم فما الذي تصنعون عند الوضوء وعند الغائط؟ فقالوا: يا رسول الله نتبع الغائط الأحجار الثلاثة ثم نتبع الأحجار الماء. فتلا النبي صلى الله عليه وسلم: رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا
وقيل: يحبون أن يتطهروا بالحمى المكفرة لذنوبهم فحموا بأجمعهم. ومحبة التطهر إيثاره والحرص عليه ومحبة الله الرضا عنهم والإحسان إليهم كما يفعل المحب بمحبوبه. ثم بين أنه لا نسبة بين الفريقين وأن بينهما بونا بعيدا فقال مستفهما على سبيل التقرير أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ وهو مصدر كالعمران وأريد به المبني والمعنى أن من أسس بناء دينه على قاعدة قوية محكمة وهي تقوى الله ورضوانه خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ دينه على ضد ذلك. والشفا هو الشفير أي الشفة، والجرف هو ما إذا سال السيل وانحسر الوادي ويبقى على طرف المسيل طين واه مشرف على السقوط ساعة فساعة فذلك الموضع الذي هو بصدد السقوط جرف، والهار الهائر وهو أيضا المتصدع الذي أشفى على التهدم والسقوط. قال الليث: الهاء مصدرها الجرف يهور إذا انصدع من خلفه وهو ثابت بعد في مكانه، فإذا سقط فقد انهار. وقال في الكشاف: إنه صفة قصرت عن فاعل كخلف من خالف وألفه ليست بألف فاعل إنما هي عينه وأصله «هور» على «فعل» ولا ترى أبلغ من هذا الكلام ولا أدل على حقيقة الباطل، فلكونه على شفا جرف هار كان مشرفا على السقوط، ولكونه على طرف جهنم كان إذا انهار فإنما يسقط في قعر جهنم،
يروى أنه حفرت بقعة من مسجد الضرار فرؤي الدخان يخرج منه.
ثم ذكر أن بنيانهم ذلك سبب لازدياد ريبهم فقال: لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً في كونه سببا للريبة فِي قُلُوبِهِمْ وجوه منها: أن هدمه صار سببا لازدياد شكهم في نبوته، ومنها أنهم ظنوا أن تخريبه لأجل الحسد فارتفع أمانهم عنه وصاروا مرتابين في أنه هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم فلا تزول تلك الريبة إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ أجزاء متفرقة إما بالموت وإما بالسيف وإما بالبلاء فحينئذ يضمحل أثرها عنها. والمقصود أن هذا(3/530)
الشك يبقى في قلوبهم أبدا ويموتون على النفاق. قال في الكشاف: يجوز أن يكون ذكر التقطيع تصويرا لحال زوال الريبة عنها، ويجوز أن يراد حقيقة تقطيعها وما هو كائن منه بقتلهم أو في القبور أو في النار. وقيل: معناه إلا أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندما وأسفا على تفريطهم.
التأويل:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ الذين سبقت لهم العناية الأزلية، أو السابقون الأوّلون عند الخروج من العدم وهم أهل الصف الأول من الجنود المجندة، أو السابقون في جواب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
[الأعراف: 172] الأولون في استماع هذا الخطاب، أو السابقون في استحقاق المحبة عند اختصاصهم بتشريف يحبهم في الأزل، الأولون بأداء حق المحبة في سر يحبونه، أو السابقون عند تخمير طينة آدم في مماسة ذراتهم يد القدرة، الأولون باستكمال تصرف القدرة في كمال الأربعين صباحا، أو السابقون عند رجوعهم بقدم السلوك إلى مقام الوصال، الأولون بالوصول إلى سرادقات الجلال، وهذا السبق مخصوص بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأمته كما
قال: «نحن الآخرون السابقون» «1» .
مِنَ الْمُهاجِرِينَ عن الأوطان البشرية وَالْأَنْصارِ لهم في طلب الحق وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ بذلوا جهدهم في متابعتهم بقدر الإمكان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بإعطاء الاستعدادات الكاملة وَرَضُوا عَنْهُ بإيفاء حقوقها. وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ من أعراب صفات النفس مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ مدينة القلب فمن صفات النفس بعضها منافق كالقوة الشهوية للوقاع فإنها تتبدل بالعفة عند استيلاء القلب على النفس بسياسة الشريعة وتربية الطريقة ظاهرا لا حقيقة لأنها لا تتبدل بالكلية بل تميل إلى الشهوة إذا خليت وطباعها ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «وإن أخوف ما أخاف على أمتي النساء»
ومنها كافرة كالقوة الشهوية في طلب الغذاء فإنها باقية على طلبها ما دام البدن باقيا لاحتياجه إلى بدل ما يتحلل، ومنها مسلمة كالقوة الغضبية والشيطانية من الكبر والحسد والكذب والخيانة فإنها يحتمل أن تتبدل بأضدادها من التواضع والمحبة والصدق والأمانة عند استنارة النفس بنور الإيمان والذكر. فهذه الصفات وغيرها من صفات النفس ما لم تتبدل بالكلية أو لم تكن مغلوبة بأنوار صفات القلب ففيها بعض النفاق كما
قال صلى الله عليه وسلم: «أربع من كن فيه فهو منافق وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدّث كذب وإذا اؤتمن خان وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 68. مسلم في كتاب الجمعة حديث 19، 21. النسائي في كتاب الجمعة باب 1. الدارمي في كتاب المقدمة باب 1.(3/531)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
حتى يدعها» «1»
لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ يعني أن هذه الأفعال لا يعرفها أرباب العلوم الظاهرة وإنما يعرفها أصحاب الكشوف الباطنة. سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ مرة بأحكام الشريعة ومرة بآداب الطريقة ثُمَّ يُرَدُّونَ بجذبات اللطف إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ هو الفطام عن الكونين والفناء في الله أو بجذبات القهر إلى إسبال حجب البعد والبقاء في عالم الطبيعة وَآخَرُونَ يعني القلب وصفاته اعْتَرَفُوا بذنوب ثبوت صفات النفس والتلوث بها خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً هو صدق التوجه وَآخَرَ سَيِّئاً هو مطاوعة النفس والهوى في بعض الأوقات. عَسَى اللَّهُ أن يوفقهم للرجوع إلى طريق الحق بالكلية والإعراض عما سواه. خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها عن دنس حب الدنيا وَتُزَكِّيهِمْ بالأخلاق الفاضلة فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة. وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ فيه أن المعطي يجب أن لا ينظر إلا إلى الله ولا يمنّ على الفقير أصلا وَسَتُرَدُّونَ بأقدام أعمالكم إلى الله الذي يعلم ما غاب عنكم من نتائج أعمالكم وما غبتم عنه من التقدير الأزلي وما تشاهدون بالعيون والقلوب في عالمي الملك والملكوت. وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ أخرت توبتهم ليتردّدوا بين الخوف والرجاء فيطيروا بجناحي القبض والبسط إلى أن يصلوا إلى سرادقات الهيبة والأنس. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بتربية عباده حَكِيمٌ فيما يفعل من القبول والرد. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا في عالم الطبيعة مزبلة النفس مَسْجِداً ضِراراً لأرباب الحقيقة وَكُفْراً بأحوالهم لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ هم أهل الإباحة من مدعي الفقر لا تَقُمْ يا رسول الروح.
أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى هو مسجد القلب جبل على العبودية والطاعة مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من الميثاق رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا هم الأوصاف الحميدة والملكات المزكاة عن دنس الطبيعة ولوث الحدوث. ثم ميز بين أهل السعادة والشقاوة فقال: أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ أي جبل على الخير وما فيه رضا الله لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً لأنهم جبلوا على الشقاء إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ غيروا عن طباعهم وذلك محال أو لا يزال يسري من مزبلة النفس وسخ وظلمة إلى قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم غيروا عن طباعهم وذلك بسكين الرياضة فتزول عنها تلك الملكات.
[سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 119]
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 106. البخاري في كتاب الإيمان باب 24. أبو داود في كتاب السنة باب 15.(3/532)
القراآت:
فَيَقْتُلُونَ مبنيا للمفعول وَيُقْتَلُونَ مبنيا للفاعل: حمزة وعلي وخلف.
الآخرون على العكس. وَيُقْتَلُونَ بالتشديد: أبو عون عن قنبل. إبراهام وكذلك ما بعده: هشام يَزِيغُ بياء الغيبة: حمزة وحفص والمفضل. والباقون بتاء التأنيث خُلِّفُوا بالتخفيف وفتح اللام روى ابن رومي عن عباس. الباقون بالتشديد مجهولا.
الوقوف:
الْجَنَّةَ ط وَيُقْتَلُونَ ط وَالْقُرْآنِ ط بايَعْتُمْ بِهِ ط الْعَظِيمُ هـ لِحُدُودِ اللَّهِ ط الْمُؤْمِنِينَ هـ الْجَحِيمِ هـ إِيَّاهُ ط مِنْهُ ط ج حَلِيمٌ هـ ط ما يَتَّقُونَ ط عَلِيمٌ هـ وَالْأَرْضِ ط وَيُمِيتُ ط نَصِيرٍ هـ تابَ عَلَيْهِمْ ط رَحِيمٌ هـ ط للعطف على النبي خُلِّفُوا ط إِلَّا إِلَيْهِ ط لِيَتُوبُوا ط الرَّحِيمُ هـ الصَّادِقِينَ هـ.
التفسير:
لما شرح فضائح المنافقين وقبائحهم بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وذكر أقسامهم وفرع على كل قسم ما كان لائقا به، عاد إلى بيان فضيلة الجهاد والترغيب فيه فقال: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى الآية.
قال محمد بن كعب القرظي: لما بايعت الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة- وهم سبعون نفسا- قال عبد الله بن رواحة: اشترط لربك ولنفسك ما شئت. فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: الجنة،(3/533)
قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل فنزلت إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى الآية.
قال مجاهد والحسن ومقاتل: ثامنهم فأغلى ثمنهم.
وقال جعفر الصادق عليه السلام: والله ما لأبدانكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها.
واعلم أن هذا الاشتراء وقع مجازا عن الجزاء لأن المشتري إنما يشتري ما لا يملك والعبد وما يملكه لمولاه. ولهذا قال الحسن: اشترى أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها. والمراد بأنفسهم النفوس المجاهدة وبأموالهم التي ينفقونها في أسباب الجهاد وعلى أنفسهم وأهليهم وعيالهم على الوجه المشروع. وهاهنا نكتة هي أن قيم الطفل له أن يبيع مال الطفل من نفسه بشرط رعاية الغبطة، ففي هذه الآية البائع والمشتري هو الله ففيه تنبيه على أن العبد كالطفل الذي لا يهتدي إلى مصالح نفسه وأنه تعالى هو المراعي لمصالحه حتى يوصله إلى أنواع الخيرات وأصناف العادات. وبوجه آخر الإنسان بالحقيقة عبارة عن الجوهر المجرد الذي هو من عالم الأرواح وهذا البدن وما يحتاج اليه من ضرورات المعاش كالآلات والوسائط لتحصيل الكمالات الموصلة الى الدرجات العاليات فالبائع هو جوهر الروح القدسي، والمشتري هو الله، وأحد العوضين الجسد البالي والمال الفاني، والعوض الآخر الجنة الباقية والسعادات الدائمة، فالربح حاصل والخسران زائل ولهذا قال فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وفي قوله يُقاتِلُونَ معنى الأمر كقوله وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصف: 11] وهو كالتفسير لتلك المبايعة فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ أي إنهم يقتلون الكفار فلا يرجعون عنهم حتى يصيروا مقتولين. ومن قرأ بتقديم المجهول فمعناه أن طائفة منهم إذا صاروا مقتولين لم يصر ذلك رادعا للباقين عن المقاتلة بقدر الإمكان. ومن العلماء من خصص هذا الوعد بجهاد السيف لظاهر قوله:
يُقاتِلُونَ. والتحقيق أن كل أنواع الجهاد يدخل فيه لأن الجهاد بالحجة والدعوة إلى دلائل التوحيد أكمل أثرا من القتال ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام: «لأن يهدي الله على يدك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس» «1»
ولأن الجهاد بالسيف لا يحسن إلا بعد تقديم الجهاد بالحجة، ولأن الإنسان جوهر شريف فمتى أمكن إزالة صفاته الرذيلة مع إبقاء ذاته الشريفة كان أولى من إفناء ذاته، ألا ترى أن جلد الميتة لما كان منتفعا به من بعض الوجوه حث الشرع على إبقائه
فقال: «هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به» «2»
قوله
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 102. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 35. أحمد في مسنده (5/ 238) .
(2) رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 100، 102. أبو داود في كتاب اللباس باب 38. النسائي في كتاب الفرع باب 5. أحمد في مسنده (4/ 329، 334) .(3/534)
وَعْداً عَلَيْهِ قال الزجاج: إنه منصوب بمعنى قوله: بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ كأنه قيل: وعدهم الجنة وعدا فهو مصدر مؤكد، وكذا قوله حَقًّا أو هو نعت للمصدر مؤكد وما الذي حصل فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ قيل: وعد المجاهدين على الإطلاق، وقيل: ذكر هذا البيع لأمة محمد، وقيل: الأمر بالقتال وَمَنْ أَوْفى استفهام بمعنى الإنكار أي لا أحد أوفى بما وعد مِنَ اللَّهِ لأنه الغني عن كل الحاجات القادر على كل المقدورات.
وفي الآية أنواع من التوكيدات فأولها قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى وإذا كان المشتري هو الإله الواجب الذات المتصف بجميع الكمالات المفيض لك الخيرات فما ظنك به، ومنها أنه عبر عن إيصال الثواب بالبيع والشراء حتى يكون حقا مؤكدا. ومنها أنه قال بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ بحرف التحقيق وبلام التمليك دون أن يقول بالجنة. ومنها قوله وَعْداً وإنه لا يخلف الميعاد. ومنها قوله عَلَيْهِ وكلمة «على» للوجوب ظاهرا. ومنها قوله:
حَقًّا وهو تأكيد التحقيق. ومنها قوله: فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وإنه يجري مجرى الإشهاد لجميع الكتب الإلهية وجميع الأنبياء والرسل هذه المبايعة. ومنها قوله:
وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ وفيه تنبيه على أنه لا يكذب ولا يخلف البتة. ومنها قوله:
فَاسْتَبْشِرُوا والبشارة الخبر الصدق الأول. ومنها قوله: وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ ثم وصف الفوز ب الْعَظِيمُ واعلم أن هذه الخاتمة تقع على ثلاثة أوجه: أحدها ذلك الفوز بغير «هو» وإنه في ستة مواضع: في «براءة» موضعان، وفي «النساء والمائدة والصف والتغابن» وما في «النساء» بزيادة واو. والآخر وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ بزيادة «هو» وذلك في ستة مواضع أخرى في «براءة» موضعان و «يونس» و «المؤمن» و «الدخان» و «الحديد» وما في براءة أحدهما بزيادة الواو وهو خاتمة هذه الآية، وكذلك ما في «المؤمن» . وسبب هذا الاختلاف أن الجملة إذا جاءت بعد جملة من غير تراخ بنزول جاءت مربوطة إما بواو العطف وإما بكناية تعود من الثانية إلى الأولى وإما بإشارة فيها إليها، وربما جمع بين الشيئين منها والثلاثة للدلالة على المبالغة. وقد جمع في هذه الخاتمة بين الثلاثة لغاية التوكيد والمبالغة، أو لأنه ذكر الكتب الثلاثة فكل رابطة في مقابلة كتاب واحد. وكذلك في «المؤمن» وقع الثلاثة في مقابلة ثلاثة أدعية فَاغْفِرْ وَقِهِمْ وَأَدْخِلْهُمْ قال أبو القاسم البلخي: لا بد من حصول الأعواض على الآلام للأطفال والبهائم قياسا على ما أثبته الله تعالى للمكلفين من العوض على ألم القتل وهو الجنة.
ثم ذكر أن حكم سائر المؤمنين كذلك فقال: التَّائِبُونَ قال الزجاج: إنه مبتدأ محذوف الخبر أي التائبون العابدون من أهل الجنة أيضا وإن لم يجاهدوا كقوله وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [النساء: 95] وقيل: التائبون رفع على البدل من الضمير في(3/535)
يُقاتِلُونَ وقيل: مبتدأ خبره الْعابِدُونَ وما بعده أي التائبون من الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال. أما تفسير هذه الأوصاف فقد قال ابن عباس والحسن:
التائبون هم الذين تابوا من الشرك وتبرأوا عن النفاق. ومال آخرون الى التعميم ليشمل المعاصي أيضا إذ لا دليل على التخصيص والْعابِدُونَ قال ابن عباس: هم الذين يرون عبادة الله واجبة عليهم. وقال الحسن: هم الذين عبدوا الله في السراء والضراء، والعبادة لا شك أنها عبارة عن نهاية التعظيم وغاية الخضوع. وقال قتادة: هم قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم. والْحامِدُونَ هم الذين يقومون بحق شكر نعم الله ويجعلون إظهار ذلك عادة لهم، وذلك أن الحمد ذكر من كان قبل آدم لقول الملائكة وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة: 30] وذكر أهل الدنيا يقولون في كل يوم سبع عشرة مرة الحمد لله رب العالمين، وذكر من يكون بعد خراب الدنيا لقوله: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس: 10] والسَّائِحُونَ قال عامة المفسرين: هم الصائمون لقوله: «سياحة أمتي الصيام» . ثم قيل: هذا صوم الفرض. وقيل: الذين يديمون الصيام. قال الأزهري: إنما قيل للصائم سائح لأن الذي يسيح في الأرض متعبد لا زاد معه فيكون ممسكا عن الأكل والشرب كالصائم. وقيل: أصل السياحة الاستمرار على الذهاب كالماء الذي يسيح والصائم مستمر على فعل الطاعة وترك المنهي عنه من الأكل والشرب والوقاع. وقال أهل المعنى: الإنسان إذا امتنع من الأكل والشرب انفتحت عليه أبواب المعاني والحكم وتحلت له أنوار المعارف والحقائق فيحصل له سياحة في عالم العقول. وقيل: السائحون طلاب العلم ينتقلون من بلد إلى بلد في طلب العلم في مظانه، وكانت السياحة في بني إسرائيل.
قال عكرمة عن وهب بن منبه: لا ريب أن للسياحة أثرا عظيما في تكميل النفس لأنه يلقى أنواعا من الضر والبؤس فيصبر عليها، وقد ينقطع زاده فيتوكل على الله فيصير ذلك ملكة له، وقد ينتفع بالمشاهد والزيارات للأحياء وللأموات ويستفيد ممن هو فوقه ويفيد من هو دونه ويكتسب التجارب ومعرفة الأحوال والأخلاق والسير والآثار الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ يعني المصلين قال بعض العلماء: إنما جعل الركوع والسجود كناية عن الصلاة لأن سائر هيئات المصلي موافقة للعادة كالقيام والقعود، وإنما الفصل بين المصلي وغيره بالركوع والسجود. وقيل: أول مراتب التواضع القيام وأوسطها الركوع وغايتها السجود فخصا بالذكر تنبيها على أن المقصود من الصلاة نهاية الخضوع. ثم قال: الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ ومعناهما مذكور فيما مر إلا أن هاهنا بحثا آخر وهو أنه لم أدخل الواو في قوله: وَالنَّاهُونَ وَالْحافِظُونَ دون سائر الأوصاف؟ وأجيب بأن النسق يجيء(3/536)
بالواو وبغيرها كقوله: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ [غافر: 2] أو المراد أن الموصوفين بالصفات الستة هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر ويكون فيه ترغيب في الجهاد لأن رأس المعروف الإيمان بالله ورأس المنكر الكفر به والجهاد يوجب حصول الإيمان وإزالة الكفر، أو النهي عن المنكر أصعب أقسام التكاليف لإفضائه في الأغلب إلى الخصومة وثوران الغضب فأدخل عليه الواو تنبيها على هذه المخالفة والمباينة. ولبعض النحويين جواب عام يشمل هذه الآية وما في «الكهف» في قوله: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ [الآية: 22] وما في «الزمر» في قوله في ذكر الجنة وَفُتِحَتْ أَبْوابُها [الآية:
73] وما في «التحريم» في قوله: ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً [الآية: 5] وذلك أنهم سموا هذه الواوات واو الثمانية قائلين إن السبعة نهاية العدد ولهذا أكثر ذكرها في القرآن والأخبار.
فالثمانية تجري مجرى استئناف كلام فلهذا فصل بالواو. وأما قوله: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ فكإجمال بعد تفصيل وذلك أن التكاليف إما أن تتعلق بمصالح الدين وهي باب العبادات من الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والإعتاق والنذر ونحوها، أو بمصالح الدنيا وهي المعاملات. وإنها إما لجلب المنافع أو لدفع المضار والمنافع إما أن تكون مقصودة بالأصالة أو بالتبعية. فالمقصودة بالأصالة هي المنافع الحاصلة من طرق الحواس الخمس وهي المذوقات ويدخل فيها كتاب الأطعمة والأشربة والصيد والذبائح والضحايا، والملموسات ويدخل فيها باب أحكام الوقاع فمنها ما يفيد حله كالنكاح والرضاع وما يتبعهما من المهر والنفقة والسكنى وأحوال القسم والنشوز، ومنها ما يوجب إزالته كالطلاق والخلع والإيلاء والظهار واللعان، ومن أحكام الملموسات البحث عما يحل لبسه واستعماله وعما لا يحل كالأواني الذهبية وغيرها. والمبصرات وهو باب ما يحل النظر إليه وما لا يحل، والمسموعات وهو باب ما يحل سماعه وما لا يحل، والمشمومات وقد قيل إنه ليس للفقهاء فيه مجال، ويحتمل أن يقال إن منها جواز استعمال الطيب في بعض الأوقات ومنعه في بعضها كحالة الإحرام. ومنها ما يكره كأكل البصل والثوم للمصلي بالجماعة في المسجد. والمنافع المقصودة بالتبعية هي الأموال والبحث عنها إما من جهة الأسباب المفيدة للملك كالإرث والهبة والوصية وإحياء الموات والالتقاط وأخذ الفيء والغنائم والزكاة، وكالبيع بين العين بالعين أو بيع الدين بالعين وهو السلم أو بالعكس كما إذا اشترى شيئا في الذمة أو بيع الدين بالدين وهو بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه إلا عند تقاص الدينين، أو من جهة الأسباب المفيدة للمنفعة كالإجارة والجعالة وعقد المضاربة، أو من جهة الأسباب التي توجب لغير المالك التصرف فيه كالوكالة والوديعة، أو من جهة الأسباب التي تمنع المالك التصرف في ملكه كالرهن والإجارة والتفليس. وأما دفع المضار(3/537)
والمضرة إما في النفس وهو كتاب الجراح أو في الدين وهو كتاب الجهاد وباب الارتداد وأحكام البغاة، وإما في النسب وهو باب أحكام الزنا والقذف واللعان، وإما في العقل كباب تحريم الخمر، وإما في المال والضرر فيه إما على سبيل الإعلان والجهار وهو الغصب وقطع الطريق، أو على سبيل الخفية وهو السرقة. وهاهنا باب آخر وهو أن كل أحد لا يمكنه استيفاء حقوقه من المنافع ودفع المضار بنفسه عن نفسه لضعفه فلهذا السبب أمر الله بنصب الإمام لتنفيذ الأحكام، وقد يكون للإمام نواب وهم الأمراء والقضاة وليس قول الغير مقبولا إلا بحجة وهي الشهادة والأيمان فحصل من ذلك كتاب آداب القضاء وباب الدعاوى والبينات. فهذا ما أمكن من ضبط معاقد تكاليف الله تعالى وأحكامه وحدوده، وكلها منوطة بأعمال الجوارح دون أعمال القلوب التي لا يطلع عليها إلا الله تعالى. ولكن قوله: وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ يشمل ذلك أيضا بل رعايته أهم من رعاية أحوال الظواهر.
ثم ختم الآية بتكرير البشارة وفيه من كمال العناية ما فيه. ولما بين من أول السورة إلى هاهنا وجوب إظهار البراءة من المنافقين الكفرة الأحياء أراد أن يبين وجوب البراءة من أمواتهم أيضا وإن كانوا أقارب فقال: ما كانَ لِلنَّبِيِّ ومعناه النهي أي ما صح له وما استقام وما ينبغي له ذلك. ثم علل المنع بقوله: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ لأنهم ماتوا على الشرك وقد قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 116] فطلب غفرانهم جار مجرى طلب إخلاف وعد الله ووعيده، وفيه حط لمرتبة النبي حيث يدعو بما لا يستجاب له. وهذه العلة لا تختلف بأن يكونوا من الأباعد أو من الأقارب فلهذا بالغ فيه بقوله: وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى
روى الواحدي بإسناده عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم- وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية- فقال: أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله. فقال أبو جهل وابن أبي أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به أنا على ملة عبد المطلب. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
لأستغفرن لك ما لم أنه عنه فاستغفر له بعد ما مات فقال المسلمون: ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا قد استغفر إبراهيم لأبيه، وهذا محمد يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين فنزلت ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآيتان.
وقيل عن ابن عباس: لما افتتح صلى الله عليه وسلم مكة سأل أي أبويه أحدث به صلى الله عليه وسلم عهدا أي آخرهما موتا؟ فقيل: أمك آمنة. فزار صلى الله عليه وسلم قبرها ثم قام باكيا فقال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمي فأذن لي واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن(3/538)
لي فيه ونزل عليّ ما كانَ لِلنَّبِيِّ الآية.
فقال بعضهم كصاحب الكشاف والحسين بن أبي الفضل: هذا أصح لأن هذه السورة من آخر القرآن نزولا، وكانت وفاة أبي طالب بمكة في أول الإسلام. ويمكن أن يوجه الأول بأنه صلى الله عليه وسلم لعله بقي مستغفرا إلى حين نزول الآية. ثم اعتذر عن استغفار إبراهيم لأبيه بأنه صدر عن موعدة وعدها إياه، وذلك أن أباه كان وعد إبراهيم أن يؤمن فكان يستغفر له بناء على ذلك الوعد. فَلَمَّا تَبَيَّنَ لإبراهيم أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ إما بإصراره على الكفر أو بموته على ذلك أو بطريق الوحي تَبَرَّأَ مِنْهُ وترك الاستغفار. ويجوز أن يكون الواعد إبراهيم عليه السلام ويوافقه قراءة الحسن وعدها أباه بالباء الموحدة وذلك في قوله: لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة: 4] وعده أن يستغفر له رجاء إسلامه. وقيل: المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام الموجب للغفران، وكان يتضرع إلى الله تعالى أن يرزقه الإيمان. وقيل: المقصود النهي عن صلاة الجنازة فكان قوله: وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ [التوبة: 84] في حق المنافقين خاصة وهذه في حق الكافرين عامة. ثم ختم الآية بقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ قال أهل اللغة:
أوّاه «فعال» مأخوذ من حروف «أوه» كلمة يقولها المتوجع، وذلك أن الروح القلبي يختنق عند الحزن في داخل القلب ويشتد حرارته فإذا تكلم صاحبه بها خرج ذلك النفس المختنق فخفف بعض ما به،
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الأوّاه الخاشع المتضرع»
والحلم ضد السفه، وصفه تعالى بشدّة الرأفة والشفقة والخوف والوجل فبين أن إبراهيم مع هذه العادة تبرأ من أبيه حين انقطع رجاؤه منه فأنتم بهذا المعنى أولى. ثم إن المسلمين خافوا أن يؤاخذوا بما سلف منهم من الاستغفار للمشركين فأنزل الله ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً أي عن طريق الجنة أو يحكم عليهم بالضلال أو يخذلهم أو يوقع الضلالة في قلوبهم حين يكون منهم الأمر الذي يستحق به العقاب بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ما يجب عليهم أن يحتزروا عنه. والحاصل أن الله لا يسمي قوما ضلالا بعد إذ سماهم مهديين ما لم يقدموا على شيء مبين خطره، وأما قبل العلم والبيان فلا يؤاخذهم كما لم يؤاخذ بشرب الخمر والربا قبل تحريمهما. وفي الآية تشديد عظيم حيث جعل المهدي للإسلام إذا أقدم على بعض المحظورات داخلا في حكم الضلال. ثم قال: إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ والمراد أن من كان عالما قادرا هكذا لم يحتج إلى أن يفعل العقاب قبل البيان وإزاحة العذر. قالت المعتزلة: وفيه دليل على أنه يقبح من الله الابتداء بالعقاب. وأجيب بأن له ذلك بحكم المالكية غاية ما في الباب أنه لا يعاقب إلا بعد إزاحة العذر عادة، وفي قوله: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ(3/539)
وَالْأَرْضِ
فائدة أخرى هي أنه لما أمر بالبراءة من الكفار بين غاية قدرته ونهاية نصرته لمن أراد استظهارا للمسلمين كيلا تضعف قلوبهم بالانقطاع عن الأقارب والأنصار كأنه قال:
وجب عليكم أن تفيئوا إلى حكمي وتكاليفي لأني إلهكم وأنتم عبيدي.
ثم عاد إلى بقية أحكام الكفار فقال لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ الآية. ولنبن تفسير الآيتين على أسئلة مع جواباتها. فالسؤال الأول: أن قبول التوبة دليل سبق الذنب، والنبي معصوم والمهاجرون والأنصار الذين اتبعوه تحملوا أعباء ذلك السفر الطويل فكان اللائق بحالهم أن يثني عليهم. والجواب أنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إلى التوبة والاستغفار لأنه لا ينفك عن هفوة إما من باب الكبائر وإما من باب الصغائر وإما من باب ترك الأولى. والأفضل كما أشير إلى ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التوبة: 43] ولعله قد وقع في قلوب المؤمنين نوع نفرة من تلك السفرة لما عاينوا المتاعب ولا أقل من الوساوس والهواجس فأخبر الله سبحانه أن تلك الشدائد صارت مكفرة لجميع الزلات التي صدرت عنهم في ذلك السفر الطويل بل في مدة عمرهم وصارت قائمة مقام التوبة المقرونة بالإخلاص. ويجوز أن يكون ذكر الرسول لأجل تعظيم شأن المهاجرين والأنصار لا لأنه صدر عنه ذنب. السؤال الثاني: ما المراد بساعة العسرة؟
فالجواب قد تستعمل الساعة في معنى الزمان المطلق والعسرة تعذر الأمر وصعوبته.
والمراد الزمان الذي صعب عليهم الأمر جدا في ذلك السفر، كانوا في عسرة من الظهر تعتقب العشرة على بعير واحد، وفي عسرة من الزاد تزوّدوا التمر المدود والشعير المسوس والإهالة الزنخة المنتنة، وقد بلغت بهم الشدة إلى أن اقتسم التمرة اثنان ثم إلى أن مصتها جماعة ليشربوا عليها الماء، وفي عسرة من الماء حتى نحروا الإبل واعتصروا فروثها وفي شدة زمان من حرارة القيظ كما قال المنافقون لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ [التوبة:
81] وقال أبو مسلم: يجوز أن يراد بساعة العسرة جميع الأحوال والأوقات العسرة التي مرت عليهم في غزواتهم كما ذكر الله تعالى في غزوة الخندق وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الأحزاب: 10] الثالث: ما معنى كادَ يَزِيغُ وكيف إعرابه؟ والجواب هما استعمالان: كاد زيد يخرج، وكاد يخرج زيد. ومعنى الأول كاد زيد خارجا أي قارب الخروج، ومعنى الثاني كاد الشأن يكون كذا يعني قارب الشأن هذا الخبر. وشبهه سيبويه بقولهم ليس خلق الله مثله أي ليس الشأن ذاك ولكن ضده، والزيغ الميل عن الجادة قيل:
قارب بعضهم أن يميل عن الإيمان. وقيل: هم بعضهم عند تلك الشدة بالمفارقة ثم(3/540)
حبسوا أنفسهم وصبروا وثبتوا وندموا. وقيل: ما كان إلا حديث نفس بلا عزيمة ومع ذلك خافوا أن يكون معصية. الرابع: ذكر التوبة في أول الآية فلم كررها في قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ؟ الجواب إن عاد الضمير في عَلَيْهِمْ الى الفريق فلا تكرار، وإن عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار جميعا فالتكرير للتوكيد مع رعاية دقيقة هي أن التوبة اكتنفت الذنب من جانبيه، وذلك أنه بدأ بذكر التوبة قبل ذكر الذنب تطييبا لقلوبهم ثم ذكر الذنب، ثم أردفه بذكر التوبة ليدل على أن العفو عفو متأكد كما يقول السلطان عند كمال الرضا: عفوت عنك ثم عفوت عنك. وإليه الإشارة
بقوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يغفر ذنب الرجل المسلم عشرين مرة» .
وقال ابن عباس في تفسير قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ يريد ازداد عنهم رضا. ثم أكد هذه المعاني بقوله إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فيشبه أن يراد بالرأفة إزالة الضرر، وبالرحمة إيصال المنفعة. أو الأوّل رحمة سابقة، والثاني لاحقة. الخامس:
الثلاثة الذين خلفوا من هم؟ الجواب هم المرجون لأمر الله كما مرّ، سمّوا مخلفين كما سموا مرجئين أي مؤخرين عن أبي لبابة وأصحابه حيث تيب عليهم بعد أولئك. وقيل:
لأنهم خلفوا عن الغزو ومثله قراءة من قرأ بالتخفيف أي خلفوا الغازين. وقيل: المخلف من خلوف الفم أي فسدوا،
وقرأ جعفر الصادق عليه السلام: خالفوا.
حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ مع سعتها وهو مثل للحيرة في الأمر، وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ أي قلوبهم لا يسعها أنس ولا سرور وَظَنُّوا أي علموا وتيقنوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ سخط اللَّهِ إِلَّا إلى استغفاره
كقوله صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بك منك» .
وقيل: الظن بمعناه الأصلي وهو الرجحان وذلك أنهم ما كانوا قاطعين بأن ينزل الله في شأنهم قرآنا، وإن سلم أنهم قطعوا بذلك إلا أنهم جوزوا أن تكون المدة قصيرة وجواب «إذا» محذوف والتقدير حتى إذا كان كذا وكذا تاب عليهم، وحسن حذفه لتقدم ذكره.
عن كعب بن مالك قال: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمت عليه فرد عليّ كالمغضب بعد ما كان ذكرني في الطريق وقال: ليت شعري ما خلف كعبا فقيل له: ما خلفه إلا حسن برديه والنظر في عطفيه. فقال: معاذ الله ما أعلم إلا فضلا وإسلاما ونهى عن كلامنا- أيها الثلاثة- فتنكر لنا الناس ولم يكلمنا أحد من قريب ولا بعيد، فلما مضت أربعون ليلة أمرنا أن نعتزل نساءنا ولا نقربهن، فلما تمت خمسون ليلة إذا أنا بنداء من ذروة سلع- وهو جبل بالمدينة- أبشر يا كعب بن مالك فخررت ساجدا وكنت كما وصفني ربي ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ [التوبة:
25] وتتابعت البشارة فلبست ثوبي وانطلقت الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو جالس في المسجد وحوله المسلمون فقال إليّ طلحة بن عبيد الله يهرول إلي حتى صافحني وقال: لتهنك توبة(3/541)
الله عليك فلن أنساها لطلحة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يستنير استنارة القمر: أبشر يا كعب بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ثم تلا علينا الآية.
سئل أبو بكر الورّاق عن التوبة النصوح فقال: أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه كتوبة كعب بن مالك وصاحبيه. السادس: قد عرفنا فائدة قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ فما فائدة قوله: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا؟ الجواب معناه رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة بعد أخرى ليستقيموا على توبتهم، أو تاب عليهم في الماضي ليتوبوا في المستقبل إذا فرطت منهم خطيئة علما منهم بأن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة، أو تاب عليهم ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين، أو تاب عليهم لينتفعوا بالتوبة وثوابها لأن الانتفاع بها لا يحصل إلا بعد توبة الله عليهم. وقالت الأشاعرة: المقصود بيان أن فعل العبد مخلوق لله تعالى حتى إنه لو لم يتب عليهم لم يتوبوا. وأيضا قالوا: في الآية دلالة على أن قبول التوبة غير واجب عقلا لأن توبة هؤلاء قد حصلت من أوّل الأمر، ثم إنه صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إليهم وتركهم خمسين يوما. ويمكن أن يجاب بأن شرائط التوبة من الإخلاص والنصح وغير ذلك لعلها لم تكن حاصلة من أوّل الأمر فلهذا تأخر القبول دليله قوله تعالى: حَتَّى إِذا ضاقَتْ الآية.
ثم حث سبحانه المؤمنين على ملازمة سيرة التقوى والانضمام في زمرة أهل الصدق لا النفاق فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية. قال بعض العلماء: ظاهر الأمر للوجوب فوجب على المؤمنين أن يكونوا مع الصادقين لا بمعنى أن يكونوا على طريقهم وسيرتهم، لأن ذلك عدول عن الظاهر بل بمعنى المصاحبة. والكون مع الشيء مشروط بوجود ذلك الشيء فلا بد من وجود الصادقين. ثم إنه ثبت بالتواتر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن التكاليف المذكورة في القرآن متوجهة على المكلفين إلى يوم القيامة فلا يكون هذا الأمر مختصا بالكون مع الرسول وأصحابه في الغزوات بل أعم من ذلك. ثم إن الصادق لا يجوز أن يكون منحصرا في الإمام المعصوم الذي يمتنع خلو زمان التكليف عنه كما يقوله الشيعة، لأن كون كل واحد من المؤمنين مع ذلك الصادق بعد تسليم وجوده تكليف بما لا يطاق، فالمراد بالصادقين أهل الحل والعقد في كل حين، والمراد أنهم إذا أجمعوا على شيء كانوا صادقين فيه محقين ويجب على الباقين أن يكونوا معهم ظاهرا وباطنا. وقال أكثر المفسرين: الصادقون هم الذين صدقوا في دين الله وفيما عاهدوا عليه من الطاعة نية وقولا وعملا. وقيل: أي كونوا مع الثلاثة المذكورين في الصدق والثبات. وعن ابن عباس:
الخطاب لمن آمن من أهل الكتاب أي وافقوا المهاجرين والأنصار في الصدق، وقيل:(3/542)
الخطاب للذين شدوا أنفسهم على السواري. وفي الآية دلالة على فضيلة الصدق وكمال درجته. ومن خصائص الصدق ما
روي أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إني أريد أن أؤمن بك إلا أني أحب الخمر والزنا والسرقة والكذب والناس يقولون إنك تحرم هذه الأشياء كلها ولا طاقة لي بتركها بأسرها، فإن قنعت مني بترك واحد منها آمنت بك، فقبل ذلك وشرط له الصدق ثم أسلم. فلما خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضوا عليه الخمر فقال: إن شربت وسألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شربها وكذبت فقد نقضت العهد، وإن صدقت أقام الحد علي فتركها، ثم عرض عليه الزنا فجاءه ذلك الخاطر فتركه، وكذا في السرقة فعاد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: ما أحسن ما فعلت، لما منعتني عن الكذب انسد أبواب المعاصي علي وتبت عن الكل.
ومن فضائل الصدق أن الإيمان منه لا من سائر الطاعات، ومن معايب الكذب أن الكفر منه لا من سائر الذنوب، ومن مثالب الكذب أن إبليس مع تمرّده وكفره استنكف منه حتى استثنى في قوله لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص: 82] . ثم المقتضي لقبح الكذب هو كونه كذبا عند المعتزلة وكونه مفضيا إلى المفاسد عند الأشاعرة والله أعلم.
التأويل:
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى في التقدير الأزلي ولهذا تيسر لهم الآن بذل النفس والمال في الجهاد الأصغر وفي الجهاد الأكبر، وإنه كما اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ اشترى من أوليائه الصديقين قلوبهم وأرواحهم بأن لهم الجنة. التَّائِبُونَ عما سوى الله الْعابِدُونَ المتوجهون إليه على قدم العبودية الْحامِدُونَ له على ما وفقهم لنعمة طلبه السَّائِحُونَ السائرون إليه بقدمي الصبر والشكر أو التبري والتولي الرَّاكِعُونَ أي الراجعون عن مقام القيام بوجودهم إلى القيام بموجدهم السَّاجِدُونَ الساقطون على عتبة الوحدة بلاهم الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ الحقيقي النَّاهُونَ عما سواه وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ لئلا يتجاوزوا عن طلبه إلى طلب غيره. ما كانَ لِلنَّبِيِّ فيه أن الاجتهاد ليس سببا لنيل المراد، وأن الهداية من مواهب الربوبية لا من مراتب العبودية إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ الأواه هو المتبرئ من المخلوقات لكثرة نيل المواجيد والكرامات فيكون لضيق البشرية تولاه مولاه، فمهما ورد له وأراد الحق ضاق عليه نطاق الخلق فيتأوه عند تنفس القلب المضطر من الخلق إلى الحق. حَلِيمٌ عما أصابه من الخلق للحق فلا رجوع له من الحق إلى الخلق بحال من الأحوال ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم لجبرائيل حين سأله ألك حاجة: أما إليك فلا
وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً ليردّهم بالمكر إلى الاثنينية والبعد بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ إلى الوحدانية والفردانية بالتوحيد والتفريد حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ من آفات(3/543)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
البشرية وعاهات الدنيا فهي رأس كل خطيئة، فإن لم يتحرزوا عنها وقعوا بالاستدراج إلى حيث خرجوا عنها نعوذ بالله من الحور بعد الكور أو نقول: إن الله تعالى بعد إذ هداهم بالإفناء عن الوجود إلى البقاء بالجود لا يردهم إلى بقاء البقاء وهو الإثبات بعد المحو والصحو بعد السكر وقد سماه المشايخ الإثبات التأني حتى يبين لهم ما يتقون من الأعمال والأقوال رعاية لتلك الأحوال. إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ سموات القلوب وَالْأَرْضِ أرض النفوس يُحْيِي بنور ربوبيته من يشاء وَيُمِيتُ عن صفات بشريته من يشاء وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ فلا يشغلنكم طلب الملك عن المالك فإن طالب الملك لا يجد الملك ولا المالك وطالب المالك يجد الملك والمالك جميعا لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ التوبة فضل من الله ورحمة، فقدم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم على المهاجرين ليكون وصول فضله إليهم بعد العبور على النبي تحقيقا لقوله وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ عسرة الدنيا وترك شهواتها. أو نقول لَقَدْ تابَ اللَّهُ أي أفاض أنوار عرفانه على نبي الروح ومهاجري صفاته الذين هاجروا معه من مكة- عالم الروح- إلى مدينة الجسد وَالْأَنْصارِ من القلب والنفس وصفاتهما الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ رجوعه إلى عالم العلو بالعسرة لأنهم من عالم السفل. وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا من النفس والهوى والطبع وما تبعوا الروح عند رجوعه إلى عالمه ابتلاء حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ أرض البشرية شوقا إلى تلك الحضرة وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ تحننا إلى نيل تلك السعادات وتحقق لهم بنور اليقين أن لو بقوا في السفل لا ملجأ لهم من عذاب البعد عن الله إلا الفرار إليه ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ بجذبة العناية، ولو وكلهم إلى طبيعتهم ما سلكوا طريق الحق أبدا مع الصادقين الذين صدقوا يوم الميثاق والله أعلم.
[سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 129]
ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)(3/544)
القراآت:
مَوْطِئاً ونحوه بالياء: يزيد والشموني وحمزة في الوقف غلظة بفتح الغين: المفضل. الباقون بكسرها. أولا ترون بتاء الخطاب للمؤمنين: حمزة ويعقوب.
الباقون على الغيبة.
الوقوف:
عَنْ نَفْسِهِ ط صالِحٌ ط الْمُحْسِنِينَ هـ لا للعطف يَعْمَلُونَ هـ كَافَّةً ط يَحْذَرُونَ هـ غِلْظَةً ط الْمُتَّقِينَ هـ إِيماناً ط يَسْتَبْشِرُونَ هـ كافِرُونَ هـ يَذَّكَّرُونَ هـ إِلى بَعْضٍ ط لحق المحذوف أي يقولون هل يراكم ثُمَّ انْصَرَفُوا ط لا يَفْقَهُونَ هـ عَزِيزٌ ط، على تأويل عليه شفاعة ما عنتم والصحيح الوصل لأن المعنى شديد عليه ما أثمتم ولا وقف في الآية إلى قوله رحيم حَسْبِيَ اللَّهُ ط والأصح الوصل على جعل الجملة حالا أي يكفي الله غير مشارك في الألوهية إِلَّا هُوَ ط الْعَظِيمِ هـ.
التفسير:
لما أمر بموافقة النبي وأصحابه في جميع الغزوات والمشاهد بقوله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [الآية: 119] أكد ذلك المعنى بالنهي عن التخلف عنه فقال: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أي لا يستقيم ولا يجوز لهم. والأعراب الذين كانوا حول المدينة قد ذكرنا- عن ابن عباس- أنهم مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار، وكأنه أراد المعروفين منهم وإلا فاللفظ عام. ومعنى وَلا يَرْغَبُوا ولا أن يرغبوا. يقال: غبت بنفسي عن هذا الأمر أي أبخل بها عليه ولا أتركها له، والمراد أنه لا يصح لهم أن يرغبوا عن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب صلاح أنفسهم وبقائها بل عليهم أن يصحبوه على البأساء والضراء ويرضوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول لنفسه لأن نفسه أعز نفس عند الله، فإذا تعرضت مع كرامتها للخوض في شدة وجب على سائر الأنفس أن لا يضنوا بها على ما سمح بنفسه عليه. وفي هذا النهي مع التهييج توبيخ عظيم، ولا يخفى أن الجهاد لا يجب على كل فرد(3/545)
بعينه للإجماع وأن أصحاب الأعذار من الضعفاء والمرضى ونحوهم مخصوصون بالعقل وبالنقل فيبقى ما وراء هاتين الصورتين داخلا تحت عموم الآية. ثم ذكر ترغيبا يجري مجرى علة المنع من التخلف فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ أي الوجوب الدال عليه بقوله: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ بسبب أنهم مثابون على أنواع المتاعب وأصناف الشدائد بل على جميع الحركات والسكنات مدة الذهاب والإياب. والظمأ شدة العطش، والنصب الإعياء والتعب، والمخمصة المجاعة الشديدة التي تظهر ضمور البطن، والموطئ إما مصدر كالمورد أو مكان وعلى التقديرين الضمير في يَغِيظُ عائد إلى الوطء الصريح أو المقدر. ثم الوطء يجوز أن يكون حقيقة فيراد به الدوس بالأقدام وبحوافر الخيول وبأخفاف الإبل، ويجوز أن يكون مجازا فيراد به الإيقاع والإهلاك. قال ابن الأعرابي:
غاظه وغيظه وأغاظه بمعنى. ويقال نال منه إذا رزأه ونقصه وهو عام في كل ما يسوءهم ويلحق بهم ضررا من قتل أو أسر أو غنيمة أو هزيمة، والمراد أنهم لا يتصرفون في أرض الكفار تصرفا يغيظهم ويرزؤهم شيئا إلا كتب لهم به عمل صالح. وفيه دليل على أن من قصد طاعة الله كان قيامه وقعوده ومشيه وحركته وسكونه كلها حسنات مكتوبة عند الله، وكذا القول في طرف المعصية ولكن بالضد فما أعظم بركة الطاعة وما أشد شؤم المعصية.
وبهذه الآية استشهد أصحاب أبي حنيفة أن المدد القادم بعد انقضاء الحرب يشارك الجيش في الغنيمة لأن وطء ديارهم مما يغيظهم وينكي فيهم. وقال الشافعي: لا يشاركون الغانمين في الغنيمة وإن شاركوهم في الثواب لأن الغنيمة من خواص المحاربين ومن قد تعاطى خطرا.
قال قتادة: هذا الحكم من خواص رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلف عنه إلا بعذر.
وقال ابن زيد: هذا حين كان في المسلمين قلة فلما كثروا نسخه الله بقوله: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً. وقال عطية: ما كان لهم التخلف إذا دعاهم الرسول وأمرهم. قال العلماء: وكذلك غيره من الأئمة والولاة إذا عينوا طائفة لأنا لو جوزنا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعض دون بعض فيؤدي الى تعطيل الجهاد.
قوله: وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً. قال المفسرون: يريد تمرة فما فوقها وعلاقة سيف أو سوط وما أربى عليها مثل ما أنفق عثمان في جيش العسرة وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً أي أرضا في ذهابهم ومجيئهم وهذا شائع في استعمال العرب يقولون: لا تصل في وادي غيرك. وهو في الأصل فاعل من ودى إذا سال. والوادي كل منعطف بين جبال وآكام يكون منفذا للسيل. إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ ذلك الإنفاق والقطع أو ذلك العمل الصالح المعهود في الآية المتقدمة. ثم ذكر غاية الكتب فقال: لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أي أثبت في صحائفهم(3/546)
لأجل الجزاء جزاء أحسن من أعمالهم وأجل. وقيل: الأحسن من صفة الفعل أي يجزيهم على الأحسن وهو الواجب والمندوب دون المباح. واعلم أنه سبحانه عدد أشياء بعضها ليس من أعمال المجاهدين وهو الظمأ والنصب والمخمصة، وباقيها من أعمالهم وهي الوطء والنيل والإنفاق وقطع الأرض، وقسم هذا الباقي قسمين فضم شطرا منه إلى ما ليس من أعمالهم تنبيها على أنه في الثواب جار مجرى عملهم ولهذا صرح بذلك فقال: إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ أي جزاء عمل صالح وأكد ذلك بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. ثم أورد الشطر الباقي لغرض آخر وهو الوعد بأحسن الجزاء، واقتصر هاهنا على قوله إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لأن هذا القسم من عملهم فلم يحتج إلى تصريح بذلك، أو اكتفاء بما تقدم، أو لأن الضمير عائد إلى المصدر الدال عليه الفعل والله تعالى أعلم بمراده. ثم قال: وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ وفيه قولان: أحدهما أنه من بقية أحكام الجهاد لأنه سبحانه لما بالغ في عيوب المنافقين كان المسلمون إذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى الكفار ينفرون جميعا ويتركونه بالمدينة وحده فنزلت الآية. قاله ابن عباس. والمعنى أنه لا يجوز للمؤمنين أن ينفروا بأسرهم إلى الجهاد بل يجب أن يصيروا طائفتين إحداهما لملازمة خدمة الرسول والأخرى للنفر إلى الغزو. ثم هاهنا احتمالان لأنه قال محرضا فَلَوْلا نَفَرَ أي هلا نفر مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ فذهب الأكثر إلى أن الضمير في لِيَتَفَقَّهُوا عائد إلى الفرقة الباقية في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم إذا بقوا في خدمته شاهدوا الوحي والتنزيل وضبطوا ما حدث من الشرائع، وعلى هذا فلا بد من إضمار والتقدير: فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة وأقام طائفة ليتفقه المقيمون في الدين وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ النافرين إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ معاصي الله عند ذلك وبهذا الطريق يتم أمر الدين بهاتين الطائفتين وإلا ضاع أحد الشقين، والاحتمال الآخر ما روي عن الحسن أن الضمير يعود إلى الطائفة النافرة. وتفقههم هو أنهم يشاهدون ظهور المسلمين على المشركين وأن العدد القليل منهم من غير زاد ولا سلاح كيف يغلبون الجم الغفير من الكفار فينتبهون لدقائق صنع الله في إعلاء كلمته. فإذا رجعوا إلى قومهم أنذروهم بما شاهدوا من دلائل الحق فيحذروا أي يتركوا الكفر والشرك والنفاق. القول الثاني أنه ليس من بقية أحكام الجهاد وإنما هو حكم مستقل بنفسه، ووجه النظم أن الجهاد أمر يتعلق بالسفر وكذلك التفقه، أما في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فوجوبه ظاهر لمن ليس بحضرته حتى يصل إليه ويستفيد من خدمته لأن الشريعة ما كانت مستقرة بل كانت تتجدد كل يوم شيئا فشيئا، وأما في زماننا فلا ريب أنه متى عجز عن التفقه إلا بالسفر وجب(3/547)
عليه، وإن أمكنه في الحضر فلا شك أن للسفر بركة أخرى يعرفها كل من زاول الأسفار وحاول الأخطار. ومعنى لِيَتَفَقَّهُوا ليتكلفوا الفقاهة في الدين ويتجشموا المتاعب في دلائلها التفصيلية. والظاهر أن المراد في الآية أعم من ذلك بحيث يشمل علوم الشرع كلها من التفسير والحديث وأصول الدين وأصول الفقه ومقدمات كل من ذلك وغاياتها بحسب الإمكان النوعي أو الشخصي. وفي قوله: وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إشارة إلى أن الغرض الأصلي من التعلم هو الإنذار والإرشاد لا ما يقصده علماء السوء من الأغراض الفاسدة كالمطاعم والملابس والمناصب والمفاخر، أعاذنا الله تعالى بفضله من قبح النية وفساد الطوية، وجعلنا ممن لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا. القائلون بأن خبر الواحد حجة قالوا:
أوجب الله تعالى أن يخرج من كل فرقة طائفة، والخارج من الثلاثة اثنين أو واحدا. ثم إنه أوجب العمل بأخبارهم بقوله: وَلِيُنْذِرُوا وأجيب بأن إيجاب الإنذار لا يدل على وجوب العمل لأن الشاهد الواحد يلزمه أداء الشهادة وإن لم يلزم القبول ورد بأن قوله: لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إيجاب للعمل بأخبارهم. ثم أرشد سبحانه إلى ترتيب القتال فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ أي يقربون منكم مبتدأ من الأقرب ومنتقلا إلى الأبعد.
والقتال واجب مع كافة الكفر بآية القتال، ولكن هذه الآية أخص لأن الغرض منها الترتيب ما لم يدع إلى قتال الأبعد قبل دفع الأقرب ضرورة فلا تكون هذه منسوخة بآية القتال على ما نقل عن الحسن، وإنما وجب الابتداء بالغزو من المواضع القريبة لأن قتال الكل دفعة متعذر وللأقرب ترجيح ظاهر كما في الدعوة وكما في سائر المهمات مثلا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يبتدأ بالجمع الحاضرين ثم ينتقل الى الغائبين. وأيضا المئونة في قتال الأقربين من النفقة والدواب تكون أقل والقتال معهم يكون أسهل للوقوف على أحوالهم وعدد عسكرهم، والفرقة المجاهدة إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد فقد عرضوا الذراري للفتنة. وقد حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه ثم غيرهم من عرب الحجاز ثم غزا الشام.
ويروى أن أعرابيا جلس على المائدة وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة فقال صلى الله عليه وسلم: كل مما يليك.
فثبت بهذه الوجوه أن الابتداء بالأقرب فالأقرب واجب ما لم يضطر الى العدول ضرورة. وقوله وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً أي شدة نظير قوله:
وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم: 9] ومن قرأ بفتح الغين فهو المصدر أيضا كالسخطة وهي لفظة جامعة للجراءة والصبر على القتال ولشدة العداوة والعنف في القتل والأسر، كل ذلك فيما يتصل بالدعوة إلى الدين إما بإقامة الحجة وإما بالسيف، أما فيما يتصل بالبيع(3/548)
والشراء والمجالسة فلا وليكن تقوى الله سبحانه على ذكر منه في موارده ومصادره، ولهذا ختم الآية بقوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ فإن قلته قتله لله وان تركه على الجزية تركه لله وإن كسر عدوه وآل الأمر إلى أخذ الغنيمة راعى فيه حدود الله. ثم حكى بقية فضائح أعمال المنافقين فقال: وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أي يقول بعض المنافقين لبعض إنكارا واستهزاء بالمؤمنين المعتقدين زيادة الإيمان بزيادة العلم الحاصل بالوحي والعمل به، أو يقولونه لقوم من المسلمين وغرضهم صرفهم عن الإيمان والمقول أَيُّكُمْ مرفوع بالابتداء وخبره زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً. ثم إنه تعالى حكى أنه حصل للمؤمنين بسبب نزول هذه السورة أمران: أحدهما ازدياد الإيمان وقد مر معناه في أول سورة الأنفال، والثاني الاستبشار وهو استدعاء البشارة إما بثواب الآخرة وإما بالعزة والنصرة في الدنيا والمراد أنهم يفرحون بسبب تلك التكاليف الزائدة من حيث إنه يتوسل بها إلى مزيد الثواب. وحصل للمنافقين الذين لهم عقائد فاسدة وأخلاق ذميمة أمران:
أولهما زيادة الرجس لأن تكذيب سورة بعد تكذيب مثلها انضمام كفر إلى كفر أو لأن حصول حسد وغل ونفاق عقيب أمثالها ازدياد ملكة ذميمة غب أخرى، وثانيهما بقاؤهم على تلك العقائد والأعمال إلى أن ماتوا لأن الملكة الراسخة لا تزول إلا إن مات صاحبها، وإسناد زيادة الرجس إلى السورة إسناد حقيقي عند الأشاعرة لأنهم يقولون إنه سبحانه يخلق الكفر والإيمان في العبد فلا يبعد إحداث السورة فيهم الرجس، وإسناد مجازي عند المعتزلة لأنهم يقولون إنهم أحدثوا الرجس من عند أنفسهم حين نزول السورة بدليل أن الآخرين سمعوا السورة وازدادوا إيمانا. والتحقيق فيه أن النفس الطاهرة النقية عن درن الدنيا باستيلاء حب الله والآخرة إذا سمعتها صار سماعها موجبا لازدياد رغبته في الآخرة ونفرته عن الدنيا. وأما النفس الحريصة المتهالكة على لذات الدنيا وطيباتها الغافلة عن حب الآخرة وعشق المولى إذا سمعتها مشتملة على تعريض النفس للقتل والمال للنهب بسبب الجهاد زادت نفرته عنها وإنكاره عليها وكل بقدر. ثم عجب من حال المنافقين فقال: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قال ابن عباس: أي يمتحنون بالمرض ثُمَّ لا يَتُوبُونَ من النفاق ولا يتعظون بذلك المرض كما يتعظ المؤمن فإنه عند ذلك يتذكر ذنوبه وموقفه بين يدي ربه فيزيده ذلك إيمانا وخوفا. وقال مجاهد:
بالقحط والجوع. وقال قتادة: بالغزو أو الجهاد فإن تخلفوا وقعوا في ألسنة الناس باللعن والخزي، وإن ذهبوا وهم على حالة النفاق عرضوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنهب من غير فائدة. وقال مقاتل: كانوا يجتمعون على ذكر الرسول بالطعن فيخبره جبرائيل فيوبخهم(3/549)
بذلك ويعظهم فما كانوا يتعظون. ثم ذكر نوعا آخر من مخازيهم فقال وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ أي سورة مشتملة على ذكرهم أو أعم من ذلك. والنظر نظر الطعن والاستهزاء والازدراء بالوحي قائلين هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المسلمين لننصرف فإنا لا نصبر على استماعه ويغلبنا الضحك فنخاف الافتضاح بينهم لأن نظر التغامز دال على ما في الباطن من الإنكار الشديد، أو أرادوا إن كان من ورائكم أحد فلا تخرجوا وإلا فاخرجوا لنتخلص من هذا الإيذاء وسماع الباطل. ثُمَّ انْصَرَفُوا أي من مكان الوحي إلى مكانهم أو عن استماع القرآن الى الطعن فيه. ومعنى صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ قال ابن عباس: منعهم عن كل رشد وخير. وقال الحسن: طبع الله على قلوبهم. وقال الزجاج:
أضلهم الله. قالت الأشاعرة: هو إخبار عما فعل الله بهم من الصد عن الإيمان والمنع منه.
وقالت المعتزلة: هو دعاء عليهم بالخذلان وبصرف قلوبهم عن الانشراح، أو إخبار بأنه صرفهم عن الألطاف التي يختص بها من آمن بها، أو المراد صرف قلوبهم بما أورثهم من الغم والكيد. قالوا: ومعنى قوله: لا يَفْقَهُونَ لا يتدبرون حتى يفقهوا. وعند الأشاعرة:
هم قوم جبلوا على ذلك. يحكى عن محمد بن إسحق أنه قال: لا تقولوا انصرفنا من الصلاة فإن قوما انصرفوا صرف الله قلوبهم، لكن قولوا قضينا الصلاة كان مقصوده التفاؤل باللفظ الوارد في الخير دون الشر فإنه تعالى قال: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] . ثم لما أمر رسوله في هذه السورة بتبليغ تكاليف شاقة يعسر تحملها ختم السورة بما يهون الخطب في تحملها فقال: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنس البشر لا الملك لأن الجنس إلى الجنس أميل وبه آلف وآنس، أو الخطاب للعرب والمقصود ترغيبهم في نصرته والقيام بخدمته لأن كل ما يحصل له من الدولة والرفعة فإن ذلك سبب لعزهم وفخرهم لأنه من أبناء جلدتهم، أو الخطاب لأهل الحرم خاصة لأنهم كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته وكانوا يخدمونهم ويقومون بإصلاح مهماتهم فكأنه قيل لهم: كنتم قبل مقدمه مجدين في خدمة أسلافه فلم تتكاسلون في خدمته مع أنه لا نسبة له في الشرف إلى آبائه؟ أو المقصود من ذكر هذه الصفة التنبيه على طهارته كأنه قيل: هو من عشيرتكم تعرفونه بالصدق والأمانة والعفاف، وتعرفون كونه حريصا على دفع الآفات عنكم وإيصال الخيرات إليكم. فإرسال من هذه حاله وصفته يكون من أعظم نعم الله عليكم. وقرىء مِنْ أَنْفُسِكُمْ بفتح الفاء أي من أشرفكم وأفضلكم. وتنسب هذه القراءة الى النبي والوصي وأهل البيت عليهم السلام. ثم وصفه بما تستتبعه المجانسة والمناسبة من النتائج وذلك قوله: عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ العزة(3/550)
الغلبة والشدة والعنت المشقة والوقوع في المكروه والإثم. و «ما» مصدرية أي شديد شاق عليه- لكونه بعضا منكم- عنتكم ولقاؤكم المكروه، وأولى المكاره بالدفع عقاب الله وهو إنما أرسل لدفع هذا المكروه. حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ الحرص يمتنع أن يتعلق بذواتهم فالمراد حريص على إيصال الخيرات إليكم في الدارين فالصفة الأولى لدفع الآفات والثانية لإيصال الخيرات والسعادات فلا تكرار. وقال الفراء: الحريص الشحيح والمعنى أنه شحيح عليكم أن تدخلوا النار وفيه نوع تكرار. ثم بين أنه رحمة للعالمين فقال بِالْمُؤْمِنِينَ أي منكم ومن غيركم رَؤُفٌ رَحِيمٌ قال ابن عباس: لم يجمع الله بين اسمين من أسمائه إلا له، وحاصل هذه الخاتمة أن هذا الرسول منكم فكل ما يحصل له من العز والشرف فذاك عائد إليكم وإنه كالطبيب الحاذق وكالأب الشفيق وإذا عرف أن الطبيب حاذق والأب مشفق فالعلاج والتأديب منهما إحسان وإحمال، وإن كان صعبا مؤلما فاقبلوا ما أمركم به من التكاليف وإن كانت شاقة لتفوزوا بسعادة الدارين، ثم قال لرسوله فإن لم يقبلوا بل أعرضوا وتولوا فاتركهم ولا تلتفت إليهم وارجع في جميع أمورك إلى الله الذي بالحق أرسلك فهو كافيك وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ فلا يخرج عن قبضة قدرته وتصرفه شيء لأنه يحيط بالعرش وبما يحويه العرش والله أعلم.
التأويل:
ما كانَ لِأَهْلِ مدينة القالب وهو النفس والهوى والقلب وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ الصفات النفسانية والقلبية أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ الروح السائر إليه ولا يبذلوا وجودهم عند بذل وجوده بالفناء في الله ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ من ماء الشهوات وَلا نَصَبٌ من أنواع المجاهدات وَلا مَخْمَصَةٌ بترك اللذات وحطام الدنيا في طلب الله لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً من مقامات الفناء يَغِيظُ كفار النفس والهوى وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ الشيطان والنفس والدنيا بلاء ومحنة وفقرا وحزنا وغير ذلك من أسباب الفناء إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ من البقاء بالله بقدر الفناء في الله وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً هي بذل الصفات وَلا كَبِيرَةً هي بذل الذات في صفات الله وفي ذاته وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً من أودية الدنيا والآخرة والنفس والهوى والقلب والروح. أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأن عملهم بقدر معرفتهم وجزاؤه يضيق عنه نطاق فهمهم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ [السجدة: 17] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا في السير إلى الله وبالله وفي الله، فهلا نفر من كل قوم وقبيلة فرقة طائفة هم خواصهم وأهل الاستعداد الكاملون ليتعلموا السلوك ويخبروا بذلك قومهم لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ من غير الله. قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ من كفار النفس والهوى وصفاتها(3/551)
وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً عزيمة صادقة في ترك شهواتها وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ أي لموت قلبهم لتزايد ظلمة النفاق كل حين، ثم أخبر عن موت القلب بقوله: أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ والفتنة موجبة لانتباه القلب الحي إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق:
37] أي قلب حي هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ في مقام الإنكار والنفاق أي هل يرى محمد إنكارنا على رسالته والقرآن، فإن كان رسولا يرانا بنور رسالته ثُمَّ انْصَرَفُوا على هذا الحسبان لأن قلوبهم مصروفة وليس لهم فقه القلب لأن ذلك من أمارات حياة القلب.
مِنْ أَنْفُسِكُمْ تسكين للعوام لئلا يتنفروا عنه وإشارة للخواص إلى أن البشر لهم استعداد الوصول والوصال، فإن لم يكن بالاستقلال فبالمتابعة فاتبعوني يحببكم الله. ومن قرأ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي أشرفكم فلأنه أوّل جوهر خلقه الله تعالى
«أول ما خلق الله تعالى روحي»
ولاختصاصه بالخلاص عن تعلق الكونين وبلوغه إلى قاب قوسين أو أدنى وتحليه بحلية فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم: 10] ولعلو همته، ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] ولرؤيته سر القدر ولَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18] بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فمن رأفته أمر بالرفق كما
قال: «إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه بالرفق» «1»
ومن رحمته قيل له فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159] وهاهنا نكتة وهي أن رأفته ورحمته لما كانت مخلوقة اختصت بالمؤمنين فقط، وكانت رحمته تعالى ورأفته للناس عامة إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ونكتة أخرى هي أن رحمته صلى الله عليه وسلم عامة للعالمين بقوله: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] وأما رحمته المضمومة الى الرأفة فخاصة بالمؤمنين وكأن الرأفة إشارة إلى ظهور أثر الدعوة في حقهم، فالمؤمنون أمة الدعوة والإجابة جميعا وغيرهم أمة الدعوة فقط فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لأن المقصود من التبليغ قد حصل لك وهو وصولك إلى الله أعرضوا عن دعوتك أو أقبلوا والله المستعان.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (3/ 199) .(3/552)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
(سورة يونس)
(مكية إلا ثلاث آيات قوله تعالى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ إلى آخرهن حروفها 5567 كلماتها 1832 وآياتها 109)
[سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9)
دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)
القراآت:
الر بالإمالة وكذلك ما بعده: أبو عمرو وخلف وحمزة وعلي والخراز عن هبيرة والنجاري عن ورش ويحيى وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. لَساحِرٌ بالألف: ابن كثير وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون لسحر حَقًّا إِنَّهُ بالفتح.
يزيد. ضِياءً بالهمز حيث كان: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل يُفَصِّلُ بالياء: ابن(3/553)
كثير وعمرو وسهل ويعقوب وحفص والمفضل والعجلي. الباقون بالنون. وَاطْمَأَنُّوا بغير همز: الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف.
الوقوف:
الر ق كوفي الْحَكِيمِ هـ ط عِنْدَ رَبِّهِمْ ط مُبِينٌ هـ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ط إِذْنِهِ ط فَاعْبُدُوهُ ط تَذَكَّرُونَ هـ جَمِيعاً ط، حَقًّا ط، إلا لمن قرأ أنه بالفتح. بِالْقِسْطِ ط يَكْفُرُونَ هـ وَالْحِسابَ ط إِلَّا بِالْحَقِّ ط لمن قرأ نفصل بالنون، ومن قرأ بالياء أمكنه أن يجعل يُفَصِّلُ حالا. يَعْلَمُونَ هـ يَتَّقُونَ هـ غافِلُونَ هـ لا لأن غافِلُونَ خبر «إن» إِنَّ ج ط للحذف تقديره يهديهم ربهم بإيمانهم إلى دار البقاء مع اتحاد المقصود وتمام الموعود النَّعِيمِ هـ سَلامٌ ج ط لأن الجملتين وإن اتفقتا فقد اعترضت جملة معطوفة أخرى لأن قوله وَآخِرُ دَعْواهُمْ معطوف على دَعْواهُمْ الأوّل الْعالَمِينَ هـ.
التفسير:
اتفقوا على أن قوله الر ليس بآية وعلى أن طه آية. ولعل الفرق أن الر لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده، عن ابن عباس الر معناه انا الله أرى. وقيل:
لا رب غيري. وقيل: الر وحم ون اسم الرحمن تِلْكَ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات، والتبعيد للتعظيم، والكتاب السورة، والحكيم ذو الحكمة لاشتماله عليها أو وصف بصفة من تكلم به ومنه قولهم للقصيدة حكيمة. وقيل: «فعيل» بمعنى «فاعل» لأنه يحكم بين الحق والباطل، أو يحكم بأن محمدا صادق لأن القرآن أظهر معجزاته وأبقاها.
وقيل: بمعنى مفعول أي حكم فيه بجميع المأمورات والمنهيات وقيل: بمعنى المحكم والإحكام المنع من الفساد وذلك أنه لا يمحوه الماء ولا يحرقه النار ولا يغيره الدهور.
ويحتمل أن يقال: الكتاب الحكيم هو القرآن أو اللوح المحفوظ أو التوراة والإنجيل، لأن جميع الكتب الإلهية متوافقة في الأصول، ويجوز أن يكون تِلْكَ إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن. واعلم أنه سبحانه لما ختم السورة المتقدمة بقوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: 127] صدر هذه السورة بتعديد بعض الحروف على طريق التحدي، وذلك أن حروف القرآن من جنس الحروف التي يتلفظون بها فلولا أنه معجز لعارضوه وناقضوه. ولما بين بهذا الطريق أن محمدا رسول حق من عند الله أنكر على كفار قريش تعجبهم من كونه رسولا فقال: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً نصب على أنه خبر كان واسمه أَنْ أَوْحَيْنا وفائدة اللام في قوله: لِلنَّاسِ مع تقديمه هي أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتحدثون بها، ثم إن تعجبهم إما أن يكون من جعل البشر رسولا أو من تخصيص محمد صلى الله عليه وسلم بالوحي والنبوة
فقد روي أنهم كانوا يقولون العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله(3/554)
إلى الناس إلا يتيم أبي طالب،
وكلا الأمرين ليس بعجب، أما الأول فلأن الجنس إلى الجنس أميل وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الأنعام: 9] قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا. [الاسراء: 95] . وأما الثاني فلأن الفقر واليتم لا يوجب في النبوة قدحا لأن الله غني عن العالمين وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سبأ: 37] وإنما المعتبر في الاستنباء كونه متصفا بالصدق والأمانة والتقوى، وكان لمحمد صلى الله عليه وسلم في ذلك قبل بعثه اليد الطولى إذ كان يدعى محمدا الأمين. و «أن» في قوله: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ هي المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول، أو مخففة من الثقيلة وقد عملت في ضمير شأن مقدر معناه إنه أي إن الشأن قولنا أنذر الناس. وقوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم، والإنذار إخبار مع تخويف وإنه عام للناس كلهم، ولكن البشارة خاصة بالمؤمنين. ويحتمل أن يراد بالناس الكفار فقط ويمكن أن يكون تعجبهم عائدا إلى الإنذار والتبشير وليس ذلك بعجب بل المنكر في العقول تعطيل الأعمال وأن يترك الإنسان سدى، وإرسال الرسل أمر ما أخلى الله تعالى المكلفين عنه شيئا من الأزمنة، وبه تتم المالكية والأمر والنهي والإذن والمنع والثواب والجزاء. وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن الإنذار تحذير عن فعل ما لا ينبغي، والتبشير ترغيب في فعل ما ينبغي والتخلية مقدمة على التحلية. ومعنى قَدَمَ صِدْقٍ سابقة فضل ومنزلة رفيعة أي سبق لهم عند الله خير. قال أحمد بن يحيى: القدم كل ما قدمت من خير. وقال ابن الأنباري: كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ولا إبطاء. والسبب في إطلاق القدم على السابقة أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد، وإضافة القدم إلى صدق لأجل المبالغة وللتنبيه على أنها من السوابق العظيمة أي القدم التي يصدق ويحق أن تسمى قدما. وأما عبارات المفسرين فمنهم من قال: قدم صدق هي الأعمال الصالحة، ومنهم من قال الثواب، ومنها من قال شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. أما قوله: قالَ الْكافِرُونَ فقال القفال: فيه إضمار والتقدير: فلما أنذرهم قالوا ذلك. ثم من قرأ لساحر بالألف فقوله هذا إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قرأ السحر فهو إشارة الى القرآن وفيه دليل على عجزهم واعترافهم بأنهم قاصرون عن معارضته كالسحر، ومن هنا جوز بعضهم أن يكونوا أرادوا به المدح أي إنه لكمال فصاحته وتعذر الإتيان بمثله جار مجرى السحر. ثم لما أنكر عليهم تعجبهم من الأمور المذكورة وهي الواسطة أراد أن يقيم البرهان عليها بإثبات المبدأ ويبين غايتها بإثبات المعاد وذلك في آيتين متواليتين. وقد مر في الأعراف تفسير قوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ(3/555)
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ
فلا حاجة إلى الإعادة.
ثم ذكر ما يدل على مزيد عظمته وجلاله وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره فقال: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ وإنما فقد العاطف لأنهما كالتفسير والتفصيل لما دل عليه قوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ إلخ. والأمر الشأن أراد به أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات والأرض والعرش. والمعنى أنه يقضي ويقدر بمقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله الناظر في أدبار الأمور وعواقبها لئلا يدخل في الوجود ما لا ينبغي. قال الزجاج: إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يقولون إن الأصنام شفعاؤنا عند الله فرد الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح. ففي قوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ إشارة إلى استقلاله في التصرف في جانب المبدإ، وفي قوله ما مِنْ شَفِيعٍ إشارة إلى استقلاله في طرف المعاد. ويمكن أن يقال: المراد أنه خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من الأصلح مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في تحصيل المصالح فدل ذلك على أنه محسن إلى عباده مريد للخير والرأفة بهم كامل العناية بأحوالهم. قال أبو مسلم: الشفيع معناه الثاني من الشفع الذي يخالف الوتر أي خلق السموات والأرض وحده ولا حي معه ولا شريك يعينه ثم خلق الملائكة والثقلين، والمراد أنه لم يدخل في الوجود أحد إلا من بعد أن قال له: «كن» حتى كان وحصل. ثم أشار إلى المعلوم بالأوصاف المذكورة فقال: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ الذي يستأهل منكم العبادة بإزاء النعم الجسام من خلق السموات والأرض بما فيهما وعليهما فَاعْبُدُوهُ وحده أَفَلا تَذَكَّرُونَ فيه تنبيه على وجوب الاعتبار والنظر في الدلائل الدالة على عظمته وجلاله. ثم شرع في إثبات المعاد فقال: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ أي رجوعكم جَمِيعاً مجموعين. وتقديم الجار والمجرور للاختصاص والمعنى لا ترجعون في العاقبة إلا إلى جزائه وحكمه فاستعدوا للقائه، ثم أكد ذلك بقوله: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وفيه تأكيدان كما مر.
ثم قال: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهو استئناف فيه معنى التعليل كأنه قال إن الذي قدر على الإبداء يقدر على الإعادة بالطريق الأولى كقوله: وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
[الواقعة: 61] يعني أنه سبحانه لما كان قادرا على إنشاء ذواتكم أوّلا ثم على إنشاء أجزائكم حال حياتكم ثانيا شيئا فشيئا من غير أن تكونوا عالمين بوقت حدوثه وبوقت نموّه، وجب القطع بأنه لا يمتنع عليه إعادة تلك الأجزاء بعد البلى والتفرق. ومن قرأ أنه بالفتح فعلى حذف لام التعليل أي لأنه، أو على أنه منصوب بالفعل الذي نصب(3/556)
وعد الله أي وعد الله وعدا بدء الخلق ثم إعادته، ويجوز أن يكون مرفوعا بما نصب حقا أي حق حقا بدء الخلق.
ثم ذكر غاية الإعادة وحكمتها فقال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال المفسرون: في الآية إضمار والتقدير أنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم ثم يعيدهم ليجزي. وإنما حسن هذا الحذف لتقدم قوله: فَاعْبُدُوهُ ولأن الإعادة لا تكون إلا بعد الإماتة والإعدام. وقوله: بِالْقِسْطِ أي بالعدل متعلق ب لِيَجْزِيَ أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجرهم أو ليجزيهم بقسطهم وبما لم يظلموا أنفسهم حين آمنوا وعملوا صالحا وهذا وجه حسن لطباق قوله: بِما كانُوا يَكْفُرُونَ وفي قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا
من غير أن يدخل لام العاقبة في الجملة كما أدخلها في الأولى دليل على أنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب، وإنما جاء التعذيب لغرض وقوعهم في طريق القهر. والحميم الماء الذي أسخن بالنار حتى انتهى حره. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على عدم منزلة بين المنزلتين على ما يقول بها المعتزلة. وأجيب بأن عدم الذكر لا يدل على العدم وردّ بأن الفساق أكثر من أهل الطاعة فكيف يجوز طي ذكرهم؟ واعلم أن للعلماء في إثبات المعاد طريقين: الأول طريق القائلين بالحسن والقبح العقليين، والثاني طريق من يقول لا يجب على الله شيء أصلا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. أما الفريق الأول فلهم على وجوب المعاد حجج عقلية منها: أنه تعالى خلق الخلق وأعطاهم عقولا وقدرا فيجب في حكمته أن يرغبهم في الخيرات ويزجرهم عن السيئات، وهذا الترغيب والزجر لا يمكن إلا بربط الثواب على الفعل والعقاب على الترك. هذا في المأمورات وبالعكس في المنهيات، وذلك الثواب المرغب والعقاب المرهب غير حاصل في الدنيا فلا بد من دار أخرى هي دار الآخرة ليحصل فيها ذلك وإلا لزم أن يكون الله تعالى كاذبا في قوله: لِيَجْزِيَ إلخ.
فإن قيل: لم لا يكفي في الترغيب والردع ما أودع الله في العقول من تحسين الخيرات وتقبيح المنكرات فلا يحتاج إلى الوعد والوعيد؟ ولئن سلم فلم لا يجوز أن يكون الغرض من الترغيب والترهيب نظام العالم لا أنه يفعل ذلك ولا يلزم منه الكذب على الله، ألستم تخصصون أكثر عمومات القرآن ثم تزعمون أنه لا كذب؟ سلمنا أنه يفعل لكن لم لا يجوز أن يكون الثواب والعقاب هو ما يصل إلى الإنسان في دار الدنيا من الراحات والآلام؟
فالجواب أن العقل وإن كان يدعو إلى فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوان إلى الانهماك في الشهوات الجسمانية، وإذا حصل هذا التعارض فلا بد من مرجح وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد على الأعمال، وتجويز الخلف في ذلك مناف للغرض، وأخذ(3/557)
الأجرة إنما يكون بعد الفراغ من العمل والعبد ما دام في الدنيا فهو في العمل، وقد ترى أزهد الناس وأعلمهم مبتلى بالآفات والبليات، وأفسقهم وأجهلهم في أتم اللذات والمسرات. ومنها أن صريح العقل يوجب في حكمة الحكيم أن يفرق بين المحسن والمسيء والمظلوم والظالم وأن لا يجعل من كفر به وعصاه كمن آمن به وأطاعه وليس هذه التفرقة في الدنيا كما قيل:
كم عالم عالم أعيت مذاهبه ... وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
فلا بد من دار أخرى يظهر فيها التفاوت. ومنها أنه كلف عبيده بأن يعبدوه، والحكيم إذا أمر عبده بشيء فلا بد أن يجعله فارغ البال منتظم الأحوال حتى يمكنه الاشتغال بأداء تكليفه، والناس جبلوا على طلب اللذات والتبادر إلى تحصيل أسباب الراحات فلو لم يكن زاجر من خوف المعاد لوقع الهرج والمرج والفتن وحينئذ لا يتفرغ المكلف لأداء ما أمر به. فإن قيل: لم لا يكفي في نظام العالم مهابة الملوك وسياستهم؟
قلنا: إن لم يكن السلطان قاهرا قادرا على الرعية فلا فائدة فيه، وإن كان قاهرا غالبا ولا خوف له من المعاد فحينئذ يقدم على أنواع الظلم والإيذاء لأن الداعية النفسانية قائمة ولا وازع له في الدنيا ولا في الآخرة. ومنها أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق فيه الناس، والعبث لا يليق بالحكيم الرحيم فوجب أن يقال: إنه خلقهم لمقصود ومصلحة وخير وليس ذلك في الدنيا لأن لذات هذا العالم جسمانية لا حقيقة لها إلا إزالة الألم، وإزالة الألم أمر عدمي وكان هذا حاصلا قبل الوجود فلا يبقى للتخليق فائدة. وأيضا إن لذات الدنيا مشوبة بالآلام بل اللذة في الدنيا كالقطرة من البحر فعلمنا أن للراحة دار أخرى. فإن قيل: ليس أنه يعذب أهل النار لا لمصلحة وفائدة لهم؟ قلنا: الفرق أن ذلك الألم استحقوه على أعمالهم وهذا الألم الحاصل في الدنيا غير مستحق فوجب أن يعقبه خيرات عظيمة وإلا فينافي كونه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. ومنها أنه لو لم يحصل للإنسان معاد لكان أحسن من جميع الحيوانات لأنها تشاركه في اللذات الحسية لأن الروث في مذاق الجعل كاللوز في فم الإنسان، والإنسان يزيد عليها بعقل هو سبب تألمه وتأذيه في أغلب الأحوال، يتفكر في الأحوال الماضية فيتأسف، ويتأمل في الأحوال الآتية فيخاف، فلو لم يكن للإنسان معاد به يكمل حاله ويظهر سعادته كان عقله سببا لشقائه وخسته دون شرفه ومزيته. ومنها أن إيصال النعم إما أن يكون مشوبا بالآفات أو خالصا عنها، فلما أنعم الله تعالى علينا في الدنيا بالمرتبة الأولى وجب أن ينعم علينا بالمرتبة الثانية في دار أخرى إظهارا لكمال القدرة والرأفة والحكمة، فهناك ينعم على المطيعين ويعفو عن(3/558)
المذنبين ويزيل الغموم والهموم والآفات والمخافات. ومما يقوّي هذا الكلام أن الإنسان دائما في الترقي من حين كونه جنينا في بطن أمه إلى أن يخلص من ذلك السجن ويخرج إلى فضاء الدنيا، وإلى أن ينتقل من تناول اللبن والشد الوثيق في المهد إلى تناول الأطعمة اللذيذة والمشي والعدو إلى أن يصير أميرا نافذ الحكم على الخلق أو عالما مشرفا على حقائق الأشياء، فوجب بحكم هذا الاستقراء أن يكون حاله بعد الموت أشرف وأبهى من اللذات العاجلة المشوبة بالآلام. ومنها طريقة الاحتياط فإنا إذا آمنا بالمعاد وتأهبنا له فإن كان هذا المذهب حقا فقد نجونا وهلك المنكر، وإن كان باطلا لم يضرنا هذا الاعتقاد، غاية ذلك فوات بعض اللذات الزائلة المشوبة بالمنغصات. ومنها أن أحوال الإنسان من صباه إلى هرمه تضاهي حال الأرض من الربيع إلى الشتاء. ثم إنا نرى الأرض في الربيع الثاني تعود إلى تلك الحياة فلم لا يعقل مثل ذلك في الإنسان؟ ومنها أن الإنسان إنما يتولد من نطفة نولدت من الأغذية الكائنة من الأجزاء العنصرية المتفرقة في مشارق الأرض ومغاربها، فإذا مات وتفرقت تلك الأجزاء فكيف يمتنع أن تجتمع مرة أخرى على مثال الاجتماع الأول؟ ومنها أن النظر في تغيرات العالم أدى إلى إثبات صانع حكيم قادر قاهر، والعقل يحكم بأن هذا الحكيم لا يليق به أن يترك عبيده هملا يكذبون عليه ويجورون، فلا بد من أن يكون له أمر ونهي ووعد ووعيد من غير تجويز خلف فيهما كما مر، ولا يتحقق جميع ذلك إلا في دار الجزاء.
وأما الفريق الآخر الذين لا يعللون أفعال الله تعالى برعاية المصالح فإنهم يقولون:
المعاد أمر جائز الوجود لأن تعلق النفس بالبدن لما كان في المرة الأولى جائزا فالمرة الثانية أيضا جائزة. ثم إن إله العالم قادر مختار عالم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات فلا يعجز تمييز أجزاء بدن زيد- وإن اختلطت بأجزاء التراب والبحار- عن أجزاء بدن عمرو، وإذا ثبت هذا الإمكان وقد دل الدليل على صدق الأنبياء عليهم السلام وعلى أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم إنهم قطعوا بوقوع هذا الممكن والقرآن مشحون بآيات البعث والجزاء فوجب علينا القطع بالمعاد الجسماني. أما شبهة المنكرين فمن ذلك أنهم قالوا الدار الآخرة إن كانت شرا من هذه فالتبديل سفه، وإن كانت مثلها فعبث، وإن كانت خيرا منها فإما أن يقال إنه قادر على خلق ذلك الأجود أولا ثم تركه وفعل الأرذل فذلك سفه، أو يقال إنه ما كان قادرا ثم حدثت له القدرة فذلك انتقال من العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى الحكمة فهو محال على القديم. والجواب أن كلا من الدارين خير في وقتها فالأولى لتحصيل الكمالات(3/559)
النفسانية الممكنة للنوع الإنساني من قبيل العلم والعمل، والأخرى للراحة والجزاء، ومن ذلك أنهم قالوا: حركات الأفلاك مستديرة والمستدير لا ضد له وما لا ضد له لا يقبل الفساد. والجواب ما ذكرنا في كتبنا الحكمية من أن كل جسم مركب وكل مركب ينحل لا محالة. ولئن سلمنا أنها أزلية فحركاتها غير أزلية لأن الحركة عبارة عن الانتقال من حال إلى حال، وهذه الماهية تقتضي المسبوقية بالحالة المنتقل عنها والأزلية تنافي المسبوقية بالغير فكان الجمع بين الأزل والحركة محالا. ولئن سلم أن الحركة أزلية فلم لا يجوز أن يكون بعض أوضاع الأفلاك مقتضيا لإعادة المعدومات من الأشخاص الإنسانية؟ ومن ذلك أنهم قالوا: الإنسان عبارة عن هذا البدن ذي الأجزاء لا كيف كانت بل بشرط وقوعها على تأليف مخصوص، لأن أجزاء البدن كانت موجودة قبل هذا الإنسان والموجود مغاير للمعدوم. فإذا مات الإنسان وتفرقت أجزاؤه فقد عدمت تلك الصورة والأعراض وعود المعدوم محال. وأجيب بأن الإنسان ليس عبارة عن هذا الجسد وإنما هو النفس سواء كانت جوهرا مجردا مفارقا أو جسما مخصوصا لطيفا باقيا في جميع أحوال البدن من الصبا إلى الهرم مصونا عن التحلل والتبدل وهو الذي يسميه المتكلمون بالأجزاء الأصلية. ومن ذلك أنهم قالوا: إذا قتل الإنسان واغتذى به إنسان آخر لزم أن تعاد تلك الأجزاء في بدن كل واحد من الشخصين وذلك محال. وأجيب بعين ما مر وهي أن الأجزاء الأصلية لا تصير جزءا من إنسان آخر. فهذه خلاصة ما وصل إليه العقول من أمر المعاد والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.
ثم عدد بعض نعمه على المكلفين فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وهو أجوف واوي مهموز اللام قلبت واوه ياء لكسرة ما قبلها، ومن قرأ بهمزتين بينهما ألف فمحمول على القلب لأن إذا قدم اللام على العين وقع حرف العلة على الطرف فانقلب همزة كما في «كساء» . وهو إما أن يكون جمع ضوء كحوض وحياض، أو مصدر ضاء يضوء مثل قام قياما وصام صياما، ولا بد من تقدير مضاف أي جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور إلا أن يحمل على المبالغة فجعلا نفس الضياء والنور كما يقال للرجل الكريم إنه كرم وجود. والضياء أقوى من النور. ولا خلاف بين العقلاء أن ضوء الشمس كيفية قائمة بها لذاتها، وأما نور القمر فقد ذهب جمهور الحكماء إلى أنه مستفاد من الشمس وبذلك يقع اختلاف أحواله من الهلالية إلى البدرية كما بينا في تفسير قوله تعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة: 189] وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ قال في الكشاف: أي قدّر مسيره منازل أو قدره ذا منازل. ومنزلة القمر المسافة التي يقطعها في يوم وليلة بحركته الخاصة(3/560)
به وجملتها ثمانية وعشرون وأساميها مشهورة: الشرطين الثريا البطين إلخ. وهي كواكب ثابتة معروفة عندهم جعلوها علامات المنازل، فنرى القمر كل ليلة نازلا بقرب أحدها وذلك أنهم قسموا دور الفلك وهو اثنا عشر برجا على ثمانية وعشرين- عدد أيام دور القمر- فأصاب كل برج منزلان وثلث فسموا كل منزل بالعلامة التي وقعت وقت التسمية بحذائه. ثم ذكر بعض منافعهما العائدة على المكلفين فقال: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي. وقد ذكرنا السنة الشمسية والسنة القمرية وكيفية دوران إحداهما على الأخرى في تفسير قوله تعالى: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ [التوبة: 36] الآية فلا حاجة إلى التكرار. ثم أشار إلى سائر منافعهما وخواصهما بقوله:
ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ المذكور إِلَّا ملتبسا بِالْحَقِّ والصواب دون الباطل والعبث، فالشمس سلطان النهار والقمر خليفتها بالليل، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى فصولها الأربعة، وبالفصول تنتظم مصالح هذا العالم ويتحصل معايش الخلائق، وبحركة القمر يحصل الشهور، وباختلاف حاله في زيادة النور ونقصانه تختلف أحوال الرطوبات إلى غير ذلك من الخواص التي يرشد إليها التأمل والتدبر ولهذا قال: يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لأنهم هم الذين ينتفعون بهذه الدلائل. وقيل: المراد بالعلم هاهنا العقل الذي يعم الكل. ثم ذكر المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار وقد مر تفسيره في سورة «البقرة» في قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية: 164] . ومعنى قوله:
وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كقوله: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الآية: 185] وقد مر في آخر «الأعراف» . وإنما خص كونها آيات بالمتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى التدبر والنظر. قال القفال: من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لشقاء الناس وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم بل جعلها لهم دار عمل، وإذا كان كذلك فلا بد من أمر ونهي ثم من ثواب وعقاب ليتميز المحسن عن المسيء، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بالمبدإ والمعاد.
ثم شرع في شرح أحوال من لا يؤمن بالمعاد ومن يؤمن به فقال: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا عن ابن عباس ومقاتل والكلبي: معناه لا يخافون البعث كقوله تعالى:
وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: 49] واستبعد الأكثرون تفسير الرجاء بالخوف وقالوا: إنه بمعنى الطمع أي لا يطمعون في حسن لقائه كما يأمله السعداء، أو لا يتوقعونه أصلا لأنهم لا يؤمنون بالمعاد فهم ذاهلون عن طلب اللذات الحقيقية فارغون عن التوجه نحو السعادات الباقية وَرَضُوا مع ذلك بِالْحَياةِ الدُّنْيا الحسية الخسيسة وَاطْمَأَنُّوا(3/561)
بِها
سكنوا إليها سكون العاشق إلى معشوقه وهذه غاية الانهماك والاستغراق في اللذات الجسمانية وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ فلا يعتبرون بالآيات ولا ينظرون في الدلائل الموصلة إلى حقيقة المبدإ والمعاد، فلم يقبلوها بالتقليد ولم ينظروا إليها بعين الاجتهاد أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ فيه معنى الجزاء ولذلك تعلق به قوله: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ وفيه أن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول العذاب الجسماني وهو النار المحسوسة، والعذاب الروحاني وهو نار البعد من المألوفات والقطيعة من السعادات الباقيات فيكون مثاله مثال من أخرج عن مجالسة معشوقة فألقي في بئر ظلمانية لا إلف بها ولا مؤنس بل يكون فيها أنواع المؤذيات وأصناف الموحشات نعوذ بالله من تلك الحالات. هذا حال من لا يؤمن بالمعاد فلا يعمل له، وأما حال الذي يؤمن به فذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا استكملوا من جهة القوة النظرية وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ استكملوا من قبل القوة العملية أو صدقوا بقوله ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند الله، أو أشغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة ثم جوارحهم بالخدمة حتى تكون عيونهم مشغولة بالاعتبار، وآذانهم باستماع كلام الله، وألسنتهم بذكر الله وسائر أعضائهم بطاعة الله تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ قال أكثر المفسرين: معناه يهديهم إلى الجنة ثوابا لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة. ومعنى قوله: بِإِيمانِهِمْ أي بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح، وهذا التفسير يوافق قوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الحديد: 12]
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله الصالح في صورة حسنة فيقول له: أنا عملك فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة. والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة فيقول: أنا عملك فينطلق به إلى النار» .
وقيل: معنى الآية إن إيمانهم يهديهم إلى مزايا من الألطاف ولوامع من الأنوار بحيث تزول بواسطتها عنهم الشكوك والشبهات فتؤدي إلى حصول المثوبات ولذلك جعل تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ بيانا له وتفسيرا لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها. فهذه الهداية عبارة عن الفوائد الزوائد الحاصلة في الدنيا بعد الإيمان. قال القفال: فعلى هذا الوجه كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار إلا أنه حذف الواو وجعل قوله: تَجْرِي خبرا مستأنفا منقطعا عما قبله. والتحقيق في تقرير هذا الوجه أن العلم نور والجهل ظلمة والروح كاللوح والعلوم والمعارف كالنقوش ولكن حالهم بالضد من النقوش الجسمانية، فإن تزاحم النقوش الجسمانية يكدر اللوح وتوارد النقوش المعنوية وتكاثرها يزيد لوح الروح لمعانا وإشراقا حتى إنه يقوى بها على تحصيل المعارف الباقية(3/562)
بسهولة، فليس فهم الرجل المنتهي للعلوم والحقائق كفهم المبتدئ، فإن الإنسان إذا آمن بالله فقد أشرق روحه بنور المعرفة، وإذا واظب على الأعمال الصالحة حصلت له ملكة التوجه إلى الآخرة والإعراض عن الدنيا، ولا تزال تتزايد إشراقات هذه المعارف والملكات فيرتقي في معارجها لحظة فلحظة، ولما كان لا نهاية لمراتب المعارف والأنوار العقلية فلا نهاية لمراتب هذه الهداية. وفي قوله: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ دليل لمن قال إن العلم بالمقدمتين لا يوجب العلم بالنتيجة ولكنهما يعدّان الذهن لحصول الفيض من الجواد المطلق. ومعنى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ أنهم يكونون في البساتين على مواضع مرتفعة كالسرر والأرائك والأنهار تجري من بين أيديهم. دَعْواهُمْ فِيها قال بعض المفسرين: أي دعاؤهم ونداؤهم كما يدعو القانت بقوله: اللهم إياك نعبد. وقيل:
الدعاء العبادة كقوله: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم: 48] وإنما تكون هذه عبادتهم لا على سبيل التكليف بل على سبيل الإلهام والعادة ابتهاجا بذكر الله. وقيل:
الادعاء بين المتخاصمين والمعنى أن أهل الجنة يدعون في الدنيا والآخرة تنزيه الله من المعايب والإقرار له بالإلهية. قال القفال: أصله من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما. وقيل: أي طريقتهم وسيرتهم وذلك لأن المدعي للشيء مواظب عليه فيمكن أن يجعل الدعوى كناية عن الملازمة وإن لم يكن في قولهم سبحانك اللهم دعاء ولا دعوى. وقيل: أي تمنيهم كقوله: وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ [يس: 57] أي ما يتمنونه.
وتقول العرب: ادّع عليّ ما شئت أي تمن فكان تمنيهم في الجنة ليس إلا تسبيح الله وتقديسه، ولقد كانوا في الدنيا يدعون في الحروب من يسكنون إليه ويستنصرونه فيقولون:
يا آل فلان فأخبر الله تعالى عنهم أن أنسهم في الجنة بذكر الله وسكونهم بتحميده وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي بعضهم يحيي بعضا بالسلام. وقيل: هي تحية الله أو الملائكة إياهم إضافة للمصدر إلى المفعول وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ هي «أن» المخففة من الثقيلة وأصله أنه الحمد لِلَّهِ على أن الضمير للشأن. قال أهل الظاهر من المفسرين: في سبب تخصيص هذه الأذكار بأهل الجنة أن قوله: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ علم بين أهل الجنة وخدامهم إذا سمعوا ذلك منهم أتوهم بما يشتهونه. قال ابن جريج: ورد في الأخبار أنه إذا مرّ بهم طير يشتهونه قالوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فيأتيهم الملك بذلك المشتهى، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وقال القاضي: إنه وعد المتقين بالثواب العظيم فإذا دخل أهل الجنة الجنة ووجدوا تلك المواعيد قالوا سبحانك اللهم أي نسبحك عن الخلف في الوعد. وقيل: ألهم الله بني آدم في الجنة بعد انقراض الدنيا ما افتخر به(3/563)
الملائكة قبلهم في قولهم: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة: 30] ويمكن أن يقال: إن لكل إنسان معراجا بحسب قوته فإذا وصل العارف الصادق إلى صفات جلال الله تعالى قال سبحانك، وإذا ارتقى منها إلى الذات قال اللهم، فإذا عجز عن ذلك المضمار واحترق في أوائل تلك الأنوار رجع من عالم الجلال إلى عالم الإكرام فأفاض الخير على جميع المحتاجين ويدفع المخافات والمكاره عنهم بكل ما أمكنه وذلك قوله: وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ ثم إذا شاهدوا أثر نعمة الله عليهم بالاستفاضة والإفاضة اختتموا الكلام بقولهم:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وعلى هذا يدور أمرهم في العروج والنزول ما داموا في الدنيا فيكون كذلك حالهم في العقبى
لقوله: «كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون» .
التأويل:
الر فيه إشارتان: إحداهما من الحق المحق إلى حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم كأنه قال: بآلائي عليك في الأزل وأنت في العدم وبلطفي عليك في الوجود وبرحمتي ورأفتي لك من الأزل إلى الأبد. والثانية من الحق لنبيه عليه السلام إليه يقول بإنسك معي حين خلقت روحي ولم يكن ثالث، وبلبيك الذي أجبتني به حين دعوتك للخروج من العدم فقلت: ياسين أي يا سيد فقلت: لبيك وسعديك والخير كله بيديك. وبرجوعك منك إلى حين قلت لنفسك بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] تِلْكَ أي هذه الآيات المنزلة عليك آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ الذي وعدتك في الأزل وراثته لك ولأمتك.
والحكيم الحاكم على الكتب كلها فلا ينسخه كتاب وهو ينسخ الشرائع والأحكام والكتب كلها إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ لما رأى فيه رجولية قبول الوحي دون غيره، ويحتمل أن يكون معنى للناس الناسي عهد الله قَدَمَ صِدْقٍ محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أول من خرج من العدم إلى الوجود، أو هو العناية الأزلية
«سبقت رحمتي غضبي» «1»
لَساحِرٌ مُبِينٌ صدقوا في أنهم مسحورون إلا أنه سحرهم سحرة صفات فرعون النفس. إن الذي يربيكم هو الذي خلق السموات سموات أرواحكم وأرض نفوسكم من ستة أنواع هي: الروح والقلب والعقل والنفس الحيواني والنفس النباتي والصورة المعدنية ثُمَّ اسْتَوى على عرش القلب يُدَبِّرُ أمر السعادة والشقاوة يقلبه كيف يشاء. إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فرجعوا مقبولين بجذبات العناية التي صورتها خطاب ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] وحقيقتها انجذاب القلب إلى الله ونتيجتها عزوف النفس عن الدنيا واستواء الذهب والمدر عندها ورجوع
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16. الترمذي في كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242، 258) .(3/564)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
المردودين بغير الاختيار بالسلاسل والأغلال. ومن نتائجه تعلقات الدنيا واستيلاء صفات النفس بِالْقِسْطِ أي لكل بحسب كماله ونقصانه. جعل شمس الروح ضياء يستنير بها قمر القلب إذا وقع في مواجهتها، وإذا وقع في مقابلة أرض النفس انكسف ولهذا سمي قلبا لتقلب أحواله بين الروح والنفس. وتلك الأحوال هي منازله ومقاماته لتعلموا عدد سنين المقامات وحساب الكشوف والمشاهدات إِنَّ فِي اخْتِلافِ ليل صفات البشرية ونهار صفات الروحانية وَما خَلَقَ اللَّهُ في سموات الروحانية وأرض البشرية من الأوصاف والأخلاق وتبدل الأحوال لَآياتٍ دالة على التوحيد لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ الأخلاق الذميمة وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ وإن لم يركنوا إلى الدنيا وتمتعاتها كالرهابين والبراهمة وبعض الفلاسفة والله تعالى أعلم.
[سورة يونس (10) : الآيات 11 الى 20]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
القراآت:
لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ مبنيا للفاعل أجلهم بالنصب: ابن عامر ويعقوب.
الآخرون مبنيا للمفعول ورفع أَجَلُهُمْ أو بدله بضم اللام وسكون الهاء: روى خلف عن الكسائي والاختبار عنه وعن غيره الإشمام لي أن بفتح الياء وكذلك إِنِّي أَخافُ: أبو(3/565)
جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. نَفْسِي إِنْ بفتح الياء: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع.
ولأدراكم بلام الابتداء فعلا ماضيا مثبتا: روى أبو ربيعة عن البزي وحمزة. وقرأ حمزة وعلي وأبو عمرو وخلف وورش من طريق النجاري والخراز عن جبيرة وهبيرة وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان، وحماد ويحيى من طريق أبي حمدون بالإمالة فعلا ماضيا منفيا بلا. الباقون: مثله ولكن بالتفخيم. تشركون بتاء الخطاب وكذلك في «النحل» و «الروم» : حمزة وعلي وخلف. الباقون بالياء.
الوقوف:
أَجَلُهُمْ ط لأن ما بعده مستقبل فنحن نذر يَعْمَهُونَ هـ أَوْ قائِماً ط مَسَّهُ ط يَعْمَلُونَ هـ ظَلَمُوا لا لأن الواو للحال لِيُؤْمِنُوا ط الْمُجْرِمِينَ هـ تَعْمَلُونَ هـ بَيِّناتٍ لا لأن ما بعده جواب «إذا» أَوْ بَدِّلْهُ ط. نَفْسِي ج ط لأن «ان» النافية لها صدر الكلام ولكن القائل متحد إِلَيَّ ط ج لمثل ما قلنا عَظِيمٍ هـ بِهِ ط والوصل أولى للفاء أو لشدة اتصال المعنى مِنْ قَبْلِهِ ط تَعْقِلُونَ هـ بِآياتِهِ ط الْمُجْرِمُونَ هـ عِنْدَ اللَّهِ ط فِي الْأَرْضِ ط يُشْرِكُونَ هـ فَاخْتَلَفُوا ط يَخْتَلِفُونَ هـ مِنْ رَبِّهِ ج ط للابتداء بالأمر مع الفاء فَانْتَظِرُوا ج لاحتمال الابتداء أو التعليل الْمُنْتَظِرِينَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه ابتدأ في هذه السورة بذكر شبهات القوم فالأولى أنهم تعجبوا من تخصيص الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالنبوة فأزال ذلك التعجب بالإنكار وبالدلائل الدالة على صحة المبدا والمعاد فكأنه قيل: إنه ما جاء إلا بدليل التوحيد والإقرار بالمعاد فليس للتعجب معنى. ثم شرع في شبهة أخرى وهي أنهم كانوا يقولون أبدا اللهم إن كان محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء فأجابهم بقوله: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ الآية. وقال القاضي: لما ذكر الوعيد على عدم الإيمان بالمبدإ والمعاد ذكر أن ذلك العذاب من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيا وإلا نافى التكليف. وقال القفال: لما وصفهم فيما مر بالغفلة أكد ذلك بأن من غاية غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب فبيّن الله تعالى أنه لا مصلحة في تعجيل إيصال الشر إليهم فلعلهم يؤمنون، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن. كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله بكشفها كما يجيء في الآية التالية، وفي الرخاء كانوا يستعجلون النبي بالعذاب فقال ما معناه: ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما يعجل لهم الخير ونجيبهم إليه لأميتوا وأهلكوا. قال في الكشاف: أصل الكلام ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير. فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم(3/566)
الخير إشعارا بسرعة إجابته لهم حتى كأن استعجالهم بالخير تعجيل منه لهم. وقيل:
التعجيل معناه طلب العجلة إلا أن الاستعجال أشهر وأظهر. فمعنى الآية لو أراد الله عجلة الشر للناس كما أرادوا عجلة الخير لهم. وقيل: هما متلازمان فكل معجل يلزمه الاستعجال إلا أنه تعالى وصف نفسه بتكوين العجلة ووصفهم بطلبها لأن اللائق به التكوين واللائق بهم الطلب. وسمي العذاب في الآية شرا لأنه أذى وألم في حق المعاقب به. ثم إن قوله لَوْ يُعَجِّلُ كان متضمنا لمعنى نفي التعجيل فيمكن أن يكون قوله فَنَذَرُ الَّذِينَ معطوفا على منوي كأنه قيل: ولكن لا يعجل فيذرهم إلزاما للحجة أو لمصالح أخرى. ثم بين أنهم كاذبون في استعجال الشر ولو أصابهم ما طلبوه أظهروا العجل والطيش فقال:
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ أي هذا الجنس دَعانا لِجَنْبِهِ اللام في معنى الوقت كقولك:
جئته لشهر كذا. وإن شئت قلت في موضع الحال لأن الظرف والحال متآخيان فيصح عطف أحدهما على الآخر وتأويل أحدهما بالآخر أي دعانا مضطجعا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً أو وقت اضطجاعه وقعوده وقيامه. والمراد أنه يدعو الله في جميع أحواله لا يفتر عن الدعاء. ثم إن خص الضر بالمرض احتمل أن يراد أنه يدعو الله حين كان مضطجعا غير قادر على القعود أو قاعدا غير قادر على القيام، أو قائما لا يطيق المشي إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها. أو يراد أن من المضرورين من هو أسوأ حالا وهو صاحب الفراش، ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود، ومنهم المستطيع للقيام وكلهم لا يصبرون على الضراء. قال بعض المفسرين: الإنسان هاهنا هو الكافر. ومنهم من بالغ فقال: كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به الكافر. وهذا شبه تحكم لورود مثل قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الدهر: 1] إلا أن يساعده نقل صحيح.
والأصح عند العلماء العموم لأن الإنسان خلق ضعيفا لا يصبر على اللأواء ولا يشكر عند النعماء إلا من عصمه الله وقليل ما هم، وهم الذين نظرهم في جميع الأحوال على المقدر المؤجل للأمور حسب إرادته ومشيئته فلا جرم إن أصابهم السراء شكروا وإن أصابهم الضراء صبروا فأفنوا إرادتهم في إرادته ورضوا بقضائه. قال الزجاج: في الآية تقديم وتأخير والتقدير: وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعدا أو قائما. وضعف بأن تعديد أحوال الدعاء أبلغ من تعديد أحوال الضر لأنه إذا كان داعيا على الدوام ثم نسي ذلك في وقت الرخاء كان أعجب. ومعنى مَرَّ مضى على طريقته التي له قبل مس الضراء ومرّ عن موقف الدعاء والتضرع لا يرجع إليه. ومعنى كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن كَذلِكَ مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من(3/567)
تتبع الشهوات. والمزين هو الله تعالى أو النفس أو الشيطان مفرع عن مسألة الجبر والقدر وقد مر مرارا. قال العلماء: سمي الكافر مسرفا لأنه أنفق ماله من الاستعداد الشريف من القوى البدنية والأموال النفيسة في الأمور الخسيسة الزائلة من الأصنام التي هي أحقر من لا شيء، ومن الشهوات الفانية التي لا أصل لها ولا دوام. والمسرف في اللغة هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس فصح ما قلنا.
ثم ذكر ما يجري مجرى الردع والزجر لهم عن إلقاء الشبه والأغاليط فقال: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ وقد مضى تفسير القرن في أول الأنعام ولَمَّا ظرف لأهلكنا والواو في وَجاءَتْهُمْ للحال أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رُسُلُهُمْ بالدلائل والحجج على صدقهم وهي المعجزات. وقوله: وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إما أن يكون عطفا على ظَلَمُوا أو يكون اعتراضا واللام لتأكيد النفي، وإن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر والسبب في إهلاكهم تكذيب الرسل وعلم الله بإصرارهم كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء وهو الاستئصال الكلي نجزي كل مجرم، وفيه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم خاطب الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ أي استخلفناكم فِي الْأَرْضِ بعد تلك القرون لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ خيرا أو شرا.
استعير النظر للعلم الحقيقي الذي لا يتطرق إليه شك، ويعني به العلم الذي يتعلق به الجزاء كما مر في «الأعراف» . قال قتادة: صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنهار. ثم حكى نوعا ثالثا من شبهاتهم فقال:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا أي لا يؤمنون بالمعاد لأن كل من كان مؤمنا بالنشور فإنه يرجو ثواب الله ويخاف عقابه، وانتفاء اللازم دليل انتفاء الملزوم. طلبوا من الرسول أحد أمرين: إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن مع بقاء هذا القرآن على حاله، وإما تبديل هذا القرآن بنسخ بعض الآيات ووضع أخرى في مكانها، فأمره الله تعالى أن يقول في جوابهم ما يَكُونُ لِي أي ما ينبغي وما يحل أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي من قبل نفسي فنفى عن نفسه أحد القسمين الذي هو أسهل وأقل ليلزم منه نفي الأصعب الأكثر بالطريق الأولى. ثم أكد الجواب بقوله: إِنْ أَتَّبِعُ أي ما أتبع إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إن نسخت آية تبعت النسخ وإن بدلت آية مكان آية تبعت التبديل. وقد تمسك بهذا نفاة القياس ونفاة جواز الاجتهاد. وأجيب بأن رجوعهما أيضا إلى الوحي.
ونقل عن ابن عباس أن قوله: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ منسوخ بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] وضعف بأن النسخ إنما(3/568)
يكون في الأحكام والتعبدات لا في ترتيب العقاب على المعصية. قال المفسرون: هذا الالتماس منهم يحتمل أن يكون على سبيل السخرية. فقد روى مقاتل والكلبي أنهم خمسة نفر من مشركي مكة وهم المستهزءون في قوله: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:
95] . ويحتمل أن يكون على سبيل التجربة والامتحان حتى إنه إن فعل ذلك علموا أنه كاذب، أو أرادوا أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم فطلبوا قرآنا آخر لا يكون كذلك.
ثم أكد كون هذا القرآن من عند الله سبحانه وأنه غير مستبد في إيراده فقال: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ ولا أعلمكم الله بِهِ على لساني. ومن قرأ بلام الابتداء فمعناه ما تلوته أنا عليكم ولأخبركم الله به على لسان غيري، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده فرآني أهلا لذلك دون غيري. وقرىء لا أَدْراكُمْ بِهِ بالهمزة. ووجهه أن تكون الهمزة مقلوبة من الألف، أو يكون من الدرء الدفع. ومعنى ادرأته جعلته دارئا أي لم أجعلكم بتلاوته خصما تدرؤنني بالجدال وتكذبونني فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً أي بعضا معتبرا من العمر وهو أربعون سنة مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن أَفَلا تَعْقِلُونَ فيه قدح في صحة عقولهم لأن ظهور مثل هذا الكتاب العظيم المشتمل على علوم الأوّلين والآخرين المعجز للثقلين عن معارضته على من عرفوا حاله من عدم التعلم والمدارسة ومخالطة العلماء إذا شك فيه أنه من قبيل الوحي والمدد السماوي، كان ذلك إنكارا للضروريات وافتراء على الله فلهذا قال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الآية. وفيه أن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله ثم نسبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الله لم يكن أحد أظلم منه.
ثم قبح الله أصنامهم معارضة لهم بنقض مقصودهم من الالتماس فقال وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ إن لم يعبدوه وَلا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه ومن حق المعبود أن يكون مثيبا معاقبا. وفيه إشعار بأنها جماد، والمعبود لا بد أن يكون أكمل من العابد، وإذا كانت المنافع والمضار كلها من الله فلا تليق العبادة إلا له وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ.
قد ذكرنا وجه ذلك في أوائل سورة البقرة في قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الآية: 22] ثم أنكر عليهم معتقدهم بقوله: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ والمراد انه لا وجود لكونهم شفعاء إذ لو كان موجودا لكان معلوما للعالم بالذات المحيط بجميع المعلومات وهذا مجاز مشهور. تقول: ما علم الله ذلك مني. والمقصود أنه ما وجد منك ذلك قط. وفي قوله: فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ تأكيد آخر لنفيه لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم. قوله: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ إما أن يكون من تمام ما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم، أو ابتداء كلام من الله تعالى تنزيها لنفسه عن إشراكهم أو عن(3/569)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
الشركاء الذين يشركونهم به. ثم بيّن أن عبادة الأصنام بدعة وأن الناس- يعني العرب أو البشر كلهم- كانوا على الدين الحق فاختلفوا. وقد مر تفسير مثله في سورة البقرة في قوله: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [الآية: 213] والمقصود هاهنا تقبيح صورة الشرك وعبادة الأصنام من دون الله في أعينهم، وتنفير طباعهم عن مثل هذا الأمر المستحدث الفظيع وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ من بناء أمر الثواب والعقاب على التكليف لا على الإلجاء والقسر، أو من تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة، أو من
قوله: «سبقت رحمتي غضبي» «1»
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا ولميز المحق من المبطل. ثم ذكر نوعا رابعا من أغاليطهم فقال: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وقد مر تفسيره في «الأنعام» في قوله: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الأنعام: 37] كأنهم لم يعتدّوا بالقرآن آية فاقترحوا غيره تعنتا. فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ هو المختص بعلمه فَانْتَظِرُوا نزول ما اقترحتموه وهذا أمر فيه تهديد ووعيد والله ورسوله أعلم.
[سورة يونس (10) : الآيات 21 الى 30]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)
__________
(1) المصدر السابق.(3/570)
القراآت:
يمكرون بياء الغيبة: سهل وروح. الباقون: بالتاء الفوقانية.
ينشركم بالنون: ابن عامر ويزيد. الباقون يُسَيِّرُكُمْ من التسيير مَتاعَ بالنصب:
حفص والمفضل. الباقون بالرفع قِطَعاً بسكون الطاء: ابن كثير وعلي وسهل ويعقوب.
والآخرون بفتحها تتلوا بتاءين من التلاوة: حمزة وعلي وخلف وروح، وروي عن عاصم نبلوا بالنون ثم الباء الموحدة. كل نفس بالنصب الباقون: بتاء التأنيث كُلُّ بالرفع.
الوقوف:
آياتِنا ط مَكْراً ط، تَمْكُرُونَ هـ وَالْبَحْرِ ط فِي الْفُلْكِ ج ط للعدول مع أن جواب «إذا» منتظر، أُحِيطَ بِهِمْ لا لأن قوله: دَعَوُا بدل من ظَنُّوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو متلبس به، وإن جعل دَعَوُا جوابا عن سؤال سائل فما صنعوا كان للوقف وجه. الدِّينَ ج لاحتمال إضمار القول وجعل الدعاء في معنى القول الشَّاكِرِينَ هـ بِغَيْرِ الْحَقِّ ط. عَلى أَنْفُسِكُمْ ط، إلا لمن جعله متعلقا ب بَغْيُكُمْ تَعْمَلُونَ هـ الْأَنْعامُ ط عَلَيْها لا لأن ما بعده جواب «إذا» .
بِالْأَمْسِ ط يَتَفَكَّرُونَ هـ السَّلامِ ط مُسْتَقِيمٍ هـ وَزِيادَةٌ ط وَلا ذِلَّةٌ ط، الْجَنَّةِ ج ط خالِدُونَ هـ بِمِثْلِها لا لأن قوله وَتَرْهَقُهُمْ معطوف على محذوف أي يلزمهم جزاء سيئة وترهقهم ذلة. عاصِمٍ ج ط لأن الكاف لا يتعلق ب عاصِمٍ مع تعلقها بذلة قبله معنى، لأن رهق الذلة سواد الوجه المعبر عنه بقوله كأنما مُظْلِماً ط أَصْحابُ النَّارِ ج ط خالِدُونَ هـ وَشُرَكاؤُكُمْ ج للعدول مع فاء التعقيب تَعْبُدُونَ هـ لَغافِلِينَ هـ يَفْتَرُونَ هـ.
التفسير:
لما بين في الآية المتقدمة أنهم يطلبون الآيات الزائدة عنادا ومكرا ولجاجا أكد ذلك بقوله: وَإِذا أَذَقْنَا روي أنه سبحانه سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم وأنزل الأمطار النافعة، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع إلى الأصنام- وقيل نسبوها إلى الأنواء- فقابلوا نعم الله بالكفران فذلك مكرهم وهو احتيالهم في دفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في المناظرة. وفي تخصيص الإذاقة بجانب الرحمة دليل على أن الكثير من الرحمة قليل بالنسبة إلى رحمته الواسعة. وفيه أن الإنسان لغاية ضعفه الفطري لا يطيق أدنى الرحمة كما أنه لا يطيق أدنى الألم الذي يمسه. قال في الكشاف: معنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم. وهذا أيضا من جملة الضعف لأنه نسي ما عهده من الضر الشديد. و «إذا» الثانية للمفاجأة وقع مقام الفاء في(3/571)
جواب الشرط كما في قوله: إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة: 58] وفائدته أن يعلم أنهم فاجأوا وقوع المكر منهم في وقت الإذاقة وسارعوا إليه ولم يلبثوا قدر ما ينفضون عن رؤوسهم غبار الضر ولهذا قال سبحانه قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً يقدر على إيصال جزاء مكرهم إليهم قبل أن يرتد إليهم طرفهم ولكنه يمهلهم لأجل معلوم ليتضاعف خبثهم مع كونه محفوظا بيانه قوله إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ وقد مر تحقيق هذا في تفسير قوله: وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً [الأنعام: 62] . واعلم أن مضمون هذه الآية قريب من مضمون قوله: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ [يونس: 12] إلا أن هذه زائدة عليها بدقيقة هي أنهم بعد الإعراض عن الدعاء يطلبون الغوائل ويقابلون الرحمة بالمكر والخديعة ولا يرضون رأسا برأس. ثم ضرب لأجل ما وصفهم به مثالا حتى ينكشف المقصود تمام الانكشاف فقال: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ ومن قرأ ينشركم فكقوله:
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: 10] قال بعض العلماء: المسير في البحر هو الله سبحانه وتعالى، وأما في البر فالمراد من التسيير التمكين والإقدار. والحق أن جميع الأفعال والحركات مستندة إلى إحداث الله تعالى، غاية ذلك أن آثار إقداره وإحداثه في البحر أظهر كما مر في تفسير قوله: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ [البقرة: 164] قال القفال: هو الله الهادي لكم إلى السير في البحر طلبا للمعاش، وهو المسير لكم لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير. وحتى لانتهاء الغاية والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة: أولها الكون في الفلك، وثانيها جري الفلك بهم بالريح الطيبة، والضمير في جَرَيْنَ للفلك على أنها جمع كما مر. وثالثها فرحهم بها. والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة أيضا: أوّلها جاءَتْها أي الفلك أو الريح الطيبة تلتها ريح عاصف ذات عصوف كلابن لذات اللبن، أو لأن لفظ الريح مذكر والعصوف شدة هبوب الريح. وثانيها وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي من جميع جوانب أحياز الفلك، والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر. وثالثها وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي غلب على ظنونهم الهلاك. وأصله أن العدوّ إذا أحاط بقوم أو بلد فقد دنوا من البوار، فجعل إحاطة العدوّ بالشخص مثلا في الهلاك. وقرىء في الفلكي والياء زائدة كما في «الأحمري» أو أريد به الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه. قال في الكشاف: وإنما التفت في قوله:
وَجَرَيْنَ بِهِمْ إلى آخره من الخطاب الى الغيبة للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح. وقال الإمام فخر الدين الرازي: الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذه الآية دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في(3/572)
قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة: 5] دليل الرضا والتقريب. قلت: هذا وجه حسن. أما قوله: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ فقد قال ابن عباس: تركوا الشرك ولم يشركوا به من آلهتهم شيئا، وأقروا لله بالربوبية والوحدانية. وقال الحسن: ليس هذا إخلاص الإيمان لكن لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله فيكون ذلك جاريا مجرى الإيمان الاضطراري. وقال ابن زيد: هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا جاء الضر والألم لم يدعوا إلا الله. وعن أبي عبيدة: أن المراد من ذلك الدعاء قولهم: «أهيا شراهيا» تفسيره «يا حي يا قيوم»
يحكى أن رجلا قال لجعفر الصادق رضي الله عنه: ما الدليل على إثبات الصانع؟
فقال: أخبرني عن حرفتك. فقال: التجارة في البحر قال: صف لي كيف حالك؟ فقال:
ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح من ألواحها وجاءت الرياح العاصفة. قال جعفر الصادق رضي الله عنه: هل وجدت في قلبك تضرعا؟ فقال: نعم. قال جعفر: فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت.
لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ الشدة كما مر في الأنعام يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ البغي قصد الاستعلاء بالظلم من قولك بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد، وأصله الطلب فلهذا أكد المعنى بقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ قال في الكشاف:
إنما زاد هذا القيد احترازا من استيلاء المسلمين على أرض الكفرة بهدم دورهم وإحراق زروعهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة. قلت: ويحتمل أن يراد بغير شبهة حق عندهم كقوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة: 61] من قرأ متاع بالنصب فما قبله جملة تامة أي إنما بغيكم وبال على أنفسكم وهو مصدر مؤكد كأنه قيل: يتمتعون متاع الحياة الدنيا.
ومن قرأ بالرفع فإما على أن التقدير هو متاع الدنيا بعد تمام الكلام، أو على أنه خبر وقوله: عَلى أَنْفُسِكُمْ صلة أي إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها والبغي من منكرات المعاصي
قال صلى الله عليه وسلم: «أسرع الخير ثوابا صلة الرحم وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة»
وروي «اثنتان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين»
وعن محمد بن كعب: ثلاث من كن فيه كن عليه: البغي والنكث والمكر. قال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياما قلائل وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها ثُمَّ إلى ما وعدنا من المجازاة مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وهو في هذا الموضع وعيد بالعقاب كقول الرجل في معرض التهديد سأخبرك بما فعلت. ثم ذكر مثلا لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا ويشتد تمسكه بها فقال: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي صفتها العجيبة الشأن كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ أي اشتبك بسبب هذا الماء(3/573)
نَباتُ الْأَرْضِ فيحتمل أن يراد أن نباته ثم وصوله إلى حد الكمال كليهما بسبب المطر، ويحتمل أن يراد أن النبات كان في أول بروزه ومبدإ حدوثه غير مهتز ولا مترعوع، فإذا نزل المطر عليه اهتز وربا حتى اختلط بعض الأنواع ببعض وتكاثف. حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها قال الجوهري: الزخرف الذهب ثم يشبه به كل مموه مزوّر. وَازَّيَّنَتْ أصله تزينت فأدغم واجتلبت لذلك همزة الوصل. وهذا كلام في نهاية الفصاحة وفيه تشبيه الأرض بالعروس التي تأخذ الثياب الفاخرة من كل لون فتلبسها، ثم تزين بجميع الأقسام المعهودة لها من حمرة وبياض ونحوها وَظَنَّ أَهْلُها أي غلب على ظنونهم أو تيقنوا أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها متمكنون من تحصيل ريعها. أَتاها أَمْرُنا بإهلاكها واستئصالها وضربها ببعض العاهات. لَيْلًا أَوْ نَهاراً أي حين غفلتهم بالنوم أو حين اشتغالهم وتقلبهم في طلب معايشهم فَجَعَلْناها أي زرعها حَصِيداً شبيها بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله. كَأَنْ لَمْ تَغْنَ أي كأن الشأن لم يلبث زرعها بِالْأَمْسِ أي في زمان قريب. يقال: غنى بالمكان بالكسر يغنى بالفتح إذا أقام به. والأمس مثل في الوقت القريب. هذا والصحيح عند علماء البيان أن هذا التشبيه من التشبيه المركب. قال في الكشاف: شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاما بعد ما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه. وقيل: المراد أن عاقبة هذه الحياة التي ينفقها المرء في باب الدنيا كعاقبة هذا النبات الذي حين عظم الرجاء به وقع اليأس منه، لأن الغالب أن المتمسك بالدنيا إذا اطمأن بها وعظمت رغبته فيها وانتظم أمره بعض الانتظام أتاه الموت. وتلخيصه أنه كما لم يحصل لذلك الزرع عاقبة تحمد فكذلك المغتر بالدنيا المحب لها لا يحصل له عاقبة تحمد. ويحتمل أن يكون هذا مثلا لمن لا يؤمن بالمعاد، فإن الأرض المزينة إذا زال حسنها فإنه يعود رونقها مرة أخرى فكذا النشور كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ نذكر واحدة منها بعد الأخرى لتكون كثرتها وتواليها سببا لقوة اليقين وموجبا لزوال الشك لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في أحوال الآفاق والأنفس. ثم لما نفر المكلفين عن الميل إلى الدنيا بالمثل السابق رغبهم في الآخرة بقوله: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ومثله ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «سيد بنى دارا وصنع مائدة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل ورضي عنه السيد، ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد، فالله السيد والدار دار السلام والمائدة الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم» «1»
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 2. الدارمي في كتاب المقدمة باب 2.(3/574)
وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وبجنبيها ملكان يناديان بحيث يسمع كل الخلائق إلا الثقلين أيها الناس هلموا إلى ربكم والله يدعو إلى دار السلام»
واتفقوا على أن دار السلام هي الجنة واختلفوا في سبب التسمية. فقيل: لأن السلام هو الله والجنة داره فالإضافة للتشريف، وإنما أطلق اسم السلام عليه تعالى لأنه سلم من الفناء والتغير ومن جميع سمات النقص والحدوث ومن الظلم والعجز والجهل وهو القادر على تخليص المضطرين عن المكاره والآفات، وكفى بدار أضافها الله تعالى لنفسه فضلا وشرفا وبهجة وسرورا. وقيل: سميت دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات والمخافات. وقيل:
لفشوّ السلام بينهم تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يونس: 10] وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: 24] سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] واعلم أن الدعوة عامة ولكن الهداية خاصة فلذلك قال وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ومن هنا ذهب أهل السنة إلى أن الهداية والضلالة والخير والشر كلها بمشيئة الله تعالى وإرادته.
وقالت المعتزلة: المراد ويهدي من يشاء إلى إجابة تلك الدعوة ويعنون أن من أجاب الدعاء وأطاع واتقى فإن الله يهديه إليها. والمراد من الهداية الألطاف، ثم قسم أهل الدعوة إلى قسمين وبين حال كل طائفة فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ولا بد من تفسير هذه الألفاظ الثلاثة: فعن ابن عباس أحسنوا أي ذكروا كلمة لا إله إلا الله. وذهب غيره إلى أن المراد إتيان الطاعات واجتناب المنهيات لأن الدرجات العالية لا تليق إلا بهم. وأما الحسنى فقال في الكشاف: المراد المثوبة الحسنى. وقال ابن الأنباري: العرب توقع هذه اللفظة على الخلة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها، ولذلك ترك موصوفها. وأما الزيادة فحملها أهل السنة على رؤية الله لأن اللام في الحسنى للمعهود بين المسلمين من المنافع التي أعدها الله تعالى لعباده، فالزيادة عليها تكون مغايرة لها فما هي إلا الرؤية. وقالت المعتزلة: الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه، ورؤية الله تعالى بعد تسليم جوازها ليست من جنس نعيم الجنة، فالمراد بها ما يزيد على المثوبة من التفضل كقوله:
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر: 30] . وزيف بأن الزيادة إذا كان المزيد عليه مقدرا بمقدار معين وجب أن يكون من جنسه كما لو قال الرجل لغيره: أعطيتك عشرة أمنان من الحنطة وزيادة. أما إذا كان غير مقدر كما لو قال: أعطيتك الحنطة وزيادة. لم يجب أن تكون الزيادة من جنس المزيد عليه. والمذكور في الآية لفظة الحسنى وهي الجنة وإنها مطلقة، فالزيادة عليها شيء مغاير لكل ما في الجنة.
وعن علي عليه السلام: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة.
وعن ابن عباس: الحسنى الجنة والزيادة عشر(3/575)
أمثالها إلى سبعمائة ضعف. وعن مجاهد: مغفرة من الله ورضوان. وعن يزيد بن سمرة:
هي أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم. هذا شأن المنافع الحاصلة لهم، وأما أنها منافع خالصة عن الكدورات فأفاد ذلك بقوله: وَلا يَرْهَقُ أي لا يغشى وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ غبرة فيها سواد وَلا ذِلَّةٌ ولا أثر هوان وكسوف بال. ثم أشار إلى كون تلك المنافع الخالصة آمنة من الانقطاع بقوله:
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وهذا معنى قول علماء الأصول «الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم» . ثم بين حال الفريق الآخر بقوله: وَالَّذِينَ أي وجزاء الذين كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها أي جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها. ومن جوز العطف على عاملين مختلفين جوز أن يكون التقدير: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها. قالت المعتزلة: وفيه دليل على أن المراد بالزيادة في الآية المتقدمة الفضل، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله فناسب أن يكون قد دل هناك بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله. وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ فإنهم حين ماتوا ناقصين خالين عن الملكات الحميدة كان شعورهم بذلك سببا لذلهم وهوانهم على أنفسهم، وهذا على قاعدة حكماء الإسلام أن الجهل سواد وظلمة كما أن العلم والمعرفة بياض ونور ومنه قول الشبلي رضي الله عنه:
كل بيت أنت ساكنه ... غير محتاج إلى السرج
ومريض أنت عائده ... قد أتاه الله بالفرج
ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي لا يعصمهم أحد من عذابه وسخطه، أو ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما للمؤمنين. والتحقيق أنه لا عاصم من الله لأحد في الدنيا ولا في الآخرة إلا بإذن الله إلا أن هذا المعنى في الآخرة أظهر كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] ثم بالغ في الكشف عن سواد وجوههم فقال:
كَأَنَّما أُغْشِيَتْ أي ألبست وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ من قرأ بسكون الطاء فمعناه البعض والطائفة ومُظْلِماً صفته. ومن قرأ بفتحها على أنه جمع قطعة فمظلما حال من الليل والعامل فيه إما معنى الفعل في مِنَ اللَّيْلِ أو أُغْشِيَتْ لأن قوله: مِنَ اللَّيْلِ صفة لقوله: قِطَعاً فكان إفضاء العامل إلى الموصوف كإفضائه الى الصفة قاله في الكشاف. واعلم أن جمعا من العلماء ذهبوا إلى أن المراد بقوله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ هم الكفار لأن سواد الوجه من علامات الكفر بدليل قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [آل عمران: 106] وقوله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ(3/576)
تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ
[عبس: 40- 42] ولقوله بعدها وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ والضمير عائد إلى هؤلاء. ثم إنه وصفهم بالشرك. وقال الآخرون: اللفظ عام يتناول الكافر والفاسق إلا أن الآيات المذكورة مخصصة. ثم شرح بعض أحوال المشركين في القيامة فقال: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ منصوب بإضمار «اذكر» أو ظرف متعلق بتبلو أي في يوم كذا تبلو كل نفس. وحاصل الكلام أنه يحشر العابد والمعبود ليسألوا فيتبرأ المعبود من العابد خلاف ما كانوا يزعمون من قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وفيه إشارة إلى أن الممكن لا نسبة له إلى الواجب الحق، فإذا اتخذ الممكن معبودا برىء من ذلك في مقام لا ينفع إلا الصدق. قال في الكشاف: مَكانَكُمْ أي الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما نفعل بكم. وعند أبي علي هو اسم من أسماء الأفعال وحركته حركة بناء وهو كلمة وعيد عند العرب. وأَنْتُمْ لتأكيد الضمير في مَكانَكُمْ لسده مسد قوله:
«الزموا» . وَشُرَكاؤُكُمْ عطف عليه. فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ففرقنا بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم في الدنيا. قيل: عين الكلمة «واو» لأنه من زال يزول. وإنما قلبت ياء لأن وزن الكلمة «فيعل» أي زيولنا مثل بيطره أعل إعلال سيد. وقيل: هي من زلت الشيء أزيله، فعينه على هذا ياء والوزن «فعل» ونظير زيلنا قوله: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ [الآية: 48] لأن حكم الله بأنه سيكون كالكائن وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ في صحة هذه الإضافة وجوه منها: أنهم جعلوا نصيبا من أموالهم لتلك الأصنام فهم شركاؤهم. ومنها أنهم متشاركون في الخطاب في قوله: مَكانَكُمْ ومنها أنهم أثبتوا هذه الشركة والشركاء.
وقيل: هم الملائكة لقوله: ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون وقيل: كل من عبد من دون الله. وقيل: الأصنام لأن هذا الخطاب مشتمل على التهديد وأنه لا يليق بالملائكة المقربين. وكيف تنطق هذه الأصنام؟ قيل: لأن الله يخلق فيهم الحياة والعقل والنطق. ثم هل يبقيهم أو يفنيهم؟ الكل محتمل ولا اعتراض لأحد عليه. وقيل: يخلق فيهم الكلام فقط. وهذا الخطاب تهديد في حق العابدين فهل يكون تهديدا في حق المعبودين؟ قالت المعتزلة: لا، لأنه لا ذنب للمعبودين ومن لا ذنب له يقبح من الله تهديده وتخويفه. وقالت الأشاعرة: لا يسأل عما يفعل. أما قول الشركاء ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ وهم كانوا قد عبدوهم فالمراد أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا لقولهم:
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً الآية. ومن أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها ولا شعور. وقيل: لما في ذلك الموقف من الدهشة والحيرة فذلك الكذب يجري مجرى كذب الصبيان والمجانين والمدهوشين. وقيل: إنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا فجعلوها(3/577)
كالعدم. وقيل: المراد أنهم عبدوا الشياطين حيث أمروهم باتخاذ الأنداد، ومن جوز الكذب في القيامة فلا إشكال. وهُنالِكَ أي في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أو في ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان. تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ تختبر وتذوق ما أَسْلَفَتْ من العمل. ومن قرأ بالنون فالمعنى نفعل بها فعل الخابر، أو نصيب بالبلاء وهو العذاب كل نفس عاصية لأجل ما أسلفت من الشر. ومن قرأ تتلوا بتاءين فمعناه تتبع ما أسلفت لأن عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار، أو تقرأ في صحيفتها ما قدمت من خير أو شر. وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ الصادق ربوبيته وَضَلَّ عَنْهُمْ وضاع عنهم ما كانُوا يدعون أنهم شركاء الله أو ما كانوا يختلفون من شفاعة الآلهة.
والحاصل أنهم يرجعون عن الباطل ويعترفون بالحق حين لا ينفعهم ذلك.
التأويل:
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ ذوق توبة وإنابة أو ذوق كشف وشهود مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ وهي الفسوق والأخلاق الذميمة وحجب الأوصاف إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا بإظهارها إلى غير أهلها بشرف النفس وطلب الجاه والقبول. قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً فيستدرجهم عن تلك المقامات إلى دركات البعد مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ في بر البشرية وبحر الروحانية، أو في بر العبودية وبحر الربوبية حَتَّى إِذا كُنْتُمْ في فلك جذبات العناية وَجَرَيْنَ بِهِمْ بهبوب نسيم شهود الجمال وَفَرِحُوا بالوصول والوصال جاءَتْها نكباء تجلى صفات الجلال وَجاءَهُمُ موج البلايا والمحن من أماكن النعم والبلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل فَلَمَّا أَنْجاهُمْ فيه إشارة إلى أن أرباب الطلب لما وصلوا بجذبات الحق إلى شهود الجمال واستغراق لجج بحر الجلال، استقبلتهم عواصف العزة والكبرياء فيستدرجهم إلى البغي وهو الطلب في أرض ما سوى الحق غير الحق كَماءٍ أَنْزَلْناهُ من سماء القلب إلى أرض البشرية فَاخْتَلَطَ بِهِ الصفات المولدة من أرض البشرية مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ من الصفات الحميدة الإنسانية والذميمة البهيمية أَتاها حكمنا الأزلي لَيْلًا عند استيلاء ظلمات صفات النفس أَوْ نَهاراً عند بقاء ضوء الفيض الروحاني، لكنه بامتزاج القوة الخيالية والوهمية وقع في ورطة العقائد الباطلة كما لبعض الفلاسفة والمبتدعة. وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وهي مقام الفناء لأن صاحبه يسلم عن آفات الحجب أو مقام العلم والمعرفة لأن صاحبه يسلم عن آفة الاثنينية والجهالة وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بجذبات العناية إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يؤدي إلى السير بالله في الله. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، والحسنى هي شواهد الحق والنظر إليه، والزيادة الجنة وما فيها من(3/578)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
النعيم أو هي ما زاد على النظر من إفناء الناسوتية في اللاهوتية والله ولي التوفيق.
[سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 41]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
القراآت:
كلمات ربك وكذلك في آخر السورة على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر لا يهدي مثل يرمي: حمزة وعلي وخلف يَهْدِي بسكون الهاء وتشديد الدال: أبو جعفر ونافع غير ورش وعباس وأبو عمرو غير عباس بإشمام الفتحة قليلا يَهْدِي بكسر الهاء وتشديد الدال: عاصم غير يحيى وجبلة ورويس يهدي بكسرتين والتشديد: يحيى يهدي بفتحتين والتشديد: ابن كثير وابن عامر وورش وسهل ويعقوب غير رويس.
الوقوف:
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ط اللَّهُ ج تَتَّقُونَ هـ ج ط رَبُّكُمُ الْحَقُّ ج ط للاستفهام مع الفاء إِلَّا الضَّلالُ ج ط تُصْرَفُونَ هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ ثُمَّ يُعِيدُهُ الأول ط تُؤْفَكُونَ هـ إِلَى الْحَقِّ ط لِلْحَقِّ ط أَنْ يُهْدى ج ط لما مر فَما لَكُمْ ص لحق الاستفهام الثاني تَحْكُمُونَ هـ ط إِلَّا ظَنًّا ط شَيْئاً ط يَفْعَلُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ افْتَراهُ ط صادِقِينَ هـ تَأْوِيلُهُ ط الظَّالِمِينَ هـ لا يُؤْمِنُ بِهِ ط بِالْمُفْسِدِينَ هـ عَمَلُكُمْ ج لأن أَنْتُمْ مبتدأ والعامل واحد تَعْمَلُونَ هـ.(3/579)
التفسير:
لما بين فضائح عبدة الأوثان أكدها بالحجج اللامعة والبراهين القاطعة من أحوال الرزق والموت والحياة والإبداء والإعادة والإرشاد والهداية، وقد بنى الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسئول ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس.
فالحجة الأولى قوله: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بإنزال الأمطار النافعة الموجبة لتولد الأغذية النباتية والحيوانية في الأرض بعد رعاية شرائط تربيتها وإنمائها وحفظها من العاهات. أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ خص الحاستين بالذكر لما في خلقهما وتسويتهما من الفطرة العجيبة،
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «سبحان من بصّر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم»
ولما في تحصينهما من الآفات في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء مزيد قدرة ورأفة. وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ الحيوان الماشي والطائر من النطفة والبيضة وقد مر سائر الأقوال في سورة الأنعام. وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ عمم بعد ما خصص لأن أقسام تدبيره تعالى في العالم العلوي والعالم السفلي وعالمي الغيب والشهادة أمور لا نهاية لها. وذكر كلها كالمتعذر. فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ وفيه دليل على أنهم كانوا يعبدون الأصنام بناء على أنها شفعاؤهم وأنها تقربهم إلى الله زلفى، ولكنهم كانوا مخطئين في هذا الاعتقاد فلهذا ختم الآية بقوله فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ الله الذي اعترفتم بأنه سبب فيضان جميع الخيرات فكيف أشركتم بعبادته الجمادات التي لا تقدر على نفع أو ضر.
فَذلِكُمُ الموصوف بالقدرة الكاملة والرحمة الشاملة اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الثابت ربوبيته بالوجدان والبرهان. فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ «ذا» مزيدة و «ما» نافية أو استفهامية أو مجموع «ماذا» كلمة واحدة معناها أي شيء بعد الحق إِلَّا الضَّلالُ والمراد أنه لما ثبت وجود الواجب الحق كان ما سواه ممكنا لذاته باطلا دعوى الإلهية فيه، لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحدا في ذاته وفي صفاته وفي جميع اعتباراته وإلا لزم افتقاره إلى ما انقسم إليه فلا يكون واجبا هف محال ولهذا ختم الآية بقوله: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر وتقعون في الضلال، إذ لا واسطة بين الأمرين، فمن يخطىء أحدهما وقع في الآخر. كَذلِكَ أي كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق فكذلك حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ. وتفسير الكلمة أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ على أنه بدل أي حق عليهم انتفاء الإيمان وقد علم الله منهم ذلك في الأزل، وأراد بالكلمة العدة بالعذاب وأنهم لا يؤمنون تعليل على حذف اللام. احتجت المعتزلة بمثل قوله تعالى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أن الصارف لو كان هو الله تعالى لم يصح منه هذا التعجيب والإنكار. وقالت الأشاعرة: قد تعلق علمه تعالى بأنهم لا يؤمنون كما قال: حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وتعلق خبره بأنهم لا يؤمنون وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه بل بخلق الكفر(3/580)
فيه، وأثبت ذلك في اللوح المحفوظ وأشهد عليه ملائكته وأنزله على أنبيائه وأشهدهم عليه، فلو حصل الإيمان لبطلت هذه الأشياء فينقلب علمه جهلا وخبره الصدق كذبا وقدرته عجزا وإرادته عبثا وإشهاده باطلا. الحجة الثانية قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وإنما قال: ثُمَّ يُعِيدُهُ مع أن الخصم لا يعترف به لأنه قدم في هذه السورة دلائل الإعادة بحيث لا يتمكن العاقل من دفعها إذا تأمل وأنصف فبنى الأمر على ذلك. وإنما أمر نبيه أن ينوب عنهم في الجواب بقوله قُلِ اللَّهُ الآية. تنبيها على أن هذا المعنى بلغ في الوضوح إلى حيث لا حاجة فيه الى إقرار الخصم المكابر، فكأنه قيل:
تكلم عنهم إذ لا يدعهم لحاجهم أن ينطقوا بكلمة الحق. وقوله: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كقوله:
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وقد مر في «المائدة» . الحجة الثالثة قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي الآية. الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أوّلا ثم بالهداية عادة مطردة في القرآن، فحكى عن الخليل صلى الله عليه وسلم الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: 78] وعن موسى رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: 5] وأمر محمدا صلى الله عليه وسلم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: 1- 3] والسر فيه أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح وارتسام العلوم والمعارف فيه بإرشاد الحق سبحانه إذ الطرق المنحرفة كثيرة والظنون والأغاليط غير محصورة، فتحصيل الوسط الحقيقي لا يمكن إلا بتوفيقه وهدايته، ولا مدخل في ذلك بالاستقلال لملك أو إنسي أو جني فضلا عن الأصنام التي هي في أدنى مراتب الوجود لأنها جمادات لا شعور لها هذا تقرير الحجة الثالثة. وقال الزجاج: يقال: هديت للحق وإلى الحق بمعنى، فجمع بين العبارتين.
ويقال: هدى بنفسه بمعنى اهتدى كما يقال شرى بمعنى اشترى ومنه قوله: أَمَّنْ لا يَهِدِّي وسائر القراآت أصلها «يهتدي» فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء أو كسرت لالتقاء الساكنين، وقد كسرت الياء لاتباع ما بعدها. قيل: هذه الشركاء جمادات فكيف قال في حقها إِلَّا أَنْ يُهْدى وأجيب بوجوه منها: أن المراد في الآية رؤساؤهم وأشرافهم كقوله:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً [التوبة: 31] والمراد أن الله سبحانه هو الذي يهدي الخلق إلى الدين الحق بالدلائل النقلية وبما يمكنهم منه من الدلائل العقلية، وأما هؤلاء الدعاة والرؤساء فإنهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلا إذا هداهم الله. ومنها أنهم لما اتخذوها آلهة وصفهم الله تعالى بصفة من يعقل كقوله: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ [فاطر: 14] ومنها أن ذلك بالفرض والتقدير يعني أنها لو كانت بحيث يمكنها أن تهتدي فإنها لا تهدي غيرها إلا أن تهدى. ومنها أن البنية عندنا ليست بشرط في صحة الحياة(3/581)
والعقل فيصح من الله تعالى أن يجعلها حية عاقلة، ثم إنها تشتغل بهداية الغير. ومنها أن المراد من الهدي النقل والحركة يقال: هديت المرأة زوجها أي نقلت إليه، فالمعنى لا ينتقل إلى مكان إلا إذا نقل إليه. ثم عجب من مذهبهم الفاسد باستفهامين متواليين فقال:
فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.
ثم بين ما بنوا عليه أمر دينهم فقال: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا أي في إقرارهم بالله لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم بل سمعوه من أسلافهم أو في قولهم للأصنام أنها آلهة أو شفعاء، وعلى هذا فالمراد بالأكثر الجميع. إِنَّ الظَّنَّ في معرفة الله وفيما يجب تحقيقه لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ وهو العلم والتحقيق شَيْئاً من الغناء. والمعنى أن الظن لا يقوم مقام العلم في شيء من الأحوال. ثم أوعدهم على اتباعهم الظن وتقليد الآباء بقوله:
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ. وتمسك نفاة القياس بالآية ظاهر من قبل أن القياس لا يفيد إلا الظن، وأجيب بأن التمسك بالعمومات لا يفيد إلا الظن وهذه الآية من العمومات فلم يجب اتباعها بزعمكم، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكا. ولما فرغ من دلائل التوحيد شرع في إثبات النبوة فقال: ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى أي افتراء من دون الله أو كلمة «أن» بمعنى اللام أي ما ينبغي له وما استقام أن يكون مفترى. والحاصل أن وصفه ليس وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله لأنه معجز لا يقدر البشر على إتيان مثله وإنما القادر عليه هو الله تعالى. وَلكِنْ كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب المنزلة لإعجازه دونها فهو عيار عليها شاهد بصحتها، ونفس هذا التصديق أيضا معجز لأن أقاصيصه موافقة لما في كتب الأولين مع أنه لم يتعلم قط ولم يتلمذ، ولأن بشارته جاءت في تلك الكتب على وفق دعواه، ولأنه يخبر عن الغيوب المستقبلة فيقع مطابقا فظهر أن القرآن معجز من قبل اشتماله على الغيوب الماضية والمستقبلة. أما أنه معجز من جهة اشتماله على العلوم الجمة فذلك قوله: وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي يبين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع كقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: 24] قال في الكشاف قوله: لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ داخل في حيز الاستدراك كأنه قال: ولكن كان تصديقا وتفصيلا منتفيا عنه الريب كائنا من رب العالمين، وجوز أن يكون مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ متعلقا بتصديق وتفصيل ولا رَيْبَ فِيهِ اعتراض كقولك: زيد لا شك فيه كريم.
والمعنى ولكن كان تصديقا من رب العالمين وتفصيلا منه لا ريب فيه. ثم أعاد بيان إعجازه مرة أخرى فقال مستفهما على سبيل الإنكار أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إن كان الأمر(3/582)
كما تزعمون فَأْتُوا أنتم على وجه الافتراء بِسُورَةٍ مِثْلِهِ في البلاغة وحسن النظم فأنتم مثلي في العربية والفصاحة وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي لا تستعينوا بالله وحده ثم استعينوا بكل من سواه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنه افتراه. قال بعض العلماء: هذه الآية في سورة يونس وهي مكية، فلعل المراد بالسورة المتحدّي بها هذه السورة. والأصح أن التحدي واقع على أقصر سورة. قالت المعتزلة: لو لم يكن الإتيان بمثل القرآن صحيح الوجود في الجملة لم يتحدّ العرب به لكنهم تحدّوا بذلك فدل على أن القرآن محدث إذ لو كان قديما والإتيان بالقديم محال لم يصح هذا التحدي. وأجيب بأن القرآن يقال بالاشتراك على الصفة القديمة القائمة بذات الله وعلى هذه الحروف والأصوات المحدثة، والتحدي إنما وقع بهذه لا بتلك بَلْ كَذَّبُوا سارعوا إلى التكذيب بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وهو القرآن وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ومعنى التوقع فيه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل تقليدا للآباء، وكذبوا به بعد التدبر وتكرير التحدي عليهم واستيقان عجزهم عن هذا بغيا وحسدا وعنادا. وذلك إنما حملهم على التكذيب أوّلا وآخرا وجوه منها: أنهم وجدوا في القرآن أقاصيص الأولين ولم يعرفوا المقصود منها فقالوا أساطير الأوّلين، وخفي عليهم أن الغرض منها بيان قدرة الله تعالى على التصرف في هذا العالم ونقل الأمم من العز إلى الذل وبالعكس، ليعرف المكلف أن الدنيا ليست مما يبقى، فنهاية كل حركة سكون وغاية كل سكون أن لا يكون كقوله: عز من قائل لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: 111] . ومنها أنهم كلما سمعوا حروف التهجي في أوائل السور ولم يفهموا منها شيئا ساء ظنهم بالقرآن فأجاب الله تعالى عنه بقوله: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ إلى قوله: وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران: 7] الآية. ومنها أنهم رأوا القرآن يظهر شيئا فشيئا فاتهموا النبي وقالوا: لولا أنزل عليه القرآن جملة واحدة [الفرقان: 32] ومنها أنهم وجدوا القرآن مملوءا من حديث الحشر والنشر، وكانوا قد ألفوا المحسوسات فاستبعدوا ذلك. وأنهم وجدوا فيه تكاليف كثيرة من الصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد وكانوا يقولون. إن إله العالم غني عنا وعن طاعاتنا كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني قبل النظر في معجزات أنبيائهم. قال أهل التحقيق: في الآية دلالة على أن من كان غير عارف بوجوه التأويل قد يقع في الكفر والبدعة، لأن ظواهر النصوص قد تتعارض فيفتقر هنالك إلى تطبيق التنزيل على التأويل. وقيل: معنى الآية أن القرآن كتاب معجز من جهتين: من جهة إعجاز نظمه ومن جهة ما فيه من الأخبار بالغيوب ومن جملتها أحوال الآخرة. فقوله: بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ إشارة إلى التكذيب(3/583)
به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حد الإعجاز، وقوله: وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ إشارة إلى تكذيبهم قبل أن يمتحنوا غيوبه هل تطابق الواقع أم لا. ثم ختم الآية بقوله: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ والمراد أنهم طلبوا الدنيا وأعرضوا عن الآخرة فلم تبق عليهم الدنيا وفاتتهم الآخرة فبقوا في خسران الدارين. وقيل: المقصود عذاب الاستئصال الذي نزل بالمكذبين قبلهم. ثم قسم طوائف الأمم المكذبين فقال: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ أي بالقرآن أو بالرسول أي يصدق به في نفسه ويعلم أنه حق ولكنه يعاند وَمِنْهُمْ من يشك فيه لا يصدق به لا ظاهرا ولا باطنا، ويمكن أن يقال: المراد به قسمتهم في الاستقبال أي ومنهم من سيؤمن به ومنهم من يبقى على الكفر فتكون الآية كالعذر في تبقيتهم وعدم استئصالهم وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ فيجازيهم على حسب مراتبهم في التكذيب ويعلم طوياتهم هل يتوبون أو يصرفون. ثم بين اختصاص كل مكلف بأفعاله وبنتائج أعماله من الثواب والعقاب فقال: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي أي جزاء عملي على الطاعة والإيمان وتبليغ الرسالة وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ قال مقاتل والكلبي: هي منسوخة بآية القتال. والتحقيق أن آية القتال لا تدفع شيئا من مدلولات هذه فلا نسخ والله أعلم.
التأويل:
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ أي من ينزل من سماء النفس مطر الهواجس ويخرج من أرض النفس نبات الأفعال والأعمال، وينزل من سماء القلب مطر أثار فيض الروح ويخرج من أرض النفس نبات الصفات البشرية والحيوانية، أو ينزل من سماء الروح مطر فيض الروح ويخرج من أرض القلب نبات الأوصاف الحميدة، أو ينزل من سماء القدرة مطر تجلي الصفات والفيض الرباني ويخرج من أرض الروح المحبة والأخلاق الإلهية، أو ينزل من سماء الذات مطر تجلي الصفات ويخرج من أرض الوجود نبات الفناء في الله وثمرات البقاء بالله أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ فيكون سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ النفس من القالب والقلب من الروح والروح من القلب وبالعكوس وَمَنْ يُدَبِّرُ أمر الإنسان بالتربية من التراب إلى أن يصل إلى رب الأرباب.
فسيقولون هذه الأحوال كلها من الله فقل لمن بلغ نظره إلى هذه المراتب العلية وإنها عتبة باب التوحيد والمعرفة أَفَلا تَتَّقُونَ بالله عن غيره لتدخلوا بيت الوحدة كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ هكذا جرى القلم في الأزل على الذين خرجوا عن قبول فيض النور حين رش على الخلق من نوره. وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ وتفصيل الجملة التي هي مكتوبة عنده في أم الكتاب وهو علمه القائم بذاته. وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ الذين أفسدوا استعدادهم الفطري والله أعلم.(3/584)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
[سورة يونس (10) : الآيات 42 الى 60]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)
القراآت:
أَفَأَنْتَ بتليين الهمزة ونحوه: الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف.
وَلكِنَّ النَّاسَ بالتخفيف والرفع: حمزة وعلي وخلف يَحْشُرُهُمْ بالياء: حفص.
الباقون بالنون نرينك أو نتوفينك بالنون الخفيفة: رويس آلان بوزن «عالان» بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام حيث كان: أبو جعفر ونافع وزمعة وحمزة في الوقف رَبِّي إِنَّهُ بفتح الياء: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع. فَلْيَفْرَحُوا بياء الغيبة تجمعون بتاء الخطاب: ابن عامر ويزيد. وقرأ زيد على ضده، وقرأ رويس كليهما على الخطاب. الباقون على الغيبة فيهما.
الوقوف:
إِلَيْكَ ط لا يَعْقِلُونَ هـ إِلَيْكَ ط لا يُبْصِرُونَ هـ يَظْلِمُونَ هـ بَيْنَهُمْ ط مُهْتَدِينَ هـ يَفْعَلُونَ هـ رَسُولٌ ج ط لا يُظْلَمُونَ هـ صادِقِينَ هـ ما(3/585)
شاءَ اللَّهُ
ط أَجَلٌ ط وَلا يَسْتَقْدِمُونَ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ آمَنْتُمْ بِهِ ط، تَسْتَعْجِلُونَ هـ الْخُلْدِ ج ط للاستفهام مع أن القائل واحد تَكْسِبُونَ هـ أَحَقٌّ هُوَ ط بِمُعْجِزِينَ هـ لَافْتَدَتْ بِهِ ط الْعَذابَ ج ط للعطف على أَسَرُّوا دون رَأَوُا يُظْلَمُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ تُرْجَعُونَ هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ فَلْيَفْرَحُوا ط يَجْمَعُونَ هـ وَحَلالًا ط تَفْتَرُونَ هـ الْقِيامَةِ ط لا يَشْكُرُونَ هـ.
التفسير:
إن الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر وعظمت نفرته عنه صارت نفسه متوجهة إلى طلب مقابحه في كلامه معرضة عن جهات محاسنه فيه، وكما أن الصمم في الأذن معنى ينافي حصول إدراك الصوت، والعمى في العين أمر ينافي حصول إدراك الصورة، فكذلك حصول هذا البغض الشديد يضاد وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه، فبين الله سبحانه في أولئك الكفار من بلغت حاله في النفرة والعداوة إلى هذا الحد يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكنهم لا يسمعون ولا يقبلون وينظرون إليك يعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يتبصرون ولا يصدقون. قال أهل المعاني: المستمع إلى القرآن كالمستمع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بخلاف النظر. فكان في المستمعين كثرة فجمع ليطابق اللفظ المعنى ووحد النظر حملا على اللفظ إذ لم يكثروا كثرتهم. ثم قال: أتطمع أن تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم، أو تقدر على هداية العمي ولا سيما إذا قرن بفقد البصر فقد البصيرة، إنما يقدر على ردهم إلى حالة الكمال خالق القدر والقوى وحده. وهذا الحصر إنما يفهم من قوله: أَفَأَنْتَ. والمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم فإن الطبيب إذا رأى مريضا لا يقبل العلاج أصلا أعرض عنه ولم يستوحش من ذلك لأن التقصير من المزاج لا من الصنعة والحذق. ثم أكد عدم قابليتهم في الفطرة مع إشارة إلى ما يلحقهم من الوعيد يوم القيامة بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ الآية. فسرها المعتزلة بأن المراد من نفي الظلم أنه ما ألجأ أحد إلى هذه القبائح والمنكرات ولكنهم باختيار أنفسهم أقدموا عليها. وأجاب الواحدي عنه بأنه إنما نفى الظلم عن نفسه لأنه يتصرف في ملك نفسه فلا اعتراض عليه. وإنما قال: وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب. والتحقيق أنه نفى الظلم عنه لأن وقوع فريق القهر ضروري، ونسب الظلم إليهم لخصوص وقوعهم في الطريق وفيه دقة. ثم ذكر وعيد الكفار فقال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي واذكر يوم يحشرهم كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا في محل النصب على الحال أي مشبهين بمن لم يلبث إِلَّا ساعَةً وقوله يَتَعارَفُونَ إما حال أخرى أو بيان لقوله: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد. ويجوز أن يكون قوله:(3/586)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ متعلقا ب يَتَعارَفُونَ والمراد باللبث. قيل: لبثهم في الدنيا وقيل في القبور استقلوا المدد الطوال إما لأنهم ضيعوا أعمارهم في الدنيا فجعلوا وجودها كالعدم واستقصروها للدهش والحيرة، أو لطول وقوفهم في الحشر، أو لشدة ما هم فيه من العذاب نسوا لذات الدنيا واستحقروها. وأما التعارف فقد قيل: يعرّف بعضهم بعضا ما كانوا عليه من الخطإ والكفر وقيل: يعرف كل واحد أهل معرفته. والجمع بين ذلك وبين قوله: وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً [المعارج: 10] أن هذا تعارف توبيخ وتضليل يقول كل فريق لصاحبه أنت اضللتني يوم كذا، أو أنهم يتعارفون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة. وإنما حذف «جميعا» في هذه الآية اكتفاء بما في الآية السابقة وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا [الأنعام: 122] ولأن الآية سيقت هناك لبيان حشر العابدين والمعبودين فأكد بقوله:
جَمِيعاً ليشمل الفريقين صريحا والله أعلم. قوله: قَدْ خَسِرَ استئناف فيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أخسرهم! وفيه شهادة من الله على خسرانهم. وجوز في الكشاف أن يكون على إرادة القول أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك. ثم أكد خسرانهم بقوله: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أي في رعاية مصالح هذه التجارة لأنهم أعطوا الكثير الشريف الباقي وقنعوا بالقليل الخسيس الفاني كمن رأى زجاجة خسيسة فظنها جوهرة نفيسة فاشتراها بكل ماله، فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله.
ثم سلى رسوله صلّى الله عليه وسلم فقال: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ وجوابه محذوف. وقوله: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ جواب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ والمعنى وإما نرينك في أعدائك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل أن تدركه فنحن نريكهم في الآخرة لأن مرجع الكل إلينا. ولقد صدق الله وعده فقد أراه في هذه الدار خزيهم وقهرهم بالقتل والأسر والاستعلاء عليهم والاستيلاء على ديارهم وأموالهم، والذي سيريه في الآخرة أكثر وأدوم يدل عليه لفظ «ثم» لتبعيد الرتبة في قوله: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ ولا يخفى نتيجة هذه الشهادة من السخط والعقاب، ويحتمل أن يراد إنطاق جوارحهم يوم القيامة جعل ذلك بمنزلة شهادة الله. ثم بيّن أنه ما أهمل أمة من الأمم من رسول في وقت من الأوقات فقال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ وزمان الفترة محمول على ضعف دعوة النبي صلّى الله عليه وسلم المتقدم ووقوع موجبات التخليط في شرعه. فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ فبلغ فكذبه قوم وصدقه آخرون قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي حكم وفصل بالعدل فأنجى الرسول والمصدقون وعذب المكذبون فهذه الآية نظيرة قوله:
وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: 15] ويحتمل أن يقال: المراد ولكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول ينسبون إليه ويدعون به فكأنه تعالى يقول: أنا شهيد على(3/587)
أعمالهم ومع ذلك فإني أحضر في موقف القيامة، مع كل قوم رسولهم حتى يشهد عليهم بالكفر والإيمان. فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ وشهد لهم أو عليهم قُضِيَ بَيْنَهُمْ والمراد منه المبالغة في إظهار العدل والنصفة فتكون الآية كقوله: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: 41] ثم ذكر شبهة أخرى من شبهات الكفرة، وذلك أنه صلّى الله عليه وسلم كلما هددهم بنزول العذاب ومر زمان ولم يظهر ذلك العذاب كانوا يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ استبعادا لنزوله وقدحا في نبوته وهذا مما يؤكد القول الأوّل في الآية المتقدمة، لأنه لا يجوز أن يقولوا متى هذا الوعد عند حضورهم في دار الآخرة لحصول اليقين والمعرفة حينئذ. وأيضا قوله: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لفظ الجمع موافق لقوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ثم أمره أن يجيب بما يحسم مادة الشبهة وهو قوله: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا من مرض أو فقر وَلا نَفْعاً من صحة أو غنى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قال العلماء: إنه استثناء منقطع أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن فكيف أملك لكم الضر وجلب العذاب. ثم بين أن أحدا لا يموت إلا بالقضاء، وأن لعذاب كل طائفة أمدا محدودا لا يتجاوزه فلا وجه للاستعجال. فقال ولكل أمة أجل الآية. وقد مر تفسير الآية في أوائل الأعراف إلا أنه أدخل الفاء هاهنا في الجزاء، فإنه بنى الشرط على الاستئناف أو البيان بخلاف ما هنالك فإنه جعل الشرط مرتبا على قوله: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ [الأعراف:
34] فلم يحسن الجمع بين الفاءين. ثم زيف رأيهم في استعجال العذاب مرة أخرى فقال:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أي في حين الغفلة والراحة. أَوْ نَهاراً حين الاشتغال بطلب المعاش كما مر في أول الأعراف ماذا يَسْتَعْجِلُ أي شيء يستعجل مِنْهُ أي من العذاب الْمُجْرِمُونَ وإنما لم يقل «ماذا يستعجلون منه» دلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام، لأن حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه وإن أبطأ مجيئه فضلا عن أن يستعجله. و «من» للبيان أو للابتداء والمعنى أن العذاب كله مر المذاق موجب للنفار فأيّ شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال؟ أو المراد التعجب كأنه قيل: أيّ شيء هائل شديد يستعجلون؟ وقيل: الضمير في «منه» لله تعالى وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه. و «ماذا» الجملة مفعول أَرَأَيْتُمْ ويجوز أن يكون جوابا للشرط كقولك إن أتيتك ماذا تطعمني، ثم تتعلق الجملة ب أَرَأَيْتُمْ ويجوز أن يكون اعتراضا وجواب الشرط ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ والمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، ودخول حرف الاستفهام على «ثم» كدخوله على الواو والفاء إلا أنه على إرادة القول أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلْآنَ آمنتم به وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ على جهة التكذيب والإنكار(3/588)
وقوله ثُمَّ قِيلَ عطف على قيل المضمر قبل آلْآنَ والحاصل ان الذي تطلبونه ضرر محض عار عن المنفعة، والعاقل لا يطلب مثل ذلك. وإنما قلنا إنه ضرر محض لأنه إذا وقع العذاب فإما أن تؤمنوا وإيمان اليأس غير مقبول، وإما أن لا تؤمنوا فيحصل عقيب ذلك عذاب آخر أشد وأدوم ويقال على سبيل الإهانة. ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ فإن قلتم إلهنا أنت الغني عن الكل فكيف يليق برحمتك هذا الوعيد والتهديد؟ أجبتم هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ فالجزاء مرتب على العمل ترتب المعلول على العلة كما يقوله الحكيم، أو ترتب الأجر الواجب عند المعتزلة، أو بحكم الوعد المحض عند أهل السنة. وتفسير الكسب مذكور في البقرة في قوله: لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ [الآية: 134] .
ثم حكى عنهم أنهم بعد هذه البيانات استفهموا تارة أخرى عن تحقيق العذاب فقال:
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ وهو استخبار على جهة الاستهزاء والإنكار أي أحق ما تعدنا به من نزول العذاب في العاجل؟ وهذا السؤال جهل محض لأنه تقدم ذكره مع الجواب مرة واحدة فلا وجه للإعادة، ولأنه قد تبين بالبراهين القاطعة صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم فيلزم القطع بصحة كل ما يخبر عن وقوعه. وقيل: المراد أحق ما جئت به من القرآن والشرائع؟ وقيل: أي ما تعدنا من البعث والقيامة؟ فأمره الله تعالى أن يجيبهم بقوله: قُلْ إِي وَرَبِّي ومعناه نعم ولكنه مستعمل مع القسم البتة. وفائدة هذا القسم في جوابهم أن يكون قد أبرز الكلام معهم على الوجه المعتاد بينهم استمالة لقلوبهم. ومن الظاهر أن من أخبر عن شيء وأكده بالقسم فقد أخرجه عن حد الهزل وأدخله في باب الجد. فقد يكون هذا القدر مقنعا إذا لم يكن الخصم ألد. ثم أكد مضمون المقسم عليه بقوله وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فائتين العذاب.
والغرض التنبيه على أن أحدا لا يدافع نفسه عما أراد الله وقضى. ثم زاد في التأكيد بقوله:
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ الآية. وقد مر مثله في «آل عمران» و «المائدة» . وقوله: ظَلَمَتْ صفة لنفس. أما قوله: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ فقد قيل: الإسرار بمعنى الإظهار والهمزة للسلب أي أظهروا الندامة حينئذ لضعفهم وليس هناك تجلد. والمشهور أنه الإخفاء وسببه أنهم بهتوا حين عاينوا ما سلبهم قواهم فلم يطيقوا صراخا ولا بكاء، أو أخفوا الندامة من سفلتهم وأتباعهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم. وهذا التزوير في أول ما يرون العذاب، أما عند إحاطة النار بهم فلا يبقى هذا التماسك، أو أراد بالإخفاء الإخلاص لأن من أخلص في الدعاء أسره، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم لأنهم أتوا بذلك في غير وقته وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ قيل: أي بين المؤمنين والكافرين. وقيل: بين الرؤساء والأتباع، وقيل: بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم. وقيل: بين الظالمين من الكفار والمظلومين منهم فيكون في(3/589)
ذلك القضاء تخفيف من عذاب بعضهم وتثقيل لعذاب بعضهم وإن اشترك كلهم في العذاب.
ثم ذكر آيتين أن له جميع ما قرر بحكم المالكية والقدرة على الإحياء والإماتة والإبداء والإعادة. وقيل: في وجه النظم أنه لما ذكر حديث الافتداء بيّن أنه ليس للظالم شيء يفتدي به فإن كل الأشياء ملكه وملكه. وقيل: إنه لما أقسم على حقية ما جاء به النبي وكان دليلا إقناعيا أراد أن يصححها بالبرهان النير فذكر أن كل ما في هذا العالم من نبات وحيوان وجسد وروح وظلمة ونور وعلوي وسفلي بسيط ومركب فهو ملكه، فلكونه قادرا على جميع الممكنات يقدر على إيصال الرحمة إلى أوليائه والعذاب إلى أعدائه، ولكونه منزها عن النقائص والآفات يكون بريئا عن الخلف في الوعد والإيعاد. وفي تصدير الكلام بكلمة «ألا» تنبيه للغافلين وإيقاظ للنائمين وتقريع للناظرين في الأسباب الظاهرة القائلين: البستان للأمير، والدار للوزير، والغلام لزيد والجارية لعمرو، ولا يعلمون أن كلها عوار وودائع.
ولا بد يوما أن ترد الودائع واعلم أن الطريق إلى إثبات نبوة الأنبياء بأمور أحدها: إظهار المعجزة على يده مطابقا لدعواه، وقد قرره الله سبحانه في هذه السورة على أحسن الوجوه حيث قال: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى إلى تمام الآيتين. والثاني أن نعلم بعقولنا أن الاعتقاد الحق والعمل الصالح ما هو فكل من جاء ودعا الخلق إلى ذلك وادعى الرسالة وكان لنفسه قوّة تكميل الناقصين غلب على ظننا أنه النبي الحق، فأشار سبحانه إلى هذا الطريق بقوله:
قل يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية. فوصف القرآن بصفات أربع: الأولى كونه موعظة والمراد بها الزجر عما لا ينبغي كالطبيب ينهى المريض أوّلا عما يضره. الثانية كونه شفاء لما في الصدور لحصول العقائد الحقة والأخلاق الحميدة فيها بدل أضدادها كالطبيب يعيد الصحة بدل المرض والأخلاط المحمودة بدل الأخلاط الفاسدة بالمعالجات الصائبة والأدوية النافعة. الثالثة حصول الهدى بسببه وذلك أنه إذا زالت الملكات الرديئة التي طبيعتها الظلمة وصارت مرآة النفس مصقولة محاذية لعالم القدس انطبع فيها نقش الملكوت وتجلى لها قدس اللاهوت. الرابعة كونه رحمة للمؤمنين وذلك بأن تصير النفس البالغة إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية بحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام هذا العالم. وإنما خص المؤمنين بهذه الرحمة لأن كل روح لم يتوجه إلى خدمة أرواح الأنبياء المطهرين لم ينتفع بأنوارهم كما أن كل جرم لم يقع في مواجهة قرص الشمس لا يستضيء بنورها. والحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة(3/590)
والأخلاق الرديئة بتحصيل أضدادها وهي الطريقة، والهدى عبارة عن ظهور نور الحق في قلوب الصدّيقين وهي الحقيقة، والرحمة إشارة إلى كونها بالغة في الكمال والإشراق إلى حيث تصير مكملة للباقين وهي النبوة.
ولما أرشد سبحانه إلى الطريق الموصل إلى السعادات الباقية الروحانية ذكر أنها هي التي يجب أن يكمل الفرح بحصولها دون السعادات الفانية الجسمانية فقال: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ قال في الكشاف: أصل الكلام بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا والتكرير للتقرير والتأكيد، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف أحد الفعلين لدلالة الآخر عليه. والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، وجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا، وأن يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي بمجيئها فليفرحوا. وعلى هذا يكون قُلْ اعتراضا. ومن قرأ بتاء الخطاب فمعناه على ما نقل عن زيد بن ثابت فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار، ونسبت هذه القراءة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو الأصل والقياس لأنه أدل على الأمر بالفرح وأشد تحريضا به.
وإنما قلنا إنه الأصل لأن حكم الأمر في المخاطب والغائب واحد إلا أنه خفف أمر المخاطب بحذف اللام وبحذف حرف المضارعة لكثرة الاستعمال فاضطروا إلى همزة الوصل. ومن قرأ تجمعون بتاء الخطاب فإنه عنى المخاطبين والغائبين جميعا إلا أنه غلب الخطاب كما يغلب التذكير، أو كأنه أراد المؤمنين وفيه حث لهم على ترجيح الجواذب العقلية الروحانية على النوازع النفسانية الجسدانية لأنه لا معنى لهذه اللذات الجسمانية إلا دفع الآلام، والمعنى العدمي لا يستحق الفرح به، وبتقدير أن تكون صفات ثبوتية إلا أن التضرر بآلامها أقوى من الانتفاع بلذاتها فلا نسبة للذة الوقاع- وهي أقوى اللذات- إلى ألم القولنج وسائر الآلام القوية. وأيضا إن مداخل اللذات الجسمانية معظمها البطن والفرج، ومداخل الآلام كل جزء من أجزاء البدن. وأيضا اللذات الجسمانية لا بقاء لها مثلا إذا زال ألم الجوع زال الالتذاذ بالأكل، وكل ما لا بقاء له لا يشتد فرح العاقل بحصوله، ولو لم يحصل في لذة الأكل والوقاع إلا إتعاب الحواس والجوارح في مقدماتها ولواحقها لكفى.
ومن المعلوم أن الفرح الحاصل بحدوث الولد لا يعادل الحزن الواقع عند موته وفيه قال المعري:
إن حزنا في ساعة الموت ضعا ... ف سرور في ساعة الميلاد
فتبين بهذه الوجوه أن الفرح إنما يجب أن يكون بالروحانيات الباقيات لا(3/591)
بالجسمانيات الزائلات، أما المفسرون فقد قالوا: فضل الله الإسلام، ورحمته ما وعد عليه.
وعن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تلا قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فقال: بكتاب الله والإسلام.
ومثله ما روي عن أبي سعيد الخدري: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله. ثم أشار إلى طريق ثالث في إثبات النبوة فقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية. وتقريره أنكم تحكمون بحل بعض الأشياء وبحرمة بعضها فإن كان هذا لمجرد التشهي فذلك طريق باطل مهجور بالاتفاق لأدائه إلى التنازع والتشاجر واختلاف الآراء وافتراق الأهواء، وإن كان لأنه حكم الله فيكم فبم عرفتم ذلك فإن كان بقول رسول أرسله إليكم فقد اعترفتم بصحة النبوة وإلا كان افتراء على الله. وفي الآية أيضا إشارة إلى فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم من تحريم السوائب والبحائر وقولهم: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام: 138] وغير ذلك. وما أَنْزَلَ الجملة في محل الرفع بالابتداء وخبره آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ وقُلْ مكرر للتأكيد والرابط محذوف، ومجموع المبتدأ والخبر متعلق ب أَرَأَيْتُمْ والمعنى أخبروني الذي أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا آلله أذن لكم في تحريمه وتحليله أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وعن الزجاج أن «ما» في ما أَنْزَلَ بمعنى الاستفهام منصوبا ب أَنْزَلَ وأنه مع معموله مفعول أَرَأَيْتُمْ معناه أخبرونيه. وعلى هذا يكون قُلْ آللَّهُ كلاما مستأنفا. ومعنى أنزل خلق وأنشأ كقوله: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: 6] وذلك أن كل ما في الأرض من زرع أو ضرع فإنه بسبب الماء النازل من السماء. قال في الكشاف: ويجوز أن تكون الهمزة في آللَّهُ للإنكار و «أم» منقطعة بمعنى «بل» أتفترون على الله تقريرا للافتراء. ثم قال: وَما ظَنُّ الَّذِينَ يعني أي شيء ظنهم في ذلك اليوم وما يصنع بهم فيه؟ وهو في صورة الاستعلام ولكن المراد تعظيم وعيد من يفتري على الله حيث أبهم أمره وكفى به زاجرا للمفتي في الأحكام بغير علم فليتق الله وليصمت لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ إذ أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بإرسال النبي وتعليم الشرائع وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ هذه النعمة بجحد نبيه أو مخالفته.
التأويل:
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ صم آذان القلوب أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ عمي أبصار البصائر. ويوم نحشرهم حشر العوام خروج أجسادهم من القبور إلى المحشر، وحشر الخواص خروج أرواحهم الأخروية من قبور أجسادهم الدنيوية بالسير والسلوك، وحشر الأخص خروجهم من قبور الأنانية الروحانية إلى هوية الربانية كما قال: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ [مريم: 85] كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار لأنه لا نسبة لمدة الدنيا إلى ما بين الأزل والأبد. يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعرفون تفاوت مقامات كل صنف من(3/592)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
هؤلاء وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ بشرط الإيمان من نعيم الجنان ولقاء الرحمن أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فنبلغك أقصى المراتب ومقامك المحمود فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ رجوعا اضطراريا لا اختياريا ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ من خسارة الدارين وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ في الظاهر من الأنبياء وفي الباطن من إلهام الحق. لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ في استكمال السعادة والشقاوة بَياتاً أي في الأزل أَوْ نَهاراً أي يظهر الآن ما قدّر لكم في الأزل.
قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ أي أقسم بربك الذي يريك أن وقوع الأمور الأخروية حق لأنك عبرت على الجنة والنار ليلة المعراج ظلمت بإفساد الاستعدادات. أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ الأرواح وأرض القلوب والنفوس أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ لأهل السعادة ولأهل الشقاوة في الأزل حَقٌّ ... هُوَ يُحيِي قلوب بعضهم بالمعرفة وَيُمِيتُ قلوب آخرين بالجهل، أو يحيي بالنور ويميت بالظلمة، أو يحيي بصفة الجمال ويميت بصفة الجلال يا أَيُّهَا النَّاسُ يا أهل النسيان قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ هي خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] وهو داء العشق وشفاء من ذلك الداء وهو توفيق إجابة بَلى لِما فِي الصُّدُورِ وهو القلب فإنها درة صدف الصدر وهدى عناية خاصة إذ الدعوة عامة والهداية خاصة. ورحمة اتصال إمداد الفيض إلى أن يبلغ غاية الكمال ويفوز بالوصول والوصال قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وهو إسماع الخطاب ورحمته وهو الإبقاء على مدلول الخطاب فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يجمعه أهل الدنيا في دنياهم ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ القلوب والأرواح فضلا عن النفوس والأشباح من الواردات والشواهد فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً على أنفسكم وَحَلالًا على غيركم أي حدثت أنفسكم بأن تحصيل هذه السعادات ونيل تلك الكرامات ليس من شأننا وإنما هو من شأن الأنبياء وخواص الأولياء قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أن تعرضوا عن هذه المقامات وتحيلوها إلى غيركم وتركنوا إلى الدنيا وزخارفها أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ بأن الدعوة اختصت بهم دوننا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بتسوية الاستعداد الفطري.
[سورة يونس (10) : الآيات 61 الى 70]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)(3/593)
القراآت:
شَأْنٍ بغير همز حيث كان: أبو عمرو غير شجاع والأعشى ويزيد والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف يَعْزُبُ بالكسر حيث كان: علي. الباقون بالضم. وَلا أَصْغَرَ وَلا أَكْبَرَ بالرفع فيهما: حمزة وخلف وسهل ويعقوب والمفضل.
الآخرون بالنصب.
الوقوف:
تُفِيضُونَ فِيهِ ط مُبِينٍ هـ يَحْزَنُونَ هـ ج لأن الَّذِينَ يصلح صفة ل أَوْلِياءَ ويصلح نصبا أو رفعا على المدح فيوقف على يَتَّقُونَ أو مبتدأ خبره هُمُ الْبُشْرى
فلا يوقف على يَتَّقُونَ فِي الْآخِرَةِ
طكَلِماتِ اللَّهِ
طْعَظِيمُ
هـ ط لأنه لو وصل لأوهم أن الضمير عائد إلى أَوْلِياءَ وقول الأولياء لا يحزن الرسول.
قَوْلُهُمْ م لئلا يوهم أن قوله: إِنَّ الْعِزَّةَ مقول الكفار. جَمِيعاً ط الْعَلِيمُ هـ الْأَرْضِ ط شُرَكاءَ ط يَخْرُصُونَ هـ مُبْصِراً ط يَسْمَعُونَ هـ سُبْحانَهُ ط الْغَنِيُّ ط وَما فِي الْأَرْضِ ط بِهذا ط ما لا تَعْلَمُونَ هـ لا يُفْلِحُونَ هـ ط، يَكْفُرُونَ هـ.
التفسير:
لما بين فساد طريقة الكفار في عقائدهم وأحكامهم بيّن كونه سبحانه عالما بعمل كل أحد وبما في قلبه من الدواعي والصوارف والرياء والإخلاص وغير ذلك فقال:
وَما تَكُونُ يا محمد فِي شَأْنٍ أي أمر من الأمور. وأصله الهمز بمعنى القصد من شأنت شأنه إذا قصدت قصده. قال ابن عباس: أي في شأن من أعمال البر. وقال الحسن: في شأن الدنيا وحوائجها و «ما» في وَما تَكُونُ وما يتلوا نافية والضمير في مِنْهُ إما لله عز وجل أي نازل من عنده، وإما للشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شؤون رسول الله صلّى الله عليه وسلم بل هو معظم شأنه ولهذا أفرد بالذكر كقوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] وإما للقرآن والإضمار قبل الذكر تفخيم له كأنه قيل: وما تتلو من التنزيل من قرآن لأن كل جزء منه قرآن. ثم عمم الخطاب فقال: وَلا تَعْمَلُونَ أيها المكلفون مِنْ(3/594)
عَمَلٍ
أيّ عمل كان إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً شاهدين رقباء والجمع للتعظيم أو لأن المراد الملائكة الموكلون إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ الإفاضة الشروع في العمل على جهة الانصباب والاندفاع ومنه قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [البقرة: 198] قيل: شهادة الله علمه فيلزم أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وجودها. والجواب أن الشهادة علم خاص ولا يلزم منه امتناع تقدم العلم المطلق على الشيء كما لو أخبرنا الصادق أن زيدا يفعل كذا غدا فنكون عالمين بذلك لا شاهدين. ثم زاد في التعميم فقال: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ أي لا يبعد ولا يغيب ومنه كلأ عازب أي بعيد، والرجل العزب لبعده عن الأهل. ومعنى مِثْقالِ ذَرَّةٍ قد مر في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: 140] . وذلك في سورة النساء. والمقصود أنه لا يغيب عن علمه شيء أصلا وإن كان في غاية الحقارة. وإنما قال هاهنا فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ خلاف ما في سورة سبأ وهو المعهود في القرآن لأن الكلام سيق لشهادته على شؤون أهل الأرض فناسب أن يقدم ذكر ما في الأرض، هذا بعد تسليم أن الواو تفيد الترتيب. ثم بالغ في تعميم علمه فقال: وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ من قرأ بالنصب على نفي الجنس أو بالرفع على الابتداء ليكون كلاما برأسه فلا إشكال، وأما من جعله منصوبا معطوفا على لفظ مثقال لأنه في موضع الجر بالفتح لامتناع الصرف، أو جعله مرفوعا معطوفا على محل مِنْ مِثْقالِ لأنه فاعل يَعْزُبُ فأورد عليه الإشكال وهو أنه يصير تقدير الآية لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجا عن علم الله وإنه محال.
ويمكن أن يجاب عنه بأن الأشياء المخلوقة قسمان: قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كخلق الملائكة والسموات والأرض، وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأول من حوادث عالم الكون والفساد، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة واجب الوجود، فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده شيء في الأرض ولا في السماء إلا هو في كتاب مبين. وهو كتاب أثبت فيه صور تلك المعلومات، والغرض الرد على من يزعم أنه تعالى غير عالم بالجزئيات. أو نقول: إن الاستثناء منقطع بمعنى لكن هو في كتاب مبين. وذكر أبو علي الجرجاني صاحب النظم أن «إلا» بمعنى الواو على أن الكلام قد تم عند قوله: وَلا أَكْبَرَ ثم وقع الابتداء بكلام آخر فقال: إِلَّا فِي كِتابٍ أي وهو أيضا في كتاب مُبِينٍ والعرب تضع «إلا» موضع واو النسق كثيرا ومنه قوله: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النمل: 11] يعني ومن ظلم. وقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني والذين ظلموا.(3/595)
ثم إنه لما بين إحاطته بجميع الأشياء وكان في ذلك تقوية قلوب المطيعين وكسر قلوب المذنبين أتبعها تفصيل حال كل فريق فقال: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ الآية. والتركيب يدل على القرب فكأنهم قربوا منه تعالى لاستغراقهم في نور معرفته وجماله وجلاله. قال أبوبكر الأصم: هم الذين تولى الله هدايتهم بالبرهان وتولوا القيام بحق عبوديته والدعوة إليه. وقال المتكلمون: ولي الله من يكون آتيا بالاعتقاد الصحيح المبني على الدليل، ويكون آتيا بالأعمال الصالحة الواردة في الشريعة وعنوا بذلك قوله تعالى في وصفهم الَّذِينَ آمَنُوا وهو إشارة إلى كمال حال القوة النظرية. وَكانُوا يَتَّقُونَ وهو إشارة إلى كمال حال القوة العملية. وهاهنا مقام آخر وهو أن يحمل الإيمان على مجموع الاعتقاد والعمل ويكون الولي متقيا في كل الأحوال، أما في موقف العلم فبأن يقدس ذاته عن أن يكون مقصورا على ما عرفه أو يكون كما وصفه، وأما في مقام العمل فأن يرى عبوديته وعبادته قاصرة عما يليق بكبريائه وجلاله فيكون أبدا في الخوف والدهشة. وأما نفي الخوف والحزن عنهم فقد مر تفسيره في أوائل سورة البقرة.
وعن سعيد بن جبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل من أولياء الله؟ فقال: هم الذين يذكر الله برؤيتهم.
يعني أن مشاهدتهم تذكر أمر الآخرة لما فيهم من آثار الخشوع والإخبات والسكينة.
وعن عمر سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله. قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم.
قال: هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فو الله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس. ثم قرأ الآية» «1» .
يحكى أن إبراهيم الخواص كان في البادية ومعه واحد يصحبه، فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له فجلس في موضعه وجاءه السباع ووقفوا بالقرب منه والمريد تسلق على رأس شجرة خوفا منها والشيخ كان فارغا من تلك السباع، فلما أصبح زالت تلك الحالة. ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على بدنه فأظهر الجزع من تلك البعوضة فقال المريد: كيف تليق هذه الحالة بما قبلها؟ فقال الشيخ: تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي، فلما غاب ذلك الوارد فإنا أضعف خلق الله. ثم أخبر الله سبحانه عنهم بأن هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
فقيل: بشراهم في الدنيا ما
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 53. أحمد في مسنده (5/ 229، 239، 241) .(3/596)
بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ [البقرة: 25] يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ [التوبة: 21] وقيل: إنها عبارة عن محبة الناس لهم وعن ذكرهم إياهم بالثناء الحسن.
عن أبي ذر رضي الله عنه قلت: يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس. قال: تلك عاجل بشرى المؤمن.
والدليل العقلي عليه أن الكمال محبوب لذاته فكل من اتصف بصفة الكمال كان محبوبا لكل أحد إذا أنصفه ولم يحسده، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب في معرفة الله معرضا عما سواه. ونور الله مخدوم بالذات ففي أي قلب حصل كان مخدوما بالطبع لما سوى الله. وقيل: هي الرؤيا الصالحة.
وعنه صلّى الله عليه وسلم: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» «1»
وسبب تخصيص هذا العدد أن النبي صلّى الله عليه وسلم استنبىء بعد أربعين سنة إلى كمال عمره- وهو ثلاث وستون سنة- وكان يأتيه الوحي أوّلا بطريق المنام ستة أشهر. ونسبة هذه المدة إلى ثلاث وعشرين سنة التي هي جميع مدة الوحي نسبة الواحد إلى ستة وأربعين. وأما أن الرؤيا الصادقة توجب لبشارة فلأنها دليل صفاء القلب واتصال النفس إلى عالم القدس والاطلاع على بعض ما هنالك. وعن عطاء: البشرى في الدنيا هي البشارة عند الموت تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فصلت: 30] وأما البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرأون منها إلى آخر أحوالهم في الجنة تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده وقد مر مثله في «الأنعام» لِكَ
إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين، وكلتا الجملتين اعتراض ولا يجب أن يقع بعد الاعتراض كلام. تقول: فلان ينطق بالحق والحق أبلج، قال القاضي: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
يدل على أنها قابلة للتبديل، وكل ما يقبل العدم امتنع أن يكون قديما ومحل المنع ظاهر فإن نفي شيء عن شيء لا يلزم منه إمكانه له كقول الموحد: لا شريك لله. ثم سلى رسوله عن صنيع الفريق المكذبين فقال:
وَلا يَحْزُنْكَ أو نقول: إنه كما أزال الحزن عنه في الآخرة بقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ أزال الحزن عنه في الدنيا بقوله: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ أي تكذيبهم لك وتهديدهم بالخدم
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التعبير باب 2، 4، 10. مسلم في كتاب الرؤيا حديث 6، 7، 8، 9. أبو داود في كتاب الأدب باب 88. الترمذي في كتاب الرؤيا باب 1، 2، 6، ابن ماجه في كتاب الرؤيا باب 1، 3، 9. الدارمي في كتاب الرؤيا باب 2. الموطأ في كتاب الرؤيا حديث 1، 3. أحمد فى مسنده (2/ 18، 50) . [.....](3/597)
والأموال وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وبالجملة كل ما يتكلمون به في شأنك من المطاعن والقوادح. ثم استأنف قوله: إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ كأنه قيل: ما لي لا أحزن؟
فقيل: لأن العزة لله. جَمِيعاً إن الغلبة والقهر له ولحزبه كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] وقرىء «أن» بالفتح لا على أنه بدل فإن ذلك يؤدي إلى أن القوم كانوا يقولون إن العزة لله جميعا والرسول كان يحزنه ذلك وهذا كفر، بل لأن التقدير لأن العزة على صريح التعليل، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم واثقا بوعد الله تعالى في جميع الأحوال وإن كان قد يقع في بعض الحروب والوقائع انكسار وهزيمة فإن الأمور بخواتيمها. ثم أكد الوعد بقوله: هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع ما يقولون ويعلم ما يدبرون فيكفيك شرهم.
ثم زاد في التأكيد مع إشارة إلى فساد عقيدة المشركين فقال: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فخصص ذوي العقول إما للتغليب وإما لأن الآية سيقت لبيان فساد عقائد أهل الشرك، فذكر أن العقلاء المميزين- وهم الملائكة والثقلان- كلهم عبيد له ولا يصلح أحد منهم لأن يكون شريكا له فما وراءهم ممن لا يسمع ولا يعقل كالأصنام أولى بأن لا يكون ندا له. ثم أكد هذا المعنى بقوله وَما يَتَّبِعُ «ما» نافية ومفعول يَدْعُونَ محذوف أي ليس يتبع الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ شركاء في الحقيقة إنما هي أسماء لا مسميات لها لأن شركة الله في الربوبية محال. وإنما حذف أحد المكررين للدلالة، فالأول مفعول يَدْعُونَ والثاني مفعول يَتَّبِعُ ويجوز أن تكون «ما» استفهامية بمعنى أي شيء يتبعون. وشُرَكاءَ على هذا نصب ب يَدْعُونَ ولا حاجة إلى إضمار. ويجوز أن تكون «ما» موصولة معطوفة على «من» كأنه قيل: ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي وله شركاؤهم. ثم زاد في التأكيد فقال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وقد مر مثله في سورة الأنعام. ثم ذكر طرفا من آثار قدرته مع إشارة إلى بعض نعمه فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ طلبا للراحة وَالنَّهارَ مُبْصِراً ذا إبصار باعتبار صاحبه أي جعله مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم وهذان طرفان من منافع الليل والنهار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تأمل وتدبر وقبول.
ثم حكى نوعا آخر من أباطيلهم فقال: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ وقد مر في «البقرة» . ولما نزه نفسه عن اتخاذ الولد برهن على ذلك بقوله: هُوَ الْغَنِيُّ وتقريره أن الغنى التام يوجب امتناع كونه ذا أجزاء، وحصول الولد لا يتصور إلا بعد انفصال جزء منه يكون كالبذر بالنسبة إلى النبات، وأيضا إنما يحتاج إلى الولد وإلى توليد المثل الذي يقوم(3/598)
مقامه من يكون بصدد الانقضاء والانقراض فالأزلي القديم لا يفتقر إلى الولد ولا يصح له مثل. وأيضا الغني لا يفتقر إلى الشهوة ولا إلى إعانة الولد، ولو صح أن يتولد منه مثله لصح أن يكون هو أيضا متولدا من مثله ولا يشكل هذا بالولد الأول من الأشخاص الحيوانية فإن المدعي هو الصحة لا الوقوع. ثم بالغ في البرهان فقال: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وإذا كان الكل ملكه وعبيده فلا يكون شيء منها ولدا له لأن الأب يساوي الابن في الطبيعة بخلاف المالك. ثم زيف دعواهم الفاسدة فقال: إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أي ما عندكم من حجة بهذا القول. قال في الكشاف: والباء حقها أن تتعلق بقوله: إِنْ عِنْدَكُمْ على أن يجعل القول مكانا للسلطان كقولك: ما عندكم بأرضكم موز. كأنه قيل: إن عندكم فيما تقولون سلطان. أقول: كأنه نظر إلى أن استعمال الباء بمعنى «في» أكثر منه بمعنى «على» . ثم وبخهم على القول بلا دليل ومعرفة فقال: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ. ثم أوعدهم على افترائهم فقال: قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ الآية. ثم بين أن ذلك المفتري إن فاز بشيء من المطالب العاجلة والمآرب الخسيسة من رياسة ظاهرة وغرض زائل فذلك مَتاعٌ قليل فِي الدُّنْيا. ثم لا بد من الموت والرجوع إلى حكم الله ثم حصول الشقاء المؤبد والعذاب الأليم أعاذنا الله منه.
التأويل:
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ من النبوة وَما تَتْلُوا من شأن النبوة مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ يا أمة محمد صلّى الله عليه وسلم مِنْ عَمَلٍ من الأعمال من قبول القرن ورده من مثقال ذرة مما أظهر من حركة في أرض البشرية بعمل من أعمال الخير والشر. وَلا فِي السَّماءِ أي في سماء القلوب بالنيات الصالحة والفاسدة وَلا أَصْغَرَ من الحركة وهو القصد دون الفعل وَلا أَكْبَرَ من النية وهو العمل أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ الذين هم أعداء النفوس لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من تمني النظر بنفوسهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتهم من شهوات النفوس للعداوة القائمة بينهم هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بالوقائع والمبشرات فِي الْآخِرَةِ
بكشف القناع عن جمال العزة. تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
لأحكامه الأزلية حيث قال للولي كن وليا وللعدوّ كن عدوا وَلا يَحْزُنْكَ يا رسول القلب قول مشركي النفوس في تزيين شهوات الدنيا ولذاتها في نظرك إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً يعز من يشاء في الدنيا وفي الآخرة جميعا فلا يمنعه نعيم الدنيا عن نعيم الآخرة بل ربما يعينه على الآخرة كما
جاء في الحديث الرباني «وإن من عبادي من لا يصلحه الا الغنى فإن أفقرته يفسده ذلك»
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي القلوب السماوية والنفوس الأرضية إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي يظنون أنهم يتبعون شركاء الدنيا والهوى باختيارهم لا باختيارنا(3/599)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ليل البشرية لتستريحوا فيه من تعب المجاهدات، وتزول عنكم الملالة والكلالة ونهار الروحانية ذا ضياء وبصيرة يبصر بها مصالح السلوك والترقي في المقامات لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ حقائق القرآن بسمع القلوب الواعية. ثم أخبر عن الشبهات التي تقع في أثناء السلوك قالوا أي مشركو النفوس عند تجلي الروح بالخلافة في صفة الربوبية معترفا بتجلي صفة إبداع الحق ومبدعة الروح مع كمال قربه واختصاصه بالحق عند بقاء تصرفات الخيال حتى تثبت الأبوة والبنوة بين الله وبين العبد، إذ البنوة أخص التعلقات بالوالد. وهذا الكشف والابتداء هو مبتدأ ضلالة اليهود والنصارى لَهُ ما فِي السَّماواتِ الروحانية من الكشوف والأحوال وَما فِي الْأَرْضِ البشرية من الوهم والخيال وما ينشأ من الشبهات والآفات إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ هم النفوس الأمارة بالسوء لا يُفْلِحُونَ لا يظفرون بكشف الحقائق ثُمَّ نُذِيقُهُمُ لأن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا فأحسوا بالألم والله أعلم.
[سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 92]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75)
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)(3/600)
القراآت:
وَشُرَكاؤُكُمْ بالرفع: يعقوب إِنْ أَجْرِيَ بفتح الياء حيث كان: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص ويكون لكما بياء الغيبة: حماد ويزيد وزيد.
الباقون بتاء التأنيث آلسحر بالمد: يزيد وأبو عمرو أن تبويا بالياء: الخراز وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة. الآخرون بالهمز. لِيُضِلُّوا بضم الياء: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل وَلا تَتَّبِعانِّ بتخفيف النون: ابن عامر غير الحلواني عن هشام. تَتَّبِعانِّ خفيفة التاء والنون: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان، وفي كلتا القراءتين خففت النون ثم كسرت لالتقاء الساكنين تشبيها بنون التثنية. الباقون والحلواني عن هشام تَتَّبِعانِّ بتشديدها في الحالين منت أنه بكسر الهمزة على الاستئناف بدلا من آمَنْتُ: حمزة وعلي وخلف. الآخرون بالفتح. ننجيك من الإنجاء: سهل ويعقوب وقتيبة. والآخرون بالتشديد.
الوقوف:
نَبَأَ نُوحٍ م لئلا يوهم أن «إذ» ظرف لقوله: اتْلُ بل التقدير: واذكر إذ قال. وَلا تُنْظِرُونِ هـ مِنْ أَجْرٍ ط عَلَى اللَّهِ ج لأن التقدير وقد أمرت مِنَ الْمُسْلِمِينَ هـ بِآياتِنا ج للفاء ولأن أمر النظر للعبرة يقتضي التثبيت للتدبر الْمُنْذَرِينَ هـ مِنْ قَبْلُ ط الْمُعْتَدِينَ هـ مُجْرِمِينَ هـ مُبِينٌ هـ لَمَّا جاءَكُمْ ط بناء على أن التقدير أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر والاستفهام في قوله: أَسِحْرٌ يستحق الابتداء وسيجيء له مزيد بيان هذا ط للفصل بين الأخبار والاستخبار السَّاحِرُونَ هـ فِي الْأَرْضِ ط بِمُؤْمِنِينَ هـ عَلِيمٍ هـ مُلْقُونَ هـ ما جِئْتُمْ بِهِ ط لمن قرأ آلسحر مستفهما السِّحْرُ ط سَيُبْطِلُهُ ط الْمُفْسِدِينَ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ط فِي الْأَرْضِ ج لاتصال الكلام الْمُسْرِفِينَ هـ مُسْلِمِينَ هـ تَوَكَّلْنا ج للعدول مع اتحاد القائل الظَّالِمِينَ هـ لا للعطف. الْكافِرِينَ هـ ج وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ط لأن قوله(3/601)
وَبَشِّرِ خطاب لمحمد صلّى الله عليه وسلم وإن أريد به موسى فلا بد من العدول الْمُؤْمِنِينَ هـ الدُّنْيا لا لتعلق قوله: لِيُضِلُّوا بقوله: آتَيْتَ ورَبَّنا تكرار للأول لأجل التضرع. عَنْ سَبِيلِكَ ج لابتداء النداء مع اتحاد القائل الْأَلِيمَ هـ لا يَعْلَمُونَ هـ وَعَدْواً ط الْغَرَقُ لا لأن قال جواب «إذا» الْمُسْلِمِينَ هـ الْمُفْسِدِينَ هـ آيَةً ط لَغافِلُونَ هـ.
التفسير:
لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات والجواب عن الشبهات شرع في قصص الأنبياء المتقدمين، لأن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب أقرب إلى انشراح الصدور ودفع الملال مع أن في ذكرها تسلية للرسول وعبرة للمعتبر إلى غير ذلك من الفوائد التي سبق ذكرها في «الأعراف» . ومعنى كبر ثقل وشق كقوله: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ [البقرة: 45] وفي مقامي وجوه منها: أنه زيادة كقولك: فعلت كذا لمكان فلان أي لأجله، وكقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ [الرحمن: 46] أي ربه ومثله قولهم: فلان ثقيل الظل.
ومنها أن يراد به المكث أي شق عليكم مكثي بين أظهركم مددا طوالا ألف سنة إلا خمسين عاما، ولا شك أن من ألف طريقة ويدعى إلى خلافها ولا سيما إذا تكرر الدعاء كان ذلك موجبا للتنفر والثقل، وخاصة إذا كانت تلك الطريقة مقتضاة النفس والطبيعة الداعيتين إلى اللذات العاجلة. ومنها أن يكون المقام بمعنى القيام لأنهم كانوا يقومون على أرجلهم في الوعظ والتذكير ليكون مكانهم بينا وكلامهم مسموعا كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائما وهم قعود. وجواب الشرط إما قوله:
فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ أي إن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي وأنا لا أقابل ذلك الشر بالتوكل على الله فإن ذلك هجيراي قديما وحديثا وإما قوله: فَأَجْمِعُوا وقوله: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ اعتراض كقولك: إن كنت أنكرت عليّ شيئا فالله حسبي فاعمل ما تريد. ولا يحسن أن يقال: إن الفاء الثانية عاطفة للاختلاف طلبا وخبرا، ومعنى فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ اعزموا عليه من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه قاله الفراء. وقال أبو الهيثم: أجمع أمره أي جعله جميعا بعد ما كان متفرقا وتفرقه أنه يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا، فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه أي جعله جميعا. فهذا هو الأصل في الإجماع ثم صار بمعنى العزم حتى وصل ب «على» فقيل: أجمعت على الأمر أي عزمت عليه والفصيح أجمعت الأمر، والمراد بالأمر وجوه مكرهم وكيدهم. وانتصب شُرَكاءَكُمْ على المفعول معه أي مع شركائكم. ومن قرأ بالرفع جعله عطفا على الضمير المتصل، وإنما يحسن ذلك من غير تأكيد بالمنفصل للفصل. والمراد بالشركاء إما من هم على مثل قولهم ودينهم، وإما الأصنام. وحسن إسناد الإجماع إليهم على وجه التهكم(3/602)
كقوله: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ [الأعراف: 195] واعلم أنه عليه السلام قال في أول الأمر فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ليدل على أنه واثق بوعد الله جازم بأن تهديدهم إياه بالقتل لا يضره، ثم أورد عليهم ما يدل على صحة دعواه فقال: فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ كأنه قال:
حصلوا كل ما تقدرون عليه من الأسباب المؤدية الى مطلوبكم غير مقتصرين على ذلك بل ضامين إلى أنفسكم شركاءكم الذين تزعمون أن حالكم يقوى بمكانهم. ثم ضم إلى ذلك قيدا آخر فقال: ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً قال أبو الهيثم: أي مبهما من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم أي التبس. وقال الليث: لقي غمة من أمره إذا لم يهتد له. وقال الزجاج: أي ليكن أمركم الذي أجمعتموه ظاهرا منكشفا أي تجاهرونني بالإهلاك. ويحتمل أن يراد بهذا الأمر العيش والحال أي أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة أي غما وهما والغم والغمة كالكرب والكربة. ثم زاد قيدا آخر فقال: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ذلك الأمر الذي تريدون بي أي أدوا إليّ قطعه واحكموا بصحته وإمضائه.
وعن القفال أن فيه تضمينا والمعنى ألقوا إليّ ما استقر عليه رأيكم محكما مفروغا منه. ثم ختم الكلام بقوله: وَلا تُنْظِرُونِ أي عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير إهمال، ومعلوم أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عمن بلغ في التوكل الغاية القصوى. ثم بين أن كل ما أتى به فإن ذلك فارغ من الطمع الدنيوي والغرض الخسيس فقال: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن نصحي وتذكيري فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فما كان عندي ما ينفركم عني وتتهمونني لأجله من طمع أو غرض عاجل إِنْ أَجْرِيَ ليس أجري إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي ما نصحتكم إلا لوجهه ولا يثيبني إلا هو. وفي الآية نكتة كأنه أراد أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه لا بإيصال الشر وذلك قوله: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ إلى آخره. ولا بانقطاع الخير منهم وذلك قوله: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ الآية. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوه فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام، أو مأمور بالاستسلام لكل ما ألقى من قبل هذه الدعوة. فَكَذَّبُوهُ بقوا على تكذيبهم إلى آخر المدة المتطاولة.
فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ قد ذكرنا في «الأعراف» الفرق بين هذه العبارة وبين ما هنالك وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ يخلفون الهالكين بالطوفان فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ تعظيم لشأن إهلاكهم وتحذير لغيرهم وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ من بعد نوح رُسُلًا كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالحجج الواضحات والمعجزات الباهرات فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ الآية وقد مر تفسيرها في أواسط الأعراف إلا أنه زيد هاهنا لفظة «به» فقيل: لتناسب ما قبله وهو كَذَّبُوا(3/603)
بِآياتِنا
وكذلك في «الأعراف» راعى المناسبة لأن ما قبله وَلكِنْ كَذَّبُوا [الآية: 96] بغير الباء ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ بعد الرسل أو الأمم بِآياتِنا يعني الآيات التسع فَاسْتَكْبَرُوا عن قبولها وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ كفارا ذوي آثام ولذلك اجترءوا على رد الآيات. أما قوله: أَسِحْرٌ هذا فليس بمقول لقوله: أَتَقُولُونَ لأنهم قطعوا في قوله:
إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ بأنه سحر، وما استفهموا ولكن الوجه فيه أن يقال: إن القول هاهنا بمعنى الطعن والعيب كالذكر في قوله: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الأنبياء: 60] ومنه قولهم: فلان يخاف القالة أي مطاعن الناس فكأنه قال: أتعيبون الحق وتطعنون فيه؟ ثم أنكر عليهم قولهم فقال: أَسِحْرٌ هذا أو يقال: مفعول تقولون محذوف وهو قولهم إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ أو يقال: جملة قوله أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ حكاية لكلامهم كأنهم قالوا منكرين لما جاءا به أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ولا يفلح السحرة، لأن حاصل صنيعهم تخييل وتمويه قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا التركيب يدل على الالتواء ومنه الفتل والالتفات «افتعال» من اللفت وهو الصرف واللي وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ أي الملك والعز في أرض مصر. قال الزجاج: سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا. وأيضا فالنبي صلّى الله عليه وسلم إذا اعترف القوم بصدقه صارت مقاليد أمر أمته إليه وصار أكبر القوم. وقيل: لأن الملوك موصوفون بالكبر والحاصل أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين: التمسك بالتقليد وهو عبادة آبائهم الأصنام، والحرص في طلب الدنيا والجد في بقاء الرياسة. ويجوز أن يقصدوا ذمهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا. ثم صرحوا بالتكذيب قائلين وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ ثم حاولوا المعارضة وقد مرت تلك القصة في «الأعراف» . أما قوله: ما جِئْتُمْ بِهِ فمعناه الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحرا من آيات الله. قال الفراء: وإنما قال السحر بالألف واللام لأنه جواب الكلام الذي سبق كأنهم قالوا لموسى ما جئت به سحر. فقال موسى: بل ما جئتم به السحر. فوجب دخول الألف واللام لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة. يقول الرجل لغيره: لقيت رجلا. فيقول له: من الرجل؟ ولو قال: من رجل؟ لم يقع في وهمه أنه يسأل عن الرجل الذي ذكره. ومن قرأ آلسحر بالاستفهام فما استفهامية مبتدأ وجِئْتُمْ بِهِ خبره كأنه قيل أي شيء جئتم به. ثم قال على وجه التوبيخ السحر أي أهو لسحر أو آلسحر جئتم به إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ بإظهار المعجزة عليه إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يؤيده بجميل الخاتمة وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ يثبته بِكَلِماتِهِ بمواعيده أو بما سبق من قضائه أو بأوامره فَما آمَنَ لِمُوسى أي في أول أمره إِلَّا ذُرِّيَّةٌ(3/604)
مِنْ قَوْمِهِ
قال ابن عباس: لفظة الذرية يعبر بها عن القوم على وجه التحقير، ولا ريب أن المراد هاهنا ليس هو الإهانة، فالمراد التصغير بمعنى قلة العدد. وقيل: المراد أولاد من أولاد قومه كأنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف من فرعون أن يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم. وقيل: إن الذرية أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل. وقيل: الذرية مؤمن آل فرعون وآسية امرأته وخازنه وامرأة خازنه وماشطته، فالضمير في قَوْمِهِ على هذا لفرعون وعوده إلى موسى أظهر لأنه أقرب المذكورين، ولما نقل أن الذين آمنوا به كانوا من بني إسرائيل والضمير في ملئهم إما لفرعون على جهة التعظيم لأنه ذو أصحاب يأتمرون له، أو المراد آل فرعون بحذف المضاف، أو للذرية يعني أشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم يدل على ذلك قوله:
أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يعذبهم فرعون. ثم أكد أسباب الخوف بقوله: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ لغالب فِي الْأَرْضِ أرض مصر وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ في القتل والتعذيب أو لمن المجاوزين الحد لأنه من أخس العبيد فادعى الربوبية العليا وَقالَ مُوسى تثبيتا لقومه إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ صدقتم به وبآياته فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا خصوه بتفويض أموركم إليه إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ قال العلماء: المؤخر في مثل هذه السورة مقدم في المعنى نظيره: إن ضربك زيد فاضربه إن كانت بك قوة. والمراد إن كانت بك قوة فإن ضربك زيد فاضربه فكأنه قيل لهم في حال إسلامهم إن كنتم منقادين لتكاليف ربكم بالإخلاص مصدقين له بالتحقيق عارفين بأنه واجب الوجود لذاته وما سواه محدث مخلوق مقهور تحت حكمه وتدبيره، ففوضوا جميع أموركم إليه وحده. فَقالُوا مؤتمرين لموسى عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا ثم اشتغلوا بالدعاء قائلين رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً أي موضع فتنة لهم. والمراد بالفتنة تعذيبهم أو صرفهم عن دينهم، أو المراد لا تفتن بنا فرعون وقومه لأنك لو سلطتهم علينا صار ذلك شبهة لهم في أنا لسنا على الحق. ويجوز أن تكون الفتنة بمعنى المفتون أي لا تجعلنا مفتونين بأن تمكنهم من صرفنا عن الدين الحق، ولما قدموا التضرع إلى الله في أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه سؤال عصمة أنفسهم فقال: وَنَجِّنا الآية. وفي ذلك دليل على أن عنايتهم بمصالح الدين فوق اهتمامهم بمصالح النفس، وهكذا يجب أن تكون عقيدة كل مسلم والله الموفق. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً تبوّأ بالمكان اتخذه مباءة ومرجعا مثل توطنه إذا اتخذه وطنا. واختلف المفسرون في البيوت فمنهم من ذهب إلى أنها المساجد كقوله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ(3/605)
[النور: 36] فالمراد من قوله: وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أن يجعل تلك البيوت مساجد متوجهة نحو القبلة وهي جهة بيت المقدس أو الكعبة على ما نقل عن ابن عباس. وقال الحسن: الكعبة قبلة كل الأنبياء. وإنما وقع العدول عنه بأمر الله تعالى في أيام نبينا صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة. ومنهم من قال: إنها مطلق البيوت. ثم قيل: المراد واجعلوا دوركم قبلة أي صلوا في بيوتكم. وقيل: المراد اجعلوا بيوتكم متقابلة، أما السبب في اتخاذ هذه البيوت فأن يصلوا في بيوتهم خفية خيفة من الكفرة كما كان المؤمنون على ذلك في أول الإسلام بمكة، أو المقصود الجمعية واعتضاد البعض بالبعض. وقيل: على التفسير الأول لما أظهر فرعون العداوة الشديدة أمر الله موسى وهارون وقومهما باتخاذ المساجد على رغم الأعداء وتكفل أن يصونهم عن شرهم. وإنما ثنى الخطاب أوّلا ثم جمع لأن اختيار المكان للعبادة مما يفوض إلى الأنبياء فخوطب موسى وهارون بذلك، ثم جعل الخطاب عاما لهما ولقومهما لأن استقبال القبلة وإقامة الصلاة واجب على الجمهور. ثم خص موسى عليه السلام بالتبشير في قوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ لأن الغرض الأصلي من جميع العبادات هو هذه البشارة فلم تكن لائقة إلا بحال موسى الذي هو الأصل في الرسالة، وفيه تعظيم لشأن البشارة والمبشر (قال الضعيف مؤلف الكتاب) قد سنح في خاطري وقت هذه الكتابة أن الخطاب في قوله: وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ لنبينا صلى الله عليه وسلم على طريقة الالتفات والاعتراض.
ومضمون البشارة أنه جعلت الأرض كلها لهذه الأمة مسجدا وطهورا دون سائر الأمم فإنهم أمروا باتخاذ موضع يرجعون إليه البتة للعبادة والله أعلم بمراده. ثم إن موسى عليه السلام لما بالغ في إظهار المعجزات القاهرة، ورأى القوم مصرين على الجحود والإنكار أخذ يدعو عليهم، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أوّلا سبب الدعاء عليه فلهذا قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فالزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب وأثاث البيت والأموال ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق. عن ابن عباس كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة.
قالت الأشاعرة: اللام في قوله: لِيُضِلُّوا لام التعليل كأن موسى عليه السلام قال: يا رب إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا، ففيه دلالة على أنه تعالى تسبب لضلالهم وأراد منهم ذلك وإلا لم يهيىء أسبابه. ثم شرع في الدعاء عليهم بالطمس على أموالهم. والطمس المحو أو المسخ كما مر في سورة النساء في قوله سبحانه: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً [النساء: 47] وبالشد على قلوبهم ومعناه الاستيثاق والختم. وقالت المعتزلة: قوله لِيُضِلُّوا دعاء بلفظ الأمر للغائب، دعا عليهم بثلاثة أمور: بالضلال(3/606)
وبالطمس وبالشد. كأنه لما علم بالتجربة وطول الصحبة أن إيمانهم كالمحال أو علم ذلك بالوحي اشتد غضبه عليهم فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره قائلا ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال وليطبع الله على قلوبهم كما يقول الأب المشفق لولده إذا لم يقبل نصحه واستمر على غيه. سلمنا أن قوله: لِيُضِلُّوا ليس دعاء عليهم لكن اللام فيه للعاقبة كقوله: «لدوا للموت» . سلمنا أن اللام للتعليل لكنهم جعلوا الله سببا في الضلال فكأنهم أوتوها ليضلوا. ولم لا يجوز أن يكون «لا» مقدرة أي لئلا يضلوا كقوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] أي أن لا تضلوا، أو يكون حرف الاستفهام مقدرا في آتيت على سبيل التعجب. أما قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُوا فإما أن يكون معطوفا على قوله:
لِيُضِلُّوا على التفاسير كلها وما بينهما اعتراض، وإما أن يكون جوابا لقوله وَاشْدُدْ ويجوز أن يكون دعاء بلفظ النهي معطوفا على اشْدُدْ. قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما أضاف الدعوة إليهما لأن موسى كان يدعو وهارون يؤمن، ويجوز أن يكونا جميعا يدعوان إلا أنه خص موسى بالذكر في الآية لأصالته في الرسالة، والمعنى أن دعاءكما مستجاب وما طلبتما كائن ولكن في وقته فَاسْتَقِيما فاثبتا على ما أنتما عليه من التبليغ والإنذار زيادة في إلزام الحجة، ولا تستعجلا فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا قليلا. قال ابن جريج: فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة يدعوهم إلى الله وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أن الاستعجال لا يفيد في اجابة الدعاء فقد يستجاب الدعاء ولكن يظهر الأثر بعد حين. وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ قد مرت تلك القصة في أوائل سورة البقرة في قوله:
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة: 50] الآية، ومعنى قوله: فَأَتْبَعَهُمْ لحقهم. يقال: تبعه حتى أتبعه، والبغي الإفراط في الظلم والعدو ومجاوزة الحد. وفي الآية سؤال وهو أن فرعون تاب ثلاث مرات إحداها قوله: آمَنْتُ وثانيتها أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وثالثتها وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فلم تقبل توبته. والجواب من وجوه: الأول أنه إيمان اليائس وأنه لا يقبل لأن الإلجاء ينافي التكليف. الثاني أنها لم تكن مقرونة بالإخلاص وإنما كانت لدفع البلية الحاضرة والمحنة الناجزة. الثالث أن ذلك التوحيد كان مبنيا على محض التقليد والمخذول كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته إلا بنور الحجة القطعية. الرابع ما روي أن بعض بني إسرائيل لما جاوز البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلعله أراد الإيمان بذلك العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت، وكانت هذه الكلمة سببا لزيادة الكفر. الخامس أن أكثر اليهود يميلون إلى التجسيم والتشبيه ولذلك عبدوا العجل فكأنه ما آمن إلا بالإله الموصوف(3/607)
بالجسمية والحلول والنزول. السادس لعل الإيمان إنما يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى وبنبوة موسى كما أنه لو قيل ألف مرة لا إله إلا الله لم يصح إيمان إلا إذا قرن به محمد رسول الله إلى الناس كافة. السابع
يروى أن جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتيا ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه؟
فكتب فرعون فيه يقول أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعمته أن يغرق في البحر، ثم إن فرعون لما غرق دفع جبريل إليه خطه فعرفه.
أما قوله آلْآنَ فالمشهور من الأخبار أنه قول جبريل. وقيل: إنه قول الله سبحانه والتقدير:
أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين ألجمك الغرق وأدركك. وقوله: وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ في مقابلة قوله: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
يروى أن جبريل أخذ يملأ فاه بالطين حين قال: آمَنْتُ لئلا يتوب غضبا عليه،
والأقرب عند العلماء أن هذا الخبر غير صحيح لأنه إن قال ذلك حين بقاء التكليف لم يجز على جبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب أن يحثه عليها أو على كل طاعة لقوله تعالى: وَتَعاوَنُوا [المائدة: 2] ولو منعه لكانت التوبة ممكنة لأن الأخرس قد يتوب بأن يعزم بقلبه على ترك المعاودة إلى القبيح، ولو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر. وكيف يليق به سبحانه أن يقول لموسى وهارون فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: 44] ثم يأمر جبريل بمنعه عن الإيمان. ولو قيل إن جبريل فعل ذلك من تلقاء نفسه كان منافيا لقوله: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم: 64] لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الأنبياء: 27] وإن كان قال ذلك بعد زوال التكليف فلم يكن لما فعل جبريل فائدة اللهم إلا أن يقال: إنه دس حال البحر في فيه في وقت لا ينفعه إيمانه غضبا لله على الكافر. قوله: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ فيه أقوال منها:
أن معناه نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ولكن بعد أن تغرق. وقوله: بِبَدَنِكَ في موضع الحال أي في الحال التي لا روح فيك وإنما أنت بدن. قال كعب: رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور، أو المراد ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير، أو عريانا لست إلا بدنا وفيه نوع تهكم كأنه قيل: ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك كما يقال: نعتقك أو نخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت. وقيل: ننجيك ببدنك أي نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع.
وقيل: ببدنك أي بدرعك. قال الليث: البدن الدرع القصير الكمين. عن ابن عباس قال:
كان عليه درع من ذهب يعرف بها فأخرجه الله من الماء مع ذلك الدرع ليعرف، فإن صحت هذه الرواية كانت معجزة لموسى عليه السلام. وأما قوله: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ(3/608)
آيَةً
فقيل: إن قوما اعتقدوا في إلهيته وزعموا أن مثله لا يموت فأظهر الله تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى يشاهدوه، وزالت الشبهة عن قلوبهم وكانت مطروحة على ممر من بني إسرائيل فلهذا قيل: لِمَنْ خَلْفَكَ وقيل: إنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والإهانة بعد ما سمعوا منه قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: 24] ليكون ذلك زجرا للعابرين عن مثل طريقته، ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة ثم آل أمره إلى ما آل، فلا يجترأوا على نحو ما اجترأ عليه. وقيل: المراد ليكون طرحك بالساحل وحدك دون المغرقين آية من آيات الله للأمم الآتية، ثم زجر هذه الأمة عن ترك النظر في الدلائل وحثهم على التأمل والاعتبار فقال وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ.
التأويل:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ الروح إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ وهم القلب والسمع والنفس وصفاتها يا قَوْمِ إِنْ كانَ عظم عَلَيْكُمْ مَقامِي في الأخلاق الحميدة الروحانية ودعائي إلى الله ببراهينه الواضحة فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ من حظ من حظوظ مشاربكم الدنيوية ما حظي إلا من مواهب الله وشهود جماله. وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ خلفاء الله في أرضه وباقي التأويل كما مر في «الأعراف» . وهكذا في قصة موسى وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ لأن الفلاح هو الخلاص عن قيد الوجود المجازي. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي الذكر بِكَلِماتِهِ وهي لا إله إلا الله وَلَوْ كَرِهَ أهل الهوى والنفوس الأمارة فَما آمَنَ لِمُوسى القلب إلا صفاته أو بعض صفات فرعون النفس بتبديل أخلاقها الذميمة بالأخلاق الحميدة القلبية عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ النفس والهوى والدنيا وشهواتها أن يصرفهم إلى حالها الطبيعية التي جبلت عليها. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى القلب وهارون السر أن هيئا لصفاتكما بمصر عالم الروح مقامات ومنازل لا في عالم النفس السفلي. واجعلوا تلك المقامات متوجهة إلى طلب الحق. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أديموا العروج من المقامات الروحانية إلى المواصلات الربانية لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ليكون عاقبة أمرهم أن ينقطعوا أو يقطعوا بتلك الملاذ عن السير في طلبك رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ بمحقها وتحقيرها في نظرهم وَاشْدُدْ طريق النظر إلى الدنيا وما فيها عَلى قُلُوبِهِمْ واجعل همتهم عليه في طلبك والنظر إليك فقط حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فإن النفس وصفاتها لا يؤمنون بالآخرة وطلب الحق حتى يذيقهم ألم الفطام عن الدنيا ومشتهياتها. سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ طريق الوصول إلى الله ولا يعرفون قدره وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ هم القلب والسر وصفاتها. والبحر بحر الروحانية الملكوتية فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ النفس وصفاتها بعد الفطام عن شوائب عالم الملك(3/609)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
قهرا وقسرا، حتى إذا هبت رياح اللطف وتموجت بحار الفضل واستغرق موسى القلب وصفاته في لجي بحر الوصال، وبلغت أفواج أمواجه إلى ساحل البشرية، أدرك فرعون النفس الغرق فاستمسك بعروة ذلك الفريق قال: آمَنْتُ ومن أمارات أجنبية فرعون النفس من عالم الروح أنه لم يتمسك بحبل التوحيد والمعرفة بيد الصدق والاستقلال، ولم يقل آمنت بالله الذي لا إله إلا هو وإنما تمسك بيد الاضطراب والتقليد فقال: لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ أي نخلصك مع قالبك من بحر الضلالة لتكون دليلا على كمال قدرتنا وعنايتنا. وإن من اتبع خواص عبادنا نجعله من أهل النجاة والدرجات بعد أن كان من أهل الهلاك والدركات والله حسبنا.
[سورة يونس (10) : الآيات 93 الى 109]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)(3/610)
القراآت:
بَوَّأْنا مثل أَنْشَأْنا ونجعل بالنون: يحيى وحماد. الآخرون بالياء التحتانية. ثُمَّ نُنَجِّي من الإنجاء: نصر وروح ويزيد. نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من الإنجاء أيضا: علي وسهل ويعقوب وحفص والمفضل. الآخرون بالتشديد فيهما.
الوقوف:
الطَّيِّباتِ ج للابتداء بالنفي مع الفاء الْعِلْمُ ط يَخْتَلِفُونَ 5 مِنْ قَبْلِكَ ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى المُمْتَرِينَ هـ لا للعطف الْخاسِرِينَ هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ لا لتعلق لو بما قبلها الْأَلِيمَ هـ يُونُسَ ط حِينٍ هـ جَمِيعاً ط مُؤْمِنِينَ هـ بِإِذْنِ اللَّهِ ط أي وهو يجعل لا يَعْقِلُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط للفصل بين الاستخبار والإخبار. لا يُؤْمِنُونَ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ط مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ هـ كَذلِكَ
ج لاحتمال يراد ننجيهم كإنجاء الرسل أو يكون الوقف على آمَنُوا والتقدير ننجي المؤمنين إنجاء كذلك وحَقًّا عَلَيْنا اعتراض. الْمُؤْمِنِينَ هـ يَتَوَفَّاكُمْ ج لاحتمال أن يراد وقد أمرت الْمُؤْمِنِينَ هـ لا للعطف حَنِيفاً ج للعطف مع زيادة نون التأكيد المؤذن بالاستئناف الْمُشْرِكِينَ هـ وَلا يَضُرُّكَ ج للابتداء بالشرط مع الفاء الظَّالِمِينَ هـ إِلَّا هُوَ ج للعطف مع حق الفصل بين المتضادين لِفَضْلِهِ ط مِنْ عِبادِهِ ط الرَّحِيمُ هـ مِنْ رَبِّكُمْ ج لِنَفْسِهِ ج عَلَيْها ج للعطف مع النفي بِوَكِيلٍ هـ ط يَحْكُمَ اللَّهُ ج لاحتمال العطف والاستئناف الْحاكِمِينَ هـ.
التفسير:
لما ذكر ما وقع عليه الختم في واقعة فرعون وجنوده أراد أن يذكر ما وقع عليه الختم في واقعة بني إسرائيل فقال: وَلَقَدْ بَوَّأْنا أي أسكناهم مسكن صدق أو إسكان صدق فيكون المبوأ اسم مكان أو مصدرا، والعرب إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصدق ليعلم أن كل ما يظن به من الخير ويطلب منه فإنه يصدق ذلك الظن ويوجد فيه فيكون المعنى منزلا صالحا مرضيا. والمراد ببني إسرائيل إما اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام فمبوّأ الصدق الشام ومصر وما يدانيها فإنها بلاد كثيرة الخصب غزيرة الأرزاق ومع ذلك فقد أورثهم الله جميع ما كان تحت تصرف فرعون وقومه من الناطق والصامت فَمَا اخْتَلَفُوا في دينهم وما تشعبوا فيه شعبا وكانوا على طريقة واحدة حتى قرأوا التوراة فقابلوها بضد المقصود منها وبدلوا الاتفاق بالاختلاف وأحدثوا المذاهب المتعددة، وإما اليهود المعاصرون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب جم غفير من المفسرين. عن ابن عباس: هم قريظة والنضير وبنو قينقاع، أنزلناهم منزل الصدق ما بين المدينة والشام ورزقناهم من طيبات تلك البلاد رطبا وتمرا ليس في غيرها، فبقوا على دينهم ولم يظهر فيهم الاختلاف حتى جاءهم سبب العلم وهو القرآن النازل على محمد صلّى الله عليه وسلم(3/611)
فاختلفوا في نعته وصفته، وآمن به قوم وبقي على الكفر آخرون. وبالجملة فالله تعالى يقضي بين المحقين منهم والمبطلين في يوم الجزاء لأن دار التكليف ليست دار القضاء.
ولما بيّن كيفية اختلاف اليهود في شأن كتابهم أو في شأن رسوله حقق حقيقته وحقيقة ما أنزل عليه بقوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ والشك في اللغة ضم الشيء بعضه إلى بعض ومنه شك الجوهر في العقد، وشككته بالرمح أي خرقته وانتظمته، والشكيكة الفرقة من الناس، والشكاك البيوت المصطفة. والشاك يضم إلى ما يتوهمه شيئا آخر خلافه، والخطاب فيه للرسول في الظاهر والمراد أمته كقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ [الطلاق:
1] والدليل عليه قوله بعيد ذلك قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ولأنه لو كان شاكا في شأنه لكان غيره بالشك أولى. ويمكن أن يقال: الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم حقيقة ولكن ورد على سبيل الفرض والتمثيل كأنه قيل: فإن وقع لك شك مثلا والقضية الشرطية لا إشعار فيها البتة بوقوع الشرط ولا عدم وقوعه، بل المراد استلزام الأول للثاني على تقدير وقوع الأول. وقد يكونان محالين كقول القائل: إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين. وفيه من الفوائد الإرشاد إلى طلب الدلائل لأجل مزيد اليقين وحصول الطمأنينة، وفيه استمالة لأمته والحث لهم على السؤال عما كانوا منه في شك، وفيه أن أهل الكتاب من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك بحيث يصلحون لمراجعه مثلك فضلا عن غيرك فيكون الغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى الرسول لا وصف الرسول بالشك، ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلم عند نزوله: لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق.
وعن ابن عباس: لا والله ما شك طرفة عين ولا سأل أحدا منهم. وقيل: «إن» نافية أي فما كنت في شك يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ولكن لتزداد يقينا. وقيل: الخطاب لكل سامع يتأتى منه الشك. ومن المسئول منه قال المحققون: هم مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وعبد الله بن صوريا وتميم الداري وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم. ومنهم من قال: الكل سواء لأنهم إذا بلغوا حد التواتر وقرأوا آية من التوراة والإنجيل تدل على البشارة بمقدم محمد صلّى الله عليه وسلم فقد حصل الغرض، لأن تلك الآية لما بقيت مع توفر دواعيهم على تحريف نعته كانت من أقوى الدلائل. والظاهر أن المقصود من السؤال معرفة حقيقة القرآن وصحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم لقوله: مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ وقيل:
السؤال راجع إلى قوله: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ. ثم إنه سبحانه لما بين الطريق المزيل للشك شهد بحقيته فقال: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ثم إن فرق المكلفين بعد المصدقين إما متوقفون في صدقه وإما مكذبون فنهى الفريقين مخاطبا في الظاهر لنبيه قائلا(3/612)
فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ وَلا تَكُونَنَّ الآية. والمراد فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية وانتفاء التكذيب، وفيه من التهييج والبعث على اليقين والتصديق ما فيه. ثم لما زجر كل فريق عما زجر بين أن له عبادا قضى عليهم بالشقاء وعبادا ختم لهم بالحسنى فلا يتغيرون عن حالهم البتة. أما الأولون فأشار إليهم بقوله: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ الآية.
وقد مر مثله في هذه السورة. وقالت المعتزلة: إن عدم إيمان هذا الفريق إلى حين وقوع اليأس وموتهم على الكفر مكتوب عند الله وثبت عليهم قوله في الأزل بما يجري عليهم، لكنها كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد. وقالت الأشاعرة: كلمته حكمة وإرادته وخلقه فيهم الكفر، وقد مر أمثال هذه الأبحاث مرارا كثيرة. وأما الآخرون فذلك قوله: فَلَوْلا كانَتْ أي فهلا حصلت قَرْيَةٌ واحدة آمَنَتْ تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل معاينة العذاب فَنَفَعَها إِيمانُها لوقوعه في وقت الاختيار والتكليف دون أوان اليأس والاضطرار إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ هو استثناء منقطع أي ولكن قوم يونس لأن أول الكلام جرى على القرية وإن كان المراد أهلها. وقيل: إن «لولا» في هذا المقام بمعنى النفي كأنه قيل:
ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس.
يروى أن يونس صلّى الله عليه وسلم بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضبا كما سيجيء في سورة الأنبياء، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة. وقيل: قال لهم يونس إن أجلكم أربعون ليلة فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد سطوحهم، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرّقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها، فحنّ بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة.
وعن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى إن الرجل منهم كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيرده. وقيل: خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت، فقالوها فكشف عنهم ومتعوا بالإيمان والأعمال الصالحة وبالخيرات الدنيوية إلى حين انقضاء آجالهم. وعن الفضيل بن عياض قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله. ثم بيّن أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره فقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً قالت الأشاعرة: هذه القضية تفيد الشمول والإحاطة(3/613)
لكنه ما حصل إيمان أهل الأرض بالكلية فدل هذا على أنه تعالى ما أراد إيمان الكل.
وأول المعتزلة المشيئة بمشيئة الإلجاء والقسر. وأجيب بأن الكلام في الإيمان الذي كان يطلبه النبي منهم وهو الإيمان المنوط به التكليف لا الإيمان القسري الذي لا ينتفع به المكلف، فلو حمل الإيمان المذكور في الآية وكذا المشيئة على إيمان الإلجاء ومشيئة القسر لم ينتظم الكلام. ثم ذكر أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى فقال: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ فأولى الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الكلام في المكره من هو وما هو إلا الله وحده. فحمل المعتزلة هذا الإكراه على الإلجاء ومعناه أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان. وحمل الأشاعرة الإكراه على خلق الإيمان ومعناه أنه قادر على خلق الإيمان والكفر فيهم لا أنت بدليل قوله: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ أي الكفر والفسق عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وفسر المعتزلة الإذن بمنح الألطاف والرجس بالخذلان، لأن الرجس هو العذاب والخذلان سببه، وخصصوا النفس بالنفس المعلوم إيمانها والذين لا يعقلون يعني المصرين على الكفر. واستدلت الأشاعرة بقوله: وَما كانَ لِنَفْسٍ على أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع لأن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحجر.
وإذا كان أصل الشرع- وهو الإيمان بإذن الله- فما ترتب عليه أولى. أجابت المعتزلة بأن المراد بالإذن التوفيق والتسهيل والألطاف. ولما بين أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض فقال: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي شيء فيهما من الآيات والعبر. ثم ذكر أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حق من حكم الله عليه في الأزل بالشقاء فقال: وَما تُغْنِي يحتمل أن تكون «ما» نافية أي لا تفيد هذه الْآياتُ وَالنُّذُرُ وهي جمع نذير صفة أو مصدر في حق المحكوم عليهم بعدم الإيمان. وأن تكون استفهامية للإنكار بمعنى أي شيء يغني عنهم؟ ثم قال: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ والمراد أن الأنبياء المتقدمين كانوا يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب أو بوقائع الله فيهم وهم يكذبونهم ويسخرون منهم، وكذلك كان يفعل الكفار المعاصرون للرسول صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه قُلْ فَانْتَظِرُوا وفيه تهديد ووعيد بأنه سينزل بهؤلاء مثل ما أنزل بأولئك من الإهلاك بعد إنجاء الرسول وأتباعه كما حكى تلك الأحوال الماضية بقوله:
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا الآية. قالت المعتزلة: حَقًّا عَلَيْنا المراد به الوجوب والاستحقاق إذ لا يحسن تعذيب الرسول والمؤمنين. وقالت الأشاعرة: إنه حق بحسب الوعد والحكم فإن(3/614)
العبد لا يستحق على خالقه شيئا. ثم أمر رسوله بإظهار التباين الصريح بين طريقته وطريقة المشركين فقال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ والمعنى يا أهل مكة إن كنتم لا تعرفون ديني فاعلموا أني مبرأ عن أديانكم الباطلة وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وتخصيص هذا الوصف لأنه يدل على الخلق أوّلا وعلى الإعادة ثانيا كما مر مرارا، أو لأن الموت أشد الأحوال مهابة في القلوب فكان أقوى في الزجر والردع، أو لأنه قد تقدم ذكر الإهلاك والوقائع النازلة بالأمم الخالية فكأنه قال: أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم وإنجائي. وفي الآية إشارة إلى أنه لن يوافقهم في دينهم كيلا يشكوا في أمره ويقطعوا أطماعهم عنه. ولما ذكر أنه لا يعبد إلا الله بين أنه مأمور بالإيمان والمعرفة فقال: وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أي بأن أكون مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ثم عطف عليه قوله: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ ولا تدع نظرا إلى المعنى كأنه قيل له: كن مؤمنا ثم أقم ولا تدع، أو المراد وأمرت بكذا وأوحي إلي أن أقم. قال في الكشاف: قد سوغ سيبويه أن يوصل «أن» بالأمر والنهي وشبه ذلك بقولهم: أنت الذي تفعل على الخطاب لأن الغرض وصلها بما يكون معه في معنى المصدر، والأمر والنهي دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال. ومعنى أَقِمْ وَجْهَكَ استقم إليه ولا تلتفت يمينا ولا شمالا. وحَنِيفاً حال من لِلدِّينِ أو من الوجه. قال المحققون: الوجه هاهنا وجه العقل أو المراد توجه الكلية إلى طلب الدين كمن يريد أن ينظر إلى شيء نظرا تاما فإنه يقيم وجهه في مقابلته لا يصرفه عنه. ثم أكد الأمر بالنهي عن ضده فقال: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ أي فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك، وكنى عنه بالفعل للاختصار. و «إذا» جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدر كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان وجعل من الظالمين لأن إضافة التصرف بالاستقلال إلى ما سوى مدبر الكل وضع للشيء في غير موضعه. ثم صرح بأنه مبدأ الكائنات ومنتهى الحاجات لا غيره فقال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ الآية. وقد مر تفسير مثلها في أول سورة الأنعام. قال الواحدي: وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ من القلب وأصله وإن يرد بك الخير، ولكنه لما تعلق كل واحد منهما بالآخر جاز إبدال كل واحد منهما بالآخر. وأقول في تخصيص الإرادة بجانب الخير والمس بجانب الشر دليل على أن الخير يصدر عنه سبحانه بالذات والشر بالعرض. ثم ختم السورة بما يستدل به على قضائه وقدره في الهداية والضلال فقال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية. وفسرها الأشاعرة بأن من حكم له في الأزل بالاهتداء فسيقع له ذلك، وإن من حكم له بالضلال فكذلك ولا حيلة في دفعه كما مر في سورة الأنعام قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ [الأنعام: 104] الآية. وقالت المعتزلة: المراد أنه بين الشريعة وأزاح العلة وقطع المعذرة، فمن اختار(3/615)
الهدى فما نفع باختياره إلا نفسه، ومن آثر الضلال فلا يعود وباله إلا على نفسه. يروى عن ابن عباس أن الآية منسوخة بآية القتال ولا يخفى ضعفه. ثم أمره باتباع الوحي والتنزيل فإن وصل إليه بسبب الاتباع مكروه فليصبر عليه إلى أن يحكم الله وهو خير الحاكمين. ولبعضهم في الصبر:
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري ... وأصبر حتى يحكم الله في أمري
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني ... صبرت على شيء أمر من الصبر
التأويل:
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ يعني متولدات الروح العلوي من القلب والسر دون النفس لأنها من البنات لا من البنين مُبَوَّأَ صِدْقٍ منزلا عليا في العالم النوراني وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الفيض الرباني الفائض على الروح لأن الروح مستو على عرش القلب، فكل ما فاض من صفة الروحانية على الروح يفيض الروح على القلب والسر، فما اختلف القلب والسر حتى جاءهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: فمن قبلها صار مقبولا، ومن ردها كان مردودا. وبوجه آخر مُبَوَّأَ صِدْقٍ بين الإصبعين من أصابع الرحمن فَمَا اخْتَلَفُوا حتى أدركهم علم الله الأزلي بالسعادة والشقاء فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ خلق الإنسان ضعيفا، فإذا انفتح عليه أبواب الكرامات وهبت رياح السعادات فربما ظن أنه مما يخادع به الأطفال فلا يدري هل هو من كرامة الاجتباء أو من وخامة الابتلاء، فكان النبي صلى الله عليه وسلم من خصوصية إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الكهف: 110] يرتع في هذه الرياض وباختصاص يُوحى إِلَيَّ [الكهف: 110] يسقى بكاسات المناولات من تلك الحياض، فشك عند سكره أنها من شهود التلوين أو من كشوف التمكين، فأدركته العناية الأزلية فأكرم بخطاب لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ بل كان هذا النهي نهي التكوين فما كان ممتريا ولهذا قال: والله لا أشك ولا أسأل. إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا من أنه كل ميسر لما خلق له قُلْ فَانْتَظِرُوا ظهور ما قدر لكم وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بالفناء عن النفس وصفاتها حنيفا طاهرا عن لوث الالتفات إلى ما سواه والله أعلم.
تم الجزء الحادي عشر، وبه يتم المجلد الثالث من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري، ويليه المجلد الرابع وأوله تفسير سورة هود(3/616)
الفهرس
فهرس المجلد الثالث من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان(3/617)
تتمة تفسير سورة المائدة الآيات: 82- 86/ 3 الآيات: 87- 100/ 6 الآيات: 101- 120/ 26 تفسير سورة الأنعام الآيات: 1- 11/ 45 الآيات: 12- 24/ 54 الآيات: 25- 37/ 63 الآيات: 38- 50/ 74 الآيات: 51- 60/ 84 الآيات: 61- 73/ 94 الآيات: 74- 83/ 102 الآيات: 84- 90/ 111 الآيات: 91- 100/ 116 الآيات: 101- 110/ 134 الآيات: 111- 121/ 146 الآيات: 122- 130/ 156 الآيات: 131- 140/ 168 الآيات: 141- 150/ 175 الآيات: 151- 165/ 186 تفسير سورة الأعراف الآيات: 1- 10/ 197 الآيات: 11- 25/ 205 الآيات: 26- 34/ 220 الآيات: 35- 43/ 230(3/619)
الآيات: 44- 53/ 237 الآيات: 54- 58/ 245 الآيات: 59- 72/ 265 الآيات: 73- 84/ 273 الآيات: 85- 93/ 283 الآيات: 94- 102/ 290 الآيات: 103- 126/ 294 الآيات: 127- 141/ 304 الآيات: 142- 154/ 312 الآيات: 155- 159/ 325 الآيات: 160- 171/ 335 الآيات: 172- 183/ 342 الآيات: 184- 198/ 354 الآيات: 199- 206/ 364 تفسير سورة الأنفال الآيات: 1- 10/ 371 الآيات: 11- 19/ 380 الآيات: 20- 30/ 386 الآيات: 31- 40/ 394 الآيات: 41- 49/ 400 الآيات: 50- 66/ 408 الآيات: 67- 75/ 418 تفسير سورة التوبة الآيات: 1- 16/ 426 الآيات: 17- 28/ 441 الآيات: 29- 37/ 451 الآيات: 38- 49/ 468 الآيات: 50- 59/ 481 الآيات: 60- 69/ 488 الآيات: 70- 79/ 501(3/620)
الآيات: 80- 89/ 510 الآيات: 90- 99/ 518 الآيات: 100- 110/ 523 الآيات: 111- 119/ 533 الآيات: 120- 129/ 545 تفسير سورة يونس الآيات: 1- 10/ 553 الآيات: 11- 20/ 565 الآيات: 21- 30/ 571 الآيات: 31- 41/ 579 الآيات: 42- 60/ 585 الآيات: 61- 70/ 594 الآيات: 71- 92/ 601 الآيات: 93- 109/ 611(3/621)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
[المجلد الرابع]
بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء الثاني عشر من أجزاء القرآن الكريم
(سورة هود)
مكية غير آية قوله وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وحروفها 7605 وكلامها 1715 وآياتها 123
[سورة هود (11) : الآيات 1 الى 24]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9)
وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19)
أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24)(4/3)
القراآت:
وَإِنْ تَوَلَّوْا بإظهار النون وتشديد التاء: البزي وابن فليح فَإِنِّي أَخافُ بفتح الياء، أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير. عَنِّي إِنَّهُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابو عمرو.
الوقوف:
الر ق كوفي خَبِيرٍ هـ لا بناء على أنّ ألا يتعلق بما قبله إِلَّا اللَّهَ ط وَبَشِيرٌ هـ لا للعطف فَضْلَهُ ج كَبِيرٍ هـ مَرْجِعُكُمْ ج لاحتمال الحال والاستئناف قَدِيرٌ هـ مِنْهُ ط ثِيابَهُمْ لا بناء على أن عامل حِينَ قوله: يَعْلَمُ يُعْلِنُونَ ج الصُّدُورِ هـ وَمُسْتَوْدَعَها ط مُبِينٍ هـ عَمَلًا ط مُبِينٌ هـ ما يَحْبِسُهُ ط يَسْتَهْزِؤُنَ هـ مِنْهُ ج لحذف جواب لَئِنْ أي لييأسن. وقيل: جوابها إنه والأول أوجه كَفُورٌ هـ عَنِّي ط فَخُورٌ لا للاستثناء الصَّالِحاتِ ط كَبِيرٌ هـ مَلَكٌ ط نَذِيرٌ هـ وَكِيلٌ هـ ط «أم» استفهام تقريع افْتَراهُ ط صادِقِينَ هـ إِلَّا هُوَ ج ط للاستفهام مع الفاء. مُسْلِمُونَ هـ يُبْخَسُونَ هـ إِلَّا النَّارُ ز بناء على أن «ليس» بمنزلة حرف النفي والوصل أوجه لأن «ليس» فعل ماض وهو مع ما عطف عليه المجموع جزاء. يَعْمَلُونَ هـ رَحْمَةً ط يُؤْمِنُونَ بِهِ ط مَوْعِدُهُ ج لاختلاف الجملتين مع الفاء لا يُؤْمِنُونَ هـ كَذِباً ط عَلى رَبِّهِمْ الثاني ج لأن ما بعده يحتمل أن يكون من قول الأشهاد أو ابتداء إخبار. الظَّالِمِينَ هـ لا عِوَجاً ط مِنْ أَوْلِياءَ م لئلا يوهم أن ما بعده صفة أولياء الْعَذابُ ط يُبْصِرُونَ هـ يَفْتَرُونَ
هـ الْأَخْسَرُونَ هـ إِلى رَبِّهِمْ لا لأن ما بعده خبر «إن» . الْجَنَّةِ ج خالِدُونَ هـ وَالسَّمِيعِ ط مَثَلًا ط تَذَكَّرُونَ هـ.
التفسير:
الر إن كان اسما للسورة فما بعده خبره، وإن كان واردا على سبيل(4/4)
التعديد أو كان معناه أنا الله أرى فقوله: كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف أي هذا الكتاب.
والإشارة إما إلى هذا البعض وإما إلى مجموع القرآن. ومعنى أُحْكِمَتْ نظمت نظما رصينا من غير نقض ونقص، أو جعلت حكيمة من حكم بالضم إذا صار حكيما، أو منعت من الفساد والبطلان من قولهم: أحكمت الدابة وضعت عليها الحكمة لتمنعها من الجماح. أي لم ينسخ بكتاب سواه كما نسخ سائر الكتب وذلك لاشتماله على العلوم النظرية والعلمية والظاهرية والباطنية وعلى أصول جميع الشرائع، فلا محالة لا يتطرق إليه تبديل وتغيير. ثُمَّ فُصِّلَتْ كما تفصل القلائد بالفرائد من دلائل التوحيد والنبوة والأحكام والمواعظ والقصص، لكل معنى من هذه المعاني فصل انفرد به. أو جعلت فصولا سورة سورة وآية وآية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة، أو فصل فيها تكاليف العباد وبين ما يحتاجون إليه في إصلاح المعاش والمعاد. ومعنى «ثم» التراخي في الحال كقولك: فلان كريم الأصل ثم كريم الفعل. وأُحْكِمَتْ صفة كتاب. ومِنْ لَدُنْ صفة ثانية أو خبر بعد خبر أو صلة لأحكمت وفصلت أي من عنده إحكامها وتفصيلها. وفي قوله: حَكِيمٍ خَبِيرٍ لف ونشر لأن المعنى أحكمها حكيم وفصلها خبير عالم بمواقع الأمور. احتج الجبائي بقوله: أُحْكِمَتْ ثُمَّ فُصِّلَتْ على كون القرآن محدثا لأن الإحكام والتفصيل يكون بجعل جاعل، وكذا بقوله: مِنْ لَدُنْ لأن القديم لا يصدر من القديم. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الأصوات والحروف وإنما النزاع في الكلام النفسي. وقوله: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ مفعول له أي لأجل ذلك أو يكون «أن» مفسرة لأن في تفصيل الآيات معنى القول كأنه قيل: ثم قيل للنبي صلى الله عليه وسلم قل لهم لا تعبدوا. وجوز في الكشاف أن يكون كلاما مبتدأ منطقعا عما قبله محكيا على لسان النبي صلّى الله عليه وسلّم يغري أمته على اختصاص الله بالعبادة كأنه قال: ترك عبادة غير الله مثل فَضَرْبَ الرِّقابِ [محمد: 4] والضمير في مِنْهُ لله عز وجل حالا من نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أي إنني لكم نذير من جهته إن لم تخصوه بالتعبد، وبشير إن خصصتموه بذلك. ويجوز أن يكون مِنْهُ صلة لنذير أي أنذركم منه ومن عذابه، ويكون صلة بشير محذوفا أي أبشركم بثوابه. ثم عطف على قوله: أَلَّا تَعْبُدُوا قوله: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا أي اطلبوا من ربكم المغفرة لذنوبكم. ثم بين الشيء الذي به يطلب ذلك وهو التوبة فقال: ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ فالتوبة مطلوبة لكونها من متممات الاستغفار، وما كان آخرا في الحصول كان أولا في الطلب، فلهذا قدم الاستغفار على التوبة. وقيل: استغفروا أي توبوا ثم قال: تُوبُوا أي أخلصوا التوبة واستقيموا عليها. وقيل: استغفروا من سالف الذنوب ثم توبوا من أنف الذنوب. وقيل:
استغفروا من الشرك ثم ارجعوا إليه بالطاعة. وقيل: الاستغفار أن يطلب من الله الإعانة في(4/5)
إزالة ما لا ينبغي، والتوبة سعي الإنسان في الطاعة والاستعانة بفضل الله مقدم على الاستعانة بسعي النفس. ثم رتب على الامتثال أمرين: الأول التمتع بالمنافع الدنيوية إلى حين الوفاة كقوله فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [النحل: 97] .
سؤال: كيف الجمع بين هذا وبين قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [الزخرف: 33]
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن» «1» ،
«البلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء» ؟ «2»
وأجيب بأن المراد أن لا يهلكهم بعذاب الاستئصال أو يرزقهم كيف كان.
والجواب الثاني أن الإنسان إذا كان مشغولا بطاعة الله مستغرقا في نور معرفته وعبادته كان مبتهجا في نفسه مسرورا في ذاته، هينا عليه ما فاته من اللذات العاجلة، قانعا بما يصيبه من الخيرات الزائلة. الثاني قوله: وَيُؤْتِ أي في الآخرة كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي موجب فضل ذلك الشخص ومقتضاه يعني الجزاء المرتب على عمله بحسب تزايد الطاعات. وتسمية العمل الحسن فضلا تشريف ويجوز أن يعود الضمير في فَضْلَهُ إلى الله تعالى. وفيه تنبيه على أن الدرجات في الجنة تتفاضل بحسب تزايد الطاعات. ثم أوعد على مخالفة الأمر فقال: وَإِنْ تَوَلَّوْا أي تتولوا فحذفت إحدى التاءين والمعنى إن تعرضوا عن الإخلاص في العبادة وعن الاستغفار والتوبة فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة الموصوف بالعظم والثقل أيضا وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا [الدهر: 27] . ثم بين كبر عذاب ذلك اليوم بقوله: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ أي لا حكم في ذلك اليوم إلا لله ولا رجوع إلا إلى جزائه، وهو مع ذلك كامل القدرة نافذ الحكم فما ظنكم بعذاب يكون المعذب به مثله. وفيه من التهديد ما فيه ولكن الآية تتضمن البشارة من وجه آخر. وذلك أن الحاكم الموصوف بمثل هذه العظمة والقدرة والاستقلال في الحكم إذا رأى عاجزا مشرفا على الهلاك فإنه يرحم عليه ولا يقيم لعذابه وزنا. اللهم لا تخيب رجاءنا فإنك واسع المغفرة. ثم ذكر أن التولي عن الأوامر المذكورة باطنا كالتولي عنها ظاهرا فقال: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ يقال ثنى صدره عن الشيء إذا ازورّ عنه وانحرف وطوى عنه كشحا.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث: 1. الترمذي في كتاب الزهد باب: 16. ابن ماجه في كتاب الزهد باب: 3. أحمد في مسنده (2/ 197، 323) .
(2) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب: 57. البخاري في كتاب المرضى باب: 3. ابن ماجه في كتاب الفتن باب: 23. الدارمي في كتاب الرقاق باب: 67. أحمد في مسنده (1/ 172/ 180) .(4/6)
قال المفسرون: وهاهنا إضمار أي يثنون صدورهم ويريدون لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أي من الله. ثم كرر كلمة أَلا تنبيها على وقت استخفائهم وهو حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أي يريدون الاستخفاء في وقت استغشاء الثياب. قال الكلبي: ثني صدورهم كناية عن نفاقهم لما روي أن طائفة من المشركين منهم الأخنس بن شريق قالوا: إذا أغلقنا أبوابنا وأرخينا ستورنا واستغشينا ثيابنا وثنينا صدورنا على عداوة محمد فكيف يعلم بنا. وعلى هذا لا حاجة إلى الإضمار. وقيل: إنه حقيقة، وذلك أن بعض الكفار كان إذا مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وولى ظهره واستغشى ثيابه لئلا يسمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يتلو من القرآن، وليقول في نفسه ما يشتهي من الطعن. ثم استأنف قوله: يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ تنبيها على أنه لا فائدة لهم في الاستخفاء لأنه تعالى عالم بالسرائر كما أنه عالم بالظواهر.
ثم أكد كونه عالما بكل المعلومات بكونه كافلا لأرزاق جميع الحيوانات ضامنا لمصالحها ومهامها فضلا وامتنانا وكرما وإحسانا فقال: وَما مِنْ دَابَّةٍ الآية. والمستقر مكانها من الأرض، والمستودع ما قبل ذلك من الأمكنة من صلب أو رحم أو بيضة. وقال الفراء:
مستقرها حيث تأوي إليه ليلا أو نهارا، ومستودعها موضعها الذي تموت فيه. وقد مر تمام الأقوال في سورة الأنعام. واستدل الأشاعرة بالآية على أن الحرام رزق لأنها تدل على أن إيصال الرزق إلى كل حيوان واجب على الله بحسب الوعد عندنا أو بحسب الاستحقاق عند المعتزلة شبه النذر. ثم إنا نرى إنسانا لا يأكل من الحلال طول عمره وقد سماه الله تعالى رزقا. ثم ختم الآية بقوله: كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ أي كل واحد من الدواب.
ورزقها ومستقرها ومستودعها ثابت. في علم الله أو في اللوح المحفوظ. وقد ذكرنا فائدته في قوله: وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] يروى أن موسى عليه السلام عند نزول الوحي عليه تعلق قلبه بأهله فأمره الله تعالى أن يضرب بعصاه صخرة فانشقت فخرجت منها صخرة ثانية، ثم ضرب فانشقت فخرجت ثالثة، ثم ضربها فخرجت دودة كالذرة وفي فمها شيء يجري مجرى الغذاء لها، فسمع الدودة تقول: سبحان من يراني ويسمع كلامي ويعرف مكاني ويذكرني ولا ينساني. ثم أكد دلائل قدرته بقوله:
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قال كعب الأحبار: خلق الله ياقوتة خضراء، ثم نظر إليها بالهيبة فصارت ماء يرتعد، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها ووضع العرش على الماء. وقال أبو بكر الأصم: هذا كقولك: لا سماء إلا على الأرض وليس ذلك على سبيل كون أحدهما ملصقا بالآخر. وعلى هذا فيكون الآن أيضا عرشه على الماء. وقال في الكشاف: المراد أنه ما كان تحت العرش خلق سوى الماء، وفيه دليل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل السموات والأرض،(4/7)
وعلى أن الملائكة خلقت قبل العرش والماء ليعتبروا بهما وإلا لزم أن يكون خلقهما قبل أن يعتبر بهما عبثا إذ لا يتصور عود نفعهما إليه تعالى. وقال أبو مسلم: العرش البناء أي بناؤه للسموات كان على الماء. وقال حكماء الإسلام: المراد بالماء تحركه شبه سيلان الماء أي وكان عرشه يتحرك. وبالجملة مقصود الآية بيان كمال قدرته في إمساك الجرم العظيم على الصغير. أما قوله: لِيَبْلُوَكُمْ فالمعتزلة قالوا: اللام للتعليل، وذلك أنه خلق هذا العالم الكبير لأجل مصالح المكلفين وأن يعاملهم معاملة المختبر المبتلى لأحوالهم كيف يعملون فيجازي كل فريق بما يستحقه. والأشاعرة قالوا: إن أحكامه غير معللة بالمصالح ومعناه أنه فعل فعلا لو كان يفعله من يجوز عليه رعاية المصالح لما فعله إلا لهذا الغرض. وإنما علق فعل البلوى لما في الاختبار من معنى العلم لأنه طريق إلى العلم فهو ملابس له كالنظر والاستماع في قولك: انظر أيهم أحسن وجها واسمع أيهم أحسن كلاما. قال في الكشاف: الذين هم أحسن عملا هم المتقون، وإنما خصهم بالذكر وطرح ذكر من وراءهم من الفساق والكفار تشريفا لهم. قلت ويجوز أن يقال إن أحسن بمعنى حسن ليشمل الخطاب جميع المكلفين. ثم لما كان الابتلاء يتضمن حديث البعث أتبع ذلك قوله: وَلَئِنْ قُلْتَ الآية. والإشارة في قوله: إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ إلى البعث أي هو باطل كبطلان السحر أو إلى القرآن لأنه الناطق بالبعث، فإذا جعلوه سحرا فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث. وقال القفال: معناه أن هذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا واجتذابهم إلى الانقياد لكم والدخول تحت طاعتكم. ومن قرأ ساحر فالإشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ثم بين أنه متى تأخر عنهم العذاب الذي توعدهم الرسول به أخذوا في الاستهزاء وقالوا ما الذي حبسه عنا فقال: وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الآية.
والأمة اشتقاقها من الأم وهو القصد والمراد بها الوقت المقصود لإيقاع الموعود. وقيل:
هي في الأصل الجماعة من الناس وقد يسمى الحين باسم ما يحصل فيه كقولك: كنت عند فلان صلاة العصر أي في ذلك الحين. فالمراد إلى حين ينقضي أمة معدودة من الناس. وقال في الكشاف: أي جماعة من الأوقات. والعذاب عذاب الآخرة. وقيل:
عذاب يوم بدر. عن ابن عباس: قتل جبريل المستهزئين. ومعنى ما يَحْبِسُهُ أيّ شيء يمنعه من النزول استعجالا له على جهة الاستهزاء والتكذيب فأجابهم الله بقوله: أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ وهو متعلق بخبر ليس أي ليس العذاب مصروفا عنهم يوم يأتيهم. واستدل به من جوز تقديم خبر ليس على ليس لأنه إذا جاز تقديم معمول الخبر عليها فتقديم الخبر عليها أولى وإلا لزم للتابع مزية على المتبوع. ثم قال: وَحاقَ بِهِمْ أي أحاط بهم ما كانُوا بِهِ(4/8)
يَسْتَهْزِؤُنَ أراد يستعجلون ولكنه وضع يَسْتَهْزِؤُنَ موضعه لأن استعجالهم للعذاب كان على وجه الاستهزاء. وإنما قال: وَحاقَ بلفظ الماضي لأنه جعله كالواقع. ثم حكى ضعف حال الإنسان في حالتي السراء والضراء فقال: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ الآية.
واختلف المفسرون فقيل: الإنسان مطلق بدليل صحة الاستثناء في قوله: إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ولأن هذا النوع مجبول على الضعف والنقص والعجلة وقلة الثبات. وقيل: المراد الكافر، والاستثناء منقطع واللام للعهد. وقد مر ذكر الكافر، ولأن وصف اليأس والكفران والفرح المفرط بالأمور الزائلة والفخر بها لا يليق إلا بالكافر، وذلك أنه يعتقد أن السبب في حصول تلك النعم من الأمور الاتفاقية، فإذا زالت استبعد حدوثها مرة أخرى فيقع في اليأس الشديد، وعند حصولها كان ينسبها إلى الاتفاق فلا يشكر الله بل يكفره، وإذا انتقل من مكروه إلى محبوب ومن محنة إلى محنة اشتد فرحه بذلك وافتخر بها لذهوله عن السعادات الأخروية الروحانية فيظن أنه قد فاز بغاية الأماني ونهاية المقاصد. وأما المؤمن فحاله على العكس ولذلك استحق وعد الله بالمغفرة والأجر الكبير. أما تفسير الألفاظ فالإذاقة والذوق أقل ما يوجد به الطعم، وفيه دليل على أن الإنسان لا يصبر عن أقل القليل ولا عليه، وفيه أن جميع نعم الدنيا في قلة الاعتبار وسرعة الزوال تشبه حلم النائمين وخيالات المبرسمين. والرحمة النعمة من صحة أو أمن أو جدة، ونزعها سلبها.
واليؤوس والكفور بناءان للمبالغة، والنعماء إنعام يظهر أثره على صاحبه، والضراء مضرة كذلك. قال الواحدي لأنها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو حوراء وعوراء.
والسيئات يريد بها المصائب التي ساءته. ثم سلى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ قال ابن عباس: إن رؤساء مكة قالوا: إن كنت رسولا فاجعل لنا جبال مكة ذهبا أو ائتنا بالملائكة ليشهدوا لك فخاطب الله سبحانه نبيه بقوله: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ واختلفوا في ذلك البعض فعن ابن عباس أن المشركين قالوا له: ائتنا بكتاب ليس فيه شتم آلهتنا حتى نتبعك ونؤمن بكتابك. وقال الحسن: طلبوا منه صلى الله عليه وسلم أن يترك قوله: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ [طه: 15] وأجمع المسلمون على أنه لا يجوز على الرسول أن يترك بعض ما أوحى الله إليه لأنه ينافي المقصود من الرسالة المعتبر فيها الأمانة، فأوّلوا الآية بأن أمثال هذه التهديدات لعلها سبب عدم التقصير في أداء الوحي فلهذا خوطب بها، أو لعله كان صلى الله عليه وسلم بين محذورين: أحدهما ترك أداء شيء من الوحي، وثانيهما أنهم كانوا يتلقون الوحي بالطعن والاستهزاء، فنبه بالآية على أن تحمل الضرر الثاني أهون وإذا وقع الإنسان بين مكروهين وجب أن يختار أسهلهما، والعربي يقول لغيره إذا أراد أن يزجره: لعلك تفعل كذا أي لا(4/9)
تفعل. وإنما قال: وَضائِقٌ ولم يقل وضيق بِهِ صَدْرُكَ دلالة على أنه ضيق حادث لأنه صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدرا. ومعنى أَنْ يَقُولُوا مخافة أن يقولوا: لَوْلا أُنْزِلَ أي هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ولم أنزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه.
ثم بين أن حاله مقصور على النذارة لا يتخطاها الى إنزال المقترحات، والذي أرسله هو القادر على ذلك حفيظ عليه وعلى كل شيء، ومن كمال قدرته إنزال القرآن المعجز لدهماء المصاقع وأشار إلى ذلك بقوله: أَمْ يَقُولُونَ الآية. وقد مر مثله في سورة يونس. عن ابن عباس: السور العشر هي من أول القرآن إلى هاهنا. واعترض عليه بأن هذه السورة مكية وبعض السور المتقدمة عليها مدنية، فكيف يمكن أن يشار إلى ما ليس بمنزل بعد. فالأولى أن يقال: إن التحدي وقع بمطلق السور التي تظهر فيها قوة ترتيب الكلام وتأليفه. تحداهم أوّلا بمجموع القرآن في قوله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء: 88] الآية. وبعشر سور في هذه الآية وذلك أن العشرة أول عقد من العقود، ثم بسورة في يونس وفي البقرة، وهذا كما يقول الرجل لصاحبه: اكتب كمثل ما أكتب فإذا عجز قال: اكتب عشرة أسطر مثل ما أكتب، فإذا ظهر عجزه عنه قال في آخر الأمر: قد اقتصرت منك على سطر واحد مثله، ثم إذا أراد غاية المبالغة قال: قد جوزت لك أن تستعين بكل من تريد فإذا ظهر عجزه حال الانفراد وحال الاجتماع والتعاون تبين عجزه عن المعارضة على الإطلاق ولهذا قال: فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا إلى معارضة القرآن أو إلى الإيمان لَكُمْ أي لك وللمؤمنين لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين كانوا يتحدّونهم، أو الجمع لتعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ أي ملتبسا بما لا يعلمه إلا الله من النظم المعجز والاشتمال على العلوم الجمة الظاهرة والغائبة. ومعنى الأمر راجع إلى الثبات أي اثبتوا على ما أنتم عليه من العلم واليقين بشأن القرآن ودوموا على التوحيد الذي استفدتم من القرآن أو دلكم على ذلك عجز آلهتهم عن المعارضة والإعانة. ثم ختم الآية بقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وفيه نوع من التهديد كأنه قيل للمسلمين إذا تبينتم صدق قول محمد صلى الله عليه وسلم وازددتم بصيرة وطمأنينة وجب عليكم الزيادة في الإخلاص والطاعة. وتفسير آخر وهو أن يكون الضمير في فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لمن في مَنِ اسْتَطَعْتُمْ والخطاب في لَكُمْ للمشركين، وكذا في قوله:
فَاعْلَمُوا وفي أَنْتُمْ والمعنى فإن لم يستجب لكم من تدعونه إلى المظاهرة لعلمهم بالعجز عنه فاعلموا أنه منزل من عند الله وأن توحيده واجب. ثم رغبهم في أصل الإسلام وهددهم على تركه بقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ بعد لزوم الحجة مُسْلِمُونَ ثم أوعد من كانت(4/10)
همته مقصورة على زينة الحياة الدنيا وكان مائلا عن الدين جهلا أو عنادا فقال: مَنْ كانَ يُرِيدُ الآية. عن أنس أنهم اليهود والنصارى. وقيل: المنافقون كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول الغنائم فكان صلى الله عليه وسلم يسهم لهم فيها. وقال الأصم: هم منكر والبعث. وقال آخرون:
هي عامة في الكافر والمسلم المرائي. وقال القاضي: المراد من كان يريد بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم، نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا وهو ما ينالون من الصحة والكفاف وسائر اللذات والمنافع.
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان يوم القيامة يدعى برجل جامع للقرآن فيقال له: ما عملت فيه؟ فيقول: يا رب قمت فيه آناء الليل والنهار. فيقول الله: كذبت أردت أن يقال فلان قارئ. وقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله ألم أوسع عليك فماذا عملت فيه؟
فيقول: وصلت الرحم وتصدقت فيقول الله: كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد وقد قيل ذلك. ثم يؤتى بمن قتل في سبيل الله فيقول: قاتلت في الجهاد حتى قتلت فيقول الله تعالى: كذبت بل أردت أن يقال فلان جريء. قال أبو هريرة: ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي وقال: يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق تسعر بهم النار يوم القيامة» «1» .
وروي أن أبا هريرة ذكر هذا الحديث عند معاوية فبكى معاوية حتى ظننا أنه هالك ثم أفاق فقال:
صدق الله ورسوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها الآيتان. ثم بين أن بين طالب الدنيا وحدها وبين طالب السعادات الباقية تفاوتا بينا فقال: أَفَمَنْ كانَ والمعنى أمن كان يريد الحياة الدنيا كما كان على بينة أي لا يعقبونهم في المنزلة عند الله ولا يقاربونهم؟
نظيره إذا أتاك العلماء والجهال فاستأذن الجهال للدخول قبل العلماء فتقول: الجهال ثم العلماء كلا وحاشا تريد أن العلماء ينبغي أن يدخلوا أولا ثم الجهال. ويمكن أن يقال:
التقدير أفمن كان عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كمن يريد الحياة الدنيا فحذف الخبر للعلم به ومثله أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً [فاطر: 35] أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً [الزمر: 9] واعلم أن أول هذه الآية يشتمل على ألفاظ أربعة مجملة: الأول أن هذا الذي وصفه الله بأنه على بينة من هو؟ الثاني ما المراد بالبينة؟ الثالث ما معنى يتلوه أهو من التلاوة أم من التلو؟ الرابع الشاهد من هو؟ وللمفسرين فيها أقوال: أصحها أن معنى البينة البرهان العقلي الدال على صحة الدين الحق، والذي هو على البينة مؤمنو أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه، ومعنى يتلوه يعقبه وتذكير الضمير العائد إلى البينة
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 152. الترمذي في كتاب الزهد باب: 48. النسائي في كتاب الجهاد باب: 22. أحمد في مسنده (2/ 322) .(4/11)
بتأويل البيان والبرهان، والمراد بالشاهد القرآن ومنه أي من الله أو من القرآن المتقدم ذكره في قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى أي ويتلو ذلك البرهان من قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة حال كونها إِماماً أو أعني إماما كتابا مؤتما به في الدين قدوة فيه وَرَحْمَةً ونعمة عظيمة على المنزل إليهم. والحاصل أن المعارف اليقينية المكتسبة إما أن يكون طريق اكتسابها بالحجة والبرهان، وإما أن يكون بالوحي والإلهام، وإذا اجتمع على بعض المطالب هذان الأمران واعتضد كل واحد منهما بالآخر كان المطلوب أوثق. ثم إذا توافقت كلمة الأنبياء على صحته بلغ المطلوب غاية القوة والوثوق، ثم إنه حصل في تقرير صحة هذا الدين هذه الأمور الثلاثة جميعا: البينة. وهي الدلائل العقلية اليقينية، والشاهد وهو القرآن المستفاد من الوحي، وكتاب موسى المشتمل على الشرائع المتقدمة عليه الصالح لاقتداء الخلف به، وعند اجتماع هذه الأمور لم يبق لطالب الحق المنصف في صحة هذا الدين شك وارتياب. وقيل: أفمن كان محمد صلى الله عليه وسلم، والبينة القرآن، ويتلوه يقرؤه شاهد هو جبرائيل نزل بأمر الله وقرأ القرآن على محمد أو شاهد من محمد هو لسانه، أو شاهد هو بعض محمد يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أو يتلوه أي يعقب ذلك البرهان شاهد من النبي صلى الله عليه وسلم هو صورته ومخايله، فإن من نظر إليه بعقله تفرس أنه ليس بمجنون ولا وجهه وجه كذاب ولا كاهن. وقيل: الكائن على البينة هم المؤمنون، والبينة القرآن، ويتلوه يعقب القرآن شاهد من الله هو محمد صلى الله عليه وسلم أو الإنجيل لأنه يعقبه في التصديق والدلالة على المطلوب وإن كان موجودا قبله، أو ذلك الشاهد كون القرآن واقعا على وجه يعرف المتأمل فيه إعجازه لاشتماله على فنون الفصاحة وصنوف البلاغة إلى غير ذلك من المزايا التي قلما يخبر عنها إلا الذوق السليم. ثم مدح الكائن على البينة بقوله: أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بالقرآن. ثم أوعد غيرهم بقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ يعني أهل مكة ومن انحاز معهم كاليهود والنصارى والمجوس فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ في شك مِنْهُ من القرآن أو من الموعد، ولما أبطل بعض عادات الكفرة من شدة حرصهم على الدنيا وذلك قوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا ومن إنكارهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وذلك قوله: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ أراد أن يبطل ما كانوا يعتقدون في أصنامهم أنها شفعاء تشفع لهم فقال: وَمَنْ أَظْلَمُ. ثم قال: أُولئِكَ يُعْرَضُونَ لم يحمل عليهم العرض لأنهم مخصوصون بالعرض فإن العرض عام، ولكن فائدة الحمل ترجع إلى المعطوف. أراد أنهم يعرضون فيفضحون بقول الأشهاد. ومعنى عرضهم على ربهم أنهم يعرضون على الأماكن المعدة للحساب. والسؤال أو المراد عرضهم على من(4/12)
يوبخ ويبكت بأمر الله من الأنبياء والمؤمنين، أو أراد أنهم يحبسون في المواقف وتعرض أعمالهم على الرب. قال مجاهد: الأشهاد الملائكة الحفظة. وقال قتادة: هم الناس كما يقال على رؤوس الأشهاد أي الناس. وقيل: هم الأنبياء لقوله: وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف: 6] والأشهاد إما جمع شاهد كصاحب وأصحاب، أو جمع شهيد كشريف وأشراف. قال أبو علي: وهذا أرجح لكثرة ورود شهيد في القرآن وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [البقرة: 143] فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41] والفائدة في اعتبار قول الأشهاد المبالغة في إظهار الفضيحة. وباقي الآية قد مر تفسير مثلها في «الأعراف» . أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي لم يكن يمكنهم أن يهربوا من عذابنا لأنه سبحانه قادر على جميع الممكنات ولا تتفاوت قدرته بالنسبة إلى القريب والبعيد والضعيف والقوي. وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ تنصرهم وتمنعهم من عقابه. جمع تعالى بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم وبين بذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة. وقيل: هذا من كلام الأشهاد والمراد أنه تعالى لو شاء عقابهم في الدنيا لعاقبهم ولكنه أراد إنظارهم وتأخيرهم إلى هذا اليوم يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ من قبل الكفر والصد أي الضلال والإضلال. ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ يريد ما هم عليه في الدنيا من صمم القلوب وعمى
البصائر. ثم إن الأشاعرة قالوا: إن ذلك بتخليق الله تعالى حيث صيرهم عاجزين ممتنعين عن الوقوف على دلائل الحق، ويوافقه ما روي عن ابن عباس أنه قال: إنه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وذلك قوله: ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ الآية. وفي الآخرة كما قال: يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ [القلم: 42] . وقالت المعتزلة: المراد استثقالهم لاستماع الحق ونفورهم عنه كقول القائل: هذا الكلام مما لا أستطيع أن أسمعه، وهذا الشخص لا أستطيع أن أبصره. والمراد بالأولياء الأصنام كأنه قال: الذي سموه أولياء ليسوا في الحقيقة بأولياء. ثم نفى كونهم أولياء بأنهم لا يسمعون ولا يبصرون فكيف يصلحون للولاية؟ وعلى هذا يكون قوله: يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ اعتراضا بوعيد. واعلم أنه سبحانه وصف الكفار في هذه الآيات بصفات كثيرة. الأولى وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى الثانية أُولئِكَ يُعْرَضُونَ أي في موقف الذل والهوان. الثالثة بيان الخزي والفضيحة في قوله: وَيَقُولُ الْأَشْهادُ الرابعة اللعنة عليهم. الخامسة الصد عن سبيل الله. السادسة سعيهم في إلقاء الشبهات وذلك قوله: وَيَبْغُونَها عِوَجاً. السابعة كونهم كافرين بالآخرة. الثامنة كونهم عاجزين عن الفرار أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا. التاسعة وَما كانَ لَهُمْ(4/13)
مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ. العاشرة مضاعفة العذاب لهم. الحادية عشرة والثانية عشرة ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ الآية. الثالثة عشرة أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ
وقد مر في «الأنعام» . الرابعة عشرة وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ
وقد سبق في «يونس» . الخامسة عشرة لا جَرَمَ قال الفراء إنها بمنزلة قولك لا بد ولا محالة ثم كثر استعمالها حتى صارت بمنزلة حقا. وقال النحويون: «لا» حرف نفي وجرم أي قطع معناه لا قطع قاطع أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ وقال الزجاج «لا» نفي لما ظنوا أنه ينفعهم و «جرم» معناه كسب، والمعنى لا ينفعهم ذلك وكسب لهم ذلك الفعل خسار الدارين. قال الأزهري: وهذا من أحسن ما قيل في هذه اللفظة قوله في وعد المؤمنين وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ معناه اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع من الخبت وهي الأرض المطمئنة، وفيه إشارة إلى أن الأعمال لا بد فيها من الأحوال القلبية الموجبة للالتفات عما سوى الله.
وقيل: المراد اطمئنانهم وتصديقهم كل ما وعد الله به من الثواب وضده. وقيل: المراد كونهم خائفين من قوع الخلل في بعض تلك الأعمال. ثم ضرب للفريقين مثلا وهو إما تشبيهان بأن شبههما تارة بالأعمى والبصير وأخرى بالأصم والسميع، وإما تشبيه واحد والواو لعطف الصفة على الصفة فيكون قد شبه الكافر بالجامع بين العمى والصمم والمؤمن بالجامع بين البصر والسمع. ولا شك أن الفريق الكافر هو الذي وصفه بالصفات الخمس عشرة، وأما الفريق المؤمن فقيل: المراد به قوله: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ وقيل:
المذكورون في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثم أنكر تساويهما في الأحكام والمراتب بقوله هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا أي تشبيها. وفي قوله: أَفَلا تَذَكَّرُونَ تنبيه على أن علاج هذا العمى وهذا الصمم ممكن بتبديل الأخلاق وتغيير الأحوال بتيسير الله تعالى وتوفيقه.
التأويل:
الر الألف إشارة إلى الله، واللام الى جبرائيل، والراء إلى الرسول. يعني ما أنزل الله على لسان جبرائيل إلى الرسول كتاب مبين من لدن حكيم خبير كقوله: وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا [الكهف: 65] ورأس العلم اللدني أن تقول لأمتك يا محمد أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ مما ضاع من عمركم في غير طلب الله ثُمَّ تُوبُوا ارجعوا إِلَيْهِ بقدم السلوك لتكون التوبة تحلية لكم بعد التزكية بالاستغفار. يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً هو الترقي في المقامات العلية إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو حين انقضاء المقامات وابتداء درجات الوصول وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أي يؤت كل ذي صدق واجتهاد في الطلب درجات الوصول، فإن المشاهدات بقدر المجاهدات. والحاصل أن المتاع الحسن في مراتب السير إلى الله وإيتاء الفضل في درجات السير في الله. عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو عذاب الانقطاع عن(4/14)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
الله الكبير أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثياب الجسمية على وجه الروح كان يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ من حرمان النور المرشش ومن نقص الحرمان تحت ثياب القالب وَما يُعْلِنُونَ من ثني الصدور إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بما في الصدور من القلوب الظلمانية. وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها لأن كل حيوان له صفة مخصوصة ومزاج مخصوص وغذاؤه يجب أن يكون ملائما لمزاجه. فعلى ذمة كرم الله أنه كما خلق أجسادها على الأمزجة المتعينة يخلق غذاءها موافقا لمزاج كل منها، ثم يهديها إلى ما هو أوفق لها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها في العدم كيف قدرها مستعدة للصور المختصة بها وَمُسْتَوْدَعَها الذي تؤول إليه عند ظهور ما فيها بالقوة إلى الفعل. لِيَبْلُوَكُمْ فإن العالم بما فيه محل الابتلاء ومحك السعداء والأشقياء. وَلَئِنْ قُلْتَ للأشقياء موتوا عن الطبيعة باستعمال الشريعة ومزاولة الطريقة لتحيوا بالحقيقة فإن الحياة الحقيقية تكون بعد الموت عن الحياة الطبيعية لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ستروا حسن استعدادهم الفطري بتعلق الشهوات الفانية إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ أي كلام مموه لا أصل له. وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ عذاب البعد إِلى أُمَّةٍ إلى حين ظهور ذوق العذاب فإن الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.
[سورة هود (11) : الآيات 25 الى 49]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29)
وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39)
حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)(4/15)
القراآت:
إِنِّي لَكُمْ بكسر الهمزة: نافع وابن عامر وعاصم وحمزة. والآخرون بفتحها بادِيَ بالهمزة: أبو عمرو ونصير. الرَّأْيِ بالياء: أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف فَعُمِّيَتْ مجهولا مشددا: حمزة وعلي وخلف وحفص. الباقون بضدهما أَنُلْزِمُكُمُوها باختلاس ضمة الميم: عباس أَجرِيَ إِلَّا بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص وَلكِنِّي أَراكُمْ بالفتح حيث كان: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو نُصْحِي إِنْ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو بِأَعْيُنِنا مدغما.
حيث كان: عباس مِنْ كُلٍّ بالتنوين حيث كان: حفص والمفضل مَجْراها بفتح الميم بالإمالة: حمزة وعلي وخلف وحفص مَجْراها بالضم وبالإمالة: أبو عمرو. والباقون بالضم مفخما. يا بُنَيَّ بفتح الياء: عاصم ارْكَبْ مَعَنا مظهرا: عاصم وحمزة عمل على أنه فعل غير بالنصب: علي وسهل ويعقوب. الآخرون عَمَلٌ غير بالرفع فيهما تَسْئَلْنِ بالنون المشددة المكسورة لإدغام النون المخففة في نون الوقاية بعد حذف ياء المتكلم في(4/16)
الحالين: ابن عامر وقالون: بإثبات الياء في الوصل: أبو جعفر ونافع غير قالون بفتح النون المشددة: ابن كثير تَسْئَلْنِي بغير نون التأكيد وإثبات الياء في الحالين سهل ويعقوب الباقون بغير ياء في الحالين إِنِّي أَعِظُكَ إِنِّي أَعُوذُ بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو.
الوقوف:
مُبِينٌ هـ لا إِلَّا اللَّهَ ط أَلِيمٍ هـ الرَّأْيِ ج كاذِبِينَ هـ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ ط كارِهُونَ هـ مالًا ط آمَنُوا ط تَجْهَلُونَ هـ طَرَدْتُهُمْ ط تَذَكَّرُونَ 5 خَيْراً ط أَنْفُسِهِمْ ج الظَّالِمِينَ هـ الصَّادِقِينَ هـ بِمُعْجِزِينَ هـ أَنْ يُغْوِيَكُمْ ط تُرْجَعُونَ هـ ط افْتَراهُ ط تُجْرِمُونَ هـ يَفْعَلُونَ هـ ج للآية والعطف ظَلَمُوا ج لاحتمال التعليل. مُغْرَقُونَ هـ سَخِرُوا مِنْهُ هـ تَسْخَرُونَ هـ ط تَعْلَمُونَ هـ لا لأن ما بعده مفعول مُقِيمٌ هـ التَّنُّورُ هـ لا لأن ما بعده جواب «إذا» وَمَنْ آمَنَ ط قَلِيلٌ هـ ط وَمُرْساها ط رَحِيمٌ هـ الْكافِرِينَ هـ مِنَ الْماءِ ط، رَحِمَ ج لاتفاق الجملتين مع اختلاف العامل. الْمُغْرَقِينَ هـ الظَّالِمِينَ هـ الْحاكِمِينَ هـ مِنْ أَهْلِكَ ج عِلْمٌ ط الْجاهِلِينَ هـ عِلْمٌ ط الْخاسِرِينَ هـ مَعَكَ ط أَلِيمٌ هـ إِلَيْكَ ج ط لاحتمال ما بعده الحال أو الاستئناف هذا ط وعلى قوله: فَاصْبِرْ أحسن للابتداء ب «أن» لِلْمُتَّقِينَ هـ.
التفسير:
لما أورد على الكفار أنواع الدلائل أكدها بالقصص على عادته من التفنن في الكلام والنقل من أسلوب إلى أسلوب في الموعظة فبدأ بقصة نوح. ومعنى إِنِّي لَكُمْ أي متلبسا بهذا الكلام وهو قوله: إِنِّي لَكُمْ فلما اتصل به الجار فتح ومن كسر فعلى إرادة القول. وأَنْ لا تَعْبُدُوا بدل من إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ أي أرسلناه بأن لا تعبدوا إِلَّا اللَّهَ أو يكون «أن» مفسرة متعلقة بأرسلنا أو بنذير. ووصف اليوم بأليم لوقوع الألم فيه فيكون مجازا. وكذا لو جعل الوصف للعذاب والجر بالجوار. ثم حكى أنه طعن أشراف قومه في نبوته من ثلاث جهات: الأولى أنه بشر مثلهم. الثانية أنه لم يتبعه إلا الأراذل يعنون أصحاب الحرف الخسيسة كالحياكة وغيرها قالوا: لو كنت صادقا لا تبعك الأكياس من الناس والأشراف منهم. والأراذل جمع أرذل. وقيل: جمع الأرذال جمع رذل وهو الدون من كل شيء في منظره وحالاته. ومعنى بادِيَ الرَّأْيِ أول الرأي وهو نصب على الظرف أي اتبعوك في ابتداء حدوث الرأي من غير روية، أو معناه ظاهر الرأي من قولك بدا الشيء إذا ظهر، ومنه البادية للبرية لظهورها وبروزها للناظر. وهذا تفسير من(4/17)
قرأ بغير همز. وعلى هذا فالمراد أنهم اتبعوك في الظاهر وباطنهم بخلافه، أو اتبعوك وقت حدوث ظاهر رأيهم فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. ويجوز أن يتعلق بادِيَ الرَّأْيِ بقوله: أَراذِلُنا أي كونهم كذلك أمر ظاهر لكل من يراهم عيانا، ويتأكد هذا التأويل بما نقل عن مجاهد أنه قرأ إلا الذين هم أراذلنا رأي العين وإنما استرذلوا المؤمنين لاعتقادهم أن المزية عند الله سبحانه بالمال والجاه ولم يعلموا أن ذلك مبعد من الحق لا مقرب منه، وأن الأنبياء ما بعثوا إلا لترك الدنيا والإقبال على الآخرة فكيف يجعل قلة المال طعنا في النبوة وفي متابعة النبي. الشبهة الثالثة: وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ لا في العقل ولا في كيفية رعاية المصالح ولا في قوة الجدل بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ خطاب لنوح ولمن آمن به بتبعيته، أو خطاب للأراذل كأنهم نسبوهم إلى الكذب في ادعاء الإيمان. ثم حكى ما أجاب به نوح قومه وهو أن حصول المساواة في صفة البشرية لا يمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة وذلك قوله: أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ برهان مِنْ رَبِّي وَآتانِي بإيتاء تلك البينة رَحْمَةً وعلى هذا البينة هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة وبالرحمة النبوة وقيل بالعكس فَعُمِّيَتْ خفيت أو أخفيت البينة أو كل من البينة والرحمة أي صارت مظلمة مشتبهة في عقولكم. والبينة توصف بالإبصار والعمى مجازا باعتبار نتيجتها كما أن دليل القوم إن كان بصيرا اهتدوا وإن كان أعمى بقوا خابطين متحيرين. ثم قال: أَنُلْزِمُكُمُوها
أي أنكرهكم على قبول البينة وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ والمراد أنا لا نقدر على إيصال حقيقة البينة إليك. وإنما يقدر على ذلك من هو قادر على الإيجاد والإعدام وتغيير الأحوال وتبديل الأخلاق. ثم ذكر أنه لا يطلب على تبليغ الرسالة مالا حتى يتفاوت الحال بسبب كون المجيب غنيا أو فقيرا وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا عن ابن جريج أنهم قالوا: إن أحببت يا نوح أن نتبعك فاطردهم فإنا لا نرضى بمشاركتهم، فلم يبذل ملتمسهم وعلل ذلك بقوله إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيعاقب من يطردهم أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من الإيمان الصحيح أو النفاق بزعمكم، أو المراد أنهم معتقدون لقاء ربهم وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ لقاء ربكم وأنهم خير منكم، أو قوما تسفهون حيث تسمون المؤمنين أراذل.
ثم أكد عدم طردهم بقوله: وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ من يمنعني من عقابه إِنْ طَرَدْتُهُمْ لأن العقل والشرع توافقا على أنه لا بد من تعظيم المؤمن البر المتقي ومن إهانة الكافر الفاجر فكيف يليق بنبي الله أن يقلب هذه القضية. سؤال: إن كان طرد المؤمن لطلب مرضاة الكافر معصية فكيف فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نهي عنه بقوله: وَلا(4/18)
تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ؟ الجواب أنه لم يكن ذلك طردا مطلقا وإنما عين لأجلهم أوقاتا مخصوصة، ولأشراف قريش أوقاتا أخرى فعوتب على ذلك القدر. احتجت المعتزلة بالآية على عدم الشفاعة للفاسق إذ لو كانت جائزة لكانت في حق نوح أولى، فلم يقل من الذي يخلصني من عذابه. وأجيب بأنه مخصوص بآيات العفو. ثم ذكر أنه كما لا يسألهم مالا فإنه لا يدعي أن عنده خزائن الله حتى يجحدوا أن له فضلا عليهم من هذه الجهة. وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ حتى أصل به إلى ما أريده لنفسي ولأتباعي وأطلع على الضمائر وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ أتعظم بذلك عليكم بل طريقي الخضوع والتواضع وعدم الاستنكاف عن مخالطة الفقراء وقد مر في «الأنعام» سائر ما يتعلق بالآية. ومعنى تَزْدَرِي تعيب وتحقر والازدراء افتعال من زرى عليه إذا عابه. وفي قوله تعالى اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ دلالة على أنهم كانوا ينسبون اتباعه مع الفقر والذلة الى النفاق إِنِّي إِذاً أي إن قلت شيئا من ذلك كنت من الظالمين لنفسي. أو إن قلت إن الله لن يؤتيهم خيرا مع أنه لا وقوف لي على باطنهم. ثم إن قومه وصفوه بكثرة الجدال قائلين يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا قال أهل المعاني: أردت جدالنا وشرعت فيه فأكثرته كقولك: جاد لي فلان فأكثر. لم ترد أنه أعطى عطيتين أقل فأكثر بل تريد أن الوصف مقارن للموصوف. وفي الآية دلالة على أن الجدال في تقرير دلائل التوحيد من دأب أكابر الأنبياء. ثم استعجلوا العذاب الذي كان يتوعدهم به فأجاب نبي الله بأن ذلك ليس إليّ وإنما هو بمشيئة الله وإرادته ولا يعجزه عن ذلك أحد. وقوله: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي كقول القائل لامرأته:
أنت طالق إن دخلت الدار إن أكلت الخبز لم يقع الطلاق إلا إذا دخل الدار فأكل الخبز.
ولهذا قال الفقهاء: المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى فكأنه قيل: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فإن أردت أن أنصح لكم لم ينفعكم نصحي. واحتجاج الأشاعرة بالآية ظاهر.
وأجابت المعتزلة بأنه لا يلزم من فرض أمر وقوعه، ولعل نوحا إنما قال ذلك ليبين لهم أنه تعالى بنى أمر التكليف على الاختيار وإلا لم يكن للنصح فائدة، ولو تشبت الخصم بالجبر لزم إفحام النبي. ومن الجائز أن يراد بالإغواء التعذيب من غوى الفصيل إذا بشم فهلك، أو يراد به الخيبة كقوله: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم: 59] أي خيبة من خير الآخرة، أو يراد به منع الألطاف وقد تقدم أمثال ذلك مرارا. ثم أشار إلى المبدإ والمعاد بقوله: هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ثم أنكر الله سبحانه عليهم قولهم إنما ادعاء نوح أنه أوحي إليه مفترى فقال: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ فأمره بأن يجيب بكلام منصف وهو قوله: قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي أي عقاب إثمي وهو الافتراء. وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ أي من(4/19)
إجرامكم وهو إسناد الافتراء إليّ وهاهنا إضمار كأنه قيل: لكني ما افتريته فالإجرام وعقابه عليكم وأنا بريء منه. وأكثر المفسرين على أن هذه الآية من تمام قصة نوح. وعن مقاتل أنها من قصة محمد صلى الله عليه وسلم وقعت في أثناء قصة نوح.
قوله سبحانه: وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ إقناط له من إيمانهم الذي كان يتوقعه منهم بدليل قوله: إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فإن «قد» للتوقع. وقوله: فَلا تَبْتَئِسْ تسلية له أي لا تحزن بما فعلوه من تكذيبك وإيذائك فقد حان وقت الانتقام منهم. قال أكثر المعتزلة: إنه لا يجوز أن ينزل الله عذاب الاستئصال على قوم يعلم أن فيهم من يؤمن أوفي أولادهم من يؤمن بدليل دعاء نوح رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً إلى قوله: إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً [نوح: 27] علل الإهلاك بمجموع الأمرين فدل ذلك على أنهما لو لم يحصلا لم يجز الإهلاك. وذهب كثير منهم إلى الجواز، فليس كل خبر معلوم بواجب الوقوع نعم كلما يقع يجب أن يكون على الوجه الأصلح. ومذهب الأشاعرة في هذا المعنى ظاهر فله أن يفعل في ملكه ما شاء. ثم عرفه وجه إهلاكهم وألهمه وجه خلاص من آمن فقال: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ وهو أمر إيجاب على الأظهر لأنه لا سبيل إلى صون روحه عن الهلاك في الطوفان إلا بذلك، وصون النفس واجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وقيل: أمر إباحة كمن أمر أن يتخذ الإنسان لنفسه دارا يسكنها. والإنصاف أن الأمر ظاهره الوجوب وإن قطعنا النظر عن فائدته وغايته. وقوله: بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا في موضع الحال أي متلبسا بذلك. والسبب فيه أن إقدامه على صنعة السفينة مشروط بأمرين:
أحدهما أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل وأشار إليه بقوله: بِأَعْيُنِنا وليست العين بمعنى الجارحة لأنه منزه عن الجوارح والأعضاء فالمراد بها الحفظ والحياطة والكلاءة لأن العين آلة الحفظ والحراسة. والثاني أن يكون عالما بكيفية تركيب الأخشاب ونحتها. عن ابن عباس: لم يعلم كيف صنعة الفلك فأوحى الله تعالى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر. وقيل: المراد عين الملك الذي كان يعرّفه كيفية اتخاذ السفينة. ثم قال: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي في شأنهم. وقيل: علل عدم الخطاب بقوله: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي إنهم محكوم عليهم بالإغراق وقد جف القلم عليهم بذلك فلا فائدة للشفاعة.
وقيل: لا تخاطبني في تعجيل عقابهم فإنهم يغرقون في الوقت المعين لذلك فلا فائدة في الاستعجال فلكل أمة أجل. وقيل: المراد بالذين ظلموا امرأته واعلة وكنعان ابنه. ثم حكى الحال الماضية بقوله: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ والحال أنه كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ يحتمل أن يكون هذا جوابا ل «كلما» وقوله: قالَ إِنْ تَسْخَرُوا استئناف(4/20)
على تقدير سؤال سائل كأنه قيل: ماذا قال نوح حينئذ؟ ويحتمل أن يكون سَخِرُوا بدلا من مَرَّ أو صفة ل مَلَأٌ وقالَ جواب قيل كانوا يقولون: يا نوح كنت نبيا فصرت نجارا، ولو كنت صادقا في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق.
وقيل: إنهم ما رأوا السفينة قبل ذلك فكانوا يتعجبون ويسخرون. وقيل: إنها كانت كبيرة وكان يصنعها في مفازة بعيدة عن الماء فكانوا يقولون هذا من باب الجنون. وقيل: طالت مدته وكان ينذرهم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة وليس منه عين ولا أثر فغلب على ظنونهم كونه كاذبا فيسخرون منه فأجابهم بقوله: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا في الحال فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ في المستقبل إذا وقع عليكم الغرق في الدنيا والحرق في الآخرة، أو إن حكمتم علينا بالجهل فيما نصنع فإنا نحكم عليكم بالجهل فيما أنتم عليه من الكفر والتعرض لسخط الله، أو إن تستجهلونا فإنا نستجهلكم في استجهالكم لأنكم لا تستجهلون إلا عن الجهل بحقيقة الأمر. والبناء على ظاهر الحال كما هو عادة الأغمار. وسمي جزاء السخرية سخرية كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] ثم هددهم بقوله:
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ في الدنيا وهو عذاب الغرق وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ في الآخرة لازم لزوم الدين الحال للغريم. و «من» موصولة أو استفهامية وقد مر في «الأنعام» . روي أن نوحا عليه السلام اتخذ السفينة في سنتين وكان طولها ثلاثمائة ذراع وعرضها خمسين ذراعا وارتفاعها ثلاثين، وكانت من خشب الساج، وجعل لها ثلاثة بطون: الأسفل للوحوش والسباع والهوام، والأوسط للدواب والأنعام، والأعلى للناس ولما يحتاجون إليه من الزاد وحمل معه جسد آدم. وقال الحسن: كان طولها ألفا ومائتي ذراع وعرضها ستمائة.
قوله: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا هي غاية لقوله: وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ أي كان يصنعها إلى أن جاء وقت الأمر بالإهلاك. وَفارَ التَّنُّورُ أي نبع الماء منه بشدة وسرعة تشبيها بغليان القدر. والتنور هي التي يختبز فيها فقيل: هو مما استوى فيه العربي والعجمي. وقيل:
معرب لأنه لا يعرف في كلام العرب نون قبل راء. عن ابن عباس والحسن ومجاهد: هو تنور نوح. وقيل: كان لآدم وحواء حتى صار لنوح وموضعه بناحية الكوفة قاله مجاهد والشعبي.
وعن علي رضي الله عنه أنه في مسجد الكوفة وقد صلى فيه سبعون نبيا.
وقيل:
بالشام بموضع يقال له عين وردة قاله مقاتل. وقيل: بالهند. روي أن امرأته كانت تخبز فأخبرته بخروج الماء من ذلك التنور فاشتغل في تلك الحال بوضع الأشياء في السفينة وكان الله تعالى جعل هذه الحالة علامة لواقعة الطوفان.
ويروى عن علي رضي الله عنه(4/21)
أيضا أن المراد بالتنور وجه الأرض لقوله: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً [القمر: 12]
وعنه أيضا كرم الله وجهه أن معنى فارَ التَّنُّورُ طلع الصبح.
وقيل: معناه اشتد الأمر كما يقال حمي الوطيس. والمراد إذا رأيت الأمر يشتد والماء يكثر فاركب في السفينة وذلك قوله قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ والزوجان شيئان يكون أحدهما ذكرا والآخر أنثى.
فمن قرأ بالإضافة فمعناه احمل من كل صنفين بهذا الوصف اثنين، ومن قرأ بالتنوين فالمراد حمل من كل شيء زوجين. واثنين للتأكيد ولا يبعد أن يكون النبات داخلا فيه لاحتياج الناس إليه وَأَهْلَكَ معطوف على مفعول احْمِلْ وكذا مَنْ آمَنَ وقوله إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ قال الضحاك: أراد ابنه وامرأته قدر الله لهما الكفر إذ علم منهما ذلك. ثم قال وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ أي نفر قليل: عن مقاتل أنهم ثمانون وبهم سموا قرية الثمانين بناحية الموصل لأنهم لما خرجوا من السفينة بنوها. وقيل: اثنان وسبعون رجلا وامرأة، وأولاد نوح: سام وحام ويافث ونساؤهم. فالجميع ثمانية وسبعون نصفهم رجال ونصفهم نساء. وعن محمد بن إسحق كانوا عشرة،
وعن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ثمانية، نوح وأهله وبنوه الثلاثة ونساؤهم.
وقيل في بعض الروايات: إن إبليس دخل معه السفينة وفيه بعد لأنه جسم ناري فلا يؤثر الغرق فيه.
قوله سبحانه وتعالى حكاية عن نوح وأهله وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها الآية. فيه أبحاث الأول: أن الركوب متعد بنفسه يقال: ركبت الدابة والبحر والسفينة أي علوتها. فما الفائدة في زيادة لفظة «في» ؟ قال الواحدي: فائدته أن يعلم أنه أمرهم بأن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهره. الثاني قوله: بِسْمِ اللَّهِ إما أن تتعلق بقوله: ارْكَبُوا حالا من الواو أي مسمين الله، أو قائلين باسم الله ومَجْراها وَمُرْساها مصدران حذف منهما الوقت المضاف كقولهم: جئتك خفوق النجم ومقدم الحاج، أو يراد مكان الإجراء والإرساء أو زمانهما. وانتصابهما بما في بسم الله من معنى الفعل، أو بالقول المقدر. وعلى التقادير يكون مجموع قوله: وَقالَ ارْكَبُوا إلى قوله: وَمُرْساها كلاما واحدا. وإما أن يكون بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها كلاما آخر من مبتدإ وخبر أي باسم الله إجراؤها وإرساؤها.
يروى أنه كان إذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال بسم الله فرست.
ويجوز أن يقحم الاسم كقوله: تم اسم السلام عليكما، ويراد بالله إجراؤها وإرساؤها، وكان نوح أمرهم بالركوب أوّلا ثم أخبرهم بأن إجراءها وإرساءها بذكر اسم الله أو بأمره وقدرته. وجوز في الكشاف أن تكون هذه الجملة في موضع الحال من ضمير الفلك ولا تكون جملة مستأنفة ولكن فضلة من تتمة الكلام الأول كأنه قال اركبوا(4/22)
فيها مقدرين أن إجراءها وإرساءها باسم الله تعالى. يقال: رسا الشيء يرسو إذا ثبت، وأرساه غيره.
يروى أنها سارت لأول يوم من رجب أو لعشر مضين منه فسارت ستة أشهر ثم استوت على الجودي يوم العاشر من المحرم.
ويروى أنها مرت بالبيت وطافت به سبعا فأعتقها الله من الغرق.
البحث الثالث قوله: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ كيف ناسب مقام الإهلاك وإظهار العزة؟ والجواب كان القوم اعتقدوا أنهم نجوا ببركة إيمانهم وعملهم، فنبههم الله تعالى بهذا الذكر على أن الإنسان في كل حال من أحواله لا ينفك عن ظلمات الخطأ والزلل فيحتاج إلى مغفرة الله ورحمته. وفي الآية إشارة إلى أن العاقل إذا ركب في سفينة الفكر ينبغي أن يكون قد برىء من حوله وقوته وقطع النظر عن الأسباب وربط قلبه وعلق همته بفضل واهب العقل فيقول بلسان الحال باسم الله مجريها ومرسيها حتى تصل سفينة فكره إلى ساحل الإيقان، وتتخلص عن أمواج الشبه والظنون والأوهام.
قال في الكشاف: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ متصل بمحذوف كأنه قيل: فركبوا فيها يقولون باسم الله وهي تجري بهم وهم فيها فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ في التراكم والارتفاع، فلعل الأمواج أحاطت بالسفينة من الجوانب فصارت كأنها في داخل تلك الأمواج.
واختلف المفسرون في قوله: وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ فالأكثرون على أنه ابن له في الحقيقة لئلا يلزم صرف الكلام عن الحقيقة الى المجاز من غير ضرورة، ولا استبعاد في كون ولد النبي كافرا كعكسه. واعترض على هذا القول بأنه كيف ناداه مع كفره وقد قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً؟ [نوح: 26] وأجيب بأنه كان منافقا وظن نوح أنه مؤمن أو ظن أنه كافر إلا أنه توقع منه الإيمان عند مشاهدة العذاب بدليل قوله: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ أو لعل شفقة الأبوة حملته على ذلك النداء. وعن محمد بن علي الباقر والحسن البصري أنه كان ابن امرأته ويؤيده ما روي أن عليا رضي الله عنه قرأ ونادى نوح ابنها ويؤكد هذا الظن قوله: إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي دون أن يقول «إنه مني» وقيل: إنه ولد على فراشه لغير رشدة وإليه الإشارة بقوله تعالى فَخانَتاهُما [التحريم: 10] ورد هذا القول بأنه يجب صون منصب الأنبياء عن مثل هذه الفضيحة لقوله: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ [النور: 26] وفسر ابن عباس تلك الخيانة بأن امرأة نوح كانت تقول زوجي مجنون.
وامرأة لوط دلت الناس على ضيفه. وقوله: وَكانَ فِي مَعْزِلٍ هو مفعل من عزله عنه إذا نحاه أو أبعده أي كان في مكان عزل فيه نفسه عن أبيه وعن السفينة وعمن فيها، أو كان في معزل عن دين أبيه. وقيل في معزل عن الكفار ولهذا ظن نوح أنه يريد مفارقة الكفرة، ولكن قوله: وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ لا يساعد هذا القول. وقوله يا بُنَيَّ بكسر الياء(4/23)
لأجل الاكتفاء به عن ياء الإضافة، وبفتحها اكتفاء به عن الألف المبدلة من الياء، ويجوز أن يكون الياء والألف ساقطتين من اللفظ فقط لالتقاء الساكنين. ثم حكى إصرار ابنه على الكفر بأن قال سَآوِي إِلى جَبَلٍ فأجاب نوح بأنه لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ واعترض عليه بأن معنى مَنْ رَحِمَ من رحمه الله وهو معصوم فكيف يصح استثناؤه من العاصم؟ وأجيب بأن «من» فاعلة في المعنى لا مفعول، والمراد نوح لأنه سبب الرحمة والنجاة كما أضيف الإحياء إلى عيسى عليه السلام، أو الرحيم الذي مر ذكره في قوله: إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وهو عاصم لا معصوم، أو هو استثناء مفرغ والتقدير لا عاصم اليوم لأحد من أمر الله إلا لمن رحم، أو العاصم بمعنى ذو العصمة كلابن وتامر.
وذو العصمة المعصوم أو المضاف محذوف والتقدير لا عاصم قط إلا مكان من رحمهم الله ونجاهم يعني السفينة، أو هو استثناء منقطع كأنه قيل: ولكن من رحمه الله فهو المعصوم وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ أي بسبب هذه الحيلولة خرج من أن يخاطبه نوح فصار من جملة الغرقى.
قوله سبحانه: وَقِيلَ يا أَرْضُ الآية. مما اختص بمزيد البلاغة حتى صارت متداولة بين علماء المعاني فتكلموا فيها وفي وجوه محاسنها فلا علينا أن نورد هاهنا بعض ما استفدنا منهم فنقول: النظر فيها من أربع جهات: من جهة علم البيان، ومن جهة علم المعاني، ومن جهتي الفصاحتين المعنوية واللفظية. أما من جهة علم البيان وهو النظر فيما فيها من المجاز والاستعارة والكناية وما يتصل بها. فالقول فيه أنه عز سلطانه أراد أن يبين معنى أردنا أن نرد ما انفجر من الأرض إلى بطنها فارتد، وأن نقطع طوفان السماء فانقطع، وأن نغيض الماء النازل من السماء فغاض، وأن نقضي أمر نوح وهو إنجاؤه وإغراق قومه كما وعدناه فقضي، وأن تستوي السفينة على الجودي- وهو جبل بقرب الموصل- فاستوت، وأبقينا الظلمة غرقى، فبنى الكلام على تشبيه الأرض والسماء بالمأمور الذي لا يتأتى منه- لكمال هيبته- العصيان، وعلى تشبيه تكوين المراد بالأمر الجزم النافذ في تكوّن المقصود تصويرا لاقتداره، وأن السماء والأرض مع عظم جرمهما تابعتان لإرادته إيجادا وإعداما وتغييرا وتصريفا كأنهما عقلاء مميزون قد أحاطا علما يوجب الامتثال والإذعان لخالقهما، فاستعمل قِيلَ بدل «أريد» مجازا إطلاقا للمسبب على السبب، فإن صدور القول إنما يكون بعد إرادته. وجعل قرينة المجاز الخطاب للجماد بقوله: يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ والخطابان أيضا على سبيل الاستعارة للشبه المذكور وهو كون السماء والأرض كالمأمورين المنقادين. وأيضا(4/24)
استعار لغور الماء في الأرض البلع الذي هو إعمال القوة الجاذبة في الطعوم للشبه بين الغور والبلع وهو الذهاب إلى مقر خفيّ. وو جعل قرينة الاستعارة نسبة الفعل إلى المفعول، وفي جعل الماء مكان الغذاء أيضا استعارة لأنه شبه الماء بالغذاء لتقوى الأرض بالماء في الإنبات للزروع والأشجار تقوّي الآكل بالطعام، وجعل قرينة الاستعارة لفظة ابْلَعِي لكونها موضوعة للاستعمال في الغذاء دون الماء. ثم أمر الجماد على سبيل الاستعارة للشبه المقدم ذكره وخاطب في الأمر دون أن يقول ليبلع ترشيحا لاستعارة النداء إذ كونه مخاطبا من صفات الحي كما أن كونه منادى من صفاته ثم قال ماءَكِ بإضافة الماء إلى الأرض على سبيل المجاز تشبيها لاتصال الماء بالأرض باتصال الملك بالمالك. واختار ضمير الخطاب دون أن يقول «ليبلع ماؤها» لأجل الترشيح المذكور. ثم اختار مستعيرا لاحتباس المطر الإقلاع الذي هو ترك الفاعل الفعل للشبه بينهما في عدم ما كان ثم أمر على سبيل الاستعارة وخاطب في الأمر لمثل ما تقدم في ابْلَعِي من ترشيح استعارة النداء. ثم قال وَغِيضَ الْماءُ غاض الماء قل ونضب، وغاضه الله يتعدى ولا يتعدى وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً فلم يصرح بالفاعل سلوكا لسبيل الكناية لأن هذه الأمور لا تتأتى إلا من قدير قهار فلا مجال لذهاب الوهم إلى غيره، ومثله في صدر الآية ليستدل من ذكر الفعل وهو اللازم على الفاعل وهو الملزوم وهذا شأن الكناية، ثم ختم الكلام بالتعريض لأنه ينبىء عن الظلم المطلق وعن علة قيامة الطوفان.
وأما النظر فيها من جهة علم المعاني وهو النظر في فائدة كل كلمة منها، وجهة كل تقديم وتأخير فيما بين جملها، فذلك أنه اختير «يا» للنداء لأنها أكثر استعمالا ولدلالتها على تبعيد المنادى الذي يستدعيه مقام العزة والهيبة، ولهذا لم يقل «يا أرضي» بالإضافة تهاونا بالمنادى، ولم يقل «يا أيتها الأرض» للاختصار مع الاحتراز عن تكلف التنبيه لمن ليس من شأنه التنبيه. واختير لفظ الأرض والسماء لكثرة دورانهما مع قصد المطابقة، واختير ابْلَعِي على ابتلعي لكونه أخصر ولمجيء حظ التجانس بينه وبين أَقْلِعِي أوفر. وقيل: ماءَكِ بلفظ المفرد لما في الجمع من الاستكثار المتأتي عنه مقام العزة والاقتدار، وكذا في إفراد الأرض والسماء. ولم يحذف مفعول ابْلَعِي لئلا يلزم تعميم الابتلاع لكل ما على الأرض. ولما علم اختصاص الفعل فيه اقتصر عليه فحذف من أَقْلِعِي حذرا من التطويل. وإنما لم يقل «ابلعي ماءك فبلعت» لأن عدم تخلف المأمور به عن أمر الآمر المطاع معلوم. واختير غِيضَ على غيض المشددة للاختصار ولمثل هذا عرف الماء والأمر دون أن يقال ماء الطوفان، أو أمر نوح للاستغناء عن الإضافة(4/25)
بالتعريف العهدي ولم يقل سويت لتناسب أول القصة وهي تجري بهم من بناء الفعل للفاعل، ولأن اسْتَوَتْ أخصر لسقوط همزة الوصل. ثم قيل: بُعْداً لِلْقَوْمِ دون أن يقال «ليبعد القوم من بعد» بالكسر يبعد بالفتح إذا هلك، للتأكيد مع الاختصار ودلالة «لام» الملك على أن البعد حق لهم. وقول القائل «بعدا له» من المصادر التي لا يستعمل إظهار فعلها. ثم أطلق الظلم ليتناول ظلم أنفسهم وظلمهم غيرهم. وأما ترتيب الجمل فقدم النداء على الأمر ليتمكن الأمر الوارد عقيب النداء كما في نداء الحي، وقدم نداء الأرض لابتداء الطوفان منها بدليل قوله: وَفارَ التَّنُّورُ ثم بين نتيجة البلع والإقلاع بقوله: وَغِيضَ الْماءُ ثم ذكر مقصود القصة وهو قوله وَقُضِيَ الْأَمْرُ أي أنجز الموعود من إهلاك الكفرة وإنجاء المؤمنين. ثم بين حال استقرار السفينة بقوله: وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وكان جبلا منخفضا فكان استواء السفينة عليه دليلا على انقطاع مادة الماء. ثم ختمت القصة بما ختمت من التعريض. قيل: كيف يليق بحكمة الله تغريق الأطفال بسبب إجرام الكفار؟ وأجيب على أصول الأشاعرة بأنه لا يسأل عما يفعل، وعلى أصول المعتزلة بأنه يعوض الأطفال والحيوانات كما في ذبحها واستعمالها في الأعمال الشاقة. وقد روى جمع من المفسرين أنه سبحانه أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة فلم يغرق إلا من بلغ أربعين. وهذا مع تكلفه لا يتمشى في الجواب عن إهلاك سائر الحيوانات.
والظاهر أن القائل في قوله: وَقِيلَ بُعْداً هو الله تعالى لتناسب صدر الآية، ويحتمل أن يكون القائل نوحا وأصحابه لأن الغالب ممن يسلم من الأمر الهائل بسبب اجتماع القوم الظلمة أنه يقول مثل هذا الكلام، ولأنه جار مجرى الدعاء عليهم فجعله من كلام البشر أليق.
وأما النظر في الآية من جهة الفصاحة المعنوية فهي كما ترى نظم للمعاني لطيف، وتأدية المراد بأبلغ وجه وأتمه. وأما من جهة الفصاحة اللفظية فهي أنها كالعسل في الحلاوة، وكالنسيم في الرقة عذبة على العذبات سلسة على الأسلات، ولعل ما تركنا من لطائف هذه الآية بل كل آية أكثر مما نذكر والله تعالى أعلم بمراده من كلامه. وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ أي أراده أن يدعوه فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي بعض سواء كان من صلبه أو ربيبا له وَإِنَّ وَعْدَكَ أي كل ما تعد به الْحَقُّ الثابت الذي لا شك في إنجازه وقد وعدتني أن تنجي أهلي وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ أعلمهم وأعدلهم لأنه لا فضل لحاكم على غيره إلا بالعلم والعدل، ويجوز أن يكون الحاكم بمعنى ذي الحكمة كدارع. قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ
أي من أهل دينك أو من أهلك الذين وعدتهم الإنجاء معك. ثم صرح(4/26)
بأن العبرة بقرابة الدين والعمل الصالح لا بقرابة النسب فقال: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ من قرأ على لفظ الفعل فمعناه أنه عمل عملا غير صالح وهو الإشراك والتكذيب، ومن قرأ على لفظ الاسم فللمبالغة كما يقال: فلان كرم وجود إذا غلب عليه الكرم والجود وفي قوله: غَيْرُ صالِحٍ دون أن يقول «فاسد» تعريض بل تصريح بأنه إنما نجا من نجا بالصلاح، ويحتمل على هذه القراءة أن يعود الضمير في إِنَّهُ إلى سؤال نوح أي إن نداءك هذا المتضمن لسؤال إنجاء ابنك عمل غير صالح. وقيل: المراد أن هذا الابن ولد زنا وقد عرفت سقوطه. ثم نهاه عن مثل هذا السؤال ووبخه عليه بقوله: فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ قال المحققون: الظاهر أن ابنه كان منافقا فلذلك اشتبه أمره على نوح، وحمله شفقة الأبوة أوّلا على دعوته إلى ركوب السفينة، فلما حال بينهما الموج لجأ إلى الله في خلاصه من الغرق، فعوتب على ذلك لأنه لما وعده الله إنجاءه أهله واستثنى منهم من سبق عليه القول كان عليه أن يتوكل على الله حق توكله ويعلم أن كل من كان من أهله مؤمنا فإنه يخلص من الغرق لا محالة. ولما لم يصبر إلى تبين الحال توجه إليه العتاب على ترك الأولى فلذلك تنبه ورجع إلى الله قائلا رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ فيما يستقبل من الزمان ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ تأدبا بآدابك واتعاظا بعظتك. وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي ما فرط مني من الخطأ في باب الاجتهاد، أو من قلة الصبر على ما يجب عليه الصبر، وهذا التضرع مثل تضرع أبيه وأبينا آدم في قوله: رَبَّنا ظَلَمْنا [الأعراف: 23] الآية. فلذلك عفى عنه.
وقِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ أي من السفينة بعد استوائها على الجبل، أو انزل من الجبل إلى الفضاء ملتبسا بِسَلامٍ مِنَّا بسلامة من التهديد والوعيد بل من جميع الآفات والمخافات، لأنه لما خرج من السفينة كان خائفا من عدم المأكول والملبوس وسائر جهات الحاجات لأنه لم يبق في الأرض شيء يمكن أن ينتفع به من النبات والحيوانات.
وقيل: أي مسلما عليك مكرما. والبركات الخيرات النامية الثابتة، وفسروها في هذا المقام بأنه وعد له بأن جميع أهل الأرض من الأشخاص الإنسانية يكون من نسله إما لأنه لم يكن في السفينة إلا من هو من ذريته، وإما لأنه لما خرج من السفينة مات من لم يكن من أهله وبقي النسل والتوالد في ذرّيته، دليله قوله سبحانه وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ [الصافات: 77] فنوح آدم الأصغر. وقيل: لما وعده السلامة من الآفات وعده أن موجبات السلامة والراحة تكون في التزايد والثبات لا عليك وحدك بل وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ إن كان «من» للبيان فالمراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة لأنهم كانوا جماعات، أو هم أصل(4/27)
الأمم التي انشعبت منه. وإن كان لابتداء الغاية فالمعنى على أمم ناشئة ممن معك إلى آخر الدهر. وهذا شأن الأمة المؤمنة ثم ذكر حال الأمة الكافرة المتوالدة فقال: وَأُمَمٌ وهو رفع على الابتداء والخبر محذوف أي وممن معك أمم سَنُمَتِّعُهُمْ في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ في الآخرة مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ عن ابن زيد: هبطوا والله عنهم راض، ثم أخرج منهم نسلا منهم من رحم ومنهم من عذب. وخصص بعضهم الأمم الممتعة بقوم هود وصالح ولوط وشعيب وتِلْكَ إشارة إلى قصة نوح وهو مبتدأ والجمل بعدها أخبار.
وقوله وَلا قَوْمُكَ للمبالغة كقول القائل: لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا قومك ولا أهل بلدك. والمراد تفاصيل القصة وإلا فمجملها أشهر من أن يخفى. ومعنى مِنْ قَبْلِ هذا أي من قبل هذا الإيحاء أو العلم الذي كسبته بالوحي، أو من قبل هذا الوقت وكأن هذه القصة أعيدت في هذه السورة تثبيتا للنبي صلى الله عليه وسلم على إنذار قومه ولذلك ختمت بقوله:
فَاصْبِرْ كما صبر نوح وإِنَّ الْعاقِبَةَ الحميدة لِلْمُتَّقِينَ.
التأويل:
ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا أي مخلوقا محتاجا مثلنا. وفيه أن النفس بنظرها السفلي ترى الروح العلوي سفليا فلهذا تنظر إلى النبي ولا ترى نبوته الحميدة، بل تراه بنظر الكذب والسحر والجنون إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ والأراذل من اتباع الروح البدن والجوارح الظاهرة، فإن الغالب على الخلق أن البدن يقبل دعوة الروح ويستعمل الجوارح بالأفعال الشرعية، ولكن النفس الأمارة تكون على كفرها ولا تخلي البدن أن يشتغل بالأعمال الشرعية الدينية إلا لغرض فاسد ومصلحة دنيوية كما هو المعتاد لأكثر الخلق. وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا من طبع النفس أن تتأذى من استعمال البدن وجوارحه في التكاليف الشرعية فتقول للروح: إن ترد أن أو من بك وأتخلق بأخلاقك فأمتع البدن وجوارحه في التكاليف مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ من يمنعني من قهره إن منعت البدن من الطاعة، فاقتصر على مجرد إيمان النفس وتخلقها بأخلاق الروح كما هو معتقد أهل الفلسفة والإباحة يقولون: إن أصل العبودية معرفة الربوبية وجمعية الباطن والتحلي بالأخلاق الحميدة. أَفَلا تَذَكَّرُونَ أن جمعية الباطن ونوره من نتائج استعمال الشرع في الظاهر؟ فالنور في الشرع والظلمة في الطبع، وإنما بعث الأنبياء ليخرجوا الخلق من ظلمات الطبع إلى نور الشرع لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً أي استعدادا لتحصيل الدرجات العلوية وإنهم مخلوقون من السفليات الله أعلم بما في نفس كل جارحة من استعداد تحصيل الكمال وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ من التكذيب. وفيه أن ذنوب النفس لا تؤثر في صفاء الروح ولا يتكدر بها ما كان الروح متبرئا من ذنوب النفس متأسفا على معاملات(4/28)
النفس وتتبع هواها. وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ الروح أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ وهم القلب وصفاته والسر والنفس وصفاتها والبدن وجوارحه إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ من خواص العباد وهم القلب وصفاتها والسر وصفات النفس والبدن وجوارحه. فأما النفس فإنها لا تؤمن أبدا اللهم إلا نفوس الأنبياء وخواص الأولياء فإنها تسلم أحيانا دون الإيمان فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ لأن أعمال الشر لنفوس السعداء كالجسد للإكسير ينقلب ذهبا مقبولا عند طرح الروح عليها، فكذلك تنقلب أعمال الشر خيرا عند طرح التوبة عليها فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ولا تبتئس على نفوس الأشقياء لأن أعمالها حجة الله على شقاوتهم، وبتلك السلاسل يسحبون في النار على وجوههم وَاصْنَعِ الْفُلْكَ اتخذ يا نوح الروح سفينة الشريعة بنظرنا لا بنظرك فإن نظرك تبع الحواس يبصر ظاهرها ويغفل عن أسرارها وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا فإن الظلم من شيم النفوس إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ في بحر الدنيا وشهواتها. وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ هم النفس وهواها وصفاتها تَسْخَرُونَ من استعمال أركان الشريعة إذ لم يفهموا حقائقها حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وهو حد البلوغ والركوب في سفينة الشريعة وَفارَ ماء الشهوة من تنور القالب قُلْنَا احْمِلْ في سفينة الشريعة من كل صفة وزوجها: كالشهوة وزوجها العفة، والحرص وزوجها القناعة، والبخل وزوجها السخاء، والغضب وزوجها الحلم، وكذا الحقد مع السلامة، والعداوة مع المحبة، والكبر مع التواضع، والتأني مع العجلة وَأَهْلَكَ وهم صفات الروح لا النفس وَمَنْ آمَنَ وهم القلب والسر. وفي قوله تعالى: وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ إشارة إلى أن من ركب سفينة الشرع بالطبع وتقليد الآباء والمعلمين لم يحصل له النجاة الحقيقية كما ركب إبليس بالطبع في سفينة نوح وإنما النجاة لمن ركب بأمر الله وذكره مجراها من الله ومرساها إلى الله كقوله: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النجم: 42] فِي مَوْجٍ من الفتن كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ الروح ابْنَهُ كنعان النفس المتولد بينه وبين القالب وَكانَ فِي مَعْزِلٍ من معرفة الله وطلبه سَآوِي إِلى جَبَلٍ العقل يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ الفتن لا عاصِمَ الْيَوْمَ أي إذا نبع ماء الشهوات من أرض البشرية ونزل ماء ملاذ الدنيا وزينتها من سماء القضاء فلا يتخلص منه إلا من يرحمه الله بالاعتصام بسفينة الشريعة ابْلَعِي ماء شهواتك أَقْلِعِي عن إنزال مطر الآفات وَغِيضَ ماء الفتن ببركة الشرع وَقُضِيَ الْأَمْرُ ما كان مقدرا من طوفان الفتن للابتلاء والتربية، وَاسْتَوَتْ سفينة الشريعة عَلَى الْجُودِيِّ وهو مقام التمكين بعد مقامات التلوين وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وهو ما وعد نوح الروح عند إهباطه إلى العالم السفلي من
الرجوع إلى العالم العلوي: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ وكان للروح أربعة بنين: ثلاثة من المؤمنين وهم القلب والسر والعقل، وواحد(4/29)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
كافر وهو النفس. فنفى عن النفس أهلية الدين والملة لأنها خلقت للأمارية اهْبِطْ من سفينة الشريعة عند مفارقة الجسد والخلاص من طوفان الفتن وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ هم النفوس متعت بالحظوظ الدنيوية ثُمَّ يَمَسُّهُمْ في الآخرة عذاب البعد عن المألوفات، فَاصْبِرْ على تربية الروح والنفس إِنَّ الْعاقِبَةَ لمن اتقى طوفان فتن الدنيا والنفس والهوى.
[سورة هود (11) : الآيات 50 الى 68]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)
مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64)
فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)
القراآت:
فطرني بفتح الياء: أبو جعفر ونافع والبزي غير الخزاعي إِنِّي أُشْهِدُ(4/30)
بالفتح: أبو جعفر ونافع. فَإِنْ تَوَلَّوْا بتشديد التاء: البزي وابن فليح. وَيَسْتَخْلِفُ بالجزم: الخزاز عن هبيرة. الباقون بالرفع يَوْمِئِذٍ بفتح الميم وكذلك في «المعارج» :
أبو جعفر ونافع غير إسماعيل وعلي الشموني والبرجمي وعباس. الآخرون بالجر. أَلا إِنَّ ثَمُودَ غير منصرف والوقف بغير الألف: حمزة وحفص وسهل ويعقوب. الباقون بالتنوين والوقف بالألف. لِثَمُودَ بالتنوين في الوصل: علي.
الوقوف:
هُوداً ط غَيْرُهُ ط مُفْتَرُونَ هـ أَجْراً ط فَطَرَنِي ط تَعْقِلُونَ هـ مُجْرِمِينَ هـ بِمُؤْمِنِينَ هـ بِسُوءٍ ط تُشْرِكُونَ هـ لا لا تُنْظِرُونِ 5 وَرَبِّكُمْ ط بِناصِيَتِها ط مُسْتَقِيمٍ هـ بِهِ إِلَيْكُمْ ط للاستئناف إلا لمن قرأ وَيَسْتَخْلِفُ بالجزم غَيْرَكُمْ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال شَيْئاً ط حَفِيظٌ هـ مِنَّا ج لحق المحذوف أي وقد نجيناهم غَلِيظٍ هـ ط عَنِيدٍ هـ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ ط رَبَّهُمْ ط هُودٍ هـ صالِحاً م لما مر في «الأعراف» . غَيْرُهُ ط إِلَيْهِ ط مُجِيبٌ هـ مُرِيبٍ هـ تَخْسِيرٍ هـ قَرِيبٌ هـ أَيَّامٍ ط مَكْذُوبٍ ط يَوْمِئِذٍ ط الْعَزِيزُ هـ جاثِمِينَ هـ لا لكاف التشبيه فِيها ط رَبَّهُمْ ط لِثَمُودَ 5.
التفسير:
قد مر في «الأعراف» تفسير قوله: وَإِلى عادٍ الآية، ومعنى قوله: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ أنكم كاذبون في قولكم إن هذه الأصنام يحسن عبادتها مع أنها لا حس لها ولا شعور. ثم قال مثل قول نوح يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً لأن النصيحة لا يمحضها إلا حسم المطامع أَفَلا تَعْقِلُونَ أن نصح من لا يطلب الأجر إلا من الله لا يكون من التهمة في شيء. قيل: إنما قال في قصة نوح مالًا دون أَجْراً لذكر الخزائن بعده، فلفظ المال بها أليق. وحذف الواو من يا قَوْمِ لأنه أراد الاستئناف أو البدل دون العطف. وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ قد مر مثله في أول السورة.
وقال الأصم: المراد سلوه أن يغفر لكم ما تقدم لكم من إسرافكم ثم اعزموا على أن لا تعودوا إلى مثله. ثم قصد استمالتهم وترغيبهم في الإيمان بكثرة المطر وزيادة القوة لأن القوم كانوا حراصا على جميع الأموال من وجوه العمارة والزراعة مفتخرين بما أوتوا من البطش والقوة، فقدم إليهم في باب الدعوة إلى الدين والترغيب فيه ما كانت همتهم معقودة به ليحصل في ضمنه الغرض الكلي والمقصود الأصلي وهو الفوز بالسعادات الأخروية، وكأنه إنما خصص هذين النوعين من السعادات الدنيوية لأن الأول أصل جميع النعم، والثاني أصل في الانتفاع بتلك النعم. وقيل: المراد بالقوة الزيادة في المال. وقيل(4/31)
في النكاح. وروي أنه حبس عنهم القطر بشؤم التكذيب ثلاث سنين وأعقم نساؤهم فوعدوا أنهم إن آمنوا أحيا الله بلادهم ورزقهم المال والولد. والمدرار الكثير الدر كما مر في أول «الأنعام» .
عن الحسن بن علي رضي الله عنه أنه وفد على معاوية فلما خرج تبعه بعض حجابه فقال: إني رجل ذو مال لا يولد لي فقال: عليك بالاستغفار. فكان يكثر الاستغفار حتى إنه ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرة فولد له عشرة بنين فبلغ ذلك معاوية فقال: هلا سألته مم قال ذلك؟ فوفد وفدة أخرى فسأله الرجل فقال: ألم تسمع قول هود وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وقول نوح وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ [نوح: 12]
ثم قال هود لا تَتَوَلَّوْا أي لا تعرضوا عما أدعوكم إليه مُجْرِمِينَ مصرين على الإجرام والآثام. فجحدوا هودا وقالوا ما جئتنا ببينة كما قالت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الرعد: 27] ولم يشتهر منه معجزة ولكن العلماء قالوا: إظهار الدعوة مع أولئك الأقوام من غير مبالاة وتوان آية من الآيات. وقوله: عَنْ قَوْلِكَ حال من الضمير كأنه قيل: وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ لا يصدق مثلنا مثلك أبدا. ثم زعموا أن بعض آلهتهم اعتراه بسوء أي غشيه وأورثه الخبل والجنون لأنه كان يسب آلهتهم وذلك قولهم: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ وإلا لغو أي ما نقول شيئا إلا هذا القول فمن ثم يتكلم بكلام المجانين. والمراد أن الأصنام كافأته على سوء فعله بسوء الجزاء فأظهر نبي الله الجلادة والثقة بالله فيما هو بصدده وتبرأ منهم ومن شركهم فأشهد الله وذلك إشهاد صحيح، وأشهدهم أيضا وهذا كالتهاون وقلة المبالاة بهم كقول الرجل لمن نوى قطعه بالكلية: اشهد عليّ أني لا أحبك تهكما به. وقد مر قوله: فَكِيدُونِي الآية في آخر سورة الأعراف. وقوله: ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها تمثيل لغاية التسخير ونهاية التدليل، وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمن عليه جزوا ناصيته فكان علامة لقهره. قالت المعتزلة: هذا دليل التوحيد لدلالته على أنه لا مالك إلا هو. وقوله:
إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دليل العدل. والأشاعرة قالوا: معناه معنى إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ [الفجر: 14] أي لا يخفى عليه شيء ولا يفوته هارب فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ كقول القائل إن أكرمتني الآن فقد أكرمتك فيما مضى. والمراد فإن تتولوا فأنا غير معاتب ولا مقصر لأني قد قضيت حق الرسالة. وفي قوله: وَيَسْتَخْلِفُ إشارة إلى عذاب الاستئصال وأنه يخلق بعدهم من هو أطوع منهم وأنه لا ينقص من ملكه شيئا إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ يحفظ أعمال العباد حتى يجازيهم عليها، أو يحفظني من شرككم وكيدكم، أو يحفظني من الهلاك وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قيل: كانوا أربعة آلاف(4/32)
بِرَحْمَةٍ مِنَّا أي بفضل وامتنان أو بسبب ما هم فيه من الإيمان والعمل الصالح وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أطلق التنجية أوّلا ثم قيدها على معنى وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ سموم تدخل في أفواههم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضوا عضوا.
ويحتمل أن يراد بالثانية النجاة من عذاب الآخرة ولا عذاب أغلظ منه.
ولما ذكر قصتهم خاطب محمدا وأشار إلى قبورهم وآثارهم بقوله: وَتِلْكَ عادٌ فانظروا واعتبروا. ثم استأنف وصف أحوالهم مجملة فقال: جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فلم يتسلقوا من المعجزات إلى صدق الأنبياء، ولم يرتقوا من الممكنات إلى وجود الواجب بالذات وَعَصَوْا رُسُلَهُ قيل: لم يرسل إليهم إلا هود، وصح الجمع لأن عصيان رسول واحد يتضمن عصيان كلهم لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة: 285] وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أطاعوا رؤساءهم وكبراءهم المتمردة والمعاندة ولهذا جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين. وفي تكرير «ألا» والنداء على كفرهم، والدعاء عليهم بالبعد بعد إهلاكهم دلالة على تفظيع شأنهم وأنهم كانوا مستأهلين للدعاء عليهم بالهلاك، ويحتمل أن يراد البعد من رحمة الله في الآخرة. وقوله: قَوْمِ هُودٍ عطف بيان لعاد إما للتأكيد ومزيد التقرير، وإما لأن عادا عادان القديمة التي هي قوم هود، والأخرى وهي إرم. قوله في قصة ثمود هُوَ أَنْشَأَكُمْ تقديم الضمير للحصر أي لم ينشئكم إلا هو، ومعنى الإنشاء من الأرض أن الكل مخلوق من صلب آدم وهو مخلوق من الأرض. ويمكن أن يقال: إن الإنسان مخلوق من المني وهو يحصل من الغذاء والغذاء ينتهي إلى النبات ثم إلى الأرض. وقيل: إن «من» بمعنى «في» . وَاسْتَعْمَرَكُمْ من العمارة أي جعلكم عمارا للأرض وأمركم بالعمارة. فمنها واجب وندب ومباح ومكروه، وكان ملوك فارس قد أكثروا من حفر الأنهار وغرس الأشجار فعمروا الأعمار الطوال مع ما كان منهم من الظلم.
فسأل نبي من أنبياء زمانهم ربه عن سبب تعميرهم فأوحى إليه أنهم عمروا بلادي فعاش فيها عبادي وقيل: من العمر نحو استبقاكم من البقاء. وقيل: من العمرى. ومعناه أعمركم الله فيها دياركم ثم هو وارثها منكم عند انقضاء أعماركم، أو جعلكم معمرين دياركم فيها لأن الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنه أعمره إياها لأنه يسكنها عمره ثم يتركها لوارثه.
ومعنى كونه تعالى قريبا قد مر في قوله: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة:
186] وذلك في «البقرة» . قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا عن ابن عباس: فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا. وقيل: كنا نظن بك الرشد والصلاح وكمال العقل وإصابة الرأي. وقيل: كنت تعطف على فقيرنا وتعين ضعيفنا وتعود مرضانا فظننا أنك من الأنصار(4/33)
والأحباب وأهل الموافقة في الدين، فكيف أظهرت العداوة والبغضاء؟ ثم أضافوا إلى هذا الكلام التمسك بالتقليد ومتابعة الآباء، ثم صرحوا بالتوقف والريب في أمره. ومريب من أرابه إذا أوقعه في الريبة، أو من أراب الرجل إذا كان ذا ريبة وهو من الإسناد المجازي واعلم أن قوله وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ بنون الوقاية هاهنا على الأصل، وأما في سورة إبراهيم فإنما قال: وإنا بغير نون الوقاية لقوله بعده: تَدْعُونَنا [الآية: 9] على الجمع فكان اجتماع النونات مستكرها. فأجابهم هو بقوله: إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ الآية. وبنى أمره على الفرض والتقدير لأن خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبول كأنه قال: قدروا أني على بينة مِنْ رَبِّي وأني نبي على الحقيقة فمن يمنعني من عذاب الله إِنْ عَصَيْتُهُ في أوامره فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ أي على هذا التقدير تخسرون أعمالي وتبطلونها، أو فما تزيدونني بما تحملونني عليه إلا أني أنسبكم إلى الخسران وأقول إنكم خاسرون.
والمعنى الأول أقرب لأنه كالدلالة على أن متابعتهم لا تزيده إلا خسران الدارين. وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ قد مر تفسيره في «الأعراف» . ومعنى عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يستأخر إلا ثلاثة أيام وغَيْرُ مَكْذُوبٍ من باب الاتساع أي غير مكذوب فيه فحذف الحرف.
وأجرى الضمير مجرى المفعول به أو من باب المجاز كأن الوعد إذا أوفى به فقد صدق ولم يكذب أو المكذوب مصدر كالمجلود وصف به.
قوله: فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بالفاء. وفي قصة هود بالواو ولمكان التعقيب هاهنا بدليل قوله: عَذابٌ قَرِيبٌ ومثله في قصة لوط لقوله: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ [هود: 81] وأما في قصة هود فإنه قال: وَيَسْتَخْلِفُ بلفظ المستقبل ومثله في قصة شعيب فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ بحرف التسويف فلم يكن الفاء مناسبا. واعتبر هذا المعنى في سائر المواضع كما في سورة يوسف قال: وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ [الآية: 59] بالواو أوّلا لأن التعقيب لم يكن مرادا ثم قال: فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ [الآية: 70] لمكان التعقيب والله أعلم. قوله:
وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ معطوف على محذوف والتقدير نجينا صالحا ومن معه من العذاب النازل بقومه ومن الخزي الذي لزمهم، أو يتعلق بمعطوف محذوف أي ونجيناهم من خزي يومئذ كما قال: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ والمعنيان كما قلنا هناك. والقراءتان في يَوْمِئِذٍ لأن الظرف المضاف إلى «إذ» يجوز بناؤه على الفتح، والتنوين في «إذ» عوض من المضاف إليه أعني الجملة، والتقدير يوم إذ كان كذا وكسر الذال للساكنين إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ القادر الغالب فمن قدرته ميز المؤمن من الكافر، ومن عزته وقهره أهلك الكفار بالصيحة التي سمعوها من جانب السماء إما بواسطة جبرائيل وإما لإحداثها في(4/34)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
سحاب مع برق شديد محرق. وإنما تصير الصيحة سببا للهلاك لأن التموج الشديد في الهواء يوجب تأذي صماخ الإنسان، وقد يتمزق غشاء الدماغ بذلك، والأعراض النفسانية أيضا إذا قويت أوجبت الموت وتمام القصة مذكور في سورة الأعراف. وقوله: أَلا إِنَّ ثَمُودَ إلى آخره. شبيه بما مر في قصة هود، والتأويل كما مر في سورة الأعراف والله أعلم.
[سورة هود (11) : الآيات 69 الى 83]
وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
القراآت:
سلم بكسر السين بلا ألف فيهما: حمزة وعلي ويَعْقُوبَ بالنصب:
ابن عامر وحمزة وحفص، الآخرون بالرفع. سِيءَ بِهِمْ وبابه كضرب مجهولا: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي ورويس. الآخرون سِيءَ مثل قِيلَ تخزوني بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل. وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل ضيفي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو فَأَسْرِ وبابه بهمزة الوصل:
أبو جعفر ونافع وابن كثير وعباس من طريق الموصلي وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة إلا امرأتك بالرفع: ابن كثير وأبو عمرو. الباقون بالنصب.(4/35)
الوقوف:
سَلاماً ط حَنِيذٍ هـ خِيفَةً ط قَوْمِ لُوطٍ هـ ط بِإِسْحاقَ ط لمن قرأ يعقوب بالرفع يَعْقُوبَ هـ شَيْخاً ط عَجِيبٌ هـ أَهْلَ الْبَيْتِ ط مَجِيدٌ هـ فِي قَوْمِ لُوطٍ ط مُنِيبٌ هـ عَنْ هذا ج لاحتمال التعليل أَمْرُ رَبِّكَ ج للابتداء بأن مع اتصال المعنى. مَرْدُودٍ هـ عَصِيبٌ هـ إِلَيْهِ ج للعطف ولاختلاف النظم السَّيِّئاتِ ط ضَيْفِي ط رَشِيدٌ هـ مِنْ حَقٍّ ج لما مر ما نُرِيدُ هـ شَدِيدٍ هـ. إِلَّا امْرَأَتَكَ ط أَصابَهُمْ ط الصُّبْحُ ط بِقَرِيبٍ هـ مَنْضُودٍ هـ لا لأن ما بعده صفة حجارة عِنْدَ رَبِّكَ ط بِبَعِيدٍ هـ.
التفسير:
الرسل هاهنا الملائكة، وأجمعوا على أن الأصل فيهم جبرائيل، ثم اختلفوا فقيل: كان معه اثنا عشر ملكا على أحسن ما يكون من صورة الغلمان. وقال الضحاك:
كانوا تسعة. وقال ابن عباس: كانوا ثلاثة جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وهم الذين ذكر الله تعالى في سورة الحجر وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الآية: 51] وفي الذاريات هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ [الآية: 24] والظاهر أن البشرى هي البشارة بالولد. وقيل: بهلاك قوم لوط. ومعنى سَلاماً سلمنا عليك. ومعنى سَلامٌ أمركم سلام أو سلام عليكم، ولأن الرفع يدل على الثبات والاستقرار، والنصب يدل على الحدوث لمكان تقدير الفعل. قال العلماء: إن سلام إبراهيم كان أحسن اقتداء بقوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها [النساء: 86] وإنما صح وقوع سَلامٌ مبتدأ مع كونه نكرة لتخصصها بالإضافة إلى المتكلم إذ أصله سلمت سلاما فعدل إلى الرفع لإفادة الثبات. ومن قرأ سلما فمعناه السلام أيضا. قال الفراء: سلم وسلام كحل وحلال وحرم وحرام. وقال أبو علي الفارسي: يحتمل أن يراد بالسلم خلاف الحرب. قالوا: مكث إبراهيم خمس عشرة ليلة لا يأتيه ضيف فاغتم لذلك فجاءته الملائكة فرأى أضيافا لم ير مثلهم فما لبث أَنْ جاءَ أي فما لبث في أن جاء بل عجل أو فما لبث مجيئه بِعِجْلٍ هو ولد البقرة حَنِيذٍ مشوي في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة وهو من فعل أهل البادية معروف، ومعناه محنوذ كطبيخ بمعنى مطبوخ. وقيل: الحنيذ الذي يقطر دسما لقوله: بِعِجْلٍ سَمِينٍ [الذاريات:
26] تقول: حنذت الفرس إذا ألقيت عليها الجل حتى يقطر عرقا فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ إلى العجل أو الطعام نَكِرَهُمْ أي أنكرهم واستنكر فعلهم وَأَوْجَسَ أضمر مِنْهُمْ خِيفَةً لأنه ما كان يعرف أنهم ملائكة وكان من عادة العرب أنه إذا نزل بهم الضيف ولم يتناول طعامهم توقعوا منه المكروه والشر. وقيل: إنه كان ينزل في طرف من الأرض بعيد عن الناس، فلما امتنعوا من الأكل خاف أن يريدوا به شرا. وقيل: إنه كان(4/36)
يعرف أنهم ملائكة الله لقولهم: لا تَخَفْ. وإِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ لم يقولوا لا تخف إنا ملائكة بل ذكروا سبب الإرسال وهو إهلاك قوم لوط. وعلى هذا فإنما خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله أو لتعذيب قومه، والاحتمال الأول وهو أنه كان لا يعرف أنهم ملائكة أقرب بدليل إحضاره الطعام واستدلاله بترك أكلهم على توقع الشر منهم.
وإنما ذكروا سبب الإرسال إيجازا واختصارا لدلالة الإرسال على كونهم رسلا لا أضافيا. وإنما أتوه على صورة الأضياف ليكونوا على صفة يحبها لأنه كان مشغوفا بالضيافة. وبم عرف الملائكة خوفه؟ قيل: بالتغير في وجهه أو بتعريف الله، أو علموا أن علمه بأنهم ملائكة موجب للخوف لأنهم كانوا لا ينزلون إلا بعذاب وَامْرَأَتُهُ وهي سارة بنت هاران بن ناحورا بنت عم إبراهيم قائِمَةٌ وراء الستر تسمع تحاورهم، أو كانت قائمة على رؤوسهم تخدمهم وهم قعود فَضَحِكَتْ.
قال العلماء: لا بد للضحك من سبب فقيل: سببه السرور بزوال الخيفة. وقيل:
بهلاك أهل الخبائث.
وعن السدي أن إبراهيم قال لهم: ألا تأكلون؟ قالوا: إنا لا نأكل طعاما إلا بالثمن. فقال: ثمنه أن تذكروا اسم الله على أوله وتحمدوه في آخره. فقال جبرائيل لميكائيل: حق لمصل هذا الرجل أن يتخذه ربه خليلا، فضحكت امرأته فرحا بهذا الكلام.
وقيل: كانت تقول لإبراهيم اضمم لوطا ابن أخيك إليك فإني أعلم أنه ينزل بهؤلاء القوم عذاب، ففرحت بموافقة قولهم لقولها فضحكت. وقيل: طلب إبراهيم صلى الله عليه وسلم منهم معجزة دالة على أنهم من الملائكة فدعوا ربهم بإحياء العجل المشوي فطفر ذلك العجل المشوي إلى مرعاه فضحكت سارة من طفرته. وقيل: ضحكت تعجبا من قوم أتاهم العذاب وهم غافلون. وقيل: تعجبت من خوف إبراهيم مع كثرة خدمه وحشمه من ثلاثة أنفس. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير أي فبشرناها بإسحاق فضحكت سرورا. وعن مجاهد وعكرمة ضحكت أي حاضت ومنه ضحكت الطلعة إذا انشقت يعني استعدادها لعلوق الولد. من قرأ يعقوب بالرفع فعلى الابتداء والخبر محذوف أي يعقوب مولود أو موجود بعد إسحق، ومن قرأ بالنصب فعلى العبارة المتروكة كأنه قيل: ووهبنا لها إسحق ومن بعد إسحق يعقوب. أقول: من المحتمل أن يكون يَعْقُوبَ مجرورا بالعبارة الموجودة أي وبشرناها بيعقوب من بعد إسحق وقيل: الوراء ولد الولد ووجهه أن يراد بيعقوب أولاده كما يقال هاشم ويراد أولاده يا وَيْلَتى كلمة تلهف وقد مرت في «المائدة» في يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ [المائدة: 31] وشَيْخاً نصب على الحال والعامل فيه ما في هذا من معنى أنبه أو أشير إِنَّ هذا يعني إن تولد ولد من هرمين لَشَيْءٌ(4/37)
عَجِيبٌ عادة فأزال الملائكة تعجبها منكرين عليها بقولهم على سبيل الاستئناف رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ يا أهل بيت خليل الرحمن. والمقصود أن رحمته عليكم متكاثرة وبركاته فيكم متواترة وخرق العادات في أهل بيت النبوة غير عجيب. ويحتمل أن يكون انتصاب أَهْلَ الْبَيْتِ على الاختصاص. وقيل: الرحمة النبوة والبركات الأسباط من بني إسرائيل لأن الأنبياء منهم وكلهم من ولد إبراهيم. ثم أكدوا إزالة التعجب بقولهم: إِنَّهُ حَمِيدٌ محمود في أفعاله مَجِيدٌ ذو الكرم الكامل فلا يليق به منع الطالب عن مطلوبه.
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ الخوف الذي لحقه حين أنكر أضيافه وَجاءَتْهُ الْبُشْرى البشارة بحصول الولد يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ في معناهم وفي شأنهم وهو جواب «لما» على حكاية الحال، أو لأن «لما» ترد المضارع إلى الماضي عكس «إن» ، ويحتمل أن يكون جواب «لما» محذوفا دل عليه يُجادِلُنا أي اجترأ على خطابنا أو قال كذا، ثم ابتدأ فقال: يُجادِلُنا. وقيل: معناه أخذ يجادلنا ولا بد من حذف مضاف أي يجادل رسلنا لا بمعنى مخالفة أمر الله فإن ذلك يكون معصية بل سعيا في تأخير العذاب عنهم رجاء إيمانهم وتوبتهم.
يروى أنهم قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية فقال: أرأيتم لو كان فيها خمسون من المؤمنين أتهلكونها؟ قالوا: لا قال: فأربعون؟ قالوا: لا حتى بلغ العشرة قالوا لا. قال: فإن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فعند ذلك قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ [العنكبوت: 32]
قال الأصوليون: إن إبراهيم كان يقول: إن أمر الله ورد بايصال العذاب ومطلق الأمر لا يوجب الفور، والملائكة يدعون الفور إما للقرائن أو لأن مطلق الأمر يستدعي ذلك، فهذه هي المجادلة.
أو لعل إبراهيم كان يدعي أن الأمر مشروط بشرط لم يحصل بعدوهم لا يسلمون.
وبالجملة فإن العلماء يجادل بعضهم بعضا عند التمسك بالنصوص وليس يوجب القدح في واحد منهم فكذلك هاهنا ولذلك مدحه بقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ غير عجول في الأمور أَوَّاهٌ كثير التأوّه من الذنوب مُنِيبٌ راجع إلى الله في كل ما يسنح له. وهذه الصفات تدل على رقة القلب والشفقة على خلق الله حتى حملته على المجادلة فيهم رجاء أن يرفع العذاب عنهم. ولما عرفت الملائكة أن العذاب قد حق عليهم قالوا: يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا الجدال إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ بإهلاكهم وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ لا حق بهم عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ فلا راد لقضائه فلا ينفع فيهم جدال ولا دعاء.
وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا المذكورون لُوطاً سِيءَ بِهِمْ أصله «سوىء» لأنه من ساءه يسوءه نقيض سره يسره، نقلت الكسرة إلى الفاء وأبدلت العين ياء، ومن قرأ سِيءَ(4/38)
بإبدال العين ياء مكسورة فلكراهة اجتماع الواو والهمزة. وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً قال الأزهري: الذرع يوضع موضع الطاقة وأصله أن البعير يذرع بيده في سيره على قدر سعة خطوه، فإذا حمل عليه أكثر من طاقته ضاق ذرعه عن ذلك فجعل ضيق الذرع عبارة عن قلة الوسع والطاقة، وربما قالوا ضقت بالأمر ذرعا. وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ أي شديد من العصب الشد كأنه أريد اشتداد ما فيه من الأمور. عن ابن عباس: انطلقوا من عند إبراهيم إلى لوط وبين القريتين أربعة فراسخ ودخلوا عليه على صورة شباب مرد من بني آدم في غاية الحسن، ولم يعرف لوط أنهم ملائكة الله فساءه مجيئهم واغتم لذلك لأنه خاف عليهم خبث قومه وأن يعجز عن مقاومتهم. وقيل: سبب المساءة أنه لم يكن قادرا على القيام بحق ضيافتهم لأنه ما كان يجد ما ينفق عليهم. وقيل: السبب أن قومه منعوه عن إدخال الضيف داره. وقيل: عرف أنهم ملائكة جاؤوا لإهلاك قومه فرق قلبه على قومه. والصحيح هو الأول.
يروى أنه تعالى قال لهم: لا تهلكوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات. فلما مشى معهم منطلقا بهم إلى منزله قال لهم: أما بلغكم أمر هذه القرية قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشر قرية في الأرض عملا- يقول ذلك أربع مرات- فدخلوا معه منزله ولم يعلم بذلك أحد فخرجت امرأته فأخبرت بهم قومها
فذلك قوله: وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ قال أبو عبيدة: يستحثون إليه كأنه يحث بعضهم بعضا.
وقال الجوهري: الإهراع الإسراع، وأهرع الرجل على ما لم يسم فاعله فهو مهرع إذا كان يرعد من حمى أو غضب أو فزع، وقيل: إنما لم يسم فاعله للعلم به. والمعنى أهرعه خوفه أو حرصه. ثم بين إسراعهم إنما كان لأجل العمل الخبيث فقال: وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الفواحش فمرنوا عليها فلذلك جاؤوا مجاهرين لا يكفهم حياء. وقيل:
معناه وكان لوط قد عرف عادتهم في ذلك العمل قبل ذلك فأراد أن يقي أضيافه ببناته فقال: هؤُلاءِ بَناتِي عن قتادة: بناته من صلبه. وعن مجاهد وسعيد بن جبير: أراد نساء أمته لأن النبي كالأب لأمته. واختير هذا القول لأن عرض البنات الحقيقيات على الفجار لا يليق بذوي المروءات، ولأن اللواتي من صلبه لا تكفي للجمع العظيم، ولما روي أنه لم يكن له إلا بنتان وأقل الجمع ثلاثة. والقائلون بالقول الأول قالوا ما دعا القوم إلى الزنا بهن وإنما دعاهم إلى التزوج بهن بعد الإيمان أو مع الكفر، فلعل تزويج المسلمات من الكفار كان جائزا كما في أول الإسلام، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنتيه من عتبة بن أبي لهب وأبي العاص بن الربيع بن عبد العزى- وهما كافران- فنسخ بقوله: وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا [البقرة: 221] وقيل: كان لهم سيدان مطاعان فأراد أن يزوجهما ابنتيه، وقيل: إن بناته كن أكثر من ثنتين. ويجوز أن يكون قد عرض البنات عليهم لا(4/39)
بطريق الجد بل طمعا فيهم أن يستحيوا منه ويرقوا له. وأَطْهَرُ بمعنى الطاهر لأنه لا طهارة في نكاح الرجال فَاتَّقُوا اللَّهَ بإيثارهن عليهم وَلا تُخْزُونِ ولا تفضحوني من الخزي أو لا تخجلوني من الخزاية وهي الحياء. فِي ضَيْفِي في حق أضيافي فخزي الضيف والجار يورث للمضيف العار والشنار. والضيف يستوي فيه الواحد والجمع ويجوز أن يكون مصدرا. أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ صالح أو مصلح مرشد يمتنع أو يمنع عن مثل هذا العمل القبيح.
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ من شهوة ولا حاجة لأن من احتاج إلى شيء فكأنه حصل له فيه نوع حق ولذلك قالوا وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ ويجوز أن يراد إنهن لسن لنا بأزواج فلا حق لنا فيهن من حيث الشرع ومن حيث الطبع، أو يراد إنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان ونحن لا نؤمن البتة فلا يتصور لنا حق فيهن. قال لوط لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً وجوابه محذوف أي لفعلت بكم وصنعت وبالغت في دفعكم. قال أهل المعاني: حذف الجواب أبلغ لأن الوهم يذهب إلى أنواع كثيرة من الدفع والمنع. والمراد لو أن لي ما أتقوى به عليكم فسمى موجب القوة بالقوة، ويحتمل أن يريد بالقوة القدرة والطاقة أَوْ آوِي أنضم إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ حام منيع شبه الركن من الجبل في شدته.
وقوله: أَوْ آوِي عطف على الفعل المقدر بعد «لو» . والحاصل أنه تمنى دفعهم بنفسه أو بمعاونة غيره، قال ذلك من شدة القلق والحيرة في الأمر النازل به ولهذا قالت الملائكة وقد رقت عليه وحزنت له: إن ركنك لشديد.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم «رحم الله أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد فما بعث نبي بعد ذلك إلا في ثروة من قومه» «1»
ويحتمل أن يريد بالركن الشديد حصنا يتحصن به فيأمن من شرهم، ويحتمل أنه لما شاهد سفاهة القوم وإقدامهم على سوء الأدب تمني حصول قوة قوية على الدفع. ثم استدرك وقال بل الأولى أن آوي إلى ركن شديد وهو الاعتصام بعناية الله. روي أنه أغلق بابه لما جاؤوا فتسوروا الجدار فلما رأت الملائكة ما لقي لوط من الكرب قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ وهذه جملة موضحة للتي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصل الأعداء إليه ولن يقدروا على ضرره، فأمره الملائكة أن يفتح الباب فدخلوا فاستأذن جبرائيل ربه في عقوبتهم فأذن له، فضرب بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم كما قال سبحانه وَلَقَدْ راوَدُوهُ
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب: 19. ابن ماجه في كتاب الفتن باب: 23. أحمد في مسنده (2/ 326، 332) .(4/40)
عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ [القمر: 37] فصاروا لا يعرفون الطريق فخرجوا وهم يقولون إن في بيت لوط سحرة. ثم بين نزول العذاب ووجه خلاص لوط وأهله فقال: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ الباء للتعدية إن كانت الهمزة للوصل من السرى، أو زائدة وإن كانت للقطع من الإسراء. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ عن ابن عباس: أي في آخر الليل بسحر. وقال قتادة: بعد طائفة من الليل. وقيل نصف الليل كأنه قطع نصفين وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أي لا ينظر إلى ما وراءه إِلَّا امْرَأَتَكَ أكثر القراء على النصب فاعترض بأن الفصيح في مثله هو البدل لأن الكلام غير موجب فكيف اجتمع القراء على غير فصيح؟ فأجاب جار الله بأن الرفع بدل من أَحَدٌ على القياسي والنصب مستثنى من قوله: فَأَسْرِ لا من قوله لا يَلْتَفِتْ وزيف بأن الاستثناء من فَأَسْرِ يقتضي كونها غير مسرى بها، والاستثناء من لا يَلْتَفِتْ يقتضي كونها مسريا بها لأن الالتفات بعد الإسراء فتكون مسريا بها غير مسرى بها. ويمكن أن يجاب بأن فَأَسْرِ وإن كان مطلقا في الظاهر إلا أنه في المعنى مقيد بعدم الالتفات إذ المراد أسر بأهلك إسراء لا التفات فيه إلا امرأتك فإنك تسري بها إسراء مع الالتفات، فاستثن على هذا إن شئت من فَأَسْرِ وإن شئت من لا يَلْتَفِتْ ولا تناقض.
وبعضهم- كابن الحاجب- جعل إِلَّا امْرَأَتَكَ في كلتا القراءتين مستثنى من لا يَلْتَفِتْ ولم يستبعد اجتماع القراء على قراءة غير الأقوى. ويمكن أن يقال: إنما اجتمعوا على النصب ليكون استثناء من فَأَسْرِ إذ لو جعل استثناء من لا يَلْتَفِتْ لزم أن تكون مأمورة بالالتفات لأن القائل إذا قال لا يقم منكم إلا زيد كان ذلك أمرا لزيد بالقيام اللهم إلا أن يجعل الاستثناء منقطعا على معنى ولا يلتفت منكم أحد لكن امرأتك تلتفت فيصيبها ما أصابهم، وإذا كان هذا الاستثناء منقطعا كان التفاتها موجبا للمعصية. قاله في الكشاف.
وروي أنه أمر أن يخلفها مع قومها فلم يسر بها. واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين.
أقول: في هذا الكلام خلل لا يمكن اجتماعهما على الصحة، والقراءتان يجب اجتماعهما على الصحة لتواتر القراآت كلها.
روي أنها لما سمعت هدّة العذاب أي صوته التفتت وقالت: يا قوماه. فأدركها حجر فقتلها.
وقيل: المراد بعدم الالتفات قطع تعلق القلب عن الأصدقاء والأموال والأمتعة. فعلى هذا يصح الاستثناءان من غير شائبة التناقض كأنه أمر لوطا أن يخرج بقومه ويترك هذه المرأة فإنها هالكة من الهالكين. ثم أمر أن يقعطوا العلائق وأخبر أن امرأته تبقى متعلقة القلب بها.
يروى أنه قال لهم متى موعد هلاكهم فقيل له إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ فقال أريد أسرع من ذلك فقالوا: أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ؟ فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا بإهلاكهم جَعَلْنا أي جعل(4/41)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
رسلنا عالِيَها سافِلَها
روي أن جبرائيل أدخل جناحه الواحد تحت مدائن قوم لوط وقلعها وصعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نهيق الحمير ونباح الكلاب وصياح الديوك لم يتبدد لهم طعام ولم يتكسر لهم إناء، ثم قلبها دفعة وضربها على الأرض، ثم أمطر عليهم حجارة من سجيل- وهو معرب سنك وكل- كأنه مركب من حجر وطين وهو في غاية الصلابة.
وقيل: سجيل أي مثل السجل وهي الدلو العظيمة أو مثلها في تضمن الأحكام الكثيرة، وقيل: أي مرسلة عليهم من أسجلته إذا أرسلته. وقيل: أي مما كتب الله أن يعذب به أو كتب عليه أسماء المعذبين من السجل وقد سجل لفلان. وقيل: من سجين أي من جهنم فأبدلت النون لاما. وقيل: إنه اسم من أسماء السماء الدنيا. ومعنى مَنْضُودٍ موضوع بعضها فوق بعض في النزول يأتي على سبيل المتابعة والتلاصق، أو نضد في السماء نضدا معدا لإهلاك الظلمة وفي السماء معادنها في جبال مخصوصة كقوله:
مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ [النور: 43] مُسَوَّمَةً معلمة للعذاب أو بياض وحمزة، عن الحسن والسدي عليها أمثال الخواتيم. وقال ابن جريج: كان عليها سيما لا تشاكل حجارة الأرض. وقال الربيع: مكتوب على كل حجر اسم من يرمى به. وقال أبو صالح: رأيت منها عند أم هانىء حجارة فيها خطوط حمر على هيئة الجزع. ومعنى عِنْدَ رَبِّكَ أي في خزائنه لا يتصرف في شيء منها إلا هو، أو مقرر في علمه إهلاك من أهلك بكل واحد منها وَما هِيَ أي تلك الحجارة مِنَ الظَّالِمِينَ أي من كل ظالم بِبَعِيدٍ وهو وعيد لأهل مكة
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبرائيل عن هذا فقال يعني من ظالمي أمتك ما من ظالم إلا وهو بصدد سقوط الحجر عليه ساعة فساعة.
وقيل: أي تلك القرى ليست ببعيدة من ظالمي أهل مكة يمرون بها في مسايرهم إلى الشام. وقيل: المراد أنها وإن كانت في السماء إلا أنها إذا هوت منها فهي أسرع شيء لحوقا بالمرمى فكانت كأنها بمكان قريب والله تعالى أعلم بمراده.
[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 102]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)(4/42)
القراآت:
إني بالفتح أريكم بالإمالة: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو والبزي، وكذلك روى عن أهل مكة. إِنِّي أَخافُ شِقاقِي أَنْ بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وصلواتك كما مر في سورة التوبة في قوله: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ [التوبة: 103] تَوْفِيقِي بالفتح: أبو عمرو وابن عامر وأبو جعفر ونافع أرهطي بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بَعِدَتْ ثَمُودُ بالإظهار: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وخلف ويعقوب وعاصم غير الأعشى.
الوقوف:
شُعَيْباً ط غَيْرُهُ ط مُحِيطٍ هـ مُفْسِدِينَ هـ مُؤْمِنِينَ ج للابتداء بالنفي مع الواو بِحَفِيظٍ هـ ما نَشؤُا ط الرَّشِيدُ هـ حَسَناً ط عَنْهُ ط مَا اسْتَطَعْتُ ط إِلَّا بِاللَّهِ ط أُنِيبُ هـ صالِحٍ ط بِبَعِيدٍ هـ إِلَيْهِ ط وَدُودٌ هـ ضَعِيفاً ج لأن «لولا» للابتداء مع الواو لَرَجَمْناكَ ز لحق النفي وكون الواو للحال أوجه بِعَزِيزٍ هـ مِنَ اللَّهِ ط للفصل بين الاستخبار والاخبار واتحاد المقصود وجه للوصل ظِهْرِيًّا ط مُحِيطٌ هـ عامِلٌ ط تَعْلَمُونَ هـ لا كاذِبٌ ط للفصل بين(4/43)
الخير والطلب رَقِيبٌ هـ جاثِمِينَ هـ لا فِيها ط ثَمُودُ هـ مُبِينٍ هـ لا لتعلق الجار فِرْعَوْنَ ج للنفي مع الواو للعطف أو للحال بِرَشِيدٍ هـ النَّارَ ط الْمَوْرُودُ 5 الْقِيامَةِ ط الْمَرْفُودُ هـ وَحَصِيدٌ هـ أَمْرُ رَبِّكَ ج تَتْبِيبٍ هـ ظالِمَةٌ ط شَدِيدٌ هـ.
التفسير:
نقص المكيال يشمل معنيين: بأن ينقص في الإيفاء من القدر الواجب، ويزيد في الاستيفاء على القدر الواجب فيلزم في كلا الحالين نقصان حق الغير. ثم علل النهي بقوله: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ أي بثروة وسعة تغنيكم عن التطفيف، أو بنعمة من الله حقها أن تشكر لتزداد لا أن تكفر فتزال. وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عن ابن عباس أنه فسر الخوف بالعلم. وقال آخرون: إنه الظن الغالب لأنه كان يجوز ازدجارهم وانتهاءهم.
والعذاب المحيط المهلك المستأصل كأنه أحاط بهم بحيث لا ينفلت منهم أحد. وزيادة اليوم لأجل المبالغة والإسناد المجازي باعتبار ما هو واقع فيه واشتمل عليه ذلك اليوم.
قيل: هو عذاب الاستئصال في الدنيا. وقيل: عذاب الآخرة والأظهر العموم. قوله:
أَوْفُوا الْمِكْيالَ إلى قوله أَشْياءَهُمْ قد مر تفسير مثله في الأعراف. وقوله: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ مضى تفسيره في أوائل البقرة، بقي في الآية سؤال وهو أنه سبحانه نهى أوّلا عن النقص ثم أمر بالإيفاء فهل فيه فائدة سوى التأكيد والتقرير؟ والجواب بعد تسليم أن النهي عن الشيء أمر بضده، هو أن النهي عن النقص في المبايعة وإن كان يفيد تصريحه تعييرا وتوبيخا لكنه يوهم النهي عن أصل المبايعة، فلدفع هذا الخيال أمر بإيفاء الكيل، ففيه إباحة أصل المبايعة، مع التصريح بالنعت المستحسن في العقول لزيادة الترغيب. وفيه أيضا فائدة أخرى من قبل تقييد الإيفاء بالقسط ليعلم أن ما جاوز العدل ليس بواجب بل هو فضل ومروءة لا تقف عند حد، وإنما الواجب شيء من الإيفاء بقدر ما يخرج عن العهدة بيقين كما أن غسل الوجه لا يحصل باليقين إلا عند غسل شيء من الرأس بَقِيَّتُ اللَّهِ قيل: ثواب الله. وقيل: طاعته ورضاه كقوله: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ [الكهف: 46] وقيل: أي ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم خَيْرٌ لَكُمْ بشرط أن تؤمنوا لأن شيئا من الأعمال لا ينفع مع الكفر إن كنتم مصدقين لي فيما أنصح لكم. ولا ريب أن الأمانة تجر الرزق لاعتماد الناس وإقبالهم عليه فينفتح له أبواب المكاسب، والخيانة تجر الفقر لتنفر الناس عنه وعن معاملته وصحبته. قالت المعتزلة: في إضافة البقية إلى الله دليل على أن الحرام لا يسمى رزق الله. وقرىء تقاة الله بالتاء الفوقانية أي اتقاؤه الصارف عن المعاصي والقبائح وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظ(4/44)
أعمالكم لأجازيكم إنما أنا مبلغ ناصح وقد أعذر من أنذر. قوله: أَصَلاتُكَ قيل: أي دينك وإيمانك لأن الصلاة عماد الدين فعبر عن الشيء باسم معظم أركانه. وقيل: المراد الأتباع لأن أصل الصلاة ومنه المصلي للذي يتلو السابق والمعنى دينك أي أتباعه يأمرك بذلك. والأظهر أن المراد به الأعمال المخصوصة
يروى أن شعيبا عليه السلام كان كثير الصلاة فكان قومه إذا رأوه يصلي تغامزوا وتضاحكوا
فقصدوا بقولهم: أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ السخرية والهزء فكأن الصلاة التي يداوم عليها ليلا ونهارا هي من باب الجنون والوساوس. ومعنى تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ تأمرك بتكليف أن نترك على حذف المضاف لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره. وقوله أَوْ أَنْ نَفْعَلَ معطوف على ما في ما يعبد أي تأمرك صلاتك بترك ما عبد آباؤنا وبترك أن نفعل فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا روي أنه كان ينهاهم عن قطع أطراف الدراهم كما كان يأمرهم بترك التطفيف والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير. إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ قيل: إنه مجاز والمراد نسبته إلى غاية السفاهة والغواية فعكسوا تهكما به. وقيل: حقيقة وإنه كان معروفا فيما بينهم بالحلم والرشد فكأنهم قالوا له: إنك المعروف بهذه السيرة فكيف تنهانا عن دين ألفناه وسيرة تعودناها.
ثم أشار عليه السلام إلى ما آتاه الله من العلم والهداية والنبوة والكرامة والرزق الحلال الحاصل من غير بخس ولا تطفيف، وجواب الشرط محذوف اكتفي عنه بما ذكر في قصتي نوح وصالح، والمعنى أرأيتم إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وقد آتاني بعد هذه السعادات الروحانية السعادات الدنيوية من الخيرات والمنافع الجليلة هل يسعني مع هذه الإكرامات أن أخون في وحيه ولا آمركم بترك الشرك وبفعل الطاعة والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ يقال: خالفني فلان إلى كذا إذا قصده وأنت مول عنه. فالمعنى لا أجعل فعلي مخالفا لقولي فلا أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ إلا أن أصلحكم بالموعظة والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. مَا اسْتَطَعْتُ ما للمدة ظرفا للإصلاح أي مدة استطاعتي لإصلاحكم، أو بدل من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته منه، أو المضاف محذوف أي إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت، أو مفعولا للإصلاح فقد يعمل المصدر المعرف كقوله:
ضعيف النكاية أعداءه. أي إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم. ثم بين أن كل ما يأتي ويذر فوقوعه بتسهيل الله وتأييده فقال: وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ والتوفيق أن توافق إرادة العبد إرادة الله تعالى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ أخصه بتفويض الأمور إليه لأنه مبدأ المبادئ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ لأنه المعاد الحقيقي وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم منه. ثم(4/45)
أوعدهم بقوله لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي لا يكسبنكم خلافي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح العقيم أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الصيحة وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ لم يقل «ببعيدة» حملا على لفظ القوم لأنه مؤنث، ولا «ببعيدين» حملا على معناه ولكنه على تقدير مضاف أي وما إهلاكهم ببعيد لأنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدهم. أو المراد وما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد. وجوزوا أن بسوّى في بعيد وقريب وقليل وكثير بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما. إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ يجوز أن يكون بمعنى «فاعل» أو «مفعول» كقوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] وهذا حث لهم على الاستغفار والتوبة، وتنبيه على أن سبق الكفر والمعصية لا ينبغي أن يمنعهم عن الإيمان والطاعة. ولما بالغ خطيب الأنبياء في التقرير والبيان قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ إما لقلة الرغبة أو قالوا تهكما واستهانة كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبا بحديثه: ما أدري ما تقول.
كأنهم جعلوا كلامه تخليطا وهذيانا لا ينفعهم كثير منه. وقيل: لأنه كان ألثغ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً عن الحسن: مهينا أي لا عزة لك فيما بيننا ولا قوة فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروها. وفسر بعضهم الضعيف بالأعمى لأن العمى سبب الضعف، أو لأنه لغة حمير. وزيف هذا القول أما عند من جوز العمى على الأنبياء فلأن لفظة فِينا يأباه لأن الأعمى فيهم وفي غيرهم، وأما عند من لا يجوزه- كبعض المعتزلة- فلأن الأعمى لا يمكنه الاحتراز من النجاسات وأنه يخل بجواز كونه حاكما وشاهدا، فلأن يمنع من النبوة كان أولى. ثم ذكروا أنهم إنما لم يريدوا به المكروه ولم يوقعوا به الشر لأجل رهطه- والرهط من الثلاثة إلى العشرة وقيل إلى السبعة- والرجم شر القتل وهو الرمي بالحجارة، أو المراد الطرد والإبعاد ومنه الشيطان الرجيم. ثم أكدوا المذكور بقولهم وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ وإنما العزيز علينا رهطك لا خوفا من شوكتهم ولكن لأنهم من أهل ديننا، فالكلام واقع في فاعل العز لا في الفعل وهو العز ولذلك قال في جوابهم أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ ولو قيل وما عززت علينا لم يصح هذا الجواب، وإنما لم يقل أعز عليكم مني إيذانا بأن التهاون بنبي الله كالتهاون بالله كقوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء: 80] وَاتَّخَذْتُمُوهُ أي أمر الله أو ما جئت به وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب أي جعلتموه كالشيء المنبوذ وراء الظهر غير ملتفت إليه. ثم وصف الله تعالى بما يتضمن الوعيد في حقهم قال: إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ. ثم زاد في الوعيد والتهديد بقوله: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ وقد مر تفسير مثله في «الأنعام» . قال في(4/46)
الكشاف: الاستئناف يعني في سَوْفَ تَعْلَمُونَ وصل خفي تقديري وإنه أقوى من الوصل بالفاء وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه. ثم بالغ في التهديد بقوله:
وَارْتَقِبُوا انتظروا عاقبة الشقاق إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ راقب كالضريب بمعنى الضارب، أو مراقب كالعشير والنديم، أو مرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع. وباقي القصة على قياس قصة صالح وأخذ الصيحة وأخذت الصيحة كلتا العبارتين فصيحة لمكان الفاصل إلا أنه لما جاء في قصة شعيب مرة الرجفة ومرة الظلة ومرة الصيحة ازداد التأنيث حسنا بخلاف قصة صالح. وإنما دعا عليهم بقوله: كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ لما روى الكلبي عن ابن عباس قال: لم يعذب الله أمتين بعذاب واحد إلا قوم شعيب وقوم صالح. فأما قوم صالح فأخذتهم الصيحة من تحتهم، وأما قوم شعيب فأخذتهم من فوقهم. قوله سبحانه بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ قال في التفسير الكبير: الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات المفيدة للظن وبين الدلائل التي تفيد اليقين. والسلطان اسم لما يفيد القطع وإن لم يتأكد بالحس، والسلطان المبين مخصوص بالدليل القاطع الذي يعضده الحس. وقال في الكشاف: يجوز أن يراد أن الآيات فيها سلطان مبين لموسى على صدق نبوته، وأن يراد بالسلطان المبين العصا لأنها أبهرها وقوله: إِلى فِرْعَوْنَ متعلق ب أَرْسَلْنا فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ أي شأنه وطريقه أو أمره إياهم بالكفر والجحود وتكذيب موسى وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ أي ليس في أمره رشد إنما فيه غي وضلال، وفيه تعريض بأن الرشد والحق في أمر موسى. ثم إن قومه عدلوا عن اتباعه الى اتباع من ليس في أمره رشد قط، فلا جرم كما كان فرعون قدوة لهم في الضلال فكذلك يقدمهم أي يتقدمهم يوم القيامة إلى النار وهم على أثره، ويجوز أن يراد بالرشد الإحماد وحسن العاقبة فيكون المعنى وما أمر فرعون بحميد العاقبة. ثم فسره بأنه يَقْدُمُ قَوْمَهُ أي كيف يرشد أمر من هذه عاقبته. ويقال: قدمه وقدمه بالتخفيف والتشديد بمعنى تقدمه ومنه مقدمة الجيش ومثله أقدم ومنه مقدم العين. وإنما قال فَأَوْرَدَهُمُ بلفظ الماضي تحقيقا للوقوع. والورد المورود الذي وردوه، شبّه فرعون بمن يتقدم الواردة إلى الماء، وشبه أتباعه بالواردة. ثم نعى عليهم بقوله: وَبِئْسَ الْوِرْدُ الذي يردونه النار لأن الورد إنما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد والنار ضده. وتذكير بِئْسَ لتذكير الورد وإن كان هو عبارة عن النار كقولك: نعم المنزل دارك ولو قلت: نعمت جاز نظرا إلى الدار. وفي تشبيه النار بالماء نوع تهكم بهم وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ حذف صفته في هذه الآية اكتفاء بما مر في قصة عاد.
وبِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ أي بئس العطاء المعطى ذلك. وقيل: الرفد العون والمرفود المعان(4/47)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
وذلك أن اللعنة في الدنيا رفدت أي أعينت وأمدت باللعنة في الآخرة، قال قتادة: ترادفت عليهم لعنتان لعنة من الله والملائكة واللاعنين في الدنيا ولعنة في الآخرة. ذلِكَ الذي ذكرنا أو ذلك النبأ بعض أَنْباءِ الْقُرى المهلكة نَقُصُّهُ عَلَيْكَ خبر بعد خبر. ثم استأنف فقال: مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ أي ومنها حصيد والمراد بعضها باق كالزرع القائم على ساقه وبعضها عافي الأثر كالزرع المحصود وَما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكنا إياهم وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بارتكاب ما به أهلكوا. عن ابن عباس: وما نقصناهم في الدنيا من النعيم والرزق ولكن نقصوا حظ أنفسهم حيث استخفوا بحقوق الله فَما أَغْنَتْ فما قدرت أن ترد عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ يعبدون وهي حكاية حال ماضية بأس الله حين جاء وَما زادُوهُمْ يعني آلهتهم غَيْرَ تَتْبِيبٍ تخسير. تب خسر وتببه غيره أوقعه في الخسران.
كانوا يعتقدون في الأصنام أنها تعين في الدنيا على تحصيل المنافع ودفع المضار وستنفعهم عند الله في الآخرة فلم تنفعهم في الدنيا حين جاءهم عذاب الله وسيورثهم ذلك الاعتقاد عذاب النار في الآخرة فهم في خسران الدارين. ثم بيّن أن عذابه غير مقصور على أولئك الأقوام ولكنه يعم كل ظالم سيوجد فقال: وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الأخذ أَخْذُ رَبِّكَ فالأخذ مبتدأ وكذلك خبره وقوله وَهِيَ ظالِمَةٌ حال من القرى باعتبار أهلها إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ وجيع صعب على المأخوذ وهو تحذير من وخامة عاقبة كل ظلم على الغير أو على النفس فعلى العاقل أن يبادر إلى التوبة ولا يغتر بالإمهال.
التأويل:
وَلا تَنْقُصُوا مكيال المحبة وميزان الطلب، فمكيال المحبة عداوة ما سوى الله، وميزان الطلب السير على قدمي الشريعة والطريقة إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ هو حسن الاستعداد الفطري وإني أخاف عذاب فساد الاستعداد في طلب غير الحق بِالْقِسْطِ في تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ حقوق النصيحة وحسن العشرة في الله ولله وَلا تَعْثَوْا في أرض وجودكم مُفْسِدِينَ بَقِيَّتُ اللَّهِ بقاؤكم ببقائه خَيْرٌ لَكُمْ مما فاتكم بإيفاء المكيال والميزان. رِزْقاً حَسَناً نورا تاما أراني به إصلاح الأمور والاستعدادات إن ساعدني التوفيق وَما معاملة قَوْمُ لُوطٍ من معاملتكم بِبَعِيدٍ لأن الكفر كله ملة واحدة. وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ لأن فرعون النفس أمارة بالسوء. إِذا أَخَذَ الْقُرى قرى الأجساد مِنْها قائِمٌ قابل لتدارك ما فات، ومنها ما هو محصود بفوات الاستعداد والله تعالى أعلم بالصواب.
[سورة هود (11) : الآيات 103 الى 123]
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117)
وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)(4/48)
القراآت:
وما يؤخره بالياء: يعقوب والمفضل. الباقون بالنون يَوْمَ يَأْتِي بإثبات الياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وعلي في الوصل. الآخرون بحذف الياء لا تَكَلَّمُ بتشديد التاء: البزي وابن فليح سُعِدُوا بضم السين: حمزة وعلي وخلف وحفص. قيل إنه على حذف الهمزة من «أسعدوا» لأن سُعِدُوا لازم ولكنه قد جاء المسعود، الآخرون بفتحها وَإِنَّ كُلًّا بالتخفيف: ابن كثير ونافع وأبو بكر وحماد. الباقون بالتشديد. لَمَّا مشددا: ابن عامر وعاصم ويزيد وحمزة وكذلك في «الطارق» . الباقون بالتخفيف وَزُلَفاً بضمتين: يزيد. الآخرون بفتح اللام فُؤادَكَ وبابه بغير همز: الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف يُرْجَعُ مجهولا:
نافع وحفص والمفضل تَعْمَلُونَ خطابا وكذلك في آخر «النمل» : أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب وحفص. الباقون على الغيبة.(4/49)
الوقوف:
الْآخِرَةِ ط مَشْهُودٌ هـ مَعْدُودٍ ط بِإِذْنِهِ ج لاختلاف الجملتين مع فاء التعقيب. وَسَعِيدٌ هـ شَهِيقٌ هـ لا لأن ما يتلوه حال والعامل فيه ما في النار من معنى الفعل شاءَ رَبُّكَ ط يُرِيدُ هـ شاءَ رَبُّكَ ط لأن التقدير يعطون عطاء مَجْذُوذٍ هـ هؤُلاءِ ط مِنْ قَبْلُ ط مَنْقُوصٍ هـ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ط بَيْنَهُمْ ط مُرِيبٍ هـ أَعْمالَهُمْ ط خَبِيرٌ هـ وَلا تَطْغَوْا ط بَصِيرٌ هـ النَّارُ لا لأن ما بعده من تمام جزاء ولا تركنوا تُنْصَرُونَ هـ مِنَ اللَّيْلِ ط السَّيِّئاتِ ط لِلذَّاكِرِينَ 5 الْمُحْسِنِينَ هـ مِنْهُمْ ج لأن التقدير وقد اتبع مُجْرِمِينَ هـ مُصْلِحُونَ هـ مُخْتَلِفِينَ هـ لا رَحِمَ رَبُّكَ ط خَلَقَهُمْ ط أَجْمَعِينَ هـ فُؤادَكَ ج إذ التقدير وقد جاءك لِلْمُؤْمِنِينَ هـ مَكانَتِكُمْ ط عامِلُونَ هـ لا للعطف وَانْتَظِرُوا ج أي فإنا مُنْتَظِرُونَ ط وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ط تَعْمَلُونَ هـ.
التفسير:
إِنَّ فِي ذلِكَ الذي قصصنا عليك من أحوال الأمم لَآيَةً لعبرة لِمَنْ خافَ أي لمن هو أهل لأن يخاف عَذابَ الْآخِرَةِ كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:
2] لأن انتفاعه يعود إليهم. قال القفال- في تقرير هذا الاعتبار: إنه إذا علم أن هؤلاء عذبوا على ذنوبهم في الدنيا وهي دار العمل فلأن يعذبوا عليها في الآخرة التي هي دار الجزاء أولى. واعترض عليه في التفسير الكبير بأن ظاهر الآية يقتضي أن العلم بأن القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بظهور عذاب الاستئصال في الدنيا. والقفال جعل الأمر على العكس قال: والأصوب عندي أن هذا تعريض لمن زعم أن إله العالم موجب بالذات لا فاعل مختار، وأن هذه الأحوال التي ظهرت في أيام الأنبياء عليهم السلام مثل الغرق والخسف والصيحة إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب، وإذا كان كذلك فلا يكون حصولها دليلا على صدق الأنبياء عليهم السلام. أما الذي يؤمن بالقيامة ويخاف عذابها فيقطع بأن هذه الوقائع ليست بسبب الكواكب واتصالاتها فيستفيد مزيد الخشية والاعتبار.
أقول: وهذا نظر عميق والأظهر ما ذكرت أوّلا ومثله في القرآن كثير. إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى [النازعات: 26] إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ [النحل: 13] ثم لما كان لعذاب الآخرة دلالة على يوم القيامة أشار إليه بقوله: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ أي يجمع لما فيه من الحساب والثواب والعقاب. النَّاسُ وأوثر اسم المفعول على فعله لأجل إفادة الثبات وأن حشر الأولين والآخرين فيه صفة له لازمة نظيره قول المتهدد: إنك لمنهوب مالك محروب قومك. فيه من تمكن الوصف وثباته ما ليس في الفعل وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي مشهود فيه الخلائق فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به. والفرق(4/50)
بين هذا الوصف والوصف الأول أن هذا يدل على حضور الناس فيه مع اطلاع البعض منهم على أحوال الباقين من المحاسبة والمساءلة ليس بحيث لا يعرف كل واحد إلا واقعة نفسه. والجمع المطلق لا يفيد هذا المعنى وإنما فسرنا اليوم بأنه مشهود فيه لا أنه مشهود في نفسه لأن سائر الأيام تشركه في كونها مشهودات، وإنما يحصل التمييز بأنه مشهود فيه دون غيره كما تميز يوم الجمعة عن أيام الأسبوع بكونه مشهودا فيه دونها وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لانتهاء لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ أي انقضاء مدة معلومة عيّن الله وقوع الجزاء بعدها وفيه فائدتان: إحداهما أن وقت القيامة متعين لا يتقدم ولا يتأخر، والثانية أن ذلك الأجل متناه وكل منتاه فإنه يفنى لا محالة وكل آت قريب. ثم ذكر بعض أهوال ذلك اليوم فقال: يَوْمَ يَأْتِ حذف الياء والاكتفاء عنها بالكسرة كثير في لغة هذيل، وفاعل يأتي قيل: الله كقوله: أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ [الأنعام: 158] أي أمره أو حكمه دليله قراءة من قرأ وما يؤخره بالياء وقوله: بِإِذْنِهِ. وقيل: المراد الشيء المهيب الهائل المستعظم فحذف ذكره بتعيينه ليكون أقوى في التخويف. وقيل: فاعله ضمير اليوم والمراد إتيان هو له وشدائده كيلا يصير اليوم ظرفا لإتيان اليوم. وانتصاب يَوْمَ ب لا تَكَلَّمُ أو باذكر مضمرا أو بالانتهاء المقدر أي ينتهي الأجل يوم يأتي وتاء التأنيث محذوفة من لا تكلم، والآيات الدالة على التكلم في ذلك اليوم مع الآيات الدالة على نفي التكلم كقوله تعالى:
يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها [النحل: 111] وكقوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ [المرسلات: 35] محمولة على اختلاف المواطن والأزمنة، أو نفى العذر الصحيح المقبول وأثبت العذر الباطل الكاذب. ثم قسم أهل الموقف المجموعين للحساب أو الأفراد العامة التي دلت عليها نفس فقال: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ أي ومنهم سعيد. ولا خلاف في أن الشقاء والسعادة مقترنان بالعمل الفاسد والعمل الصالح ويترتب عليهما الجنة والنار في الآخرة، وإنما النزاع في أن العمل سبب للشقاء مثلا كما هو مذهب المعتزلة، أو الشقاء سبب العمل كما هو مذهب أهل السنة، فيختلف تفسير الشقاء بحسب المذهبين فهو عند المعتزلة الحكم بوجوب النار له لإساءته، وعند السني جريان القلم عليه في الأزل بأنه من أهل النار وأنه يعمل عمل أهل النار والتحقيق في المسألة قد مر مرارا. قيل: قد بقي هاهنا قسم آخر ليسوا من أهل النار ولا من أهل الجنة كالمجانين والأطفال فهم أصحاب الأعراف، وتخصيص القسمين بالذكر لا يدل على نفي الثالث. أما قوله في صفة أهل النار لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ففيه وجوه قال الليث وكثير من الأدباء: الزفير استدخال الهواء الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيه(4/51)
وحينئذ يرتفع صدره وينتفخ جنباه، والشهيق إخراج ذلك الهواء بجهد شديد من الطبيعة، وكلتا الحالتين تدل على كرب شديد وغم عظيم. والحاصل أنهم جعلوا الزفير بمنزلة ابتداء نهيق الحمار، والشهيق بمنزلة آخره. وقال الحسن: إن لهب جهنم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلوا إلى أعلى دركات جهنم وطمعوا في أن يخرجوا منها ضربتهم الملائكة بمقامع من حديد ويردونهم إلى الدرك الأسفل من النار، فارتفاعهم في النار هو الزفير، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق. وقال أبو مسلم: الزفير ما يجتمع في الصدر من النفس عند البكاء الشديد فينقطع النفس، والشهيق هو الصوت الذي يظهر عند اشتداد الكربة والحزن، وربما يتبعها الغشية، وربما يحصل عقيبه الموت. وقال أبو العالية: الزفير في الحلق، والشهيق في الصدر. وقيل: الزفير الصوت الشديد، والشهيق الصوت الضعيف. وعن ابن عباس:
لهم فيها بكاء لا ينقطع وحزن لا يندفع. وقال أهل التحقيق: قوة ميلهم إلى الدنيا ولذاتها زفير، وضعفهم عن الاستسعاد بكمالات الروحانيات شهيق. ثم إن قوما ذهبوا إلى أن عذاب الكفار منقطع وله نهاية واستدلوا على ذلك بالقرآن والحديث والمعقول. أما القرآن فقوله سبحانه: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي مدة بقائهما إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ وفيه استدلالان: الأول أن مدة عقابهم مساوية لمدة بقاء السموات والأرض المتناهية بالاتفاق. الثاني استثناء المشيئة ويؤكد هذا النص قوله: لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً [النبأ: 23] وأما
الحديث فما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص «ليأتين على جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد»
وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا. وأما المعقول فهو أن العقاب ضرر خال عن النفع لا في حق الله تعالى ولا في حق المكلف فيكون قبيحا.
وأيضا الكفر جرم متناه ومقابلة الجرم المتناهي بعقاب لا نهاية له ظلم. والجمهور من الأمة على أن عذاب الكافر دائم، وأجابوا عن الآية بأن المراد سموات الآخرة وأرضها المشار إليهما بقوله: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ [ابراهيم: 48] ولا بد لأهل الآخرة مما يظلهم ويقلهم فهما السماء والأرض، وإذا علق حصول العذاب للكافر بوجودهما لزم الدوام. وأيضا القرآن قد ورد على استعمالات العرب، وإنهم يعبرون عن الدوام والتأبيد بقولهم «ما دامت السموات والأرض» ونظيره قولهم: «ما اختلف الليل والنهار» و «ما أقام ثبير وما لاح كوكب» . ويمكن أيضا أن يقال: حاصل الآية يرجع إلى شرطية هي قولنا: إن دامت السموات والأرض دام عقابهم فإذا قلنا لكن السموات والأرض دائمة لزم دوام عقابهم وهو المطلوب، وإن قلنا لكنهما لم تدوما فإنه لا ينتج مطلوب الخصم لأن استثناء نقيض المقدم لا ينتج شيئا. وبعبارة أخرى دلت الآية على أنه(4/52)
كلما وجدت السموات والأرض وجد عقابهم. فلو قلنا لكنهما لم يوجدا لم يلزم منه أن لا يوجد عقابهم، أو يوجد فالآية لا تدل إلا على حصول العقاب لهم دهرا طويلا ومدة مديدة. وأما إنه هل يكون له آخر أم لا فذلك إنما يستفاد من دليل آخر كقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] وأما الاستدلال بالاستثناء فقد ذكر ابن قتيبة وابن الأنباري والفراء أن هذا الاستثناء لا ينافي عدم المشيئة كقولك و «الله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك» وقد يكون عزمك على ضربه البتة وتعلم أنك لا ترى غير ذلك. وردّ بالفرق، فإن معنى الآية الحكم بخلودهم فيها إلا المدة التي شاء الله، فالمشيئة قد حصلت جزما. ولقائل أن يقول: الماضي هاهنا في معنى الاستقبال مثل وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ [النساء: 48] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا [الزمر: 73] فلم يبق فرق. وقيل: «إلا» بمعنى «سوى» أي سوى ما يتجاوز ذلك من الخلود الدائم كأنه ذكر في خلودهم ما ليس عند العرب أطول منه، ثم زاد عليه الدوام الذي لا آخر له. وقال الأصم وغيره: المراد زمان مكثهم في الدنيا أو في البرزخ أو في الموقف. وقيل: الاستثناء يرجع إلى قوله:
لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ كأنهم يصيرون آخر الأمر إلى الهمود والخمود. وقيل: فائدة الاستثناء أن يعلم إخراج أهل التوحيد من النار والمراد إلا من شاء ربك، وهذا التأويل إنما يليق بقاعدة الأشاعرة وأكدوه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ فكأنه تعالى يقول:
أظهرت القهر والقدرة ثم أظهرت المغفرة والرحمة لأني فعال لما أريد، وليس لأحد عليّ حكم البتة. وأما المعتزلة فكأنهم لا يرضون بهذا ويقولون: إن الاستثناء الثاني لا يساعده لحصول الإجماع على أن أحدا من أهل الجنة لا يدخل النار. فالصواب أن يقال: إنه استثناء من الخلود في عذاب النار ومن الخلود في نعيم الجنة، فإن أهل النار ينقلون إلى الزمهرير وإلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله، وأهل الجنة ينقلون إلى العرش أو إلى ما هو أعلى حالا من الجنة كقوله: وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة: 72] ثم قالوا: إنه ختم آية الوعيد بقوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ وآية الوعد بقوله: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ رعاية للمطابقة كأنه قال: إنه يفعل بأهل النار ما يريد من العذاب كما يعطي أهل الجنة عطاءه الذي لا انقطاع له والجذ القطع. وأما الجواب عن الحديث فقد قال في الكشاف: إن صح فمعناه أنهم يخرجون من حر النار إلى برد الزمهرير فذلك خلوّ جهنم وصفق أبوابها.
وأقول: يحتمل أن يكون الألف سبب عدم الإحساس بالعذاب بل يكون سبب الالتذاذ بالمألوف فيكون خلوّ جهنم إشارة إلى هذا المعنى. وأما الجواب عن المعقول فهو أن السير في الله ومبدأه من عالم التكاليف لما كان غير متناه فعذاب البعد عنه أيضا يجب أن(4/53)
يكون غير متناه. أو نقول: لا نهاية لنوره فلا غاية لظلمة الغافل عنه والمنكر له. أو نقول:
أوضح الأشياء الوجود الواجب فإذا كان الشخص ذاهلا عنه كان مسلوب الاستعداد بالكلية فلا يكون إنسانا في الحقيقة، فلا يتصور له عروج من عالم الطبيعة، والعبارات في هذا المقام كثيرة والمعنى واحد يدركه من وفق له وخلق لأجله. ولما فرغ من أقاصيص عبدة الأصنام وبيان أحوال الأشقياء والسعداء سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرح أحوال الكفرة من قومه في ضمن نهي له عن الامتراء في سوء مغبتهم قائلا فَلا تَكُ حذف النون لكثرة الاستعمال فِي مِرْيَةٍ في شك مِمَّا يَعْبُدُ «ما» مصدرية أو موصولة أي من عبادة هؤُلاءِ أو من الذي يعبده هؤلاء المشركون والمراد النهي عن الشك في سوء عاقبة عبادتهم. ثم علل النهي مستأنفا فقال: ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ كالذي يعبده آباؤُهُمْ أو كعبادة آبائهم. والحاصل أنهم شبهوا بآبائهم في لزوم الجهل والتقليد. وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ من الرزق والخيرات الدنيوية أو من إزالة العذر وإزاحة العلة بإرسال الرسول وإنزال الكتاب، أو نصيبهم من العذاب كما وفينا آباؤهم أنصباءهم. وفي الكشاف أن غَيْرَ مَنْقُوصٍ حال من النصيب ليعلم أنه تام كامل إذ يجوز أن يوفي بعض الشيء كقولك وفيته شطر حقه. قلت: هي مغالطة لأن قول القائل: «وفيته شطر حقه» التوفية تعود إلى الشطر. فلو قيل: غير منقوص كان كالمكرر. وعاد السؤال. فالصواب أن يقال:
إنه حال مؤكدة أو صفة تقوم مقام المصدر أي توفية نحو وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: 60] أي إفسادا. ثم أورد نظيرا لإنكارهم نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فقال: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ آمن به قوم وكفر به قوم آخرون كما اختلف في القرآن، والغرض أن إنكار الحق عادة قديمة للخلق وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ هي أن رحمتي سبقت غضبي أو هي أن دار الجزاء الآخرة لا الدنيا أو هي أن هذه الأمة لا يعذبون بعذاب الاستئصال.
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين قوم موسى أو بين قومك بتمييز المحق من المبطل بسبب الإنجاء والإهلاك وهذه من جملة التسلية أيضا وَإِنَّهُمْ يعني قوم موسى أو قومك لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من كتابه أو من كتابك أو من أمر المعاد أو القضاء أو الجزاء. ثم جمع الأولين والآخرين في حكم توفية الجزاء ثوابا أو عقابا فقال: وَإِنَّ كُلًّا التنوين فيه عوض عن المضاف إليه أي وإن كلهم يعني أن جميع المختلفين فيه. ومن قرأ بالتخفيف فعلى إعمال المخففة إذ لا يلزم من التخفيف إبطال العمل كما في «لم يكن» «ولم يك» . ومن قرأ «لما» مخففا فاللام هي الداخلة في خبر «إن» و «ما» مزيدة للفصل بين لام «إن» وبين لام جواب القسم المقدر كما فصلوا بالألف بين النونات في قولهم «اضربنان» . ويمكن أن يكون «ما»(4/54)
نكرة أي لخلق أو جمع. والله ليوفينهم ربك أعمالهم من حسن وقبيح وإيمان وجحود.
ومن قرأ «لما» مشددا فأصله «لمن ما» قلبت النون ميما فاجتمع ثلاث ميمات، فحذفت الأولى تخفيفا، وجاز حذف الأولى وإبقاء الساكنة لاتصال اللام بها. ويجوز أن يكون أصله «لما» بالتنوين- كما في قراءتي الزهري وسليمن بن أرقم- فحذف فبقى «لما» ممدودا ومعناه ملمومين أي مجموعين. وقرأ أبيّ وإن كل لما ليوفينهم على أن «إن» نافية و «لما» بمعنى «إلا» كما في الطارق. ولا يخفى ما في الآية من مؤكدات توفية الجزاء وأن شيئا من الحقوق لا يضيع عنده. منها لفظة «إن» ، ومنها لام خبر «إن» ، ومنها «كل» ، ومنها «ما» المزيدة، ومنها القسم، ومنها لام القسم، ومنها نون التأكيد، ومنها لفظ التوفية، ومنها ربك فإن من يربيك يقدر على توفية حقك، ومنها الجمع المضاف، ومنها ختم الآية بقوله: إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فإنه إذا كان عالما بكل المعلومات قادرا على كل المقدورات كان عالما بعمل كل أحد وبمقدار جزاء عمله، وقادرا على إيصال ذلك إليه، ثم إن كلامه حق وصدق وقد أخبر عن التوفية مع المؤكدات المذكورة فيقع وعده ووعيده لا محالة. ثم أمر نبيه لتقتدي به أمته بكلمة جامعة للعقائد والأعمال قائلا فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ عن جعفر الصادق رضي الله عنه: معناه افتقر إلى الله بصحة العزم يعني الوثوق به والتوكل عليه وَمَنْ تابَ مَعَكَ عطف على الضمير في فَاسْتَقِمْ وصح للفصل أو هو ابتداء أي ومن تاب معك فليستقم أو مفعول معه. ثم كما أمر بالاستقامة على جادّة الحق نهى عن الانحراف عنها فقال وَلا تَطْغَوْا والطغيان مجاوزة الحد. وقال ابن عباس: يريد تواضعوا للحق ولا تتكبروا على الخلق. وخصص بعضهم الطغيان بالتجاوز عن حدود القرآن بتحليل حرامه وتحريم حلاله. وهذه الآية أصل عظيم في الشريعة فيكون الترتيب في الوضوء واجبا كما ورد في القرآن، وكذلك القول في الحدود والكفارات ونصاب الزكاة وأعداد الركعات وغيرها من جميع المأمورات والمنهيات.
ويجب الاحتياط في المسائل الاجتهادية وفي القياسات، وكذا في الأخلاق والملكات وفي كل ما له طرفا إفراط وتفريط فهما مذمومان. والمحمود هو الوسط وهو الصراط المستقيم المأمور بالاستقامة والثبات عليه. ولا ريب أن معرفته صعبة وبتقدير معرفته فالعمل به والبقاء عليه أصعب ولهذا
قال ابن عباس: ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية في القرآن أشد ولا أشق من هذه حتى إن أصحابه قالوا له: لقد أسرع فيك الشيب فقال صلى الله عليه وسلم: شيبتني هود
أعني هذه الآية منها. ثم لما كان لقرين السوء مدخل عظيم في تغيير العقائد وتبديل الأخلاق نهى عن مخالطة من يضع الشيء في غير موضعه فقال: وَلا تَرْكَنُوا أي لا(4/55)
تميلوا بالمحبة والهوى إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فقال المحققون: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظلمة من الظلم وتحسين الطريقة وتزيينها عند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب، فأما مداخلتهم لدفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة فغير داخلة في الركون.
أقول: هذا من طريق المعاش والرخصة، ومقتضى التقوى هو الاجتناب عنهم بالكلية أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: 36] وفي قوله: فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ إشارة إلى أن الظلمة أهل النار بل هم في النار أو كالنار أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ [البقرة:
174] ومصاحبة النار توجب لا محالة مس النار. وقوله: وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ من تتمة الجزاء. وقال في الكشاف: الواو للحال مِنْ أَوْلِياءَ من أنصار أي لا يقدر على منعكم من عذاب الله إلا هو. ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ثم لا ينصركم هو أيضا. وفيه إقناط كلي. وفائدة «ثم» تبعيد النصرة من الظلم. قال أهل التحقيق: الركون الميل اليسير وقوله: إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي الذين حدث منهم الظلم. فلم يقل «ولا تميلوا إلى الظالمين» ليدل على أن قليلا من الميل إلى من حدث منه شيء من الظلم يوجب هذا العقاب، وإذا كان هذا حال من ركن إلى من ظلم فكيف يكون حال الظالم في نفسه؟
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من دعا الظالم بالبقاء فقد أحب أن يعصى الله في أرضه»
وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك. وعن محمد بن مسلمة: الذباب على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء. ولقد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء؟ فقال: لا. فقيل له: يموت. فقال: دعه يموت. ثم خص من أنواع الاستقامة إقامة الصلاة تنبيها على شرفها فقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ قيل: تمسك بعض الخوارج بهذه الآية على أن الواجب من الصلاة ليس إلا الفجر والعشاء لأنهما طرفا النهار وهما الموصوفان بكونهما زلفا من الليل، فإن ما لا يكون نهارا يكون ليلا. غاية ما في الباب أن هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف وهو كثير في كلامهم، ولئن سلم وجوب صلاة أخرى إلا أن قوله: إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يشعر بأن إقامة الصلاة طرفي النهار كفارة لترك سائر الصلوات. وجمهور الأمة على بطلان هذا القول واستدلوا بالآية على وجوب الصلوات الخمس لأن طرفي النهار منصوب على الظرف لإضافتهما إلى الوقت فيكتسب المضاف حكم المضاف إليه كقولك «أتيته نصف النهار» والطرفان هما الغدوة وهي الفجر والعشية وفيها الظهر والعصر لأن ما بعد الزوال عشيّ وَزُلَفاً جمع زلفة كظلم وظلمة أي ساعات مِنَ اللَّيْلِ قريبة من آخر النهار من أزلفه إذا قربه وازدلف إليه. وقرىء زُلَفاً بسكون اللام نحو «بسرة» و «بسر» . والزلف فيمن قرأ بضمتين نحو «بسر» و «بسر» .(4/56)
وقيل: زُلَفاً أي قربا فيكون معطوفا على الصلاة أي أقم الصلاة وأقم زلفا أي صلوات يتقرب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل. وبالجملة فصلاة الزلف والمغرب والعشاء.
وقيل: إن طرفي النهار لا يشمل إلا الفجر والعصر وبه استدل على مذهب أبي حنيفة أن التنوير بالفجر أفضل وتأخير العصر أفضل، لأن الأمة أجمعت على أن نفس الطرفين- وهما وقت الطلوع والغروب- لا يصلح لإقامة الصلاة، فكل وقت كان أقرب إلى الطرفين كان أولى بإقامة الصلاة فيه حملا للمجاز على ما هو أقرب إلى الحقيقة ما أمكن.
هذا ما ذكره فخر الدين الرازي في تفسيره. ولقائل أن يقول: هذا لا يتمشى في صلاة الفجر لأن الطرف الأول للنهار في الشرع هو طلوع الصبح الصادق، والتنوير مبعد الصلاة منه لا مقرّب. ولا أدري كيف ذهب عليه هذا المعنى مع إفراط عصبيته للشافعي. واستدل أيضا لأبي حنيفة على مذهبه في وجوب الوتر أن أقل الجمع ثلاثة فتجب إقامة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في ثلاث زلف من الليل أي ثلاث ساعات ذهب منها ساعتان للمغرب والعشاء فتعين أن تكون الساعة الثالثة للوتر، وإذا وجب عليه وجب على أمته لقوله: فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] ولمانع أن يمنع أن أقل الجمع ثلاثة أشياء، ثم إن كل ساعة لأجل صلاة، ثم إن كل ما يجب على النبي صلى الله عليه وسلم يجب على الأمة لأن الاتباع هو الإتيان بمثل فعله أعم من أن يكون على تلك الجهة أم لا. إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ
قال المفسرون: نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري، كان يبيع التمر فأتته امرأة فأعجبته فقال لها: إن في البيت أجود من هذا. فذهب بها إلى بيته فضمها إلى نفسه وقبلها وأصاب منها كل ما يصيب الرجل من زوجته سوى الجماع، ثم ندم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما فعل فقال: أنتظر أمر ربي فلما صلى صلاة العصر نزلت فقال: نعم اذهب فإنها كفارة لما عملت. فقيل له: هذا له خاصة أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال له: توضأ وضوءا حسنا وصل ركعتين.
إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ قال ابن عباس: أي الصلوات الخمس كفارة لسائر الذنوب ما لم تكن كبيرة. وقيل: المراد إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. وعن مجاهد: الحسنات قول العبد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. وقد يحتج بالآية على أن المعصية لا تضرّ مع الإيمان الذي هو رأس الأعمال الحسنة. ذلِكَ المذكور من قوله: فَاسْتَقِمْ إلى هاهنا ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ عظة للمتعظين وإرشاد للمسترشدين. ثم أمر بالصبر على التكاليف المذكورة أمرا ونهيا، ونص عن أن الإتيان بها إحسان وأن جزاءه سيحصل لا محالة فقال: وَاصْبِرْ الآية. ثم عاد إلى أحوال الأمم الخالية وبين أن السبب في حلول عذاب الاستئصال بهم أمران:(4/57)
الأول أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد وذلك قوله: فَلَوْلا أي فهلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ ذوو خير ورشد وفضل، وذلك أن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصارت البقية مثلا في الجودة. يقال: فلان من بقية القوم أي من خيارهم.
ومن أمثالهم «في الزوايا خبايا وفي الرجال بقايا» . وجوّز في الكشاف أن يكون من البقوى كالتقية في التقوى أي فهلا كان منهم ذوو إبقاء على أنفسهم وصيانة لها من سخط الله وعقابه إِلَّا قَلِيلًا استثناء متصل لأن في تحضيضهم على النهي عن الفساد معنى نفيه عنهم فكأنه قيل: ما كان من القرون ناس ناهون إلا ناسا قليلا. ومن في مِمَّنْ أَنْجَيْنا للبيان أي هم الذين أنجيناهم. قال في الكشاف: لأن النجاة إنما هي للناهين وحدهم.
ولقائل أن يقول: إذا كان النهي عن المنكر فرض كفاية لم يلزم أن تنحصر النجاة في الناهين؟ فيحتمل أن تكون من للتبعيض ويجوز- على ما في الكشاف- أن يكون الاستثناء منقطعا معناه ولكن قليلا ممن أنجيناه من القرون نهوا عن الفساد. قال: ولو جعلته متصلا على ما عليه ظاهر الكلام كان المعنى فاسدا لأنه يكون تحضيضا لأولي البقية على النهي عن الفساد إلا للقليل من الناجين منهم كما تقول: هلا قرأ قومك القرآن إلا الصلحاء منهم. تريد استثناء الصلحاء من المحضضين على قراءة القرآن. أقول: لم لا يجوز أن يكون المراد من استثناء الصلحاء منهم أنه لا حاجة لهم إلى التحضيض كأنك قلت:
أحضض قومك على القراءة إلا الصلحاء فإنهم لا يحتاجون إلى ذلك لأنهم مواظبون عليها، على أن في جعل الاستثناء منقطعا شبه تناقض، لأن أول الكلام يدل على أنه لم يكن فيهم ناه وآخره يدل على أن القليل منهم قد نهوا فتأمل في هذا المقام فإنه من مزلة الأقدام. السبب الثاني: في نزول العذاب قوله: وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا ما غرقوا فِيهِ من التنعم والتترف من حيث الرياسة والثروة وأسباب العيش الهنيّ ورفضوا ما وراء ذلك مما يتعلق بأمر الدين، فهذه الجملة معطوفة على مدلول الجملة التحضيضية أي ما كان من القرون ناس كذا واتبع الظالمون كذا. ويجوز أن يكون في الكلام إضمار والواو للحال كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاء إترافهم. والمترف الذي أبطرته النعمة، وصبي مترف منعم البدن. وقوله: وَكانُوا مُجْرِمِينَ إما معترضة وإما معطوف على اتَّبَعَ أي وكانوا مجرمين بذلك، أو على أُتْرِفُوا أي اتبعوا الإتراف. وكونهم مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام، أو أريد بالإجرام إغفالهم للشكر. ثم بين أنه ما ينبغي له سبحانه أن يهلك القرى بظلم. قال أهل السنة: أي بسبب مجرد الشرك والحال أنهم مصلحون في المعاملة والعشرة فيما بينهم، وذلك أن حقوق الله تعالى مبنية على(4/58)
المساهلة بخلاف حقوق العباد، وهذا كما قيل: الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظلم.
ويؤكد هذا التفسير أن عذاب الاستئصال إنما نزل بقوم لوط وشعيب لما حكى الله عنهم من إيذاء الناس والإفساد في الأرض. وقالت المعتزلة قوله: بِظُلْمٍ حال من الفاعل والمعنى استحال في الحكمة أن يهلك الله القرى ظالما لها وأهلها قوم مصلحون في العمل تنزيها لذاته عن الظلم وإيذانا بأن إهلاك المصلحين ظلم. ثم ذكر أن الكل بمشيئته وإرادته فقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً مهدية. والمعتزلة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر وقد مر مرارا. وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ في الأديان والأخلاق والأفعال، فمنهم من أنكر العلوم كلها حتى الحسيات والضروريات وهم السوفسطائية، ومنهم من سلم استنتاج العلوم كلها والمعارف ولم يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلا وهم الدهرية، ومنهم من أثبت له مبدأ موجبا بالذات وهم الفلاسفة على ما اشتهر منهم ولهذا المقام تحقيق ليس هاهنا موضع بيانه، ومنهم من أنكر النبوات وهم البراهمة، ومنهم من أثبتها وهم المسلمون والمجوس واليهود والنصارى. وفي كل واحدة من هذه الطوائف اختلافات لا تكاد تدخل تحت الحصر، وإنما لا يحمل الاختلاف في الآية على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمار بل حملناه على الاختلاف في الأديان وما يتعلق بها لأنه ينبو عن ذلك ما قبل الكلام وهو قوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وما بعده وهو قوله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ قالت المعتزلة: إلا ناسا هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على الدين الحق. وقال أهل السنة: جميع الألطاف التي فعلها في حق المؤمن فهي مفعولة أيضا في حق الكافر وهذه الرحمة أمر مختص بالمؤمن مرجع لجانب الإيمان وصدوره منه فإذن الإيمان بخلق الله وتكوينه وكذا ضده. ثم قال: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ فاختلف العلماء في المشار إليه بذلك، فالمعتزلة قالوا: ولذلك من التمكين والاختيار الذي كان منه الاختلاف خلقهم يثيب مختار الحق بحسن اختياره، ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره، أو ولما ذكر من الرحمة خلقهم. والأشاعرة قالوا: ولأجل ما ذكر من الاختلاف خلقهم لما صح
في الحديث أنه خلق الجنة وخلق لها أهلا، وخلق النار وخلق لها أهلا.
وللدلائل الدالة على أن الكل بإيجاده وتخليقه وأن خلاف معلومه محال وإلى هذا أشار بقوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي علمه وإرادته أو قوله للملائكة لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ الآية.
وفرق المعتزلة بين معلومه ومراده. ثم ذكر طرفا من فوائد القصص المذكور في السورة فقال: وَكُلًّا أي وكل نبأ نَقُصُّ عَلَيْكَ وقوله: مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ بيان لكل وما نُثَبِّتُ بدل من كُلًّا أو المراد وكل نوع من الاقتصاص على أنه مصدر أي على(4/59)
الأساليب المختلفة نقص، وما نُثَبِّتُ مفعول. ومعنى تثبيت فؤاده زيادة اليقين والطمأنينة لأن تكاثر الأدلة أثبت للقلب وأرسخ للعلم، أو المعنى تثبيت قلبه على أداء الرسالة وتحمل الأذى من قومه أسوة بسائر الأنبياء. وَجاءَكَ فِي هذِهِ السورة أو في هذه الأنباء الْحَقُّ وهو البراهين القاطعة الدالة على صحة المبدأ والوسط والمعاد وَمَوْعِظَةٌ وهي الدلائل المقنعة الموقعة للتصديق بقدر الإمكان والأول للخواص أنفع والثاني للعوام أنجع. وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ وهي الإرشاد إلى الأعمال الصالحة النافعة في الآخرة المحصلة لما هنالك من السعادة، فإن حسن هذا الدين معلوم لمن رجع إلى نفسه وعمل بمقتضى تذكره وفكره. وأعلم أن المعارف الإلهية لا بد لها من قابل وفاعل، وقابلها القلب وإنه ما لم يكن مستعدا لم يحصل له الانتفاع بسماع الدلائل وورودها عليه فلهذا السبب قدم ذكر إصلاح القلب وعلاجه وهو تثبيت الفؤاد، ثم عقبه بذكر المؤثر الفاعل وهو مجيء هذه السورة بل آية منها وهي قوله: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ مشتملة على الحق والموعظة والذكرى، وهذا ترتيب في غاية الحسن. ثم أمر بالتهديد لمن لم يؤثر فيهم هذه البيانات من أهل مكة وغيرهم فقال: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا وقد مر تفسير مثله في هذه السورة وفي «الأنعام» وَانْتَظِرُوا ما يعدكم الشيطان إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ما وعدنا الرحمن من الغفران والإحسان. وعن ابن عباس: انتظروا بنا الدوائر فإنا منتظرون بكم العذاب كما حل بنظرائكم. ثم ختم السورة بآية مشتملة على جميع المطالب من أمر المبدإ والوسط والمعاد وقد سبق تقريره في آخر «البقرة» في تفسير آية آمَنَ الرَّسُولُ [البقرة:
285] فلا حاجة إلى الإعادة.
التأويل:
ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي ما دامت سموات الأرواح والقلوب وأرض النفوس البشرية إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ من الأشقياء، وذلك أن أهل الشقاء ضربان:
شقي وأشقى. فالشقي بالمعاصي سعيد بالتوحيد فيخلص من النار آخرا، والأشقى وهو الكافر يبقى فيها مخلدا، ومن أهل الجنة سعيد يبقى خالدا فيها، وأسعد وهم الذين يترقون إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر. وهناك مقام الوحدة الذي لا انقطاع له كما قال: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ الذي قدر لهم في الأزل من الشقاء. وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ باستكمال الشقاء لقضي بينهم بالهلاك عاجلا لَفِي شَكٍّ مِنْهُ إشارة إلى الضلال. وقوله: مُرِيبٍ إشارة إلى الإضلال. وَإِنَّ كُلًّا أي كل واحد من الضالين ومن المضلين فَاسْتَقِمْ أمر التكوين ولذلك قال: كَما أُمِرْتَ أي في الأزل، وفي قوله:
وَمَنْ تابَ مَعَكَ إشارة إلى أن النفوس جبلت على الاعوجاج فيحتاج إلى الرجوع من(4/60)
الطريق المنحرف إلى الصراط المستقيم إلى من اختص بالاستقامة بسبب أمر التكوين كالنبي صلى الله عليه وسلم إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يعني أن الأعمال الصالحة في الأوقات المعدودة تزيل ظلمات الأوقات المصروفة في قضاء الحوائج النفسانية الضرورية، وذلك أن تعلق الروح النوري العلوي بالجسد الظلماني السفلي موجب لخسران الروح كقوله: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر: 1] إلا أن يتداركه أنوار العمل الصالح فيرقيه من حضيض البشرية إلى ذروة الروحانية بل إلى الوحدة الربانية، فتندفع عنه ظلمة الجسد السفلي مثاله:
إلقاء الحبة في الأرض فإنه من خسران الحبة إلا أن يتداركه الماء وسائر الأسباب فيربيها إلى أن تصير الحبة الواحدة إلى سبعمائة. وما زاد ذلك الذي ذكرنا من التدارك عظة للذاكرين الذين يريدون أن يذكروا الله في جميع الأحوال فإنهم إذا حافظوا على هذه الأوقات فكأنهم حافظوا على جميعها لأن الإنسان خلق ضعيفا ليس يقدر على صرف جميع الأوقات في محض العبودية والعبادة. فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ صورة التحضيض وحقيقته السؤال ليجاب بأنه لم يكن كذلك لأنك فاعل مختار، فعال لما تريد، خلقت خلقا للإقرار وخلقت خلقا للإنكار ولا اعتراض لأحد عليك يؤيده قوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً طالبة للحق متوجهة إليه وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ منهم من يطلب الدنيا، ومنهم من يطلب العقبى، ومنهم من يطلب المولى وهم المشار إليهم بقوله: إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ أي لطلب الله خَلَقَهُمْ بحسن الاستعداد ولأن رحمته سبقت غضبه، ولكن وقوع فريق في طريق القهر ضروري في الوجود وهو قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ جرى به القلم للضرورة وما نثبت به فؤادك التثبيت منه والتشكيك منه، بيده مفاتيح أبواب اللطف والقهر وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ لطلب الحق ووجدانه اعْمَلُوا في طلب المقاصد من باب القهر إِنَّا عامِلُونَ في طلب الحق من باب لطفه وَانْتَظِرُوا نتائج أعمالكم إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ثمرات أعمالنا وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي ما غاب عنكم مما أودع من لطفه في سموات القلوب ومن قهره في أرض النفوس وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ أمر أهل السعادة والشقاء ومظاهر اللطف والقهر فَاعْبُدْهُ أيها الطالب للحق فإنك مظهر اللطف وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ في الطلب لا على طلبك فإنك إن طلبته بك لم تجده وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ في الأزل عَمَّا تَعْمَلُونَ إلى الأبد والله حسبي.(4/61)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15) وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
(سورة يوسف عليه السلام)
(مكية وقيل نزلت فيما بين مكة الى المدينة وقت الهجرة حروفها سبعة آلاف ومائة وست وستون كلمها ألف وسبعمائة وست وأربعون آياتها مائة وإحدى عشرة)
[سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 20]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4)
قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9)
قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19)
وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)(4/62)
القراآت:
يا أبت بفتح التاء والوقف بالهاء: يزيد وابن عامر. وقرأ ابن كثير ويعقوب بكسر التاء والوقف بالهاء. الباقون بالكسر في الحالين أَحَدَ عَشَرَ بسكون العين: يزيد وابن عباس والخزاز لِي ساجِدِينَ بفتح الياء: الأعشى والبرجمي يا بُنَيَّ بفتح الياء أيا كان: حفص والمفضل. الباقون بكسرها رُؤْياكَ بالإمالة: عليّ غير قتيبة وليث. وقرأ أبو عمرو بالإمالة اللطيفة، وقرأ يزيد وأبو عمر غير شجاع، وورش من طريق الأصبهاني والأعشى وحمزة في الوقف بغير همزة آية للسائلين على التوحيد:
ابن كثير: الآخرون آيات على الجمع. يَخْلُ لَكُمْ بالإدغام: شجاع من طريق أبي غالب وأبو شعيب غيابات وما بعده على الجمع: أبو جعفر ونافع. الباقون غَيابَتِ على التوحيد لا تَأْمَنَّا بغير إشمام ضمة النون: يزيد والحلواني عن قالون. الآخرون بإشمام الذِّئْبُ وما بعده بغير همزة: أبو عمرو غير شجاع وأوقية ويزيد والأعشى وورش وخلف وعلي وحمزة في الوقف يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ بالياء فيهما وبالجزم: عاصم وحمزة وعليّ وخلف. بكسر العين في الأول: أبو جعفر ونافع. بالنون فيهما وبالجزم:
ابن عامر وأبو عمرو. وبكسر العين: ابن كثير سوى الهاشمي وأبي ربيعة عن قنبل فإنهما نرتعي بالكسر مع الياء بعده نرتع ويلعب بالجزم فيهما مع النون في الأول والياء في الثاني: يعقوب عن رويس لَيَحْزُنُنِي أَنْ بفتح الياء أبو جعفر ونافع وابن كثير. وقرأ نافع لَيَحْزُنُنِي أَنْ بفتح الياء أيضا ولكن من باب الأفعال بَلْ سَوَّلَتْ وبابه مدغما: حمزة وعلي وهشام. يا بُشْرى بالإمالة غير مضافة: حمزة وعليّ وخلف وحماد والخزاز عن هبيرة. يا بُشْرى بغير إمالة وإضافة: عاصم غير حماد والخزاز. الباقون يا بشراي بالإضافة إلى ياء المتكلم.
الوقوف:
الر قف كوفي الْمُبِينِ هـ ط كوفي أيضا وغيرهم لا يقفون عليها لأنهم يجعلون إنا جواب معنى القسم في الر الْقُرْآنَ ق والوصل أصح لأن الواو للحال الْغافِلِينَ هـ ساجِدِينَ هـ كَيْداً ط مُبِينٌ هـ وَإِسْحاقَ ط حَكِيمٌ 5 لِلسَّائِلِينَ هـ عُصْبَةٌ ط مُبِينٍ هـ ج والعربية توجب الوقف وإن قيل إن الابتداء به لا يحسن صالِحِينَ هـ فاعِلِينَ هـ لَناصِحُونَ هـ لَحافِظُونَ هـ غافِلُونَ هـ لَخاسِرُونَ هـ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ ج لاحتمال أن يكون جواب «لما» محذوفا والواو في(4/63)
وَأَوْحَيْنا للاستئناف تقديره فعلوا وأمضوا عليه، وأن تكون الواو مقحمة والجواب أَوْحَيْنا لا يَشْعُرُونَ هـ يَبْكُونَ هـ ط فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ ج لابتداء النفي مع واو العطف صادِقِينَ هـ كَذِبٍ
ط أَمْراً ط جَمِيلٌ ط تَصِفُونَ هـ دَلْوَهُ ط غُلامٌ ط بِضاعَةً ط يَعْمَلُونَ هـ مَعْدُودَةٍ ج لاحتمال الواو والحال الزَّاهِدِينَ 5.
التفسير:
قال في الكشاف: تِلْكَ إشارة إلى آياتُ السورة والْكِتابِ الْمُبِينِ السورة أي تلك الآيات التي أنزلت إليك في هذه السورة آيات السورة الظاهر أمرها في إعجاز العرب وتبكيتهم، أو التي بين لمن تدبرها أنها من عند الله لا من عند البشر، أو الواضحة التي لا يشتبه على العرب معانيها لنزولها بلسانهم، أو قد أبين فيها ما سألت اليهود عنه من قصة يوسف، فقد روي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلوا محمدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر وعن قصة يوسف. أقول: مدار هذه التفاسير على أن أبان لازم ومتعد يقال: أبان الشيء وأبان هو بنفسه إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي هذا الكتاب الذي فيه قصة يوسف يعني هذه السورة في حال كونه قُرْآناً عَرَبِيًّا والقرآن اسم جنس يقع على كله وعلى بعضه. وقوله: قُرْآناً عَرَبِيًّا يسمى حالا موطئة لأن المراد وصفه بالعربية. احتج الجبائي بإنزال القرآن وبكونه عربيا وآيات على أنه محدث لأن هذه من أوصاف المحدثات. وأجيب بأنه لا نزاع في حدوث الألفاظ وإنما النزاع في الكلام النفسي ومعنى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إرادة أن تفهموه وتحيطوا بمعانيه ولا يلتبس عليكم لأنه بلغتكم. قال الجبائي: فيه دليل على أنه أراد من المكلفين كلهم أن يعقلوا توحيده وأمر دينه. وأجيب بأن الآية لا تدل إلا على أنه أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفية هذه القصة، ولا دلالة فيه على أنه أراد من الكل الإيمان والعمل الصالح. قال أهل اللغة:
القصص اشتقاقه من قص أثره إذا اتبعه لأن الذي يقص الحديث يتبع ما حفظ منه شيئا فشيئا، ومثله التلاوة لأنه يتلو أي يتبع ما حفظ منه آية بعد آية، ثم إن كان القصص مصدرا بمعنى الاقتصاص فيكون أَحْسَنَ مثله لإضافته إلى المصدر، ويكون المفعول أي المقصوص محذوفا وهو الوحي لدلالة أَوْحَيْنا عليه، أو يكون هذا القرآن مفعوله ومفعول أَوْحَيْنا محذوفا كأنه قيل: نحن نقص عليك أحسن الاقتصاص هذا القرآن بإيحائنا إياه إليك. وعلى هذا فالحسن يرجع إلى المنطق لا إلى القصة. وحسن المنطق كونه على أبدع طريقة وأعجب أسلوب لأن هذه الحكاية مقتصة في كتب الأولين وفي كتب التواريخ ولم يبلغ شيء منه إلى حد الإعجاز، وإن أريد بالقصص المقصوص كما يراد(4/64)
بالنبإ والخبر المنبأ والمخبر، فالحسن يرجع إلى القصة ولا سيما فيما يرجع إلى صلاح حال المكلف في الدارين، ووجه حسنها اشتمالها على الغرائب والعجائب والنكت والعبر وأن الصبر مفتاح الفرج، وأن ما قضى الله كائن لا محالة لا يردّه كيد كائد ولا حسد حاسد.
ويروى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملوا فقالوا: يا رسول الله لو حدثتنا. فأنزل الله عز وجل اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً [الزمر: 23] ثم إنهم ملوا فقالوا: يا رسول الله لو قصصت علينا فأنزل الله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ
كل ذلك يؤمرون بالقرآن. وَإِنْ كُنْتَ هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة. والمعنى وإن الشأن كنت أنت من قبل إيحائنا إليك لَمِنَ الْغافِلِينَ عن هذه القصة أو عن الدين والشريعة إِذْ قالَ بدل اشتمال من أحسن القصص لأن الوقت مشتمل على القصص فإذا قص وقته فقد قص المقصوص أو منصوب بإضمار «اذكر» . ويُوسُفُ ليس عربيا على الأصح إذ لا سبب فيه بعد التعريف إلا العجمة فهو اسم عبراني، ومن ظن أنه من آسف يؤسف بناء على أنه قرىء بكسر السين وبفتحها فيوجد فيه وزن الفعل أيضا فقد أخطأ، لأن القراءة المشهورة تأباه ولن يكون الاسم عربيا تارة وأعجميا أخرى. وهذا الخلاف روي في «يونس» أيضا.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم» «1»
قال النحويون: التاء في يا أَبَتِ عوض من ياء الإضافة وهي للتأنيث لأنها قد تقلب هاء في الوقف. ويجوز إلحاق التاء بالمذكر نحو «حمامة» ذكر والكسرة فيه لمناسبة الياء التي هي بدل منها. والفتحة إما فتحة الياء فيمن يفتحها أو الفتحة الباقية بعد حذف الألف من ياء يا أبتا إِنِّي رَأَيْتُ هو من الرؤيا التي تختص بالمنام لا من الرؤية التي تشمل اليقظة بدليل قول يعقوب له لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ ولأن ذلك لو كان في اليقظة لكانت آية عظيمة ولم تخف على أحد. من قرأ أَحَدَ عَشَرَ بسكون العين فلكراهة توالي المتحركات فيما هو في حكم كلمة، وكذا الى تسعة عشر إلا اثني عشر لئلا يلتقي ساكنان.
قال في الكشاف: روى جابر أن يهوديا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن النجوم التي رآهن يوسف. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل جبريل فأخبره بذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم لليهودي: إن أخبرتك هل تسلم؟ قال: نعم. قال: جربان والطارق والذيال وقابس وعمودان والفليق والمصبح والضروح والفرغ ووثاب وذو
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب: 19. كتاب المناقب باب: 13. الترمذي في كتاب تفسير سورة 12 باب: 1. أحمد في مسنده (2/ 96) .(4/65)
الكتفين. رآها يوسف والشمس والقمر نزلن من السماء وسجدن له. فقال اليهودي: إي والله إنها لأسماؤها.
وأقول: إن أكثر هذه الأسماء ليست مما اشتهر عند أهل الهيئة، فإن صح الخبر فهي من العلوم التي تفرد بها الأنبياء. وإفراد الشمس والقمر من الكواكب بعد ذكرها دليل على شرفهما كقوله وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] وإنما كرر الفعل لطول الكلام أو على تقدير سؤال كأنه قيل له: كيف رأيتها؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين. والظاهر أن هذه السجدة كانت بمعنى وضع الجبهة إذ لا مانع من حملها على الحقيقة لكنها كانت على وجه التواضع. وإنما أجريت الكواكب مجرى العقلاء في عود الضمير إليها لأن السجود من شأن العقلاء كقوله للأصنام: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ [الأعراف: 198] وعند الفلاسفة هم أحياء ناطقة فلا حاجة إلى العذر. عبر أبوه رؤياه بأن إخوته سيسجدون له وهم أحد عشر، وكذا أبواه وهما الشمس والقمر. وقيل: هما أبوه وخالته لأن أمه لم تدخل مصر وتوفيت قبل ذلك. وعن وهب أن يوسف رأى- وهو ابن سبع سنين- أن إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدارة التي حول القمر وهي الهالة، وإذا عصا صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعتها وغلبتها فوصف ذلك لأبيه فقال: إياك أن تذكر هذا لإخوتك. ثم رأى- وهو ابن اثنتي عشرة سنة- الشمس والقمر والكواكب تسجد له فقصها على أبيه فقال له: لا تقصها عليهم فيبغوا لك الغوائل.
وقيل: كان بين رؤيا يوسف ومسير إخوته إليه أربعون سنة. وقيل: ثمانون. قال علماء التعبير: إن الرؤيا الردية يظهر أثرها عن قريب كيلا يبقى المؤمن في الغم والحزن، والرؤيا الجيدة يبطىء أثرها لتكون بهجة المؤمن أدوم. قوله فَيَكِيدُوا منصوب بإضمار «أن» جوابا للنهي. واللام في لَكَ لتأكيد الصلة مثل «نصحتك» و «نصحت لك» . وقال في الكشاف: ضمن الكيد معنى الاحتيال ليفيد معنى الفعلين فيكون أبلغ في التخويف. وقيل:
متعلق بالمصدر الذي بعده. ثم إنه وصل بهذه النصيحة شيئا من تعبير رؤياه فقال:
وَكَذلِكَ أي ومثل اجتبائك لهذه الرؤيا الشريفة يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ لأمور عظام. والاجتباء افتعال من جبيت الشيء إذا حصلته لنفسك، وجبيت الماء في الحوض جمعته، وخصص الحسن الاجتباء بالنبوة. قال في الكشاف وَيُعَلِّمُكَ كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه كأنه قيل: وهو يعلمك ويتم نعمته عليك. أقول: ولعل إدخاله في حكم التشبيه ليس بضائر. وفي تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وجوه منها: أنه تأويل أحاديث الناس فيما يرونه في منامهم، سمى التعبير تأويلا لأنه يؤول أمره إلى ما رآه في المنام أو يؤول أمر ما رآه في المنام إلى ذلك. والأحاديث اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة لأنها التي يتحدث(4/66)
بها الناس. ومنها أنه تبيين معاني كتب الله وسنن الأنبياء لأن المفسر والمحدّث يحدّثان عن الله ورسوله فيقولان: قال الله كذا وقال الرسول كذا. ومنها أن الحديث بمعنى الحادث والمراد كيفية الاستدلال بالحادث على القديم سبحانه. وأما إتمام النعمة فمن فسر الاجتباء بالنبوة فسر الإتمام بالسعادات الدنيوية والأخروية من المال والجاه والعلوم والأخلاق الفاضلة، ومن فسر ذلك بالدرجات العالية فسر هذا بالنبوة لأن التمام المطلق في حق البشر ليس إلا بالنبوة، ولأن إتمام النعمة عليه مشبه بإتمامها على إبراهيم وإسحق، ومن المعلوم أن الامتياز بينهما وبين أقرانهما لم يكن إلا بالنبوة. وقد يفسر إتمام النعمة على إبراهيم بالخلة والإنجاء من النار ومن ذبح الولد، وعلى إسحق بإنجائه من الذبح وفدائه بذبح عظيم وبإخراج يعقوب والأسباط من صلبه، ويكون وجه التشبيه إنجاءه من السجن والمحن كإنجائهما من النار والذبح. والمراد بآل يعقوب نسله قيل: علم يعقوب أن يوسف وإخوته أنبياء استدلالا بضوء الكواكب. واعترض بما فرط منهم في حق يوسف.
وأجيب بأن ذلك قبل النبوة. وقيل: إتمام النعمة وصل نعمة الدنيا بنعم الآخرة وذلك أنه جعلهم ملوكا وأنبياء. وإِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ عطف بيان لأبويك لأن أبا الجد في حكم الأب إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بمن يستحق الاجتباء حَكِيمٌ لا يضع الشيء إلا في موضعه فلا يجعل الرسالة إلا في نفس قدسية وجوهر مشرق. قيل: حكم يعقوب بوقوع هذه الأمور دليل على جزمه بها فكيف خاف بعدها على يوسف حتى قال: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ؟ والجواب لعل جزمه بذلك كان مشروطا بعدم كيد إخوته، ولعل قوله: أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ كيلا يتهاونوا في حفظه فإن للوسائط والأسباب مدخلا عظيما في وجود الأشياء وحصولها لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ أي في قصتهم وحديثهم آياتٌ لِلسَّائِلِينَ لمن سأل عن تلك القصة وعرفها، أو آيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم بها من غير سماع العلم. وفيه أنه صلى الله عليه وسلم يجب أن يصبر على بغي قومه إلى أن يظهر أمره كما فعل يوسف. يروى أن أسامي إخوته: يهوذا وروبيل وشمعون ولاوي وربالون ويشجر ودينة- وهؤلاء من ليا بنت خالة يعقوب- ودان ونفتالي وجاد وآشر- وهم من سريتين زلفة وبلهة- فلما توفيت ليا تزوج أختها راحيل فولدت له بنيامين ويوسف. إِذْ قالُوا ظرف لكان أو منصوب بإضمار «اذكر» لَيُوسُفُ في لام الابتداء تحقيق لمضمون الجملة. وَأَخُوهُ أي لأبيه وأمه عنوا بنيامين. أَحَبُّ إذا كان أفعل التفضيل مستعملا بمن لم يتصرف فيه وَنَحْنُ عُصْبَةٌ الواو للحال والعصبة العشرة فصاعدا لأن الأمور تعصب بكفايتهم أي إنه يفضلهما في المحبة علينا وهما ابنان صغيران(4/67)
لا كفاية فيهما ولا منفعة ونحن جماعة نكفي مهماته ونقوم بمصالحه إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ أرادوا ضلالا خاصا وهو البعد عن طريق الصلاح وحسن المعاشرة مع الأولاد، ولم يعلموا أن المحبة أمر يتعلق بالقلب وليس لله فيه تكليف، ولعل يعقوب تفرس في يوسف ما أوجب اختصاصه بمزيد البر. ومن جملة أقوالهم أنهم قالوا لما تشاوروا في أمره اقْتُلُوا يُوسُفَ قيل: الآمر بالقتل شمعون أو دان ورضي به الباقون فجعلوا جميعا آمرين. والظاهر أنه قال بعضهم بذلك بدليل أنه لم يقع القتل ولقولهم أَوِ اطْرَحُوهُ فكان بعضهم أشار إلى القتل وبعضهم إلى الطرح ومهما صدر أمر من بعض القوم صح إسناده إليهم كقوله وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [البقرة: 72] وانتصب أَرْضاً على الظرف كالظروف المبهمة أي أرضا مجهولة بعيدة عن العمارة يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ تخلص محبته لكم سليمة عن التنازل فيها وكان ذكر الوجه تصويرا لإقباله عليهم بالكلية، ويجوز أن يراد بالوجه ذاته أو المراد يفرغ لكم من الشغل بيوسف وَتَكُونُوا مجزوم لأنه معطوف على جواب الأمر مِنْ بَعْدِهِ من بعد قتله أو إطراحه أو من بعد يوسف إذا قتل أو غرب قَوْماً صالِحِينَ تائبين إلى الله أو إلى أبيه لعذر تمهدونه مما جنيتم عليه، أو المراد صلاح دنياهم وانتظام أمورهم وتفرغهم لمهماتهم بعد يوسف بفراغ البال قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا وكان أحسنهم فيه رأيا وأدبا وهو الذي قال: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ [يوسف: 80] لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ لأن القتل عظيم ولا سيما قتل الأخ وخاصة إذا كان القاتل والمقتول من أولاد الأنبياء وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ سمى البئر جبا لأنها قطعت قطعا ولم يحصل فيها شيء سوى القطع للأرض، والغيابة غور البئر وما غاب منها عن عين الناظر وأظلم من أسفلها. ومن قرأ على الجمع فلأن للجب أقطارا ونواحي يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ أي الرفقة السائرة قال ابن عباس: أي المارة، والالتقاط تناول الشيء من الطريق ونحوه يستعمل في الإنسان وغيره ومنه اللقيط للمنبوذ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ إن لم يكن من فعل هذا الأمر بد فهذا هو الرأي. ثم إن يعقوب كان خائفا على يوسف من كيدهم وكان يظهر أمارات ذلك على صحائف أعماله وأقواله فلذلك قالوا: ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ ما وجد منا في بابه سوى النصح والإشفاق على الإطلاق أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ من قرأ بالجزم فمن الرتعة كالأمنة وهي الخصب والسعة، ومن قرأ بالكسر فعلى حذف الياء من يرتعي مستعارا من ارتعاء الإبل والماشية. واللعب
ترك ما ينفع إلى ما لا ينفع. فمن قرأ بالياء فلا إشكال لأن الصبي لا تكليف عليه، ومن قرأ بالنون قال كان لعبهم الاستباق والانتضال بدليل قوله إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ سمي لعبا لأنه في صورته، أو(4/68)
اللعب قد يطلق على استعمال المباحات لأجل انشراح الصدر
قال صلى الله عليه وسلم لجابر: فهلا تزوجت بكرا تلاعبها وتلاعبك.
قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي لام الابتداء للتأكيد أو لتخصيص المضارع بالحال وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ أصله الهمز ولهذا قال بعضهم: إنه مشتق من تذأبت الريح إذا أتت من كل جهة. قيل: كان أرضهم مذأبة فلذلك قال: أَخافُ. وقيل: رأى في النوم أن الذئب قد شد على يوسف وكان يحذره فلقنهم العذر كما جاء في أمثالهم البلاء موكل بالمنطق. قوله: إِنَّا إِذاً جواب للقسم ساد مسد جواب الشرط، حلفوا له أن كان ما خافه وحالهم أنهم رجال كفاة وحماة فهم إذ ذاك خاسرون عاجزون أو مستحقون للدعاء عليهم بالخسار، أو المراد إن لم نقدر على حفظ بعضنا فقد هلكت مواشينا وخسرناها. كان يعقوب قد اعتذر إليهم بأمرين: أحدهما أن ذهابهم به مما يحزنه لأنه كان لا يصبر عنه ساعة، والثاني خوفه عليه من الذئب فلم يجيبوا عن الأول لأنه هو الذي كان يغيظهم فلم يعبئوا بذلك الكلام فخصوا الجواب بالثاني، وهاهنا إضمار والتقدير فأذن لهم وأرسله معهم فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا عزموا على أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ قيل: هو بئر ببيت المقدس. وقيل: بأرض الأردن. وقيل: بين مصر ومدين.
وقيل: على ثلاثة فراسخ من منزل يعقوب. ثم إن كان جواب «لما» محذوفا ففي الآية إضمار آخر كما تقدم في الوقوف. قال السدي: إن يوسف عليه السلام لما برز مع إخوته أظهروا له العداوة وأخذوا يهينونه ويضربونه وكلما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلا بالإهانة حتى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء. فقال يهوذا أما أعطيتموني موثقا أن لا تقتلوه، فلما أرادوا إلقاءه في الجب تعلق بثيابهم فنزعوها من يده فتعلق بحائط البئر فربطوا يديه ونزعوا قميصه ليلطخوه بالدم ويحتالوا به على أبيهم.
فقال: يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به فقالوا له: ادع الشمس والقمر والأحد عشر كوكبا حتى ينقذوك ودلوه في البئر، فلما بلغ نصفها ألقوه ليموت وكان في البئر ماء فسقط فيه ثم أوى إلى صخرة فقام عليها وهو يبكي فنادوه فظن أنها رحمة أدركتهم فأجابهم فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه فمنعهم يهوذا وكان يهوذا يأتيه بالطعام.
وروي أنه عليه السلام لما ألقي في الجب قال: يا شاهدا غير غائب، ويا قريبا غير بعيد، ويا غالبا غير مغلوب، اجعل لي من أمري فرجا ومخرجا.
وحكي أن إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار جرد عن ثيابه فأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة فألبسه إياه فدفعه إبراهيم إلى إسحق وإسحق إلى يعقوب فجعله يعقوب في تميمة علقها في عنق يوسف فجاء جبرائيل فأخرجه وألبسه إياه
وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ في صغر السن كما أوحي إلى يحيى وعيسى. وقيل: كان إذ ذاك بالغا(4/69)
وعن الحسن كان له سبع عشر سنة لَتُنَبِّئَنَّهُمْ لتحدثن إخوتك بما فعلوا بك وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ أنك يوسف لعلو شأنك وبعد حالك عن أوهامهم ولطول العهد المنسي المغير للهيئات والأشكال.
يروى أنهم حين دخلوا عليه ممتارين فعرفهم وهم له منكرون دعا بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطن فقال: إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم ويقال له يوسف وكان يدنيه دونكم وإنكم انطلقتم به وألقيتموه في غيابة الجب وقلتم لأبيه أكله الذئب وبعتموه بثمن بخس.
ويجوز أن يراد وهم لا يشعرون أنا آنسناه بالوحى وأزلنا الوحشة عن قلبه فتتعلق الجملة بقوله وَأَوْحَيْنا روي أن امرأة حاكمت إلى شريح فبكت فقال له الشعبي: يا أبا أمية أما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة وما ينبغي لأحد أن يقضي إلا بما أمر أن يقضي به من السنة المرضية. عن مقاتل:
إنما جاءوا عشاء لئلا تظهر أمارة الخجل والكذب على وجوههم. ولما سمع صوتهم يعقوب فزع وقال: ما لكم يا بني هل أصابكم في غنمكم شيء؟ قالوا لا. قال: فما لكم وأين يوسف قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ أي نتسابق في العدو أو في الرمي وقيل ننتضل وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا أي بمصدق لشدة محبتك ليوسف، وفيه دليل لمن يزعم أن الإيمان هو التصديق وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ ولو كنا عندك من أهل الصدق والثقة فكيف وأنت سيء الظن بنا غير واثق بقولنا وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ نصب على الظرف أي فوق قميصه لا على الحال المتقدمة لأن حال المجرور لا تتقدم عليه بِدَمٍ كَذِبٍ ذي كذب أو دم هو الكذب بعينه مبالغة.
يروى أنهم ذبحوا سخلة ولطخوه بدمها، ويروى أن يعقوب لما سمع بخبر يوسف صاح بأعلى صوته وقال: أين القميص؟ فأخذه وألقاه على وجهه وبكى حتى خضب وجهه بدم القميص. وقال: تالله ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا أكل ابني ولم يمزق عليه قميصه.
وقيل: كان في قميص يوسف ثلاث آيات آية ليعقوب على كذبهم، وآية حين ألقاه البشير على وجهه فارتد بصيرا، وآية على براءة يوسف حين قدّ من دبر.
ولما تبين يعقوب بالآيات المذكورة أو بالوحي أنهم كاذبون قال على سبيل الإضراب بَلْ سَوَّلَتْ قال ابن عباس بل زينت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً في شأنه وهو تفعيل من السول الأمنية. قال الأزهري: وأصله مهموز غير أن العرب استثقلوا فيه الهمزة. وقال في الكشاف: سوّلت سهلت من السول بفتحتين وهو الاسترخاء والتنكير دليل التعظيم فَصَبْرٌ جَمِيلٌ لا بد من تقدير مبتدأ أو خبر أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أمثل.
وفي الحديث أنه الذي لا شكوى فيه أي إلى الخلق لقوله: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
[يوسف: 86]
وقيل: أي لا أعايشكم على كآبة الوجه بل أكون لكم كما كنت.
يحكى أنه(4/70)
سقط حاجبا يعقوب على عينيه فكان يرفعهما بعصابة فقيل له: ما هذا؟ فقال: طول الزمان وكثرة الأحزان. فأوحى الله تعالى إليه يا يعقوب أتشكوني؟ قال: يا رب خطيئة فاغفرها لي.
ثم بين أن الصبر على ما وصفوه من هلاك يوسف لا يمكن إلا بمعونة الله تعالى فقال: وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ فالقرينتان كقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة: 5] ويعلم من الآية أن الصبر إن كان لأجل الرضا بقضاء الله تعالى أو لاستغراقه في شهود نور الحق بحيث يمنعه من الاشتغال بالشكاية عن البلاء فذلك صبر جميل وإلا فلا. واعترض بأن هذا الصبر كان فيه إعانة الظالمين وإهمال لتخليص المظلوم من المحن والشدائد والترقية فكيف جاز صبر يعقوب حتى لم يبالغ في التفتيش والتنقير، ولو بالغ لظهر عليه الأمر لشهرته وعظم قدره؟ وأجيب بأن الله سبحانه لعله منعه عن الطلب تشديدا للمحنة عليه، أو لعله إن بالغ في البحث أقدموا على قتله، أو علم أن الله تعالى يصون يوسف وسيعظم أمره بالآخرة فلم يرد هتك ستر أولاده وإلقاءهم في ألسنة الناس كقول القائل:
فإذا رميت يصيبني سهمي فكان الأصوب الصبر والسكوت وتفويض الأمر بالكلية إلى الله تعالى. ثم شرع في حكاية خلاص يوسف فقال: وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ عن ابن عباس: قوم يسيرون من مدين إلى مصر وذلك بعد ثلاثة أيام من إلقاء يوسف في الجب فأخطئوا الطريق فنزلوا قريبا منه، وكان الجب في قفرة بعيدة عن العمران لم يكن إلا للرعاة. وقيل: كان ماؤه ملحا فعذب حين ألقي فيه يوسف. فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ رجلا يقال له مالك بن ذعر الخزاعي ليطلب لهم الماء. ومعنى الوارد الذي يرد الماء ليستقي للقوم فَأَدْلى دَلْوَهُ أرسلها في البئر.
قال الواحدي: فإذا نزعها وأخرجها قيل دلا يدلو. قالَ يا بُشْرى التقدير فظهر يوسف فقال الوارد: يا بشرى كأنه ينادي البشرى ويقول تعالي فهذا أوانك. ومتى قال الوارد هذا الكلام؟ قال جمع من المفسرين: حين رأى يوسف متعلقا بالحبل. وقال آخرون: لما دنا من أصحابه صاح بذلك يبشرهم به. قال السدي: كان للوارد صاحب يقال له بشرى فنادى يا بشرى كما يقال يا زيد. والأكثرون على أنها بمعنى البشارة. فقال أبو علي: يحتمل أن يكون منادى مضموما مثل يا رجل وأن يكون منصوبا مثل يا رجلا كأنه جعل ذلك النداء شائعا في جنس البشرى. ومن قرأ بالإضافة فنصبه ظاهر. والضمير في وَأَسَرُّوهُ إما عائد إلى الوارد وأصحابه أي أخفوه من الرفقة لئلا يدعوا المشاركة في الالتقاط، أو في الشراء إن قالوا اشتريناه. وطريق الإخفاء أنهم كتموه من الرفقة أو قالوا إن أهل الماء(4/71)
جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه لهم بمصر، وإما عائد الى إخوة يوسف بناء على ما روي عن ابن عباس أنهم قالوا للرفقة: هذا غلام لنا قد آبق فاشتروه منا، وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه، ولعل الوجه الأول أولى بدليل قوله بِضاعَةً وهي نصب على الحال أي أخفوه متاعا للتجارة. وأصل البضع القطع والبضاعة قطعة من المال للتجارة والله تعالى أعلم. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ فيه وعيد إما للوارد وأصحابه حيث استبضعوا ما ليس لهم أو لإخوة يوسف وذلك ظاهر، وفيه أن كيد الأعداء لا يدفع شيئا مما علم الله من حال المرء. والضمير في قوله: وَشَرَوْهُ إما أن يعود إلى الوارد وأصحابه أي باعوه بِثَمَنٍ قليل لأن الملتقط للشيء متهاون به وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ممن يرغب عما في يده.
قال أهل اللغة: زهد فيه معناه رغب عنه وزهد عنه معناه رغب فيه، وإما أن يعود إلى الإخوة والمعنى باعوه، أو إلى الرفقة والمعنى اشتروه، وهكذا الضمير في وَكانُوا إن عاد إلى الإخوة فقلة رغبتهم في يوسف ظاهرة وإلا لم يفعلوا به ما فعلوا، وإن عاد إلى الرفقة فذلك أنهم اعتقدوا أنه أبق فخافوا إعطاء الثمن الكثير. عن ابن عباس أن إخوته عادوا إلى الجب بعد ثلاثة أيام يتعرفون خبره، فلما لم يروه في الجب ورأوا آثار السيارة طلبوهم فلما رأوا يوسف قالوا: هذا عبد أبق منا فقالوا لهم: فبيعوه منا فباعوه منهم، ولعلهم عرفوا أنه ولد يعقوب فكرهوا اشتراءه خوفا من الله ومن ظهور تلك الواقعة إلا أنهم مع ذلك اشتروه بالآخرة بثمن بخس أي مبخوس ناقص عن القيمة أو ناقص العيار.
وقال ابن عباس: البخس هنا الحرام لأن ثمن الحر حرام دراهم لا دنانير معدودة قليلة تعد عدّا ولا توزن لأنهم كانوا لا يزنون إلا ما بلغ الأوقية وهي الأربعون. عن ابن عباس كانت عشرين درهما. وعن السدي اثنين وعشرين أخذ كل واحد من الإخوة درهمين إلا يهوذا فإنه لم يأخذ شيئا. ويروى أن إخوته اتبعوهم يقولون استوثقوا منه لا يأبق. والظاهر أن الضمير في فِيهِ عائد إلى يوسف، ويحتمل أن يعود إلى الثمن البخس أي أخذوا في ثمنه ما ليس يرغب فيه. قال النحويون: قوله: فِيهِ ليس من متعلقات الزاهدين لأن الألف واللام فيه موصول وزاهدين صلة، وكما لا تتقدم نفس الصلة فكذا ما هو متعلق به فلا يقال مثلا: وكانوا زيدا من الضاربين فهو بيان كأنه قيل في أي شيء زهدوا؟ فقيل:
زهدوا فيه والله تعالى أعلم.
التأويل:
تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ دلالات كتاب المحبوب إلى المحب للهداية إلى طريق الوصال ولهذا كانت أحسن القصص لأنها أتم قصص القرآن مناسبة ومشابهة بأحوال الإنسان إِذْ قالَ يُوسُفُ القلب لِأَبِيهِ يعقوب الروح إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً هن(4/72)
الحواس الخمس الظاهرة والخمس الباطنة أي المذكرة والحافظة والمتخيلة والمتوهمة والحس المشترك مع المفكرة، وبكل من هذه إضاءة أي أدراك للمعنى المناسب له وهم إخوة يوسف القلب لأنهم تولدوا بازدواج يعقوب الروح وزوج النفس والشمس والقمر الروح والنفس رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ وهذا مقام كمالية الإنسان أن يصير القلب سلطانا يسجد له الروح والنفس والحواس والقوى وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ على سائر المخلوقات وهذا كمال حسن يوسف وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ العلم اللدني المختص بالقلب وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بأن يتجلى لك ويستوي لك إذ القلب عرش حقيقي للرب وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ أي متولدات الروح من القوى والحواس كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ السر وَإِسْحاقَ الخفي وبهما يستحق القلب لقبول فيض التجلي، وهناك لله ألطاف خفية لا يتبع الإنسان فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل. آياتٌ لِلسَّائِلِينَ عن طريق الوصول إلى الله لَيُوسُفُ القلب وَأَخُوهُ بنيامين الحس المشترك فإن له اختصاصا بالقلب أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا لأن القلب عرض الروح ومحل استوائه عليه، والحس المشترك بمثابة الكرسي للعرش. اقْتُلُوا يُوسُفَ القلب بسكين الهوى وبسم الميل إلى الدنيا أَوِ اطْرَحُوهُ في أرض البشرية يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ يقبل الروح بوجهه إلى الحواس والقوى لتحصيل شهواتها وَتَكُونُوا بعد موت القلب قَوْماً صالِحِينَ للنعم الحيواني والنفساني. قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ هو يهوذا القوة المفكرة لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ القلب وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ القالب وسفل البشرية يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ سيارة الجواذب النفسانية. يَرْتَعْ في المراتع البهيمية وَيَلْعَبْ في ملاعب الدنيا وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من فتنة الدنيا وآفاتها لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ الشيطان إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ لأن خسران جميع أجزاء الإنسان في هلاك القلب وربحها في سلامة القلب وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فيه إشارة إلى أن من خصوصية تعلق الروح بالقالب أن يتولد منهما القلب العلوي والنفس السفلية والحواس والقوى فيحصل التجاذب.
فإن كانت الغلبة للروح سعد، وإن كانت للنفس شقي وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً أي في النصف الآخر من مدّة العمر نَسْتَبِقُ نتشاغل باللهو في أيام الشباب وَتَرَكْنا يُوسُفَ القلب مهملا معطلا عن الاستكمال فَأَكَلَهُ ذئب الشيطان. وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ أي قالب القلب بِدَمٍ كَذِبٍ هو آثار الملكات الردية، زعموا أنها قد سرت إلى القلب وأزالت نور الإيمان عنه بالكلية. قالَ يعقوب الروح بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ على ما قضى الله وقدر وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ من رين القلب وموته وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ هي هبوب نفحات ألطاف الحق فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ واردا من واردات الحق فَأَدْلى(4/73)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
دَلْوَهُ جذبة من جذبات الرحمن قالَ يا بُشْرى فيه إشارة إلى أن للجذبة بشارة في تعلقها بالقلب كما أن للقلب بشارة في خلاصه من جب الطبيعة كما قال تعالى: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] وَاللَّهُ عَلِيمٌ بحكمة البشارتين وبِما يَعْمَلُونَ من شرائه بِثَمَنٍ بَخْسٍ هو الحظوظ الفانية في أيام معدودة وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ لأنهم ما عرفوا قدره وإنما ميلهم إلى استجلاب المنافع الردية العاجلة والله أعلم.
[سورة يوسف (12) : الآيات 21 الى 35]
وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25)
قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30)
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
القراآت:
هَيْتَ لَكَ بضم التاء وفتح الهاء: ابن كثير هَيْتَ بكسر الهاء وفتح التاء: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان والرازي عن هشام مثله ولكن بالهمز، الحلواني عن هشام مثل هذا ولكن بضم التاء، النجاري عن هشام. الباقون هَيْتَ لَكَ بفتحتين(4/74)
وسكون الياء الْمُخْلَصِينَ بفتح اللام حيث كان: أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف رَبِّي أَحْسَنَ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن كثير مِنْ قُبُلٍ ومِنْ دُبُرٍ بالاختلاس: عباس قَدْ شَغَفَها مدغما: أبو عمرو وعلي وحمزة وخلف وهشام وَقالَتِ اخْرُجْ بكسر التاء: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم. الآخرون بالضم للإتباع. حاشا لله وما بعده في الحالين بالألف: أبو عمرو ربي السجن بفتح السين على أنه مصدر: يعقوب. الباقون: بالكسر.
الوقوف:
وَلَداً ط فِي الْأَرْضِ ز بناء على أن الواو مقحمة واللام متعلقة ب مَكَّنَّا أو هي عطف على محذوف قبله أي ليتمكن ولنعلمه، والأظهر أنها تتعلق بمحذوف بعده أي ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك التمكن الْأَحادِيثِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ وَعِلْماً ط الْمُحْسِنِينَ هـ هَيْتَ لَكَ ط الظَّالِمُونَ هـ هَمَّتْ بِهِ ز قد قيل بناء على أن قوله وَهَمَّ جواب «لولا» وليس بصحيح لأن جواب «لولا» لا يتقدم عليه وإنما جوابه محذوف وهو لحقق ما هم به كذا. قال السجاوندي: وأقول لو وقف للفرق بين الهمين لم يبعد وَهَمَّ بِها ج بُرْهانَ رَبِّهِ ط وَالْفَحْشاءَ ط الْمُخْلَصِينَ 5 لَدَى الْبابِ هـ أَلِيمٌ هـ عَنْ نَفْسِي لم يذكر الأئمة عليه وقفا ولعل الوقف عليه حسن كيلا يظن عطف وَشَهِدَ على راوَدَتْنِي أو على جملة هِيَ راوَدَتْنِي. مِنْ أَهْلِها ج على تقدير وقال إن كان مِنَ الْكاذِبِينَ هـ الصَّادِقِينَ هـ مِنْ كَيْدِكُنَّ ط عَظِيمٌ هـ عَنْ هذا سكتة للعدول عن مخاطب إلى مخاطب لِذَنْبِكِ ج لاحتمال التعليل الْخاطِئِينَ هـ عَنْ نَفْسِهِ ج لأن «قد» لتحسين الابتداء مع اتحاد القائل حُبًّا ط مُبِينٍ هـ عَلَيْهِنَّ ج بَشَراً ط كَرِيمٌ هـ فِيهِ ط فَاسْتَعْصَمَ ط لاحتمال القسم الصَّاغِرِينَ هـ إِلَيْهِ ج للشرط مع الواو الْجاهِلِينَ هـ كَيْدَهُنَّ ط الْعَلِيمُ هـ حِينٍ هـ.
التفسير:
قد ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين ذهب به إلى مصر وباعه فاشتراه العزيز- واسمه قطفير أو أطفير- ولم يكن ملكا ولكنه كان يلي خزائن مصر، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف فملك بعده قابوس بن مصعب ولم يؤمن بيوسف. روي أن العزيز اشتراه ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزلة ثلاث عشرة واستوزره بعد ذلك ريان بن الوليد ثم آتاه الله الحكمة والعلم ابن ثلاث وثلاثين وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى، عاش أربعمائة سنة دليله قوله: وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ(4/75)
بِالْبَيِّناتِ [غافر: 34] وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف. والمعنى ولقد جاء آباءكم. وقيل: اشتراه العزيز بعشرين دينارا وزوجي نعل وثوبين أبيضين. وقيل: أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا وورقا وحريرا فابتاعه قطفير بذلك المبلغ. ومعنى أَكْرِمِي مَثْواهُ اجعلي منزله ومقامه عندنا كريما أي حسنا مرضيا.
وفي هذه العبارة دلالة على أنه عظم شأن يوسف كما يقال سلام على المجلس العالي.
وقال في الكشاف: المراد تعهديه بحسن الملكة حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا. ويقال للرجل: كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل الرجل به من إنسان رجل أو امرأة يراد هل تطيب نفسك بثوائك عنده؟ واللام في لِامْرَأَتِهِ تتعلق ب قالَ. ثم بين الغرض من الإكرام فقال: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا بكفاية بعض مهماتنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً لأن قطفير كان لا يولد له ولد وكان حصورا. وعن ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته أكرمي مثواه فتفرس في يوسف ما تفرس، والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها يا أبت استأجره، وأبو بكر حين استخلف عمر. وروي أنه سأله عن نفسه فأخبره بنسبه فعرفه. ثم قال: وَكَذلِكَ أي كما أنعمنا عليه بالإنجاء من الجب وعطف قلب العزيز عليه مَكَّنَّا لَهُ في أرض مصر حتى يتصرف فيها بالأمر والنهي وَلِنُعَلِّمَهُ قد مر في الوقوف بيان متعلقه وفي أوائل السورة معنى تأويل الأحاديث. والمراد من الآية حكاية إعلاء شأن يوسف في الكمالات الحقيقية وأصولها القدرة، وأشار إليها بقوله: مَكَّنَّا والعلم وأشار إليه بقوله: وَلِنُعَلِّمَهُ ولا ريب أن ابتداء ذلك كان حين ألقي في الجب كما قال وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ وكان يرتقي في ذلك إلى أن بلغ حد الكمال وصار مستعدا للدعوة إلى الدين الحق وللإرسال إلى الخلق وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ أي على أمر نفسه لا منازع له ولا مدافع، أو على أمر يوسف لم يكله إلى غيره ولم ينجح كيد إخوته فيه ولم يكن إلا ما أراد الله ودبر. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن الأمر كله بيد الله. ثم إنه سبحانه بين وقت استكمال أمره فقال: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ قيل في الأشد ثماني عشرة سنة وعشرون، وثلاث وثلاثون وأربعون إلى ثنتين وستين آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً فالحكم الحكمة العملية والعلم الحكمة النظرية، وإنما قدمت العملية لأن أصحاب الرياضات والمجاهدات يصلون أوّلا إلى الحكمة العملية ثم إلى العلم اللدني بخلاف أصحاب الأفكار والأنظار، والأول هو طريقة يوسف لأنه صبر على البلاء والمحن ففتح عليه أبواب المكاشفات، وقيل:
الحكم النبوّة لأن النبي حاكم على الخلق والعلم علم الدين. وقيل: الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على النفس الأمارة قاهرة لها، فحينئذ تفيض الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس. والتحقيق في هذا الباب أن استكمال النفس(4/76)
الناطقة إنما يتيسر بواسطة استعمال الآلات الجسدانية، وفي أوان الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها فتضعف تلك الآلات، فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت فصارت الآلات صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية في تحصيل المعارف واكتساب الحقائق. فقوله وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية، وقوله: آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً إشارة إلى استكمال النفس الناطقة وقوة لمعان الأضواء القدسية فيها. قال في الكشاف: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ
فيه تنبيه على أنه كان محسنا في عمله متقيا في عنفوان أمره، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه. واعترض عليه بأن النبوة غير مكتسبة. والحق أن الكل بفضل الله ورحمته ولكن للوسائط والمعدات مدخل عظيم في كل ما يصل إلى الإنسان من الفيوض والآثار، فالأنوار السابقة تصير سببا للأضواء اللاحقة وهلم جرا. عن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.
ثم إن يوسف كان في غاية الحسن والجمال، فلما شب طمعت فيه امرأة العزيز وذلك قوله: وَراوَدَتْهُ والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب، ضمنت معنى الخداع أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه حتى يزله عن الشيء الذي يريد أن يخرجه من يده، وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال: راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حارل كل منهما الوطء والجماع، وإنما قال: الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها ولم يقل زليخا قصدا إلى زيادة التقرير مع استهجان اسم المرأة وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ لا ريب أن التشديد يدل على التكثير لأن غلق متعد كنقيضه وهو فتح. والمفسرون رووا أن الأبواب كانت سبعة وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ هذه اللغة في جميع القراآت اسم فعل بمعنى هلم إلا عند من قرأ هَيْتَ لَكَ بهاء مكسورة بعدها همزة ساكنة ثم تاء مضمومة فإنها بمعنى تهيأت لك.
يقال: هاء يهيء مثل جاء يجيء بمعنى تهيأ. قال النحويون: هيت جاء بالحركات الثلاثة:
فالفتح للخفة، والكسر لالتقاء الساكنين، والضم تشبيها بحيث. وإذا بين باللام نحو «هيت لك» فهي صوت قائم مقام المصدر كأف له أي لك أقول هذا. وإذا لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر قائم مقام الفعل ويكون اسم فعل، ومعناه إما خبر أي تهيأت وإما أمر أي أقبل. وقد روى الواحدي بإسناده عن أبي زيد قالَتْ هَيْتَ لَكَ بالعبرانية هيتالج أي تعال عربه القرآن. وقال الفراء: إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها.
وقال ابن الأنباري: هذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران كما اتفقت لغة العرب والروم في القسطاس، ولغة العرب والفرس في السجيل، ولغة العرب والترك في الغساق، ولغة(4/77)
العرب والحبشة في ناشئة الليل. ثم إن المرأة لما ذكرت هذا الكلام أجاب يوسف عليه السلام بثلاثة أجوبة: الأول قالَ مَعاذَ اللَّهِ وهو من المصادر التي لا يجوز إظهار فعلها أي أعوذ بالله معاذا، وفيه إشارة إلى أن حق الله تعالى يمنع عن هذا العمل. الثاني إِنَّهُ والضمير للشأن رَبِّي أي سيدي ومالكي بزعمهم واعتقادهم وإلا فيوسف كان عالما بأنه حر والحر لا يصير عبدا بالبيع، أو المراد التربية أي الذي رباني أَحْسَنَ مَثْوايَ حين قال أَكْرِمِي مَثْواهُ وفي هذا إشارة إلى أن حق الخلق أيضا يمنع عن ذلك العمل. وقيل:
أراد بقوله: رَبِّي الله تعالى لأنه مسبب الأسباب. الثالث قوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الذين يجازون الحسن بالسيء، أو أراد الذين يزنون لأنهم ظلموا أنفسهم. وفيه إشارة إلى الدليل العقلي فإن صون النفس عن الضرر واجب وهذه اللذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة، فعلى العاقل أن يحترز عنها فما أحسن نسق هذه الأجوبة.
قوله سبحانه وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لا شك أن الهم لغة هو القصد والعزم، لكن العلماء اختلفوا فقال جم غفير من المفسرين الظاهريين: إن تلك الهمة بلغت حد المخالطة
فقال أبو جعفر الباقر رضي الله عنه بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنها طمعت فيه وإنه طمع فيها حتى هم أن يحل التكة.
وعن ابن عباس أنه حل الهميان أي السربال وجلس منها مجلس المجامع. وعنه أيضا أنها استلقت له وقعد هو بين شعبها الأربع.
وروي أن يوسف حين قال: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ قال له جبرائيل:
ولا حين هممت يا يوسف؟ فقال يوسف عند ذلك وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ
وقال آخرون: إن الهمة ما كانت إلا ميلة النفس ولم يخرج شيء منها من القوة إلى الفعل ولكن كانت داعية الطبيعة وداعية العقل والحكمة متجاذبتين. أما الأولون فقد فسروا برهان ربه بأن المرأة قامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في زاوية من زوايا البيت فسترته بالأثواب فقال يوسف: ولم؟ فقالت: أستحيي من إلهي هذا أن يراني على المعصية. فقال يوسف: تستحيي من صنم لا يسمع ولا يعقل ولا أستحيي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت، فو الله لا أفعل ذلك أبدا. وعن ابن عباس أنه مثل له يعقوب عاضا فوه على أصابعه قائلا: أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء؟ وإلى هذا ذهب عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين. وقال سعيد بن جبير: تمثل له يعقوب فضربه في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقيل: صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنى قعد لا ريش له. وقيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ(4/78)
[الإنفطار: 11، 12] فلم ينصرف ثم رأى فيها وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا [الإسراء: 32] فلم ينته ثم رأى فيها وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ [البقرة:
281] فلم ينجع فيه فقال الله تعالى لجبرائيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة. فانحط لجبرائيل وهو يقول: يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في ديوان زمرة الأنبياء؟
وقيل: رأى تمثال العزيز. وأما الآخرون فما سلموا شيئا من هذه الروايات. وعلى تقدير التسليم فتوارد الدلائل على المطلوب الواحد غير بعيد وكذا ترادف الزواجر فهو عليه السلام كان ممتنعا عن ذلك العمل بحسب النظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم وبحسب ما أعطاه الله من النفس القدسية المطهرة النبوية، لكنه انضاف إلى ذلك البرهان هذه الزواجر تكميلا للألطاف وتتميما للعناية. قالوا: ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم إذا لقي ما لقي به نبي الله مما ذكروا لما بقي منه عرق ينبض وعضو يتحرك فكيف احتاج النبي إلى جميع هذه الزواجر والمؤكدات حتى ينتهي عن إمضاء العزمة. قالوا: والهم لا يتعلق بالأعيان وإنما يتعلق بالمعاني، فأنتم تضمرون أنه قد هم بمخالطتها ونحن نقول هم بدفعها لولا أن عرف برهان ربه وهو أن الشاهد سيشهد له أنه كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلعله لو اشتغل بأن يدفعها أمكن أن يتمزق قميصه من قبل فكانت الشهادة عليه لا له فلذلك ولى هاربا عنها. وفي قوله:
وَهَمَّ بِها فائدة أخرى هي أن ترك المخالطة بها ما كان لعدم رغبته في النساء وعوز قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، وكيف يظن بيوسف معصية وقد ادعى البراءة بقوله: هِيَ راوَدَتْنِي وبقوله: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ والمرأة اعترفت بذلك حين قالت للنسوة وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وقالت الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ وزوج المرأة صدّقه فقال: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وشهد له شاهد من أهلها كما يجيء وشهد له الله تعالى فقال: كَذلِكَ أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو الأمر مثل ذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ خيانة السيد وَالْفَحْشاءَ الزنا أو السوء مقدمات الجماع من القبلة والنظر بشهوة ونحو ذلك. ثم أكد الشهادة بقوله: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا والإضافة للتشريف كقوله: وَعِبادُ الرَّحْمنِ [الفرقان:
63] ثم زاد في التأكيد فوصفه بالمخلصين أي هو من جملة من اتصف في طاعاته بصفة الإخلاص، أو من جملة من أخلصه الله تعالى بناء على قراءتي فتح اللام وكسرها.
ويحتمل أن يكون «من» للابتداء لا للتبعيض أي هو ناشىء منهم لأنه من ذرية إبراهيم عليه السلام. فكل هذه الدلائل تدل على عصمة يوسف عليه السلام وأنه بريء من الذنب، ولو كان قد وجدت منه زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما في آدم وذي النون(4/79)
وغيرهما ولما استحق هذا الثناء والله أعلم بحقائق الأمور.
وقوله: وَاسْتَبَقَا الْبابَ أي تسابقا إليه على حذف الجار وإيصال الفعل مثل وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ [الأعراف: 155] أو على تضمين استبقا معنى ابتدرا. وإنما وحد الباب لأنه أراد الداني لا جميع الأبواب التي غلقتها. روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى حرج من الأبواب وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ لأنها اجتذبته من خلفه فانقد أي انشق طولا وَأَلْفَيا سَيِّدَها صادفا بعلها وهو قطفير. وإنما لم يقل سيدهما لأن ملك يوسف لم يكن ملكا في الحقيقة. روي أنهما ألفياه مقبلا يريد أن يدخل وقيل جالسا مع ابن عم للمرأة. ثم إنه كان للسائل أن يسأل فما قالت المرأة إذ ذاك؟
فقيل: قالت: ما جَزاءُ هي استفهامية أو نافية معناه أي شيء جزاؤه، أو ليس جزاؤه إلا السجن أو العذاب الأليم. وربما فسر العذاب الأليم بالضرب بالسياط جمعت بين غرضين تنزيه ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف وتخويفه طمعا في أن يواتيها خوفا وإن لم يواتها طوعا. ثم إنها لحبها يوسف راعت دقائق المحبة فذكرت السجن أوّلا ثم العذاب لأن المحب لا يريد ألم المحبوب ما أمكن. وأيضا لم تصرح بذكر يوسف وأنه أراد بها سوءا بل قصدت العموم ليندرج يوسف فيه. وفي قولها: إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ إشعار بأن ذلك السجن غير دائم بخلاف قول فرعون لموسى لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء: 29] ففيه إشعار بالتأبيد قالَ يوسف هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وإنما صرح بذلك لأنها عرضته للسجن والعذاب فوجب عليه الدفع عن نفسه ولولا ذلك لكتم عليها.
قال سبحانه وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قال جمع من المفسرين: الشاهد ابن عم المرأة وكان رجلا حكيما، اتفق في ذلك الوقت أنه كان مع العزيز فقال: قد سمعت الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنا لا ندري أيكما قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدام فأنت صادقة والرجل كاذب، وإن كان من خلف فالرجل صادق وأنت كاذبة، فلما نظروا إلى القميص ورأوا الشق من خلفه قال ابن عمها: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ وعن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك أن الشاهد ابن خال لها وكان صبيا في المهد
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم» «1»
وعن مجاهد: الشاهد هو القميص المشقوق من خلف وضعف بأن القميص لا يوصف بالشهادة ولا بكونه من الأهل، واعترض على القول الأول
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (2/ 307) بدون «شاهد يوسف» .(4/80)
بأن العلامة المذكورة لا تدل قطعا على براءة يوسف لاحتمال أن الرجل قصد المرأة وهي قد غضبت عليه ففر فعدت خلفه كي تدركه وتضربه ضربا وجميعا. وأجيب بأن هناك أمارات أخر منها أن يوسف كان عبدا لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد، ومنها قرينة الحال كتزين المرأة فوق المعتاد وما شوهد من أحوال يوسف في مدة إقامته بمنزلهم. واعتراض على القول الثاني بأن شهادة الصبي أمر خارق للعادة فتكون حجة قطعية فلم يبق للاستدلال بحال القميص ولا لكونه من أهلها فائدة. وأيضا لفظ شاهِدٌ لا يقع في العرف إلا على من تقدمت معرفته بالواقعة. والجواب أن تعيين الطريق في الإخبار والإعلام غير لازم، وكون الشاهد من أهلها أوجب للحجة عليها وألزم لها والشاهد هاهنا مجاز ووجه حسنه أنه أدى مؤدى الشاهد حيث ثبت به قول يوسف وبطل قولها. قال في الكشاف: التنكير في «قبل» و «دبر» معناه من جهة يقال لها قبل ومن جهة يقال لها دبر. أما الضمير في قوله: فَلَمَّا رَأى وفي قوله: قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ فقيل:
إنه للشاهد الذي هو ابن عمها كما ذكرنا أي إن قولك وهو ما جزاء من أراد بأهلك سوءا، أو إن هذا الأمر وهو الذي أفضى إلى هذه الريبة من عملكن إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ قال بعض العلماء: أنا أخاف النساء أكثر مما أخاف الشيطان لأنه تعالى يقول: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً [النساء: 76] وقال للنساء: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وأقول: لا شك أن القرآن كلام الله إلا أن هذا حكاية قول الشاهد فلا يثبت به ما ادعاه ذلك العالم ولو سلم فالمراد إن كيد الشيطان ضعيف بالنسبة إلى ما يريد الله تعالى إمضاءه وتنفيذه، وكيد النساء عظيم بالنسبة إلى كيد الرجال فإنهم يغلبنهم ويسلبن عقولهم إذا عرضن أنفسهن عليهم ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «النساء حبائل الشيطان» .
ثم قال الشاهد: يُوسُفُ أي يا يوسف فحذف حرف النداء أَعْرِضْ عَنْ هذا الأمر واكتمه ولا تحدّث به وَاسْتَغْفِرِي يا امرأة لِذَنْبِكِ والاستغفار إما من الزوج أو من الله تعالى لأنهم كانوا يثبتون الإله الأعظم ويجعلون الأصنام شفعاء ولهذا قال يوسف لصاحبه في السجن أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف: 39] إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ من المتعمدين للذنب. يقال: خطىء إذا أذنب متعمدا والتذكير للتغليب. وقيل: الضمير في رَأى وفي قالَ لزوج المرأة وأنه كان قليل الغيرة فلذلك اكتفى منها بالاستغفار قاله أبو بكر الأصم. وَقالَ نِسْوَةٌ هو اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي ولذلك حسن حذف التاء من فعله وقد تضم نونها. قال الكلبي:
هن أربع في مدينة مصر: امرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب الدواب وامرأة صاحب(4/81)
السجن، وزاد مقاتل امرأة الحاجب، والفتى الغلام الشاب والفتاة الجارية قَدْ شَغَفَها أي خرق حبه شغاف قلبها والشغاف حجاب القلب، وقيل: جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب وحُبًّا نصب على التمييز وحقيقة شغفه أصاب شغافه كما يقال: كبده إذا أصاب كبده وكذا قياس سائر الأعضاء. وقرىء بالعين المهملة أي أحرقها مع تلذذ من شغف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران. وقال ابن الأنباري: هذا من الشغف وهو رؤوس الجبال أي ارتفع محبته إلى أعلى المواضع من قلبها. والضلال المبين الخطأ عن طريق الصواب.
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ اغتيابهن وسوء قالتهن فيها، وإنما حسن التعبير عن الاغتياب بالمكر لاشتراكهما في الإخفاء. وقيل: التمست منهن كتمان سرها فأفشينه فسمي مكرا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ تدعوهن. وقيل: أردن بذلك أن يتوسلن إلى رؤية يوسف عليه السلام فلهذا سمي مكرا. وقيل: كن أربعين. وَأَعْتَدَتْ وهيأت لَهُنَّ مُتَّكَأً موضع اتكاء وأصله موتكئا لأنه من توكأت أبدلت الواو تاء ثم أدغمت، والمراد هيأت لهن نمارق يتكئن عليها كعادة المترفهات كأنها قصدت بذلك تهويل يوسف عليه السلام من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهن السكاكين توهمه أنهن يثبن عليه. وقيل: المتكأ مجلس الطعام لأنهن كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث على هيئة المتنعمات، ولذلك نهى أن يأكل الرجل متكئا. وآتتهن السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن بها. وقيل:
أراد بالمتكأ الطعام على سبيل الكناية لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له متكأ. وقال مجاهد: هو طعام يحتاج الى أن يقطع بالسكين لأن القاطع متكىء على المقطوع بآلة القطع وقرىء متكا مضموم الميم ساكن التاء مقصورا وهو الأترج فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ أعظمنه وهبن ذلك الجمال، وكان أحسن خلق الله إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان أملح. قيل: كان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه ربه وما كان أحد يستطيع وصفه ويرى تلألؤ وجهه على الجدران وقد ورث الجمال من جدته سارّة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء فقلت لجبرائيل: من هذا؟ فقال: يوسف. فقيل: يا رسول الله كيف رأيته؟ قال: كالقمر ليلة البدر»
وقال الأزهري: أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت.
يقال: أكبرت المرأة أي دخلت في الكبر بالحيض، ووجه حيضهن حينئذ بأن المرأة إذا فزعت أسقطت ولدها فحاضت، فالمراد حضن ودهشن. وقيل: أكبرنه لما رأين عليه من نور النبوة وسيماء الرسالة وآثار الخضوع والإخبات والأخلاق الفاضلة الملكية كعدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح فلذلك وقعت الهيبة والرعب في قلوبهن وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ أي جرحنها بأن لم يعرفن الفاكهة من اليد، أو بأن لم يفرقوا بين الجانب الحاد من السكين وبين مقابله فوقع الطرف الحاد في أيديهن وكفهن وحصل الاعتماد على ذلك(4/82)
الطرف فجرح الكف وهذا القول شديد الملاءمة لقولهن حاشَ لِلَّهِ أي ننزهه عما يشينه من خصلة ذميمة إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ في السيرة والعفة والطهارة.
وأما قول زليخا: فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ فإنما ينطبق على هذا التأويل من حيث إن الصورة الحسنة مع العفة الكاملة توجب حصول اليأس من الوصال وحصول الغرض المجازي وذلك يستتبع فرط الحيرة وزيادة العشق. وعلى القولين الأولين فالمعنى تنزيه الله من صفات العجز والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله، كما أن قولهن حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ تعجب من قدرته على خلق عفيف مثله، قال صاحب الكشاف: «حاشا» كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء واللام في لِلَّهِ لبيان من يبرأ وينزه وهي حرف من حروف الجر وضع موضع التنزيه والبراءة. وقال أبو البقاء: الجمهور على أنه هاهنا فعل لدخوله على حرف الجر وفاعله مضمر، وحذف الألف من آخره للتخفيف وكثرة دوره على الألسنة تقديره حاشى يوسف أي بعد عن المعصية لخشية الله وصار في حاشية أي ناحية. ما هذا بَشَراً إعمال ما عمل ليس لغة حجازية إِنْ هذا أي ما هذا الشخص إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ استدل بعضهم بالآية على أفضلية الملك كما مر في أول سورة البقرة قالوا: وإنما قلن ذلك لما ركز في العقول أن لا أحسن من صورة الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من صورة الشيطان. واعترض عليه بأنه لا مشابهة بين صورة الإنسان وصورة الملك. وأجيب بعد التسليم بتغيير المدعي وهو أنهن أردن المشابهة في الأخلاق الباطنة وبها يحصل المطلوب، وزيف بأن قول النساء لا يصلح للحجة، وفي الآية دلالة على أن اللوم انتفى لأنه لحقهن بنظرة واحدة يلحقها في مدة طويلة وأنظار كثيرة فلذلك قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وسئل هاهنا إن يوسف كان حاضرا فلم أشارت بعبارة البعيد؟
وأجاب ابن الأنباري بأنها أشارت إليه بعد انصرافه من المجلس وهذا شيء يتعلق بالنقل.
وأما علماء البيان فإنهم بنوا الأمر على أن يوسف حاضر وأجابوا بأنهم لم تقل فهذا رفعا لمنزلته في الحسن واستحقاق أن يحب ويفتتن به واستبعادا لمحله، أو هو إشارة إلى المعنيّ بقولهن في المدينة عشقت عبدها الكنعاني كأنها قالت هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكن ثم لمتنني فيه يعني أنكن لم تصوّرنه قبل ذلك حق التصوير وإلا عذرتنني في الافتتان به. ولما أظهرت عذرها عند النسوة صرحت بحقيقة الحال فقالت:
وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ قال السدي: أي بعد حل السراويل. والذين يثبتون عصمة الأنبياء قالوا: إن فَاسْتَعْصَمَ بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحرز الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها، وفيه شهادة من المرأة على أن يوسف ما(4/83)
صدر عنه أمر بخلاف الشرع والعقل أصلا. وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ قال في الكشاف:
معناه الذي آمر به فحذف الجار كما في أمرتك الخير، أو ما مصدرية والضمير ليوسف أي أمري إياه أي موجب أمري ومقتضاه وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ هي نون التأكيد المخففة ولهذا تكتب بالألف لأن الوقف عليها بالألف. والصغار الذل والهوان، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس جليل القدر مثل يوسف.
ثم إنه اجتمع على يوسف في هذه الحالة أنواع من المحن والفتن منها: أن زليخا كانت في غاية الحسن، ومنها أنها كانت ذات مال وثروة وقد عزمت أن تبذل الكل ليوسف على تقدير أن يساعدها، ومنها أن النسوة اجتمعن عليه مرغبات ومخوفات، ومنها أنها كانت ذات قدرة ومكنة وكان خائفا من شرها ومن إقدامها على قتله، ولا ريب أن نطاق عصمة البشرية يضيق عن بعض هذه الأسباب فضلا عن كلها وعن أزيد منها ولهذا لجأ يوسف عليه السلام إلى الله تعالى قائلا: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لأن السجن وإن كان مشقة فهي زائلة والذي يدعونه إليه وإن كان لذة إلا أنها عاجلة مستعقبة لخزي الدنيا وعذاب الآخرة وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ بترجيح داعية الخير وعزوف النفس أو بمزيد الألطاف والعصمة أَصْبُ إِلَيْهِنَّ والصبوة الميل إلى الهوى ومنها الصبا لأن النفوس تصبو إلى روحها. وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ الذين لا يعملون بما يعلمون ولا يكون في علمهم فائدة، أو من السفهاء لأن الحكيم لا يفعل القبيح. ولما كان في قوله:
وَإِلَّا تَصْرِفْ معنى الدعاء وطلب الصرف قال سبحانه: فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ ثم إن المرأة أخذت في الاحتيال وقالت لزوجها إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس ويقول لهم في المجالس إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى ينسى الناس هذا الحديث فذلك قوله تعالى: ثُمَّ بَدا أي ظهر لَهُمْ للعزيز ومن يليه أو له وحده والجمع على عادتهم في تعظيم الأشراف مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الدالة على براءة يوسف من شهادة الصبي واعتراف المرأة وشهادة النسوة له بالسيرة الملكية والعفة. وفاعل بدا مضمر أي ظهر لهم رأي أو سجنه وإنما حذف لدلالة ما يفسره عليه وهو لَيَسْجُنُنَّهُ والقسم محذوف حَتَّى حِينٍ إلى زمان ممتد. عن ابن عباس: إلى زمان انقطاع القالة وما شاع في المدينة. وعن الحسن: خمس سنين. وعن غيره سبع سنين. وعن مقاتل: أنه حبس اثنتي عشرة سنة.
التأويل:
لما أخرجوا يوسف القلب من جب الطبيعة ذهبوا به إلى مصر الشريعة(4/84)
فاشتراه عزيز مصرها وهو الدليل المربي على جادة الطريقة ليوصله إلى عالم الحقيقة.
ف قالَ لِامْرَأَتِهِ وهي الدنيا أَكْرِمِي مَثْواهُ اخدميه بقدر الحاجة الضرورية عَسى أَنْ يَنْفَعَنا حتى يكون صاحب الشريعة فيتصرف في الدنيا باكسير النبوة فتصير الشريعة حقيقة والدنيا آخرة أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً نربيه بلبان ثدي الشريعة والطريقة إلى أن يرى الفطام عن الدنيا الدنية وَكَذلِكَ مَكَّنَّا يشير إلى أن تمكين يوسف القلب في أرض البشرية إنما هو لتعلم العلم اللدني، لأن الثمرة إنما تظهر على الشجرة إذا كان أصل الشجرة راسخا في الأرض وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أمر القلب في توجيهه إلى محبة الله وطلبه، أو على أمر القالب بجذبات العناية وإقامته على الصراط المستقيم فتكون تصرفاته بالله ولله وفي الله وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنهم خلقوا مستعدّين لهذا الكمال وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي كما أفضنا على القلب ما هو مستحقه من الحكمة والعلم كذلك نجزي الأعضاء الرئيسية والجوارح إذا أحسنوا الأعمال والأخلاق على قاعدة الشريعة والطريقة خير الجزاء، وهو التبليغ إلى مقام الحقيقة. وَراوَدَتْهُ فيه إشارة إلى أن يوسف القلب وإن استغرق في بحر صفات الألوهية لا ينقطع عنه تصرفات زليخا الدنيا ما دام هو في بيتها أي في الجسد الدنياوي وَغَلَّقَتِ أبواب أركان الشريعة وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ أقبل إلي وأعرض عن الحق قالَ أي القلب الفاني عن نفسه الباقي ببقاء ربه مَعاذَ اللَّهِ عما سواه. أَحْسَنَ مَثْوايَ في عالم الحقيقة إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الذين يقبلون على الدنيا ويعرضون عن المولى وَهَمَّ بِها فوق الحاجة الضرورية لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ وهو نور خصلة القناعة التي هي من نتائج نظر العناية لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ الحرص على الدنيا وَالْفَحْشاءَ بصرف حب الدنيا فيه إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ الذين خلصوا من سجن الوجود المجازي ووصلوا إلى الوجود الحقيقي. وَاسْتَبَقَا باب الموت الاختياري وَقَدَّتْ قميص بشريته مِنْ دُبُرٍ بيد شهواتها قبل خروجه من الباب وَأَلْفَيا سَيِّدَها وهو صاحب ولاية تربية يوسف القلب وزوج زليخا الدنيا لأنه يتصرف في الدنيا كما ينبغي تصرف الرجل في المرأة وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها هو حاكم العقل الغريزي دون العقل المجرد الذي هو ليس من الدنيا وأهلها في شيء، فبين حاكم العقل أن يد تصرف زليخا الدنيا لا تصل إلى يوسف القلب إلا بواسطة قميص بشريته إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ وهو قطع طريق الوصول إلى الله لعظيم على القلب السليم. يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا فإن ذكر الدنيا يورث محبتها وحب الدنيا رأس كل خطيئة. وَقالَ نِسْوَةٌ هي الصفات البشرية من البهيمية والسبعية والشيطانية في مدينة الجسد تُراوِدُ فَتاها لأن الرب إذا تجلى للعبد خضع له كل شيء
«يا دنيا اخدمي من خدمني»
وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً أطعمة مناسبة لكل(4/85)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
منها وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً هو سكين الذكر وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ إشارة إلى غلبات أحوال القلب على الصفات البشرية وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ بالذكر عما سوى الله. ثُمَّ بَدا لَهُمْ أي ظهر لمربي القلب بلبان الشريعة وهو شيخ الطريقة ومن يراعي صلاح حال القلب مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا آثار عناية الله وعصمة القلب من الالتفات إلى ما سواه لَيَسْجُنُنَّهُ في سجن الشرع إلى حين قطع تعلقه عن الجسد بالموت نظيره وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر: 99] وإذا كان النبي مع نهاية كماله مأمورا بأن يكون مسجونا في هذا السجن فكيف بمن دونه والله أعلم.
[سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 53]
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45)
يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)
قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)(4/86)
القراآت
إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ بالفتح في الحرفين: أبو جعفر ونافع، وأبو عمرو وافق ابن كثير في أَرانِي كليهما. الباقون: بسكون ياء المتكلم في الكل. نَبِّئْنا بغير همزة: أوقية والأعشى وحمزة في الوقف. تُرْزَقانِهِ مختلسة: الحلواني عن قالون نَبَّأْتُكُما مثل أَنْشَأْنا رَبِّي إِنِّي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو آبائِي بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر إني أرى بالفتح: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو رؤياي بالإمالة: عليّ غير قتيبة. أبو عمرو بالإمالة اللطيفة. والقول في ترك الهمزة مثل ما تقدم للرؤيا ممالة: عليّ، وأبو عمرو بالإمالة اللطيفة. لَعَلِّي أَرْجِعُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ابن مجاهد عن ابن ذكوان وأبو عمرو دَأَباً بفتح الهمزة: حفص. الآخرون بالسكون تعصرون بتاء الخطاب: حمزة وعليّ وخلف والمفضل. الباقون على الغيبة. ما بالُ النِّسْوَةِ بضم النون: الشموني والبرجمي نَفْسِي رَحِمَ رَبِّي بالفتح فيهما: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو.
الوقوف:
فَتَيانِ ط خَمْراً ج فصلا بين القضيتين مع اتفاق الجملتين الطَّيْرُ مِنْهُ ط للعدول عن قول آخر منهما إلى قولهما المضمر أي فقالا. نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ ج لاحتمال التعليل. الْمُحْسِنِينَ هـ أَنْ يَأْتِيَكُما ط رَبِّي ط كافِرُونَ 5 وَيَعْقُوبَ ط مِنْ شَيْءٍ ط لا يَشْكُرُونَ هـ الْقَهَّارُ هـ ط مِنْ سُلْطانٍ ط إِلَّا لِلَّهِ ط إِلَّا إِيَّاهُ ط لا يَعْلَمُونَ هـ خَمْراً ج فصلا بين الجوابين مع اتفاق الجملتين مِنْ رَأْسِهِ ط لأن قوله: قُضِيَ جواب قولهما كذبنا وما رأينا رؤيا تَسْتَفْتِيانِ ط لاستئناف حكاية أخرى عِنْدَ رَبِّكَ ز سِنِينَ هـ ط يابِساتٍ ط تَعْبُرُونَ 5 أَحْلامٍ ج للنفي مع العطف بِعالِمِينَ هـ فَأَرْسِلُونِ هـ يابِساتٍ لا لتعلق «لعلى» يَعْلَمُونَ هـ دَأَباً ج للشرط مع الفاء تَأْكُلُونَ هـ تُحْصِنُونَ هـ يَعْصِرُونَ هـ ائْتُونِي بِهِ ج أَيْدِيَهُنَّ ط عَلِيمٌ هـ عَنْ نَفْسِهِ ط مِنْ سُوءٍ ط الْحَقُّ ز(4/87)
لانقطاع النظم واتصال المعنى واتحاد القائل. الصَّادِقِينَ هـ الْخائِنِينَ هـ نَفْسِي ج للحذف أي عن السوء رَبِّي ط رَحِيمٌ هـ.
التفسير:
تقدير الكلام فحبسوه وَدَخَلَ مَعَهُ أي مصاحبا له في الدخول السِّجْنَ فَتَيانِ غلامان للملك الأكبر خبازه وشرابيه نقلا عن أئمة التفسير أو استدلالا برؤياهما المناسبة لحرفتهما. رفع إلى الملك أنهما أراد سمه في الطعام والشراب فأمر بإدخالهما السجن ساعة إذ دخل يوسف قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أي في المنام لقولهما: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ وهو حكاية حال ماضية أَعْصِرُ خَمْراً أي عنبا تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه. وقيل: الخمر بلغة عمان اسم العنب. والضمير في قوله: بِتَأْوِيلِهِ يعود إلى ما قصا عليه وقد يوضع الضمير موضع اسم الإشارة كأنه قيل: نبئنا بتأويل ذلك إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ عبارة الرؤيا. وكان أهل السجن يقصون عليه رؤياهم فيؤوّلها لهم، أو نراك من العلماء عرفا ذلك بالقرائن أو من المحسنين إلى أهل السجن كان يعود مرضاهم ويوسع عليهم ويراعي دقائق مكارم الأخلاق معهم، أو من المحسنين في طاعة الله وطلب مرضاته ففرج عنا الغمة بتأويل ما رأينا وإن كانت لك يد في تأويل الرؤيا.
وعن قتادة: كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول: أبشروا اصبروا تؤجروا.
فقالوا: ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت يا فتى؟ فقال: أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحق بن خليل الله إبراهيم. فقال له عامل السجن: لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت.
وعن الشعبي ومجاهد أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي: أراني في بستان فإذا بأصل كرم عليه ثلاثة عناقيد من عنب فقطعتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته. وقال الخباز: إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش منها قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ إلى آخره هذا ليس بجواب لهما ظاهرا وإنما قدم هذا الكلام لوجوه منها: أن أحد التعبيرين لما كان هو الصلب وكان في إسماعه كراهة ونفرة أراد أن يقدم قبل ذلك ما يوثق بقوله ويخرجه عن معرض التهمة والعداوة، أو أراد أن يبين علوّ مرتبته في العلم وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون عن ظن وتخمين، ولهذا قال السدي: أراد لا يأتيكما طعام ترزقانه في النوم. بين بذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس مقصورا على شيء دون غيره.
وقيل: إنه محمول على اليقظة وإنه ادعى معرفة الغيب كقول عيسى عليه السلام وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ [آل عمران: 49] أي أخبركما قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما أنه أيّ طعام هو وأيّ لون(4/88)
هو وكيف تكون عاقبته أهو ضار أم نافع وأن فيه سما أم لا. فقد روي أن الملك كان إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاما مسموما فأرسله إليه. ثم قال: ذلِكُما أي هذا التأويل والإخبار بالمغيبات من قبيل الوحي والإلهام لا من التكهن والتنجيم الذي يكثر فيهما وقوع الخطأ. ثم بيّن سيرته وملته مشيرا فيه إلى أنه رسول من عند الله ومنبها على أن الاشتغال بمصالح الدين أهم من الاشتغال بمصالح الدنيا حتى إن الرجل الذي سيصلب لعله يسلم فلا يموت على الكفر فقال: إِنِّي تَرَكْتُ أي رفضت بل ما كنت قط، ويجوز أن يكون قبل ذلك غير مظهر للتوحيد خوفا منهم لأنه كان تحت أيديهم. وإنما كررت لفظة «هم» تنبيها على أنهم مختصون في ذلك الزمان بإنكار المعاد وتعريضا بأن إيداعه السجن بعد معاينة الآيات الشاهدة على براءته لا يصدر إلا عمن ينكر الجزاء أشد الإنكار. والمراد باتباع ملة آبائه الاتباع في الأصول التي لا تتبدل بتبدل الشرائع، ومعنى التنكير في قوله:
مِنْ شَيْءٍ الرد على كل طائفة خالفت الملة الحنيفية من عبدة الأصنام والكواكب وغيرهم ذلِكَ التوحيد مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ نعمة الإيمان أو نعمة إعطاء القدرة والاختيار على الإيمان فلا ينظرون في الدلائل، وهذا يناسب أصول المعتزلة. وعن بعضهم إنا لا نشكر الله على الإيمان بل الله يشكرنا عليه كما قال: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الإسراء: 19] .
يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أراد يا صاحبي السجن كقوله «يا سارق الليلة» خصهما بهذا النداء لأنهما دخلا السجن معه أو أراد يا ساكني السجن كقوله: أَصْحابَ النَّارِ [الأعراف: 44] فسبب التعيين أنهما استفتياه من بين الساكنين. ثم أنكر عليهم عبادة الأصنام فقال: أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ في العدد وفي الحجمية وفيما يتبعها من اختلاف الأعراض والأبعاض خَيْرٌ إن فرض فيهم خير أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ لأن وحدة المعبود تستدعي توحيد المطلب وتفريد المقصد، وكونه قهارا غالبا غير مغلوب من وجه يوجب حصول كل ما يرجى منه من ثواب وصلاح إذا تعلقت إرادته بذلك فلا يصلح للمعبودية إلا هو ولا تصلح حقيقة الإلهية في غيره فلذلك قال: ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أي سميتم الآلهة بتلك الأسماء أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ والخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر فكأنهم لا يعبدون إلا أسماء فارغة عن المسميات ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها بتسميتها مِنْ سُلْطانٍ أي حجة. ثم لما نفى معبودية الغير بين أن لا حكم في أمر الدين والعبادة إلا له فقال: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ثم ذكر ما حكم به فقال: أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الثابت بالبراهين وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه مبدأ المبادئ والمعاد الحقيقي فيتخذون غيره معبودا ويجعلون لغيره من الأصنام والأجرام(4/89)
بالاستقلال فعلا وتأثيرا. ثم شرع في إجابة مقترحهما وهو تأويل رؤياهما فقال: أَمَّا أَحَدُكُما يعني الشرابي فَيَسْقِي رَبَّهُ سيده خَمْراً يروى أنه قال له: ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه. وقال للثاني: ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتصلب فتأكل الطير من رأسك. قوله: قُضِيَ الْأَمْرُ قال في الكشاف: إنما وحد الأمر وهما أمران مختلفان استفتيا فيهما، لأن المراد بالأمر ما اتهما به من سم الملك وما سجنا لأجله فكأنهما استفتياه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك استدلالا برؤياهما فقال: إن ذلك الذي ذكرت من أمر التأويل كائن لا محالة صدقتما أو كذبتما.
وقيل: جحدا رؤياهما. وقيل: عكسا رؤياهما، فلما علم الخباز أن تأويل رؤياه شر أنكر كونه صاحب تلك الرؤيا فقال يوسف: إن الذي حكمت به لكل منكما واقع لا بد منه ومن هنا قالت الحكماء: ينبغي أن لا يتصرف في الرؤيا ولا تغير عن وجهها فإن الفأل على ما جرى.
وَقالَ يوسف لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ أي اذكر عند الملك أني مظلوم من جهة إخوتي أخرجوني وباعوني، ثم إني مظلوم من جهة النسوة اللاتي حسبتني. والضمير في ظَنَّ إن كان للرجل الناجي فلا إشكال لأنهما ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف بل كانا حسني الاعتقاد فيه وكأن قوله لم يفد في حقهما إلا مجرد الظن، وإن عاد إلى يوسف فيرد عليه أنه كان قاطعا بنجاته فما المعنى للظن؟ وأجيب بأنه إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الأصول المقررة في ذلك العلم فكان كالمسائل الاجتهادية. والأصح أنه قضى بذلك على سبيل ألبت والقطع لقوله: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ إلى قوله: ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي فالظن على هذا بمعنى اليقين كقوله: الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة: 46] أما الضمير في قوله: فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ فمن الناس من قال: إنه يعود إلى الرجل الناجي أي أنساه الشيطان ذكر يوسف لسيده أو عند سيده فإضافة الذكر إلى الرب للملابسة لا لأجل أنه فاعل أو مفعول، أو المضاف محذوف تقديره فأنساه ذكر إخبار ربه، وإسناد الإنساء إلى الشيطان مجاز لأن الإنساء عبارة عن إزالة العلم عن القلب والشيطان لا قدرة له على ذلك وإلا لأزال معرفة الله من قلوب بني آدم، وإنما فعله إلقاء الوسوسة وأخطار الهواجس التي هي من أسباب النسيان. ومنهم من قال: الضمير راجع إلى يوسف، والمراد بالرب هو الله تعالى أي الشيطان أنسى يوسف أن يذكر الله تعالى، وعلى القولين عوتب باللبث في السجن بضع سنين. والبضع ما بين الثلاثة إلى العشرة لأنه القطعة من العدد والبضع القطع ومثله العضب. والأكثرون على أن المراد به في الآية سبع(4/90)
سنين. وعن ابن عباس: كان قد لبث خمس سنين وقد اقترب خروجه، فلما تضرع إلى ذلك الرجل لبث بعد ذلك سبع سنين.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن»
وعن مالك أنه لما قال له اذكرني عند ربك قيل له:
يا يوسف اتخذت من دوني وكيلا، لأطيلن حبسك. فبكى يوسف وقال: طول البلاء أنساني ذكر المولى فويل لإخوتي.
قال المحققون: الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة.
فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذه النوم ليلة من الليالي وكان يطلب من يحرسه حتى جاء سعد بن أبي وقاص فنام.
وقال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [الصف: 14] ولا خلاف في جواز الاستعانة بالكفار في دفع الظلم والغرق والحرق إلا أن يوسف عليه السلام عوتب على قوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ لوجوه منها:
أنه لم يقتد بالخليل جده حين وضع في المنجنيق فلقيه جبرائيل في الهواء وقال: هل من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا مع أنه زعم أنه اتبع ملة آبائه. ومنها أنه قال: ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ وهذا يقتضي نفي الشرك على الإطلاق وتفويض الأمر بالكلية إلى الله سبحانه. فقوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ كالمناقض لهذا الكلام. ومنها أنه قال: عِنْدَ رَبِّكَ ومعاذ الله أنه زعم أنه الرب بمعنى الإله إلا أن إطلاق هذا اللفظ على الله لا يليق بمثله وإن كان رب الدار ورب الغلام مستعملا في كلامهم. ومنها أنه لم يقرن بكلامه إن شاء الله، ولما دنا فرج يوسف أرى الله الملك في المنام سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فاضطرب الملك بسببه لأن فطرته قد شهدت بأن استيلاء الضعيف على القوي ينذر بنوع من أنواع الشر إلا أنه لم يعرف تفصيله، والشيء إذا علم من بعض الوجوه عظم الشوق إلى تكميل تلك المعرفة ولا سيما إذا كان صاحبه ذا قدرة وتمكين، فبهذا الطريق أمر الملك بجمع الكهنة والمعبرين وقال: يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ ثم إنه تعالى إذا أراد أمرا هيأ أسبابه فأعجز الله أولئك الملأ عن جواب المسألة وعماه عليهم حتى قالُوا إنها أَضْغاثُ أَحْلامٍ ونفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بتأويلها. واعلم أن الله سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك ومطالعة اللوح المحفوظ إلا أن المانع لها عن ذلك في اليقظة هو اشتغالها بتدبير البدن وبما يرد عليها من طريق الحواس، وفي وقت النوم تقل تلك الشواغل فتقوى النفس على تلك المطالعة، فإذا وقفت الروح على حالة من تلك الأحوال فإن بقيت في الخيال كما شوهدت لم يحتج إلى التأويل، وإن نزلت آثار مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحاني إلى عالم الخيال فهناك(4/91)
يفتقر إلى المعبر. ثم منها ما هي منتسقة منظمة يسهل على المعبر الانتقال من تلك المتخيلات إلى الحقائق الروحانيات، ومنها ما تكون مختلطة مضطربة لا يضبط تحليلها وتركيبها لتشويش وقع في ترتيبها وتأليفها فهي المسماة بالأضغاث. وبالحقيقة، الأضغاث ما يكون مبدؤها تشويش القوة المتخيلة لفساد وقع في القوى البدنية، أو لورود أمر غريب عليه من خارج، لكن القسم المذكور قد يعد من الأضغاث من حيث إنها أعيت المعبرين عن تأويلها.
ولنشتغل بتفسير الألفاظ، أما الملك فريان بن الوليد ملك مصر، وقوله: إِنِّي أَرى حكاية حال ماضية. وسمان جمع سمينة وسمين وسمينة يجمع على سمان كما يقال: رجال كرام ونسوة كرام قال النحويون: إذا وصف المميز فالأولى أن يوقع الوصف وصفا للمميز كما في الآية دون العدد، لأنه ليس بمقصود بالذات فلهذا قيل سمان بالجر ليكون وصفا لبقرات، ويحصل التمييز لسبع بنوع من البقرات وهي السمان منهن، ولو نصب جعل تمييز السبع بجنس البقرات أولا ثم يعلم من الوصف أن المميز بالجنس موصوف بالسمن. والعجف هو الهزال الذي ليس بعده هزال، والنعت أعجف وعجفاء وهما لا يجمعان على فعال ولكنه حمل على سمان لأنه نقيضه. وقوله سبع عجاف تقديره بقرات سبع عجاف فحذف للعلم به كما في قوله: وَأُخَرَ يابِساتٍ التقدير وسبعا أخر لانصباب المعنى إلى هذا العدد. وإنما لم يقال سبع عجاف على الإضافة لأن البيان لا يقع بالوصف وحده. وقولهم «ثلاثة فرسان» و «خمسة أصحاب» لأنه وصف جرى مجرى الاسم، ولا يجوز أن يكون قوله وَأُخَرَ مجرورا عطفا على سُنْبُلاتٍ لأن لفظ الأخر يأباه ويبطل مقابلة السبع بالسبع. وأراد بالملأ الأعيان من العلماء والحكماء، واللام في لِلرُّءْيا للبيان كما قلنا في وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف: 20] أو لأن عمل العامل فيما تقدم عليه يضعف فيعضد باللام كما يعضد اسم الفاعل بها وإن تأخر معموله، أو لأن قوله: لِلرُّءْيا خبر «كان» كقوله هو لهذا الأمر أي متمكن منه مستقل به وتَعْبُرُونَ خبر آخر أو حال أو لتضمن تَعْبُرُونَ معنى تنتدبون لعبارة الرؤيا والفصيح عبرت الرؤيا بالتخفيف، وقد يشدد واشتقاقه من العبر بالكسر فالسكون وهو جانب النهر فيقال: عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه، وعبرت الرؤيا إذا تأملت ناحيتها فانتقلت من أحد الطرفين إلى الآخر. والأضغاث جمع ضغث وهو الحزمة من أنواع النبت والحشيش مما طال ولم يقم على ساق، والإضافة بمعنى من أي أضغاث من أحلام والصيغة للجمع ولكن الواحد قد يوصف به كما قال: رمح أقصاد وبرمة أعشار. فالمراد هي حلم أضغاث أحلام. وقد يطلق الجمع ويراد به الواحد كقولهم «فلان يركب الخيل(4/92)
ويلبس العمائم» وإن لم يركب إلا فرسا واحدا ولم يلبس إلا عمامة واحدة. ويجوز أن يكون قد قص عليهم أحلاما أخر. واللام في الْأَحْلامِ اما للعهد كأنهم أرادوا المنامات الباطلة، أو للجنس وأرادوا أنهم غير متبحرين في علم تأويل الرؤيا. ولما أعضل على الملأ تأويل رؤيا الملك تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه المصلوب، وتذكر قوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وذلك قوله سبحانه: واذكر وأصله «اذتكر» قلبت التاء والذال كلاهما دالا مهملة وأدغمت. بَعْدَ أُمَّةٍ أي بعد حين كأنها حصلت من اجتماع أيام كثيرة. وقرىء بكسر الهمزة وهي النعمة أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة، وقرىء بَعْدَ أُمَّةٍ بوزن عمه. ومعنى أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ أخبركم به عمن عنده علمه فَأَرْسِلُونِ إليه لأسأله والخطاب للملك والجمع للتعظيم أو له وللملأ حوله. والمعنى مروني باستعباره.
وعن ابن عباس: لم يكن السجن في المدينة. وهاهنا إضمار والمراد فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال يُوسُفُ أي يا يوسف أَيُّهَا الصِّدِّيقُ البليغ الكامل في الصدق وصفه بهذه الصفة لأنه تعرف أحواله من قبل. وفيه أنه يجب على المتعلم تقديم ما يفيد المدح لمعلمه. وإنما أعاد عبارة الملك بعينها لأن التعبير يختلف باختلاف العبارات. وقوله:
لَعَلِّي أَرْجِعُ فيه نوع من حسن الأدب لأنه لم يقطع بأنه يعيش إلى أن يعود إليهم، وعلى تقدير أن يعيش فربما عرض له ما يمنعه عن الوصول إليهم من الموانع التي لا تحصى كثرة. وكذا في قوله: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فضلك ومكانك من العلم فيخلصوك أو يعلمون فتواك فيكون فيه نوع شك لأنه رأى عجز سائر المعبرين. وقيل: كرر لعل مراعاة لفواصل الآي وإلا كان مقتضى النسق لعلي أرجع إلى الناس فيعلموا، ومثله في هذه السورة لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [يوسف: 62] .
قالَ يوسف في جواب الفتوى تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ وهو خبر في معنى الأمر يفيد المبالغة في إيجاب إيجاد المأمور به. قال في الكشاف: والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ وأقول: يمكن أن يكون قوله: تَزْرَعُونَ إخبارا عما سيوجد منهم في زمن الغيث والمطر، لأن الزرع يلزم بنزول الأمطار عادة، وقوله: فَما حَصَدْتُمْ إرشاد لهم إلى الأصلح لهم في ذلك الوقت. ودَأَباً بتسكين الهمزة وتحريكها مصدر دأب في العمل إذا استمر عليه. وانتصابه على الحال أي تزرعون ذوي دأب، أو على المصدر والعامل فعله أي تدأبون دأبا. وإنما أمرهم بأن يتركوه في السنابل إلا القدر الذي يأكلونه في الحال لئلا يقع فيه السوس. ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فيه دليل على أن تَزْرَعُونَ إخبار لا أمر سَبْعٌ سنين شِدادٌ على الناس يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ(4/93)
لَهُنَّ من الإسناد المجازي لأن الآكلين أهل تلك السنين لا السنون إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ تحرزون وتخبئون. والإحصان جعل الشيء في الحصن كالإحراز جعل الشيء في الحرز أخبر أنه يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس من الغوث، أو من الغيث يقال: غيثت البلاد إذا مطرت وَفِيهِ يَعْصِرُونَ العنب والزيتون والسمسم. وقيل: يحلبون الضروع، تأول البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب والعجاف واليابسات بالسنين، ثم بشرهم بالبركة في العام الثامن. فقال المفسرون: إنه قد عرف ذلك بالوحي.
عن قتادة: زاده الله علم سنة. وقيل: عرف استدلالا فليس بعد انتهاء الجدب، إلا الخصب. والجواب أنه لا يلزم من انتهاء الجدب الخصب والخير الكثير فقد يكون توسط الحال. وأيضا في قوله: وَفِيهِ يَعْصِرُونَ نوع تفصيل لا يعرف إلا بالوحي. ولما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير استحسنه وقال: ائْتُونِي بِهِ فجعل الله سبحانه علمه مبدأ لخلاصه من المحنة الدنيوية فيعلم منه أن العلم سبب للخلاص من المحن الأخروية أيضا. فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ وهو الشرابي فقال: أجب الملك. قالَ يوسف ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ما شأنهن وما حالهن إِنَّ رَبِّي أي الله العالم بخفيات الأمور أو العزيز الذي رباه بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ وعلى الأول أراد إنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله لبعد غوره، أو استشهد بعلم الله على أنهن كذبة، أو أراد الوعيد أي هو عليم بكيدهن فيجازيهن عليه. وكيدهن ترغيبهن إياه في مواقعة سيدته أو تقبيح صورته عند العزيز حتى يرضى بسجنه. ومن لطائف الآية أنه أراد فسأل الملك أن يسأل ما بالهن إلا أنه راعى الأدب فاقتصر على سؤال الملك عن كيفية الواقعة فإن ذلك مما يهيجه على البحث والتفتيش. ومنها أنه لم يذكر سيدته بسوء بل ذكر النسوة على التعميم ومع ذلك راعى جانبهن أيضا فوصفهن بتقطيع الأيدي فقط لا بالترغيب في الخيانة.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني. ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر إن كان لحليما ذا أناة» «1» .
قال العلماء: الذي عمله يوسف هو اللائق بالحزم والعقل، لأنه لو خرج في الحال فربما بقي في قلب الملك من تلك التهمة أثر، ولعل الحساد يتسلقون بذلك إلى تقبيح أمره عنده،
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التعبير باب: 9. كتاب الأنبياء باب: 11، 19. مسلم في كتاب الإيمان حديث 238. الترمذي في كتاب تفسير سورة 12 باب: 1. أحمد في مسنده (6/ 326، 332) .(4/94)
وفي هذا التأني والتثبت تلاف لما صدر منه في قوله للشرابي: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ.
قالَ الملك بعد إحضار النسوة ما خَطْبُكُنَّ ما شأنكن العظيم إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ هل وجدتن منه ميلا إليكن أو إلى زليخا؟ قيل: الخطاب لزليخا والجمع للتعظيم. وقيل: خاطبهن جميعا لأن كل واحدة منهن راودت يوسف لنفسها أو لأجل امرأة العزيز. قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تعجبا من عفته ونزاهته قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ حين عرفت أن لا بد من الاعتراف الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ وضح وانكشف وتمكن في القلوب من قولهم حصحص البعير إذا ألقى ثفناته للإناخة والاستقرار على الأرض. وقال الزجاج:
اشتقاقه من الحصة أي بانت حصة الحق من حصة الباطل. أما قوله سبحانه: ذلِكَ لِيَعْلَمَ إلى تمام الآيتين ففيه قولان: الأول- وعليه الأكثرون- أنه حكاية قول يوسف.
قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة الصارفة لكل منهما إلى ما يليق به. والإشارة إلى الحادثة الحاضرة بقوله: ذلِكَ لأجل التعظيم والمراد ما ذكر من رد الرسول والتثبت وإظهار البراءة. وعن ابن عباس: أنه لما دخل على الملك قال ذلك، والأظهر أنه قال ذلك في السجن عند عود الرسول إليه. ومحل بِالْغَيْبِ نصب على الحال من الفاعل أي وأنا غائب عنه، أو من المفعول أي وهو غائب عني، أو على الظرف أي بمكان الغيب وهو الاستتار وراء الأبواب المغلقة. قيل:
هذه الخيانة قد وقعت في حق العزيز فكيف قال ذلك ليعلم الملك؟ وأجيب بأنه إذا خان وزيره فقد خان الملك من بعض الوجوه، أو أراد ليعلم الله لأن المعصية خيانة، أو المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز، أو ليعلم العزيز أني لم أخنه وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين لا ينفذه ولا يسدده، وفيه تعريض بامرأته الخائنة وبالعزيز حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه فكأنه خان حكم الله، وفيه تأكيد لأمانته وأنه لو كان خائنا لم يهد الله كيده. ولا يخفى أن هذه الكلمات من يوسف مع الشهادة الجازمة والاعتراف الصريح من المرأة دليل على نزاهة يوسف عليه السلام من كل سوء. قال أهل التحقيق: إنه لما راعى حرمة سيدته في قوله: ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي دون أن يقول «ما بال زليخا» أرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء واعترفت بأن الذنب كله منها، فنظيره ما يحكى أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى يتمكن الشهود من أداء الشهادة. فقال الزوج: لا حاجة إلى ذلك فإني مقر بصدقها في دعواها. فقالت المرأة: لما أكرمني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمته من كل حق لي عليه. ولما كان قول يوسف عليه السلام ذلك ليعلم جاريا مجرى تزكية النفس على الإطلاق أو في هذه الواقعة وقد قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [النجم:(4/95)
32] أتبع ذلك قوله: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ أي هذا الجنس لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ميالة إلى القبائح راغبة في المعاصي. وفيه أن ترك تلك الخيانة ما كان حظ النفس وشربها ولكن كان بتوفيق الله تعالى وتسهيله وصرفه إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة، أو المراد أنها أمارة بالسوء في كل وقت وأوان إلا وقت رحمة ربي، أو الاستثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة. القول الثاني أنه حكاية قول المرأة لأن يوسف عليه السلام ما كان حاضرا في ذلك المجلس والمعنى، وإن كنت أحلت عليه الذنب عند حضوره ولكني ما أحلته عليه في غيبته حين كان في السجن وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي فيه تعريض بأنها لما أقدمت على المكر فلا جرم افتضحت، وأنه لما كان بريئا من الذنب لا جرم طهره الله منه وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي من الخيانة مطلقا فإني قد خنثه حين قلت ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً أو حين أودعته السجن. ثم إنها اعتذرت عما كان منها فقالت: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي كنفس يوسف إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ أو استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت. قال المحققون: النفس الإنسانية شيء واحد فإذا مالت إلى العالم العلوي كانت مطمئنة، وإذا مالت إلى العالم السفلي وإلى الشهوة والغضب سميت أمارة وهذا في أغلب أحوالها لإلفها إلى العالم الحسي وقرارها فيه فلا جرم إذا خليت وطباعها انجذبت إلى هذه الحالة فلهذا قيل: إنها من حيث هي أمارة بالسوء. وإذا كانت منجذبة مرة إلى العالم العلوي ومرة إلى العالم السفلي سميت لوامة. ومنهم من زعم أن النفس المطمئنة هي الناطقة العلوية، والنفس الأمارة منطبعة في البدن تحمله على الشهوة والغضب وسائر الأخلاق الرذيلة. وتمسكت الأشاعرة بقوله:
إِلَّا ما رَحِمَ ظاهرا لأنه دل على أن صرف النفس عن السوء بخلق الله وتكوينه. وحملته المعتزلة على منح الألطاف والله أعلم بالحقائق.
التأويل:
لما أدخل يوسف القلب سجن الشريعة دخل معه غلامان لملك الروح هما النفس والبدن، فإن الروح العلوي لا يعمل عملا في السفل الدنيوي إلا من مشرب النفس فهي صاحب شرابه. والبدن يهيىء من الأعمال الصالحة ما يصلح لغذاء الروح، فإن الروح لا يبقى إلا بغذاء روحاني كما أن الجسم لا يبقى إلا بغذاء جسماني. وإنما حبسا في سجن الشريعة لأنهما متهمان بجعل سم الهوى والمعصية في شراب ملك الروح وطعامه، وفي رؤياهما دلالة على أنهما من الدنيا، وأهل الدنيا نيام فإذا ماتوا انتبهوا إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الذين يعبدون الله عيانا وشهودا إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ فيه إشارة إلى أن القلب مهما ترك ملة النفس والهوى والطبيعة علمه الله علم الحقيقة أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ
أي سيده بأقداح المعاملات والمجاهدات شراب الكشوف والمشاهدات وهي باقية في خدمة(4/96)
ملك الروح أبدا وَأَمَّا الْآخَرُ وهو البدن فَيُصْلَبُ بنخيل الموت فَتَأْكُلُ طير أعوان ملك الموت من رأسه الخيالات الفاسدة قُضِيَ في الأزل هذا الْأَمْرُ اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ يعني أن القلب المسجون في بدء أمره يلهم النفس بأن تذكره المعاملات المستحسنة الشرعية عند الروح ليتقوى بها الروح وينتبه عن نوم الغفلة الناشئة من الحواس الخمس ويسعى في استخلاص القلب عن أثر الصفات البشرية بالمعاملات الروحانية مستمدا من الألطاف الربانية. ثم إن الشيطان بوساوسه محا عن النفس أثر إلهامات القلب، أو الشيطان أنسى القلب ذكر الله حين استغاث النفس لتذكره عند الروح، ولو استغاث بالله لخلصه في الحال فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ إشارة إلى الصفات البشرية السبع التي بها القلب محبوس وهي: الحرص والبخل والشهوة والحسد والعداوة والغضب والكبر إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ هن الصفات المذكورة يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ هن أضدادها وهي:
القناعة والسخاوة والعفة والغبطة والشفقة والحلم والتواضع يا أَيُّهَا الْمَلَأُ يعني الأعضاء والجوارح والحواس والقوى أَفْتُونِي فيما رأيت في غيب الملكوت وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ أي ليس التصرف في الملكوت وشواهدها من شأننا فَأَرْسِلُونِ فيه أن النفس إذا أرادت أن تعلم شيئا مما يجري في الملكوت ترجع بقوة التفكر إلى القلب فتستخبر عنه، فالقلب ترجمان بين الروحانيات والنفس فيما يفهم من لسان الغيب أَيُّهَا الصِّدِّيقُ لأنه مصدق فيما يرى من شواهد الحق، ويصدق فيما يروي للخلق ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: 11]
«حدثني قلبي عن ربي»
قال في الكشاف: أرجع إلى الناس أي إلى الأجزاء الإنسانية تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ إشارة إلى تربية الصفات البشرية السبع بالعادة والطبيعة في أوان الطفولية فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ أي ما حصلتم من هذه الصفات فذروه في أماكنه ولا تستعملوه إِلَّا قَلِيلًا مما تعيشون به إلى أوان البلوغ وظهور نور العقل في مصباح السر في زجاجة القلب كأنه كوكب دري. ثم إذا أيد نور العقل بأنوار تكاليف الشرع وشرف بإلهام الحق في إظهار فجور النفس وتقواها فيزكيها عن هذه الصفات ويجليها بالصفات الروحانية السبع، فكأن السبع العجاف أكلن السبع السمان. وإنما سمى ما هو من عالم الأرواح عجافا للطافتها، وما هو من عالم الأجسام سمانا لكثافتها كثيرا إلا قليلا مما يحسن به الإنسان حياة قالبه ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ أي بعد غلبات الصفات الروحانية واضمحلال الصفات البشرية يظهر مقام فيه يتدارك السالك جذبات العناية، وفيه يبرأ العبد من معاملاته وينجو من حبس وجوده وحجب أنانيته. ولما أخبر القلب بنور الله؟؟؟ رآه الروح في عالم الملكوت وتأوله استحق قرب الروح وصحبته فاستدعى حضوره على(4/97)
لسان رسول النفس فرده إليه وقال سله ما بالُ النِّسْوَةِ لأن الأوصاف الإنسانية لما رأين جمال القلب المنور بنور الله قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ من ملاذ الدنيا وشهواتها وآثرن السعادة الأخروية على الشهوات الفانية لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ أي القلب المنظور بنظر العناية لما غاب عن حضرة الروح لاشتغاله بتربية النفس والقالب ما خانه بالالتفات إلى الدنيا ونعيمها وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ الذين يبيعون الدين بالدنيا. ثم قال إظهارا للعجز عن نفسه وللفضل من ربه وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ جبلت على الأمارية، ولكن إذا رحمها ربها يقلبها ويغيرها فإذا تنفس صبح الهداية صارت لوامة نادمة على فعلها، والندم توبة وإذا طلعت شمس العناية وصارت ملهمة فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 8] وإذا بلغت شمس العناية وسط سماء الهداية أشرقت الأرض بنور ربها وصارت النفس مطمئنة مستعدة لجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر: 28] إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ لنفس تابت ورجعت إليه رَحِيمٌ لمن أحسن طاعته وعبادته والله حسبنا ونعم الوكيل.
تم الجزء الثاني عشر ويليه الجزء الثالث عشر أوله: وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ ...(4/98)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء الثالث عشر من أجزاء القرآن الكريم
[سورة يوسف (12) : الآيات 54 الى 68]
وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63)
قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68)
القراآت
حيث نشاء بالنون: ابن كثير. الآخرون بياء الغيبة أني أوف بفتح ياء(4/99)
المتكلم: نافع غير إسماعيل. لِفِتْيانِهِ خَيْرٌ حافِظاً حمزة وعلي وخلف غير أبي بكر وحماد. الباقون لفتيته خَيْرٌ حافِظاً يكتل بياء الغيبة: حمزة وعلي وخلف.
الباقون بالنون. تؤتوني بالياء في الحالين: ابن كثير وسهل ويعقوب وافق أبو عمرو يزيد وإسماعيل في الوصل.
الوقوف:
لِنَفْسِي ج أَمِينٌ هـ الْأَرْضِ ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى عَلِيمٌ هـ فِي الْأَرْضِ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف أو الحال حيث نشاء ط الْمُحْسِنِينَ هـ يَتَّقُونَ هـ مُنْكِرُونَ هـ مِنْ أَبِيكُمْ ج لحق الاستفهام مع اتحاد القائل الْمُنْزِلِينَ هـ وَلا تَقْرَبُونِ هـ لَفاعِلُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ لَحافِظُونَ هـ مِنْ قَبْلُ ط لانتهاء الاستفهام إلى الأخبار حافِظاً ص الرَّاحِمِينَ هـ إِلَيْهِمْ ط لتمام جواب «لما» ما نَبْغِي ط لأن ما بعده جملة مستأنفة موضحة للاستفهامية أو المنفية قبلها إِلَيْنا ج لاحتمال الاستئناف والعطف على ونحن نمير كَيْلَ بَعِيرٍ هـ ط يَسِيرٌ هـ بِكُمْ ط قالَ اللَّهُ قيل: يسكت بين الفعل والاسم لأن القائل يعقوب لا الله سبحانه، والأحسن أن يفرق بينهما بقوة النغمة فقط لئلا يلزم الفصل بين القائل والمقول وَكِيلٌ هـ مُتَفَرِّقَةٍ ط مِنْ شَيْءٍ ط لِلَّهِ ط تَوَكَّلْتُ ط الْمُتَوَكِّلُونَ هـ أَبُوهُمْ ط لأن جواب «لما» محذوف أي سلموا بإذن الله قَضاها ط لا يَعْلَمُونَ هـ.
التفسير:
الأظهر أن هذا الملك هو الريان لا العزيز لأن قوله أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي يدل على أنه قبل ذلك ما كان خالصا له وقد كان يوسف قبل ذلك خالصا للعزيز. وفي قول يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ دلالة أيضا على ما قلنا. والاستخلاص طلب خلوص الشيء من شوائب الاشتراك، ومن عادة الملوك أن يتفردوا بالأشياء النفيسة.
روي أن جبريل دخل على يوسف في السجن وقال: قل اللهم اجعل لي من عندك فرجا ومخرجا وارزقني من حيث لا أحتسب. فقبل الله دعاءه وأظهر هذا السبب في تخليصه فجاءه الرسول وقال: أجب الملك فخرج من السجن ودعا لأهله وكتب على باب السجن:
«هذه منازل البلوى وقبور الأحياء وشماتة الأعداء وتجربة الأصدقاء» ثم اغتسل وتنطف من درن السجن ولبس ثيابا جددا، فلما دخل على الملك قال: اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم سلم عليه.
فَلَمَّا كَلَّمَهُ احتمل أن يكون ضمير الفاعل ليوسف وللملك، وهذا أولى لأن مجالس الملوك لا يحسن ابتداء الكلام فيها لغيرهم.
يروى أن الملك قال له: أيها الصديق إني أحب أن أسمع رؤياي منك. قال:
رأيت بقرات فوصف لونهن وأحوالهن ومكان خروجهن، ووصف السنابل وما كان منها(4/100)
على الهيئة التي رآها الملك بعينها، فتعجب من وفور علمه وحدسه- وكان قد علم من حاله ما علم من نزاهة ساحته وعدم مسارعته في الخروج من السجن- وقد وصف له الشرابي من جده في الطاعة والإحسان إلى سكان السجن ما وصف فعظم اعتقاده فيه
فعند ذلك قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ ويندرج في المكانة كمال القدرة والعلم. أما القدرة فظاهرة، وأما العلم فلأن كونه متمكنا من أفعال الخير يتوقف على العلم بأفعال الخير وبأضدادها، وكونه أمينا متفرع عن كونه حكيما لأن لا يفعل الفعل لداعي الشهوة وإنما يفعله لداعي الحكمة. قال المفسرون: لما حكى يوسف رؤيا الملك وعبرها بين يديه قال له الملك: فما ترى أيها الصديق؟ قال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعا كثيرا وتبني الخزائن والأهراء وتجمع الطعام فيها فيأتيك الخلق من النواحي ويمتارون منك ويجتمع لك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد من قبلك، فقال الملك: ومن لي بهذا الشغل؟
فقال يوسف: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ اللام للعهد أي ولني خزائن أرض مصر.
والخزائن جمع الخزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء أي يحفظ إِنِّي حَفِيظٌ للأمانات وأموال الخزائن عَلِيمٌ بوجوه التصرف فيها على وجه الغبطة والمصلحة.
وقيل: حفيظ لوجوه أياديكم عليم بوجوب مقابلتها بالطاعة والشفقة. قال الواحدي: هذا الطلب خطيئة منه فكانت عقوبته أن أخر عنه المقصود سنة.
عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رحم الله أخي يوسف لو لم يقل اجعلني على خزائن الأرض لاستعمله من ساعته لكن لما قال ذلك أخره الله تعالى عنه سنة» .
وقال آخرون: إن التصرف في أمور الخلق كان واجبا عليه لأن النبي يجب عليه رعاية الأصلح لأمته بقدر الإمكان، وقد علم بالوحي أنه سيحصل القحط والضنك فأراد السعي في إيصال النفع إلى المستحقين ودفع الضرر عنهم، وإذا علم النبي أو العالم أنه لا سبيل إلى دفع الظلم والضر عن الناس إلا بالاستعانة من كافر أو فاسق فله أن يستظهر به، على أن مجاهدا قد زعم أن الملك كان قد أسلم.
وقيل: كان الملك يصدر عن رأيه فكان في حكم التابع لا المتبوع. ووصف نفسه عليه السلام بالحفظ والعلم على سبيل المبالغة لم يكن لأجل التمدح ولكن للتوصل إلى الغرض المذكور. وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التقريب والإنجاء من السجن مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ أرض مصر وهي أربعون فرسخا في أربعين. يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ هو أو نشاء نحن على القراءتين والمراد بيان استقلاله بالتقلب والتصرف فيها بحيث لا ينازعه أحد. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ فيه أن الكل من الله وبتيسيره. وقالت المعتزلة: تلك المملكة لما لم تتم إلا بأمور فعلها الله صارت كأنها من قبل الله تعالى، وعلقوا أيضا المشيئة بالحكمة ورعاية الأصلح. والأشاعرة ناقشوا في هذا القيد. وَلا نُضِيعُ أَجْرَ(4/101)
الْمُحْسِنِينَ لأن إضاعة الأجر تكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حقه تعالى. وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ من أجر الدنيا أو خير في نفسه. وفي قوله المحسنين وقوله: لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ إشارة إلى أن يوسف كان في الزمان السابق من المحسنين ومن المتقين ففيه دلالة على نزاهة يوسف عن كل سوء. قال سفيان بن عيينة:
المؤمن يثاب على حسناته في الدنيا والآخرة، والفاجر يعجل له الخير في الدنيا وماله في الآخرة من خلاق.
يروى أن الملك توجه وختمه بخاتمه وردّاه بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت فقال له: أما السرير فأشدّ به ملكك، وأما الخاتم فأدبر به أمرك، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي. فقال: قد وضعته إجلالا لك وإقرارا بفضلك. فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوّض الملك إليه أمره وعزل قطفير، ثم مات بعد فزوّجه الملك امرأته فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما طلبت فوجدها عذراء فولدت له ولدين: إفرائيم وميشا. وأقام العدل بمصر وأسلم على يديه الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدنانير والدراهم في السنة الأولى حتى لم يبق معهم شيء منها، ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب، ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم حتى استرقهم جميعا فقالوا: والله ما رأينا كاليوم ملكا أجل ولا أعظم منه فقال للملك: كيف رأيت صنع الله بي فيما خوّلني مما ترى؟ قال: الرأي رأيك. قال: فإني أشهد الله وأشهدك أني قد أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم، وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس. وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا
فذلك قوله سبحانه: وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ لم يعرفوه لأن طول العهد ينسي ولاعتقادهم أنه قد هلك أو لذهابه عن أوهامهم حين فارقوه مبيعا بدراهم معدودة ثم رأوه ملكا مهيبا جالسا على السرير في زي الفراعنة، ويحتمل أن يكون بينه وبينهم مسافة وما وقفوا إلا حيث يقف طلاب الحوائج. وإنما عرفهم لأن أثر تغيير الهيئات عليهم كان أقل لأنه فارقهم وهم رجال ولم يغيروا زيهم عما هو عادتهم، ولأن همته كانت معقودة بهم وبمعرفتهم، ويحتمل أن يكون عرفهم بالوحي. وعن الحسن ما عرفهم حتى تعرفوا له.
وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ هو ما يحتاج إليه في كل باب ومنه جهاز العروس والميت. قال الليث: جهزت القوم تجهيزا إذا تكلفت لهم جهازا للسفر. قال: وسمعت أهل البصرة يحكون الجهاز بالكسر. وقال الأزهري: القراء كلهم على فتح الجيم والكسر لغة جيدة قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ قال العلماء: لا بد من كلام يجر هذا الكلام
فروي أنه(4/102)
لما رآهم وكلموه بالعبرانية قال لهم: من أنتم؟ وما شأنكم فإني أنكركم. قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة أصابنا الجهد وجئنا نمتار. فقال: لعلكم جئتم عيونا؟ قالوا: معاذ الله نحن إخوة بنو أب واحد وهو شيخ صديق نبي من الأنبياء اسمه يعقوب. قال: كم أنتم؟
قالوا: كنا اثني عشر فهلك منا واحد. فقال: فكم أنتم هاهنا؟ قالوا: عشرة قال: فأين الأخ الحادي عشر؟ قالوا: هو عند أبيه يتسلى به عن الهالك. قال: فمن يشهد لكم أنكم لستم بعيون؟ قالوا: إنا ببلاد لا يعرفنا أحد. قال: فدعوا بعضكم عندي رهينا وأتوني بأخيكم من أبيكم يحمل رسالة من أبيكم حتى أصدقكم. فاقترعوا بينهم فأصابت القرعة شمعون وكان أحسنهم رأيا في يوسف فخلفوه عنده. وقيل: كانوا عشرة فأعطاهم عشرة أحمال فقالوا: إن لنا شيخا كبيرا وأخا آخر فبقي معه ولا بد لهما من حملين آخرين.
فاستدل الملك ببقائه عند أبيه على زيادة محبته إياه وكونه فائقا في الجمال والأدب فاستدعى منهم إحضاره. وقيل: لعلهم لما ذكروا أباهم قال يوسف: فلم تركتموه وحيدا فريدا؟ فقالوا: بل بقي عنده واحد. فقال لهم: لم خصه بهذا المعنى لأجل نقص في جسده؟ قالوا: لا بل لزيادة محبته. فقال: إن أباكم رجل عالم حكيم، ثم إنه خصه بمزيد المحبة مع أنكم فضلاء أدباء فلا بد أن يكون هو زائدا عليكم في الكمال والجمال فائتوني به لأشاهده.
والأوّل قول المفسرين، والآخران محتملان. ولما طلب منهم إحضار الأخ جمع لهم بين الترغيب والترهيب فالأوّل قوله: أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ المضيفين وكان قد أحسن ضيافتهم أو زاد لكل من الأب والأخ الغائب حملا، والثاني فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ مجزوم على النهي أو لأنه داخل في حكم الجزاء كأنه قيل: فإن لم تأتوني به تحرموا ولا تقربوا قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ سنخادعه عنه ونجتهد حتى ننتزعه من يده وَإِنَّا لَفاعِلُونَ كل ما في وسعنا في هذا الباب أو لقادرون على ذلك. وَقالَ لِفِتْيانِهِ أو لفتيته قراءتان وهما جمع فتى كالأخوان والإخوة في أخ ففعلة للقلة ووجهه أن هذا العمل من الأسرار فوجب كتمانه عن العدد الكثير، وفعلان للكثرة ووجهه أنه قال: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ والرحال عدد كثير ويناسبه الجم الغفير من الغلمان الكيالين، والبضاعة ما قطع من المال للتجارة، والرحال جمع رحل والمراد به هاهنا ما يستصحبه الرجل معه من الأثاث.
والأكثرون على أنه أمر بوضع بضاعتهم في رحالهم على وجه لا يعرفون بدليل قوله:
لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ وفرغوا ظروفهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعل معرفتهم بذلك تدعوهم إلى الرجوع إلينا وكانت بضاعتهم النعل والأدم. وقيل: أمر بوصفها على(4/103)
وجه عرفوها، والمعنى لعلهم يعرفون حق ردّها. أما السبب الذي لأجله أمر يوسف بذلك فقيل: ليعلموا كرم يوسف فيبعثهم ذلك على المعاودة. وقيل: خاف أن لا يكون عند أبيه من البضاعة ما يدعوهم إلى الرجوع، أو أراد به التوسعة على أبيه لأن الزمان كان زمان قحط، أو لأن أخذ ثمن الطعام من أبيه وإخوته لؤم، أو أراد أن يرجعوا ليعرفوا سبب الرد لأنهم أولاد الأنبياء فيحترزوا أن يكون ذلك على سبيل السهو، أو أراد أن يحسن إليهم على وجه لا يلحقهم عيب ولا منة فلا يثقل على أبيه إرسال أخيه. وقيل: يَرْجِعُونَ متعد أي لعلهم يردونها. قالُوا: يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ أرادوا قول يوسف فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ لأن إنذار المنع بمنزلة المنع يؤيده قراءة من قرأ نَكْتَلْ بالنون أي نرفع المانع ونأخذ من الطعام ما نحتاج إليه، ويحتمل أن يراد بالمنع أنهم إذا طلبوا الطعام لأبيهم والأخ المخلف فلعله منع من ذلك، ويقوّي هذا الاحتمال قراءة الغيبة أي يكتل أخونا فينضم اكتياله إلى اكتيالنا. قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ ضمنوا كونهم حافظين له فقال يعقوب: إنكم ذكرتم مثل هذا الكلام في يوسف فهل يكون أماني الآن إلا كأماني فيما قبل يعني كما لم يحصل الأمان وقتئذ فكذا الآن. والظاهر أن هاهنا إضمارا والتقدير فتوكل على الله فيه ودفعه إليهم وقال: فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وحافِظاً نصب على التمييز واحتمل الثاني الحال نحو «لله درّه فارسا» وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أرجو أن لا يجمع عليّ مصيبتين. وقيل: إنه تذكر يوسف فقال: فالله خير حافظا أي ليوسف لأنه كان يعلم أنه حي وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ هو عام في كل ما يستمتع به ويجوز أن يراد به هاهنا الطعام أو الأوعية. أما قوله ما نَبْغِي فالبغي بمعنى الطلب و «ما» نافية أو استفهامية. المعنى ما نطلب شيئا وراء ما فعل بنا من الإحسان أو ما نريد منك بضاعة أخرى أو أيّ شيء نطلب وراء هذا نستظهر بالبضاعة المردودة إلينا. وَنَمِيرُ أَهْلَنا في رجوعنا إلى الملك وَنَحْفَظُ أَخانا فما يصيبه شيء مما يخافه وَنَزْدادُ باستصحاب أخينا وسق بعير زائدا على أوساق أباعرنا فأيّ شيء نبغي وراء هذه المباغي؟!. ويجوز أن يكون البغي بمعنى الكذب والتزيد في القول على أن «ما» نافية أي ما نكذب فيما وصفنا لك من إحسان الملك وإكرامه، وكانوا قالوا له: إنا قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب ما أكرمنا تلك الكرامة. قال في الكشاف: فعلى هذا التفسير لا يكون قوله: وَنَمِيرُ معطوفا على معنى قوله: هذِهِ بِضاعَتُنا وإنما يكون قوله: هذِهِ بِضاعَتُنا بيانا لصدقهم، وقوله: وَنَمِيرُ معطوفا على ما نَبْغِي أو يكون كلاما مبتدأ أي ونبغي أن نمير كما تقول: سعيت في حاجة فلان ويجب أو ينبغي أن أسعى ويجوز أن يراد ما نبغي(4/104)
ما ننطق إلا بالصواب فيما نشير به عليك من إرسال أخينا معنا. ثم بينوا كونهم مصيبين في رأيهم بقولهم: هذِهِ بِضاعَتُنا نستظهر بها ونمير أهلنا إلى آخره. يقال: ماره يميره إذا أتاه بميرة أي بطعام ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ أي ذلك المكيل لأجلنا قليل نريد أن ينضاف إليه ما يكال لأجل أخينا. وقال مقاتل: ذلك إشارة إلى كيل بعير أي ذلك القدر سهل على الملك لا يضايقنا فيه ولا يطول مقامنا بسببه، واختاره الزجاج. وجوز في الكشاف أن يكون هذا من كلام يعقوب يعني أن حمل بعير شيء يسير لا يخاطر لمثله بالولد. قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً تعطوني ما أثق به من عند الله وهو الحلف لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ استثناء من أعم العام في المفعول وقد يقع مثل هذا الاستثناء في الإثبات إذا استقام المعنى نحو «قرأت إلا يوم كذا» وإن شئت فأوّله بالنفي أي لا تمتنعون من الإتيان به لعلة من العلل إلا بعلة واحدة هي أن يحاط بكم أي تهلكوا جميعا قاله مجاهد، أو تغلبوا فلم تطيقوا الإتيان به قاله قتادة: عَلى ما نَقُولُ من طلب الموثق وإعطائه وَكِيلٌ مطلع رقيب. قال جمهور المفسرين: إنما نهاهم أن يدخلوا من باب واحد خوفا عليهم من إصابة العين. وهاهنا مقامان: الأوّل أن الإصابة بالعين حق لإطباق كثير
من الأمه ولما
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعوّذ الحسن والحسين فيقول: أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة.
أي جامعة لشر من لمه إذا جمعه أو المراد ملمة والتغيير للمزاوجة.
وعن عبادة بن الصامت قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول النهار فرأيته شديد الوجع، ثم عدت إليه آخر النهار فرءته معافى. فقال: إن جبرائيل عليه السلام أتاني فرقاني وقال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من كل عين وحاسد الله يشفيك.
قال: فأفقت.
وروي أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت أم سلمة وعندها صبي يشتكي فقالوا:
يا رسول الله أصابته العين. قال: أفلا تسترقون له من العين؟
وعنه صلى الله عليه وسلم: «العين حق ولو كان شيء يسبق القدر لسبقت العين القدر» «1» .
وقالت عائشة: كان يأمر العائن أن يتوضأ ثم يغتسل منه المعين. المقام الثاني في الكشف عن حقيقته. قال الجاحظ: يمتد من العين أجزاء فتتصل بالشخص المستحسن فتؤثر وتسري فيه كتأثير اللسع والسم. واعترض الجبائي وغيره بأنه لو كان كذلك لأثر في غير المستحسن كتأثيره في المستحسن. وأجيب بأن المستحسن إن كان صديقا حصل للعائن عند ذلك الاستحسان خوف شديد من زواله،
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الطب باب: 36. مسلم في كتاب السلام حديث 41، 42. أبو داود في كتاب الطب باب: 15. الترمذي في كتاب الطب باب: 19. الموطأ في كتاب العين حديث: 1.
أحمد في مسنده (1/ 274) .(4/105)
وإن كان عدوا حصل له خوف شديد من حصوله، وعلى التقديرين يسخن الروح وينحصر في داخل القلب ويحصل في الروح الباصرة كيفية مسخنة مؤثرة، فلهذا السبب أمر النبي صلى الله عليه وسلم العائن بالوضوء ومن أصابته العين بالاغتسال منه. وقال أبو هاشم وأبو القاسم البلخي: لا يمتنع أن صاحب العين إذا شاهد الشيء وأعجب به كانت المصلحة له في تكليفه أن يغير الله ذلك الشخص حتى لا يبقى قلب ذلك المكلف معلقا به. وقال الحكماء: ليس من شرط المؤثر أن يكون تأثيره بحسب هذه الكيفيات المحسوسة بل قد يكون التأثير نفسانيا محضا أو وهميا كما للماشي على الجذع، أو تصوّريا كما في الحركات البدنية، وقد يكون للنفوس خواص عجيبة تتصرف في غير أبدانها بحسبها فمنها المعجز ومنها السحر ومنها الإصابة بالعين. أما الجبائي وغيره ممن أنكر العين فقد قالوا:
إن أولاد يعقوب اشتهروا بمصر وتحدث الناس بكمالهم وجمالهم وهيئتهم فلم يأمن يعقوب أن يخافهم الملك الأعظم على ملكه فيحبسهم. وقيل: إنه كان عالما بأن الملك ولده إلا أن الله تعالى لم يأمره بإظهاره وكان غرضه أن يصل بنيامين إليه في غيبتهم قاله إبراهيم النخعي. واعلم أن العبد يجب عليه أن يسعى بأقصى الجهد والقدرة ولكنه بعد السعي البليغ يجب أن يعلم أن كل ما يدخل في الوجود فهو بقضاء الله وقدره وأن الحذر لا يغني عن القدر فلهذا قال يعقوب: وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فقوله الأوّل مبني على رعاية الأسباب والوسائط، وقوله الثاني إلى آخر الآية إشارة إلى الحقيقة وتفويض الأمر بالكلية إلى مسبب الأسباب. وقد صدقه الله تعالى في ذلك بقوله: ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قال ابن عباس: ما كان ذلك التفرق يردّ قضاء الله تعالى.
وقال الزجاج وابن الأنباري: لو سبق في علم الله أن العين تهلكهم عند الاجتماع لكان تفرقهم كاجتماعهم. وقال آخرون: ما كان يغني عنهم رأي يعقوب شيئا قط حيث أصابهم ما ساءهم مع تفرقهم من إضافة السرقة إليهم وأخذ الأخ وتضاعف المصيبة على الأب إِلَّا حاجَةً استثناء منقطع أي ولكن حاجة فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وهي إظهار الشفقة والنصيحة، أو الخوف من إصابة العين، أو من حسد أهل مصر، أو من قصد الملك. ثم مدحه الله تعالى بقوله: وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ يعنى علمه بأن الحذر لا يدفع القدر لِما عَلَّمْناهُ «ما» مصدرية أو موصولة أي لتعليمنا إياه، أو للذي علمناه. وقيل: العلم الحفظ والمراقبة. وقيل: المضاف محذوف أي لفوائد ما علمناه وحسن آثاره وإشارة إلى كونه عاملا بعلمه وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ مثل علم يعقوب أو لا يعلمون أن يعقوب بهذه الصفة في العلم. وقيل: المراد بأكثر الناس المشركون لا يعلمون أن الله تعالى كيف أرشد أولياءه إلى العلوم التي تنفعهم في الدنيا والآخرة.(4/106)
التأويل:
لما تبين لملك الروح قدر يوسف القلب وأمانته وصدقه وحسن استعداده سعى في خلاصه من سجن صفات البشرية ليكون خالصا له في كشف حقائق الأشياء، ولم يعلم أنه خلق لصلاح جميع رعايا مملكة روحانية وجسمانية. كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في جسد بني آدم مضغة: إن صلحت صلح بها سائر الجسد وإن فسدت فسد بها سائر الجسد ألا وهي القلب» «1» .
وللقلب اختصاص آخر بالله دون سائر المخلوقات قال سبحانه: «لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن» . اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ أرض الجسد فإن لله تعالى في كل عضو من الأعضاء خزانة من اللطف إن استعمله الإنسان فيما خلق ذلك العضو لأجله، وخزانة من القهر إن استعمله في ضده إِنِّي حَفِيظٌ للخزائن عَلِيمٌ باستعمالها فيما ينفعها دون ما يضرها نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا فيه أن إصابة اللطف من تلك الخزائن دون القهر موكولة إلى مشيئة الله تعالى. وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ وهم الأوصاف البشرية فَعَرَفَهُمْ يوسف القلب لأنه ينظر بنور الله وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ لبقائهم في الظلمة وحرمانهم عن النور. وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ يشير إلى أن يوسف القلب لما التجأت إليه الأوصاف البشرية بدل صفاتها الذميمة النفسانية بالصفات الحميدة الروحانية، فاستدعى منهم إحضار بنيامين السر لأن السر لا يحضر مع القلب إلا بعد التبديل المذكور، وإذا حضر معه يوفى بأوفى الكيل ما لم يوف إلى الأوصاف البشرية اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ فيه أن البضاعة كل عمل من الأعمال البدنية التي تحيا بها الأوصاف البشرية إلى حضرة يوسف مردودة إليها، لأن القلب مستغن عنها. وإنما الأوصاف البشرية محتاجة إليها لأن النفس تتأدب وتتزكى بها كما قال تعالى إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [الإسراء: 7] وأن تربية القلب بالأعمال القلبية كالنيات الصالحة ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: نية المؤمن خير من عمله.
وكالعزائم الخالصة والأخلاق الحميدة والتوكل والإخلاص. ثم قال: كمال تربية القلب بالتخلية وتجلي صفات الحق وصفات ذاته لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ من صفة الأمارية إلى المأمورية والاطمئنان فيستحق بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] رُدَّتْ إِلَيْنا فوائده ما ترجع إلى يوسف القلب وَنَمِيرُ أَهْلَنا الأعضاء والجوارح نحصل لهم قوّة زائدة على الطاعة بواسطة رسوخ الملكة له وَنَحْفَظُ أَخانا من الحوادث النفسانية والوساوس الشيطانية وَنَزْدادُ بواسطة حضور السر عند القلب كَيْلَ بَعِيرٍ من الفوائد الربانية ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ لمن يسره الله لَتَأْتُنَّنِي بِهِ مع
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب: 39. مسلم في كتاب المساقاة حديث: 107. ابن ماجه في كتاب الفتن باب: 14. الدارمي في كتاب البيوع باب: 1.(4/107)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
الفوائد الربانية إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ إلا أن يغالب عليكم الأحكام الأزلية لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ لا تتقربوا إلى القلب بنوع واحد من المعاملات فللأسباب مدخل في التقريب إلا أن الكل موكول إلى مسبب الأسباب.
[سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 83]
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73)
قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78)
قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83)
القراآت:
إِنِّي أَنَا أَخُوكَ بفتح الياء: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع. نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالإضافة وبياء الغيبة في الفعلين: سهل ويعقوب. بالنون وبالتنوين: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بالنون وعلى الإضافة. فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا وبابه بالألف ثم الياء: أبو ربيعة عن البزي وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة. الباقون: بياء ثم همزة على الأصل لِي أَبِي بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وافق ابن كثير في أبي.
الوقوف:
يَعْمَلُونَ هـ لَسارِقُونَ هـ تَفْقِدُونَ هـ زَعِيمٌ هـ سارِقِينَ هـ كاذِبِينَ هـ فَهُوَ جَزاؤُهُ ط الظَّالِمِينَ هـ مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ ط لِيُوسُفَ ط يَشاءَ(4/108)
اللَّهُ ط لأن ما بعده مستأنف نَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ مِنْ قَبْلُ ط مَكاناً ج تَصِفُونَ 5 مَكانَهُ ج الثلاثة لانقطاع النظم مع اتصال المعنى الْمُحْسِنِينَ هـ عنده لا لتعلق «إذا» بما قبلها لَظالِمُونَ هـ نَجِيًّا ط يُوسُفَ ط للابتداء بالنفي مع فاء التعقيب يَحْكُمَ اللَّهُ لِي ج لاحتمال ما بعده الابتداء أو الحال الْحاكِمِينَ هـ سَرَقَ ج لانقطاع النظم مع اتحاد القائل حافِظِينَ هـ أَقْبَلْنا فِيها ط لاختلاف الجملتين والابتداء بأنّ.
لَصادِقُونَ هـ أَمْراً ط جَمِيلٌ ط جَمِيعاً ط الْحَكِيمُ هـ.
التفسير:
روي أنهم لما أتوه بأخيهم بنيامين أنزلهم وأكرمهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة، فبقي بنيامين وحده فبكى وقال: لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه. فقال يوسف: بقي أخوكم وحيدا فأجلسه معه على مائدته. ثم أمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتا وقال: هذا لا ثاني له فاتركوه معي فآواه إليه أي أنزله في المنزل الذي كان يأوي إليه، فبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح. ولما رأى تأسفه لأخ هلك قال له: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل. فبكى يوسف وقام إليه وعانقه وقالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ
قال وهب: أراد إني أقوم لك مقام أخيك في الإيناس وعدم التوحش. وقال ابن عباس وسائر المفسرين:
أراد تعريف النسب لأن ذلك أقوى في إزالة الوحشة ولا وجه لصرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة فَلا تَبْتَئِسْ افتعال من البؤس الشدّة والضر أراد نهيه عن اجتلاب الحزن بِما كانُوا يَعْمَلُونَ من دواعي الحسد والأعمال المنكرة التي أقدموا عليها.
يروى أن بنيامين قال ليوسف: أنا لا أفارقك. فقال له يوسف: قد علمت اغتمام والدي بي فإذا حبستك ازداد غمه ولا سبيل إلى ذلك إلا بأن أنسبك إلى ما ليس يحسن. قال: أنا راض بما رضيت. قال: فإني أدس صاعي في رحلك ثم أنادي عليك أنك قد سرقته
فذلك قوله سبحانه فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ والسقاية مشربة يسقى بها وهي الصواع كان يسقى بها الملك أو الدواب ثم جعلت صاعا يكال به. وكان مستطيلا من ذهب أو فضة مموهة بالذهب أو مرصعا بالجواهر أقوال ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد ومعناه راجع إلى الإيذان والإعلام إلا أن التشديد يفيد التكثير أو التصويت بالنداء أَيَّتُهَا الْعِيرُ أراد أصحاب العير
كقوله صلى الله عليه وسلم: «يا خيل الله اركبي»
والعير الإبل التي عليها الأحمال لأنها تعير أي تذهب وتجيء. وقيل: هي قافلة الحمير كأنها جمع عير وأصلها «فعل» بالضم كسقف فأبدلت الضمة كسرة لأجل الياء كما في «بيض» ثم كثر في الاستعمال حتى قيل لكل قافلة عير. وهاهنا سؤال وهو أنه كيف جاز لنبي الله أن يرضى بنسبة قومه إلى السرقة وهم برآء؟ وأجاب العلماء بأنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم لأنهم لما لم يجدوا السقاية(4/109)
غلب على ظنونهم أنهم أخذوها، أو المؤذن ذكر ما ذكر على سبيل الاستفهام، أو المراد أنهم سرقوا يوسف عليه السلام من أبيهم، أو المراد أن فيكم سارقا وهو الأخ الذي رضي بذلك البهتان فلا ذنب لأن الخصم رضي بأن يقال في حقه ذلك. ثم إن إخوة يوسف قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ قيل: صواع اسم للصاع والسقاية وصف وَلِمَنْ جاءَ بِهِ أي بالصواع حِمْلُ بَعِيرٍ من طعام جعلا لمن حصله وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ كفيل هو من قول المؤذن وفيه أن الكفالة كانت صحيحة في شرعهم أيضا إذا كان معلوما فكأن حمل بعير كان عندهم شيئا معلوما كوسق مثلا إلا أن هذه كفالة مال لرد السرقة وهو كفالة ما لم يجب لأنه لا يحل للسارق أن يأخذ شيئا على رد السرقة ولعل مثل هذه الكفالة كانت تصح عندهم قالُوا تَاللَّهِ التاء مبدلة من الواو فضعفت عن التصرف في سائر الأسماء وجعلت فيما هو أحق بالقسم وهو اسم الله عز وجل. حلفوا على أمرين معجبين: أحدهما أنهم علموا أن إخوة يوسف ما جاءوا لأجل الفساد في الأرض بالنهب والغصب ونحو ذلك حتى روي أنهم دخلوا وأفواه دوابهم مشدودة خوفا من أن تتناول زرعا أو طعاما لأحد في الطرق والأسواق، وكانوا مواظبين على أنواع الطاعات ورد المظالم حتى حكي أنهم ردوا بضاعتهم التي وجدوها في رحالهم. وثانيهما أنهم ما وصفوا قط بالسرقة. قالُوا أي أصحاب يوسف: فَما جَزاؤُهُ قال في الكشاف: الضمير للصواع والمضاف محذوف أي فما جزاء سرقته إن كنتم من الكاذبين في جحودكم وادعائكم البراءة؟ قلت: ويحتمل أن يعود إلى السارق، وكان حكم السارق في آل يعقوب أن يسترق سنة فلذلك استفتوا في الجزاء حتى قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أي جزاؤه الرق. قال الزجاج: وقوله فَهُوَ جَزاؤُهُ زيادة في البيان أي فأخد السارق نفسه هو جزاؤه لا غير كما يقال حق السارق القطع جزاؤه لتقرر ما ذكر من استحقاقه، ويجوز أن يكون مبتدأ وباقي الكلام جملة شرطية مرفوعة المحل بالخبرية على أن الأصل جزاؤه من وجد في رحله فهو هو ليكون الضمير الثاني عائد إلى المبتدأ والأول إلى «من» ولكنه وضع المظهر مقام المضمر للتأكيد والمبالغة. وجوز في الكشاف أن يكون جَزاؤُهُ خبر مبتدأ محذوف أي المسئول عنه جزاؤه، ثم أفتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه. أما قوله: كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء نَجْزِي الظَّالِمِينَ فيحتمل أن يكون من بقية كلام إخوة يوسف وأن يكون من كلام أصحاب يوسف والله أعلم.
ثم قال لهم المؤذن ومن معه: لا بد من تفتيش أوعيتكم فانصرف بهم إلى يوسف فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ لنفي التهمة والوعاء كل ما إذا وضع فيه شيء أحاط به.(4/110)
قال قتادة: كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تأثما مما قذفهم به حتى إذا لم يبق إلا أخوه قال: ما أظن هذا أخذ شيئا. فقالوا: والله لا تتركه حتى تنظر في رحله فنظر. ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي السقاية أو الصواع لأنه يذكر ويؤنث. مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ فأخذوا برقبته وحكموا برقيته. ثم قال سبحانه كَذلِكَ أي مثل ذلك الكيد العظيم كِدْنا لِيُوسُفَ يعني علمناه إياه وأوحينا به إليه. والكيد مبدؤه السعي في الحيلة والخديعة ونهايته إلقاء الإنسان من حيث لا يشعر به في أمر مكروه ولا سبيل إلى دفعه، وقد سبق فيما تقدم أن أمثال هذه الألفاظ في حقه تعالى محمولة على النهايات لا على البدايات. وما هذا الكيد؟
قيل: هو أن إخوة يوسف سعوا في إبطال أمره والله تعالى نصره وقواه. وقيل: الكيد يستعمل في الخير أيضا والمعنى كفعلنا بيوسف من الإحسان إليه ابتداء فعلنا به انتهاء.
وقيل: تفسير هذا الكيد هو قوله: ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ لأن حكم الملك في السارق أن يضرب ويغرم مثلي ما سرق فما كان يوسف قادرا على حبس أخيه بناء على دين الملك وحكمه. ومعنى إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هو أن الله كاد له فأجرى على لسان إخوته أن جزاء السارق هو الاسترقاق حتى توصل بذلك إلى أخذ أخيه، وحكم هذا الكيد حكم الحيل الشرعية التي يتوصل بها إلى بعض الأغراض الدينية والدنيوية. ثم مدحه على الهداية إلى هذه الحيلة كما مدح إبراهيم على ما حكى عنه من دلائل التوحيد والبراءة من إلهية الكوكب ثم القمر ثم الشمس فقال: نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ فوقه أرفع درجة منه في علمه. ثم إن أطلق على الله تعالى أنه ذو علم كان هذا العام مخصوصا لأنه لا عليم فوقه، وإن قيل: إنه عالم بلا علم كما يقوله بعض المعتزلة كان النص باقيا على عمومه، وإن قلنا إن الكل بمعنى المجموع كان المعنى وفوق جميع العلماء عليم هم دونه في العلم وهو الله تعالى. والميل إلى هذا التفسير لأن قوله: لَذُو عِلْمٍ مشعر بكون علمه زائدا على حقيقته ووصفه تعالى عين ذاته، وفي هذا البحث طول وفي الرمز كفاية.
يروى أنهم لما استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء وأقبلوا عليه وقالوا له: ما الذي صنعت ففضحتنا وسودت وجوهنا يا بني راحيل، ما يزال لنا منكم بلاء متى أخذت هذا الصاع؟ فقال: بنو راحيل هم الذين لا يزال منكم عليهم البلاء، ذهبتم بأخي فأهلكتموه ووضع هذا الصواع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم
فعند ذلك قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ عنوا به يوسف. واختلف في تلك السرقة فعن سعيد بن جبير أن جده أبا أمه كان يعبد الوثن فأمرته أمه بأن يسرق تلك الأوثان ويكسرها فلعله يترك عبادتها. وقيل: سرق عناقا من أبيه أو دجاجة ودفعها إلى مسكين. وقيل: كانت لإبراهيم عليه السلام منطقة يتوارثها أكابر ولده فورثها إسحق(4/111)
ثم وقعت إلى ابنته عمة يوسف فحضنت يوسف إلى أن شب فأراد يعقوب أن ينتزعه منها وكانت تحبه حبا شديدا فشدت المنطقة على يوسف تحت ثيابه ثم زعمت أنه قد سرقها، وكان في شرعهم استرقاق السارق فتوسلت بهذه الحيلة إلى إمساكه عند نفسها. وقيل:
إنهم كذبوا عليه وبهتوه حسدا وغيظا. فَأَسَرَّها يُوسُفُ قال الزجاج وغيره: الضمير يعود إلى الكلمة أو الجملة كأنه قيل: فأسر الجملة في نفسه ولم يبدها لهم، ثم فسرها بقوله:
قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً والمعنى أنه قال هذه الجملة على سبيل الخفية. وطعن الفارسي في هذا الوجه فقال: إن هذا النوع من الإضمار على شريطة التفسير غير مستعمل، والحق أن القرآن حجة على غيره. وقيل: الضمير عائد إلى الإجابة أي أسر يوسف إجابتهم في ذلك الوقت إلى وقت آخر. وقيل: يعود إلى المقالة أو السرقة أي لم يبين يوسف أن تلك السرقة كيف وقعت وأنه ليس فيها ما يوجب الذم والعار. وعن ابن عباس أنه قال: عوقب يوسف ثلاث مرات: عوقب بالحبس لأجل همه بها، وبالحبس الطويل لقوله: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وبقولهم: فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ لقوله: إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ ومعنى شَرٌّ مَكاناً شر منزلة لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم على التحقيق وقلتم أكله الذئب وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ المراد أنه يعلم أني لست بسارق في التحقيق ولا أخي، أو الله أعلم بأن الذي وصفتموه هل يوجب ذما أم لا.
قال ابن عباس: لما قال يوسف هذا القول غضب يهوذا وكان إذا غضب وصاح لم تسمع صوته حامل إلا وضعت وقام شعره على جلده فلا يسكن حتى يضع بعض آل يعقوب يده عليه. فقال لبعض إخوته: اكفوني أسواق أهل مصر وأنا أكفيكم الملك فقال يوسف لابن صغير له: مسه فمسه فذهب غضبه وهم أن يصيح فركض يوسف رجله على الأرض ليريه أنه شديد وجذبه فسقط فعند ذلك قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً في السن أو في القدر وهو أحب إليه منا فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ استعبادا أو رهنا حتى نبعث الفداء إليك فلعل العفو أو الفداء كان جائزا أيضا عندهم إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ لو فعلت ذلك أو من المحسنين إلينا بأنواع الكرامة ورد البضاعة إلى رحالنا أو أرادوا الإحسان إلى أهل مصر حيث أعتقهم بعد ما اشترى رقابهم بالطعام قالَ يوسف مَعاذَ اللَّهِ من أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً أي إذا أخذنا غيره لَظالِمُونَ في مذهبكم لأن استعباد غير من وجد الصواع في رحله ظلم عندكم، أو أراد إن الله أمرني وأوحى إليّ بأخذ بنيامين فلو أخذت غيره كنت عاملا بخلاف الوحي فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ حيث لم يقبل الشفاعة أي يئسوا والزيادة للمبالغة. خَلَصُوا اعتزلوا عن الناس خالصين لا يخالطهم غيرهم نَجِيًّا مصدر والمضاف محذوف أي ذوي نجوى، أو المراد أنهم(4/112)
التناجي في أنفسهم لاستجماعهم بذلك واندفاعهم فيه بجد واهتمام كما يقال: رجل جور ورجال عدل، أو صفة لموصوف محذوف أي فوجا نجيا بمعنى مناجيا بعضهم لبعض كالعشير بمعنى المعاشر. وفيم كان تناجيهم؟ الجواب في تدبير أمرهم على أيّ وجه يذهبون وماذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم فعند ذلك قالَ كَبِيرُهُمْ في السن وهو روبيل، أو في القدر وهو شمعون لأنه كان رئيسهم، أو في العقل والرأي وهو يهوذا.
وقوله: ما فَرَّطْتُمْ إما أن تكون «ما» صلة أي ومن قبل هذا قصرتم فِي شأن يُوسُفَ ولم توفوا بعهدكم أباكم، وإما أن تكون مصدرية محله الرفع على الابتداء وخبره بالظرف تقديره ومن قبل تفريطكم أي وقع من قبل تقصيركم في حقه، أو النصب عطفا على مفعول ألم تعلموا كأنه ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا وتفريطكم من قبل، وإما أن تكون موصولة بمعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه أي قدمتموه في شأن يوسف من الجناية والخيانة ومحل الموصول الرفع أو النصب على الوجهين. فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ فلن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الانصراف أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي بالخروج منها أو بالانتصاف من أخذ أخي أو بخلاصه من يده بسبب من الأسباب.
ثم إنه بقي ذلك الكبير في مصر وقال لغيره من الإخوة: ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ قاله بناء على ما شاهد من استخراج الصواع من وعائه، أو أراد أنه سرق في قول الملك وأصحابه كقول قوم شعيب إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ [هود: 87] أي في زعمك واعتقادك، أو المراد إن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة. وإطلاق اسم أحد الشبيهين على الآخر جائز أو القوم ما كانوا حينئذ أنبياء فلا يبعد منهم الذنب. وعن ابن عباس أنه قرأ سَرَقَ مشددا مبنيا للمفعول أي نسب إلى السرقة. وعلى هذا فلا إشكال، ومما يدل على أنهم بنوا الأمر على الظاهر قوله وَما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا أي إلا بقدر ما تيقناه من رؤية الصواع في وعائه وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ للأمر الخفي حافِظِينَ فإن الغيب لا يعلمه إلا الله. وعن عكرمة أن الغيب الليل معناه لعل الصواع دس في رحله بالليل من حيث لا يشعر، أو ما علمنا أنه سيسرق حين أعطيناك الموثق قاله مجاهد والحسن وقتادة، أو ما علمنا أنا إذا قلنا إن شرع بني إسرائيل هو استرقاق السارق أخذ أخونا بتلك الحيلة.
ثم بالغوا في إزالة التهمة فقالوا: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها الأكثرون على أنها مصر.
وقيل: قرية على باب مصر وقع فيها التفتيش أي أرسل إلى أهلها فاسألهم عن كنه القصة وَاسأل أصحاب الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وكانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب.
وقيل: قوما من أهل صنعاء. وقال ابن الأنباري: إن يعقوب كان من أكابر الأنبياء فلا يبعد أن يحمل سؤال القرية على الحقيقة بأن ينطق الله الجمادات لأجله معجزة، فالمراد اسأل(4/113)
القرية والعير والجدران والحيطان فإنها تجيبك بصحة ما ذكرنا. وقيل: إن الشيء إذا ظهر ظهورا تاما فقد يقال سل عنه السماء والأرض وجميع الأشياء ويراد إنه ليس للشك فيه مجال. ثم زادوا في تأكيد نفي التهمة قائلين وَإِنَّا لَصادِقُونَ وليس غرضهم إثبات صدقهم فإن ذلك يجري مجرى إثبات الشيء بنفسه ولكن الإنسان إذا ذكر الدليل القاطع على صحة الشيء فقد يقول بعده أنا صادق فتأمل فيما ذكرته ليزول عنك الشك. وهاهنا إضمار التقدير فرجعوا إلى أبيهم فقالوا له ما قال لهم أخوهم فعند ذلك: قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وقد مر تفسيره في أول السورة. ولكن المفسرين زادوا شيئا آخر فقيل: المراد أنه خيل إليكم أنه سرق وما سرق. وقيل: أراد سوّلت لكم أنفسكم إخراج بنيامين والمصير به إلى مصر طلبا للمنفعة فعاد من ذلك شر وضرر وألححتم عليّ في إرساله معكم ولم تعلموا أن قضاء الله ربما جاء على خلاف تقديركم. وقيل: أراد فتواهم وتعليمهم وإلا فما أدرى ذلك الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته. واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز على يعقوب السعي في إخفاء حكم الله تعالى؟ وأجيب بأن ذلك الحكم لعله كان مخصوصا بما إذا كان المسروق له مسلما وكان الملك في ظن يعقوب كافرا، ولما طال بلاؤه ومحنته علم بحسن الظن والرجاء أنه سبحانه سيجعل له فرجا ومخرجا عما قريب، أو لعله علم بالوحي أن يوسف حي وكان بنيامين والكبير الذي قال:
فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ قد بقيا في مصر فلذلك قال: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ أي بالثلاثة الغائبين جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي الْحَكِيمُ في كل ما يفعله من الابتلاء والإبلاء.
التأويل:
لما دخل الأوصاف البشرية ومعهم السر عَلى يُوسُفَ القلب آوى القلب السر إِلَيْهِ لأنه أخوه الحقيقي بالمناسبة الروحانية فَلا تَبْتَئِسْ إذا وصلت بي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ معك في مفارقتي لأن السر مهما كان مفارقا من قلب مقارنا للأوصاف كان محروما عن كمالات هو مستعد لها فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ جهز القلب الأوصاف بما يلائم أحوالها جَعَلَ السِّقايَةَ وهي مشربة كان منها شربه فِي رَحْلِ أَخِيهِ لأنهما رضيعا لبان واحد إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ سرقتم في الأول يوسف القلب وشريتموه بثمن بخس من متاع الدنيا وشهواتها، وسرقتم في الآخر مشربة ليست من مشاربكم، وفيه أن من ادعى الشرب من مشارب الرجال وهو طفل بعد أخذ بالسرقة واستردت منه وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ من علف الدواب ومراتع الحيوانات لأنه ليس مستحقا للشرب من مشارب الملوك لَقَدْ عَلِمْتُمْ أنا من المقبولين المقبلين على يوسف القلب لا نريد الإفساد في أرض الدنيا كما قالت الملائكة أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] وَما كُنَّا سارِقِينَ إذ(4/114)
أخذنا يوسف القلب وألقيناه في غيابة الجب البشرية بل سعينا في أن ينال مملكة مصر العبودية ليكون عزيزا فيها ونحن أذلاء له جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ أي لكل شارب مشرب ولكل شرب فدية. ففدية الشارب من مشرب الدنيا صنعته وحرفته وكسبه، وفدية الشارب من مشرب الآخرة الدنيا وشهواتها، وفدية الشارب من شرب المحبة بذل الوجود كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ الذين وضعوا صواع الملك في غير موضعه طمعا في أن يكونوا حريف الملك وشريبه كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ أي كما كاد الأوصاف البشرية في الابتداء بيوسف القلب إذ ألقوه في جب البشرية كدنا بهم عند قسمة الأقوات من خزانة الملك فجعلنا قسمتهم من مراتع الحيوانات يأكلون كما تأكل الأنعام، وقسمة بنيامين السر من مشربة الملك. وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ آتيناه علم الصعود عَلِيمٌ بجذبه من المصعد الذي يصعد إليه بالعلم المخلوق إلى مصعد لا يصعد إليه إلا بالعلم القديم وهو السير في الله بالله إلى الله، وهذا صواع لا تسعه أوعية الإنسانية إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فيه إشارة إلى السر والقلب مع أنهما مخصوصان بالحظوظ الأخروية والروحانية فإنهما قابلان للاسترقاق من الشهوات الدنياوية والنفسانية. ولما رأت الأوصاف البشرية عزة القلب وعرفت اختصاص البشرية أرادت أن تفدي نفسها وسيلة إلى يعقوب الروح فقالت: فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ قالَ مَعاذَ اللَّهِ أن نقبل بالصحبة والمخالطة إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا من الصدق والمحبة والإخلاص عنده أي لا تكون صحبتنا بالكراهية والنفاق وإنما تكون بعلة الجنسية فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا من صحبة القلب خَلَصُوا عن الأوصاف الذميمة للتناجي قالَ كَبِيرُهُمْ هو العقل ألم تعلموا أن أباكم وهو الروح قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ يوم الميثاق أن لا تعبدوا إلا الله فَلَنْ أَبْرَحَ أرض فناء القلب وهي الصدر. والحاصل أن صفة العقل لما تخلصت عن الأوصاف البشرية خرجت عن أوامر النفس وتصرفاتها وصارت محكومة لأوامر الروح مستسلمة لأحكام الحق. ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ الروح على أقدام العبودية وتبديل الأخلاق إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ لأنه وجد في رحله مشربة المحبة التي بها يكال الحب على وفده. وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ عند ارتحالنا من الغيب إلى الشهادة حافِظِينَ لأنه جعل السقاية في رحله في غيبتنا. وَسْئَلِ أهل مصر الملكوت وأرواح الأنبياء والأولياء قالَ بَلْ سَوَّلَتْ فيه أن للنفس تزيينات وللأوصاف البشرية خيالات يتأذى بها يعقوب الروح لكن عليه أن يصبر على إمضاء أحكام الله وتنفيذ قضائه عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي فيه أن متولدات الروح من القلب والأوصاف وغيرها وإن تفرقوا وتباعدوا عن الروح في الجسد للاستكمال فإن الله بجذبات العناية يجمعهم في مقعد صدق عنده مليك مقتدر إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بافتراقهم الْحَكِيمُ بما في التفريق والجمع من الفوائد.(4/115)
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
[سورة يوسف (12) : الآيات 84 الى 101]
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93)
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
القراآت:
مُزْجاةٍ بالإمالة: حمزة وعلي وخلف زْنِي
بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو. قالوا إنك على الخبر أو على حذف حرف الاستفهام:
ابن كثير ويزيد. أَإِنَّكَ بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وهشام يدخل بينهما مدة. أينك بهمز ثم ياء: نافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد آينك بهمزة ممدودة ثم ياء: أبو عمرو وزيد وقالون. من يتقي بالياء في الحالين: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل. الباقون بغير ياء إِنِّي أَعْلَمُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو(4/116)
عمرو رَبِّي إِنَّهُ بالفتح أيضا: أبو جعفر وأبو عمرو أبي إذ بالفتح أيضا عندهم إِخْوَتِي ربي بفتح الياء أيضا: يزيد والنجاري عن ورش وقالون غير الحلواني والله أعلم.
الوقوف:
كَظِيمٌ هـ الْهالِكِينَ هـ تَعْلَمُونَ
هـ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ط الْكافِرُونَ هـ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا ط الْمُتَصَدِّقِينَ هـ جاهِلُونَ هـ لَأَنْتَ يُوسُفُ ط أَخِي ز لتعجيل الشكر مع اختلاف الجملتين. عَلَيْنا ط لاحتمال أنه ابتداء إخبار من الله، وإن كان من قول يوسف جاز الوقف أيضا لاتحاد القائل مع الابتداء بأن الْمُحْسِنِينَ هـ لَخاطِئِينَ هـ الْيَوْمَ ط لاختلاف الجملتين نفيا وإثباتا أو خبرا ودعاء لَكُمْ ط لاحتمال الاستئناف والحال أوضح الرَّاحِمِينَ هـ يَأْتِ بَصِيراً ج لطول الكلام واعتراض الجواب مع اتفاق الجملتين أَجْمَعِينَ هـ تُفَنِّدُونِ هـ الْقَدِيمِ هـ بَصِيراً ج لاحتمال أن يكون ما بعده جواب «لما» وقوله أَلْقاهُ حالا بإضمار «قد» ما لا تَعْلَمُونَ هـ خاطِئِينَ هـ رَبِّي ط الرَّحِيمُ هـ آمِنِينَ هـ سُجَّداً ج مِنْ قَبْلُ ز لتمام الجملة لفظا دون المعنى. حَقًّا ط لتمام بيان الجملة الأولى وابتداء جملة عظمى إِخْوَتِي ط لِما يَشاءُ ط الْحَكِيمُ هـ الْأَحادِيثِ ج لحق حذف حرف النداء مع اتصال الكلام وَالْآخِرَةِ ج لانقطاع النظم مع اتصال الثناء بالدعاء بِالصَّالِحِينَ هـ.
التفسير:
لما سمع يعقوب ما سمع من حال ابنه ضاق قلبه جدا وَتَوَلَّى عَنْهُمْ أي أعرض عن بنيه الذين جاءوا بالخبر وفارقهم وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ الأسف أشد الحزن. والألف فيه مبدل من ياء الإضافة ونداء الأسف كنداء الويل وقد مر في المائدة.
والتجانس بين لفظي الأسف ويوسف لا يخفى حسنه وهو من الفصاحة اللفظية. وكيف تأسف على يوسف دون أخيه الآخر الذي أقام بمصر والرزء الأحدث أشد؟ الجواب لأن الحزن الجديد يذكر العتيق والأسى يجلب الأسى، ولأن رزء يوسف كان أصل تلك الرزايا فكان الأسف عليه أسفا على الكل ولأنه كان عالما بحياة الآخرين دون حياة يوسف وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ أي من البكاء الذي كان سببه الحزن. قال الحكماء: إذا كثر الاستعبار أوجب كدورة في سواد العين مائلة فيكون منها العمى لإيلام الطبقات ولا سيما القرينة وانصباب الفضول الردية إليها. قال مقاتل: لم يبصر ست سنين حتى كشفه الله تعالى بقميص يوسف. وقال آخرون: لم يبلغ حد العمى وكان يدرك إدراكا ضعيفا، أو المراد بالبياض غلبة البكاء كأن العين ابيضت من بياض ذلك الماء. روي أنه لم تجف عين(4/117)
يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأل جبريل ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟
وجد سبعين ثكلى. قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله ساعة قط.
ونقل أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف حين ما كان في السجن فقال:
إن بصر أبيك ذهب من الحزن عليك. فوضع يوسف يده على رأسه وقال: ليت أمي لم تلدني فلم أكن حزنا على أبي،
قال أكثر أهل اللغة: الحزن والحزن لغتان بمعنى. وقال بعضهم: الحزن بالضم فالسكون البكاء، والحزن بفتحتين ضد الفرح. وقد روى يونس عن أبي عمرو قال: إذا كان في موضع النصب فتحوا كقوله تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً [التوبة: 92] . وإذا كان في موضع الجر أو الرفع ضموا كقوله من الحزن. وقوله:
َّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
قال: هو في موضع رفع بالابتداء. قيل: كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟ وأجيب بأن المنهي من الجزع هو الصياح والنياحة وضرب الخد وشق الثوب لا البكاء ونفثة المصدور،
فلقد بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وقال: القلب يجزع والعين تدمع ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون.
ومما يدل على أن يعقوب عليه السلام أمسك لسانه عن النياحة وعما لا ينبغي قوله: فَهُوَ كَظِيمٌ «فعيل» بمعنى «مفعول» أي مملوء من الغيظ على أولاده من غير إظهار ما يسوءهم، أو مملوء من الحزن مع سد طريق نفثة المصدور من كظم السقاء إذا شده على ملئه، أو بمعنى الفاعل أي الممسك لحزنه غير مظهر إياه. والحاصل أنه غرق ثلاثة أعضاء شريفة منه في بحر المحنة: فاللسان كان مشغولا بذكر يا أَسَفى والعين كانت مستغرقة في البكاء، والقلب كان مملوءا من الحزن. ومثل هذا إذا لم يكن بالاختيار لم يدخل تحت التكليف فلا يوجب العقاب.
يروى أن ملك الموت دخل على يعقوب فقال له: جئتني لتقبضني قبل أن أرى حبيبي؟ قال: لا ولكن جئت لأحزن لحزنك وأشجو لشجوك.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لم تعط أمة من الأمم إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ عند المصيبة إلا أمة محمد، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع وإنما قال يا أسفا»
وضعف هذه الرواية فخر الدين الرازي في تفسيره وقال: من المحال أن لا تعرف أمة من الأمم أن الكل من الله وأن الرجوع لا محالة إليه. وأقول: هذا نوع من المكابرة فإن منكري المبدأ والمعاد أكثر من حصباء الوادي، على أن المراد من الإعطاء الإرشاد إلى هذا الذكر وخصوصا عند المصيبة
وقد أخبر الصادق عليه السلام أن هذا مما خصت هذه الأمة به
والله أعلم. قالُوا الأظهر أنهم ليسوا أولاده الذين تولى عنهم وإنما هم جماعة كانوا في الدار من خدمه وأولاد أولاده. تَاللَّهِ تَفْتَؤُا أراد «لا تفتؤ» فحذف حرف النفي(4/118)
لعدم الإلباس إذ لو كان إثباتا لم يكن بد من اللام والنون. قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة: أي لا تزال تذكر. وعن مجاهد: لا تفتر من حبه كأنه جعل الفتور والفتوء أخوين. قال أبو زيد: ما فتئت أذكره أي ما زلت لا يتكلم به إلا مع الجحد حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً وصف بالمصدر للمبالغة. والحرض فساد في الجسم والعقل للحزن والحب حتى لا يكون كالأحياء ولا كالأموات، أرادوا أنك تذكر يوسف بالحزن والبكاء عليه حتى تشفى على الهلاك أو تهلك فأجابهم بقوله: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
قالت العلماء: إذا أسر الإنسان حزنه كان هما، وإذا لم يقدر على إسراره فذكر لغيره كان بثا. فالبث أصعب الهم الذي لا يصبر عليه صاحبه فيبثه إلى الناس. فمعنى الآية إني لا أذكر الحزن الشديد ولا القليل إلا مع الله ملتجئا إليه وداعيا له فخلوني وشكايتي. وهذا مقام العارفين الصديقين
كقول نبينا صلى الله عليه وسلم «أعوذ بك منك» .
ويحتمل أن يكون هذا معنى توليه عنهم أي تولى عنهم إلى الله والشكاية إليه.
يحكى أنه دخل على يعقوب رجل وقال له: ضعف جسمك ونحف بدنك وما بلغت سنا عاليا. فقال: الذي بي لكثرة غمومي. فأوحى الله إليه يا يعقوب أتشكوني إلى خلقي؟
فقال: يا رب خطيئة أخطأتها فاغفرها لي فغفر له.
فكان بعد ذلك إذا سأل قال: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ
وروي أنه أوحي إلى يعقوب إنما وجدت- أي غضبت- عليكم لأنكم ذبحتم شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه وإن أحب خلقي إليّ الأنبياء ثم المساكين فاصنع طعاما وادع عليه المساكين.
وقيل: اشترى جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتى عميت. واعلم أن حال يعقوب في تلك الواقعة كانت مختلفة فتارة كان مستغرقا في بحار معرفة الله، وتارة كان يستولي عليه الحزن والأسف فلهذا كانت هذه الحادثة بالنسبة إليه كإلقاء إبراهيم في النار، وكابتلاء إسحق بالذبح، وكان شغل همه بيوسف بغير اختيار منه، وكذا تأسفه عليه، وما روي أنه عوتب على ذلك فلأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وبالحقيقة كانت واقعة يعقوب أمرا خارق العادة أراد الله تعالى بذلك ابتلاءه وتمادي أسفه وحزنه وإلا فمع غاية شهرته وشدة محبته وقرب المسافة بينه وبين ابنه كيف خفي حال يوسف ولم لم يبعث يوسف إليه رسولا بعد تملكه وقدرته، ولم زاد في حزن أبيه بحبس أخيه عنده؟! أما قوله: أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ
فمعناه أعلم من رحمته وإحسانه ما لا تعلمون، فأرجو أن يأتيني الفرج من حيث لا أحتسب.
وقيل: إنه رأى ملك الموت في المنام فقال له: يا ملك الموت هل قبضت روح ابني يوسف؟ قال: لا يا نبي الله. ثم أشار إلى جانب مصر وقال: اطلبه هاهنا.
وقيل: إنه كان(4/119)
قد رأى أمارات الرشد والكمال في يوسف فعلم أن رؤياه صادقة لا تخطىء. وقال السدي:
أخبره بنوه بسيرة الملك وكمال حاله في أقواله وأفعاله أنه ابنه، أو علم أن بنيامين لا يسرق وسمع أن الملك ما آذاه فغلب على ظنه أن الملك هو يوسف. وقيل: أوحى الله تعالى إليه أنه سيلقى ابنه ولكنه ما عين الوقت فلذلك قال ما قال. ثم دعا بنيه على سبيل التلطف فقال: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وهو طلب الشيء بالحاسة كالتسمع والتبصر ومثله التجسس بالجيم. وقد قرىء بهما وربما يخص الجيم بطلب الخبر في ضد الخير وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ من فرجه وتنفيسه وقرىء بالضم أي من رحمته التي تحيا بها العباد. قال الأصمعي: الروح ما يجده الإنسان من نسيم الهواء فيسكن إليه، والتركيب يدل على الحركة والهزة فكل ما تهتز بوجوده وتلتذ به فهو روح إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ لأن هذا اليأس دليل على أنه اعتقد أن الله تعالى غير قادر على كل المقدورات، أو غير عالم بجميع المعلومات، أو ليس بجواد مطلق ولا حكيم لا يفعل العبث، وكل واحدة من هذه العقائد كفر فضلا عن جميعها اللهم إني لا أيأس من روحك فافعل بي ما أنت أهله. ثم هاهنا إضمار والتقدير فقبلوا وصية أبيهم وعادوا إلى مصر فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ أي الملك القادر المنيع مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ الفقر والحاجة إلى الطعام وعنوا بأهلهم من خلفهم وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ مدفوعة يدفعها كل تاجر رغبة عنها من أزجيته إذا دفعته قال سبحانه أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً [النور:
43] ومنه قولهم: «فلان يزجي العيش» أي يدفع الزمان بالقليل. قال الكلبي: هي من لغة العجم. وقيل: لغة القبط. والأصح أنها عربية لوضوح اشتقاقها. قيل: كانت بضاعتهم الصوف والسمن. وقيل: الصنوبر والحبة الخضراء. وقيل: سويق المقل والأقط. وقيل:
دراهم زيوفا لا تؤخذ إلا بنقص لأنها لم يكن عليها صورة يوسف وكانت دراهم مصر ينقش عليها صورته. فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ الذي هو حقنا. وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا واعلم أنهم طلبوا المسامحة بما بين الثمنين وأن يسعر لهم بالرديء كما يسعر بالجيد. واختلف العلماء في أنه هل كان ذلك منهم طلب الصدقة؟ فقال سفيان بن عيينة: إن الصدقة كانت حلالا على الأنبياء سوى محمد صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: أرادوا بالصدقة التفضل بالإغماض عن رداءة البضاعة وبإيفاء الكيل والصدقات محظورة على الأنبياء كلهم. وقوله: إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ يمكن تنزيله على القولين لأن كل إحسان يبتغى به وجه الله فإن ذلك لا يضيع عنده والصدقة العطية التي ترجى بها المثوبة عند الله ومن ثم لم يجوز العلماء أن يقال: الله تعالى متصدق أو اللهم تصدق علي بل يجب أن يقال: اللهم أعطني أو تفضل علي أو ارحمني.(4/120)
كان يعقوب أمرهم بالتحسس من يوسف وأخيه والمتحسس يجب عليه أن يتوسل إلى مطلوبه بجميع الطرق كما قيل: الغريق يتعلق بكل شيء. فبدأوا بالعجز والاعتراف بضيق اليد وإظهار الفاقة فرقق الله تعالى قلبه وارفضت عيناه فعند ذلك قال: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ
وقيل: أدوا إليه كتاب يعقوب: من يعقوب إسرائيل الله بن إسحق ذبيح الله ابن إبراهيم خليل الله إلى عزيز مصر أما بعد، فإنا أهل بيت موكل بنا البلاء. أما جدي فشدت يداه ورجلاه ورمي به في النار ليحرق فنجاه الله تعالى وجعلت النار عليه بردا وسلاما، وأما أبي فوضع السكين على قفاه ليقتل ففداه الله، وأما أنا فكان لي ابن وكان أحب أولادي إلي فذهب به إخوته إلى البرية ثم أتوني بقميصه ملطخا بالدم وقالوا قد أكله الذئب فذهبت عيناي من بكائي عليه، ثم كان لي ابن وكان أخاه من أمه وكنت أتسلى به فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا إنه سرق وإنك حبسته لذلك، وإنا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقا فإن رددته علي وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك والسلام. فلما قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك وعيل صبره فقال لهم ذلك.
وروي أنه لما قرأ الكتاب بكى وكتب الجواب: «اصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا» .
وقوله: هَلْ عَلِمْتُمْ استفهام يفيد تعظيم الواقعة ومعناه ما أعظم الأمر الذي ارتكبتم من يوسف وما أقبح ما أقدمتم عليه كما يقال للمذنب: هل تدري من عصيت. وفيه تصديق لقوله سبحانه: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا [يوسف: 15] وأما فعلهم بأخيه فتعريضهم إياه للغم بإفراده عن أخيه لأبيه وأمه وإيذاؤهم له بالاحتقار والامتهان. وقوله: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ جار مجرى الاعتذار عنهم كأنه قال:
إنما أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال ما كنتم في أوان الصبا وزمان الجهالة.
والغرة إزالة للخجالة عنهم فإن مطية الجهل الشباب وتنصحا لهم في الدين أي هل علمتم قبحه فتبتم لأن العلم بالقبح يدعو إلى التوبة غالبا فآثر كما هو عادة الأنبياء حق الله على نفسه في المقام الذي يتشفى المغيظ وينفث المصدور ويدرك ثأره الموتور. وقيل: إنما نفى العلم عنهم لأنهم لم يعملوا بعلمهم. ولما كلمهم بذلك قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ عرفوه بالخطاب الذي لا يصدر إلا عن حنيف مسلم عن سنخ إبراهيم، أو تبسم عليه السلام فعرفوه بثناياه وكانت كاللؤلؤ المنظوم، أو رفع التاج عن رأسه فنظروا إلى علامة بقرنه تشبه الشامة البيضاء كان ليعقوب وسارة مثلها قالَ أَنَا يُوسُفُ صرح بالاسم تعظيما لما جرى عليه من ظلم إخوته كأنه قال: أنا الذي ظلمتموني على أشنع الوجوه والله أوصلني إلى أعظم المناصب، أنا ذلك الأخ الذي قصدتم قتله ثم صرت كما ترون ولهذا قال: وَهذا أَخِي مع أنهم كانوا يعرفونه لأن مقصوده أن يقول وهذا أيضا كان مظلوما كما كنت صار منعما عليه من الله وذلك قوله: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أي بكل خير دنيوي(4/121)
وأخروي أو بالجمع بعد التفريق إِنَّهُ أي الشأن مَنْ يَتَّقِ عقاب الله وَيَصْبِرْ عن معاصيه وعلى طاعته فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ أراد أجرهم فاكتفى من الربط بالعموم. ومن قرأ يَتَّقِي بإثبات الياء فوجهه أن يجعل «من» بمعنى «الذي» ، ويجوز على هذا الوجه أن يكون قوله: وَيَصْبِرْ في موضع الرفع إلا أنه حذفت الحركة للتخفيف أو المشاكلة. وفي الآية دليل على براءة ساحة يوسف ونزاهة جانبه من كل سوء وإلا لم يكن من المتقين الصابرين.
قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا اعتراف منهم بتفضيله عليهم بالتقوى والصبر وسيرة المحسنين وصورة الأحسنين. ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا أنبياء وإن احتج به بعضهم لأن الأنبياء متفاوتون في الدرجات تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة:
253] وَإِنْ كُنَّا وإن شأننا أنا كنا خاطئين. قال أبو عبيدة: خطىء وأخطأ بمعنى واحد.
وقال الأموي: المخطئ من أراد الصواب فصار إلى غيره ومنه قولهم: «المجتهد يخطىء ويصيب» . والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي. قال أبو علي الجبائي: إنهم لم يعتذروا عن ذلك الذي فعلوا بيوسف لأنه وقع منهم قبل البلوغ ومثل ذلك لا يعد ذنبا، وإنما اعتذروا من حيث إنهم أخطئوا بعد ذلك حين لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنه حي وأن الذئب لم يأكله. واعترض عليه فخر الدين الرازي بأنه يبعد من مثل يعقوب أن يبعث جمعا من الصبيان من غير أن يبعث معهم رجلا بالغا عاقلا، فالظاهر أنه وقع ذلك منهم بعد البلوغ.
سلمنا لكن ليس كل ما لا يجب الاعتذار عنه لا يحسن الاعتذار عنه، ولما اعترفوا بفضله عليهم وبكونهم متعمدين للإثم قالَ يوسف لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ لا تأنيب ولا توبيخ.
وقيل: لا أذكر لكم ذنبكم. وقيل: لا مجازاة لكم عندي على ما فعلتهم. وقيل: لا تخليط ولا إفساد عليكم واشتقاقه من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كالتجليد والتقريد لإزالة الجلد والقراد وذلك لأنه إذا ذهب منه الثرب كان في غاية الهزال والعجف فصار مثلا للتقريع المدنف المضني. وقوله: الْيَوْمَ إما أن يتعلق بالتثريب أو بالاستقرار المقدر في عليكم أي لا أثربكم اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره. ثم ابتدأ فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم ليكون عقاب الدارين مزالا عنهم.
وأصل الدعاء أن يقع على لفظ المستقبل فإذا أوقعوه لفظ الماضي فذلك للتفاؤل، ويحتمل أن يكون الْيَوْمَ متعلقا بالدعاء فيكون فيه بشارة بعاجل غفران الله لتجدد توبتهم وحدوثها في ذلك اليوم.
يروى أن إخوته لما عرفوه أرسلوا إليه إنك تدعونا إلى طعامك بكرة وعشيا ونحن نستحيي منك لما فرط منا فيك. فقال يوسف: إن أهل مصر وإن ملكت(4/122)
فيهم فإنهم ينظرون إليّ شزرا ويقولون: سبحان من بلغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلغ، ولقد شرفت الآن بكم وعظمت في العيون حيث علم الناس أنكم إخوتي وأني من حفدة إبراهيم.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخذ يوم الفتح بعضادتي باب الكعبة فقال لقريش: ما ترونني فاعلا بكم؟ قالوا: نظن خيرا أخ كريم وابن أخ كريم وقد قدرت. فقال صلى الله عليه وسلم: أقول ما قال أخي يوسف لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ.
قال عطاء الخراساني: طلب الحوائج إلى الشباب أسهل منها إلى الشيوخ، ألا ترى إلى قول يوسف لإخوته لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وقول يعقوب: سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ولما عرفهم يوسف نفسه سألهم عن أبيهم فقالوا ذهبت عيناه فقال: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً كقولك جاء البنيان محكما ومثله فَارْتَدَّ بَصِيراً أو المراد يأت إلي وهو بصير دليله قوله:
وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ قيل: هو القميص المتوارث الذي كان في تعويذ يوسف وكان من الجنة أوحى الله إليه أن فيه عافية كل مبتلي وشفاء كل سقيم. وقالت الحكماء: لعله علم أن أباه ما كان أعمى وإنما صار ضعيف البصر من كثرة البكاء فإذا ألقى عليه قميصه صار منشرح الصدر فتقوى روحه ويزول ضعفه.
روي أن يهوذا حمل القميص وقال: أنا أحزنته بحمل القميص ملطوخا بالدم فأفرحه كما أحزنته، فحمله وهو حاف حاسر من مصر إلى كنعان وبينهما مسيرة ثمانين فرسخا.
عن الكلبي: كان أهله نحوا من سبعين إنسانا.
وقال مسروق: دخل قوم يوسف مصر وهم ثلاثة وتسعون من بين رجل وامرأة وخرجوا منها مع موسى ومقاتلتهم نحو من ستمائة ألف.
وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ خرجت من عريش مصر فصل من البلد فصولا انفصل منه وجاوز حيطانه، وفصل مني إليه كتاب إذا نفذ وإذا كان فصل متعديا كان مصدره الفصل قالَ أَبُوهُمْ لمن حوله من قومه إِنِّي لَأَجِدُ بحاسة الشم رِيحَ يُوسُفَ قال مجاهد:
هبت ريح فصفقت القميص ففاحت رائحة الجنة في الدنيا فعلم يعقوب أنه ليس في الدنيا من ريح الجنة إلا ما كان من ذلك القميص. قال أهل التحقيق: إن الله تعالى أوصل إليه ريح يوسف عند انقضاء مدة المحنة ومجيء أوان الروح والفرح من مسيرة ثمان، ومنع من وصول خبره إليه مع قرب البلدين في مدة ثمانين سنة أو أربعين عند الأكثرين وكلاهما معجزة ليعقوب خارقة للعادة، وذلك يدل على أن كل سهل فهو في زمان المحنة صعب وكل صعب فإنه في زمان الإقبال سهل. وقوله: لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ جوابه محذوف أي لولا تفنيدكم إياي لصدّقتموني. والتفنيد النسبة إلى الفند وهو الخرف وتغير العقل من هرم يقال: شيخ مفند ولا يقال عجوز مفندة لأنها لم تكن ذات رأي فتفند في الكبر. قالُوا(4/123)
يعني الحاضرين عنده تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ أي فيما كنت فيه قدما من البعد عن الصواب في إفراط محبة يوسف كما قال بنوه إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [يوسف: 8] .
وقيل: لفي شقائك القديم بما تكابد على يوسف من الأحزان. قال الحسن: إنما قالوا هذه الكلمة الغليظة لاعتقادهم أن يوسف قد مات. فَلَمَّا أَنْ جاءَ «أن صلة» أي فلما جاء مثل فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ [هود: 74] وقيل: هي مع الفعل في محل الرفع بفعل مضمر أي فلما ظهر أن جاء البشير وهو يهوذا أَلْقاهُ طرحه البشير أو يعقوب على وجهه فَارْتَدَّ بَصِيراً أي انقلب من العمى إلى البصر أو من الضعف إلى القوة قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ جوز في الكشاف أن يكون مفعوله محذوفا وهو قوله: إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ أو قوله: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ ويكون قوله: إِنِّي أَعْلَمُ كلاما مستأنفا. والظاهر أن مفعوله قوله: إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ وذلك أنه كان قال لهم: نَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ.
روي أنه سأل البشير كيف يوسف؟ فقال:
هو ملك مصر. قال: ما أصنع بالملك على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال:
الآن تمت النعمة.
ثم إن أولاده أخذوا يعتذرون إليه فوعدهم الاستغفار. قال ابن عباس والأكثرون: أراد أن يستغفر لهم في وقت السحر لأنه أرجى الأوقات إجابة. وعن ابن عباس في رواية أخرى أخر إلى ليلة الجمعة تحريا لوقت الإجابة. وقيل: أخر لتعرف حالهم في الإخلاص. وقيل: استغفر لهم في الحال ووعدهم دوام الاستغفار في الاستقبال. فقد روي أنه كان يستغفر لهم كل ليلة جمعة في نيف وعشرين سنة.
روي أنه قام إلى الصلاة في وقت السحر فلما فرغ رفع يديه وقال: اللهم اغفر لي جزعي على يوسف وقلة صبري عنه واغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم فأوحي إليه أن الله قد غفر لك ولهم أجمعين.
وروي أنهم قالوا له- وقد علتهم الكآبة- وما يغني عنا عفوكما إن لم يعف عنا ربنا فإن لم يوح إليك بالعفو فلا قرت لنا عين أبدا. فاستقبل الشيخ القبلة قائما يدعو وقام يوسف خلفه يؤمن وقاموا خلفهما أذلة خاشعين عشرين سنة حتى جهدوا وظنوا أنهم هلكوا نزل جبريل فقال: إن الله قد أجاب دعوتك في ولدك وعقد مواثيقهم بعدك على النبوة.
واختلاف الناس في نبوتهم مشهور،
يحكى أنه وجه يوسف إلى أبيه جهازا ومائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه، وخرج يوسف والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم فتلقوا يعقوب وهو يمشي ويتوكأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل والناس فقال: يا يهوذا أهذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ولدك. فلما لقيه قال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان. فأجابه يوسف وقال: يا أبت بكيت حتى ذهب بصرك ألم تعلم(4/124)
أن القيامة تجمعنا؟ قال: بلى ولكن خشيت أن تسلب دينك فيحال بيني وبينك.
ومعنى آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ضمهما إليه واعتنقهما. قال ابن إسحق: كانت أمه باقية إلى ذلك الوقت أو ماتت إلا أن الله تعالى أحياها ونشرها من قبرها تحقيقا لرؤيا يوسف. وقيل: المراد بأبويه أبوه وخالته لأن أمه ماتت في النفاس بأخيه بنيامين حتى قيل إن بنيامين بالعبرية ابن الوجع، ولما توفيت أمه تزوج أبوه بخالته فسماها الله تعالى أحد الأبوين لأن الخالة تدعى أما لقيامها مقام الأم، أو لأن الخالة أم كما أن العم أب فكيف وقد اجتمع هاهنا الأمران.
قال السدي: كان دخولهم على يوسف قبل دخولهم على مصر كأنه حين استقبلهم نزل لأجلهم في خيمة أو بيت هناك فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ فعلى هذا جاز أن يكون الاستثناء عائدا إلى الدخول. وعن ابن عباس: ادخلوا مصر أي أقيموا بها. وقوله: إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ تعلق بالدخول المكيف بالأمن فكأنه قيل: اسلموا وأمنوا في دخولكم وإقامتكم إن شاء الله وجواب الشرط بالحقيقة محذوف والتقدير ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله دخلتم آمنين، أراد الأمن على أنفسهم وأموالهم وأهليهم بحيث لا يخافون أحدا وكانوا فيما سلف يخافون ملك مصر، أو أراد الأمن من القحط والشدة أو من تعييره إياهم بالجرم السالف.
وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ السرير الرفيع الذي كان يجلس عليه وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً لسائل أن يقول: السجود لا يجوز لغير الله فكيف سجدوا ليوسف؟ وأيضا تعظيم الأبوين تالي تعظيم الله سبحانه فمن أين جاز سجدة أبويه له؟ والجواب عن ابن عباس في رواية عطاء أن المراد خرّوا لأجل وجدانه سجدا لله فكانت سجدة الشكر لله سبحانه، وكذا التأويل في قوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ [يوسف: 4] أي أنها سجدت لله تعالى لأجل طلب مصلحتي وإعلاء منصبي. وأحسن من هذا أن يقال: إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكرا على لقائه، أو يراد بالسجدة التواضع التام على ما كانت عادتهم في ذلك الزمان من التحية، ولعلها ما كانت إلا انحناء دون تعفير الجبهة.
واعترض على هذا الوجه بأن لفظ الخرور يأباه. وأجيب بأن الخرور قد يعني به المرور قال تعالى: لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً [الفرقان: 73] أي لم يمروا. وقيل: الضمير عائد إلى إخوته فقط. ورد بأن قوله: هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ من قبل ينبو عنه. وأجيب بأن التعبير لا يلزم أن يكون مطابقا للرؤيا من كل الوجوه فيحتمل أن تكون السجدة في حق الإخوة التواضع التام، وفي حق أبويه مجرد ذهابهما من كنعان إلى مصر، ففيه تعظيم تام للولد. وقيل: إنما سجد الأبوان لئلا تحمل الأنفة إخوته على عدم السجود فيصير سببا(4/125)
لثوران الفتن وإحياء الأحقاد والضغائن، أو لعله تعالى أمر يعقوب بتلك السجدة لحكمة خفية لا يعرفها إلا الله تعالى، ورضي بذلك يوسف موافقة لأمر الله ويؤيده ما روي عن ابن عباس أن يوسف لما رأى سجودهم له اقشعر جلده ولكن لم يقل شيئا وكأن الأمر بتلك السجدة كان من تمام التشديد والبلية والله أعلم. وَقَدْ أَحْسَنَ بِي يقال: أحسن به وإليه بمعنى. إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ لم يذكر إخراجه من البئر لأنه نوع تثريب للإخوة وقد قال: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ ولأنه لم يكن نعمة لأنه حينئذ صار عبدا وصار مبتلى بالمرأة ولأن هذا الإخراج أقرب وأشمل وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ أي من البادية سمى المكان باسم المصدر لظهور الشخص فيه من بعيد، وكان يعقوب وولده بأرض كنعان أهل مواش يتنقلون في المياه والصحارى. قال ابن الأنباري: بدا موضع معروف هنالك. روي عن ابن عباس أن يعقوب كان قد تحول إليه وسكن فيه ومنه قدم إلى يوسف، على هذا كان يعقوب وولده أهل الحضر والبدو قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا والمعنى جاء بكم من قصد بدا ذكره الواحدي في البسيط. قال الجبائي والكعبي والقاضي: إنه تعالى أخبر عن يوسف أنه أضاف الإحسان إلى الله ونسب النزغ إلى الشيطان وهو الإفساد والإغراء، ففيه دليل على أن الخير من الله دون الشر. وأجيب بأنه إنما راعى الأدب وإلا فليس فعل الشيطان إلا الوسوسة، وأما صرف الداعية إلى الشر فلا يقدر عليه إلا الله تعالى فإن العاقل لا يريد ضرر نفسه. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ فإذا أراد حصول أمر هيأ أسبابه وإن كان في غاية البعد عن الأوهام. إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بالوجه الذي تسهل به الصعاب الْحَكِيمُ في أفعاله حتى تجيء على الوجه الأصوب والنحو الأصلح.
يحكى أن يوسف أخذ بيد يعقوب وطاف به في خزائنه فأدخله خزائن الورق والذهب وخزائن الحلي والثياب والسلاح وغير ذلك، فلما أدخله خزائن القراطيس قال: يا بني ما أعقك عندك هذه القراطيس وما كتبت إليّ على ثمان مراحل! قال: أمرني جبريل. قال: أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط إليه مني فسأله قال جبريل: الله أمرني بذلك لقولك: وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ [يوسف:
13] قال: فهلا خفتني.
ثم إن يعقوب أقام معه أربعا وعشرين سنة ثم مات وأوصى أن يدفنه بالشام إلى جنب أبيه إسحق فمضى بنفسه ودفنه ثم عاد إلى مصر وعاش بعد ذلك ثلاثا وعشرين سنة، فلما تم أمره وعلم أنه لا يدوم له قال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ شيئا من ملك الدنيا أو من ملك مصر لأنه كان دون ملك فوقه وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ بعضا من ذلك لأنه لا يمكن أن يحصل للإنسان في العمر المتناهي والاستعداد المعين المحصور سوى المتناهي من السعادات الدنيوية والكمالات الأخروية فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ منادى ثان أو صفة النداء الأول أي مبدعهما على النحو الأفضل من مادة سابقة(4/126)
كالدخان أو من عدم محض أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لا يتولى إصلاح مهماتي في الدارين غيرك. ولما قدم النداء والثناء كما هو شرط الأدب الحسن ذكر المسألة فقال تَوَفَّنِي مُسْلِماً أراد الوفاة على حال الإسلام والختم بالحسنى كقول يعقوب لولده: وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102] وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي أو على العموم.
قيل: الصلاح أول درجات المؤمنين الصالحين فالواصل إلى الغاية وهي النبوة كيف يليق به أن يطلب البداية؟ والجواب إن أراد الإلحاق بالآباء فظاهر، وإن أراد العموم فكذلك لأن طلب الصلاح غير الإلحاق بأهل الصلاح فإن اجتماع النفوس المشرقة بالأنوار الإلهية له أثر عظيم وفوائد جمة كالمرآة المستنيرة المتقابلة التي يتعاكس أضواؤها ويتكامل أنوارها إلى حيث لا تطيقها العيون الضعيفة، هذا مع أن الختم على الصلاح نهاية مراتب الصديقين. وهاهنا بحث للأشاعرة وهو أن التوفي على الإسلام والإلحاق بأهل الصلاح لو لم يكن من فعل الله تعالى كان طلبه من الله جاريا مجرى قول القائل: افعل يا من لا يفعل. وهل هذا إلا كتشنيع المعتزلة علينا إذ كان الفعل من الله فكيف يجوز أن يقول للمكلف افعل مع أنه ليس بفاعل؟ أجاب الجبائي والكعبي بأن المراد ألطف بي بالإقامة على الإسلام إلى أن أموت فألحق بالصلحاء. ورد بأنه عدول عن الظاهر مع أن كل ما في مقدور الله من الألطاف فقد فعله في حق الكل. سؤال آخر: الأنبياء يعلمون أنهم يموتون على الإسلام البتة، فما الفائدة في الطلب؟ الجواب: العلم الإجمالي لا يغني عن العلم التفصيلي ولا سيما في مقام الخشية والرهبة. وقال في التفسير الكبير: المطلوب هاهنا حالة زائدة على الإسلام الذي هو ضد الكفر وهي الاستسلام لحكم الله والرضا بقضائه. وعن قتادة وكثير من المفسرين أنه تمنى الموت واللحوق بدار البقاء في زمرة الصلحاء ولم يتمن الموت نبي قبله ولا بعده.
قال أهل التحقيق: لا يبعد من الرجل العاقل إذا كمل عقله أن تعظم رغبته في الموت لوجوه منها: أن مراتب الموجودات ثلاث: المؤثر الذي لا يتأثر وهو الإله تعالى وتقدس، والمتأثر الذي لا يؤثر وهو عالم الأجساد فإنها قابلة للتشكيل والتصوير والصفات المختلفة والأعراض المتضادة، ويتوسطهما قسم ثالث هو عالم الأرواح لأنها تقبل الأثر والتصرف من العالم الإلهي، ثم إذا أقبلت على عالم الأجساد تصرفت فيه وأثرت.
وللنفوس في التأثير والتأثر مراتب غير متناهية لأن تأثيرها بحسب تأثرها مما فوقها والكمال الإلهي غير متناه فإذن لا تنفك النفس من نقصان ما، والناقص إذا حصل له شعور(4/127)
بنقصانه وقد ذاق لذة الكمال بقي في القلق وألم الطلب ولا سبيل له إلى دفع هذا القلق والألم إلا الموت فحينئذ يتمنى الموت. ومنها أن سعادات الدنيا ولذاتها سريعة الزوال مشرفة على الفناء والألم الحاصل عند زوالها أشد من اللذة الحاصلة عند وجدانها، ثم إنها مخلوطة بالمنغصات والأراذل من الخلق يشاركون الأفاضل فيها بل ربما كانت حصة الأراذل أكثر فلا جرم يتمنى العاقل موته ليتخلص من هذه الآفات. ومنها أن اللذات الجسمانية لا حقيقة لها لأن حاصلها يرجع إلى دفع الآلام، وقد قررنا هذا المعنى فيما سلف. ومنها أن مداخل اللذات الدنيوية ثلاثة: لذة الأكل ولذة الوقاع ولذة الرياسة ولكل منها عيوب فلذة الأكل مع أنها غير باقية بعد البلع فإن المأكول يختلط بالبصاق المجتمع في الفم ولا شك أنه شيء منفر، ثم لما يصل إلى المعدة يستحيل إلى ما ذكره منفر فكيف به ومن هنا قالت العقلاء: من كانت همته ما يدخل في جوفه كانت قيمته ما يخرج من بطنه، هذا مع اشتراك الحيوانات الخسيسة فيها. وأيضا اشتداد الجوع حاجة والحاجة نقص وآفة وكذا الكلام في لذة النكاح وعيوبها مع أن فيها احتياجا إلى زيادة المال والنفقة للزوج والولد وما يلزمهما، والاحتياج إلى المال يلقي المرء في مهالك الاكتساب ومهاوي الانتجاع، ولذة الرياسة أدنى عيوبها أن كل واحد يكره بالطبع أن يكون خادما مأمورا ويحب أن يكون مخدوما، فسعي الإنسان في الرياسة سعي في مخالفة كل من سواه. ولا ريب أن هذا أمر صعب الحصول منيع المرام وإذا ناله كان على شرف الزوال في كل حين وأوان لأن كثرة الأسباب توجب قوة حصول الأثر فيكون دائما في الحزن والخوف. فإذا تأمل العاقل في هذه المعاني علم قطعا أنه لا صلاح في اللذات العاجلة ولكن النفس جبلت على طلبها والرغبة فيها فيكون دائما في بحر الآفات وغمرات الحسرات فحينئذ يتمنى زوال هذه الحياة. وقد سبق منا في تمني الموت كلام آخر في سورة البقرة في تفسير قوله: فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الجمعة: 6] فليتذكر. قال أهل السير: لما توفي يوسف تخاصم أهل مصر وتشاحوا في دفنه كل يحب أن يدفن في محلتهم حتى هموا بالقتال، فرأوا من الرأي أن عملوا له صندوقا من مرمر فجعلوه فيه ودفنوه في النيل بمكان يمر عليه الماء ثم يصل إلى مصر ليكونوا فيه شرعا. وولد له إفرائيم وميشا وولد لإفراثيم نون ولنون يوشع فتى موسى، ثم بقي يوسف هناك إلى أن بعث الله موسى فأخرج عظامه من مصر ودفنها عند قبر أبيه والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.
التأويل:
إن يعقوب الروح لا يتأسف على فوات شيء من المخلوقات إلا على يوسف القلب لأنه مرآة جمال الحق لا يشاهد الحق إلا فيها فلذلك ابيضت عيناه في(4/128)
انتظارها فلامه على ذلك الأوصاف البشرية بقولهم تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ وأين أهل السلوة من أهل العشق، أين الخلي من الشجي، ولا بد للمحب من ملامة الخلق فأول ملامتي آدم عليه السلام حين قالت الملائكة لأجله أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] بل أول ملامتي هو الله تعالى حين قالوا له: أَتَجْعَلُ فِيها وذلك أنه أول محب ادعى المحبة وهو قوله يُحِبُّهُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: 62] من جماله وكماله اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا فيه أن الواجب على كل مسلم أن يطلب يوسف قلبه وبنيامين سره، وإن ترك لطف الله واليأس عن وجدانه كفر. فلما رأت الأوصاف البشرية آثار العزة من رب العزة على صفحات أحوال يوسف القلب حين وصلوا بتيسير أحكام الشريعة وتدبير آداب الطريقة إلى سرادقات حضرة القلب قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا وهم القوى الإنسانية الضُّرُّ البعد عن الحضرة الربانية وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ من الأعمال البدنية فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ بإفاضة سجال العوارف وإسباغ ظلال العواطف إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ إذ كنتم على صفة الظلومية والجهولية لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا بالطلب والصدق والشوق والمحبة والوصول والوصال وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ في الإقبال على استيفاء الحظوظ الحيوانية التي تضر القلب والسر والروح لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ لأنه صدر منها ما صدر بحكمة من الله تعالى وتربية القلب وإن كان مضرا له ظاهرا كما أن صنيع إخوة يوسف في البداية صار سببا لرفعة منزلته في النهاية اذْهَبُوا بِقَمِيصِي وهو نور جمال الله وَلَمَّا فَصَلَتِ عير واردات القلب وهبت نفحات ألطاف الحق إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ:
يا عاذل العاشقين دع فئة ... أضلها الله كيف ترشدها
فَارْتَدَّ بَصِيراً لأن الروح كان بصيرا في بدو الفطرة ثم عمي لتعلقه بالدنيا وتصرفه فيها ثم صار بصيرا بوارد من القلب:
ورد البشير بما أقر الأعينا ... وشفى النفوس فنلن غايات المنى
والقلب في بدو الأمر كان محتاجا إلى الروح في الاستكمال، فلما كمل وصلح لقبول فيضان الحق بين إصبعين ونال مملكة الخلافة بمصر القربة في النهاية صار الروح محتاجا إليه لاستنارته بأنوار الحق، وذلك أن القلب بمثابة المصباح في قبول نار النور الإلهي والروح كالزيت فيحتاج المصباح في البداية إلى الزيت في قبول النار، ولكن الزيت يحتاج إلى المصباح في البداية وتزكيته في النهاية لتقبل بواسطة النار ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ لأنه لا يصل إلى الحضرة الأحدية إلا بجذبة المشيئة آمنين من الانقطاع والانفصال(4/129)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً لما رأوه وعرفوه أنه عرش الحق تعالى، فالسجدة كانت في الحقيقة لرب العرش لا للعرش هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ إن كنت نائما في نوم العدم إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ سجن الوجود ولم يقل من الجب لأنه لا يخرج من جب البشرية ما دام في الدنيا مِنَ الْبَدْوِ بدو الطبيعة آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ ملك الوصال والوصول فاطِرَ السَّماواتِ عالم الأرواح وأرض البشرية تَوَفَّنِي مُسْلِماً أخرجني من قيد الوجود المجازي وأبقني ببقائك مع الباقين بك بفضلك وكرمك.
[سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)
أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
القراآت:
سَبِيلِي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع نُوحِي بالنون وكسر الحاء:
حفص. الآخرون بالياء وفتح الحاء يعقلون على الغيبة: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وابن كثير والأعشى والبرجمي. والباقون بتاء الخطاب. كُذِبُوا مخففا:
عاصم وحمزة وعلي وخلف ويزيد. الباقون بالتشديد. فَنُجِّيَ بضم النون وكسر الجيم المشددة وفتح الياء: ابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب. فعلى هذا يكون فعلا ماضيا مبنيا للمفعول. وعن الكسائي مثل هذا ولكن بسكون الياء، وخطأه علي بن عيسى بناء على أنه فعل مستقبل من الإنجاء والنون لا يدغم في الجيم، أو من التنجية والنون المتحركة لا تدغم في الساكن. وأقول: إن كان فعلا ماضيا من التنجية والنون المتحركة لا تدغم كما في القراءة الأولى ولكن سكن الياء للتخفيف لم يلزم منه خطأ. الآخرون: قرأوا بنونين وتخفيف الجيم وسكون الياء فعلا مضارعا من الإنجاء على حكاية الحال الماضية.
الوقوف:
إِلَيْكَ ج لابتداء النفي مع واو العطف يَمْكُرُونَ هـ بِمُؤْمِنِينَ هـ(4/130)
أَجْرٍ ط لِلْعالَمِينَ هـ مُعْرِضُونَ هـ مُشْرِكُونَ هـ لا يَشْعُرُونَ هـ ومن اتبعن ط الْمُشْرِكِينَ هـ الْقُرى ط مِنْ قَبْلِهِمْ ط اتَّقَوْا ط تَعْقِلُونَ هـ نَصْرُنا ط لمن قرأ فننجي بالتخفيف ولا وقف على مَنْ نَشاءُ ومن قرأ فَنُجِّيَ مشددة وصله بما قبله ووقف على مَنْ نَشاءُ الْمُجْرِمِينَ هـ الْأَلْبابِ ط يُؤْمِنُونَ 5.
التفسير:
ذلِكَ الذي ذكر من نبأ يوسف هو من أخبار الغيب وقد مر تفسير مثل هذا في آخر قصة زكريا في سورة آل عمران. ومعنى إجماع الأمر العزم عليه كما مر في سورة يونس في قصة نوح. وأراد عزمهم على إلقاء يوسف في البئر وهو المكر بعينه وذلك مع سائر الغوائل من المجيء على قميصه بدم كذب ومن شراهم إياه بثمن بخس. قال أهل النظم: إن كفار قريش وجماعة من اليهود طلبوا هذه القصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل التعنت، فاعتقد رسول الله أنه إذا ذكرها فربما آمنوا فلما ذكرها لهم أصروا على كفرهم فنزل: وَما أَكْثَرُ النَّاسِ أي أكثر خلق الله المكلفين أو أكثر أهل مكة قاله ابن عباس.
وَلَوْ حَرَصْتَ جوابه مثل ما تقدم أي ولو حرصت فما هم بِمُؤْمِنِينَ والحرص طلب الشيء بأقصى ما يمكن من الاجتهاد ونظير الآية قوله: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص: 56] وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ على ما تحدثهم به مِنْ أَجْرٍ كما يسأل القاص إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة من الله لِلْعالَمِينَ عامة على لسان رسوله. وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ الأكثرون على أنه لفظ مركب من كاف التشبيه وأيّ التي هي في غاية الإبهام إذا قطعت عن الإضافة لكنه انمحى عن الجزأين معناهما الإفرادي وصار المجموع كاسم مفرد بمعنى «كم» الخبرية. والتمييز عن الكاف لا عن أي كما في مثلك رجلا، والأكثر إدخال «من» في تمييزه وقد مر في سورة البقرة في تفسير قوله سبحانه: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
[الآية: 164] وفي مواضع أخر تفصيل بعض الآيات السماوية والأرضية الدالة على توحيد الصانع وصفات جلاله، ومن جملة الآيات قصص الأوّلين وأحوال الأقدمين. ومعنى يَمُرُّونَ عَلَيْها أشياء يشاهدونها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ لا يعتبرون بها. وقرىء وَالْأَرْضِ بالرفع على الابتداء خبره يَمُرُّونَ والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر. والحاصل أن جملة العالم العلوي والعالم السفلي محتوية على الدلائل والبينات على وجود الصانع ونعوت كماله ولكن الغافل يتعامى عن ذلك. وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ وذلك أنهم كانوا مقرين بالإله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] لكنهم كانوا يثبتون له شريكا في المعبودية هو الأصنام ويقولون: هم الشفعاء. وكان أهل مكة يقولون: الملائكة بنات الله.(4/131)
وعن الحسن: هم أهل الكتاب يقولون عزيز ابن الله والمسيح ابن الله. وعن ابن عباس:
هم الذين يشبهون الله بخلقه. احتجت الكرامية بالآية على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار. والجواب أن مجرد الإقرار لو كان كافيا لما اجتمع مع الشرك غاشية عقوبة تغشاهم وتغمرهم. قُلْ يا محمد لهم هذِهِ السبيل التي هي الدعوة إلى الإيمان سَبِيلِي وسيرتي وقوله أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ تفسير ل سَبِيلِي وعَلى بَصِيرَةٍ يتعلق بأدعو وأَنَا تأكيد للمستتر في أدعو وَمَنِ اتَّبَعَنِ عطف عليه ويجوز أن يكون عَلى بَصِيرَةٍ حالا من أدعو عاملة في أنا ومن اتبعن، ويجوز أن يكون أَنَا مبتدأ معطوفا عليه ومَنِ اتَّبَعَنِ وعَلى بَصِيرَةٍ خبرا مقدما فيكون ابتداء إخبار بأنه ومن اتبعه على حجة وبرهان لا على هوى وتشه وَقل سُبْحانَ اللَّهِ تنزيها له عما أشركوا وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لا شركا جليا ولا شركا خفيا.
قال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ وفي «الأنبياء» قَبْلَكَ [الأنبياء: 7] بغير «من» لأن قبلا اسم للزمان السابق على ما أضيف إليه و «من» تفيد استيعاب الطرفين، وفي هذه السورة أريد الاستيعاب. قوله: إِلَّا رِجالًا ردّ على من زعم أن الرسول ينبغي أن يكون ملكا أو يمكن أن يكون امرأة مثل سجاح المتنبئة. وقوله: مِنْ أَهْلِ الْقُرى خصهم بالاستنباء لما في أهل البادية من الغلظ والجفاء فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ [آل عمران: 159]
قال صلى الله عليه وسلم: «من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل» «1»
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا إلى مصارع الأمم المكذبة إنما قال: أَفَلَمْ يَسِيرُوا بالفاء بخلاف ما في «الروم» والملائكة لاتصاله بقوله: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فكان الفاء أنسب من الواو وَلَدارُ الْآخِرَةِ موصوفه محذوف أي ولدار الساعة والحال الآخرة لأن للناس حالين: حال الدنيا وحال الآخرة. وبيان الخيرية قد مر في «الأنعام» . وإنما خصت هاهنا بالحذف لتقدم ذكر الساعة. قال في الكشاف: حتى غاية لمحذوف دل عليه الكلام والتقدير فتراخى نصر أولئك الرجال حتى إذا استيأسوا عن النصر أو عن إيمان القوم وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا فيه وجوه لقراءتي التخفيف والتشديد ولإمكان عود الضمير في الفعلين إلى الرسل أو إلى المرسل إليهم الدال عليهم ذكر الرسل أو السابق ذكرهم في أَفَلَمْ يَسِيرُوا وأما وجوه التخفيف فمنها: وظن الرسل أنهم قد كذبوا أي كذبتهم أنفسهم حين حدثتهم بأنهم ينصرون، أو كذب رجاؤهم لقولهم رجاء صادق وكاذب. والمراد أن مدة التكذيب
__________
(1) رواه أحمد في مسند (2/ 371) ، (4/ 297) .(4/132)
والعداوة من الكفار وانتظار النصر من الله قد تطاولت وتمادت حتى توهموا أن لا نصر لهم في الدنيا. قال ابن عباس: ظنوا حين ضعفوا وغلبوا أنهم قد أخلفوا ما وعدهم الله من النصر. قال: وكانوا بشرا ألا ترى إلى قوله: وَزُلْزِلُوا والعلماء حملوا قول ابن عباس على ما يخطر بالبال شبه الوسواس وحديث النفس من عالم البشرية. وأما الظن الذي هو ترجيح أحد الجانبين على الآخر فلا، لأن الرسل أعرف الناس بالله وبأن ميعاده مبرأ عن وصمة الأخلاف. ومنها وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا فيما وعدوا من النصر والظفر. ومنها وظن المرسل إليهم أنهم قد كذبوا من جهة الرسل أي كذبتهم الرسل في أنهم ينصرون عليهم ولم يصدقوهم فيه. وأما قراءة التشديد فإن كان الظن بمعنى اليقين فمعناه أيقن الرسل أن الأمم كذبوهم تكذيبا لا يصدر عنهم الإيمان بعد فحينئذ دعوا عليهم فهناك نزل عذاب الاستئصال، أو كذبوهم فيما وعدوهم من العذاب والنصرة عليهم. وإن كان بمعنى الحسبان فالمعنى توهم الرسل أن الذين آمنوا بهم كذبوهم وهذا تأويل عائشة قالت: ما وعد الله محمدا شيئا إلا وعلم أنه سيوفيه، ولكن البلاء لم يزل بالأنبياء حتى خافوا من أن يكذبهم الذين كانوا قد آمنوا بهم.
لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ قصص الرسل إضافة للمصدر إلى الفاعل، ويحسن أن يقال: الضمير لإخوة يوسف وله لاختصاص هذه السورة بهم. والعبرة نوع من الاعتبار وهي العبور من الطرف المعلوم إلى الطرف المجهول، ووجه الاعتبار على العموم أن يعلم أنه لا خير إلا في العمل الصالح والتزوّد بزاد التقوى فإن الملوك الذي عمروا البلاد وقهروا العباد ثم لم يراعوا حق الله في شيء من ذلك ماتوا وانقرضوا وبقي الوزر والوبال عليهم.
وعلى الخصوص أن الذي قدر على إعزاز يوسف بعد إلقائه في الجب وإعلاء شأنه بعد حبسه في السجن واجتماعه بأهله بعد طول البعاد قادر على إظهار محمد وإعلاء كلمته.
والكل مشترك في الدلالة على صدق محمد لأن هذا النوع من القصص الذي أعجز حملة الأحاديث ورواة الأخبار ممن لم يطالع الكتب ولم يخالط العلماء دليل ظاهر وبرهان باهر على أنه بطريق الوحي والتنزيل، وإنما يكون دليلا واعتبارا لِأُولِي الْأَلْبابِ وأصحاب العقول الذين يتأملون ويتفكرون لا الذين يمرون ويعرضون على أن الدليل دليل في نفسه للعقلاء وإن لم ينظر فيه مستدل قط كما أن الرئيس الحقيقي من له أهلية الرياسة وإن كان في نهاية الخمول ما كانَ مدلول القصص وهو المقصوص أو القرآن حَدِيثاً يُفْتَرى لظهور إعجازه وَلكِنْ كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب السماوية وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه في الدين لأنه القانون الذي يستند إليه السنة والإجماع والقياس. وقيل:(4/133)
تفصيل كل شيء من واقعة يوسف مع أبيه وإخوته. قال الواحدي: وعلى التفسيرين فهو ليس على عمومه لأن المراد به الأصول والقوانين وما يؤل إليها وَهُدىً في الدنيا وَرَحْمَةً في الآخرة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنهم هم المنتفعون بذلك.
التأويل:
مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ لأن هذا الترتيب في السلوك لا يعلمه إلا الوالجون ملكوت السماء الغوّاصون في بحر بطن القرآن وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ بالصورة ولكن كنت حاضرا بالمعنى وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وهم صفات الناسوتية وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ لأن اللاهوتية غير محتاجة إلى الناسوتية وإن دعتها إلى الاستكمال لأنها كاملة في ذاتها مكملة لغيرها وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ في سموات القلوب وأرض النفوس تمر الأوصاف الإنسانية عليها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ لإقبالها على الدنيا وشهواتها وَما يُؤْمِنُ أكثر الصفات الإنسانية بطلب الله وتبدل صفاته إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ في طلب الدنيا وشهواتها، أو طلب الآخرة ونعمها، أو وما يؤمن أكثر الخلق بالله وطلبه إلا وهم مشركون برؤية الإيمان والطلب أنها منهم لا من الله، فكل من يرى السبب فهو مشرك، وكل من يرى المسبب فهو موحد كل شيء هالك في نظر الموحد إلا وجهه، أو وما يؤمن أكثر الناس بالله وبقدرته وإيجاده إلا وهم مشركون في طلب الحاجة من غير الله غاشِيَةٌ جذبة تقهر إرادتهم وتسلب اختيارهم كما قيل: العشق عذاب الله أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ ساعة الانجذاب إلى الله هذِهِ سَبِيلِي لأن طريق السير والسلوك مختص به وبأمته إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى الملكوت دون مدن الملك والأجساد، والرجال من القرى ويشبه أن يعبر عن عالم الأرواح بالقرى لبساطتها.
والقرى أقل أجزاء من المدن أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي أرض البشرية على قدمي الشريعة والطريقة ليصلوا إلى فضاء عالم الحقيقة وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا ففي إبطاء النصر ابتلاء للرسل الله حسبي ونعم الوكيل.(4/134)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
(سورة الرعد)
(مكية وقيل مدنية سوى آية نزلت بجحفة قوله وَهُمْ يَكْفُرُونَ حروفها 3506 كلمها 855 آياتها 43)
[سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9)
سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)
القراآت:
وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ بالرفع فيهن: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وحفص والمفضل. الآخرون بالجر فيهن عطفا على أَعْنابٍ. يُسْقى بالياء المثناة من تحت على تقدير يسقى كله أو للتغليب: ابن عامر وعاصم ويزيد ورويس. الباقون بتاء(4/135)
التأنيث لقوله: جَنَّاتٌ ويفضل على الغيبة: حمزة وعلي وخلف. الباقون بالنون على ونحن نفضل أَإِذا بهمزتين إِنَّا بهمزة واحدة على أيذا بقلب الثانية ياء والباقي كما مر: نافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد آئذا إنا بالمد والباقي مثله: زيد وقالون إذا بهمزة واحدة أإنا بهمزتين: ابن عامر. هشام يدخل بينهما مدة إذا بهمزة واحدة آينا بهمزة ممدودة ثم ياء: يزيد أيذا أينا بهمزة ثم ياء فيهما: ابن كثير مثله ولكن بالمد أبو عمرو اإذا آئنا بهمزتين فيهما: عاصم وحمزة وخلف هادي وافى وإلى باقي في الوقف: يعقوب وابن كثير غير ابن فليح وزمعة، وروى ابن شنبوذ عن قنبل بالياء في الوقف وعن البزي بغير ياء المتعالي في الحالين: ابن كثير ويعقوب وافق سهل وعباس في الوصل.
الوقوف:
المر كوفي آياتُ الْكِتابِ ط لا يُؤْمِنُونَ هـ وَالْقَمَرَ ط مُسَمًّى ط يوقنون هـ وَأَنْهاراً ط النَّهارَ ط يَتَفَكَّرُونَ هـ بِماءٍ واحِدٍ ز قف لمن قرأ وَنُفَضِّلُ بالنون فِي الْأُكُلِ ط يَعْقِلُونَ هـ جَدِيدٍ ط بِرَبِّهِمْ ط فِي أَعْناقِهِمْ ج النَّارِ ج خالِدُونَ هـ الْمَثُلاتُ ط عَلى ظُلْمِهِمْ ج لتنافي الجملتين الْعِقابِ هـ مِنْ رَبِّهِ ط هادٍ هـ وَما تَزْدادُ ط بِمِقْدارٍ هـ الْمُتَعالِ 5 بِالنَّهارِ هـ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ط ما بِأَنْفُسِهِمْ ط فَلا مَرَدَّ لَهُ ج لاختلاف الجملتين والٍ هـ.
التفسير:
تِلْكَ الآيات التي في هذه السورة آيات السورة العجيبة الكاملة في بابها وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ أي القرآن كله هو الْحَقُّ الذي لا محيد عنه والمراد أنه لا تنحصر الحقية في هذه السورة وحدها. ثم أخذ في تفصيل الحق فبدأ بالدلالة على صحة المبدأ والمعاد فقال: اللَّهُ وهو مبتدأ خبره الَّذِي أو الموصول صفة المبتدأ، وقوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ خبر بعد خبر. والعمد بفتحتين جمع عمود وهو ما يعمد به الشيء شبه الأسطوانة. وقوله: تَرَوْنَها كلام مستأنف على سبيل الاستشهاد أي وأنتم ترونها مرفوعة بلا عماد. وقال الحسن: في الآية تقديم وتأخير تقديره رفع السموات ترونها مرفوعة بغير عمد وفيه تكلف. وقيل: ترونها صفة للعمد. ثم زعم من تمسك بالمفهوم أن للسموات عمدا لكنا لا نراها وما تلك العمد؟ قال بعض الظاهريين: هي جبل من زبرجد محيط بالدنيا يسمى جبل قاف. ولا يخفى سقوط هذا القول لأن كل جسم لو كان يلزم أن يكون معتمدا على شيء فذلك الجبل أيضا كان معتمدا على شيء وتسلسل. وقال بعض من ترقى في حضيض الصورة إلى ذروة عالم المعقول:(4/136)
إن تلك العمد هي قدرة الله تعالى وحفظه الذي أوقفها في الجوّ العالي. ونحن لا نرى ذلك التدبير ولا نعرف كيفية ذلك الإمساك. أما قوله: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى فعن ابن عباس أن للشمس مائة وثمانين منزلا في مائة وثمانين يوما، إنها تعود مرة أخرى إلى واحد واحد منها في أمثال تلك الأيام ومجموع تلك الأيام سنة تامة. أقول: إن صح عنه فلعله أراد تصاعدها في دائرة نصف النهار وتنازلها عنها في أيام السنة، وأراد نزولها في فلكها الخارج المركز من الأوج إلى الحضيض، ثم صعودها من الحضيض إلى الأوج فإن لها بحسب كل جزء من تلك الأجزاء في كل يوم من أيام السنة تعديلا خاصا زائدا أو ناقصا كما برهن عليه أهل النجوم. وأما القمر فسيره في منازله مشهور. وقال سائر المفسرين:
المراد كونهما متحركين إلى يوم القيامة وبعد ذلك تنقطع الحركات وتنتهي المسيرات كقوله:
وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الأنعام: 2] واللام للتاريخ كما تقول: كتبت لثلاث خلون. وإنما قال في سورة لقمان إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [لقمان: 29] موافقة لقبيل ذلك ومن يسلم وجهه إلى الله والقياس لله كما في قوله: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ [آل عمران: 20] يُدَبِّرُ الْأَمْرَ إجمال بعد التفصيل أي أمر العالم العلوي والعالم السفلي من أعلى العرش إلى ما تحت الثرى بحيث لا يشغله شأن عن شأن، لأن تدبيره لعالم الأرواح كتدبيره لعالم الأشباح، وتدبيره للكبير كتدبيره للصغير لا يختلف بالنسبة إلى قدرته أحوال شيء من ذلك في الإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة وتبديل الصور والأعراض وتغيير الأشكال والأوضاع يُفَصِّلُ الْآياتِ الدالة على وحدانيته وقدرته، ويحتمل أن يراد بتدبير الأمر تدبير عالم الملكوت، ويكون معنى تفصيل الآيات إنزال الكتب وبعث الرسل وتكليف العباد الذي هو أثر ذلك العالم في العالم السفلي. ويجوز أن يكون تدبير الأمر إشارة إلى القضاء، وتفضيل الآيات إشارة إلى القدر. وقوله: لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ على كل التفاسير إشارة إلى إثبات المعاد لأن المقر بتدبيره وتقديره على الأنهاج المذكورة لا بد أن يعترف باقتداره على الإعادة والجزاء.
ولما ذكر الدلائل السماوية أتبعها الدلائل الأرضية فقال: وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ قال الأصم: أي بسطها إلى ما لا يدرك منتهاه، وهذا الامتداد الظاهر لحس البصر لا ينافي كريتها لتباعد أطرافها وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت في أحيازها غير منتقلة عن أماكنها. وكيفية تكوّن الجبال على بسيط الأرض لا يعلم تفصيلها إلا موجدها. وزعمت الفلاسفة أنها من تأثير السموات في الأجزاء الأرضية القابلة لذلك الأثر بعد امتزاجها بالأجزاء المائية وغيرها، وقد يعين على ذلك نزول الأمطار وهبوب الرياح وهذا إن صح(4/137)
فعلم إجمالي. وزعم بعضهم أن البحار كانت في جانب الشمال مدة كون حضيض الشمس هناك، وحين انتقل الحضيض إلى الجنوب انجذبت المياه إلى ذلك الجانب لأن الشمس تصير في الحضيض أقرب إلى الأرض فتوجب شدة السخونة الجاذبة للرطوبات فصار الطين اللزج حجرا وحدثت الجبال والأغوار بحسب المواضع المرتفعة والمنخفضة وبإعانة من السموات والآثار العلوية. وبالجملة فالأسباب تنتهي لا محالة إلى مسبب لا سبب له وهو الله سبحانه. ومن الدلائل الدالة على وجود الصانع ووحدانيته جريان الأنهار العظيمة على وجه الأرض الكائنة فيها من احتباس الأبخرة، وأكثر ذلك إنما يتكوّن في الجبال فلذا قرن الجبال بالأنهار في القرآن كثيرا كقوله: وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً [المرسلات: 27] وقد يحصل فيها معادن الفلزات ومواضع الجواهر ومكامن الأجسام المائعة من النفط والقير والكبريت وغيرها، وكل ذلك دليل على وجود فاعل مختار ومدبر قهار. ثم يحدث على الأرض بتربية المياه وتغذيتها أنواع النبات فلذلك قال: وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وللمفسرين فيه قولان: الأول أنه حين مد الأرض خلق فيها من جميع أنواع الثمرات زوجين زوجين، ثم تكاثرت بعد ذلك وتنوّعت فيكون كل زوجين بالنسبة إلى ذلك النوع كآدم وحواء بالإضافة إلى الإنسان. القول الثاني: إنه أراد بالزوجين الأسود والأبيض والحلو والحامض والصغير والكبير وما أشبه ذلك من الاختلاف الصنفي. ووصف الزوجين بالاثنين للتأكيد مثل نفخة واحدة. أما قوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ فقد مر تفسيره في «الأعراف» وإنما ذكر هذا الإنعام في أثناء الدلائل الأرضية لأن النور والظلمة إنما يحدثان في الجوّ الذي يسميه الحكماء كرة النسيم وكرة البحار وليس فيما وراء ذلك ضياء ولا ظلام. فتعاقب الليل والنهار من جملة الأحداث السفلية وإن كان سببها طلوع الشمس وغروبها في الأفق. ويحتمل أن يقال: إن هذا دليل سماوي وإنه سبحانه عاد مرة أخرى إلى الدليل السماوي ثم إلى الدليل الأرضي وذلك قوله:
وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ أي بقاع مختلفة مع كونها متجاورة ومتلاصقة طيبة إلى سبخة، وصلبة إلى رخوة، وصالحة للزرع لا للشجر إلى أخرى على خلافها، وفي هذا دلالة ظاهرة على أنها بجعل فاعل مختار موقع لأفعاله على حسب إرادته، وكذا الكروم والزروع والنخيل الكائنة في هذه القطع مختلفة الطباع متخالفة الثمار في اللون والطعم والشكل وهي تسقى بماء واحد، فدل ذلك على أن هذه الاختلافات لا تستند إلى الطبيعة فقط ولكنها بتقدير العزيز العليم. وإنما ذكر الزرع بين الأعناب والنخيل لأنها كثيرا ما تكون كذلك في الوجود كقوله جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً [الكهف: 32] والصنوان جمع صنو وهي النخلة لها رأسان وأصلهما(4/138)
واحد. وعن ابن الأعرابي: الصنو المثل ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم: «عم الرجل صنو أبيه» «1» .
فمعنى الآية على هذا أن أشجار النخيل قد تكون متماثلة وقد لا تكون، والأكل الثمر الذي يؤكل. قاله الزجاج. وعن غيره أنه عام في جميع المطعومات. وإنما ختم الآية السابقة بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وهذه بقوله: لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لأن المقام الأوّل يحتاج إلى التفكر لأن الفلاسفة يسندون الحوادث السفلية إلى الآباء الأثيرية والأمهات العنصرية، لكن العاقل إذا تفكر في اختصاص كل ممتزج بحيز معين وشكل معين وطبيعة وخاصية مخالفتين لغيره علم أن كل هذه الاختلافات لا تستند إلى أشعة كواكب معدودة ولا إلى طبائع عناصر محصورة كما أشير إلى ذلك بقوله: وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ الآية.
ولئن سلم أن الاتصالات الفلكية واختلافات الفواعل والقوابل قد ترتقي إلى حد يظهر منها هذه الآثار فلا بد لكل سبب من الانتهاء إلى مسبب لا سبب فوقه وليس ذلك إلا الله وحده، فهذا مقام لا يجحده إلا عادم عقل بل فاقد حس. والحاصل أن التفكر في الآيات يوجب عقلية ما جعلت الآيات دليلا عليه فهو الأوّل المؤدي إلى الثاني والله ولي التوفيق.
ثم عاد سبحانه إلى ذكر المعاد فقال: وَإِنْ تَعْجَبْ قال ابن عباس: إن تعجب يا محمد من تكذيبهم إياك بعد ما كانوا حكموا أنك من الصادقين، فهذا أعجب. أو إن تعجب من عبادتهم الأصنام بعد الدلائل الدالة على التوحيد، أو إن تعجب يا محمد فقد عجبت في موضع العجب لأنهم اعترفوا بأنه تعالى رفع السموات بغير عمد وسخر الشمس والقمر على وفق مصالح العباد وأظهر الغرائب والعجائب في عالم الخلق، ثم أنكروا الإعادة التي هي أهون وأسهل. قال المتكلمون: موضع العجب هو الذي لا يعرف سببه وذلك في حقه تعالى محال، فالمراد وإن تعجب فَعَجَبٌ عندك قَوْلُهُمْ وإن سلم أن المراد عجب عند الله كما قرىء في الصافات بَلْ عَجِبْتَ [الصافات: 12] بضم التاء فتأويله أنه محمول على النهاية لا على البداية أي منكر عند الله ما قالوه فإن الإنسان إذا تعجب من شيء أنكره. قال في الكشاف أَإِذا كُنَّا إلى آخر قولهم، يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم، وأن يكون منصوبا بالقول. وإذا نصب بما دل عليه قوله:
أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ وهو نبعث أو نحشر. ثم حكم عليهم بأمور ثلاثة: الأول أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يعني أولئك الكاملون المتمادون في كفرهم وذلك أن إنكار البعث لا
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزكاة حديث: 11. أبو داود في كتاب الزكاة باب: 22. الترمذي في كتاب المناقب باب: 28. أحمد في مسنده (1/ 94) ، (2/ 322) .(4/139)
يكون إلا عن إنكار القدرة أو عن إنكار كمالها بأن يقال: إنه موجب بالذات لا فاعل بالاختيار فلا يمكنه إيجاد الحيوان إلا بواسطة الأبوين وتأثير الطبائع والأفلاك أو إنكار العلم بأن يقال: إنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع عن العاصي، أو تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو، أو إنكار الصدق كما إذا قيل: إنه أخبر عنه ولكنه لا يفعل لأن الكذب جائز عليه كما لا يكذب أحدنا بناء على مصلحة عامة أو خاصة وكل واحدة من هذه العقائد كفر فضلا عن جميعها. والثاني: وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ قال الأصم: المراد بذلك كفرهم وذلتهم وانقيادهم للأصنام. يقال للرجل هذا غل في عنقك للعمل الرديء إذا كان لازما له وهو مصر على فعله. وقال آخرون: هو من جملة الوعيد. ولا بد من تجوّز على القولين: أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن المراد أنه سيحصل هذا المعنى. والظاهر أنه حاصل في الحال ويؤيد القول الثاني قوله:
إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ والأول قوله: إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا [يس:
8] والثالث: وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وربما يستدل الأشاعرة به أن الصيغة للحصر فيدل على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار، ويمكن أن يناقش في إفادتها الحصر.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم كان يهددهم تارة بعذاب الآخرة وكانوا ينكرون البعث لذلك كما تقدم، ويخوفهم تارة أخرى بعذاب الدنيا فيستعجلونه به زعما منهم أنه كلام لا أصل له وإلى هذا أشير بقوله: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ بالعذاب والعقوبة التي تسوءهم. قَبْلَ تمام الْحَسَنَةِ وهي العافية والإحسان إليهم بالإهمال والتأخير وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ أي عقوبات أمثالهم من المكذبين فما لهم لا يعتبرون بها؟ وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه لأن العقاب مماثل للمعاقب عليه ومنه «المثلة» بالضم والسكون لتقبيح الصورة بقطع الأنف والأذن وسمل العين ونحو ذلك، وذلك أنه ليس تغييرا كليا لا يماثل الصورة الأولى وإنما ذلك تغيير تبقى الصورة معه قبيحة. وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ قالت الأشاعرة: فيه دلالة على جواز العفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبة لأن قوله: عَلى ظُلْمِهِمْ حال منهم، ومن المعلوم أن الإنسان حال اشتغاله بالظلم لا يكون تائبا لكن الآية دلت على أنه تعالى يغفر الذنوب قبل الاشتغال بالتوبة ترك العمل بها في حق الكافر فيبقى معمولا بها في حق أهل الكبائر. لا يقال: إن المراد من هذه المغفرة تأخير العقاب إلى الآخرة ليقع جوابا عن استعجالهم، أو المراد غفران الصغائر لمجتنب الكبائر، أو غفران الكبائر بشرط التوبة فإن تاب وإلا فهو شديد العقاب لأنا(4/140)
نقول: تأخير العقاب إلى الآخرة لا يسمى مغفرة وإلا كان غافرا للكفار. وأيضا إنه تعالى مدح نفسه بهذا والتمدح إنما يحصل بالتفضل لا بأداء الواجب. وعندكم يجب غفران الصغائر لمن اجتنب الكبائر. وجواب الباقي ما مر
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحدا العيش ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد»
قال أهل النظم: إن الكفار طعنوا في نبوته بسبب الطعن في الحشر والنشور، ثم طعنوا في نبوّته بسبب استبطاء نزول العذاب، ثم طعنوا في نبوّته بسبب عدم الاعتداد بمعجزاته وذلك قوله: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وقد تقدم مثل هذا في «الأنعام» في تفسير قوله: وقالوا لولا أنزل عليه آية من ربه [الأنعام: 8] ويجيء مثل هذه بعينها في هذه السورة. قيل:
وليس بتكرار محض لأن المراد بالأول آية مما اقترحوا نحو ما في قوله: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ [الإسراء: 90] الآيات. وبالثاني آية ما لأنهم لم يهتدوا إلى أن القرآن آية فوق كل آية وأنكروا سائر آياته صلى الله عليه وسلم، أو لعلهم ذكروا هذا الكلام قبل مشاهدة سائر المعجزات فأجاب سبحانه تسلية لرسوله إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ ما عليك إلا الإتيان بما يصح به دعوى إنذارك ورسالتك وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ من الأنبياء يدعوهم إلى الله بوجه من الهداية والإرشاد يليق بزمانه وبأمته. ولم يجعل الأنبياء شرعا في المعجزات فعلى هذا التقدير المنذر النبي والهادي نبي إلا أن الأول محمد والثاني نبي كل زمان. وقيل: المنذر محمد والهادي هو الله تعالى قاله ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك. والمعنى أنهم إن جحدوا كون القرآن. معجزا فلا يضيقن قلبك بسببه فما عليك إلا الإنذار، وأما الهداية فمن الله. وقيل: المنذر النبي والهادي هو علي.
روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره فقال: أنا المنذر وأومأ إلى منكب علي فقال: وأنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون بعدي قاله في التفسير الكبير.
ثم أكد المعاني المذكورة في الآيات السابقة بقوله: اللَّهُ يَعْلَمُ لأنه إذا كان عالما بجميع المعلومات قدر على تمييز أجزاء بدن كل مكلف من غيره فلا يستنكر منه البعث، ويكون نزول العذاب مفوّضا إلى عمله فلا يجوز استعجاله به، وكذا إنزال الآيات يكون موكولا إلى تدبيره فإن علم أن المكلفين اقترحوها لأجل الاسترشاد ومزيد البيان أظهرها الله تعالى لهم وإلا فلا، وفيه أن إعطاءه كل منذر آيات خلاف آيات غيره أمر مدبر بالعلم النافذ مقدر بالحكمة الربانية. وعلى القول الثاني فيه أن من هذه قدرته وهذا علمه هو القادر وحده على هدايتهم بأي طريق شاء، وعلى هذا احتمل أن يكون اللَّهُ خبر مبتدأ محذوف والجملة مفسرة ل هادٍ أي هو الله. ثم ابتدأ فقيل: يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ(4/141)
أُنْثى قال في الكشاف: لفظة «ما» في ما تَحْمِلُ وما تَغِيضُ وما تَزْدادُ إما أن تكون مصدرية والمعنى يعلم حمل كل أنثى ويعلم غيض الأرحام وازديادها أو غيوض ما فيها وزيادته على أن الفعلين غير متعديين فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها.
والازدياد «افتعال» من زاد فأبدلت التاء دالا، وإنه يتعدى ولا يتعدى كثلاثيه. أو موصولة والمراد يعلم ما تحمله من الولد ذكورته وأنوثته وتخاطيط أعضائه وسائر أحواله من السعادة وضدها ومن العلم وضده إلى غير ذلك، ويعلم ما تغيضه الأرحام أي تنقصه كقوله: وَغِيضَ الْماءُ [هود: 44] وما تزداده من العدد فقد يكون واحدا وأكثر، ومن الخلقة فقد يكون تاما أو مخدجا، ومن المدة فقد يكون أقل من تسعة أشهر أو أزيد إلى سنتين عند أبي حنيفة، وإلى أربع عند الشافعي، وإلى خمس عند مالك، ومن دم الحيض. قال ابن عباس: كلما سال الحيض يوما زاد في مدة الحمل يوما ليحصل الجبر ويعتدل الأمر. ثم بين كمال علمه ونفاذ أمره بقوله: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ واحد لا يتجاوزه في طرفي التفريط والإفراط، والمراد بالعندية العلم كما يقال: هذه المسألة عند الشافعي كذا. وذلك أنه سبحانه خصص كل حادث بوقت معين وحالة معينة حسب مشيئته الأزلية وإرادته السرمدية. وقال حكماء الإسلام: وضع أسبابا كلية وأودع فيها قوى وخواص وحرك الأجرام بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزئية معينة ومناسبات معلومة مقدّرة، ومن جملتها أفعال العباد وأحوالهم وخواطرهم ولذلك ختم الآية بقوله: عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي هو عالم بما غاب عن الحس وبما حضر له، أو بما غاب عن الخلق وبما شهدوه أو بالمعدومات وبالموجودات الْكَبِيرُ في ذاته لا بحسب الحجمية بل بالرتبة والشرف لأنه أجل الموجودات الْمُتَعالِ المنزه عن كل ما يجوز عليه في ذاته في صفاته وفي أفعاله.
ثم زاد في التأكيد فقال: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ أي مستوفى علمه هذان لأنه يعلم السر كما يعلم الجهر لا يتفاوت في علمه أحد الحالين وَسواء عنده مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ على أن سارِبٌ معطوف على مَنْ لا على مُسْتَخْفٍ ليتناول معنى الاستواء شخصين: أحدهما مستخف والآخر سارب. وإلا فلم يتناول إلا واحدا هو مستخف وسارب إلا أن يكون «من» في معنى الاثنين حتى كأنه قيل:
سواء منكم اثنان مستخف بالليل وسارب بِالنَّهارِ وفي المستخفي والسارب قولان:
أحدهما أن المستخفي هو المستتر الطالب للخفاء في ظلمة الليل، والسارب من يضطرب في الطرقات ظاهرا بالنهار يبصره كل أحد. يقال: سرب في الأرض سروبا أي ذهب في(4/142)