يجتمعان. حجة الشافعي أن
قوله صلى الله عليه وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤدى» «1»
يوجب الضمان.
وقد اجتمع في هذه السرقة أمران، وحق الله لا يمنع حق العباد ولهذا يجتمع الجزاء والقيمة في الصيد المملوك، ولو كان المسروق باقيا وجب رده بالاتفاق. حجة أبي حنيفة قوله تعالى: جَزاءً بِما كَسَبا والجزاء هو الكافي، فهذا القطع كاف في جناية السرقة. ورد بلزوم رد المسروق عند كونه قائما. أما كيفية القطع
فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقطع يمينه.
قال الشافعي: فإن سرق ثانيا قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثا فيده اليسرى، فإن سرق رابعا فرجله اليمنى، وبه قال مالك. وروي ذلك عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وعند أبي حنيفة وأحمد لا يقطع في الثانية وما بعدها لما
روي عن ابن مسعود أنه قرأ فاقطعوا أيمانهما،
وضعفه الشافعي بأن القراءة الشاذة لا تعارض ظاهر القرآن المقتضي لتكرر القطع بتكرر السرقة. واتفقوا على أنه يقطع اليد من الكوع، والرجل من المفصل بين الساق والقدم. والسيد يملك إقامة الحد على مماليكه لعموم قوله: فَاقْطَعُوا ولم يجوّزه أبو حنيفة. واحتج المتكلمون بالآية في أنه يجب على الأمة نصب الإمام لأن هذا التكليف لا يتم إلّا به وما لا يتم الواجب إلّا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب. وانتصاب جَزاءً ونَكالًا على أنه مفعول لهما، والعامل فَاقْطَعُوا وإن شئت فعلى المصدر من الفعل الذي دل عليه: فَاقْطَعُوا أي جازوهم ونكلوا بهم جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ.
فَمَنْ تابَ من السراق مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي سرقته وَأَصْلَحَ أي يتوب بنية صالحة وعزيمة صحيحة خالية عن الأغراض الفاسدة فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ وعند بعض الأئمة تسقط العقوبة أيضا. وعند الجمهور لا تسقط. وباقي الآيات قد مر تفسيره. وإنما قدم التعذيب على المغفرة طباقا لتقدم السرقة على التوبة.
التأويل:
إن آدم الروح بازدواجه مع حواء القالب ولد قابيل النفس وتوأمته إقليما الهوى، ثم هابيل القلب وتوأمته ليوذا العقل، فكان الهوى في غاية الحسن في نظر النفس فبه تميل إلى الدنيا ولذاتها. وكان في نظر القلب أيضا في غاية الحسن فبه يميل إلى طلب المولى، وكان العقل في نظر النفس في غاية القبح لأنها به تنزجر عن طلب الدنيا، وكذا في نظر القلب لأنه بالعقل يمتنع عن طلب الحق والفناء في الله ولهذا قيل: العقل عقيله الرجال، فحرم الله تعالى الازدواج بين التوأمين لأن الهوى إذا كان قرين النفس أنزلها أسفل سافلين الطبيعة، وإذا كان قرين القلب كان عشقا فيوصله إلى أعلى فراديس القرب، وإذا
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 88. الترمذي في كتاب البيوع باب 39. ابن ماجه في كتاب الصدقات باب 5. الدارمي في كتاب البيوع باب 56. أحمد في مسنده (5/ 1، 13) .(2/589)
كان العقل قرين القلب صار عقالا له، وإذا كان قرين النفس حرضها على العبودية فرضي هابيل القلب وسخط قابيل النفس وكان صاحب زرع أي مدبر النفس النامية وهي القوّة النباتية، فقرب طعاما من أردإ زرعه وهي القوّة الطبيعية، وكان هابيل القلب راعيا لمواشي الأخلاق الإنسانية والصفات الحيوانية فقرب الصفة البهيمية وهي أحب الصفات إليه لاحتياجه إليها لضرورة التغذي والبقاء ولسلامتها بالنسبة إلى الصفات السبعية والشيطانية.
فوضعا قربانهما على جبل البشرية ثم دعا آدم الروح فنزلت نار المحبة من سماء الجبروت فحملت الصفة البهيمية لأنها حطب هذه النار ولم تأكل من قربان قابيل النفس شيئا لأنها ليست من حطبها بل هي حطب نار الحيوانية تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أي إثم وجودي وإثم وجودك، فإن الوجود حجاب بيني وبين محبوبي. فقتل قابيل النفس هابيل القلب والنفس أعدى عدو القلب فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ أما في الدنيا فبالحرمان عن الواردات والكشوف، وأما في الآخرة فبالبعد عن جنات الوصول فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً هو الحرص في الدنيا ليشغل بذلك عن فعلتها. وفي تعليم الغراب إشارة إلى أنه تعالى قادر على تعليم العباد بأي طريق شاء فيزول تعجب الملائكة والرسل باختصاصهم بتعليم الخلق فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ أي في أرض البشرية إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ أولياء الله أَنْ يُقَتَّلُوا بسكين الخذلان أَوْ يُصَلَّبُوا بحبل الهجران على جذع الحرمان أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ عن أذيال الوصال وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ عن الاختلاف أَوْ يُنْفَوْا من أرض القربة والائتلاف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ جعل الفلاح الحقيقي في أربعة أشياء: في الإيمان وهو إصابة رشاش النور في بدو الخلقة وبه يخلص العبد من ظلمة الكفر، وفي التقوى وهو منشأ الأخلاق المرضية ومنبع الأعمال الشرعية وبه الخلاص عن ظلمة المعاصي، وفي ابتغاء الوسيلة وهو إفناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية وبه يخلص من ظلمه أوصاف الوجود، وفي الجهاد في سبيله وهو محو الأنانية في إثبات الهوية وبه يخلص من ظلمة أوصاف الوجود ويظفر بنور الشهود وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها لأنهم خلقوا مظاهر القهر السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ كانا مقطوعي الأيدي عن قبول رشاش النور فكان تطاول أيديهما اليوم إلى أسباب الشقاوة من نتائج قصر أيديهما عن قبول تلك السعادة. جَزاءً بِما كَسَبا الآن في عالم الصورة نَكالًا مِنَ اللَّهِ تقديرا منه في الأزل.(2/590)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
[سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 47]
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)
القراآت:
لِلسُّحْتِ بضمتين: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد وعلي.
الباقون بسكون العين. واخشوني بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل وَالْعَيْنَ وما بعده بالرفع علي وافق أبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويزيد في وَالْجُرُوحَ بالرفع. وَالْأُذُنَ وبابه بسكون العين: نافع.
وَلْيَحْكُمْ بالنصب: حمزة. الباقون بالجزم.
الوقوف:
قُلُوبُهُمْ ج أي ومن الذين هادوا قوم سماعون، وإن شئت عطفت وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا على مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا ووقفت على هادُوا واستأنفت بقوله سَمَّاعُونَ راجعا إلى الفئتين، والأول أجود لأن التحريف محكي عنهم وهو مختص باليهود آخَرِينَ لا لأن ما بعده صفة لهم. لَمْ يَأْتُوكَ ط مَواضِعِهِ ج لاحتمال ما بعده الحال والاستئناف. فَاحْذَرُوا ط شَيْئاً ط قُلُوبُهُمْ ط عَظِيمٌ هـ لِلسُّحْتِ ط لأن المشروط غير مخصوص بما يليه أَعْرِضْ عَنْهُمْ ج شَيْئاً ط بِالْقِسْطِ ط الْمُقْسِطِينَ هـ ذلِكَ ط لتناهي الاستفهام بِالْمُؤْمِنِينَ هـ وَنُورٌ ج لاحتمال ما بعده(2/591)
الحال والاستئناف شُهَداءَ ط لاختلاف النظم مع فاء التعقيب قَلِيلًا ط الْكافِرُونَ هـ بِالنَّفْسِ ط لمن قرأ وَالْعَيْنَ وما بعده بالرفع بِالسِّنِّ ط لمن قرأ وَالْجُرُوحَ بالرفع قِصاصٌ ط لابتداء الشرط كَفَّارَةٌ لَهُ ط الظَّالِمُونَ هـ مِنَ التَّوْراةِ الأولى ص لطول الكلام وَنُورٌ ط لأن الحال بعده معطوف على محل الجملة قبله الواقعة حالا.
لِلْمُتَّقِينَ ط لمن قرأ وَلْيَحْكُمْ بالنصب فِيهِ ط الْفاسِقُونَ هـ.
التفسير:
خاطب محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ في مواضع ولم يخاطبه بقوله:
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ إلا هاهنا وفي قوله: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [المائدة: 67] ولا شك أنه خطاب تشريف وتعظيم شرف به في هذه السورة التي هي آخر السور نزولا حيث تحققت رسالته في الواقع. أما وجه النظم فهو أنه سبحانه لما بين بعض التكاليف والشرائع وكان قد علم مسارعة بعض الناس إلى الكفر فلا جرم صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على تحمل ذلك ووعده أن ينصره عليهم ويكفيه شرهم. والمراد بمسارعتهم في الكفر تهافتهم فيه وحرصهم عليه حتى إذا وجدوا فرصة لم يخطؤها. آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ فيه تقديم وتأخير أي قالوا بأفواههم آمنا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ قابلون لما يفتعله أحبارهم من الكذب على الله وتحريف كتابه والطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من قولك: الملك يسمع كلام فلان أي يقبله سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي قابلون من الأحبار ومن الذين لم يصلوا إلى مجلسك من شدة البغضاء وإفراط العداوة، ويحتمل أن يراد نفس السماع. واللام في لِلْكَذِبِ لام التعليل أي يسمعون كلامك لكي يكذبوا عليك يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مبدلين ومغيرين سماعون لأجل قوم آخرين وجوههم عيونا وجواسيس مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي التي وضعها الله فيها من أمكنة الحل والحظر والفرض والندب وغير ذلك، أو من وجوه الترتيب والنظم فيهملوها بغير مواضع بعد أن كانت ذات موضع إِنْ أُوتِيتُمْ هذا المحرّف المزال عن موضعه فَخُذُوهُ واعلموا أنه الحق واعملوا به وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ وأفتاكم محمد صلى الله عليه وسلم بخلافه فَاحْذَرُوا فهو الباطل.
عن البراء بن عازب قال: مرّ على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم مجلود فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم. فدعا رجلا من علمائهم فقال صلى الله عليه وسلم:
أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا، ولولا أنك نشدتني لم أخبرك. نجد حد الزاني في كتابنا الرجم ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الوضيع أقمنا عليه الحد فقلنا: تعالوا نجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد مكان الرجم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه به فرجم فأنزل الله الآية إلى قوله: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا(2/592)
يقولون ائتوا محمدا صلى الله عليه وسلم فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فحذوا به، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا.
وفي رواية أخرى أن شريفا من خيبر زنى بشريفة وهما محصنان وحدهما الرجم في التوراة، فكرهوا رجمهما لشرفهما فبعثوا رهطا منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقالوا:
إن أمركم محمد صلى الله عليه وسلم بالجلد والتحميم فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فلا تقبلوا وأرسلوا الزانيين معهم، فأمرهم بالرجم فأبوا أن يأخذوا به فقال له جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا فقال: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له ابن صوريا؟ قالوا.
نعم وهو أعلم يهودي على وجه الأرض ورضوا به حكما. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدك الله الذي لا إله إلّا هو الذي فلق البحر لموسى ورفع فوقكم الطور وأنجاكم وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه، هل تجدون فيه الرجم على من أحصن؟ قال:
نعم. فوثب عليه سفلة اليهود فقال: خفت إن كذبته أن ينزل علينا العذاب. ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أشياء كان يعرفها من أعلامه فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أنك رسول الله النبي الأمي العربي الذي بشر به المرسلون. وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزانيين فرجما عند باب مسجده.
قال العلماء القائلون برجم الثيب الذمي ومنهم الشافعي: إن كان الأمر برجم الثيب الذمي من دين الرسول صلى الله عليه وسلم فهو المقصود، وإن كان مما ثبت في شريعة موسى عليه السلام فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ، ولم يوجد في شرعنا ما يدل على نسخه، وبهذا الطريق أجمع العلماء على أن قوله تعالى: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ حكمه باق في شرعنا. وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ ظاهر الآية أن المراد بالفتنة أنواع الكفر التي حكاها عن اليهود وغيرهم. والمعنى ومن يرد الله كفره وضلالته فلن يقدر أحد على دفع ذلك. ثم أكد هذا بقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ وفيه دليل على أنه تعالى لا يريد إسلام الكافر وأنه لم يطهر قلبه من الشك والشرك ولو فعل لآمن. والمعتزلة فسروا الفتنة بالعذاب كقوله: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 13] أو بالفضيحة أو بالإضلال أي تسميته ضالا، أو المراد ومن يرد الله اختباره فيما يبتليه من التكاليف ثم إنه يتركها ولا يقوم بأدائها فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ ثوابا ولا نفعا. ثم قال: أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ بالألطاف لأنه تعالى علم أنه لا فائدة في تلك الألطاف لأنها لا تنجع في قلوبهم، أو يطهر قلوبهم من الحرج والغم والوحشة الدالة على كفره، أو هو استعارة عن سقوط وقعه عند الله تعالى وأنه غير ملتفت إليه بسبب قبح أفعاله وسوء أعماله.
ثم وصف اليهود بقوله: سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ وهو الحرام وكل ما لا يحل كسبه من سحته وأسحته أي استأصله لأنه مسحوت البركة، ومال مسحوت أي مذهب. قال(2/593)
الليث: السحت حرام يحصل منه العار وذلك أنه يسحت فضيلة الإنسان ويستأصلها. ورجل مسحوت المعدة إذا كان أكولا لا يلفى إلّا جائعا أبدا كأنه يستأصل كل ما يصل إليه من الطعام.
والسحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستكساب في المعصية روي ذلك عن علي رضي الله عنه وعمر وعثمان وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد،
وزاد بعضهم ونقص بعضهم وكل ذلك يرجع إلى الحرام الخسيس الذي لا يكون فيه بركة ويكون فيه عار بحيث يخفيه صاحبه لا محالة. قال الحسن: كان الحاكم في بني إسرائيل إذا أتاه من كان مبطلا في دعواه برشوة سمع كلامه ولا يلتفت إلى خصمه فكان يسمع الكذب ويأكل السحت. وقيل:
كان فقراؤهم يأخذون من أغنيائهم مالا ليقيموا على ما هم عليه من اليهودية فكانوا يسمعون أكاذيب الأغنياء ويأكلون السحت. وقيل: سماعون للأكاذيب التي كانوا ينسبونها إلى التوراة، أكالون للربا لقوله تعالى: وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا [النساء: 161] . فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ خيره الله تعالى بين الحكم والإعراض. فقيل: إن هذا الخبر مختص بالمعاهدين الذين لا ذمة لهم. وقيل: إنه في أمر خاص وهو رجم المحصن قاله ابن عباس والحسن ومجاهد والزهري. وقيل: في قتيل قتل من اليهود في بني قريظة والنضير وكان في بني النضير شرف وكانت ديتهم كاملة وفي قريظة نصف دية، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الدية سواء. وعن النخعي والشعبي وقتادة وعطاء وأبي بكر الأصم وأبي مسلم أن الآية عامة في كل ما جاء من الكفار، وأن الحكم ثابت في سائر الأحكام غير منسوخ. وعن ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة وهو مذهب الشافعي أن هذا التخيير منسوخ في حق غير المعاهدين بقوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [المائدة: 49] فيجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم صغارا لهم. وأهل الحجاز بعضهم لا يرون إقامة الحدود عليهم يذهبون إلى أنهم قد صولحوا على شركهم وهو أعظم من الحدود ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين قبل نزول الجزية، ثم إنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلّا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم، فإذا أعرض صلى الله عليه وسلم عنهم وأبي الحكومة بينهم شق عليهم وعادوا فآمنه الله بقوله:
وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ بالعدل والاحتياط كما حكمت في الرجم. وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ تعجيب من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من تحكيمهم لوجوه منها: عدولهم عن حكم كتابهم، ومنها رجوعهم إلى حكم من كانوا يعتقدونه مبطلا، ومنها إعراضهم عن حكمه بعد أن حكموه وهذا غاية الجهالة ونهاية العناد. والواو(2/594)
في قوله: وَعِنْدَهُمُ للحال من التحكيم والعامل ما في الاستفهام من التعجيب. أما قوله:
فِيها حُكْمُ اللَّهِ فإما أن ينتصب حالا من التوراة على ضعف وهي مبتدأ خبره عِنْدَهُمُ وإما أن يرتفع خبرا عنها والتقدير وعندهم التوراة ناطقة بحكم الله فيكون عِنْدَهُمُ متعلق بالخبر، وإما أن لا يكون له محل ويكون جملة مبينة لأن عندهم ما يغنيهم عن التحكيم كقولك: عندك زيد ينصحك ويشير عليك بالصواب فما تصنع بغيره. وأنثت التوراة لما فيها من صورة تاء التأنيث. ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ عطف على يُحَكِّمُونَكَ و «ثم» لتراخي الرتبة أي ثم يعرضون من بعد تحكيمك عن حكمك الموافق لما في كتابهم. وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إخبار بأنهم لا يؤمنون أبدا، أو المراد أنهم غير مؤمنين بكتابهم كما يدعون، أو المراد أنهم غير كاملين في الإيمان على سبيل التهكم بهم.
ثم رغب اليهود في أن يكونوا كمتقدميهم من أنبيائهم ومسلمي أحبارهم فقال: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً ونور العطف يقتضي التغاير فقيل: الهدى بيان الأحكام والشرائع والنور بيان التوحيد والنبوة والمعاد. وقال الزجاج: الهدى بيان الحكم الذي جاؤوا يستفتون فيه، والنور بيان أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم حق. وقيل: فيها هدى يهدي للحق والعدل، ونور يبين ما استبهم من الأحكام، فهما عبارتان عن معبر واحد، وقد يستدل بالآية على أن شرع من قبلنا يلزمنا لأن الهدى والنور لا بد أن يكون أحدهما يتعلق بالفروع والآخر بالأصول وإلا كان تكرارا. وأيضا إنها نزلت في الرجم ومورد الآية لا بد أن يكون داخلا فيها سواء قلنا إن غيره داخل أو خارج. ويمكن أن يجاب بأن التكرار بعبارتين غير محذور أو بأن في الكلام تقديما وتأخيرا والمراد فيها هدى ونور للذين هادوا يحكم بها النبيون. أما قوله: الَّذِينَ أَسْلَمُوا فأورد عليه أن كل نبي مسلم فما الفائدة في هذا الوصف؟ وأجيب بأنها صفة جارية على سبيل المدح لا التوضيح والكشف، وفيه تعريض باليهود أنهم بعداء عن ملة الإسلام التي هي دين الأنبياء قديما وحديثا لأن غرض الأنبياء الانقياد لتكاليف الله وغرضكم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشا من العوام، فالفريقان متباينان ولهذا أردفه بقوله: لِلَّذِينَ هادُوا أي يحكمون لأجلهم. قال في الكشاف: قوله تعالى: الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا مناد على أن اليهود بمعزل عن الإسلام. قلت: هذا بناء على أن صفة الحاكمين يلزم أن تكون مغايرة لصفة المحكومين. ولقائل أن يقول: بعد تسليم ذلك إنه لم لا يكفي مغايرة العام للخاص؟ وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي: المراد بالنبيين هو محمد صلى الله عليه وسلم كقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] لأنه اجتمع فيه من الخصال ما كانت مفرقة في الأنبياء: وقيل: أسلموا أي انقادوا لحكم التوراة. فمن الأنبياء من لم تكن(2/595)
شريعتهم شريعة موسى. والربانيون قد مر تفسيره في آل عمران. والأحبار عن ابن عباس هم الفقهاء، الواحد حبر بالفتح من قولهم: فلان حسن الحبر والسبر إذا كان جميلا حسن الهيئة، أو حبر بالكسر من ذلك أيضا لقولهم: حسن الحبر بالكسر أيضا.
وفي الحديث: «يخرج رجل من النار قد ذهب حبره وسبره»
أي جماله وبهاؤه. وتحبير الخط والشعر تحسينه أو من هذا الحبر الذي يكتب به لكون العالم صاحب كتب. قاله الفراء والكسائي وأبو عبيدة. ثم إن ذكر الربانيين بعد النبيين يدل على أنهم أعلى حالا من الأحبار فيشبه أن يكون الربانيون كالمجتهدين والأحبار كآحاد العلماء. وقوله: بِمَا اسْتُحْفِظُوا إما أن يكون من صلة يَحْكُمُ أي يحكم بها الربانيون والأحبار بسبب ما استحفظوا، أو يكون من صلة الأحبار أي العلماء بما استحفظوا بما سألهم أنبياؤهم حفظه. و «من» في مِنْ كِتابِ اللَّهِ للتبيين. وقد أخذ الله تعالى على العلماء أن يحفظوا كتابه من وجهين: أحدهما أن يحفظوه في صدورهم ويدرسوه بألسنتهم، والثاني أن لا يضيعوا أحكامه ولا يهملوا شرائعه. وكانوا أي هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار عليه على أن كل ما جاء في التوراة حق من عند الله شهداء رقباء لئلا يبدل، ويحتمل أن يعود ضمير اسْتُحْفِظُوا إلى النبيين وغيرهم جميعا.
والاستحفاظ من الله أي كلفهم الله حفظه وأن يكونوا عليه شهداء. ثم نهى اليهود المعاصرين عن التحريف لرهبة فقال: فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وعن التغيير لرغبة فقال: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا وهو الرشوة وابتغاء الجاه. ثم عمم الحكم فقال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ احتجت الخوارج بالآية على أن كل من عصى الله فهو كافر.
وللمفسرين في جوابهم وجوه: الأول أنها مختصة باليهود وردّ بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولا ريب أن لفظ «من» في معرض الشرط للعموم فلا وجه لتقدير ومن لم يحكم من هؤلاء المذكورين الذين هم اليهود لأنه زيادة في النص. وقال عطاء: هو كفر دون كفر. وقال طاوس: ليس بكفر الملة ولا كمن يكفر بالله واليوم الآخر. فلعلهما أرادا كفران النعمة، وضعف بأن الكافر إذا أطلق يراد به الكافر في الدين. وقال ابن الأنباري: المراد أنه يضاهي الكافر لأنه فعل فعلا مثل فعل الكافر وزيف بأنه عدول عن الظاهر. وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني: معناه من أتى بضد حكم الله تعالى في كل ما أنزل فيخرج الفاسق لأنه في الاعتقاد والإقرار موافق وإن كان في العمل مخالفا. واعترض بأن سبب النزول يخرج حينئذ لأنه نزل في مخالفة اليهود في الرجم فقط، ويمكن أن يقال: المحرّف داخل في الكل. وقال عكرمة: إنما تتناول الآية من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما العارف المقر إذا أخل بالعمل فهو حاكم بما أنزل الله تعالى ولكنه تارك فلا تتناوله الآية.
ثم إنه سبحانه لما بيّن أن حكم الزاني المحصن في التوراة هو الرجم واليهود غيروه(2/596)
أراد أن يبين أن نص التوراة هو قتل النفس بالنفس وأنهم بدّلوه حيث فضلوا بني النضير على بني قريظة فقال: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ من قرأ المعطوفات كلها بالنصب فظاهر، ومن قرأ ما سوى الأوّل بالرفع فللعطف على محل النفس إذ المعنى وكتبنا عليهم في التوراة النفس بالنفس إما لإجراء كَتَبْنا مجرى «قلنا» وإما بطريق الحكاية كقولك: كتبت الحمد لله وقرأت سورة «إن أنزلناه» . وإما على سبيل الاستئناف والمعنى على جميع التقادير. فرضنا عليهم فيها أن النفس مقتولة بالنفس إذا قتلتها بغير حق، والعين مفقوأة بالعين، والأنف مجدوع بالأنف، والأذن مصلومة بالأذن، والسن مقلوعة بالسن، والجروح ذات قصاص أي مقاصة. وهذا تعميم للحكم بعد ذكر بعض التفاصيل والمراد منه كل ما يمكن المساواة فيه من الأطراف كالذكر والأنثيين والإليتين والقدمين واليدين، ومن الجراحات المضبوطة كالموضحة مثلا وهي التي توضح العظم وتبدي وضحه وهو الضوء والبياض، وكذا منافع الأعضاء والأطراف كالسمع والبصر والبطش. فأما الذي لا يمكن القصاص فيه كرض في لحم أو كسر في عظم أو خدش وإدماء في جلد ففي ذلك أرش أو حكومة وتفاصيلها في كتب الفقه. فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ الضمير في بِهِ يعود إلى القصاص وفي فَهُوَ إلى التصدق الدال عليه الفعل. وفي لَهُ وجهان: أحدهما أنه يعود إلى العافي المتصدق لما
روى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه» «1»
وعن عبد الله بن عمرو «يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به»
والثاني أنه يعود إلى الجاني المعفو عنه أي لا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو، وأما العافي فأجره على الله تعالى وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي على آثار النبيين بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي عقبناهم به، فتعديته إلى المفعول الثاني بالباء. وقوله: عَلى آثارِهِمْ يسدّ مسد الأول لأنه إذا قفي به على أثره فقد قفي به إياه مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي مقرا بأن التوراة كتاب منزل من عند الله تعالى وأنه كان حقا واجب العمل به قبل ورود ناسخه وهو الإنجيل المصدق أيضا لكونه مبشرا بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم كالتوراة. وأما النور فبيان الأحكام الشرعية وتفاصيل التكاليف، والهدى الأول أصول الديانات كالتوحيد والنبوات والمعاد، والهدى الثاني اشتماله على البشارة بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم لأن ذلك سبب اهتداء الناس إلى نبوته، واشتمال الإنجيل على المواعظ والنصائح والزواجر ظاهر وخص الجميع بالمتقين لأنهم هم المنتفعون بذلك. ومن قرأ وَلْيَحْكُمْ بالجزم فإما إخبار عما قيل لهم في ذلك الوقت من الحكم بما تضمنه الإنجيل أي قلنا لهم ليحكموا بما فيه، وإما أمر مستأنف للنصارى بالحكم
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (5/ 230) . [.....](2/597)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
بما فيه كتابهم من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو مما لم يصر منسوخا بالقرآن. ومن قرأ بالنصب فلأنه علة فعل محذوف يدل عليه ما تقدمه أي ولأجل حكمهم بما فيه آتيناهم كتابهم، وعلى هذا يجوز أن يكون هدى وموعظة أيضا غرضين معطوفين للحكم والله أعلم.
أما قوله: الْكافِرُونَ الظَّالِمُونَ الْفاسِقُونَ فللمفسرين فيه خلاف. قال القفال: هو كقولك من أطاع الله فهو المؤمن من أطاع الله فهو المتقي، لأن كل ذلك أوصاف مختلفة حاصلة لموصوف واحد، فهذه كلها نزلت في الكفار. وقال آخرون: الأول في الجاحد، والثاني والثالث في المقر التارك. وقال الأصم: الأول والثاني في اليهود، والثالث في النصارى.
التأويل:
سماعون لكذبات الشيطان في وساوسه والنفس في هواجسها سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ يسنون السنة السيئة لغيرهم يُحَرِّفُونَ يغيرون قوانين الشريعة بتمويهات الطبيعة وهذه حال مؤوّلي القرآن والأحاديث على وفق أهوائهم سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ لأن الأخلاق الردية أورثتهم الأعمال الدنية. فالأخلاق نتائج الأعمال والأعمال نتائج الأخلاق وكلها من نتائج الاستعداد الفطري فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ مداويا لدائهم إن رأيت التداوي سببا لشفائهم أو أعرض عنهم إن تيقنت إعواز الشفاء لشقائهم وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ داوهم على ما يستحقون من دائهم بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ الفرق بين بني إسرائيل وبين هذه الأمة أنهم استحفظوا التوراة فضيعوها وحرفوها، وقال في حقنا: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ كما أن في إهلاك النفس هلاك نفس المهلك ففي إحياء نفس الطالب بحياة الدين حياة نفس محييها، وفي معالجة عين قلبه وأنف قلبه وأذن قلبه وسن قلبه معالجة هذه الأعضاء بمزيد الإدراك.
فَمَنْ تَصَدَّقَ بهذا الإحياء فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ فيما فرط من إحياء نفسه ومعالجة قلبه طرفة عين. وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ على نفسه بِما أَنْزَلَ اللَّهُ في تزكيتها وتحليتها فأولئك الذين ظلموا أنفسهم بوضع الحظوظ مقام الحقوق والله أعلم.
[سورة المائدة (5) : الآيات 48 الى 58]
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)
وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)(2/598)
القراآت:
تبغون بتاء الخطاب: ابن عامر والخراز عن هبيرة. الباقون بالياء.
وَيَقُولُ بالواو وبالرفع: عاصم وحمزة وعلي وخلف، وقرأ أبو عمرو وسهل ويعقوب بالنصب. عياش: مخير. الباقون يَقُولُ بدون واو العطف. مَنْ يَرْتَدَّ بالإظهار: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون بالإدغام. وَالْكُفَّارَ بالجر: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي. الباقون بالنصب عطفا على محل. الَّذِينَ اتَّخَذُوا وقرأ أبو عمرو وعلي غير ليث وأبي حمدون وحمدويه وابن رستم الطبري عن نصير طريق ابن مهران بالإمالة.
الوقوف:
بِالْحَقِّ ط وَمِنْهاجاً ط الْخَيْراتِ ط تَخْتَلِفُونَ هـ لا لعطف وَأَنِ احْكُمْ على ما قبله. ومن وقف فلأنه رأس آية. أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ط ذُنُوبِهِمْ ط لَفاسِقُونَ هـ يَبْغُونَ ط يُوقِنُونَ هـ أَوْلِياءَ هـ ليلزم النهي عن اتخاذ الأولياء مطلقا. أَوْلِياءُ بَعْضٍ ط مِنْهُمْ ط الظَّالِمِينَ هـ دائِرَةٌ ط لتمام المقول.
نادِمِينَ هـ لا لمن قرأ وَيَقُولُ بالنصب عطفا على أَنْ يَأْتِيَ. جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا لأن قوله: إِنَّهُمْ جواب القسم. لَمَعَكُمْ ط خاسِرِينَ هـ وَيُحِبُّونَهُ لا لأن ما بعده صفة قوم الْكافِرِينَ هـ لشبه الآية. لائِمٍ ط مَنْ يَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ راكِعُونَ هـ الْغالِبُونَ هـ أَوْلِياءَ ج للعطف ولطول الكلام. مُؤْمِنِينَ وَلَعِباً ط لا يَعْقِلُونَ هـ.(2/599)
التفسير:
منّ الله تعالى على نبينا صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن إليه مصدقا لما بين يديه من الكتاب أي جنسه وهو كل كتاب سوى القرآن نازل من السماء. وفي المهيمن قولان: قال الخليل وأبو عبيدة: هيمن على الشيء يهيمن إذا كان رقيبا على الشيء وشاهدا ومصدقا. وقال الجوهري: أصله أأمن بهمزتين قلبت الثانية ياء لكراهة اجتماع الهمزتين، ثم الأولى هاء كما في هرقت وهياك. والمعنى إنه أمين على الكتب التي قبله لأنه لا ينسخ البتة ولا يحرف لقوله: وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] ومن هنا قرىء: وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فتح الميم أي هو من عليه بأن حوفظ من التغيير والتبديل، والذي هيمن عليه عز وجل كما قلنا، أو الحفاظ في كل بلد والقراء المشهود لهم بالإجادة فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بين اليهود بالقرآن وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ منحرفا عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ أو ضمن لا تتبع معنى لا تحزن. قيل: لولا جواز المعصية على الأنبياء لم يجز هذا النهي. والجواب أن ذلك مقدور له ولكن لا يفعله لمكان النهي. أو الخطاب له والمراد غيره لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أيها الناس أو الأمم أمة موسى وأمة عيسى وأمة محمد صلى الله عليه وسلم لتقدم ذكر الثلاث شِرْعَةً وَمِنْهاجاً قال ابن السكيت:
الشرع مصدر شرعت الإهاب إذا شققته وملحته. وقيل: إنه من الشروع في الشيء الدخول فيه، والشرعة مصدر للهيئة بمعنى الشريعة «فعلة» بمعنى «مفعولة» وهي الأمور التي أوجب الله تعالى على المكلفين أن يشرعوا فيها والمنهاج الطريق الواضح وهما عبارتان عن معبر واحد هو الدين والتكرير للتأكيد. ويحتمل أن يقال: الشريعة عامة والمنهاج مكارم الشريعة، فالأولى أقدم وهذه تتلوها وهي الطريقة. وقال المبرد: الشريعة ابتداء الطريق والطريقة المنهاج المستمر. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً جماعة متفقة على شريعة واحدة أو ذوي أمة واحدة أي دين واحد لا خلاف فيه. وفيه دليل على أن الكل بمشيئة الله تعالى. والمعتزلة حملوه على مشيئة الإلجاء وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ أي جعلكم مختلفين متخالفين ليعاملكم معاملة المختبر هل تعملون بالنواميس الإلهية وتذعنون للعقائد الحقة أم تقصرون في العمل وتتبعون الشبه ولذلك قال فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ سارعوا إليها وتسابقوا نحوها. ويعني بالخيرات هاهنا ما هو الحق من الاعتقادات والمحقق من التكاليف. ثم علّل الاستئناف بقوله: إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ فيخبركم بما لا تشكون معه من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل والعام والمقصر. والمراد أن الأمر سيؤل إلى ما يحصل معه اليقين من مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته وَأَنِ احْكُمْ قيل معطوف على الْكِتابَ أي وأنزلنا إليك أن احكم على أن «أن» المصدرية وصلت بالأمر لأنه فعل كسائر الأفعال، أو على قوله: بِالْحَقِّ أي أنزلناه بالحق وبأن احكم. وأقول: يحتمل أن تكون «أن» مفسرة وفعل الأمر محذوف أي وأمرناك أن احكم. وتكرار الأمر بالحكم إما للتأكيد(2/600)
وإما لأنهما حكمان لأنهم احتكموا إليه في زنا المحصنين ثم احتكموا في قتل كان بينهم.
وزعم بعض الأئمة أن هذه الآية ناسخة للتخيير في قوله: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ
وعن ابن عباس أن جماعة من اليهود منهم كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا وشماس بن قيس من أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمد صلى الله عليه وسلم لعلنا نفتنه عن دينه. فأتوه فقالوا: يا محمد قد عرفت أنا أحبار اليهود وأشرافهم وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود ولم يخالفونا، وإن بيننا وبين قوم خصومة ونحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونحن نؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل فيهم: وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ
محله نصب على أنه مفعول له أي مخافة أن يفتنوك، أو على أنه بدل اشتمال من مفعول احذر. والمراد بالفتنة رده إلى أهوائهم فكل من صرف من الحق إلى الباطل فقد فتن. قال بعض أهل العلم: في الآية دليل على أن الخطأ والنسيان جائزان على النبي صلى الله عليه وسلم، لأن التعمد في مثل هذا غير جائز فلم يبق إلّا الخطأ والنسيان فلو لم يكونا جائزين أيضا لم يكن للحذر فائدة، فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم المنزل أي فإن لم يقبلوا حكمك فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أما الإصابة فالمراد بها قتلهم وإجلاؤهم، وأما ذكر بعض الذنوب فلأن مجازاتهم ببعض الذنوب كافية في إهلاكهم وتدميرهم، أو أراد بالبعض ذنب التولي عن حكم الله. وفيه أن لهم ذنوبا جمة وأن هذا الذنب عظيم جدا كقول لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها. ... أو يرتبط بعض النفوس حمامها.
أراد نفسه وإنما قصد تفخيم شأنها بهذا الإبهام فكأنه قال نفسا كبيرة لأن التنكير في معنى البعضية أيضا. لَفاسِقُونَ لمتمردون في الكفر. وفيه أن التولي عن حكم الله فسق مؤكد جدا.
ثم استفهم منكرا لرأيهم فقال: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وفيه تعيير لليهود بأنهم أهل كتاب وعلم ومع ذلك يطلبون حكم الملّة الجاهلية التي هي محض الجهل وصريح الهوى.
وقال مقاتل: إن قريظة والنضير طلبوا إليه أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهلية من التفاضل بين القتلى. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القتلى بواء أي سواء. فقال بنو النضير: نحن لا نرضى بذلك فنزلت.
وعن الحسن هو عام في كل من يبتغي غير حكم الله. وسئل طاوس عن الرجل يفضل بعض ولده على بعض فتلا هذه الآية. واللام في قوله: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ للبيان كاللام في: هَيْتَ لَكَ [يوسف: 23] أي هذا لخطاب وهذا الاستفهام لهم لأنهم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكما ولا أحسن منه بيانا.
قال عطية العوفي: جاء عبادة بن الصامت فقال: يا رسول الله إن لي موالي من اليهود كثيرا عددهم حاضرا نصرهم(2/601)
وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية اليهود، أو إلى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبي:
إني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية اليهود. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه. قال: قد قبلت فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ
تعاشرونهم معاشرة المؤمنين. ثم علل النهي بقوله: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ لأن الجنسية علة الضم. ثم أكد ذلك بقوله: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ من جملتهم وحكمه حكمهم ولذلك قال ابن عباس: يريد أنه كافر مثلهم وفيه من التغليظ والتشديد ما فيه. إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفرة فوضعوا الولاء في غير موضعه. عن أبي موسى الأشعري قال: قلت لعمر بن الخطاب: إن لي كاتبا نصرانيا فقال: ما لك قاتلك الله ألا اتخذت حنيفا؟ أما سمعت هذه الآية؟ قلت: له دينه ولي كتابته. فقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله، ولا أعزهم إذ أذلهم الله، ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله. قلت: لا قوام بالبصرة إلّا به. قال: مات النصراني والسلام يعني هب أنه قد مات فما كنت تكون صانعا حينئذ فاصنعه الآن. فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يعني أمثال عبد الله بن أبي. يُسارِعُونَ فِيهِمْ في موالاة اليهود والنصارى يهود بني قينقاع ونصارى نجران لأنهم كانوا أهل ثروة وكانوا يعينونهم على مهامهم ويقرضونهم يَقُولُونَ يعتذرون عن الموالاة بقولهم: نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ قال الواحدي: هي الدولة ومثلها صروف الزمان ونوائبه. وقال الزجاج: نخشى أن لا يتم الأمر لمحمد فيدور الأمر كما كان قبل ذلك. ثم سلى رسوله والمؤمنين بقوله:
فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فعسى من الله الكريم إطماع واجب. والفتح إما فتح مكة أو مطلق دولة الإسلام وغلبة ذويه. وقوله: أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ المراد به فعل لا يكون للناس فيه مدخل البتة كقذف الرعب في قلوب بني النضير وغيرهم من الكفار. وقيل: هو أن يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم. فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ من النفاق والشك في أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم يتم نادِمِينَ وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قال الواحدي:
حذف الواو هاهنا كإثباتها فلهذا جاء في مصاحف أهل الحجاز والشام بغير واو، وفي مصاحف أهل العراق بالواو، وذلك أن في الجملة المعطوفة ذكرا من المعطوف عليها، فإن قوله: أَهؤُلاءِ إشارة إلى الذين يسارعون، فلما حصل في كل من الجملتين ذكر من الأخرى حسن الوجهان. ووجه العطف مع النصب ظاهر ووجه ذلك مع الرفع على أنه كلام مبتدأ أي ويقول الذين آمنوا في ذلك الوقت. ووجه الفصل هو أن يكون جواب سائل يسأل فماذا يقول المؤمنون حينئذ وإنما يقولون هذا القول فيما بينهم تعجبا من حالهم وفرحا بما(2/602)
منّ الله عليهم من التوفيق في الإخلاص، أو يقولونه لليهود الذين كانوا يحلفون لهم بالمعاضدة والنصرة كما حكى الله عنهم: وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [الحشر: 11] وقوله:
جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي بأغلاظ الأيمان نصب على الحال أي يجتهدون جهد أيمانهم أو على المصدر من غير لفظه. حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ من قول الله تعالى أو من جملة قول المؤمنين أي بطلت أعمالهم التي كانوا يتكلفونها رياء. وفيه معنى التعجب أي ما أحبط أعمالهم فما أخسرهم حيث بقي عليهم التعب في الدنيا والعذاب في العقبى مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ أي من يتولّ الكفار منكم فيرتد فليعلم أن الله تعالى يأتي بقوم آخرين ينصرون هذا الدين على أبلغ الوجوه. وقال الحسن: علم الله تعالى أن قوما يرجعون عن الإسلام بعد موت نبيهم فأخبرهم أنه سبحانه سيأتي بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ فتكون الآية إخبارا عن الغيب وقد وقع فيكون معجزا.
روي في الكشاف أن أهل الردّة كانوا إحدى عشرة فرقة، ثلاث في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار الأسود العنسي وكان كاهنا تنبأ باليمن واستولى على بلاده وأخرج عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن فأهلكه الله على يدي فيروز الديلمي، بيته فقتله وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله ليلة قتل فسر المسلمون وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد وأتى خبره في آخر شهر ربيع الأول. وبنو حنيفة قوم مسيلمة تنبأ وكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أما بعد فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك. فأجاب صلى الله عليه وسلم: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مسيلمة الكذاب. أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. فحاربه أبو بكر بجنود المسلمين وقتل على يدي وحشي قاتل حمزة وكان يقول: قتلت خير الناس في الجاهلية وشر الناس في الإسلام. أراد في جاهليتي وإسلامي.
وبنو أسد قوم طليحة بن خويلد تنبأ فبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خالدا فانهزم بعد القتال إلى الشام ثم أسلم وحسن إسلامه.
وسبع في عهد أبي بكر: فزارة قوم عيينة بن حصن وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري، وبنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبئة التي زوّجت نفسها مسيلمة الكذاب، وكندة قوم الأشعث بن قيس، وبنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد وحاربهم أبو بكر وكفى الله أمرهم على يديه. وفرقة واحدة في عهد عمر غسان قوم جبلة بن الأيهم كان يطوف بالبيت ذات يوم بعد أن كان أسلم على يد عمر فرأى رجلا جارّا رداءه فلطمه فتظلم الرجل إلى عمر فقضى بالقصاص عليه. فقال: أنا أشتريها بألف فأبى الرجل فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف فأبى الرجل إلّا القصاص فاستنظره فأنظره عمر فهرب إلى(2/603)
الروم وتنصر. وتفسير المحبة قد مر في سورة البقرة في قوله: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ [البقرة: 165] وإنما قدم محبته على محبتهم لأن محبتهم إياه نتيجة محبته الأزلية إياهم فتلك أصل وهذه فرع. والراجع من الجزاء إلى الاسم المتضمن للشرط محذوف معناه فسوف يأتي الله بقوم مكانهم أو بقوم غيرهم أَذِلَّةٍ جمع ذليل لأن ذلولا من الذل نقيض الصعوبة لا يجمع على أذلة وإنما يجمع على ذلل. وليس المراد أنهم مهانون عند المؤمنين بل المراد المبالغة في وصفهم بالرفق ولين الجانب، فإن من كان ذليلا عند إنسان فإنه لا يظهر الكبر والترفع البتة. ولتضمين الذل معنى الحنو والعطف عدّي بعلى دون اللام كأنه قيل: عاطفين عليهم. أو المراد أنهم مع شرفهم واستعلاء حالهم واستيلائهم على المؤمنين خافضون لهم أجنحتهم ليضموا إلى منصبهم فضيلة التواضع أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يظهرون الغلظة والترفع عليهم من عزه يعزه إذا غلبه ونحو هذه الآية قوله: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] أما الواو في قوله: وَلا يَخافُونَ فإما أن تكون للحال أي يجاهدون وحالهم في المجاهدة خلاف حال المنافقين حيث يخافون لومة أوليائهم اليهود، وإما أن تكون للعطف كقوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام أي هم الجامعون بين المجاهدة لله وبين الصلابة في الدين إذا شرعوا في أمر من أمور الدين، لا يرعبهم اعتراض معترض. وفي وحدة اللوم وتنكير اللائم مبالغتان كأنه قيل: لا يخافون شيئا قط من لوم أحد من اللوام. ذلِكَ الذي ذكر من نعوت الكمال من المحبة والذلة وغيرها فَضْلُ اللَّهِ إحسانه وتوفيقه. قالت الأشاعرة: إنه صريح في أن الأعمال مخلوقة لله تعالى. والمعتزلة حملوه على فعل الألطاف. وضعف بأن اللطف عام في حق الكل فلا بد للتخصيص من فائدة وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ تام القدرة كامل العلم يعلم أهل الفضل فيؤتيهم الفضل.
واعلم أن للمفسرين خلافا في أن القوم المذكورين في الآية من هم. قال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج: هم أبو بكر وأصحابه لأنهم الذين قاتلوا أهل الردة. وقال السدي: نزلت في الأنصار.
وقال مجاهد: هم أهل اليمن لأنها لما نزلت أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري وقال: هم قوم هذا.
وقال آخرون: هم الفرس لما
روي أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فضرب يده على عاتق سلمان وقال: هذا وذووه ثم قال: لو كان الدين معلقا بالثريا لناله رجال من أبناء فارس.
وقالت الشيعة: نزلت في علي رضي الله عنه وكرّم الله(2/604)
وجهه لما
روي أنه صلى الله عليه وسلم دفع الراية إلى علي يوم خيبر وكان قد قال: لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله،
ولأن ما بعد هذه الآية نازلة فيه باتفاق أكثر المفسرين.
قال الإمام فخر الدين الرازي: هذه الآية من أدل الدلائل على فساد مذهب الإمامية لأن الذين اتفقوا على إمامة أبي بكر، لو كانوا أنكروا نصا جليا على إمامة علي رضي الله عنه لكان كلهم مرتدين ثم لجاء الله بقوم تحاربهم وتردهم إلى الحق. ولما لم يكن الأمر كذلك بل الأمر بالضد فإن فرقة الشيعة مقهورون أبدا حصل الجزم بعدم النص. ولناصر مذهب الشيعة أن يقول: ما يدريك أنه تعالى لا يجيء بقوم تحاربهم، ولعل المراد بخروج المهدي هو ذلك فإن محاربة من دان بدين الأوائل هي محاربة الأوائل وهذا إنما ذكرته بطريق المنع لا لأجل العصبية والميل فإن اعتقاد ارتداد الصحابة الكرام أمر فظيع والله أعلم. ثم إنه سبحانه لما نهى في الآي المتقدمة عن موالاة الكفار أمر بعد ذلك بموالاة من يحق موالاته فقال: إِنَّما وَلِيُّكُمُ ولم يقل أولياؤكم ليعلم أن ولاية الله أصل والباقي تبع اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وفيه قولان: الأول أن المراد عامة المؤمنين لأنّ الآية نزلت على وفق ما مر من قصة عبادة بن الصامت.
وروي أيضا أن عبد الله بن سلام قال: يا رسول الله إن قومنا قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل فنزلت هذه الآية. فقالوا: رضينا بالله تعالى وبرسوله وبالمؤمنين أولياء. ثم قال:
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
ومحله رفع على البدل أو على هم الذين يقيمون، أو نصب بمعنى أخص أو أعني وفي الكل مدح والغرض تميز المؤمن المخلص عمن يدعي الإيمان نفاقا.
ومعنى وَهُمْ راكِعُونَ قال أبو مسلم: أي منقادون خاضعون لأوامر الله تعالى ونواهيه.
وقيل: المراد ومن شأنهم إقامة الصلاة وخص الركوع بالذكر لشرفه. وقيل: إنّ الصحابة كانوا عند نزول الآية مختلفين في هذه الصفات منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من دفع المال إلى الفقير ومنهم من كان بعد الصلاة راكعا فنزلت الآية على وفق أحوالهم. القول الثاني أن المراد شخص معين وجيء به على لفظ الجمع ليرغب الناس في مثل فعله. ثم إن ذلك الشخص من هو؟ روى عكرمة أنه أبو بكر وروى عطاء عن ابن عباس أنه علي عليه السلام.
روي أن عبد الله بن سلام قال: لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله أنا رأيت عليا تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه.
وروي عن أبي ذر أنه قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة الظهر فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء وقال: اللهم أشهد أني سألت في مسجد الرسول فما أعطاني أحد شيئا وعليّ عليه السلام كان راكعا فأومأ إليه بخنصره اليمنى وكان فيها خاتم، فأقبل السائل حتى أخذ(2/605)
الخاتم فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إن أخي موسى سألك فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي إلى قوله: وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه: 25، 32] فأنزلت قرآنا ناطقا سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً [القصص: 35] اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك فاشرح لي صدري ويسر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا اشدد به أزري. قال أبو ذر: فو الله ما أتم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة حتى نزل جبريل فقال: يا محمد اقرأ إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ الآية.
فاستدلت الشيعة بها على أن الإمام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو علي بن أبي طالب عليه السلام لأن الولي هو الوالي المتصرف في أمور الأمة، وأنه علي عليه السلام برواية أبي ذر وغيره.
وأجيب بالمنع من أن الولي هاهنا هو المتصرف بل المراد به الناصر والمحب لأن الولاية المنهي عنها فيما قبل هذه الآية، وفيما بعدها هي بهذا المعنى فكذا الولاية المأمور بها.
وأيضا إن عليا لم يكن نافذ التصرف حال نزول الآية وإنها تقتضي ظاهرا أن تكون الولاية حاصلة في الحال. وأيضا إطلاق لفظ الجمع على الواحد لأجل التعظيم مجاز والأصل في الإطلاق الحقيقة، فالمراد بالذين آمنوا عامة المؤمنين وأن بعضهم يجب أن يكون ناصرا لبعض كقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] وأيضا الآية المتقدمة نزلت في أبي بكر كما مر من أنه هو الذي حارب المرتدين فالمناسب أن تكون هذه أيضا فيه. ثم إن علي بن أبي طالب عليه السلام كان أعرف بتفسير القرآن من هؤلاء الإمامية فلو كانت الآية دالة على إمامة عليّ لاحتج بها كما احتج بما ينقلون عنه أنه تمسك يوم الشورى بخبر الغدير وخبر المباهلة وجميع مناقبه وفضائله. وهب أنها دالة على إمامته لكنه ما كان نافذ التصرف في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق إلا أنه سيصير إماما ونحن نقول بموجبه ولكنه بعد الشيوخ الثلاثة. ومن أين قلتم إنها تدل على إمامته بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير فصل؟ وأيضا إنهم كانوا قاطعين بأن المتصرف فيهم هو الله ورسوله فلا حاجة بهم إلى ذكر ذلك. فالمراد بقوله: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أن من كان الله ورسوله ناصرين له فأي حاجة به إلى طلب النصرة والمحبة عن غيره، وإذا كان الولي مستعملا بمعنى النصرة مرة امتنع أن يراد به معنى المتصرف لأنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهومية معا فكأنه تعالى قسم المؤمنين قسمين وجعل أحدهما أنصارا للآخر. وأيضا الزكاة اسم للواجب لا للمندوب، ومن المشهور أن عليا عليه السلام ما كان يجب عليه الزكاة، ولو سلم فاللائق بحاله أن يكون في الصلاة مستغرق القلب بالله فلا يتفرغ لاستماع كلام السائل ولا إلى دفع الخاتم إليه لأنه عمل كثير، اللهم إلا أن يكون الخاتم سهل المأخذ أو كان قد أومأ به إلى السائل فأخذه السائل. والحق أنه إن صحت الرواية فللآية دلالة قوية على عظم شأن علي(2/606)
عليه السلام، والمناقشة في أمثال ذلك تطويل بلا طائل إلا أن أصحاب المذاهب لما تكلموا فيها أوردنا حاصل كلامهم على سبيل الاختصار. وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ من إقامة المظهر مقام المضمر تشريفا. والمراد فإنهم هم الغالبون. وحزب الرجل أصحابه المجتمعون لأمر حزبهم. وقال الحسن: جند الله. أبو روق: أولياء الله. أبو العالية: شيعة الله. وقيل: أنصار الله. الأخفش: هم الذين يدينون بدينه ويطيعونه فينصرهم.
صاحب الكشاف: يحتمل أن يراد بحزب الله الرسول والمؤمنون أي ومن يتولهم فقد تولى حزب الله واعتضد بمن لا يغالب. ثم عمم النهي عن موالاة جميع الكفار فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عن ابن عباس: كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا، فكان رجال من المسلمين يوادّونهما فنزلت، يعني أن اتخاذهم دينكم هزوا ولعبا ينافي اتخاذكم إياهم أولياء بل يجب أن يقابل ذلك بالشنئان والبغضاء. وإنما عطف الكفار على أهل الكتاب مع أن أهل الكتاب أيضا كفار والعطف يقتضي المغايرة، لأنه أراد بالكفار المشركين الوثنيين خاصة لما أن كفرهم أغلظ فكانوا أحق باسم الكفر. ومعنى تلاعبهم بالدين واستهزائهم به إظهارهم ذلك باللسان دون مواطأة الجنان. وَاتَّقُوا اللَّهَ في موالاة الكفار إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ حقا لأن الإيمان الحقيقي يأبى موالاة أعداء الدين. قال الكلبي: كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نادى إلى الصلاة فقام المسلمون إليها قالت اليهود: قد قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا ركعوا لا ركعوا على طريق الاستهزاء والضحك فنزل وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها أي الصلاة والمناداة. وهذا بعض ما اتخذوه من هذا الدين هزوا ولعبا، فلهذا أردفه بالآية المقدمة الكلية. وقال السدي: نزلت في رجل من النصارى بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله. قال: حرق الكاذب.
فدخل خادمه بنار ذات ليلة وهو نائم وأهله نيام فتطايرت منها شرارة في البيت فاحترق البيت واحترق هو وأهله.
وقال آخرون: إن الكفار لما سمعوا الأذان حسدوا رسول الله والمسلمين على ذلك فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد لقد أبدعت شيئا لم نسمع به فيما مضى من الأمم الخالية. فإن كنت تدعي النبوة فقد خالفت فيما أحدثت من هذا الأذان الأنبياء قبلك، ولو كان في هذا الأمر خير كان أولى الناس به الأنبياء والرسل قبلك، فمن أين لك صياح كصياح العنز؟ فما أقبح من صوت وما أسمج من أمر. فأنزل الله تعالى هذه الآية،
وأنزل: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ قال بعض العلماء: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده. وأقول: لو قيل إن أصل الأذان بالمنام والتفرير بنص الكتاب كان أصوب ذلك الاتخاذ. بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما في الصلاة من المنافع لأنها التوجه إلى الخالق والاشتغال بخدمة المعبود، أو لا يفهمون ما في اللعب والهزء من السفه(2/607)
والجهل. قال بعض الحكماء: أشرف الحركات الصلاة وأنفع السكنات الصيام.
التأويل:
وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أي بالحقيقة لأنه أنزل على قلبه وأنزل سائر الكتب في الألواح والصحف فلهذا كان خلقه القرآن. وكان مهيمنا على جميع الكتب تصديقا عيانيا لا بيانيا بحيث يشاهد قلب المنزل عليه بنوره حقائق جميع الكتب وأسرارها بخلاف ما أنزل في الألواح فإن الألواح لا تشهد ولا تشاهد حقائق الكتب ومعانيها. لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ معاشر الأنبياء شِرْعَةً يشرع فيها بالبيان وَمِنْهاجاً يسلك فيه بالعيان وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ أيها الأمم فِي ما آتاكُمْ من البيان والتبيان والحجج والبرهان والعزة والسلطان، فابتلاكم بزينة الدنيا واتباع الهوى ونيل المنى والرفعة بين الورى والنجاة في العقبى ليهتدي التائبون بالبيان، ويستفيد العاملون بالبرهان، ويحكم العارفون بالسلطان بل يقصد الزاهدون برفض الدنيا ويقدم العابدون بنهي الهوى، ويسلك المشتاقون بنفي المنى، ويجذب العارفون بترك الورى، ويسلب الواصلون بالسلو عن الدنيا والعقبى فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ من هذه المقامات إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً اختيارا بقدم الصدق أو اضطرارا بحلول الأجل فَإِنْ تَوَلَّوْا عن قبول الحق فَاعْلَمْ بمطالعة القضاء أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ في حكم القدر أَنْ يُصِيبَهُمْ مصيبة الإعراض بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وهو الاعتراض، فإن الحق سبحانه يلزم بشرط التكاليف ويقدمهم ويؤخرهم بعين التصريف. فالتكليف فيما أوجب والتصريف فيما أوجدوا العبرة بالإيجاد لا بالإيجاب لَفاسِقُونَ لخارجون عن جذبات العناية أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ أيطلبون منك أن تحيد عن المحجة المثلى بعد ما طلعت شموس الدنيا وسطعت براهين اليقين وانهتكت أستار الريب واستنار القلب بأنوار الغيب يُسارِعُونَ فِيهِمْ لأن شبيه الشيء منجذب إليه أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ فتح عيون القلوب أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ وهو الجذبة التي توازي عمل الثقلين وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا بأنوار الغيوب في أستار القلوب فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ بإبطال الاستعداد الفطري. بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ هم أرباب السلوك أفناهم عنهم بسطوات يحبهم ثم أبقاهم به عند هبوب نفحات يحبونه، فإن محبة الله للعبد إفناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية، ومحبة العبد لله إبقاء اللاهوتية في فناء الناسوتية. والشيخ نجم الدين الرازي المعروف بداية رضي الله عنه قد عكس القضية، فلعله فهم غير ما فهمنا. ثم قال إنه تعالى يحب العبد بصفته ذاته أزلا وهي الإرادة القديمة المخصوصة بالغاية، والعبد يحب الله بذات تلك الصفة أبدا أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لارتفاع الأنانية أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ ببقاء اللاهوتية وإثبات الوحدانية يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طلب الحق في البداية ببذل الوجود وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ عند غلبات الوجد في(2/608)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
الوسط لدوام الشهود ذلك يعني صدق الطلب في البداية وغلبات الوجد في الوسط والاختصاص بالمحبة في النهاية وَاللَّهُ واسِعٌ كرمه قادر على أن يتفضل على كل أحد لكنه عَلِيمٌ بحال كل أحد فلا يتفضل إلا على من يستأهله. يُقِيمُونَ الصَّلاةَ يديمونها مراقبين حقوقها في الباطن بمراعاة السر وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ ما زكى من وجودهم وهو الفناء في الله وَهُمْ راكِعُونَ راجعون إلى الله بانحطاط. فمن قيام البشرية إلى قيام القيومية هم الغالبون على أهوائهم وأنفسهم والدنيا والشيطان. الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ يعني أهل الغفلة والسلو المستهزئين بأهل المحبة والقرب مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي العلوم الظاهرة والكفار يعني الفلاسفة ومقلديهم لأنهم بمعزل عن العلوم اللدنية والكشفية وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ دعوتموهم إلى محل القرب والنجوى لا يعقلون بالوهم والخيال لذاذة شهود ذلك الجمال.
[سورة المائدة (5) : الآيات 59 الى 69]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)
وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)(2/609)
القراآت:
هَلْ تَنْقِمُونَ وبابه مدغما: حمزة وعلي وهشام. وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ بضم الباء ونصب الدال وجر الطاغوت: حمزة. الباقون بنصب الطاغوت على أن. عَبَدَ فعل ماض عطفا على صلة من كأنه قيل: ومن عبد الطاغوت. مبصوطتان بالصاد مثل وزاده بصطة [البقرة: 247] وقد مر في البقرة. رِسالَتَهُ أبو عمرو وابن كثير وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون رِسالاتِهِ.
الوقوف:
مِنْ قَبْلُ لا لعطف وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ على أَنْ آمَنَّا. فاسِقُونَ هـ عِنْدَ اللَّهِ ط لتناهي الاستفهام والتقدير هو. مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ط ومن جعل محله جرا على البدل من شَرٌّ لم يقف. الطَّاغُوتَ ط السَّبِيلِ ط خَرَجُوا بِهِ ط يَكْتُمُونَ هـ السُّحْتَ ط يَعْمَلُونَ هـ السُّحْتَ ط يَصْنَعُونَ هـ مَغْلُولَةٌ ط وقيل: لا وقف ليتصل قوله: غُلَّتْ وهو جزاء قولهم يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ. بِما قالُوا م لئلا يوهم أن قوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ مفعول قالُوا. مَبْسُوطَتانِ ط لأن قوله: يُنْفِقُ من مقصود الكلام فلا يستأنف. كَيْفَ يَشاءُ ط وَكُفْراً ط يَوْمِ الْقِيامَةِ ط أَطْفَأَهَا اللَّهُ لا قال السجاوندي: لأن الواو للحال أي وهم يسعون وفيه نظر. فَساداً ط الْمُفْسِدِينَ هـ النَّعِيمِ هـ أَرْجُلِهِمْ ط مُقْتَصِدَةٌ ط يَعْمَلُونَ هـ مِنْ رَبِّكَ ط رِسالَتَهُ ط مِنَ النَّاسِ ط الْكافِرِينَ هـ مِنْ رَبِّكُمْ ط وَكُفْراً ج لاختلاف النظم مع فاء التعقيب.
الْكافِرِينَ هـ يَحْزَنُونَ هـ.
التفسير:
لما حكى عنهم أنهم اتخذوا دين الإسلام هزوا ولعبا قال لهم: ما الذي تنقمون من أهل هذا الدين. نقمت على الجل أنقم بالكسر، إذا عتبت عليه، ونقمت بالكسر لغة ونقمت الأمر أيضا إذا كرهته وأنكرته. وسمى العقاب نقمة لأنه يجب على ما ينكر من الفعل. والمعنى هل تعيبون منا وتنكرون إلّا الإيمان بالكتب المنزلة كلها؟ وليس هذا مما يوجب عتبا وعيبا لأن الإيمان بالله رأس جميع الطاعات، وأما الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وجميع الأنبياء عليهم السلام فهو الحق الذي لا محيد عنه لأن الطريق إلى تصديق الأنبياء هو المعجز وأنه حاصل في الكل فلا وجه للإيمان ببعض والكفر ببعض. ثم عطف عليه: وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ والمراد ما تنقمون منا إلّا الجمع بين إيماننا وبين تمرّدكم كأنه قيل: ما تنكرون منا إلّا مخالفتكم فآمنا وما فسقنا مثلكم. وفيه من حسن الازدواج والطباق ما فيه كقول القائل: هل تنقم مني إلّا أني عفيف وأنك فاجر. ويجوز أن يعطف على المجرور أي ما تنقمون منا إلّا الإيمان بالله وبما أنزل وبأن أكثركم خارجون عن الدين، ويجوز أن تكون الواو بمعنى «مع» أي ما تنكرون منا إلّا الإيمان مع فسقكم لأن أحد الخصمين إذا كان مكتسبا للصفات(2/610)
الحميدة مع اتصاف الآخر بالصفات الذميمة كان ذلك أشد تأثيرا في وقوع البغض والحسد في قلب الخصم. ويحتمل أن يكون تعليلا معطوفا على تعليل محذوف أي ما تنقمون منا إلّا الإيمان لقلة إنصافكم ولأجل فسقكم، ومن هنا قال الحسن في تفسيره: بفسقكم نقمتم ذلك علينا. ويجوز أن ينتصب بفعل محذوف يدل عليه ما قبله أي ولا تنقمون أن أكثركم فاسقون، أو يرتفع بالابتداء والخبر محذوف أي وفسقكم ثابت محقق عندكم إلا أن حب الجاه والمال يدعوكم إلى عدم الإنصاف. وإنما خص الأكثر بالفسق مع أن اليهود كلهم فساق تعريضا بأحبارهم ورؤسائهم الطالبين للرياسة والمال والتقرب إلى الملوك. والمراد أن أكثرهم في دينهم فساق لا عدول، فإن الكافر والمبتدع قد يكون عدل دينه أو ذكر أكثرهم لئلا يظن أن من آمن منهم داخل في ذلك.
قال ابن عباس: أتى نفر من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال: أؤمن بالله وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ [البقرة: 136] إلى قوله وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 136]
فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: والله ما نعلم أهل دين أقل حظا في الدنيا والآخرة منكم، ولا دينا شرا من دينكم، فأنزل الله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ يعني المتقدم وهو الإيمان، ولا بدّ من حذف مضاف قبله أو قبل من تقديره بشر من أهل ذلك أو دين من لعنه الله ومَثُوبَةً نصب على التمييز من شَرٌّ وهي من المصادر التي جاءت على «مفعول» كالميسور والمجلود ومثلها المشورة، وقرىء مثوبة كما يقال مشورة والمثوبة ضدّ العقوبة.
واستعمال أحد الضدّين مكان الآخر مجاز رخصه إرادة التهكم مثل: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] وقد أخرج الكلام هاهنا على حسب قولهم واعتقادهم وإلّا فلا شركة بين المسلمين وبين اليهود في أصل العقوبة حتى يقال إن عقوبة أحد الفريقين شر، ولكنهم حكموا بأن دين الإسلام شر فقيل لهم: هب أن الأمر كذلك ولكن لعن الله وغضبه ومسخ الصور شر من ذلك. قال المفسرون: عنى بالقردة أصحاب السبت وبالخنازير كفار مائدة عيسى عليه السلام. ويروى أن كلا المسخين كان في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير، ولهذا كان المسلمون يعيرون اليهود بعد نزول الآية ويقولون: يا إخوة القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم. أما قوله: وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ فقد ذكر في الكشاف فيه أنواعا من القراءة لا مزيد فائدة في تعدادها لشذوذها إلّا قراءة حمزة، والوجه فيه أن العبد بمعنى العبد إلّا أنه بناء مبالغة كقولهم: رجل حذر وفطن البليغ في الحذر والفطنة. قال الشاعر:
أبني لبيني إن أمكم ... أمة وإن أباكم عبد(2/611)
أبني لبيني لستم بيد ... إلّا يدا ليست لها عضد
وقيل: هما لغتان مثل سبع وسبع. وقيل: إن العبد جمعه عباد والعباد جمعه عبد كثمار وثمر إلا أنهم استثقلوا الضمتين فأبدلت الأولى فتحة. وقيل: أرادوا أعبد الطاغوت مثل: فلس وأفلس إلا أنه حذف الألف وضم الباء لئلا يشبه الفعل. والطاغوت هاهنا قيل:
هو العجل. وقيل: هو الأحبار. والظاهر أنه كل ما عبد من دون الله، وكل من أطاع أحدا في معصية فقد عبده. احتجت الأشاعرة بالآية على أن الكفر بجعل الله تعالى. وقالت المعتزلة: معنى هذا الجعل أنه حكم عليهم بذلك ووصفهم به كقوله: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: 19] أو أنه خذلهم حتى عبدوها. أُولئِكَ الملعونون الممسوخون شَرٌّ مَكاناً من المؤمنين. قال ابن عباس: إن مكانهم سقر ولا مكان شر منه. وقال علماء البيان: هو من باب الكناية لأنه ذكر المكان وأريد أهله الذي هو ملزوم المكان. وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ قصده ووسطه. كان ناس من اليهود يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهرون له الإيمان نفاقا فأخبره الله بشأنهم وأنهم يخرجون من مجلسه كما دخلوا لم يؤثر فيهم شيء من النصيحة والموعظة قط. وقوله: بِالْكُفْرِ وبه حالان أي ملتبسين بالكفر، وكذلك قوله: وَقَدْ دَخَلُوا وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا ولذلك دخلت «قد» تقريبا للماضي من الحال، وليفيد التوقع أيضا. وذلك أن أمارات النفاق كانت لائحة على صفحات أحوالهم فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متوقعا لإظهار الله أسرارهم. والعامل في هذه الحال قالوا: وفي الأولى: دَخَلُوا وخَرَجُوا أي قالوا آمنا وحالهم أنهم دخلوا كافرين وخرجوا كافرين. وإنما ذكر عند الخروج كلمة «هم» لتأكيد إضافة الكفر إليهم. ونفى أن يكون من النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فعل أي لم يسمعوا منك يا محمد عند جلوسهم ما يوجب كفرا فتكون أنت الذي ألقيتهم في الكفر، بل هم الذين خرجوا بالكفر باختيار أنفسهم. وهاهنا استدل المعتزلي على صحة مذهبه أن الكفر من العبد لا من الله ولكنه معارض بالعلم والداعي. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ فيه أن حسدهم وخبثهم لا يحيط به إلا الله فما أعظم ذلك وأبلغ. الإثم الكذب كقوله بعد: عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ والعدوان الظلم وقيل: الإثم ما يختص بهم، والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم. وقيل: الإثم كلمة الشرك قولهم عزير ابن الله. وفي الآية فوائد منها: ذكر كثير لأن كلهم كان لا يفعل ذلك إذ بعضهم يستحيي فيترك.
ومنها أن المسارعة إنما تليق بالخيرات وإنهم كانوا يستعملونها في المنكرات. ومنها أن الإثم يتناول جميع المعاصي فذكر بعده العدوان وأكل السحت ليدل على أنهما أعظم أنواع الإثم والكلام في معنى السحت. وفي تفسير الربانيين والأحبار قد مر في السورة عن قريب. وقال(2/612)
الحسن: الربانيون علماء الإنجيل، والأحبار علماء التوراة. وإنما قال هاهنا: لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ وفي الأول يَعْمَلُونَ لأن الصنع أرسخ من العمل فلا يسمى العامل صانعا ولا العمل صناعة إلا إذا تمكن فيه وتدرب وينسب إليه فكان ذنب العلماء إذا تركوا النهي عن المنكر أشد وأعظم وأثبت وأرسخ. وتحقيقه أن المعصية مرض الروح وعلاجه العلم بالله وصفاته وأحكامه، فإذا حصل هذا العلم ولم تزل المعصية دل على أن مرض القلب في غاية القوة والشدة كالمرض الذي شرب صاحبه الدواء فما زال. وعن ابن عباس: هي أشد آية في القرآن. وعن الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها. وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ قيل: في هذه الآية إشكال لأن اليهود مطبقون على أنا لا نقول ذلك، كيف وبطلانه معلوم بالضرورة لأن الله اسم لموجود قديم قادر على خلق العالم وإيجاده وتكوينه، وهذا الموجود يمتنع أن تكون يده مغلولة وقدرته قاصرة. والجواب أن الله تعالى صادق في كل ما أخبر عنه فلا بد من تصحيح هذا النقل عنهم، فلعل القوم قالوا هذا على سبيل الإلزام فإنهم لما سمعوا قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً قالوا من احتاج إلى القرض كان فقيرا عاجزا مغلول اليدين، أو لعلهم لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في غاية الفقر والضر قالوا: إن إله محمد كذلك. وقال الحسن: أرادوا أنه لا تمسهم النار إلا أياما معدودة إلا أنهم عبروا عن كونه تعالى غير معذب لهم إلا هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة فاستوجبوا اللعن لفساد العبارة وسوء الأدب. وقيل: لعلهم كانوا على مذهب بعض الفلاسفة أنه تعالى موجب لذاته، وأن حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نسق واحد فعبروا عن عدم اقتداره على غير ذلك النسق بغل اليد. وقال المفسرون: كان اليهود أكثر الناس مالا وثروة، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم وكذبوه ضيق الله عليهم المعيشة فعند ذلك قالوا: يد الله مغلولة أي مقبوضة عن العطاء على جهة النعت بالبخل، والجاهل إذا وقع في البلاء والشدة قد يقول مثل هذه الألفاظ. وغل اليد وبسطها مجاز مستفيض عن البخل والجود ومنه قوله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29] وذلك أن اليد آلة لأكثر الأعمال لا سيما لأخذ المال وإعطائه، فأطلقوا اسم السبب على المسبب فقيل للجواد فياض الكف مبسوط اليد سبط البنان رطب الأنامل، وللبخيل أبتر الأصابع مقبوض الكف جعد الأنامل، ولا فرق عندهم بين هذا الكلام وبين ما وقع مجازا عنه حتى إنه يستعمل في ملك لا يعطي ولا يمنع إلا بالإشارة بل يقال للأقطع: ما أبسط يده بالنوال. وقد يستعمل حيث لا يصح اليد كقول لبيد:
قد أصبحت بيد الشمال زمامها(2/613)
فجازاهم الله تعالى بقوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وهو الدعاء عليهم بالبخل والنكد ومن ثم كانوا أبخل خلق الله وأنكدهم، دعا به عليهم تعليما لعباده كما علمهم الاستثناء في قوله:
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: 29] وكما علمهم الدعاء على المنافقين في قوله: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة: 10] وعلى أبي لهب في قوله: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: 1] ويجوز أن يكون دعاء عليهم بغل الأيدي حقيقة أو إخبارا. قال الحسن: يغللون في الدنيا أسارى وفي الآخرة معذبين بأغلال جهنم فيكون الطباق من حيث اللفظ وملاحظة أصل المجاز. وإنما لم يقل فغلت أيديهم مع أن الجزاء يناسب فاء التعقيب ليكون قوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ كالكلام المبتدأ به فيزيده قوة ووثاقة لأن الابتداء بالشيء يدل على شدة الاهتمام به وقوة الاعتناء بتقريره. وَلُعِنُوا بِما قالُوا قال الحسن: عذبوا في الدنيا بالجزية وفي الآخرة بالنار. ومما وقع في عصرنا من إعجاز القرآن ما حكي أن متغلب من اليهود مسمى بسعد الدولة وهو من أشقي الناس كان قد سمع بهذه الآية، فاتفق أن وصل إلى بغداد فنزل بالمدرسة المستنصرية ودعا بمصحف كان مكتوبا بأحسن خط وأشهره من خطوط الكتاب الماضين، وكان يعلم أن أهل هذا العصر لا يقدرون على كتابة مثله ثم قال:
أين هذه الآية يعني قوله: غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا فأروه إياها فمحاها، فلم يمض أسبوع إلّا وقد سخط السلطان عليه فبعث في طلبه وأمر بغل يديه فغلوه وحملوه إليه فأمر بقتله. ثم إنه سبحانه ردّ على اليهود بقوله: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ واليد في اللغة تطلق على الجارحة المخصوصة- وهو ظاهر- وعلى النعمة. يقال: لفلان عندي يد أشكرها له. وعلى القوة مثل: أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ [ص: 45] فسر بذوي القوى والعقول ومنه لا يدين له بهذا. والمعنى سلب كمال القدرة. وعلى الملك تقول: هذا بيد فلان أي ملكه قال تعالى:
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ [البقرة: 237] وقد يراد به شدة العناية قال: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] ويقال: يدي لك رهن بالوفاء إذا ضمنت له شيئا. ولا شك أن اليد بمعنى الجارحة في حقه تعالى محال للدليل الدال على أنه ليس بجسم ولا ذي أجزاء خلافا للمجسمة، وأما سائر المعاني فلا بأس بها. وكان طريقة السلف الإيمان بها وأنها من عند الله ثم تفويض معرفتها إلى الله. وقد جاء في بعض أقوال أبي الحسن الأشعري أن اليد صفة سوى القدرة من شأنها التكوين على سبيل الاصطفاء لقوله: لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] والمراد تخصيص آدم بهذا التشريف ونص القرآن ناطق بإثبات اليد تارة: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح: 10] . وبإثبات اليدين أخرى كما في الآية، وبإثبات الأيدي أخرى: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: 71] ووجه التوحيد والجمع ظاهر. وأما وجه التثنية فذلك أن من أعطى بيديه فقد أعطى على أكمل الوجوه فكان أبلغ في رد كلام القوم خذلهم الله، أو(2/614)
المراد نعمة الدين نعمة الدنيا، أو نعمة الظاهر ونعمة الباطن، أو نعمة النفع ونعمة الدفع، أو نعمته على أهل اليمين ونعمته على أهل الشمال بل لطفه في حق أولئك وقهره في شأن هؤلاء، أو المراد المبالغة في وصف النعمة نحو: لبيك وسعديك معناه إقامة على طاعتك بعد إقامة وإسعادا بعد إسعاد. ثم أكد الوصف بالقدرة والسخاء فقال: يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وفيه أنه لا ينفق إلّا على مقتضى الحكمة وقانون العدالة وعلى حسب المشيئة والإرادة، لا مانع له ولا مكره فمن أوجب عليه شيئا أو اعترض على فعل من أفعاله فقد نازعه في ملكه وحجر تصرفه وقيد وغل ونسبه إلى ما لا يليق به. وَلَيَزِيدَنَّ جواب قسم محذوف كَثِيراً مِنْهُمْ يعني علماء اليهود ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من القرآن والحجج طُغْياناً وَكُفْراً مجاوزة في الحد وغلوا في الإنكار لأن البدن غير النقي كلما غذوته زدته شرها وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ بين اليهود والنصارى- قاله مجاهد والحسن- أو فيما بين اليهود الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ لا تأتلف كلمتهم ولا تتساعد أفئدتهم، فمن اليهود جبرية وقدرية وموحدة ومشبهة، ومن النصارى ملكانية ونسطورية، وكل ذلك الاختلاف يوجب السخط واللعن بخلاف هذه الأمة فإن اختلافهم رحمة ولتفرق أهوائهم وتشعب آرائهم كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ فلا يهمون بأمر من الأمور إلّا وقد رجعوا بخفي حنين. وقيل: كلما حاربوا رسول الله غلبوا. وعن قتادة: لا تلقى اليهود ببلدة إلّا وجدتهم أذل الناس وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً يستخفون كيدا للإسلام وذويه وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ فلا ينجح لهم كيد ولا ينتج لهم سعي. قيل: خالفوا حكم التوراة فبعث الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط عليهم بطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط عليم المسلمين إلى يوم القيامة. ثم لما بالغ في تهجين سيرتهم ذكر أنهم مع ما عدّد من مساويهم لو آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به واتقوا المنكرات التي كانوا يأتونها لتكون توبتهم نصوحا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ تلك السيئات سترناها عليهم وَلَأَدْخَلْناهُمْ مع المسلمين جَنَّاتِ النَّعِيمِ من النعم خلاف البؤس أي نعيم صاحبها فما أوسع رحمة الله تعالى وما أعظم عفوه وغفرانه وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ عملوا بما فيهما من الوفاء بعهود الله تعالى ومن الإقرار بنبوّة نبي آخر الزمان محمد صلى الله عليه وسلم، أو حافظوا على أحكامهما وحدودهما، أو أقاموهما نصب أعينهم لئلا ينسوا ما فيهما من التكاليف. وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ يعني القرآن أو سائر الكتب الإلهية كصحف إبراهيم وزبور داود وكتاب شعيا وحيقوق ودانيال فإن كلها مشحونة من البشارة بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم وأنهم مكلفون بالإيمان بجميعها. لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي ينزل عليهم بركات السماء وبركات الأرض، أو يكثر لهم الأشجار(2/615)
المثمرة والزروع المغلة، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار يجنون ما تهدل منها من رؤوس الشجر ويلتقطون ما تناثر على وجه الأرض. ويحتمل أن يراد به المبالغة في شرح السعة والخصب لا أن هناك فوقا أو تحتا أي لأكلوا أكلا كثيرا متصلا، ويشبه أن يكون هذا إشارة إلى ما جرى على بني قريظة وبني النضير من قطع نخيلهم وإفساد زروعهم وإجلائهم عن أوطانهم.
والحاصل أنه سبحانه وعدهم سعادة الدارين بشرط الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وقدم السعادة الأخروية بقسميها وهما دفع العذاب وإيصال الثواب لشرفها. ثم فصل حالهم فقال: مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ طائفة متوسطة في الغلو والتقصير، وذلك أن من عرف مقصوده فإنه يكون قاصدا له على الطريق المستقيم من غير انحراف ولا اضطراب بخلاف من لا مقصد له فإنه يذهب متحيرا يمينا وشمالا، فجعل الاقتصاد عبارة عن العمل المؤدي إلى الغرض ومن هم فيه قولان: أحدهما الكفار من أهل الكتاب الذين يكونون عدولا في دينهم ولا يوجد فيهم عناد شديد ولا غلظة كاملة، والثاني هم المؤمنون منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعين من النصارى. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ فيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أسوأ عملهم لكونهم أجلافا متعصبين لا ينجع فيهم القول ولا يؤثر فيهم الدليل قيل: هم كعب بن الأشرف وأصحابه والروم.
ثم أمر رسوله بأن لا ينظر إلى قلة المقتصدين وكثرة المعاندين ولا يتخوف مكروههم فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ
عن أبي سعيد الخدري أن هذه الآية نزلت في فضل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه يوم غدير خم، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وقال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه. فلقيه عمر وقال: هنيئا لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. وهو قول ابن عباس والبراء بن عازب ومحمد بن علي.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم نام في بعض أسفاره تحت شجرة وعلق سيفه عليها فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال: يا محمد، من يمنعك مني؟
فقال: الله. فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه ونزل: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ
وقيل: لما نزلت آية التخيير: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ [الأحزاب: 28] فلم يعرضها عليهن خوفا من اختيارهن الدنيا نزلت يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ وقيل: نزلت في أمر زيد وزينب بنت جحش.
وقيل: لما نزل وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنعام: 108] سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عيب آلهتهم فنزلت.
أي بلغ معايب آلهتهم ولا تخفها.
وقيل: إنه صلى الله عليه وسلم لما بين الشرائع والمناسك في حجة الوداع. قال: هل بلغت؟ قالوا: نعم. فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد فنزلت.
وقيل: نزلت في قصة(2/616)
الرجم والقصاص المذكورتين.
وقال الحسن: إن نبي الله قال: لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني واليهود والنصارى وقريش يخوفونني فنزلت الآية فزال الخوف.
وقالت عائشة: سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقلت: يا رسول الله ما شأنك؟
قال: ألا رجل صالح يحرسني الليلة. قالت: فبينما نحن في ذلك سمعت صوت السلاح فقال: من هذا؟ قال سعد وحذيفة: جئنا نحرسك. فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمعت غطيطه فنزلت هذه الآية، فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قبة أدم فقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله.
وعن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرس فكان يرسل معه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم يحرسونه حتى نزلت هذه الآية. فأراد عمه أن يرسل معه من يحرسونه فقال: يا عماه إن الله تعالى قد عصمني من الجن والإنس.
ومعنى قوله: ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ جميع ما أنزل إليك وأي شيء أنزل إليك وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ما أمرتك به كما أمرتك به فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ من قرأ على الوحدة فلأنّ القرآن كله رسالة واحدة، أو لأن الرسالة اسم المصدر فيقع على الواحد وعلى الجمع. ومن جمع فلأن كل آية أو حكم رسالة. فإن قيل:
معنى قوله: وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ إن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته فما وجه صحته؟ فالجواب أن هذا جار على طريق التهديد والمراد إن لم تبلغ منها أدنى شيء فأنت كمن لم يبلغ شيئا لأن أداء بعضها ليس أولى من أداء البعض الآخر كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لم يؤمن بكلها. أو المراد إن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله فوضع السبب موضع المسبب، ويعضده ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: بعثني الله برسالاته وضقت بها ذرعا فأوحى الله إليّ إن لم تبلغ رسالاتي عذبتك وضمن لي العصمة فقويت.
فإن قيل: أين ضمان العصمة وقد جرى عليه يوم أحد ما جرى؟ فالجواب أن الآية نزلت بعد يوم أحد. أو المراد أنه يعصمه من القتل وعليه أن يحتمل كل ما دون النفس والناس الكفار لقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ أي لا يمكنهم مما يريدون. ثم لما أمره بتبليغ أي شيء كان طاب للسامع أو ثقل عليه أمره أن يقول لأهل الكتاب: لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ أي على دين يعتد به كما تقول: هذا ليس بشيء تريد تحقير شأنه، وباقي الآية مكرر للتأكيد. ومعنى فَلا تَأْسَ لا تأسف ولا تحزن عليهم بسبب زيادة طغيانهم فإن وبال ذلك عائد عليهم، أو لا تأسف بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم فإنهم من الكافرين المستحقين لذلك. يقال:
آسى على مصيبته يأسى أسى أي حزن. ثم لما بين أن أهل الكتاب ليسوا على شيء ما لم يؤمنوا بيّن أن هذا الحكم عام في الكل وأنه لا يحصل لأحد منقبة ولا سعادة إلّا إذا آمن وعمل صالحا، وذلك أن كمال القوة النظرية لا يحصل إلّا بمعرفة المبدأ والمعاد- أعني(2/617)
الإيمان بالله واليوم الآخر- وكمال القوة العملية إنما يحصل بتعظيم المعبود والشفقة على المخلوق- أعني العمل الصالح- وغاية هذا الكمال الخلاص من الخوف مما يستقبل ومن الحزن على ما مضى من طيبات الدنيا لأنهم وجدوا أمورا أعظم وأشرف. وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية في سورة البقرة إلّا أنه بقي هاهنا بحث لفظيّ وهو أن قوله: وَالصَّابِئُونَ عطف على ماذا؟ فقال الكوفيون: إنه معطوف على محل الَّذِينَ لأن اسم «إن» إذا كان مبنيا جاز العطف على محله، وإن كان قبل ذكر الخبر فيجوز: إنك وزيد ذاهبان. وإن لم يجز إن زيدا وعمرو قائمان. وذهب البصريون إلى عدم جواز ذلك مطلقا لأنه يؤدي إلى إعمال «إنّ» وإعمال معنى الابتداء معا في «قائمان» فيجتمع على المرفوع الواحد رافعان مختلفان وإنه محال. فإذن الصَّابِئُونَ مرفوع بالابتداء على نية التأخير كأنه قيل: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى حكمهم كذا والصابئون كذلك، فتكون هذه جملة معطوفة على جملة قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إلى آخره ولا محل لها كما لا محل للتي عطفت عليها، وفائدة هذا التقديم التنبيه على أن التوبة مقبولة البتة، وذلك أن الصابئين بين هؤلاء المعدودين ضلال لأنهم صبؤا عن الأديان كلها أي خرجوا فكأنه قال: كل هؤلاء الفرق إذا أتوا بالإيمان والعمل الصالح قبلت توبتهم حتى الصابئون ولو قيل: والصابئين لم يكن من التقديم في شيء لأنه ثابت في مركزه الأصلي وإنما تطلب فائدة التقديم للمزال عن موضعه والراجع إلى اسم «إن» محذوف والتقدير من آمن منهم كما في البقرة والله أعلم.
التأويل:
شر الفريقين من جعله الله مستعدا لقبول فيض القهر من اللعن والغضب، وجعل صفة الفردية والخنزيرية أعني الحيلة والحرص والشهوة من بعض خصائصهم.
أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً من القردة والخنازير لأن القردة والخنازير لا استعداد لهم وهؤلاء قد أبطلوا استعدادهم الفطري ومثله: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: 179] ولهذا دخلوا بالكفر وهم قد خرجوا به. الربانيون مشايخ الطريقة والأحبار علماء الشريعة. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ كانت أيديهم من إصابة الخير مغلولة ومشامهم عن تنسم روائح الصدق مزكومة فلهذا قالوا: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ وكل إناء يرشح بما فيه. ولكن الذي أدركته العناية الأزلية وسلبت عنه صفات الظلومية والجهولية صلى الله عليه وسلم
قال: «يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ينفق كيف يشاء» «1»
بيدي اللطف والقهر على المؤمنين من الهداية والإحسان، وعلى
__________
(1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 11 باب 2. مسلم في كتاب الزكاة حديث 36، 37. الترمذي(2/618)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
الكافرين من الغواية والخذلان. وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ فلا يوجد أحد إلّا وبينه وبين صاحبه بغض إلى أن يتوارثوا بطنا بعد بطن. ولو أن أهل العلوم الظاهرة آمنوا بالعلوم الباطنة واتقوا الإنكار والاعتراض، ولو أنهم عملوا بمتفقات الكتب المنزلة ومستحسناتها لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ ورزقوا من الواردات الروحانية وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ إلى أعلى مقاماتهم. من العلماء الظاهريين أمة مقتصدة إن لم تكن سابقة بالخيرات، والمقتصد هو العالم المتقي والمريد الصادق دون السابق وهو الواصل الكامل العالم الرباني. بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يندرج تحته الوحي والإلهامات والمنامات والوقائع والواردات والمشاهدات والكشوف والأنوار والأسرار والأخلاق والمواهب والحقائق ومعاني النبوّة والرسالة. فالرسول إن لم يبلغ بعض هذه الحقائق إلى العباد لم يمكنهم الوصول إلى الله فلا يحصل مقصود ما أرسل به فلم يبلغ رسالته إلّا أن للتبليغ مراتب كما أنزل إليه. فتبليغ بالعبارة وتبليغ بالإشارة وتبليغ بالتأديب وتبليغ بالتعليم وتبليغ بالتزكية وتبليغ بالتحلية وتبليغ بالهمة وتبليغ بجذبات الولاية وتبليغ بقوة النبوة والرسالة وتبليغ بالشفاعة. وللخلق أيضا مراتب في قبول الدعوة بحسب الاستعدادات المختلفة أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرعد: 17] وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ بأوصاف لاهوتيته عن أوصاف ناسوتيتك لتتصرف في الخلق بقوة اللاهوتية فتوصلهم إلى الله ولا يتصرفون فيك فيقطعوك عن الله. يا أرباب العلوم الظاهرة لستم على شيء من حقيقة الدين حتى تزينوا ظاهركم وباطنكم بالأعمال والأحوال الواردة في الكتب الإلهية وذلك بمقدمتين وأربع نتائج. فالمقدمتان: الجذبة الإلهية ونتيجتها الإعراض عن الدنيا والتوجه إلى المولى، ثم تربية الشيخ ونتيجتها تزكية النفس عن الأخلاق الذميمة وتحلية القلب بالأخلاق الفاضلة والله حسبي ونعم الوكيل.
[سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 81]
لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)
مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79)
تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)
__________
- في كتاب تفسير سورة المائدة باب 3. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242، 312) .(2/619)
القراءات:
أَلَّا تَكُونَ بالرفع: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم وحمزة وعلي وخلف غير سهل وحفص وأبي بكر وحماد. الباقون بالنصب.
الوقوف:
رُسُلًا ط أَنْفُسُهُمْ لا لأن عامل كُلَّما قوله كَذَّبُوا يَقْتُلُونَ هـ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ط بِما يَعْمَلُونَ هـ ابْنُ مَرْيَمَ ط وَرَبَّكُمْ ط النَّارُ ط مِنْ أَنْصارٍ هـ ثَلاثَةٍ لا لئلا يوهم أن ما بعده من قول الكفار واحِدٌ ط أَلِيمٌ هـ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ ط والوصل أيضا حسن بناء على أن الواو للحال أي هلا يستغفرونه وهو غفور رَحِيمٌ هـ رَسُولٌ ج لاحتمال ما بعده الصفة والاستئناف الرُّسُلُ ط لأن الواو للاستئناف لا للعطف صِدِّيقَةٌ ط لأن ما بعده لا يصلح للصفة لأن الضمير في كانا مثنى الطَّعامَ ط يُؤْفَكُونَ هـ وَلا نَفْعاً ط والوصل يحسن على أن الواو للحال أي يعبدون ما لا ينفع ولا يضر والحال أن الله يسمع دعاء المضطر ويعلم رجاء المعتر الْعَلِيمُ هـ السَّبِيلِ هـ ابْنِ مَرْيَمَ ط يَعْتَدُونَ هـ فَعَلُوهُ ط يَفْعَلُونَ هـ كَفَرُوا ط خالِدُونَ هـ فاسِقُونَ هـ أَشْرَكُوا ج لطول الكلام والفصل بين الوصفين المتضادين نَصارى ط لا يَسْتَكْبِرُونَ هـ مِنَ الْحَقِّ ج لاحتمال ما يتلوه الحال والاستئناف الشَّاهِدِينَ هـ مِنَ الْحَقِّ لا لأن الواو بعده للحال.
الصَّالِحِينَ هـ خالِدِينَ فِيها ط الْمُحْسِنِينَ هـ الْجَحِيمِ هـ.(2/620)
التفسير:
افتتح الله تعالى السورة بقوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وانجر الكلام إلى ما انجرّ والآن عاد الى ما بدأ به والمقصود بيان عتوّ بني إسرائيل وشدة تمردهم أي أخذنا ميثاقهم بخلق الدلائل وخلق العقل الهادي إلى كيفية الاستدلال وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا لتعريف الشرائع والأحكام. قال في الكشاف كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ إلخ جملة شرطية وقعت صفة ل رُسُلًا والراجع الى الموصوف محذوف أي رسول منهم. وأقول: الأصوب جعلها جملة مستأنفة جوابا لسائل يسأل كيف فعلوا برسلهم؟ ولهذا كان الوقف على رُسُلًا مطلقا، أما جواب الشرط فاختار في الكشاف أنه محذوف لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ولأنه لا يحسن أن يقال: إن أكرمت أخي أخاك أكرمت فالتقدير: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه أو عادوه وقوله فَرِيقاً كَذَّبُوا جواب قائل: كيف فعلوا؟ وأقول أما أن التركيب المذكور غير مستحسن فعين النزاع، وأما أن الرسول الواحد لا يكون فريقين فتغليط لأن قوله كُلَّما يدل على كثرة مجيء الرسل فلهذا صح جعلهم فريقين ومعنى بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ بما يضاد شهواتهم لرغبتهم عن التكاليف، وفائدة تقديم المفعول وإيراد يَقْتُلُونَ مضارعا ذكرناها في سورة البقرة وزعم في التفسير الكبير أنه ذكر التكذيب بلفظ الماضي لأنه إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام في البتة وتمردهم عن قبول قوله وقد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة، وذكر القتل بلفظ المستقبل لأنه رمز إلى ما فعلوا بزكريا ويحيى وعيسى على زعمهم وإن ذلك الزمان قريب فكان كالحاضر. وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ قال علماء الأدب: الأفعال على ثلاثة أضرب: فعل يدل على ثبات الشيء كالعلم والتيقن فيقع بعده أن المشددة الدالة على ثبات الشيء أيضا لتأكيد مقتضاه كقوله وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور: 25] فإن خففت ودخلت على الفعل لم يجز إلا أن يكون مع فعله «قد» أو «سوف» أو «السين» أو حرف نفي ليكون كالعوض من إحدى النونين وقيل: من حذف ضمير الشأن مثل عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ [المزمل: 20] وفعل يدل على خلاف الثبات والاستقرار نحو «أطمع» و «أخاف» و «أرجو» فلا يجيء معه إلا الخفيفة الناصبة للفعل كقوله وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي [الشعراء: 82] وفعل يحتمل المعنيين فيجوز فيه كلا الوجهين كقوله وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ قرىء بالنصب على أن المصدرية، وكون الحسبان بمعنى الظن وبالرفع على أن المخففة أي أنه لا تكون فتنة فخففت أن وحذف ضمير الشأن، ونزل حسبانهم لقوته في صدورهم منزلة العلم، وما يشتمل عليه صلة «أن» و «أنّ» من المسند والمسند إليه سد مسد المفعولين و «كان» تامة. والمعنى: وحسب بنو إسرائيل أنه لا تقع فتنة وهي محصورة في عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. وعذاب الدنيا أقسام منها: القحط(2/621)
ومنها الوباء ومنها القتل ومنها العداوة والبغضاء فيما بينهم ومنها الإدبار والنحوسة وكل ذلك قد وقع بهم وقد فسرت الفتنة بكل ذلك، وحسبانهم أن لا تقع فتنة يحتمل وجهين:
الأول أنهم كانوا يعتقدون أن لا نسخ لشريعة موسى، وأن كل رسول جاء بعده يجب تكذيبه، والثاني أنهم اعتقدوا كونهم مخطئين في التكذيب والقتل إلا أنهم كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه وأن نبوّة إسلافهم تدفع العقاب عنهم. ثم إن الآية تدل على أن عماهم عن الدين وصممهم عن الحق حصل مرتين، فقال بعض المفسرين: إنهم عموا وصموا في زمان زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام ثم تاب الله على بعضهم حيث وفقهم للإيمان به ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ في زمان محمد صلى الله عليه وسلم فأنكروا نبوّته إلا بعضهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. وقوله كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل عن الضمير كقولك: رأيت القوم أكثرهم، وقيل: إنه على لغة من يقول «أكلوني البراغيث» وقيل: خبر مبتدأ محذوف أي أولئك كثير منهم، وقال بعضهم: عَمُوا وَصَمُّوا حين عبدوا العجل ثم تابوا منه فتاب الله عليهم ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ بالتعنت وهو طلب رؤية الله جهرة. وقال القفال: إنه يجوز أن يكون إشارة إلى ما في سورة بني إسرائيل فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما [الإسراء: 5] فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ [الإسراء: 7] وقرىء فَعَمُوا وَصَمُّوا بالضم أي رماهم الله وضربهم بالعمى والصمم كما يقال: ركبته إذا ضربته بالركبة. ثم إنه سبحانه لما استقصى الكلام مع اليهود شرع في حكاية كلام النصارى فحكى عن فريق منهم أنهم قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذا قول اليعقوبية القائلين إن مريم ولدت إلها، ولعل مرادهم أنه تعالى حل في ذات عيسى أو اتحد به. ثم حكى عن المسيح ما حكى ليكون حجة قاطعة على فساد ما اعتقدوا فيه وذلك أنه لم يفرق بين نفسه وبين غيره في المربوبية وفي ظهور دلائل الحدوث عليه، ثم أكد ذلك المعنى بقوله: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ أي في العبادة أو في تجويز الحلول أو الاتحاد أو في إجراء وصفه في المخلوقين أو بالعكس فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ التي هي دار الموحدين أي منعه منها وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ من كلام الله تعالى أو من حكاية قول عيسى عليه السلام لهم وقد مر تفسيره في آخر سورة آل عمران، وفيه تقريع لهم لأنهم كانوا يعتقدون أن لهم أنصارا كثيرة فيما يقولون ويعتقدون فنفى الله تعالى أو عيسى ذلك وإن كانوا يريدون بذلك تعظيمه. قال المفسرون ثالِثُ ثَلاثَةٍ معناه ثالث آلهة ثلاثة ليلزم الكفر وإلا فما من شيئين وإلا والله ثالثهما. يحكى أن النصارى يقولون أب وابن وروح قدس والثلاثة إله واحد كما أن الشمس تتناول القرص والشعاع والحرارة. وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة، قالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء(2/622)
بالخمر، وزعموا أن الأب إله واحد، والابن إله واحد، والروح إله واحد، والكل إله واحد.
واعلم أن هذا معلوم البطلان بالبديهة لأن الثلاثة لا تكون واحدا والواحد لا يكون ثلاثة فلا جرم رد الله مقالتهم بقوله: وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ فزاد من الاستغراقية. والمعنى ما إله قط في الوجود إلا إله موصوف بالوحدانية لا ثاني له ولا شريك. ثم زجرهم بقوله وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا قال الزجاج: يعني الذين أقاموا على هذا الدين لأن كثيرا منهم تابوا عن النصرانية ف «من» في قوله مِنْهُمْ للتبعيض، ويجوز أن تكون للبيان والمراد ليمسنهم، ولكن أقيم الظاهر مقام المضمر تكريرا للشهادة عليهم بالكفر ورمزا إلى أنهم من الكفر بمكان حتى لو فسر الكفار المعذبون عنوا بذلك خاصة. ومعنى عَذابٌ أَلِيمٌ نوع شديد الألم من العذاب أَفَلا يَتُوبُونَ قال الفراء: إنه أمر بلفظ الاستفهام وفيه تعجيب من إصرارهم على الكفر بعد الوعيد الشديد.
ثم احتج على إبطال معتقدهم بقوله مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ وهذا ترتيب في غاية الحسن لأنه منعهم من الكفر أوّلا، ثم حثهم على الإسلام ثانيا، ثم شرع في حل شبههم ثالثا، ومن هنا قيل: إن المرتد يستتاب بلا مهل ومناظرة إن عنت له شبهة بل يسلم أوّلا ثم تحل شبهته ثانيا، والمعنى ما هو إلا رسول من جنس الرسل الماضين لا يتخطى الرسالة الى الإلهية كما لم يتخطوا، فإن خلق من غير ذكر فقد خلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وإن أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى فقد جعل موسى العصا حية تسعى إلى غير ذلك من آيات ربه الكبرى وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كبعض النساء المؤمنات بالأنبياء الصادقات في أقوالهن وأفعالهن وأحوالهن قال تعالى في وصفها: وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ [التحريم: 12] أي من الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه وهم المجتهدون في إقامة مراسم العبودية. ففيه تكذيب للنصارى المفرطين فيها إذ جعلوها إلها، وفيه تكذيب لليهود المفرّطين في شأنها حيث نسبوها إلى الهنات، وإلى الكذب في أن عيسى خلق من غير أب. وفيه أن من كان له أم فقد حدث بعد أن لم يكن فكان مخلوقا لا إلها. ثم أكد حدوثهما وعجزهما بقوله كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ فإن المحتاج الى الاغتذاء سيحتاج إلى ما يتبعه من الهضم والنفض، وكل هذه الافتقارات دليل ظاهر وبرهان باهر على حدوثهما وأفولهما في حيز الإمكان. ثم عجب من غاية غوايتهم فقال انْظُرْ يا محمد أو كل من له أهلية النظر كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ الأدلة الظاهرة على بطلان قولهم. والعامل في كَيْفَ قوله نُبَيِّنُ ومفعول انْظُرْ مجموع الجملة بل مضمونها أي تبصر هذه الحالة وتفكر فيها ومثله ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحق. أفكه بالفتح يأفكه(2/623)
بالكسر أفكا بالفتح والسكون صرفه عن الشيء. ومنه الإفك بالكسر للكذب لأنه مصروف عن الحق، وأرض مأفوكة صرف عنها المطر. ومعنى «ثم» التراخي والبون بين العجبين أي بينا لهم الآيات بيانا عجيبا ولكن إعراضهم عنها أعجب، ثم الصارف عن تأمل الحق هو الله أو العبد فيه خلاف مشهور بين الأشاعرة والمعتزلة، وأنت قد عرفت التحقيق في ذلك مرارا. ثم أقام حجة أخرى على فساد قول النصارى فقال قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ أي شيئا لا يستطيع أو الذي لا يقدر على مثل ما يضركم به الله من البليات والمصائب أو ينفعكم به من الصحة والخصب بواسطة أو بغير واسطة بل لم يملك شيئا من ذلك لنفسه، فإن اليهود كانوا يقصدونه بالسوء ولم يقدر على دفعهم. ومن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه ولما عطش وطلب الماء صبوا الخل في منخريه وكان عليه السلام مصروف الهمة إلى عبادة الله ولو كان إلها كان معبودا فقط لا عابدا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع أبا طيلهم ويعلم ضمائرهم ليجازيهم عليه وفيه من الوعيد ما فيه. ثم عاد إلى مخاطبة الفريقين فقال يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا والغلو مجاوزة حد الاعتدال وأنه شامل لطرفي الإفراط والتفريط وإن كان قد يخص بطرف الإفراط ويجعل مقابلا للتقصير. ولعل المراد هاهنا هو الأول فاليهود فرطوا فيه حيث نسبوه إلى الزنا والكذب، والنصارى أفرطوا فيه حيث ادعوا فيه الإلهية. قال في الكشاف: قوله غَيْرَ الْحَقِّ صفة للمصدر أي غلوا غير الحق، ولزمه القول بأن الغلو في الدين غلو، إن حق وهو أن يبالغ في تقرير الحق وتوضيحه واستكشاف حقائقه، وباطل وهو أن يتبع الشبهات على حسب الشهوات، والثاني منهي عنه دون الأوّل، وأقول: لما كان الغلو مجاوزة الحد وكل شيء جاوز حدّه شابه ضدّه فكيف يتصوّر غلو حق ولله در القائل:
كلا طرفي قصد الأمور ذميم فالأصوب أن يقال: انتصب غَيْرَ الْحَقِّ على أنه صفة قائمة مقام المصدر أي لا تغلوا غلوا كقوله: وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة: 60] أي إفسادا وكقولهم: تعال جائيا وقم قائما. ولو سلم أن المصدر محذوف كان غَيْرَ الْحَقِّ صفة مؤكدة مثل نَفْخَةٌ واحِدَةٌ [الحاقة: 13] و «أمس الدابر» لا صفة مميزة فافهم وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ هي المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة. قال الشعبي: ما ذكر الله تعالى لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ [ص: 26] وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الجاثية: 23] قال أبو عبيد: لم نجد للهوى موضعا إلا في(2/624)
الشر. لا يقال فلان يهوى الخير إنما يقال يريد الخير ويحبه. وقيل: سمي هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار. وقال رجل لابن عباس: الحمد لله الذي جعل هواي على هواك. فقال ابن عباس: كل هوى ضلالة قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ يعني أئمتهم في النصرانية واليهودية قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وَأَضَلُّوا كَثِيراً ممن شايعهم على التثليث أو التفريط في شأن مريم وابنها وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ عند مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فكذبوه. والغرض بيان استمرارهم على الضلال قديما وحديثا. وقيل: الضلال الأوّل عن الدين، والضلال الثاني عن الجنة. وقيل: الضلال الثاني اعتقادهم في ذلك الإضلال أنه إرشاد إلى الحق. لَعَنَهُمُ اللَّهُ في الزبور على لسان داود وفي الإنجيل على لسان عيسى، وفيه تعيير لهم حيث ادعوا أنهم أولاد الأنبياء وقد لعنوا على ألسنتهم. وقال كثير من المفسرين: إن أصحاب أيلة كما سيجيء في الأعراف لما اعتدوا في السبت قال داود: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخوا قردة. وإن أصحاب المائدة لما أكلوا منها ولم يؤمنوا قال عيسى: اللهم العنهم كما لعنت أصحاب السبت فأصبحوا خنازير وكانوا خمسة آلاف رجل ما فيهم امرأة ولا صبي. وعن الأصم أن داود وعيسى بشرا بمحمد صلى الله عليه وسلم ولعنا من يكذبه، وذلك اللعن بسبب عصيانهم واعتدائهم. ثم فسّر المعصية والاعتداء بقوله كانُوا لا يَتَناهَوْنَ وللتناهي معنيان: أحدهما وعليه الجمهور أنه تفاعل من النهي أي كانوا لا ينهى بعضهم بعضا.
عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «من رضى عمل قوم فهو منهم ومن كثر سواد قوم فهو منهم»
وذلك أن في التناهي المأمور به حسما للفساد فكان الإخلال به معصية وظلما. والثاني أنه بمعنى الانتهاء أي لا يمتنعون ولا ينتهون. والمراد لا يتناهون عن معاودة منكر فعلوه لأن النهي بعد الفعل لا يفيد، أو المراد لا يتناهون عن منكر أرادوا فعله وأحضروا آلاته، أو لا ينتهون أو لا ينهون عن الإصرار على منكر فعلوه. ثم عجب من سوء فعلهم مؤكدا بالقسم المقدر فقال لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ ثم لما وصف أسلافهم بما وصف شرع في نعت الحاضرين بأن كثيرا منهم يتولون المشركين والمراد كعب بن الأشرف وأصحابه حين استجاشوا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد مر في تفسير سورة النساء عند قوله هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا [النساء: 51] لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ من العمل لمعادهم. ومحل أَنْ سَخِطَ رفع على أنه مخصوص بالذم أي بئس الزاد إلى الآخرة سخط الله يعني موجب سخط الله وسببه، ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وهو موسى وما أنزل إليه في التوراة كما يدّعون واتخذوا المشركين أولياء لأن تحريم ذلك متأكد في شريعة موسى وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ في دينهم لأن مرادهم تحصيل الرياسة والجاه بأي طريق قدروا عليه لا تقرير دين موسى. ويحتمل أن يراد ولو كان هؤلاء اليهود المنافقون مؤمنين بالله وبمحمد والقرآن إيمانا(2/625)
خالصا ما اتخذوا المشركين أولياء ولكن كثيرا منهم فاسقون متمردون في كفرهم ونفاقهم فلهذا يتولون المشركين. وقال القفال: ولو أن هؤلاء المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذهم اليهود أولياء.
تم الجزء السادس وبه يتم المجلد الثاني من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري، ويليه الجزء السابع، وهو أول المجلد الثالث، وأوله:
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً ...(2/626)
الفهرس
تتمة تفسير سورة البقرة الآيات: 252- 254 3 الآيات: 255- 257 11 الآيات: 258- 260 21 الآيات: 261- 266 35 الآيات: 267- 274 43 الآيات: 275- 281 59 الآيتان: 282 و 283 73 الآيات: 284- 286 83 تفسير سورة آل عمران الآيات: 1- 11 98 الآيات: 12- 25 118 الآيات: 26- 34 135 الآيات: 35- 41 148 الآيات: 42- 60 158 الآيات: 61- 71 177 الآيات: 72- 80 185 الآيات: 81- 91 197 الآيات: 92- 101 207 الآيات: 102- 111 223 الآيات: 112- 120 237(2/627)
الآيات: 121- 129 246 الآيات: 130- 141 257 الآيات: 142- 150 268 الآيات: 151- 160 277 الآيات: 161- 175 298 الآيات: 176- 189 313 الآيات: 190- 200 327 تفسير سورة النساء الآيات: 1- 10 338 الآيات: 11- 23 360 الآيات: 24- 30 382 الآيات: 31- 40 403 الآيات: 41- 57 416 الآيات: 58- 70 432 الآيات: 71- 81 445 الآيات: 82- 91 455 الآيات: 92- 101 468 الآيات: 102- 113 486 الآيات: 114- 126 496 الآيات: 127- 141 507 الآيات: 142- 152 518 الآيات: 153- 169 524 الآيات: 170- 176 533 تفسير سورة المائدة الآيات: 1- 11 539(2/628)
الآيات: 12- 19 567 الآيات: 20- 26 573 الآيات: 27- 40 577 الآيات: 41- 47 591 الآيات: 48- 58 599 الآيات: 59- 69 610 الآيات: 70- 81 620(2/629)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
[المجلد الثالث]
بسم الله الرّحمن الرّحيم الجزء السابع من أجزاء القرآن الكريم
[تتمة سورة المائدة]
[سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86]
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)
ثم وصف شدة شكيمة اليهود ولين عريكة النصارى فقال لَتَجِدَنَّ يا محمد أوكل من له أهلية الخطاب أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً وقد تعلقت بها اللام في قوله لِلَّذِينَ آمَنُوا كما تعلقت بالمودة فيما بعد. وظاهر الآية يدل على أن اليهود في غاية العداوة للمسلمين وكيف لا وقد نبه على تقدم قدمهم في العداوة بتقديمهم على الذين أشركوا
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله»
لكنه
روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي أن المراد به النجاشي وقومه الذين قدموا من الحبشة على رسول الله صلى الله عليه وسلّم وآمنوا به ولم يرد جميع النصارى مع ظهور عداوتهم للمسلمين.
وقال آخرون: مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر الى من يخالفهم في الدين بأي طريق كان، بالقتل أو بغصب المال أو بوجوه المكايد والحيل، وليس النصارى مذهبهم ذلك بل الإيذاء في دينهم حرام وهذا هو وجه التفاوت بالعداوة والمودة، وقد أكد ذلك بوصف العداوة والمودّة بالأشد والأقرب. وفي الآية من الفائدة أن التمرد والمعصية عادة لهم ففرغ قلبك يا محمد ولا تبال بمكرهم ولا تحزن على كيدهم. ثم ذكر سبب ذلك التفاوت فقال ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً القس والقسيس اسم لرئيس النصارى في العلم والدين وكأنه من القس وهو تتبع الشيء وطلبه. قال قطرب: هو العالم بلغة الروم وهذا مما وقع فيه الوفاق بين اللغتين. وقال عروة بن الزبير: ضعيف النصارى الإنجيل وأدخلت فيه ما ليس منه وبقي واحد من علمائهم على الحق والدين يسمى قسيسا، فمن كان على هديه ودينه فهو قسيس. والرهبان جمع راهب كركبان وفرسان في راكب وفارس. وقيل: إنه واحد وجمعه رهابين كقربان وقرابين ولكن النظم يأباه. وأصله من الرهبة بمعنى الخوف من الله تعالى، وإنما صارت الرهبانية(3/3)
ممدوحة في مقابلة قساوة اليهود وغلظتهم وإلا فهي مذمومة في نفسها لقوله تعالى وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها [الحديد: 27]
ولقوله صلى الله عليه وسلم «لا رهبانية في الإسلام» «1»
وهاهنا نكتة هي أن كفر النصارى حيث إنهم ينازعون في الإلهيات والنبوات جميعا أغلظ في الحقيقة من كفر اليهود لأنهم لا ينازعون إلا في النبوات إلا بعضهم القائلين بأن عزيرا ابن الله. ثم إن النصارى لما لم يشتد حرصهم على طلب الدنيا وعلى الحياة وأقبلوا على العلم والبراءة من الكبر خصهم الله تعالى بالمدح وذم اليهود حيث قال وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ [البقرة: 96] غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ [المائدة: 64] فتبين صحة
قوله صلى الله عليه وسلم «حب الدنيا رأس كل خطيئة»
قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خاف على أصحابه من المشركين فبعث جعفر بن أبي طالب وابن مسعود في رهط من أصحابه الى النجاشي وقال: إنه ملك صالح لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا اليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا. فلما وردوا عليه أكرمهم وقال لهم: هل تعرفون شيئا مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم. فقرؤا وحوله القسيسون والرهبان فكلما قرؤا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق.
وقال آخرون: قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة هو وأصحابه ومعهم سبعون رجلا بعثهم النجاشي وفدا الى الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ثياب الصوف اثنان وستون من الحبشة وثمانية من أهل الشام وهم بحيرا الراهب وأبرهة وغيرهما، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة يس إلى آخرها فبكوا وآمنوا فنزلت
والخطاب في تَرى لكل راء. وقد وضع الفيض الذي هو مسبب الامتلاء موضع الامتلاء وأصله تمتلىء من الدمع حتى تفيض لأن الفيض بعد الامتلاء، ويحتمل أن يكون الدمع مصدر دمعت عينه وقصدت المبالغة في وصفهم بالبكاء كأنّ الأعين تفيض بأنفسها. ومعنى مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ أي مما نزل على محمد صلى الله عليه وسلم وهو الحق ف «من» الأولى لابتداء الغاية على أن فيض الدمع نشأ من معرفة الحق، والثانية للبيان ويحتمل التبعيض يعني أنهم عرفوا بعض الحق فأبكاهم فكيف لو عرفوا كله وأحاطوا بالسنة؟ رَبَّنا آمَنَّا المراد إنشاء الايمان لا الإخبار عنه فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقد مر مثله في آل عمران. وَما لَنا إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان مع حصول موجبه وهو الطمع في إنعام الله عليهم بإدخالهم دار ثوابه مع الصالحين. قالوا ذلك في أنفسهم أو فيما بينهم أو في جواب قومهم حين رجعوا إليهم ولاموهم. ومحل لا نُؤْمِنُ نصب على الحال نحو: مالك قائما.
والعامل فيه معنى الفعل أي ما نصنع غير مؤمنين. وهو العامل أيضا في وَنَطْمَعُ لكن مقيدا
__________
(1) رواه الدارمي في كتاب النكاح باب 3. بلفظ «إني لم أؤمر بالرهبانية» .(3/4)
بالحال الأولى لأنك لو حذفتها وقلت: وما لنا ونطمع لا حلت، ويحتمل أن يكون وَنَطْمَعُ حالا من لا نُؤْمِنُ كأنهم أنكروا أن لا يوحدوا الله وهم يطمعون في الثواب وأن يكون عطفا على لا نُؤْمِنُ أي ما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع، أو ما لنا لا نجمع بين الإيمان وبين الطمع فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا ظاهره يدل على أنهم إنما استحقوا الثواب بمجرد القول، ولكن فيما سبق من وصفهم بمعرفة الحق ما يدل على خلوص عقيدتهم فلا جرم لما انضاف إليه القول كل الإيمان. ويحتمل أن يكون مأخوذا من قولك: هذا قول فلان أي اعتقاده ومذهبه. وروى عطاء عن ابن عباس أن المراد بما سألوا من قولهم فاكتبنا مع الشاهدين. قال أهل السنة: فيه دليل على أن المعرفة مع الإقرار توجب حصول الثواب، وصاحب الكبيرة له المعرفة والإقرار فلا بد أن يؤل حاله إلى هذا الثواب. والمعتزلة سلموا أن الإقرار مع المعرفة يوجب الثواب ولكن بشرط عدم الإحباط.
التأويل:
لقد أخذنا ميثاق بني إسرائيل مع ذرات ذرّيات آدم عليه السلام وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا بالأجساد في عالم الشهادة، ومن الواردات الروحانية في عالم الغيب فَرِيقاً كَذَّبُوا يعنى الإلهامات والواردات وَفَرِيقاً يقتلون في عالم الحس لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا النصارى أرادوا أن يسلكوا طريق الحق بقدم العقل فتاهوا في أودية الشبهات، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم سلكوا الطريق بأقدام جذبات الألوهية على وفق المتابعة الجبيبية فأسقط عنهم براهين الوصال كلفة الاستدلال، ولهذا كان الشبلي يغسل كتبه بالماء ويقول: نعم الدليل أنت. ولكن الاشتغال بالدليل بعد الوصول الى المدلول محال فتحقق لهم أن عيسى بعد التزكية والتحلية صار قابلا للفيض الإلهي فكان يخلق ما يخلق ويفعل ما يفعل بإذن الله، كما أن المرايا المحرقة تحرق بما قبلت من فيض الشمس إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ ظاهرا فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ومن يشرك به باطنا حرم عليه القربة على لسان داود وعيسى ابن مريم.
هذا سر الخلافة فإن الإنسان الكامل المستحق للخلافة قبوله قبول الحق ورده رد الحق لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ سمى العصيان منكرا لأنه يوجب النكرة كما سمى الطاعة معروفا لأنها توجب المعرفة ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً. يعني أن تعارف الأرواح يوجب ائتلاف الأشباح، فالنصارى ببركة علمائهم وعبادهم وصفاء قلوبهم وخضوعهم ثبت لهم القرابة والمودة من أهل الإيمان وعرفوا الحق الذي سمعوه في الأزل يوم الميثاق، فآمنوا وذلك جزاء المحسنين الذين يعبدون الله ويشاهدونه بلوائح المعرفة وطوالع المحبة فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه.(3/5)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
[سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 100]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)
جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)
القراآت:
بِما عَقَّدْتُمُ بالتخفيف: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل، وقرأ ابن ذكوان عاقدتم بالألف. الباقون عَقَّدْتُمُ بالتشديد مِنْ أَوْسَطِ مثل مَبْسُوطَتانِ [المائدة: 64] فَجَزاءٌ بالتنوين مِثْلُ بالرفع: يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم عن المفضل. كَفَّارَةٌ طَعامُ بالإضافة: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون كَفَّارَةٌ بالتنوين طَعامُ بالرفع فبما بغير ألف ابن عامر.(3/6)
الوقوف:
وَلا تَعْتَدُوا ط الْمُعْتَدِينَ هـ طَيِّباً ص لعطف المتفقتين مُؤْمِنُونَ هـ الْأَيْمانَ ج لاختلاف النظم مع اتحاد الكلام وفاء التعقيب. رَقَبَةٍ ط ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ط حَلَفْتُمْ ط للإضمار أي حلفتم وحنثتم أَيْمانِكُمْ ط تَشْكُرُونَ هـ تُفْلِحُونَ هـ وَعَنِ الصَّلاةِ ج لابتداء الاستفهام لأجل التحذير مع دخول الفاء فيه. مُنْتَهُونَ هـ وَاحْذَرُوا ط الْمُبِينُ هـ وَأَحْسَنُوا ط الْمُحْسِنِينَ هـ بِالْغَيْبِ ج أَلِيمٌ هـ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ط وَبالَ أَمْرِهِ ط سَلَفَ ط مِنْهُ ط انْتِقامٍ هـ وَلِلسَّيَّارَةِ ج لطول الكلام وتضاد المعنيين وإن اتفقت الجملتان لفظا. حُرُماً ط لإطلاق الأمر بالابتداء تُحْشَرُونَ هـ وَالْقَلائِدَ ط عَلِيمٌ هـ رَحِيمٌ هـ الْبَلاغُ ط تَكْتُمُونَ هـ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ج لاتفاق الجملتين مع وقوع العارض تُفْلِحُونَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه بعد استقصاء المناظرة مع أهل الكتابين عاد إلى بيان الأحكام فبدأ بحل المطاعم والمشارب واستيفاء اللذات كيلا يتوهم متوهم أن مدح القسيسين والرهبان يوجب إيثار طريقتهم في هذا الدين.
قال المفسرون: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر الناس ووصف القيامة ولم يزدهم على التخويف، فرق الناس وبكوا فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون منهم أبو بكر وعلي وابن مسعود وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي واتفقوا على أن يصوموا النهار ويقوموا الليل ولا يناموا على الفرش ولا يأكلوا اللحم ولا الودك ولا يقربوا النساء والطيب ويلبسوا المسوح ويرفضوا الدنيا ويسيحوا في الأرض ويترهبوا ويجبوا المذاكير، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم: ألم أنبأ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ قالوا: يا رسول الله وما أردنا إلا الخير. فقال: إني لم أؤمر بذلك إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وآكل اللحم والدسم، من رغب عن سنتي فليس مني. ثم جمع الناس وخطبهم فقال: ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب والنوم وشهوات الدنيا! أما إني لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا فإنه ليس في ديني ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع، وإن سياحة أمتي الصوم ورهبانيتهم الجهاد، فاعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان، فإنما هلك من قبلكم بالتشديد شددوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع، فأنزل الله هذه الآية، فقالوا: يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها- وكانوا حلفوا على ما اتفقوا عليه- فنزلت هذه الآية(3/7)
لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ فهذا وجه اتصال الآيات. فإن قيل: ما الحكمة في قوله لا تُحَرِّمُوا ومن المعلوم أن توسع الإنسان في اللذات والطيبات يمنعه عن الاستغراق في تحصيل السعادات الباقيات، ولهذا قالت الحكماء: إذا شبعت الأجسام صارت الأرواح أجسادا، وإذا جاعت الأجسام صارت الأجساد أرواحا؟ فالجواب أن الرهبانية المفرطة مما توقع الآفة في الأعضاء الرئيسة التي هي القلب والكبد والدماغ والأنثيان فيختل الفكر ويقل التأمل في الجواهر الروحانية ومباديها، على أن النفوس القوية لا يمنعها التصرف في الجسمانيات عن التأمل في الروحانيات. فالرهبانية دليل الضعف والقصور والكمال في الوفاء بالجهتين، وكيف والرهبانية توجب خراب الدنيا وانقطاع الحرث والنسل وترك الترهب مع رعاية وظائف الطاعة يفضي الى سعادة الدارين، قال القفال: إنه تعالى قال في أوّل السورة أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] فبين أنه كما لا يجوز تحليل المحرم لا يجوز تحريم المحلل، وذلك أنهم كانوا يحللون الميتة والدم ويحرمون البحائر والسوائب.
ومعنى لا تُحَرِّمُوا لا تعتقدوا تحريم ما أَحَلَّ اللَّهُ ولا تظهروا باللسان تحريمه ولا تجتنبوه اجتنابا يشبه اجتناب المحرمات. فهذه الوجوه محمولة على الاعتقاد والقول والعمل، ويحتمل أن يراد لا تحرموا على غيركم بالفتوى، أو لا تلتزموا تحريمها بنذر أو يمين كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ [التحريم: 1] أو لا تخلطوا المملوك بالمغصوب أو الطاهر بالنجس خلطا لا يبقى معه التمييز فإنه يحرم الكل. والطيبات المستلذات التي تشتهيها النفوس وتميل إليها القلوب. ثم نهى عن الاعتداء مطلقا ليدخل تحته النهي عن الإسراف كقوله كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: 31] وكُلُوا أمر إباحة وتحليل مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ في إدخال «من» التبعيضية إرشاد إلى الاقتصاد والاقتصار في الأكل على البعض وصرف الباقي إلى المحتاجين، وفيه أنه تعالى هو الذي يرزق عبيده وتكفل برزقهم. قال في التفسير الكبير: قوله حَلالًا طَيِّباً إن كان متعلقا بالأكل كان حجة للمعتزلة على أن الرزق لا يكون إلا حلالا لأنه يدل على الإذن في أكل كل ما رزق الله تعالى وإنما يأذن في أكل الحلال فيلزم أن يكون كل رزق حلالا، وإن كان متعلقا بالمأكول أي كلوا من الرزق الذي يكون حلالا كان حجة لأصحابنا لأن التقييد يؤذن بأن الرزق قد لا يكون حلالا. أقول: هذا فرق ضعيف ولهذا قال في الكشاف: حَلالًا حال مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ مع أنه من المعتزلة. ثم أكد التوصية بقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ وزاده تأكيدا بقوله الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لأن الإيمان به يوجب اتقاءه في أوامره ونواهيه. ثم قال لا يُؤاخِذُكُمُ وقد ذكرنا وجه النظم آنفا، وقد تقدم معنى يمين اللغو في سورة البقرة. أما قوله بِما عَقَّدْتُمُ(3/8)
الْأَيْمانَ
فمن قرأ بالتخفيف فإنه صالح للقليل والكثير فلا إشكال، ومن قرأ بالتشديد فإن أبا عبيدة اعترض عليه بأن التشديد للتكثير فهذه القراءة توجب سقوط الكفارة عن اليمين الواحدة. وأجاب الواحدي بأن عقد بالتخفيف وعقد بالتشديد واحد في المعنى، ولو سلم فالتكرير يحصل بأن يعقدها بقلبه ولسانه، أما لو عقد اليمين بأحدهما دون الآخر فلا كفارة.
ومن قرأ بالألف فمثل القراءة المخففة كقولك: عاقبت اللص وعافاه الله. والمعنى على القراآت: ولكن يؤاخذكم بعقد الأيمان أو بتعقيدها أو معاقدتها إذا حنثتم. فحذف الظرف للعلم به، أو المراد بنكث ما عقدتم بحذف المضاف فَكَفَّارَتُهُ أي الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة أي تسترها أحد هذه الأمور ويسمى بالواجب المخير. وحاصله أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها، ولا يجوز الإخلال بجميعها، ولكنه إذا أتى بأيّ واحد منها فإنه يخرج عن العهدة، ومن هنا قال أكثر الفقهاء الواجب واحد لا بعينه من الإطعام والكسوة وتحرير الرقبة فإن عجز عنها جميعا فالواجب شيء آخر وهو الصوم. أما مقدار الطعام فقد قال الشافعي: نصيب كل مسكين مد أي ثلثا منّ، وهو قول ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب والحسن والقاسم لأنه تعالى قال مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ فإن كان المراد ما كان متوسطا في العرف فثلثا منّ من الحنطة إذا جعل دقيقا وخبز فإنه يصير قريبا من المنّ وذلك كاف لواحد في يوم واحد، وإن كان المراد ما كان متوسطا في الشرع فليس له في الشرع مقدار إلا ما
جاء في قصة الأعرابي المفطر في نهار رمضان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بإطعام ستين مسكينا من غير ذكر مقدار. فقال الرجل: ما أجد. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه خمسة عشر صاعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أطعم هذا.
وذلك يدل على تقدير طعام المسكين بربع الصاع وهو مدّ. ولا تلزم كفارة الحلق لأنها شرعت بلفظ الصدقة مطلقة عن التقدير بإطعام الأهل فكان تكفيرها معتبرا بصدقة الفطر وقد ثبت بالنص تقديرها بالصاع لا بالمد. وقال أبو حنيفة: الواجب نصف صاع من الحنطة أو صاع من غيرها قال: لأن الأوسط هو الأعدل.
وما ذكره الشافعي هو أدنى ما يكفي. وأما الأعدل فيكون بإدام وهكذا روي عن ابن عباس مدّ بإدامه والإدام تبلغ قيمته مدا آخر ويزيد في الأغلب. أجاب الشافعي أن الإدام غير واجب بالإجماع فلم يبق إلا حمل اللفظ على التوسط في قدر الطعام ومقداره ما ذكرنا، وجنس الطعام المخرج جنس الفطرة. ثم قال الشافعي: الواجب تمليك الطعام قياسا على الكسوة.
وقال أبو حنيفة: إذا غدّى وعشى عشرة مساكين جاز لأن ذلك إطعام، ولأن إطعام الأهل يكون بالتمكين لا بالتمليك وقد قال مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ والقائل أن يقول: ذكر إطعام الأهل لتعيين مقدار المطعم لا لأجل كيفية الإطعام. وقال أبو حنيفة: لو أطعم مسكينا(3/9)
واحدا عشر مرات جاز. وقال الشافعي: لا يجزى إلا إطعام عشرة لأن مدار الباب على التعبد الذي لا يعقل معناه فيجب الوقوف على مورد النص.
قال في الكشاف أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على محل مِنْ أَوْسَطِ ووجه بأن البدل هو المقصود فكأنه قيل: فكفارته من أوسط. وأقول: الأظهر أن يكون مِنْ أَوْسَطِ مفعولا آخر للإطعام سواء كان «من» للابتداء أو للتبعيض، ويكون كِسْوَتُهُمْ معطوفا على الإطعام. والكسوة معناها اللباس وهو كل ما يكتسى به. قال الشافعي: يجزىء في الكفارة أقل ما يقع عليه اسم الكسوة وهو ثوب يغطي العورة إزار أو رداء أو قميص أو سراويل أو عمامة أو مقنعة لكل مسكين ثوب واحد لما روي عن ابن عباس كانت العباءة تجزىء يومئذ. وعن مجاهد: ثوب جامع. وقال الحسن: ثوبان أبيضان. والمراد بالرقبة الجملة كان الأسير في العرب تجمع يداه الى رقبته فإذا أطلق حل ذلك الحبل فسمي الإطلاق من الحبل فك رقبة. ثم أجرى ذلك على العتق هكذا قيل في أصل هذا المجاز. ومذهب أهل الظاهر أن جميع الرقاب تجزئه. وقال الشافعي: لا يجزىء إلا كل سليمة من عيب يخل بالعمل صغيرة كانت أو كبيرة ذكرا أو أنثى بعد أن كانت مؤمنة قياسا على كفارة القتل، ولم يجوّز إعتاق المكاتب ولا شراء القريب. وفي تقديم الإطعام على العتق مع أن العتق أفضل تنبيه على التخيير وأن الأمر مبني على التخفيف. ويمكن أن يقال: الإطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام أو لا يكون هناك من يعطيه فيقع في الضر، أما العبد فيجب على مولاه طعامه وكسوته، فالعتق يحتمل التأخير والإطعام قد لا يحتمل ذلك. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أحد الأمور الثلاثة المذكورة فَصِيامُ فعليه صيام ثَلاثَةِ أَيَّامٍ قال الشافعي: إذا وجد قوت نفسه وقوت عياله يومه وليلته ومن الفضل ما يطعم عشرة مساكين لزمته الكفارة بالإطعام، وإن لم يكن عنده ذلك القدر جاز له الصيام وذلك أنه علق جواز الصيام على عدم وجدان الخصال الثلاث فعند وجدانها وجب أن لا يجوز الصوم. تركنا العمل به عند وجدان قوت نفسه وقوت عياله يوما وليلة لأن ذلك ضروري، وتقديم حق النفس على حق الغير واجب شرعا فبقي الآية معمولا بها في غيره. وعند أبي حنيفة: يجوز الصيام إذا كان عنده من المال ما لا تجب فيه الزكاة. ثم صيام الأيام الثلاثة مشروط عند أبي حنيفة بالتتابع تمسكا بقراءة أبيّ وابن مسعود فصيام ثلاثة أيام متتابعات فإن قراءتهما لا تتخلف عن روايتهما.
وقال الشافعي في أصح قوليه: إن التفريق جائز والقراءة الشاذة لا يعتدّ بها لأنها لو كانت صحيحة لنقلت نقلا متوترا
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له: عليّ أيام من رمضان(3/10)
أفأقضيها متفرقات؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم أما كان يجزيك؟ قال: بلى. قال: فالله أحق أن يعفو ويصفح.
وإذا جاز هذا التفريق في صوم رمضان ففي غيره أولى، وأيضا العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
مسألة: من صام ستة أيام عن يمينين أجزأته ولا حاجة الى تعيين إحدى الثلاثتين لإحدى اليمينين لأن الواجب عن كل منهما ثلاثة أيام وقد أتى بها فيخرج عن العهدة ذلِكَ المذكور كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وحنثتم فحذف ذكر الحنث للعلم بأن الكفارة لا تجب بمجرد الحلف، وللتنبيه على أن الكفارة لا يجوز تقديمها على اليمين، وأما بعد اليمين وقبل الحنث فيجوز وبه قال مالك والشافعي وأحمد موافقا لما
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا فكفر عن يمينك ثم ائت بالذي هو خير» «1» .
ولأن الكفارة حق ماليّ يتعلق بسببين فجاز تعجيله بعد وجود أحد السببين كتعجيل الزكاة بعد وجود النصاب. هذا إذا كان يكفر بغير الصوم، أما الصوم فلا يجوز تقديمه لأن العبادات البدنية لا تقدّم على وقتها إذا لم تمس إليه حاجة كالصلاة وصوم رمضان، ولأن الصوم إنما يجوز التكفير به عند العجز عن جميع الخصال المالية، وإنما يتحقق العجز بعد الوجوب وإن كان الحنث بارتكاب محظور كأن حلف أن لا يشرب الخمر أجزأه التكفير قبل الشرب أيضا لوجود أحد السببين. والتكفير لا يتعلق به استباحة ولا تحريم بل المحلوف عليه حرام قبل اليمين وبعدها وقبل التكفير وبعده لا أثر لهما فيه. جميع ما ذكرنا ظاهر مذهب الشافعي، أما عند أبي حنيفة وأصحابه فلا يجوز التكفير قبل الحنث مطلقا. وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ قللوها ولا تكثروا منها، أو احفظوها إذا حلفتم عن الحنث، وعلى هذا تكون الإيمان مختصة بالتي الحنث فيها معصية كمن حلف أن لا يشرب الخمر بخلاف ما لو حلف ليشربن فإنه لا يؤمر حينئذ بالحفظ عن الحنث. وقيل: احفظوها بأن تكفروها أو المراد لا تنسوها تهاونا بها كَذلِكَ مثل ذلك البيان الشافي يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أحكامه وأعلام شريعته لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة البيان وتسهيل المخرج من الحرج.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 1. مسلم في كتاب الأيمان حديث 7. أبو داود في كتاب الأيمان باب 14. النسائي في كتاب الأيمان باب 15. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 7. أحمد في مسنده (4/ 398) .(3/11)
ثم إنه سبحانه استثنى من جملة الأمور المستطابة الخمر والميسر- وقد تقدم معناهما وما يتعلق بهما في سورة البقرة، وسلك في سلك التحريم الأنصاب والأزلام وقد ذكرناهما في أول هذه السورة. واعلم أنه كانت تحدث قبل تحريم الخمر أشياء يكرهها رسول الله صلى الله عليه وسلم منها
قصة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه مع عمه حمزة على ما روي في الصحيحين أنه قال: كانت لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاني شارفا من الخمس، فلما أردت أن أبني بفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعدت رجلا صوّاغا من بني قينقاع أن يرتحل معي لأذخر، أردت أن أبيعه من الصوّاغين فأستعين به في وليمة عرسي. فبينا أنا أجمع لشارفيّ متاعا من الأقتاب والغرائر والحبال وشارفاي مناختان إلى جنب حجرة رجل من الأنصار، أقبلت فإذا أنا بشارفيّ قد جبت أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما فلم أملك عيني حين رأيت ذلك المنظر وقلت: من فعل هذا؟ قالوا: فعله حمزة بن عبد المطلب وهو في البيت في شرب مع امرأة من الأنصار غنت أغنية فقالت في غنائها:
ألا يا حمز للشرف النواء وهن معقلات بالفناء ضع السكين في اللبات منها فضرجهن حمزة بالدماء وأطعم من شرائحها كبابا ملهوجة على وهج الصلاء فأنت أبا عمارة المرجى لكشف الضر عنا والبلاء فوثب الى السيف فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما وأخذ من أكبادهما. قال علي رضي الله عنه: فانطلقت حتى دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده زيد بن حارثة فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أتيت له فقال: ما لك؟ فقلت: يا رسول الله ما رأيت كاليوم! عدا حمزة على ناقتي فاجتب أسنمتهما وبقر خواصرهما وها هوذا في بيت معه شرب. قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بردائه ثم انطلق يمشي واتبعت أثره، - أنا وزيد بن حارثة- حتى جاء البيت الذي فيه. فاستأذن فأذن له فإذا هم شرب، فطفق رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوم حمزة فيما فعل فإذا حمزة ثمل محمرة عيناه، فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم صعد النظر فنظر إلى وجهه ثم قال:
وهل أنتم إلا عبيد أبي؟ فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل فنكص على عقبيه القهقرى، فخرج وخرجنا
فكانت هذه القصة من الأسباب الموجبة لنزول تحريم الخمر. قالت العلماء: هذه الآية تدل على تحريمها من وجوه منها: تصدير الجملة ب «إنما» الدالة على الحصر معناه ليست(3/12)
الخمر إلا الرجس وعمل الشيطان. ومنها أنه قرنها بعبادة الأصنام ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم «شارب الخمر كعابد الوثن»
ومنها أنه جعلها رجسا كما قال في موضع آخر فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [الحج: 30] وأصل الرجس العمل القبيح والقذر. قال الفراء: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس: 100] أي العقاب والغضب وكأنه إبدال الرجز والرجس بالفتح الصوت الشديد من الرعد ومن هدير البعير فلهذا سمي العمل القوي الدرجة في القبح رجسا. ومنها أنه جعلها من عمل الشيطان، ومن المعلوم أنه لا يصدر منه إلا الشر البحت. ومنها أنه أمر بالاجتناب وظاهر الأمر للوجوب. ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح فيكون القرب منها خيبة. والضمير في فَاجْتَنِبُوهُ عائد الى الرجس أو العمل أو إلى المضاف المحذوف أي إنما تعاطي الخمر ونحو ذلك. ومنها شرح أنواع المفاسد المنتجة منها من التعادي والتباغض والصد عن ذكر الله وعن الصلاة خصوصا وفيه أن غرض الشرب من الاجتماع تأكد الألفة والمودّة. ثم إنها تورث نقيض المقصود لأن العقل إذا زال استولت الشهوة والغضب ويؤدي الى التنازع واللجاج، وكذا القمار يفضي الى إفناء المال وإلى أن يقامر على حليلته وأهله وولده وكل ذلك يورث العداوة والفتن وهذان من مكايد الشيطان ومضادّان لمصالح الإنسان. وأيضا الخمر سبب تهييج اللذة الجسمية، والقمار يورث لذة الغلبة الحالية، وكلتاهما توجب الاشتغال عن اللذات الحقيقية الحاصلة من الاستغراق في طاعة المعبود. وإنما أفرد ذكر الخمر والميسر ثانيا لأن الخطاب مع المؤمنين فقرنهما أولا بذكر الأنصاب والأزلام تنبيها على أنها جميعا من أعمال الجاهلية وأهل الشرك، ثم أفردهما لأن الكلام مسوق لتحريمهما على المخاطبين حيث إنهم كانوا لا يتعاطون سوى هذين.
ومنها سوق الكلام بطريق الاستفهام في قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ كأنه قيل: قد تلي عليكم ما هو كاف في باب المنع فهل أنتم مع هذه الصوارف منتهون أم أنتم على ما كنتم عليه كأن لم تزجروا؟ ولهذا قالوا: قد انتهينا يا رب. إذ فهموا التحريم المؤكد. ومنها إنه قال عقيب ذلك وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا والظاهر أن المراد الطاعة فيما تقدم من الأمر بالاجتناب والحذر عن المخالفة في ذلك الباب. ومنها تهديد من خالف هذا التكليف بقوله فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ الآية. والمراد إن أعرضتم فالحجة قد قامت عليكم والرسول قد خرج عن عهدة البلاغ وقد أعذر من أنذر وجزاء المخالف الى الله المقتدر. عن أنس قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلا فضيخ البسر والتمر، فإذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فجزت في سكك المدينة فقال أبو طلحة: اخرج فأرقها. فقالوا: قتل فلان وفلان وهي في بطونهم فأنزل الله تعالى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا(3/13)
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا
الطعم خلاف الشرب في الأغلب وقد يقع على المشروب كقوله وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [البقرة: 249] فيجوز أن يكون المراد فيما شربوا من الخمر، ويحتمل أن يكون معنى الطعم راجعا إلى التلذذ بما يؤكل ويشرب جميعا، فقد تقول العرب: أطعم أي ذق. ونظير هذه الآية قوله في نسخ القبلة وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: 143] والعامل في إِذا مَا اتَّقَوْا معنى الكلام المتقدم أي لا يأثمون في ذلك إذا اتقوا المحرمات لأنهم شربوها حين كانت محللة. والمراد أن أولئك كانوا على هذه الصفة وهو ثناء عليهم وحمد لأحوالهم في الإيمان والتقوى والإحسان.
وزعم بعض الجهلة أن هذا الحكم متعلق بالمستقبل وإلا قيل: لم يكن أو ما كان جناح مثل وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ [البقرة: 143] والمعنى لا جناح على من طعمها إذا لم يحصل معه العداوة والبغضاء وسائر المفاسد المذكورة بل حصل معه أنواع المصالح من الطاعة والتقوى والإحسان إلى الخلق. والجواب أن صيغة طعموا وهي المضي تأباه، وأيضا إن سبب نزول الآية يكذبه.
روى أبو بكر الأصم أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وأكلوا القمار، وكيف بالغائبين عنا في البلاد لا يشعرون بتحريم الخمر وهم يطعمونها؟ فنزلت.
وعلى هذا فالحل قد ثبت فيما يستقبل لكن في حق الغائبين الذين لم يبلغهم هذا النص. ثم إنه سبحانه شرط في نفي الجناح حصول التقوى والإيمان مرتين، وفي الثالثة التقوى والإحسان. فقال الأكثرون: الأول فعل الاتقاء، والثاني دوامه والثبات عليه، والثالث اتقاء ظلم العباد مع الإحسان إليهم. وقيل: الأول اتقاء جميع المعاصي قبل نزول الآية، والثاني اتقاء الخمر والميسر وما في هذه الآية، والثالث اتقاء ما يحدث تحريمه بعد هذه الآية وهذا قول الأصم. وقيل: اتقوا الكفر ثم الكبائر ثم الصغائر. وقال القفال: الأول الاتقاء من القدح في صحة النسخ ليثبت تحريم الخمر بعد أن كانت مباحة، والثاني الإتيان بالعمل المطابق للآية، والثالث المداومة على التقوى مع الإحسان إلى الخلق. ثم إنه سبحانه استثنى بعض الصيد من المحللات فقال على سبيل التوكيد القسمي لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ أي ليعاملنكم معاملة المختبر بِشَيْءٍ التنوين للتحقير وفيه أنه ليس من الفتن العظام التي تدحض عندها الأقدام كالابتلاء ببذل الأرواح والأموال، فامتحن الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بصيد البر كما امتحن أصحاب أيلة بصيد البحر. قال مقاتل بن حيان: ابتلاهم بالصيد وهم محرمون عام الحديبية حتى إن الوحش والطير يغشاهم في رحالهم فيقدرون على أخذها بالأيدي وصيدها بالرماح وما رأوا مثل ذلك قط، فنهاهم الله عن ذلك ابتلاء. قال الواحدي: الذي تناله أيديهم من الصيد الفراخ والبيض وصغار(3/14)
الوحش، والذي تناله الرماح الكبار. و «من» في مِنَ الصَّيْدِ للبيان أو للتبعيض وهو صيد البر أو صيد الإحرام والمراد به العين لا الحدث بدليل عود الضمير في تَنالُهُ إليه لِيَعْلَمَ اللَّهُ ليظهر معلومه وهو خوف الخائف أو ليعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم أو ليعلم أولياء الله ومحل بِالْغَيْبِ النصب على الحال أي يخافه حال كونه غائبا عن رؤيته أو عن حضور الناس فَمَنِ اعْتَدى فصاد بَعْدَ ذلِكَ الابتلاء فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة وقيل في الدنيا. عن ابن عباس: هو أن يضرب بطنه وظهره ضربا وجيعا وينزع ثيابه. لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ قال الشافعي: إنه البري المتوحش المأكول اللحم. أما الأول فلقوله تعالى بعد ذلك أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وأما المتوحش فيدخل فيه نحو الظبي وإن صار مستأنسا ويخرج الإنسي وإن صار متوحشا إبقاء لحكم الأصل، وأما كونه مأكولا فلقوله تعالى وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً فيعلم منه أنه مما يحل أكله في غير الإحرام. وقال أبو حنيفة:
المحرم إذا قتل سبعا لا يؤكل لحمه ضمن. وسلم أنه لا يجب الضمان في قتل الذئب وفي قتل الفواسق الخمس فقال الشافعي: لا معنى في قتلها إلا الإيذاء فيلزم جواز قتل جميع المؤذيات لا سيما
وقد جاء «خمس يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والحية والعقرب والكلب العقور» «1»
وفي رواية بزيادة السبع العادي واحتج لأبي حنيفة
بقول علي رضي الله عنه: صيد الملوك أرانب وثعالب. فإذا ركبت فصيدي الأبطال.
وزيف بأن الثعلب عندنا حلال. وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي محرمون بالحج والعمرة أيضا على الأصح. وقيل: وقد دخلتم الحرم. وقيل: هما مرادان بالآية وهو قول الشافعي. وقوله لا تَقْتُلُوا يفيد المنع ابتداء والمنع تسببا فليس له أن يتعرض للصيد ما دام محرما أو في الحرم بالسلاح ولا بالجوارح من الكلاب والطيور سواء كان الصيد صيد الحل أو صيد الحرم وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ من قرأ فَجَزاءٌ بالتنوين ومِثْلُ بالرفع فالمعنى: فعليه جزاء صفته كذا. ومن قرأ بالإضافة فمن باب إضافة المصدر إلى المفعول أي فعليه أن يجزىء مثل ما قتل. قال بعض العلماء: المثل مقحم للتأكيد إذ الواجب عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله فهو كقولهم: أنا أحب مثلك أي أحبك. وقيل: الإضافة بمعنى «من» أي جزاء من مثل ما قتل. قال سعيد بن جبير: المحرم إذا قتل الصيد خطأ لا يلزمه
__________
(1) رواه النسائي في كتاب المناسك باب 83. أحمد في مسنده (6/ 203) .(3/15)
شيء. وهو قول داود لأن النهي ورد عن التعمد وهو أن يقتله ذاكرا لإحرامه أو عالما أن ما يقتله مما يحرم عليه قتله، فإن قتله وهو ناس لإحرامه أو رمى صيدا وهو يظن أنه ليس بصيد، أو رمى غير صيد فعدل السهم فأصاب صيدا فهو مخطئ لا شيء عليه لفقدان القيد المذكور. ويتأكد هذا الرأي بقوله لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ وبقوله وَمَنْ عادَ أي الى ما تقدم ذكره وهو القتل العمد، والانتقام أيضا يناسب العمد لا الخطأ 575 قال جمهور الفقهاء: يلزمه الضمان سواء قتل عمدا أو خطأ قياسا على سائر محظورات الإحرام كحلق الرأس وغيره وكما في ضمان مال المسلم، فإنه لما ثبتت الحرمة لحق المالك لم يختلف ذلك بكونه عمدا أو لا. وإنما وردت الآية بالتعمد لأن العمد أصل والخطأ ملحق به للتغليظ، ولما روي أنه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فحمل عليه أبو اليسر فطعنه برمحه فقتله فقيل له:
إنك قتلت الصيد وأنت محرم فنزلت الآية على وفق القصة. وعن الزهري نزل الكتاب بالعمد ووردت السنة بالخطأ.
قال صلى الله عليه وسلم «في الضبع كبش إذا قتله المحرم» «1»
وقالت الصحابة: في الظبي شاة. أطلقوا الضمان من غير فرق بين العمد والخطأ. ثم العلماء اختلفوا في المثل فقال الشافعي ومحمد بن الحسن: الصيد ضربان: منه ما له مثل ومنه ما لا مثل له فيضمن بالقيمة. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: المثل الواجب هو القيمة قياسا على ما لا مثل له. حجة الشافعي قوله تعالى مِنَ النَّعَمِ فإنه بيان للمثل وكذا قوله هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حكم في الضبع بكبش.
وعن علي وعمر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر أنهم حكموا في أمكنة مختلفة وأزمان متعدّدة في جزاء الصيد بالمثل من النعم. فحكموا في النعامة ببدنة، وفي حمار الوحش ببقرة، وفي الضبع بكبش، وفي الغزال بعنز، وفي الظبي بشاة، وفي الأرنب بحمل- وفي رواية بعناق- وفي الضب بسخلة، وفي اليربوع بجفرة، وفي الحمام بشاة، ويعني به كل ما عب وهدر كالقمري والدبسي الفاختة. والعب شرب الماء مرة، والهدير ترجيعه صوته وتغريده. وفيه دليل على أنهم نظروا إلى أقرب الأشياء شبها بالصيد من النعم، ولو نظروا إلى القيمة لاختلف باختلاف الأسعار. والظبي الذكر من هذا الجنس والغزال أنثاه، والجفرة من أولاد المعز إذا انفصلت من أمها، والعناق الأنثى من أولاد المعز. وأيضا المقصود من الضمان جبر الهلاك فكلما كانت المماثلة أتم كان الجبر أكمل.
(وهاهنا مسائل) الأولى: جماعة محرومون قتلوا صيدا. فالشافعي وأحمد وإسحق: لا
__________
(1) رواه ابن ماجة في كتاب المناسك باب 90.(3/16)
يجب عليهم إلا جزاء واحد لأن مثل الواحد واحد. وقال أبو حنيفة ومالك والثوري: على كل منهم جزاء واحد كما لو قتل جماعة واحدا يقتص منهم جميعا، وكذا لو حلف كل منهم أن لا يقتل صيدا فقتلوا صيدا واحدا لزم كلا منهم كفارة. وأجيب بأن قتل الجماعة بالواحد تعبدي وتعدد الكفارة لتعدد الإيمان.
الثانية: قال الشافعي: المحرم إذا دل غيره على صيد فقتله لم يضمن كما لا يجب بالدلالة كفارة القتل ولا الدية، وكما لو دل على مال المسلم وذلك لأن الدلالة ليست بقتل ولا إتلاف. وقال أبو حنيفة: يضمن لما روي أن عمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس أوجبوا الجزاء على الدال.
الثالثة: قال الشافعي: إذا جرح ظبيا فنقص من قيمته العشر فعليه عشر قيمة الشاة إرشادا إلى ما هو الأسهل لأنه قد لا يجد شريكا في ذبح شاة ويتعذر عليه إخراج قسط من الحيوان. وقال المزني: عليه شاة. وقال داود: لا ضمان إلا بالقتل لظاهر الآية حيث نيط الجزاء بالقتل فقط.
الرابعة: إذا قتل المحرم صيدا وأدى جزاءه ثم قتل صيدا آخر لزمه جزاء آخر خلافا لداود، وينقل عن ابن عباس وشريح. حجة الجمهور أن الحكم يتكرر بتكرر العلة بخلاف ما لو قال لنسائه: من دخل منكن الدار فهي طالق فدخلت واحدة مرتين، فإنه لا يقع إلا طلاق واحد لأن تكرر الحكم بتكرر الشرط غير لازم. حجة داود وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فإنه جعل جزاء العائد الانتقام لا الكفارة.
الخامسة: قال الشافعي: إذا أصاب صيدا أعور أو مكسور اليد أو الرجل فداه بمثله والصحيح أحب، وكذا الكبير لأجل الصغير. والذكر يفدى بالذكر والأنثى بالذكر والأنثى والأولى أن لا يغير تحقيقا للمثلية. فالأنثى أفضل لأنها تلد، والذكر أفضل من حيث إن لحمه أطيب وصورته أحسن.
قوله سبحانه يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال ابن عباس: أي رجلان صالحان فقيهان من أهل دينكم ينظران إلى أشبه الأشياء به من النعم فيحكمان به. وبهذا احتج من نصر قول أبي حنيفة فقال: التقويم هو المحتاج إلى النظر والاجتهاد، وأما الخلقة والصورة فمشاهد لا(3/17)
يفتقر إلى الاجتهاد. ورد بأن وجه المشابهة بين النعم والصيد أيضا يتوقف على الاجتهاد. عن قبيصة بن جابر أنه ضرب ظبيا في الإحرام فمات فسأل عمر- وكان إلى جانبه عبد الرحمن ابن عوف- فقال له: ما ترى؟ قال: عليه شاة. قال: وأنا أرى ذلك، فاذهب فأهد شاة. قال قبيصة: فخرجت إلى صاحبي وقلت: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره.
قال: ففاجأني عمر وعلاني بالدرّة وقال: أتقتل في الحرم وتسفه الحكم؟ قال الله تعالى يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فأنا عمر وهذا عبد الرحمن. قال الشافعي: ما ورد فيه نص فهو متبع كما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قضى في الضبع بكبش.
وكل ما حكم به عدلان من الصحابة أو التابعين أو من أهل عصر آخر من النعم أنه مثل الصيد المقتول يتبع حكمهم ولا حاجة إلى تحكيم غيرهم لأن بحثهم أوفى ونظرهم أعلى. وقال مالك: يجب التحكيم فيما حكمت به الصحابة وفيما لم تحكم. وهل يجوز أن يكون قاتل الصيد حكما؟ إن كان القتل عمدا عدوانا فلا لأنه يورث الفسق والحكم موصوف بالعدالة، وإن كان خطأ أو كان مضطرا إليه فكذلك عند مالك كما في تقويم المتلفات. وجوّزه الشافعي لما روي أن بعض الصحابة أوطأ فرسه ظبيا فسأل عمر فقال: احكم فيه. فقال: أنت خير مني وأعلم يا أمير المؤمنين. فقال: إنما أمرتك أن تحكم فيه ولم آمرك أن تزكيني. فقال الرجل: أرى فيه جديا فقال عمر: فذلك فيه. وأيضا فإنه حق الله فيجوز أن يكون من عليه أمينا فيه كما أن رب المال أمين في الزكاة.
ولو حكم عدلان بأن له مثلا وآخران بأنه لا مثل له فالأخذ بقول الأولين. ولو حكم عدلان بمثل وآخران بمثل آخر فأصح الوجهين أنه يتخير والآخر أنه يأخذ بالأغلظ. قيل: في الآية دلالة على أن العمل بالاجتهاد والقياس جائز. وأجيب بأنه لا نزاع في الصور الجزئية كالاجتهاد في القبلة وكالعمل بشهادة الشاهدين وبتقويم المقوّمين في قيم المتلفات وأروش الجنايات، وكعمل العامي بالفتوى، وكالعمل بالظن في مصالح الدنيا، إنما النزاع في إثبات شرع عام في حق جميع المكلفين باق على وجه الدهر والإنصاف أن تجويز الاجتهاد في القبلة وفي تعيين مثل الصيد المقتول أمر كلي أيضا. وانتصب هَدْياً على أنه حال من فَجَزاءٌ عند من وصفه بمثل لأنه حينئذ قريب من المعرفة أو بدل من محل مِثْلُ عند من أضاف، أو حال من الضمير في بِهِ ووصف هديا ببالغ الكعبة لأن إضافته غير حقيقية تقديره بالغا الكعبة. والعرب تسمي كل بيت مربع كعبة ولا سيما إذا كان مرتفعا. ومعنى بلوغه الكعبة أن يذبح في الحرم لأن الذبح والنحر لا يقعان في نفس الكعبة ولا في غاية القرب والتلاصق منها فإن دفع مثل الصيد المقتول إلى الفقراء حيا لم يجز. قال الشافعي:
يجب عليه أن يتصدق به في الحرم أيضا لأن نفس الذبح إيلام ولا قربة فيه وإنما القربة في التصدّق على فقراء الحرم. وقال أبو حنيفة: له أن يتصدق به حيث شاء لأنها لما وصلت(3/18)
إلى الكعبة فقد خرج عن العهدة. قوله أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على قوله فَجَزاءٌ وطَعامُ مَساكِينَ بيان له. ومن أضاف فللبيان أيضا أي كفارة من طعام مساكين مثل: خاتم فضة أَوْ عَدْلُ ذلِكَ الطعام صِياماً نصب على التمييز كقولك: لي مثله رجلا. وعدل الشيء ما عادله من غير جنسه، والعدل بالكسر المثل تقول: عندي عدل غلامك إذا كان غلاما يعدل غلاما، فإذا أردت قيمته من غير جنسه فتحت العين. ثم مذهب الشافعي أنه يصوم لكل مد يوما. ومذهب أبي حنيفة أنه يصوم لكل نصف صاع يوما وذلك بحسب الاختلاف في طعام مسكين واحد كما مر في كفارة اليمين. وبالجملة فحاصل مذهب أبي حنيفة أنه يوجب قيمة الصيد يقوّم حيث صيد، فإن بلغت قيمته ثمن هدي تخير بين أن يهدي من النعم ما قيمته قيمة الصيد وبين أن يشتري بقيمته طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره، وإن شاء صام عن طعام كل مسكين يوما. وحاصل مذهب الشافعي أن الصيد قسمان: ما له مثل من النعم وما ليس كذلك. فالأوّل جزاؤه على التخيير والتعديل فيتخير بين أن يذبح مثله فيتصدق به على مساكين الحرم إما بأن يفرق اللحم أو يملك جملته إياهم مذبوحا، وبين أن يقوّم المثل بدراهم ولا يجوز أن يتصدق بالدراهم ولكن إن شاء اشترى بها طعاما وتصدق به على مساكين الحرم وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يوما حيث كان. والثاني وهو ما ليس بمثلي كالعصافير وغيرها. وبالجملة كل ما دون الحمام أو فوقه فيه قيمته ولا يتصدق بها بل يجعلها طعاما، ثم إن شاء تصدق بها وإن شاء صام عن كل مد يوما، فإن انكسر مد في القسمين صام يوما لأن الصوم لا يتبعض. فللجزاء في القسم الأوّل ثلاثة أركان: الحيوان والطعام والصيام. وفي القسم الثاني ركنان: الطعام والصيام وأَوْ هنا على التخيير في ظاهر المذهب لا على الترتيب. ووافق مالك وأبو حنيفة لأن «أو» للتخيير غالبا، وخالف أحمد وزفر فقالا إنها في الآية للترتيب لأن الواجب هنا شرع على سبيل التغليظ بدليل قوله لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ والتخيير ينافي التغليظ. ثم القائلون بالتخيير اتفقوا على أن الخيار في تعيين هذه الثلاثة إلى قاتل الصيد كما هو ظاهر الآية إلا محمد بن الحسن فإنه قال: الخيار إلى الحكمين قياسا على تعيين المثل. ثم إن لم يكن الصيد مثليا فالعبرة في القيمة بمحل الإتلاف قياسا على كل متلف متقوّم، والمعتبر في الصرف إلى الطعام سعر الطعام بمكة. وإن كان مثليا وأراد تقويم مثله من النعم ليرجع إلى الإطعام أو الصيام فالعبرة في قيمته بمكة يومئذ لأنها محل الذبح لو كان يذبح. ولا جزاء على المحرم بأكل الصيد سواء ذبحه بنفسه أو اصطيد له أو بدلالته لأنه ليس بنام بعد الذبح ولا يؤل إلى النماء فلا يتعلق بإتلافه الجزاء، كما لو أتلف بيضة مذرة هذا في الجديد من قولي الشافعي(3/19)
وفي قوله القديم- وبه قال مالك وأحمد- يلزمه القيمة بعد ما أكل. وإذا ذبح المحرم صيدا لم يحل له الأكل منه ولا لغيره في الجديد- وبه قال مالك وأحمد وأبو حنيفة- لأنه يكون ميتة كذبيحة المجوسي حتى لو كان مملوكا وجب مع الجزاء القيمة للمالك. وهل يحل له بعد زوال الإحرام؟ أظهر الوجهين لا، وكذا الكلام في صيد الحرم إذا ذبح. أما قوله لِيَذُوقَ فإنه متعلق بقوله فَجَزاءٌ أي فعليه أن يجازي أو يكفر ليذوق، ويحتمل أن يقال: يتعلق بمحذوف أي شرعنا ما شرعنا ليذوق سوء عاقبة فعله وهو هتك حرمة الحرم والإحرام.
والتركيب يدور على الثقل يقال: مرعى وبيل إذا كان فيه وخامة، وطعام وبيل تقيل على الطبع والمعدة. والأمور الثلاثة اثنان منها نقص في المال فيثقل على الطبع، والثالث وهو الصوم ثقيل على البدن أيضا، وكل منها نوع عقوبة عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ في الجاهلية لأنهم متعبدون بشرع من قبلهم، أو عما سلف قبل التحريم في الإسلام. وعلى مذهب داود عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ في المرة الأولى بسبب أداء الجزاء وَمَنْ عادَ فإنه أعظم من أن يعفى بالجزاء فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أي فهو ينتقم الله منه وإلا لم يحتج إلى إدخال فاء الجزاء لارتباطه بنفسه. أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ أي مصيداته. ويعني بالبحر جميع هذه المياه والأنهار، وجملة ما يصاد منه ثلاثة أجناس: الحيتان وجميع أنواعها حلال، والضفادع وجميع أنواعها حرام، وفيما سوى هذين خلاف. فقال أبو حنيفة: حرام. وقال ابن أبي ليلى والأكثرون:
حلال. قوله وَطَعامُهُ العطف يقتضي المغايرة وفيه وجوه: يروى عن أبي بكر الصديق أن الصيد ما صيد بالحيلة حال حياته، والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه. وقال جمع من العلماء: الاصطياد قد يكون للأكل وقد يكون لغيره كاصطياد الصدف لأجل اللؤلؤ واصطياد بعض الحيوانات البحرية لأجل عظامها وأسنانها.
فالمعنى أحل لكم الانتفاع بجميع ما يصطاد في البحر، وأحل لكم أكل المأكول منه. وعن سعيد بن جبير أن الصيد هو الطري، والطعام هو القديد منه وفي الفرق ضعف. قال الشافعي: السمكة الطافية في البحر محللة لأنه طعام البحر وقد قال تعالى أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ
وقال صلى الله عليه وسلم في البحر «هو الطهور ماؤه الحل ميتته» «1»
مَتاعاً لَكُمْ في الحضر طريا ولِلسَّيَّارَةِ في السفر مالحا. وانتصب مَتاعاً على أنه مفعول له ولكنه
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 41. الترمذي في كتاب الطهارة باب 52. النسائي في كتاب الطهارة باب 46. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 38. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 12.
الدارمي في كتاب الوضوء باب 53. أحمد في مسنده (2/ 237) ، (3/ 373) .(3/20)
مختص بالطعام. وقال الزجاج: انه مصدر مؤكد لأن قوله أُحِلَّ لَكُمْ في معنى التمتيع وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً قال العلماء: صيد البحر هو الذي لا يعيش إلا في الماء، أما الذي لا يعيش إلا في البر والذي يمكنه أن يعيش في البر تارة وفي البحر أخرى فذاك كله صيد البر، والسلحفاة والسرطان والضفدع وطير الماء كل ذلك من صيد البر، ويجب على قاتله الجزاء. واتفق المسلمون على أن المحرم يحرم عليه الصيد الذي صاده أما الذي صاده الحلال
فعن علي وابن عباس وابن عمر وسعيد بن جبير وطاوس والثوري واسحق أن الحكم كذلك لإطلاق الآية،
ولما
روي عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدي إليه حمار وحش وهو محرم فأبى أن يأكله.
وقال مالك والشافعي وأحمد: إن لحم الصيد مباح للمحرم بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له لما
روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم» «1»
وعن أبي هريرة وعطاء ومجاهد أنهم أجازوا للمحرم ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذا لم يدل ولم يشر، وكذلك ما ذبحه قبل إحرامه وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه لما
روي عن أبي قتادة أنه اصطاد حمار وحش وهو حلال في أصحاب محرمين له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل أشرتم؟
هل أعنتم؟ فقالوا: لا فقال: هل بقي من لحمه شيء؟ قالوا معنا رجله. فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فأكلها.
وهذان القولان مفرعان على تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد. وقال في الكشاف: أخذ أبو حنيفة بالمفهوم فكأنه قيل: وحرم عليكم أيها المحرمون ما صدتم في البر، فيخرج عنه مصيد غيرهم. ويرد عليه أن المفهوم ليس بحجة. ثم حث على الطاعة والاجتناب عن المعاصي بقوله وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وهو كلام جامع للوعد والوعيد.
ثم ذكر سبب حرمة الصيد في الحرم وفي الإحرام فقال جَعَلَ اللَّهُ أي حكم وبين بالخطاب والتعريف، أو صير بخلق دواعي التعظيم في القلوب قِياماً لِلنَّاسِ وهم العرب ووجه المجاز أن أهل بلدة إذا قالوا «الناس فعلوا كذا» أرادوا أهل بلدتهم فنطق القرآن على مجرى عادتهم. وبيان القيام أن قوام المعيشة إما بكثرة المنافع وقد جعله بحيث يجبى إليه ثمرات كل شيء، وإما بدفع المضار وقد صيره حرما آمنا، وإما بحصول الجاه والرياسة وتوفر الدواعي والرغبات وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام. فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [إبراهيم: 37] ثم المنافع الدينية الحاصلة من مناسكها وشعائرها أكثر من أن تحصى
__________
(1) رواه ابو داود في كتاب المناسك باب 40. الترمذي في كتاب الحج باب 25. النسائي في كتاب المناسك باب 81. أحمد فى مسنده (3/ 362، 387) .(3/21)
وأظهر من أن تخفى. وانتصب الْبَيْتَ الْحَرامَ على أنه عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح إذ الكعبة أوضح من أن توضح، ويحتمل أن يراد بالناس عامة الناس لما يتم لهم من أمر حجهم وعمرتهم وتجارتهم وأنواع منافعهم الدينية والدنيوية. وعن عطاء بن أبي رباح: لو تركوه عاما واحدا لم ينظروا ولم يؤخروا. وتفسير الشهر الحرام والهدي والقلائد تقدم في أوّل السورة. وإنما كان الشهر الحرام سببا لقيام الناس وقوامهم لأنه إذا دخل الشهر الحرام كان يزول خوفهم ويقدرون على الأسفار وتحصيل الأقوات قدر ما يكفيهم طول السنة، فلولا حرمة ذلك لهلكوا من الجوع. وأيضا هو سبب لاكتساب الثواب من قبل مناسك الحج وإقامتها. وأما الهدي فإنه نسك للمهدي وقوام لمعايش الفقراء، وكذا القلائد فكان من قلد الهدي أو قلد نفسه من لحاء شجر الحرم لم يتعرض له أحد، وكل ذلك لأن الله تعالى أوقع في قلوبهم تعظيم الكعبة وما يتعلق بها ذلك الذي ذكر من جعل الكعبة قياما للناس أو من حفظ حرمة الإحرام والحرم مشروع لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وذلك أنه علم في الأزل أن مقتضى طباع العرب الحرص على القتل والغارة وكان ذلك مما يفضي إلى الفناء وانقطاع النسل، فدبر هذا التدبير المحكم والفعل المتقن كي يصير سببا للأمان في بعض الأمكنة وفي بعض الأزمان فتستقيم مصالح الإنسان. ولا ريب أن مثل هذا التقدير والتدبير لا يصح إلا ممن يعلم الكائنات وأسبابها وغاياتها بل يعلم المعلومات بأسرها كلياتها وجزئياتها قديمها وحديثها، عللها ومعلولها، موجودها ومعدومها، وذلك قوله وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فما أحسن هذا الترتيب! ثم خوّفهم وأطمعهم بقوله اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن انتهك محارمه وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن حافظ عليها. وذكر الوصفين في جانب الرحمة دليل على أن جانب الرحمة أغلب كما
قال «سبقت رحمتي غضبي» «1» .
ثم قرر أن الرسول ما كان مكلفا إلا بالتبليغ فإذا بلغ خرج من العهدة وبقي الأمر من جانبكم وأنه تعالى يعلم جهركم وسركم، وفيه من الوعيد ما فيه،
عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الله عز وجل حرم عليكم عبادة الأوثان وشرب الخمر والطعن في الأنساب ألا وإن الخمر لعن الله شاربها وعاصرها وساقيها وبائعها وآكل ثمنها» «2» . فقام إليه أعرابي فقال: يا رسول الله إني كنت رجلا كانت هذه تجارتي واستفدت
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 55. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 35. أحمد في مسنده (3/ 242، 258) .
(2) رواه أبو داود في كتاب الأشربة باب 2. الترمذي في كتاب البيوع باب 58. ابن ماجه في كتاب الأشربة باب 6. أحمد في مسنده (2/ 25، 71) .(3/22)
من بيع الخمر مالا فهل ينفعني ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل عند الله جناح بعوضة، إن الله لا يقبل إلا الطيب، وأنزل الله عز وجل تصديقا لقول رسوله قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ
وهو عام في حرام الأموال وحلالها وفاسد الأعمال وصالحها وسقيم المذاهب وصحيحها ورديء النفوس وجيدها، وأخبث الخبائث الروحانية الجهل والمعصية، وأطيب الطيبات الروحانية معرفة الله تعالى وطاعته، والبون بين الصنفين في العالم الروحاني أبعد منه في العالم الجسماني، لأن أثرهما في عالم الأرواح أبقى وأدوم وأجل وأعظم، فلا تستبدل الخبيث يا إنسان بالطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث، لأن كثرته في التحقيق قلة، ولذته في نفس الأمر ذلة، ونقده زيف وصرف العمر في طلبه حيف.
التأويل:
لا تُحَرِّمُوا على أنفسكم بالاستمتاعات النفسانية طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ دون سائر المخلوقات من المواهب الربانية وَلا تَعْتَدُوا ولا تجاوزوا عن حد العبودية وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ واجتهدوا في طلب ما خصكم به الله من تجلي جماله وجلاله حَلالًا طَيِّباً يحل فيكم بريئا من سمات النقائص. بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ أن تحلفوا بآلائه عن التبرم من ولائه لملالة النفوس وكلالة القوي واستيلاء النفس وغلبة سلطان الهوى في أثناء المجاهدات وإعواز المشاهدات وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ إذا عزمتم على الهجران وتعرضتم للخذلان فَكَفَّارَتُهُ حينئذ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ الحواس الظاهرة والباطنة.
مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ وهم القلب والسر والروح والخفاء، طعامهم الشوق والمحبة والصدق والإخلاص والتفويض والتسليم والرضا والأنس والهيبة والشهود والكشوف، وأوسطه الذكر والتذكر والفكر والتفكر والشوق والتوكل والتعبد والخوف والرجاء يشغل الحواس العشرة بهذه الأمور، أو يكسوهم لباس التقوى، أو يحرر رقبة النفس من عبودية الحرص والهوى فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أمسك في اليوم الماضي عما عزم عليه وفي اليوم الحاضر عما لا يعنيه وفي اليوم المستقبل عن العود إليه. ومن لغو اليمين عند أرباب اليقين أن الطالب الصادق عند غلبات الشوق ووجدان الذوق يقسم عليه بجماله وحلاله أن يرزقه شيئا من إقباله ووصاله وذلك في شريعة الرضا لغو، وفي مذهب التسليم سهو ولكن يرجى له عفو فلا يؤاخذه بمقاله لعلمه بضعف حاله والكمال في الثبات والاستقامة.
أريد وصاله ويريد هجري ... فأترك ما أريد لما يريد
ومن اللغو في اليمين عندهم ما يجري على لسانهم في حال غلبات الوجد من تجديد(3/23)
العهد وتأكيد العقد كقول بعضهم:
وحقنك ما نظرت إلى سواكا ... بعين مودّة حتى أراكا
فإن هذا ينافي التوحيد وأين في الدار ديار كلا بل هو الله الواحد القهار لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا بالتقليد وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الأعمال البدنية الشرعية جُناحٌ فِيما طَعِمُوا من المباحات إِذا مَا اتَّقَوْا الشبهة والإسراف وَآمَنُوا بالتحقيق بعد التقليد وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الأعمال القلبية الحقيقية من تخلية القلب عما سواه ومن تحليته بالأخلاق المضادة لهواه كالصدق والإخلاص والتوكل والتسليم وما عداه ثُمَّ اتَّقَوْا شرك الأنانية وَآمَنُوا بهويته ثُمَّ اتَّقَوْا هذا الشرك وهو الفناء في الفناء وَأَحْسَنُوا وهو البقاء به فافهم جعل الله البلاء لأهل الولاء كاللهب للذهب فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إيمان المحسنين الذين تجردوا عن ملاذ الدنيا وشهواتها الحلال وأحرموا بحج الوصول وعمرة الوصال لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ في أثناء السلوك بشيء من الصيد وهو المطالب النفسانية والمقاصد الدنيوية الدنية. تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ يعني اللذات البدنية ورماحكم يعني اللذات الخيالية فَلَهُ عَذابٌ الردّ والصد لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يعني من أحرم لزيارة كعبة الوصال فعليه حسم الأطماع من الحرام والحلال مُتَعَمِّداً أي عالما بما في الالتفات إلى غيره من المضار مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يجازي نفسه برياضة ومجاهدة يماثل ألمها تلك اللذة ذَوا عَدْلٍ هما القلب والروح يحكمان على مقدار الإسلام وعلى حسب قوّة السالك بتقليل الطعام والشراب، أو ببذل المال أو بترك الجاه أو بالعزلة وضبط الحواس هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ خالصا عن الخلق لأجل الحق طَعامُ مَساكِينَ هم العقل والقلب والسر والروح والخفاء كانوا محرومين عن أغذيتهم الروحانية فيطعمهم المعاملات الروحانية من صدق التوجه والصبر على المكاره والفطام عن المألوفات ومن الشكر والرضا وغير ذلك. أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً هو الإمساك عن الأغيار والركون إلى الواحد القهار لتذوق النفس الأمارة وبال أمرها، فإن كل هذه الأمور على خلاف طبعها ذُو انْتِقامٍ ينتقم من أحبائه بنقاب الدلال، ومن أعدائه بحجاب الملام والملال. أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ بحر المعارف والكشوف تنتفعون بالواردات وتطعمون منها السائرين إلى الله من أهل الإرادات صَيْدُ الْبَرِّ ما سنح للسائرين من مطالب الدنيا ما دُمْتُمْ حُرُماً أي في حال المحو لا في حال الصحو. جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ كعبة الظاهر قِياماً للعوام والخواص يستنجحون بها حاجاتهم الدنيوية والأخروية، وكعبة القلب قواما للخواص ولخواص الخواص يلوذون بها بدوام الذكر ونفي الخواطر حتى يعلموا أن لا(3/24)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
موجود إلا هو، ولا وجود إلا له الْبَيْتَ الْحَرامَ حرام أن يسكن في كعبة القلب غيره والشهر الحرام هو أيام الطلب حرام على الطالب فيها مخالطة الخلق وملاحظة ما سوى الحق. والهدي هو النفس البهيمية تساق إلى كعبة القلب مع قلائد أركان الشريعة فتذبح على عتبة القلب بسكين آداب الطريقة عن شهواتها، فإذا وصل العبد إلى كعبة القلب شاهد بأنواره أن لله ما في السموات وما في الأرض. شَدِيدُ الْعِقابِ يسدل الحجاب لغير الأحباء غفور رحيم للصادقين في الطلب بفتح الأبواب إِلَّا الْبَلاغُ بالقال يتلو عليهم آياته وبالحال ويزكيهم ما تُبْدُونَ بإقرار اللسان وَما تَكْتُمُونَ من تصديق الجنان الخبيث ما يشغلك عن الله والطيب ما يوصلك إلى الله بل الطيب هو الله والخبيث ما سوى الله وفي ذلك كثرة والله أعلم. قول الله عز وجل.
[سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 120]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110)
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)
وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)(3/25)
القراآت:
يُنَزَّلُ من الإنزال: أبو عمرو وابن كثير وسهل ويعقوب شَهادَةُ بالتنوين آلله بالمد: روح وزيد. الباقون بالإضافة. «استحق» على البناء للفاعل: حفص والأعشى في اختياره الباقون على البناء للمفعول. الْأَوْلَيانِ جمع الأول نقيض الآخر.
سهل ويعقوب وحمزة وخلف وعاصم غير حفص والأعشى في اختياره الباقون الْأَوْلَيانِ تثنية الأولى الأحق الْغُيُوبِ بكسر الغين حيث كان: حمزة وحماد وأبو بكر غير الشموني والبرجمي والخزاعي عن ابن فليح في سِحْرٌ وكذلك في هود والصف: حمزة وعلي وخلف الباقون سِحْرٌ هل تستطيع بتاء الخطاب رَبُّكَ بالنصب: علي والأعشى في اختياره، الباقون بالياء وبالرفع أَنْ يُنَزِّلَ بالتخفيف من الإنزال: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون بالتشديد مُنَزِّلُها بالتشديد: عاصم وأبو جعفر ونافع وابن عامر.
الباقون بالتخفيف فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع وَأُمِّي بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وحفص لِي أَنْ بالفتح: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وأبو عمرو. الباقون بالسكون يَوْمُ يَنْفَعُ بفتح الميم: نافع. الباقون بالرفع.
الوقوف:
تَسُؤْكُمْ ج لابتداء شرط آخر مع واو العطف. تُبْدَ لَكُمْ ط عَنْها ط(3/26)
حَلِيمٌ هـ كافِرِينَ هـ وَلا حامٍ لا للاستدراك. الْكَذِبَ ط لا يَعْقِلُونَ هـ آباءَنا ط وَلا يَهْتَدُونَ هـ أَنْفُسَكُمْ ج لاحتمال الاستئناف أو الحال أي احفظوا أنفسكم غير مضرورين إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ط تَعْمَلُونَ هـ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ ط قُرْبى ز لأن قوله وَلا نَكْتُمُ من جواب القسم. شَهادَةُ ط لمن قرأ آلله بالمد الْآثِمِينَ هـ وَمَا اعْتَدَيْنا ز لظاهر «إن» والوصل أجوز لتعلق «إذا» بقوله وَمَا اعْتَدَيْنا ز الظَّالِمِينَ هـ أَيْمانِهِمْ ط لابتداء الأمر وَاسْمَعُوا ط الْفاسِقِينَ هـ أُجِبْتُمْ ط لَنا ط الْغُيُوبِ هـ والِدَتِكَ لا لئلا يوهم أنه ظرف لا ذكر بل عامله محذوف والتقدير: واذكر إذ أيدتك وَكَهْلًا ج وَالْإِنْجِيلَ ج وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي ج الْمَوْتى ج لأن «إذ» يجوز تعلقه تعلق به «إذ» الأول، ويمكن تعلق كل واحد بمحذوف آخر لتفصيل النعم سِحْرٌ مُبِينٌ هـ وَبِرَسُولِي ط لاحتمال أن قالوا مستأنف أو عامل في إِذْ أَوْحَيْتُ مُسْلِمُونَ مِنَ السَّماءِ الأولى ط مُؤْمِنِينَ هـ الشَّاهِدِينَ هـ وَآيَةً مِنْكَ ج لاتفاق الجملتين مع وقوع العارض الرَّازِقِينَ هـ عَلَيْكُمْ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب الْعالَمِينَ هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ ط ما لَيْسَ لِي ط قد قيل وهو تعسف لأن المنكر لا يقسم به والقسم لا يجاب بالشرط بل الوقف على بِحَقٍّ عَلِمْتَهُ ط نَفْسِكَ ط الْغُيُوبِ هـ وَرَبَّكُمْ ج على أن الواو للاستئناف أو الحال أي وقد كنت فِيهِمْ ط لأن عامل «لما» متأخر وفاء التعقيب دخلتها عَلَيْهِمْ ط لأن الواو لا يحتمل الحال للتعميم في كل شيء شَهِيدٌ هـ عِبادُكَ ج لابتداء الشرط مع الواو الْحَكِيمُ هـ صِدْقُهُمْ ط لاختلاف الجملتين بلا عطف أَبَداً ط عَنْهُ ط الْعَظِيمُ هـ وَما فِيهِنَّ ط قَدِيرٌ هـ.
التفسير:
عن أنس أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكثروا المسألة فقام على المنبر فقال:
فاسألوني فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به. فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه فقال: يا نبي الله من أبي؟ فقال: أبوك حذافة بن قيس وقال سراقة بن مالك- ويروى عكاشة بن محصن- يا رسول الله الحج علينا في كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعاد مرتين أو ثلاثا فقال صلى الله عليه وسلم: ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم، والله إن قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لتركتم، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه. وقام آخر فقال: يا رسول الله أين أبي؟ فقال: في النار. ولما اشتد غضب الرسول صلى الله عليه وسلم قام عمر فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا. فأنزل الله هذه الآية.
فهي عائدة إلى قوله ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ كأنه قال: ما آتاكم الرسول فخذوه ولا تخوضوا في غيره فلعله يجيبكم بما يشق عليكم.(3/27)
وأيضا كان المشركون يطالبونه بعد ظهور المعجزات بمعجزات أخر كقوله حاكيا عنهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] إلى تمام الآية. وكان لبعض المسلمين أيضا ميل إلى ظهورها فمنعوا ذلك لأن طلب الزيادة بعد ثبوت الرسالة من باب التحكم، ولعلها لو ظهرت ثم أنكرت استحق المنكر العقاب العاجل، ويحتمل أن يكون وجه النظم قوله وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ [النور: 29] فاتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أشياء مخفية إن تبد لكم تسؤكم. وللنحويين في منع صرف أشياء وجوه، فقال الخليل وسيبويه: أصلها «شياء» على وزن «حمراء» فهو اسم جمع لشيء استثقلوا الهمزتين في آخره فنقلوا الهمزة التي هي لام الفعل إلى أوّل الكلمة فصار وزنه «لفعاء» . وقال الفراء: أصلها «أفعلاء» بناء على أن «شيا» مخفف شيء كما يقال «هين» في «هين» وقد يجمع «فيعل» على «أفعلاء» كنبي وأنبياء، لكنهم استثقلوا اجتماع الياء والهمزتين فحذفوا اللام فبقي «أشياء» على وزن «أفعاء» . وقال الكسائي: وزنها «أفعال» ومنع الصرف تشبيها له بحمراء. ولا يلزم منه منع صرف «أبناء» و «أسماء» لأن ما ثبت على خلاف الدليل لا يلزم اطراده ولكنه يكون مقصورا على المسموع. والحاصل أن السؤال عن الأشياء ربما يؤدي إلى ظهور أحوال مكتومة يكره ظهورها وربما ترتب عليها تكاليف شاقة صعبة. فالذي سأل عن أبيه لم يأمن أن يلحق بغير أبيه فيفتضح، والسائل عن الحج كاد أن يوجبه في كل عام
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته» «1»
وكان عبيد بن عمير يقول: إن الله أحل وحرم، فما أحل فاستحلوه وما حرم فاجتنبوه، وترك بين ذلك أشياء لم يحللها ولم يحرمها فذلك عفو من الله تعالى فاقبلوه. وقال أبو ثعلبة: إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها وحدّ حدودا فلا تعتدوها وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها. ثم لما رتب المساءة على السؤال ذكر أن الإبداء سيكون لأن الوحي غير منقطع فقال وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أي في زمان الوحي لأن الرسول بين أظهركم تُبْدَ لَكُمْ تلك الأمور أو التكاليف. فالحاصل أنهم إن سألوا عنها أبديت لهم وإن أبديت لهم ساءتهم فيلزم من المقدمتين أنهم إن سألوا عنها ساءتهم. وقيل: السؤال قسمان: أحدهما السؤال عن شيء لم يجر ذكره في الكتاب والسنة فنهى عنه بقوله لا تَسْئَلُوا والثاني السؤال عن شيء نزل به القرآن. لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي وهذا السؤال غير مذموم فأشار إلى هذا القسم بقوله: وَإِنْ تَسْئَلُوا رفعا للحرج وتمييزا لهذا القسم من الأوّل. وإنما حسن عود الضمير
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الاعتصام باب 3. مسلم في كتاب الفضائل حديث 132- 133.(3/28)
في «عنها» إلى الأشياء وإن كانا في الحقيقة نوعين مختلفين، لأن كلا منهما مسؤول عنه في الجملة. وقيل: المعنى وإن تسألوا عن تلك السؤالات هل هي جائزة أم لا تبد لكم. والمراد أن تطلب الرخصة في السؤال أوّلا ثم يسأل عَفَا اللَّهُ عَنْها أي عما سلف من مسألتكم وإغضابكم الرسول فلا تعودوا» إليها، أو المراد بالعفو أنه تعالى ما أظهر عند تلك المسائل ما يشق عليهم من التكاليف. وقيل: إن الجملة صفة أخرى للأشياء كما أن الجملة الشرطية والمعطوف عليها صفة لها. والمعنى لا تسألوا عن أشياء أمسك الله عنها وكف عن ذكرها كما
جاء في الحديث «عفوت عن صدقة الخيل والرقيق» «1»
أي خفف عنكم بإسقاطها قَدْ سَأَلَها يعني المسألة التي دل عليها لا تسألوا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ سأل الناقة قوم صالح فعقروها، وسأل الرؤية قوم موسى عليه السلام فصار وبالا عليهم، وسأل المائدة قوم عيسى عليه السلام فكفروا بها، ويحتمل أن يعود الضمير في سألها إلى الأشياء فكأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم سألوا عن أحوال الأشياء والمتقدمين سألوا نفس الأشياء كالناقة والمائدة والرؤية فلما اختلفت الأسئلة اختلفت العبارة إلا أن كل واحد من القسمين يشتركان في وصف هو الخوض في الفضول والشروع فيما لا يعني فتوجه الذم عليهما جميعا. ولما منعهم عن أمور تكلفوا البحث عنها ذم سيرة قوم تكلفوا التزام أمور لم يؤمروا بها. ومعنى ما جَعَلَ ما حكم بذلك ولا شرع. والبحيرة «فعلية» من البحر الشق. وبحر ناقته إذا شق أذنها وهي بمعنى المفعول. قال أبو عبيدة والزجاج: كان أهل الجاهلية إذا نتجت الناقة خمسة أبطن وكان آخرها ذكرا شقوا أذن الناقة ومنعوا ركوبها وسيبوها لآلهتهم لا تنحر ولا يحمل على ظهرها ولا تطرد عن ماء ولا تردّ عن مرعى ولا ينتفع بها حتى لو لقيها المعي لا يركبها تحرجا. وأما السائبة فإنها فاعلة من «ساب» إذا جرى على وجه الأرض. يقال: ساب الماء وسابت الحية، فالسائبة هي التي تركت حتى تسيب إلى حيث شاءت، قال أبو عبيدة: كان الرجل إذا مرض أو قدم من سفر أو نذر نذرا أو شكر نعمة سيب بعيره فكان بمنزلة البحيرة في أحكامها. وقيل: هي أم البحيرة كانت الناقة إذا ولدت عشرة أبطن كلهن إناث سيبت فلم تركب ولم يشرب لبنها إلا ولدها أو الضيف حتى تموت، فإذا ماتت أكلها الرجال والنساء جميعا وبحرت أذن بنتها الأخيرة وكانت بمنزلة أمها في أنها سائبة. وقال ابن عباس: السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق لها وكان الرجل يسيب من ماله ما يشاء فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها أبناء السبيل. وقيل: هي العبد يعتق على أن لا يكون عليه ولاء ولا
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الزكاة باب 3. أبو داود في كتاب الزكاة باب 5. النسائي في كتاب الزكاة باب 18. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 4، 15. الدارمي في كتاب الزكاة باب 7. أحمد في مسنده (1/ 18، 92، 132، 146) .(3/29)
ميراث. وأما الوصيلة فإذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم، وإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها فلم يذبحوا الذكر لآلهتهم. فالوصيلة بمعنى الموصولة كأنها وصلت بغيرها أو بمعنى الواصلة لأنها وصلت أخاها. وأما الحامي فيقال:
حماه يحميه إذا حفظه. قال السدي: هو الفحل الذي يضرب في الإبل عشر سنين فيخلى.
وقيل: إن الفحل إذا ركب ولد ولده قالوا قد حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى إلى أن يموت. فإن قيل: إذا جاز إعتاق العبيد والإماء فلم لا يجوز إعتاق البهائم من الذبح والإيلام؟ فالجواب أن الإنسان خلق لعبادة الله تعالى فإذا أزيل الرق عنه كان ذلك معينا له على ما خلق لأجله، أما العجم من الحيوانات فإنما خلقت لمنافع المكلفين فتركها يقتضي تفويت كمالها عليها. وأيضا الإنسان إذا أعتق قدر على تحصيل المنافع ودفع المضار بخلاف البهائم فإنها عاجزة عن جذب الملائم ودفع المنافي في الأغلب، فإعناقها يفضي إلى ضياعها فظهر الفرق. وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ قال ابن عباس: يريد عمرو بن لحى وأصحابه كان قد ملك مكة شرفها الله وكان أوّل من غير دين إسماعيل فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حقه «لقد رأيته في النار يؤذي أهل النار ريح قصبه»
والقصب الأمعاء هذا حال رؤسائهم وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ يعني العوام والأتباع. ثم رد على أهل التقليد بقوله وَإِذا قِيلَ لَهُمْ الآية وقد مر تفسير مثله في سورة البقرة. فنفى العقل عنهم هناك والعلم هاهنا مع نفي الاهتداء في الموضعين وفيه دليل على أن الاقتداء لا يجوز إلا بالعاقل العالم المهتدي لابتناء قوله على الحجة والدليل لا على التقليد والأضاليل. قال أهل البرهان: العلم أبلغ درجة من العقل ولهذا يوصف الله تعالى بالعلم ولا يوصف بالعقل، وكان دعواهم هاهنا أبلغ لقولهم حَسْبُنا ما وَجَدْنا فناسب أن ينفي عنهم العلم الذي هو أبلغ. ثم ذكر أن هؤلاء الجهال مع ما تقدم من أنواع المبالغة في الإعذار والإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل أصروا على جهالتهم وضلالتهم فلا تبالوا بهم أيها المؤمنون، فإن جهلهم لا يضركم إذا كنتم منقادين لتكاليف الله مطيعين لأوامره ونواهيه. تقول العرب: عليك زيدا وعندك عمرا يعدّونهما إلى المفعول كأنه قيل:
خذ زيدا فقد علاك أي أشرف عليك وحضرك عمرو فخذه. وليس المراد في عليك أنه حرف جر مع مجروره متعلق بمحذوف، بل الجار والمجرور معا منقول إلى معنى الفعل نقل الأعلام ولهذا سمي اسم فعل. فإن قيل: ظاهر الآية يوهم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بواجب، فالجواب المنع فإن الآية لا تدل إلا على أن المطيع لربه غير مؤاخذ بذنب العاصي وهذا
خطب أبو بكر فقال: إنكم تقرءون هذه الآية وتضعونها في غير موضعها(3/30)
وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأوا المنكر فلم ينكروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب.
وعن عبد الله بن المبارك أن هذه الآية آكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن معنى عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ احفظوها والزموا صلاحها بأن يعظ بعضكم بعضا ويرغبه في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات لا يَضُرُّكُمْ ضلال مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ فأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فإنكم خرجتم عن عهدة تكليفكم كما قال الله لرسوله صلى الله عليه وسلم فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء: 84] وقيل: إن الآية مخصوصة بما إذا خاف الإنسان عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على نفسه أو على عرضه أو على ماله. وكان ابن شبرمة يقول: من فرّ من اثنين فقد فر ومن فر من ثلاثة فلم يفر. وقيل: إنها مختصة بالكفار الذين علم الله أنه لا ينفعهم الوعظ، يؤكده ما
روي في سبب النزول عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أقر مجوس هجر بالجزية قال منافقو العرب: عجبا من محمد يزعم أن الله بعثه ليقاتل الناس كافة حتى يسلموا ولا يقبل الجزية إلا من أهل الكتاب فلا نراه إلا قد قبل من مشركي أهل هجر ما رد على مشركي العرب فأنزل الله تعالى الآية
أي لا يضركم ملامة اللائمين إذا كنتم على الهدى والحق. وقيل: كان المؤمنون تذهب أنفسهم حسرة على أهل العناد من الكفرة فنزلت تسلية لهم كما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر: 8] وعن ابن مسعود أن الآية قرئت عنده فقال: إن هذا في آخر الزمان. ومثله ما
روي عن أبي ثعلبة الخشني أنه سئل عن ذلك فقال للسائل: سألت عنها خبيرا سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال: ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا ما رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع أمر العوام، وإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كقبض على الجمر للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله.
وقيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت آباءك ولاموه فنزلت.
ثم إنه سبحانه لما أمر بحفظ النفس في قوله عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أمر بحفظ المال.
عن ابن عباس أن تميما الداري وأخاه عديا- وكانا نصرانيين-، خرجا إلى الشام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص- وكان مسلما مهاجرا- خرجوا للتجارة. فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه وأخفاه بين الأقمشة ولم يخبر صاحبيه بذلك، ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات. ففتشا متاعه فأخذا إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما، فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فرفعوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت.
ومعنى شَهادَةُ بَيْنِكُمْ شهادة ما بينكم أي من التنازع والتشاجر. وإنما أضيفت الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما(3/31)
يحتاج إليهم عند النزاع وَإِذا حَضَرَ ظرف للشهادة حِينَ الْوَصِيَّةِ بدل منه. وفي هذا دليل أن الوصية مما لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم عند ظهور أمارات الموت فكأنّ وقتيهما واحد وهما متلازمان. وارتفع اثْنانِ على أنه قام مقام الخبرية أي شهادة بينكم شهادة اثنين، أو على أنه فاعل فعل محذوف والتقدير شهادة ما بينكم أن يشهد اثنان. وفي قوله مِنْكُمْ ومِنْ غَيْرِكُمْ قولان: فعن الحسن والزهري وعليه جمهور الفقهاء أن مِنْكُمْ أي من أقاربكم ومِنْ غَيْرِكُمْ أي من الأجانب. والمعنى إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من أقاربكم فاستشهدوا على الوصية أجنبيين. وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بحال الميت وأرأف به. وعن ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح ومجاهد وابن جريج وابن سيرين أن مِنْكُمْ أي من أهل ملتكم ومِنْ غَيْرِكُمْ أي من كافر كان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا أو عابد وثن. قال الشافعي: مرض رجل من المسلمين في الغربة فلم يجد أحد من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة وأتيا أبا موسى الأشعري وكان واليا عليها فأخبراه بالواقعة. فقال أبو موسى: هذا أمر لم يقع بعد النبي صلى الله عليه وسلم فحلفهما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر بالله العظيم أنهما ما كذبا وما بدلا وأجاز شهادتهما. والذاهبون إلى هذا القول احتجوا بأن الخطاب في مِنْكُمْ لجميع المؤمنين فيلزم أن يكون غيرهم كافرين، وبأن هذين الشاهدين لو كانا مسلمين لم يكن الاستشهاد بهما مشروطا بالسفر لجواز ذلك في الحضر أيضا بالاتفاق، وبأنه تعالى أوجب الحلف عليهما والشاهد المسلم لا يجب تحليفه البتة، وبأن الشاهدين في سبب النزول كانا نصرانيين وبأن أبا موسى قضى بذلك ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، وبأن الضرورات تبيح المحظورات كالتيمم والإفطار وأكل الميتة، والمسلم إذا قرب أجله ولم يجد مسلما ولا تقبل شهادة الكفار ضاع أكثر مهماته فقد يكون عليه زكوات وكفارات وديون ولديه ودائع وله مصالح ولمثل هذه الضرورة جوّزنا شهادة النساء فيما يتعلق بأحوال النساء كالحيض والحبل والولادة. وللأولين أن يجيبوا بأن حذف المضاف غير عزيز وبأن ذكر السفر ليس لأجل اشتراط قبول الشهادة ولكن لأجل أن الغالب في السفر فقدان الأقارب ووجود الأجانب، وبأن التحليف مشروط بالريبة
وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما،
وبأن سبب النزول لا يلزم أن ينطبق على الحكم حذو القذة بالقذة، وبأن قصة أبي موسى خبر الواحد، وبأن الضرورة كانت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذرهم في السفر غالبا. ومما يصلح أن يكون مؤكدا لهذه الآية وإن لم يجز أن يكون ناسخا لها عند من يرى أن المائدة من آخر القرآن نزولا قوله تعالى وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ(3/32)
عَدْلٍ مِنْكُمْ
[الطلاق: 2] وليس المراد من العدالة الاحتراز عن الكذب في النطق فقط بل في الدين والاعتقاد، ولا كذب أعظم من الفرية على الله تعالى وعلى رسله. وإنما تقبل شهادة أهل البدع والأهواء من هذه الأمة احتشاما لكلمة الإسلام. وموقع تَحْبِسُونَهُما أي توقفونهما وتصيرونهما استئناف كأنه قيل: فكيف نعمل إن ارتبنا؟ فقيل تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ قال ابن عباس: من بعد صلاة دينهما. وقال عامة المفسرين: من بعد صلاة العصر لأن هذا الوقت كان معروفا عندهم بالتحليف بعده، ولفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث دعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر بعد صلاة العصر، ولأن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله تعالى فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب، وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها. وقال الحسن: المراد بعد الظهر وبعد العصر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما. وقيل: بعد أي صلاة كانت لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. قال الشافعي: الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان، فيحلف بعد العصر بمكة بين الركن والمقام وبالمدينة عند المنبر، وفي بيت المقدس عند الصخرة، وفي سائر البلدان في أشرف المساجد. وقد تغلظ بالتكرير والتعديل كما في القسامة واللعان أو بزيادة الأسماء والصفات، وقال أبو حنيفة: يحلف من غير التغليظ بزمان أو مكان. ولا يخفى أن قول الشافعي أوفق للآية. والمقسم عليه قوله لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وقوله إِنِ ارْتَبْتُمْ اعتراض، والضمير في بِهِ، للقسم وفي كان للمقسم له يعني لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضا من الدنيا ولو كان من يقسم له قريبا منا، أرادوا أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبدا كقوله شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ وخص ذا القربى بالذكر لأن الميل إليهم أتم والمداهنة بينهم أكمل وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ [النساء:
135] التي أمر بحفظها وتعظيمها وأدائها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ أي إذا كتمناها كنا من الآثمين. ونقل عن الشعبي أنه وقف على قول الله عز وجل شَهادَةُ ثم ابتدأ اللَّهِ بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه. وروى عنه بغير مدّ على ما ذكره سيبويه أن منهم من يقول: الله لقد كان كذا والمعنى بالله فَإِنْ عُثِرَ قال الليث: عثر الرجل يعثر عثورا إذا هجم على أمر لم يهجم عليه غيره وقريب منه العثار لأن العاثر إنما يعثر بشيء كان لا يراه. والمعنى فإن حصل الاطلاع على أنهما استحقا إثما- وهو كناية عن الخيانة والحنث في الحلف- فَآخَرانِ خبر مبتدأ محذوف، أو فاعل فعل محذوف، أو صفة مبتدأ محذوف أي فالشاهدان أو فليشهد أو فشاهدان آخران يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ قال في الكشاف: أي الإثم ومعناه من الذين جني عليهم وهم أهل الميت وعشيرته. وفي التفسير الكبير أنه المال. وإنما وصف موالي الميت بذلك لأنه أخذ مالهم وكل من أخذ(3/33)
ماله غيره فقد حاول ذلك الغير أن يكون تعلقه بذلك المال مستعليا على تعلق مالكه به فصح أن يوصف المالك بأنه قد استحق عليه ذلك المال. وارتفع الْأَوْلَيانِ على أنهما خبر مبتدأ محذوف فكأنه قيل: ومن الآخران؟ فقيل: هما الأوليان، ويجوز أن يكون بدلا من الضمير في يَقُومانِ أو من فَآخَرانِ ويجوز أن يرتفع ب اسْتَحَقَّ أي من الذين استحق عليهم انتداب الأولين منهم للشهادة لاطلاعهم على حقيقة الحال- قاله في الكشاف- ومعنى الأوليان الأقربان إلى الميت أو الأوليان الأحقان بالشهادة لقرابتهما ومعرفتهما، أو الأحقان باليمين إما على تقدير الرد وذلك عند الشافعي وكل من يرى رد اليمين على المدعي، وإما لانقلاب القضية عند من يرى ذلك كأبي حنيفة وأصحابه، فإن من أقر لآخر بدين ثم ادعى أنه قضاه حكم برد اليمين إلى الذي ادّعى الدين أوّلا لأنه صار مدعى عليه أنه قد استوفاه. وفي هذه القصة ادعى الوصيان أن الميت باع منهما الإناء، والورثة أنكروا فكان اليمين حقا لهم. ومن قرأ الْأَوْلَيانِ على الجمع فعلى أنه نعت ل الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ أو منصوب على المدح.
ومعنى الأوّلية التقدم على الأجانب في الشهادة أو التقدم في الذكر في قوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا وكذلك اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ذكرا قبل قوله قرأ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ومن قرأ اسْتَحَقَّ على البناء للفاعل عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فقد قال في الكشاف: معناه من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان من بينهم بالشهادة أن يجردوهما للقيام بالشهادة ويظهروا بهما كذب الكاذبين. وفي التفسير الكبير أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت عينهما للوصية، ولما خانا في مال الوصية صح أن يقال: إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان.
روي أنه لما نزلت الآية الأولى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو إنه لم يوجد منا خيانة في هذا المال فخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما وكتما الإناء مدة، ثم باعاه فوجد بمكة. وقيل: لما طالت المدة أظهراه فبلغ ذلك ورثته فطلبوه منهما فقالا: كنا قد اشتريناه. فقالوا: ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئا فقلتم لا؟ فقالا: لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر وكتمنا. فرفعوا القصة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب بن وداعة فحلفا بالله بعد العصر لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا في طلب هذا المال وفي نسبتهم إلى الكذب والخيانة، فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم الإناء إليهما وإلى أولياء الميت.
وكان تميم الداري يقول بعد إسلامه:
صدق الله وصدق رسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله تعالى. وعن ابن عباس أنه بقيت تلك الواقعة مخفية إلى أن أسلم تميم الداري فقال: حلفت كاذبا وقد بعت الإناء أنا وصاحبي بألف وقسمنا الثمن، ثم دفع خمسمائة من نفسه ونزع من صاحبه خمسمائة أخرى(3/34)
ودفع الألف إلى أولياء الميت ذلِكَ الحكم الذي شرعناه والطريق الذي نهجناه أقرب إلى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي كما هو في الواقع أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ في مثل هذه القضية أَيْمانٌ على الورثة بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وهذا تفسير من يرى ردّ اليمين، وأما من لا يرى ذلك فالمعنى عنده أن تكرّ أيمان شهود آخرين لانقلاب المدعى عليه مدعيا وعلى التقديرين يظهر كذبهم. والحاصل أن هذا الحكم يصير باعثا للشهود على أداء حق الشهادة للداعي أو الصارف وَاتَّقُوا اللَّهَ في الأيمان وَاسْمَعُوا مواعظه سماع قبول وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مناهج شرائعه وأحكامه وفيه من الوعيد ما فيه. قال المفسرون: هذه الآية في غاية الصعوبة إعرابا ونظما وحكما. وروى الواحدي في البسيط عن عمر بن الخطاب أن هذه الاية أعضل ما في هذه السورة من الأحكام، ولهذا ذهب أكثر الفقهاء إلى أن حكم هذه الآية منسوخ.
ثم إنه سبحانه ختم الأحكام بوصف أحوال القيامة وذكر بعض ما سيجري هناك من الخطاب والعتاب جريا على عادته في هذا الكتاب من خلط التكاليف بالإلهيات والنبوّات وأحوال المعاد فقال يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ قال الزجاج: تقديره واتقوا الله يوم كذا لا على أنه ظرف لأنهم غير مأمورين بالتقوى في ذلك اليوم ولكن على أنه بدل اشتمال من اسم الله، ويجوز أن يكون ظرفا لقوله لا يَهْدِي أي لا يهديهم طريق الجنة يومئذ، أو منصوبا بإضمار «اذكر» ، أو ظرفا لما يجيء بعده وهو قالُوا وعلى هذين الوجهين تكون الآية منقطعة عما قبلها. و «ماذا» منصوب ب أُجِبْتُمْ ولكن انتصاب المصدر على معنى أيّ إجابة أجبتم، ولو أريد الجواب لقيل: بماذا أجبتم. وفائدة السؤال توبيخ قومهم كما كان سؤال الموؤدة توبيخا للوائد. ثم ظاهر قوله لا عِلْمَ لَنا يدل على أن الأنبياء لا يشهدون لأممهم، فالجمع بين هذا وبين قوله فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ [النساء: 41] الآية مشكل. فقال جمع من المفسرين: إن للقيامة زلازل وأهوالا تزيل العقول فالأنبياء عندها ينسون أكثر الأمور فهنالك يقولون: لا علم لنا، فإذا عادت إليهم عقولهم شهدوا للأمم. ولا يرد عليه قوله لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 31] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: 62] لأن مواقف القيامة مختلفة، ولأن عدم الخوف في العاقبة لا ينافي الحيرة والدهشة أوّلا. وقال آخرون المراد منه المبالغة في توبيخ الكفرة فإن ذلك هو المقصود من السؤال كما يقول الواحد لغيره: ما تقول في فلان؟
فيقول: أنت أعلم به مني فكأنك قلت: لا يحتاج فيه إلى الشهادة لظهوره. وفيه مع التوبيخ إظهار لتشكي الأنبياء ممن كذبوهم وعادوهم. وقال ابن عباس: نفوا العلم عن أنفسهم عند علام الغيوب ليعلم أن علمهم هناك كلا علم. وقيل: المراد نفي العلم بخاتمة أحوالهم وما(3/35)
كان منهم بعد وفاتهم وإنما الأمور بخواتيمها. وقال في التفسير الكبير: إن الذي عرفوه منهم في الدنيا كان مبنيا على ظاهر أحوالهم كما قال: نحن نحكم بالظاهر وكان ظنا غالبا والأحكام في الآخرة مبنية على حقائق الأمور وبواطنها فلهذا نفوا العلم فإن الظن لا عبرة به في القيامة مع أن السكوت وتفويض الأمر إلى الأعلم الأعدل أقرب إلى الأدب.
وقرىء عَلَّامُ الْغُيُوبِ بالنصب على أن الكلام قد تم عند قوله أَنْتَ أي أنت الموصوف بالجلال والكبرياء، ثم نصب عَلَّامُ الْغُيُوبِ على الاختصاص أو على النداء. ثم عدّد أنواع نعمه على عيسى عليه السلام واحدة فواحدة تنبيها على أنه عبد وليس بإله وتوبيخا للمتمردين من الأمم، وأولى الأمم بذلك النصارى الطاعنون في ذات الله، سبحانه باتخاذ الصاحبة والولد. وموضع إِذْ قالَ رفع بالابتداء على معنى ذاك إذ قال الله أو نصب بإضمار «اذكر» ، أو هو بدل من يَوْمَ يَجْمَعُ وإنما ذكر القول بلفظ الماضي دلالة على قرب القيامة حتى كأنها قد قامت ووقعت كما يقال: الجيش قد أتى إذا قرب إتيانهم، أو ورد على الحكاية كقول الرجل لصاحبه: كأنك بنا وقد دخلنا بلدة كذا فصنعنا كذا. ومحل يا عِيسَى مضموم على أنه منادى مفرد معرفة، أو مفتوح لأنه وصف بابن مضاف إلى علم وهو المختار للتخفيف وكثرة الاستعمال نِعْمَتِي عَلَيْكَ أراد الجمع ووحدت لأنه مضاف يصلح للجنس. وإنما قال وَعَلى والِدَتِكَ لأن النعمة على الولد نعمة على أبويه، ولأن مكارم الأخلاق دليل على طيب الأعراق. إِذْ أَيَّدْتُكَ بدل من نِعْمَتِي أي قوّيتك بِرُوحِ الْقُدُسِ أي بجبريل والقدس هو الله كأنه أضافه إلى نفسه تعظيما له، أو بالروح الطاهرة المقدسة وقد تقدم في البقرة تُكَلِّمُ النَّاسَ حكاية حال ماضية فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا في هاتين الحالتين من غير تفاوت وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ الخط أو جنس الكتب وَالْحِكْمَةَ النظرية والعلمية وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ يعنى الإحاطة بالأسرار الإلهية بعد العلوم المتداولة فَتَنْفُخُ فِيها الضمير للكاف لا للهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء، وكذلك الضمير في فَتَكُونُ والكاف مؤنث بحسب المعنى لدلالتها على الهيئة التي هي كهيئة الطير ومذكر في الظاهر فلهذا عاد الضمير إليه مذكرا تارة كما في آل عمران، ومؤنثا أخرى كما في هذه السورة. وكرر بِإِذْنِي أي بتسهيلي ليعلم أن الكل بأقدار الله تعالى وتمكينه وإظهاره الخوارق على يديه وإلا فهو عبد كسائر عبيده. وَإِذْ كَفَفْتُ يروى أنه لما أظهر هذه المعجزات العجيبة قصد اليهود قتله فخلصه الله تعالى برفعه إلى السماء.
إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ من قرأ بغير ألف أشار إلى ما جاء به أو أراد أنه ذو سحر فأطلق عليه الحدث مبالغة، ومن قرأ بالألف أشار إلى الرجل. واللام في بِالْبَيِّناتِ يحتمل أن تكون للجنس ويحتمل أن يراد بها المعجزات المذكورة. وذكر قول الكفار في حقه إِنْ هذا(3/36)
إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ
يحتمل أن يكون من تمام القصة استطرادا، ويمكن أن يراد بذلك تعداد النعم أيضا لأن كل ذي نعمة محسود، فطعن الكفار فيه يدل على علو شأنه وسموّ مكانه.
وإذا أتتك مذمتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأني كامل
ولابتهاجه بهذه النعم الجسام والمنن العظام كان يلبس الشعر ويأكل الشجر ولا يدخر شيئا لغد يقول مع كل يوم رزقه، لم يكن له بيت فيخرب، ولا ولد فيموت، أينما أمسى بات.
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا إن كانوا أنبياء فظاهر وإلا فالوحي بمعنى الإلهام كقوله وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل: 68] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى [القصص: 7] وهذا أيضا من جملة النعم لأن كون الإنسان مقبول القول عند الناس محبوبا في قلوبهم من أعظم نعم الله تعالى. وقدم الإيمان على الإسلام ليعلم أنهم آمنوا بقلوبهم.
وانقادوا بظواهرهم هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ من قرأ بالتاء وبالنصب فظاهر والمراد هل تستطيع سؤال ربك أي هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله؟ ومن قرأ بالياء وبالرفع فمشكل لأنه تعالى حكى عنهم أنهم قالوا آمنا فكيف يتصوّر مع الإيمان شك في اقتدار الله تعالى؟ وأجيب بوجوه منها: أن حكاية الإيمان عنهم لا يوجب كمالهم وإخلاصهم في ذلك ولهذا قال لهم عيسى اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ومنها أنهم طلبوا مزيد الإيقان والطمأنينة ولهذا قالوا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا ومنها أنهم أرادوا هل هو جائز في الحكمة أم لا، وهذا على أصول المعتزلة من وجوب رعاية الأصلح، أو أرادوا هل قضي بذلك وعلم وقوعه أم لا، فإن خلاف معلومه غير مقدور وهذا عند الأشاعرة. ومنها قول السدّي إن السين زائدة وكذا التاء أي هل يطيع ربك؟ ومنها لعل المراد بالرب جبريل لأنه كان يربيه. ومنها أن المراد بالاستفهام التقرير كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول: هل يقدر السلطان على إشباع هذا؟ يريد أن ذلك أمر جلي لا يجوز للعاقل أن يشك فيه. قال الزجاج: المائدة فاعلة من ماد يميد إذا تحرك فكأنها تميد بما عليها. وذلك أنها لا تسمى مائدة إلا إذا كان عليها طعام فإذا لم يكن عليها طعام فهي خوان. وقال ابن الأنباري: هي من مادة إذا أعطاه كأنها تعطي من تقدم إليه. وقال أبو عبيدة: هي بمعنى «مفعولة» مثل عِيشَةٍ راضِيَةٍ [الحاقة: 21] أي مرضية كأن صاحبها أعطاها الحاضرين. قال عيسى اتَّقُوا اللَّهَ في تعيين المعجزة فإنه كالتحكم. وأيضا اقتراح معجزة بعد ظهور معجزات كثيرة تعنت، أو أمرهم بالتقوى ليتوسلوا بها إلى المطلوب وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق: 2، 3] فأجاب الحواريون بأنا لا نطلب هذه المعجزة بمجردها ولكنا نريد أن نأكل منها فإن الجوع قد غلب علينا ولا نجد طعاما آخر- يروى أنهم سألوها في مفازة على غير ماء ولا طعام- وأن نزداد(3/37)
يقينا وعرفانا وطمأنينة فإن التي شاهدناها منك معجزات أرضية وهذه سماوية فتكون أعجب وأغرب، وأن نعلم صدقك في دعوى النبوّة أو فيما وعدتنا وذلك أنه كان قال لهم: صوموا ثلاثين يوما، وإذا تم صومكم فكل ما سألتموه الله تعالى فإنه يعطيكم. وإذا شاهدنا المعجزة كنا عليها من الشاهدين للذين لم يحضروها من بني إسرائيل، أو نكون من الشاهدين لله تعالى بالقدرة ولك بالنبوّة تَكُونُ لَنا عِيداً صفة للمائدة أو استئناف. وقرىء بالجزم جوابا للأمر. كان نزولها يوم الأحد فلذلك اتخذه النصارى عيدا. والعيد ما يعود إليك في وقت معلوم ومنه العيد لأنه يعود كل سنة بفرح جديد لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا بدل من لنا بتكرير العامل أي لمن في زماننا من أهل ديننا ولمن يأتي بعدنا، أو يأكل منها آخر الناس كما يأكل أوّلهم، أو للمقدّمين منا والأتباع. وقرىء لأولانا وأخرانا بمعنى الأمة أو الجماعة. فقول عيسى رَبَّنا ابتداء بذكر الحق وأَنْزِلْ عَلَيْنا انتقال من الذات إلى الصفات، وقوله تَكُونُ لَنا عِيداً إشارة إلى ابتهاج الروح بالنعمة لا من حيث إنها نعمة بل من حيث إنها صادرة عن المنعم. وقوله وَآيَةً مِنْكَ إشارة إلى كون المائدة دليلا لأصحاب النظر والاستدلال وقوله وَارْزُقْنا إشارة إلى حصة النفس فالحواريون قدّموا غرض النفس وأخروا الأغراض الدينية، وأن عيسى بدأ بالأشرف حتى انتهى إلى الأخس ثم قال وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ وهو عروج مرة أخرى من الخلق إلى الخالق، وعند هذا يظهر التفاوت بين النفوس الكاملة والناقصة والمشرقة والمظلمة. اللهم اجعلنا من أهل الكمال والإشراق بعميم فضلك وجسيم طولك مُنَزِّلُها بالتخفيف والتشديد بمعنى. وقيل: بالتشديد للتكثير وبالتخفيف مرة واحدة عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ قال ابن عباس: يريد مسخهم خنازير. وقيل:
قردة. وقيل: جنسا من العذاب لا يكون مؤخرا إلى الآخرة. وَعَذاباً نصب على المصدر أي تعذيبا والضمير في لا أُعَذِّبُهُ للمصدر، ولو أريد بالعذاب ما يعذب به لم يكن بد من الباء في الموضعين، فقيل: أعذبه بعذاب لا أعذب به أحدا، وأراد بالعالمين عالمي زمانهم. واختلف في أن عيسى عليه السلام سأل المائدة لنفسه أو سألها لقومه وإن كان أضافها إلى نفسه في الظاهر وكلاهما محتمل. أما نزولها فقد قال مجاهد والحسن: إن المائدة ما نزلت بل القوم لما سمعوا العذاب استغفروا وقالوا: لا نريدها وأكدوا هذا القول بأنه وصف المائدة بكونها عيدا لأولهم وآخرهم، فلو نزلت لبقي العيد إلى يوم القيامة. وقال جمهور المفسرين: إنها نزلت لأنه سبحانه وعد إنزالها بقوله إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ ثم إن يوم نزولها كان عيدا لهم ولمن بعدهم ممن كان على شرعهم.
روي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس الصوف ثم قال: اللهم أنزل علينا فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين، غمامة فوقها وأخرى تحتها، وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه السلام(3/38)
وقال: اللهم اجعلني من الشاكرين، اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة. ثم قال لهم: ليقم أحسنكم عملا يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها، فقال شمعون رأس الحواريين: أنت أولى بذلك. فقام عيسى عليه السلام فتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال: بسم الله خير الرازقين. فإذا سمكة مشوية بلا فلوس ولا شوك تسيل دسما، وعند رأسها ملح، وعند ذنبها خل وحولها من ألوان البقول ما خلا الكراث، وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون، وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد. فقال شمعون: يا روح الله أمن طعام الدنيا أم من طعام الآخرة؟ قال: ليس منهما ولكن شيء اخترعه الله بالقدرة العالية، كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله. فقال الحواريون: يا روح الله لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى فقال: يا سمكة احيي بإذن الله فاضطربت ثم قال لها: عودي كما كنت فعادت مشوية. ثم طارت المائدة ثم عصوا بعدها فمسخوا قردة وخنازير.
وقيل: إن عيسى عليه السلام كان شرط عليهم أن لا يسرفوا في الأكل ولا يدخروا فعصوا وادخروا فمسخوا، وَإِذْ قالَ اللَّهُ معطوف على مثله.
والصحيح أن هذا القول أيضا يوم القيامة لقوله عقيب ذلك هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ وقيل: هذا عند رفع عيسى عليه السلام نظرا إلى أن «إذ» للماضي وقد مر توجيه ذلك. أَأَنْتَ قُلْتَ استفهام بطريق الإنكار والغرض منه توبيخ النصارى. قال بعض المشككين: إن أحدا من النصارى لم يذهب إلى القول بإلهية عيسى عليه السلام وأمه مع القول بنفي إلهية الله تعالى. وأجيب بأن الإله هو الخالق وأنهم يعتقدون أن خالق المعجزات والكرامات التي ظهرت على يد عيسى ومريم هو عيسى ومريم وليس لقدرة الله سبحانه في ذلك مدخل، فبهذا التأويل صح ما حكي عنهم. وأقول: يشبه أن يكون المراد بقوله مِنْ دُونِ اللَّهِ أي بعد الله فيكون التوبيخ على التثليث. أو المراد أنه لما دل البرهان على نفي تعدد الإله فمن قال بإلهية عيسى أو أمه لزمه القول بنفي المعبود الحق تعالى عن ذلك ولهذا قال عيسى سُبْحانَكَ أي أنزهك تنزيها من أن يكون لك شريك. ثم لم يجب بأني قلت أو ما قلت لأن ذلك يجري مجرى الطهارة والتبرئة بل أجاب بقوله ما يَكُونُ أي ما ينبغي لي أن أقول قولا لا يحق لي أن أقوله إظهارا لغاية الخضوع والاستكانة. ثم فوّض الأمر إلى علمه المحيط بالكل فقال إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ ثم علل ذلك بقوله تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي تعلم معلومي ولا أعلم معلومك. وذكر النفس ثانيا لأجل المشاكلة وهو من فصيح الكلام، أو تعلم ما أخفي ولا أعلم ما تخفي، أو تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك، أو تعلم ما أقول وأفعل ولا أعلم ما تقول وتفعل- عبارات للمفسرين- ثم أكد ما ذكر بقوله إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ «أن» في قوله أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ إن جعلتها مفسرة(3/39)
فالمفسر إما فعل القول أو فعل الأمر ولا وجه لكليهما. أما فعل القول فيحكى بعده الكلام بلا «أن» فيقال: ما قلت لهم إلا اعبدوا الله اللهم إلا أن يقال: إن المضاف محذوف والتقدير ما أمرتني بقوله، فيكون التفسير الصريح القول المقدر، وصريح القول المقدّر كالفعل المؤوّل بالقول في عدم الظهور حتى يجوز توسيط «أن» . وأما فعل الأمر فمسند إلى ضمير الله، فلو فسرته ب اعْبُدُوا اللَّهَ لم يستقم لأن الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم، وإن جعلتها مصدرية عند من يجوّز دخولها على الطلبية، فإن كان بدلا من ما أَمَرْتَنِي والمبدل في حكم السقوط كان المعنى ما قلت لهم إلا عبادته ولا يستقيم، لأن العبادة لا تقال، وإن جعلته بدلا من الهاء في بِهِ لم يصح أيضا لأنه يؤل المعنى بعد طرح المبدل إلى قولك إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله فيبقى الموصول بلا عائد. فإذن الوجه أن يحمل فعل القول على معناه فيكون أصل المعنى ما أمرتهم إلا بما أمرتني به حتى يستقيم تفسيره بأن اعبدوا الله ربي وربكم إلا أنه وضع القول موضع الأمر رعاية للأدب كيلا يجعل نفسه وربه آمرين ودل على الأصل بذكر «أن» المفسرة. قال في الكشاف: ويجوز أن تكون «أن» مصدرية عطف بيان للهاء لا بدلا، وحينئذ يبقى العائد بحاله وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً كالشاهد على المشهود عليه أمنعهم من التدين بما يوجب التفكير ما دُمْتُ فِيهِمْ مدة دوامي فيما بينهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي بالرفع إلى السماء كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ الحافظ عَلَيْهِمْ المراقب لأحوالهم وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ من الشهادة أو من الشهود بمعنى الحضور.
وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فيه سؤال وهو أنه كيف جاز لعيسى هذا القول والله تعالى لا يغفر الشرك؟ والجواب أن قوله لعيسى عليه السلام أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ مبني على أن قوما من النصارى حكوا عنه هذا الكلام، والحاكي لهذا الكفر عنه لا يكون كافرا بل يكون مذنبا فقط، ولو سلم أنه أشرك فغفران الشرك جائز عندنا وعند جمهور البصريين من المعتزلة لأن العقاب حق الله على المذنب وليس في إسقاطه على الله تعالى مضرة، بل كلما كان الجرم أعظم كان العفو أحسن، إلا أن الدليل السمعي في شرعنا دل على أنه لا يكون فلعل هذا الدليل السمعي لم يكن موجودا في شرع عيسى عليه السلام، أو لعل عيسى جوّز أن يكون بعضهم قد تاب عنه. أما من زعم أن هذه المناظرة والمحاورة إنما كانت عند رفعه إلى السماء فلا إشكال أصلا لأن المراد إن توفيتهم على هذا الكفر وعذبتهم فإنهم عبادك فلك ذاك، وإن أخرجتهم بتوفيقك من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان وغفرت لهم ما سلف منهم فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر على ما تريد الْحَكِيمُ في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك، وفى(3/40)
مصحف عبد الله فإنك أنت الغفور الرحيم وضعفه العلماء لأن ذلك يشعر بكونه شفيعا لهم لا على تفويض الأمر بالكلية إلى حكمه تعالى، والمقام مقام هذا لا ذاك، وعن بعضهم أن ذكر الغفور والرحيم يشبه الحالة الموجبة للمغفرة والرحمة، وأما العزة والحكمة فلا يوجبان إلا التعالي عن جميع جهات الاستحقاق، فحصول المغفرة بعد ثبوت هذا الاستغناء والعزة يكون أدل على كمال العفو والرحمة فإن العفو عند المقدرة. قال بعض العلماء: في الآية نوع شفاعة من عيسى عليه السلام لفساق أمته، فلأن يثبت ذلك من محمد صلى الله عليه وسلم لفساق أمته أولى هذا يَوْمُ يَنْفَعُ من قرأ بالرفع فظاهر وأنه في تقدير الإضافة أي هذا يوم منفعة الصادقين، ومن قرأ بالنصب فإما على أنه ظرف ل قالَ، وإما على أن هذا مبتدأ والظرف خبر أي هذا الذي ذكرنا من كلام عيسى واقع في هذا اليوم كقولك: القتال يوم السبت.
وقال الفراء: يوم أضيف إلى ما ليس باسم فبني على الفتح كما في «يومئذ» وخطأه البصريون وقالوا: إنما يبنى الظرف إذا أضيف إلى المبنى كالماضي في قول النابغة:
على حين عاتبت المشيب على الصبا أو مثل «لا» في قوله تعالى يَوْمَ لا تَمْلِكُ [الانفطار: 19] وأجمعوا على أن هذا اليوم يوم القيامة. والمراد أن صدقهم في الدنيا ينفعهم في القيامة كما قال قتادة: متكلمان تكلما يوم القيامة: أما إبليس فقال إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ [إبراهيم: 22] فصدق وكان قبل ذلك كاذبا فلم ينفعه، وأما عيسى فكان صادقا في الدنيا وفي الآخرة فنفعه صدقه. وفي هذا الكلام تصديق من الله تعالى لعيسى في قوله ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ هما متلازمان لأن رضا الله عن العبد في رعاية وظائف العبودية وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] وإذا صحح الإنسان نسبة العبودية علم أن العبد لا يكون له إرادة واختيار فتكون إرادته مغمورة في إرادة ربه. ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ إشارة إلى جميع المذكورات أو إلى الجزء الأشرف الأقرب وهو الرضوان ما فِيهِنَّ لم يقل «ومن فيهن» ليكون أدل على العموم، ولينبه على أن عقول ذوي العقول وعلوم أرباب العلوم بالنسبة إلى علمه كلا علم، وإنما هم وغيرهم تحت قهره وتسخيره سواء. واعلم أنه سبحانه افتتح السورة بقوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] وهو الشريعة والبداية وختم السورة بهذه الآية الدالة على فناء الكل في جنب جلاله وكبريائه وهو الحقيقة والنهاية، فما أحسن هذا النسق! وأيضا في السورة بيان الشرائع والأحكام الكثيرة والمناظرة مع اليهود والنصارى، فهذا الاختتام ذكر فيه أن سبحانه مالك لجميع الممكنات والكائنات موجد لجميع الأرواح والأجساد ليصح التكليف على أيّ وجه أراد، وليكون ردا على اليهود بحكم المالكية في(3/41)
نسخ شريعة موسى ووضع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وليكون ردا على النصارى في أن عيسى ومريم عليهما السلام داخلان في المخلوقات موجودان بإيجاد الله ولا معنى للعبودية إلا هذا. وأيضا لما أخبر عن فناء وجودهم المجازي لم يبق هناك مجيب فأجاب بنفسه لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: 16] ولعل في هذه الخاتمة من الأسرار أضعاف ما عثرنا عليه والله تعالى أعلم بأسرار كتابه.
التأويل:
أخبر عن كثرة السؤال أنها تورث الملال وذلك أن علوم القال غير علوم الحال، والصنف الأول يحمد فيه السؤال والثاني يذم فيه ذلك إذ يحصل بالعيان لا بالبرهان كما كان حال الأنبياء عليهم السلام مع الله وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ [الأنعام: 75] لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: 18]
وقال صلى الله عليه وسلم «أرنا الأشياء كما هى» .
وقال الخضر لموسى عليه السلام فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ [الكهف: 76] وقال موسى في الثالثة إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي [الكهف: 76] فإن تعلم العلم اللدني بالحال في الصحبة والمتابعة والتسليم. وفي السؤال الانقطاع عن الصحبة وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أي إن كان لا بد لكم من السؤال عن حقائق فاسألوا عنها بعد نزول القرآن ليخبركم عن حقائقها على قدر عقولكم. وَاللَّهُ غَفُورٌ لمن تاب من طلب علوم الحقائق بالقال حَلِيمٌ لمن يطلب بالحال فيصدر عنه في أثناء الطلب سؤال قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ كقدماء الفلاسفة أعرضوا عن متابعة الأنبياء وأقبلوا على مجرد القيل والقال، فوقعوا في أودية الشبهات والضلال ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ قال الشيخ المحقق نجم الدين:
المعروف بداية هم الحيدرية والقلندرية يشقون آذانهم وذكورهم ويجعلون فيها حلق الحديد ويحلقون لحيتهم وَلا سائِبَةٍ هم الذين يضربون في الأرض خليعي العذار بلا لجام الشريعة وقيد الطريقة ويدعون أنهم أهل الحقيقة وَلا وَصِيلَةٍ هم أهل الإباحة الذين يتصلون بالأجانب بطريق المؤاخاة والاتحاد ويرفضون صحبة الأقارب لأجل العصبية والعناد وَلا حامٍ وهو المغرور بالله يظن أنه بلغ مقام الحقيقة فلا يضره مخالفات الشريعة. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الأحكام وَإِلَى الرَّسُولِ لمتابعته قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أي مشايخنا وأهل صحبتنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من الشريعة والطريقة وَلا يَهْتَدُونَ إلى الحقيقة. عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي اشتغلوا أوّلا بتزكية نفوسكم ثم بإرشاد الغير فإن الفريق الذي لم يتعلم السباحة إذا تشبث به مثله هلكا معا إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فللطالبين بجذبات العناية وللمضلين بسلاسل القهر والنكاية إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي النفس تموت عن صفاتها الذميمة بالرياضة والمجاهدة فتوصي بصفاتها لورثتها وهم القلب وأوصافه والوصيان اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هما العقل والسر(3/42)
من الروحانيات، أَوْ آخَرانِ من غير الروحانيات هما الوهم والخيال من النفسانيات.
فالعقل والسر يشهدان الحق وإن كان على ذي قرابة من الروحانيات، والوهم والخيال شهادتهما الصدق والكذب. إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي سافرتم في السفليات فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي فتصيب النفس جذبة الحق فتموت تَحْبِسُونَهُما إن كنتم في بعد من الروحانيات مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ من بعد حضورهما مع الله وتوجيههما إلى الحق ومراقبة تامة، فيشدد على الشاهدين بالقسم والتخويف بالله أن يؤديا شهادة الحق ويدفعا تركة النفس وهي صفاتها إلى ورثتها وهم القلب وصفاته، ولا يصرفانها في شيء من السفليات فإن كل خلق إذا استعملته النفس كان صفة ذميمة، فإذا استعمله القلب صار وصفا محمودا كالحرص إذا استعملته النفس في طلب الدنيا ولذتها كان وصفا مذموما، وإذا استعمله القلب في طلب العلوم والكمالات صار ممدوحا. فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً بأن مالا إلى حظ من الحظوظ السفلية فَآخَرانِ من صفات القلب هما: التذكر والفكر الصائب ينظران في عواقب الأمور ويشهدان على أن الآخرة خير من الدنيا والباقي خير من الفاني لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما لأن الوهم والخيال مالا إلى الحظوظ بكتمان الحقوق، والتذكر والتفكر مالا إلى حفظ الحقوق بترك الحظوظ. أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي العقل والسر يأتيان في بدو الأمر باستعمال صفات النفس في السعادات الأخروية، أو يخافان عواقب الأمور بأن يشددوا على أنفسهم بالاستمهال وتضييع الأعمال وإفساد الاستعداد، ثم بالتفكر والتذكر يردّ الأمر إلى وجوب رعاية الحقوق فيحتاجان إلى كثرة الرياضة. ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا وهم مستغرقون في بحر الشهود. لا عِلْمَ لَنا اي ببواطن الأمور وحقائقها. وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي في عالم الأرواح يوم الميثاق قالوا بسبب ذلك التعارف في عالم الأشباح آمنا. إن بعض الحواريين المقلدين في الإيمان قالوا يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ فما راعوا الأدب مع نبيهم حيث لم يقولوا يا رسول الله أو يا روح الله، ولا مع ربهم حيث تشككوا في كمال قدرته. ثم أظهروا دناءة همتهم حيث طلبوا بواسطة مثل عيسى من واهب المواهب مائدة جسمانية لا فائدة روحانية فقال عيسى اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً الأسرار والحقائق من سماء العناية عليها أطعمة الهداية تَكُونُ لَنا أي لأهل الحق والصدق عِيداً نفرح بها لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أي لأول أنفاسنا وآخرها فإن أهل الحق يراقبون الأنفاس لتصعد مع الله وتهوي مع الله وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأن الذي ترزق رزق منك والذي يرزق ظاهرا من غيرك فهو أيضا منك بالواسطة، وما بالذات خير مما بالواسطة. فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ بأن لا يقوم بحقها ويجعلها شبكة يصطاد بها الدنيا فإني أرده من المراتب الروحانية إلى المهالك الحيوانية وهو المسخ(3/43)
الحقيقي، ويوم القيامة أيضا بحيث يحشرون على صفاتهم التي ماتوا عليها كما
قال صلى الله عليه وسلم «يموت المرء على ما عاش فيه ويحشر على ما مات عليه»
أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ الخطاب مع الأمة إلا أن من سنته سبحانه أن لا يكلم الكفار فكلم عيسى بدلا منهم، أو المراد بالقول أمر التكوين فالمعنى أأنت خلقت فيهم اتخاذك وأمك الهين أم أنا خلقت ذلك فيهم خذلانا لهم؟
إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ الغيب ما غاب عن الخلق. ويحتمل أن سيعلمه الخلق، وغيب الغيب ما غاب عنهم ولا يمكنهم أن يعلموه، والله حسبي ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير.(3/44)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
(تفسير سورة الأنعام
وهي مائة وخمس وستون آية وهي مكية إلا ثلاث آيات قل تعالوا إلى قوله ثم آتينا موسى الكتاب)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4)
فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
القراآت:
وَأَنْشَأْنا بغير همز حيث كان: أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش من طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف. وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ وبابه بالهمز: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم، وقرأ يزيد والشموني وحمزة في الوقف بغير همز الباقون بغير همز مطلقا فَحاقَ بالإمالة حيث كان حمزة.(3/45)
الوقوف:
وَالنُّورَ ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار يَعْدِلُونَ هـ أَجَلًا ط تَمْتَرُونَ هـ وَفِي الْأَرْضِ ج وقيل: لا وقف ليصير التقدير وهو الله يعلم سركم وجهركم في السموات وفي الأرض وفيه بعد، بل المعنى وهو المستحق للعبودية في أهل السموات وأهل الأرض. تَكْسِبُونَ هـ مُعْرِضِينَ هـ لَمَّا جاءَهُمْ ط للابتداء بالتهديد يَسْتَهْزِؤُنَ هـ مِدْراراً ص لعطف المتفقين آخَرِينَ هـ سِحْرٌ مُبِينٌ هـ عَلَيْهِ مَلَكٌ ط لا يُنْظَرُونَ هـ يَلْبِسُونَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ الْمُكَذِّبِينَ هـ.
التفسير:
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «نزلت الأنعام جملة واحدة وتنزلت، معها من الملائكة سبعون ألف ملك فملؤا ما بين الأخشبين» فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتبوها من ليلتهم سوى آيات معدودات.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «لقد بعث إليّ بها جبريل مع خمسين ملكا أو خمسين ألف ملك تحفها حتى أقروها في صدري كما يقرّ الماء في الحوض ولقد أعزني الله تعالى وإياكم بها عزا لا يذلنا بعدها أبدا فيها دحض حجج المشركين ووعد من الله لا يخلفه»
ولاشتمال هذه السورة على دلائل التوحيد والنبوّة والمعاد ولنزولها جملة ذهب علماء الكلام إلى أن علم الأصول مع جلالة قدره يجب تعلمه على الفور لا على التراخي بخلاف الأحكام فإنها نزلت كفاء المصالح وبحسب الحوادث والنوازل.
واعلم أن قوله الْحَمْدُ لِلَّهِ مذكور في أوائل سور خمس واختص كل منها بصفة، لكن أعمها صدر فاتحة الكتاب الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: 1] فإن العالم كل موجود سوى الله سبحانه فكان سائر السور تفاصيل لهذه الجملة. أثنى الله سبحانه على نفسه بقوله الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ والثناء على النفس قبيح في الشاهد ففيه دليل على أنه لا يمكن قياس الحق على الخلق، فكما أنه واحد في ذاته فهو واحد في صفاته وأفعاله لا اعتراض لأحد عليه. والتحقيق فيه أن استحقاق المدح بحسب الفضيلة والكمال ولا يوجد في الممكن صفة كمال إلا وهي مشوبة بالنقص والاختلال أدناه الأفول في أفق الإمكان بخلاف واجب الوجود فإنه لا غاية لكماله ولا نهاية لعظمته وجلاله، فلا ينبغي أن يمدح إلا هو، ولا أن يثنى إلا عليه، ولا أن يشكر ويحمد إلا له. ثم الأوصاف الجارية عليه سبحانه إنما تذكر زيادة في المدح لا لأجل التوضيح والكشف.
أساميا لم تزده معرفة ... وإنما لذة ذكرناها
وقد تقدم في الأسماء أن معنى الخلق راجع إلى التقدير والتقدير عائد إلى العلم،(3/46)
فالمراد أنه أوجد السموات والأرض على حسب علمه الأزلي. قال بعض العلماء: السماء كالدائرة والأرض كالمركز، وحصول الدائرة يوجب تعين المركز ولا ينعكس لإمكان أن يحيط بالمركز الواحد دوائر لا نهاية لها فلهذا ذكر السماء قبل الأرض مع أن ظاهر التنزيل يدل على أن خلق الأرض مقدم على خلق السماء. وجمع السموات حقيقة وكذا إفراد الأرض، وقد تجمع الأرض باعتبار الطبقات وسوف يجيء تقرير ذلك في قوله وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [الطلاق: 12] والمقصود من هذا الوصف إلزام المشركين، وأن تخصيص حجم الفلك بمقدار معين وتخصيص كل من أجزائه بحيز معين وتخصيص الفلك بالحركة والأرض بالسكون مع اشتراكهما في الطبيعة الجسمية، وتخصيص كل حركة بحد معين من السرعة والبطء وبجهة معينة دلائل ظاهرة على وجود فاعل مختار واحد في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله. وأيضا إن لحركة كل فلك أوّلا لأن حقيقة الحركة انتقال من حالة إلى حالة فتقتضي المسبوقية بالغير، وعدم الأولية ينافي المسبوقية بالغير والجمع بينهما محال. وإذا ثبت أن لكل حركة أوّلا فاختصاص ابتداء حدوثه بوقت معين يدل على الفاعل المختار وكذا اتصاف بعض الأجسام بالفلكية وبعضها بالعنصرية مع تساوي الكل في تمام الماهية. وأيضا إن خارج العالم الجسماني خلاء لا نهاية له كما ثبت في الكلام، فحصول هذا العالم في حيزه الذي حصل فيه دون سائر الأحياز أمر ممكن يحتاج إلى مرجح قادر مختار حكيم يفعل ما يشاء كما يشاء. هذا إذا نظرنا في ذوات هذه الأجرام، أما إن اعتبرنا منافعها وكيفية تأثير الأثيريات وهي- الآباء- في العنصريات- وهي الأمهات- لتحصيل المواليد الثلاثة: المعادن والنباتات والحيوانات، ارتقينا من ذلك أيضا إلى وجود صانع قدير وحكيم خبير رتبته أعلى وأجل من رتب الممكنات. أما قوله وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ فمعناه أحدث وأنشأ، ولهذا اقتصر على مفعول واحد، ولو كان بمعنى «صير» اقتضى مفعولين. وإنما لم يقل «وخلق» لأنه أراد التضمين أعني إنشاء شيء من شيء كقوله وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها [النساء: 1] فالنور والظلمة لما تعاقبا صار كأن كل واحد منهما تولد من الآخر. وقيل: لأن الظلمات من الأجرام المتكاثفة، والنور من النار، ولهذا جمع الظلمات إذ لكل حرم ظل والظل ظلمة.
ووحد النور لأن النار واحد وهو منها، والظلمة والنور هاهنا هما الأمران المحسوسان بالبصر، لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة والقرينة ذكر السموات والأرض. وعن ابن عباس أن الظلمة ظلمة الشرك والنفاق، والنور نور الإسلام واليقين، وعلى الأوّل فإنما جمع الظلمات ووحد النور لأن النور عبارة عن تلك الكيفية الكاملة القوية، ثم إنها تقبل التناقص قليلا قليلا وتلك المراتب كثيرة، أو لأنه قصد بالنور الجنس. وعلى الثاني فذلك لأن الحق واحد والباطل أكثر من أن يحصى. وإنما قدمت الظلمة على النور لأن عدم المحدثات سابق(3/47)
على وجودها، والظلمة عدمية عند من يجعلها عدم النور أو شبيهة بالعدم عند من يجعلها هيئة مضادة للنور. وقد ورد في الأخبار أن الله تعالى خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره. وقوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ معطوف على قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ والمعنى أنه حقيق بالحمد على ما خلق ثم الذين كفروا يعدلون عن طريق الإنصاف فيكفرون بربهم، أو على خَلَقَ السَّماواتِ معناه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون أي يسوّون به ما لا يقدر على شيء من ذلك. فعلى المعنى الأول يعدلون من العدول، وعلى الثاني هو من العدل. ومعنى «ثم» هاهنا وفي قوله ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ تراخي الرتبة واستبعاد مضموني الجملتين أحدهما عن الآخر. ثم ذكر دليلا آخر على إثبات الصانع وعلى صحة المعاد الجسماني فقال هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي من آدم لأنه مخلوق من الطين، أو خلقكم من النطفة المتولدة من الأغذية المنتهية إلى العناصر، ولا ريب أن خلق الأغذية المتنوعة من العناصر المتشابهة الأجزاء، ثم توليد النطفة المتشابهة الأجزاء من تلك الأغذية المختلفة، ثم تخليق الأعضاء المختلفة في الصفة والصورة واللون والشكل كالقلب والدماغ والكبد والعظام والغضاريف والرباطات والأوتار وغيرها من المادة المتشابهة لا يمكن إلا بتقدير مقدر حكيم ومدبر رحيم. ثم إن تلك القدرة والحكمة باقية بعد موت الحيوان فيكون قادرا على إعادتها وإعادة الحياة فيها وذلك يدل على صحة القول بالمعاد. أما قوله ثُمَّ قَضى أَجَلًا فاعلم أن لفظ القضاء قد يرد بمعنى الحكم والأمر وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 23] وبمعنى الخبر والإعلام وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ [الإسراء: 4] وبمعنى صفة الفعل إذا تم فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [فصلت: 12] ومنه قولك: قضى فلان حاجة فلان. والأنسب هاهنا هو الأول. والأجل في اللغة بمعنى الوقت المضروب لانقضاء الأمد. وأصله من التأخير ومنه الآجل نقيض العاجل. ثم إن صريح الآية يدل على حصول أجلين لكل إنسان. فقال أبو مسلم: الأول آجال الماضين لأنهم لما ماتوا صارت آجالهم معلومة، والثاني آجال الباقين لأنها غير معلومة بعد وإنما هي مسماة عند الله تعالى. وقيل:
الأول أجل الموت، والثاني أجل القيامة لأنه لا آخر له ولا يعلم أحد كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله تعالى. وقيل: الأول ما بين أن يخلق إلى أن يموت، والثاني ما بين الموت والبعث وهو البرزخ. وقيل: الأول النوم، والثاني الموت. وقيل: الأول مقدار ما انقضى من عمر كل أحد، والثاني ما بقي من عمره. وقال حكماء الإسلام: الأول الأجل الطبيعي الذي يمكن بالنسبة إلى المزاج الأول لكل شخص لو بقي مصونا عن الآفات الخارجية، والثاني الأجل الاخترامي الذي يحصل بسبب من الأسباب الخارجية كالغرق والحرق والقتل واللدغ وغيرها من الأمور المنفصلة. ومعنى مُسَمًّى أي مذكور اسمه في اللوح المحفوظ.(3/48)
ومعنى عِنْدَهُ أي في حكمه وعلمه كما تقول: هذه المسألة عند الشافعي كذا وعند أبي حنيفة كذا. وارتفع أَجَلٌ بالابتداء وجاز ذلك مع تنكيره لمكان وصفه فقارب المعرفة.
وإنما لم يقل «وعنده أجل مسمى» تعظيما لشأن هذا الأجل فكأنه قيل: وأي أجل مسمى عنده؟ والمرية والامتراء الشك. ومعنى «ثم» تبعيد الامتراء عن مثل هذه الحجة الباهرة الموجبة للتيقن في أمر المبدأ والمعاد، ثم قرر أنه سبحانه عالم بجميع المعلومات ردّا على من زعم أنه غير عالم بالجزئيات فلا يمكنه تمييز المطيع من العاصي ولا تمييز أجزاء بدن زيد عن أجزاء بدن عمرو فقال وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ وزعمت المجسمة بهذا وبنحو قوله أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الملك: 17] أنه سبحانه مستقر في السماء قالوا:
ويؤكده وقف بعض القراء على السموات والابتداء بقوله وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ أي يعلم سرائركم الموجودة في الأرض. ولو سلم أن لا وقف فالإجماع حاصل على أنه ليس موجودا في الأرض، ولا يلزم من ترك العلم بأحد الظاهرين ترك العمل بالظاهر الآخر من غير دليل. ونوقض بأنه تعالى قال في مواضع لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ [البقرة: 284] فلو كان هو في السماء لزم أن يكون مالكا لنفسه، ولا يخفى ضعف هذا النقض لأنه مخصوص بالقرينة كقوله إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة: 20] وبأنه إما أن يراد كونه في سماء واحدة وهو ترك الظاهر، أو في جميع السموات وهو يقتضي كونه ذا أجزاء أو حصول المتحيز الواحد في مكانين وكلاهما محال. والحق أنه لا يلزم من استصحاب المكان الافتقار إليه ولا التجسيم والتجزئة وهو دقيق يفهمه من وفق له، وبأنه لو كان موجودا في السموات لكان محدودا متناهيا فيكون قابلا للزيادة والنقصان، فيكون اختصاصه بمقدار معين لمخصص فيكون محدثا. ويرد عليه أنه لم لا يجوز أن يكون في السموات وفوقها إلى ما لا يتناهى لا سيما عند من يقول إن وراء هذا العالم خلاء غير متناه، وبأنه لو كان في السموات فإن لم يقدر عل عالم آخر فوقها لزم تعجيزه، وإن قدر فلو فعل لحصل تحت ذلك العالم والقوم ينكرون كونه تحت العالم، والاعتراض أنه لا يلزم من القدرة الإيجاد، وقال غير المجسمة: المراد وهو الله في تدبير السموات والأرض كما يقال: فلان في أمر كذا أي في تدبيره وإصلاحه. وعلى هذا يكون فِي السَّماواتِ خبرا بعد خبر، ويوقف على اسم الله ثم يبتدأ بما بعد ذلك ويكون المعنى أنه يعلم في السموات والأرض سرائر الملائكة والإنس والجن، أو المراد وهو المعبود فيهما، أو المعروف بالإلهية أو المتوحد بها، أو هو الذي يقال له الله فيهما لا شريك له في هذا الاسم. والسر من صفات القلوب وهي الدواعي والصوارف، والجهر من أعمال الجوارح، ولأن الأول مقدم على الثاني طبعا فلا جرم قدم عليه وضعا. والجملة أعني قوله يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ مقررة لما قبلها أو خبر ثالث أو كلام مبتدأ. وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ(3/49)
الكسب أخص من الأعمال السرية والجهرية لأنه الفعل المفضي إلى اجتلاب نفع أو اندفاع ضر ولهذا لا يوصف فعل الله تعالى بأنه كسب. وإفراد الأخص بالذكر بعد الأعم للتقرير والتأكيد، أو لكونه أهم حسن لا يلزم منه عطف الشيء على نفسه. والمراد أنه عالم بما يستحقه الإنسان على أفعاله من ثواب أو عقاب.
ثم لما فرغ من دلائل التوحيد والمعاد شرع في النبوات فرتب أحوال الكفار مع الأنبياء في ثلاث مراتب: الأولى كونهم معرضين عن التأمل في الدلائل وذلك قوله وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ «من» الأولى للاستغراق والثانية للتبعيض. والمراد وما يظهر لهم دليل قط من الأدلة التي يجب فيها النظر والاعتبار إلا وهم على حالة الإعراض لقلة تدبرهم وفرط غفلتهم. الثانية: كونهم مكذبين وهذه شر مما قبلها لأن الإعراض قد يكون للغفلة لا للتكذيب وإذا كذب فقد أعرض وزاد. قال علماء المعاني: هاهنا حذف كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية وهو الحق. قال أنس: هو انشقاق القمر بمكة انفلق فلقتين فذهبت فلقة وبقيت فلقة. وقيل: هو القرآن الذي تحدّوا به فعجزوا عنه.
وقيل: محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: شرعه. وقيل: وعده ووعيده وتبشيره وإنذاره. والأولى الحمل على الكل. المرتبة الثالثة: كونهم مستهزئين لأن التكذيب إذا انضم معه الاستهزاء كان غاية في الغواية وذلك قوله فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا أي أخبار الشيء الذي كانوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ وهو القرآن وغيره من المعجزات. وليس المراد نفس الأنباء بل العذاب الذي أنبأ الله تعالى به كقوله وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ [ص: 88] والحكيم إذا توعد فربما قال:
ستعرف نبأ هذا إذا نزل بك ما تحذره. وذلك أن الغرض من الخبر حصول العلم بالمخبر عنه وذلك إنما يتحقق بعد المعاينة. ومعنى الآية سيعلمون بأي شيء استهزؤا وأنه لم يكن موضع استهزاء وذلك عند نزول العقاب بهم في الدنيا كيوم بدر وغيره أو في الآخرة. ثم لما زجرهم عن الإعراض والتكذيب والاستهزاء وأوعدهم على ذلك عاد إلى الموعظة والنصيحة بتذكير أحوال الأمم الماضية والقرون الخالية. والقرن القوم المقترنون في زمان من الدهر المفترقون بعد ذلك بالموت وذلك الزمان في الأغلب ستون سنة. وقيل: سبعون.
وقيل: ثمانون. والأقرب أنه غير مقدر بزمان لا يقع فيه زيادة ولا نقصان، ولكنه إذا انقضى الأكثر من أهل كل عصر فقد انقضى القرن. وليس المراد أن يصدّق الكفار محمدا في هذه الأخيار لانهم بصدد التكذيب فسيكذبونه فيها أيضا، وإنما المراد أن ما يختص بالمتقدمين منهم مشهور بين الناس فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا تلك الحكايات ومجرّد سماعها يكفي في الاعتبار. ثم وصف تلك القرون بثلاثة أوصاف: الأول: تمكينهم في الأرض.
مكن له في الأرض جعل له مكانا، ومكنه فيها أثبته، وهما متقاربان ولهذا جمع بينهما في(3/50)
الآية. والمعنى لم نعط أهل مكة نحو ما آتينا عادا وثمود وغيرهم من البسطة في الأجسام والسعة في الأموال وأسباب الدنيا. الثاني: إرسال السماء عليهم مدرارا يعني الغيث أو السحاب أو الخضراء، لأن المطر ينزل من ذلك الصوب والمدرار كثير الدرّ درّ اللين إذا أقبل على الحالب منه شيء كثير. ومدرارا نعت المطر ويقال أيضا سحاب مدرارا إذا تتابع أمطاره. ومفعال من أبنية المبالغة يستوي فيه المذكر والمؤنث. الثالث وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ أي من تحت أمكنتهم والمراد أنهم أصحاب البساتين والقصور والمنتزهات. فإن قيل: الهلاك غير مختص بهم وإنما يجري ذلك على الأنبياء والمؤمنين أيضا، قلنا: لدفع هذا الإشكال كرر فقال فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فإن الإهلاك بسبب المعاصي والآثام لا يكون إلا بالعذاب والإيلام. ثم نبه بقوله وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ على كمال عزته واستغنائه ونهاية قدرته واستعلائه كقوله إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر: 16] فالبلاد بلاده والعباد عباده بيده التخريب والتعمير وإليه الإعدام والإيجاد. ثم ان الذين يتمردون عن قبول دعوة الأنبياء طوائف متعددة. منهم من بالغ في حب الدنيا وطلب لذاتها وشهواتها على وفق هواه ومناه لا على قانون الخير والعدل فمنعه ذلك عن التزام التكاليف وهو المذكور في الآية، وفيه أن لذات الدنيا ذاهبة وعذاب الكفر باق، وليس من العقل تحمل العقاب الدائم لأجل اللذات الفانية. ومنهم من حملته العصبية والعناد على تكذيب معجزات الأنبياء وجعلها من قبيل السخر الذي لا أصل له وهم الذين عنوا بقوله وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ والمعنى أنه لو نزل الكتاب جملة واحدة في صحيفة واحدة فرأوه ولمسوه وشاهدوه عيانا لطعنوا فيه وقالوا إنه سحر. وهاهنا سؤال وهو أن نزول الكتاب من السماء جملة إن لم يكن من باب المعجزات لم يكن إنكاره منكرا، وإن كان من قبيل الإعجاز فالملك يقدر على إنزاله من السماء وقبل الإيمان بصدق الرسل لم تكن عصمة الملائكة معلومة، وحينئذ يجوز أن يكون نزول ذلك من قبل بعض الجن والشياطين، أو من بعض الملائكة الذين لم تثبت عصمتهم فلا يكون دليلا على الصدق. وأجيب بأن المقصود من الآية ليس بيان الإعجاز، ولكن المراد أنهم إذا لمسوه بأيديهم يقوى الإدراك البصري بالإدراك اللمسي وبلغ الغاية في القوة والظهور. ثم إن هؤلاء يبقون شاكين في أن ذلك الذي رأوه ولمسوه هل هو موجود أم لا، وذلك يدل على أنهم بلغوا في الجهالة إلى حد السفسطة. قال القاضي: في الآية دليل على وجوب اللطف لأنه بيّن أنه إنما لم ينزل هذا الكتاب من حيث إنه لو أنزله لقالوا هذا القول فيفهم منه أنهم لو قبلوه وآمنوا به لأنزله لا محالة، وزيف بأن المفهوم ليس بحجة، ولو سلم فوقوع اللطف لا يدل على وجوبه. ومن الكفرة من قابل النبوات بإيراد الشبهات والاقتراحات. قال الكلبي: إن مشركي مكة قالوا:(3/51)
يا محمد والله لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله وذلك قوله وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فأجاب الله تعالى عن مقترحهم بقوله وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ ومعنى القضاء الإتمام والإلزام كما مر. وتقرير الجواب أن إنزال الملك على البشر آية باهرة وحينئذ ربما لم يؤمنوا فيجب إهلاكهم بعذاب الاستئصال، أو لعلهم إذا شاهدوا الملك زهقت أرواحهم. ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رأى جبرائيل على صورته الأصلية غشي عليه؟ وأن جميع الرسل عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم ولوط، وكالذين تسوّروا المحراب، وأن جبرائيل تمثل لمريم بشرا سويا؟ وفائدة ثمّ أن عدم الإنظار أشد من قضاء الأمر لأن مفاجأة الشدة أفظع من نفس الشدة. ثم إنهم كانوا يطعنون في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم من جهة أخرى وهي أنه بشر مثلهم ويقولون: لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [الفرقان: 7] وتقرير الشبهة أن الرسل إذا كانوا من زمرة الملائكة كانت علومهم أكثر وقدرتهم أشد ومهابتهم أعظم وامتيازهم عن الخلق
أكمل والاشتباه في نبوتهم ورسالتهم أقل، والحكيم إذا أراد تحصيل مهم اختار ما هو أسرع إفضاء إلى المطلوب، فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله وَلَوْ جَعَلْناهُ أي الرسول مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا لأن إنزال الملك آية ظاهرة جارية مجرى الإلجاء وإزالة الاختيار وذلك مناف لغرض التكليف، ولأن الجنس إلى الجنس أميل، ولأن البشر لا يطيق رؤية الملك، ولأن طاعات الملك كثيرة فيحقرون طاعات البشر ويستعظمون إقدامهم على المعاصي فلا يصبرون معهم، ولأن إنزال الملك يقوي الشبهة من وجه آخر وذلك أن أيّ معجزة ظهرت عليه قالوا هذا فعلك فعلته باختيارك وقدرتك، ولو حصل لنا مثل ما حصل لك من القدرة والقوة لفعلنا مثل ما فعلت. ثم قال وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ لبست الأمر على القوم ألبسه لبسا إذا شبهته عليهم وجعلته مشكلا ومنه لبس الثوب لأنه يفيد الستر.
والمعنى إذا جعلنا الملك في صورة البشر كان فعلنا نظيرا لفعلهم في التلبيس، وإنما كان ذلك لبسا لأن الناس يظنونه ملكا مع أنه ليس بملك، أو يظنونه بشرا مع أنه ليس ببشر وإنما كان فعلهم لبسا لأنهم يخلطون على أنفسهم ويقولون إن البشر لا يصلح للرسالة فلا ينقطع السؤال أبدا ويبقى الأمر في حيز الاشتباه. وعلى هذا التفسير يكون قوله ما يَلْبِسُونَ مفعولا مطلقا. ويجوز أن يراد ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ فيكون مفعولا به يعني أن القوم إذا رأوا الملك في صورة الإنسان اشتبه الأمر عليهم، وإذا كنا قد فعلنا ذلك كان اللبس منسوبا إلينا.
ثم إنه سبحانه وتعالى سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقى من قومه بقوله وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ أي نزل. وقال الفراء: عاد عليهم والتركيب يدور على الإحاطة ومنه(3/52)
الحوق بالضم ما استدار بالكمرة ما كانُوا أي الشيء الذي كانوا يستهزؤن به وهو الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، أسند الحق إليه حيث أهلكوا لأجل الاستهزاء به. ويحتمل أن يراد بلفظة «ما» العذاب الذي كان يخوفهم الرسول بنزوله وهم يستهزؤن بذلك، ثم أمر رسوله بأن يقول لهم: لا تغتروا بما وجدتم من زخارف الدنيا وسيروا في الأرض لتشاهدوا آثار الأمم السالفة الذين كذبوا رسلهم ونزل بهم ما نزل فإن الأسفار تورث الاعتبار وتفيد الاستبصار.
واعلم أنه سبحانه قال هاهنا ثُمَّ انْظُرُوا وفي موضع آخر فَانْظُروا [آل عمران: 137] فالفاء لمجرد اعتبار ترتيب النظر على السير. وثم لتباعد ما بين المباح والواجب فإن السير مباح والنظر واجب. وأيضا شتان بين السير الصوري بقدم الأشباح وبين السير المعنوي بقدم الأرواح والله أعلم.
التأويل:
حمد نفسه القديم الأزلي بكلامه القديم الأزلي على أن خلق سموات القلوب وأرض النفوس وجعل الظلمات. أي الصفات البهيمية والسبعية في النفوس والنور في القلوب وهو صفاتها الملكية والروحانية، فخص الجعل بالمعاني التي هي من عالم الأمر والخلق بالأعيان لأنها من عالم الصورة، ولهذا لما ذكر صورة آدم قال إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص: 71] وحيث أراد معناه قال إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [البقرة: 30] ثم بعد هذا الجعل والخلق مال نفوس الكفار بغلبات الظلمات إلى طاغوت الهوى فجعلوه عديلا لربهم ثُمَّ قَضى أَجَلًا للروح المفارق عن حضرته لأيام فراقه وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ وهو أجل الوصال بعد الفراق بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ يا أهل الوصال كما يمتري أهل الفراق وهذا محال وَهُوَ اللَّهُ في سموات القلوب وفي أرض النفوس يعلم سر الخلافة الذي أودع فيكم وَجَهْرَكُمْ الذي يظهر عنكم وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ باستعمال الاستعداد السري والجهري في المأمورات والمنهيات في الخير أو الشر مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ في الآفاق وفي أنفسهم مكناهم في طلب الحق من قهر النفس وأسباب الخيرات والطاعات. وأرسلنا مطر الواردات من سماء القلوب عليهم مدرارا متواليا، وجعلنا أنهار الحكمة تجري من تحت نظرهم فأهلكنا مع هذه المقدمات أرواحهم بسموم ذنوب طلب الدنيا مالها وجاهها وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ من الطلاب الصادقين التائبين المستقيمين لَجَعَلْناهُ رَجُلًا ليفهموا خطابه ويكون واقفا على الأحوال البشرية فيعالجهم بما يرى فيه صلاح حالهم كما قال وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] قل سيروا في أرض النفوس بقدم التقوى ومخالفة الهوى إلى أن تبلغوا سواحل بحار القلوب فتشاهدوا بأنوار الله المودعة فيها عاقبة من هلكوا في بوادي القطيعة إذ ساروا بقدم الطبيعة.(3/53)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
[سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 24]
قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
القراآت:
إِنِّي أُمِرْتُ بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع إِنِّي أَخافُ بفتح الياء:
هما وابن كثير وأبو عمرو. الباقون: بالسكون. مَنْ يُصْرَفْ مبنيا للفاعل: سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون: مبنيا للمفعول أَإِنَّكُمْ بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام يدخل بينهما مدة أينكم بالياء بعد الهمز: ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد آينكم بالمد والياء: أبو عمرو ويزيد. وقالون بَرِيءٌ بغير همز حيث كان: يزيد وحمزة في الوقف يحشرهم ثم يقول بياء الغيبة فيهما: يعقوب. الباقون: بالنون ثُمَّ لَمْ تَكُنْ بتاء التأنيث: حمزة وعلي وحماد والمفضل وسهل ويعقوب الباقون: بالياء فِتْنَتُهُمْ بالرفع: ابن كثير وابن عامر وحفص والمفضل. الباقون: بالنصب وَاللَّهِ رَبِّنا بالنصب على النداء: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون: بالجر على البدل أو البيان.
الوقوف:
وَالْأَرْضِ ط قُلْ لِلَّهِ ط الرَّحْمَةَ ط لأن قوله لَيَجْمَعَنَّكُمْ جواب قسم محذوف. وقيل: لا وقف ولَيَجْمَعَنَّكُمْ جواب معنى القسم في كَتَبَ وفيه نظر لأن كَتَبَ وعد ناجز ولَيَجْمَعَنَّكُمْ وعد منتظر. لا رَيْبَ فِيهِ ط بناء على أن الذين مبتدأ فيه معنى الشرط لا يُؤْمِنُونَ هـ وَالنَّهارِ ط الْعَلِيمُ هـ وَلا يُطْعَمُ ط مِنَ(3/54)
الْمُشْرِكِينَ
هـ عَظِيمٍ هـ رَحِمَهُ ط الْمُبِينُ هـ إِلَّا هُوَ ط قَدِيرٌ هـ عِبادِهِ ط الْخَبِيرُ هـ شَهادَةً ط وَمَنْ بَلَغَ ط أُخْرى ط لانتهاء الاستخبار إلى الإخبار. قُلْ لا أَشْهَدُ ج لاتساق الكلام بلا عطف يشركون هـ أَبْناءَهُمُ م لئلا يوهم أن ما بعده وصف لا يُؤْمِنُونَ هـ بِآياتِهِ ط الظَّالِمُونَ هـ يزعمون هـ مُشْرِكِينَ هـ يَفْتَرُونَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما برهن على إثبات الصانع وتحقيق النبوّات وتقرير المعاد، وانجر الكلام إلى الأمر باعتبار أحوال الغابرين، عاد إلى إثبات هذه المطالب بطريق الإلزام وأخذ الاعتراف، وذلك أن آثار الحدوث وسمات الإمكان لائحة على صفات السماويات والأرضيات حتى بلغ في ظهوره إلى حيث لا يقدر منكر على إنكاره، فكان في السؤال تبكيت وإفحام، وفي الجواب تقرير وإلزام، أي هو لله بلا مراء وشقاق ولن يتم الملك إلا إذا كان قادرا على الإعادة كما هو قادر على الإبداء، ولن تحصل حكمة الإعادة إلا بثواب المطيعين وعقاب العاصين، ولن يحسن إيصال الثواب والعقاب إلا بعد نصب الدلائل وإرسال الرسل فلأجل ذلك قال كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي بنصب الأدلة وإزاحة العلة إيجاب الفضل والكرم. وقيل: هذه الرحمة هي أنه يمهلهم مدّة عمرهم ولا يعاجلهم بالاستئصال، أو فرض على نفسه الرحمة لمن ترك التكذيب بالرسل وتاب وأناب وصدّقهم وقبل شريعتهم، أو تلك الرحمة هي أنه يجمعهم إلى يوم القيامة فإنه لولا هذا التهديد لحصل الهرج والمرج وارتفع الضبط وكثر الخبط كأنه قيل: لما علمتم أن كل ما في السموات والأرض لله تعالى، وأنه مالك الكل فاعلموا أن الله الملك الحكيم لا يهمل أمور عبيده، ولا يجوز في حكمته التسوية بين المطيع والعاصي والعامل والساهي. ومعنى لَيَجْمَعَنَّكُمْ ليضمنكم. وقيل: فيه حذف أي ليجمعنكم إلى المحشر في يوم القيامة فإن الجمع يكون إلى المكان لا إلى الزمان. وقيل: ليجمعنكم في الدنيا بخلقكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة. قال الأخفش: الَّذِينَ خَسِرُوا بدل من ضمير المخاطبين في لَيَجْمَعَنَّكُمْ. وقال الزجاج: إنه مبتدأ خبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ وذلك لتضمنه معنى الشرط فكأنه قيل: ما للمشركين مع وضوح الدلائل الباهرة لا يؤمنون؟ فأجيب الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي في علم الله وسابق قضائه فهم لا يؤمنون في طرف الأبد، فكان امتناعهم الآن عن الإيمان مسببا عن سبق القضاء عليهم بالخسران والخذلان. وقال في الكشاف الَّذِينَ خَسِرُوا نصب أو رفع على الذم بمعنى أريد الذين، أو أنتم الذين. ثم لما بيّن أن له المكان والمكانيات ارتقى في البيان كما هو شأن الترتيب التعليمي إلى ما هو أخفى من ذلك عند الحس وهو الزمان والزمانيات فقال وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ
عن ابن عباس أن كفار(3/55)
مكة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد إنا قد علمنا أنه إنما يحملك على ما تدعونا إليه الحاجة فنحن نجعل لك نصيبا من أموالنا حتى تكون من أغنانا رجلا وترجع عما أنت عليه فنزل وَلَهُ ما سَكَنَ الآية.
قيل: اشتقاقه من السكون والتقدير كل ما سكن وتحرك كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] أي تقيكم الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر للقرينة. والأصوب أن يقال: اشتقاقه من السكنى كما يقال: فلان سكن ببلد كذا أي حل فيه. والمراد كل ما حل في الوقت والزمان سواء كان متحركا أو ساكنا، وذلك أن الدخول تحت الزمان يستلزم التغير والحدوث فلا بد له من محدث يتقدم عليه وعلى نفس الزمان وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ الذي يسمع نداء المحتاجين ويعلم حاجات المضطرين فيوصل كل ممكن إلى كمال يليق به ويستعدّ له.
ثم لما كان لزاعم أن يزعم أن الذي يتعالى عن المكان وعن الزمان قد يكون ممكنا في نفسه كالمفارقات التي يثبتها الفلاسفة فلا جرم قال قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ منكر الاتخاذ غير الله وَلِيًّا ولذلك قدم المفعول لكونه أهم، ولو كان حرف الاستفهام داخلا على الفعل توجه الإنكار أوّلا إلى نفس اتخاذ الولي وأنه غير مهم فاطِرِ السَّماواتِ عطف بيان من اللَّهِ أو بدل. وقرىء بالرفع على إضمار هو، وبالنصب على المدح. وعن ابن عباس: ما عرفت معنى الفاطر حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها أي ابتدأتها. وقال ابن الأنباري: أصل الفطر الشق وقد يكون شق إصلاح كقوله فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فاطر: 1] أي خالقهما ومنشئهما بالتركيب الذي سبيله أن يحصل فيه الشق والتأليف عند ضمه بعض الأشياء إلى بعض. وقد يكون شق إفساد ومنه قوله تعالى هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: 3] إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [الانفطار: 1] وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ أي هو الرازق لغيره ولا يرزقه أحد. والرزق والإطعام وإن كانا متغايرين وإلا لم يحسن العطف في قوله ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات: 57] إلا أنهما متقاربان فحسن جعل أحدهما كناية عن الآخر. وقرىء وَهُوَ يُطْعِمُ مبنيا للمفعول على أن الضمير لغير الله وقرىء وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ كلاهما للفاعل. والمعنى هو يطعم تارة ولا يطعم أخرى كقوله وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ [البقرة: 245] أو الثاني بمعنى لا يستطعم. وحاصل الآية أنه يجب شغل القلب كله بالله وقطع العلائق بالكلية عما سواه لأنه الجواد المطلق الذي يهب لا لعوض ولا انتفاع. ثم بيّن أن النبي أيضا داخل في تكليف المعرفة بل هو أسبق قدما في ذلك فقال قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وقيل لي لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وفيه أن الواعظ يجب أن يتعظ أوّلا بما يقوله، فالمريض لا(3/56)
يتصور منه العلاج. ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم مع جلالة قدره بصدد المؤاخذة على تقدير المخالفة فقال قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ولا يلزم من هذا جواز المعصية عنه لأن الفرض قد يتعلق بالمستحيل كقولك: إن كانت الخمسة زوجا فهي منقسمة بمتساويين.
من قرأ مَنْ يُصْرَفْ مبنيا للفاعل فالضمير فيه عائد إلى الله والمفعول وهو العذاب محذوف لكونه معلوما أو مذكورا قبله. قال في الكشاف: ويجوز أن تنصب يومئذ على أنه مفعول به ل يُصْرَفْ أي من يصرف الله عنه ذلك اليوم أي هو له، ومن قرأ على بناء المفعول فهو مسند إلى ضمير العذاب، ولم يسم الفاعل وهو الله تعالى للعلم به فَقَدْ رَحِمَهُ أي الله الرحمة العظمى كقولك: إن أطعمت زيدا من جوعه فقد أحسنت إليه يعني كمال الإحسان. أو المراد فقد أدخله الجنة فإن من لم يعذب لم يكن له بد من الثواب تفضلا أو استيجابا. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أن إيصال الثواب على الطاعة غير واجب وإنما هو ابتداء فضل وإحسان وإلا لم يحسن ذكر الرحمة هاهنا، ألا ترى أن الذي يقبح منه أن يضرب زيدا فإذا لم يضربه لا يقال أنه رحمه؟ وَذلِكَ أي صرف العذاب وإيصال الثواب على سبيل التفضل أو الاستيجاب الْفَوْزُ الْمُبِينُ لأنه المطلب الأعلى والمقصد الأسنى لكل مكلف. ثم أكد المعنى المذكور وهو أنه لا يجوز للعاقل أن يرغب في اتخاذ ولي غير الله بقوله وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ من مرض أو فقر أو غير ذلك من البليات فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ من غنى أو صحة فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ عمم الحكم لندرج تحته كل خير والحاصل أن اندفاع جميع المضار بقدرته، وكذا حصول جميع الخيرات لأن كل ما عداه فإنما هو تحت قهره وتسخيره وقد حصل بإيجاده وتكوينه، فإن الممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته، ورأس المضارّ هو الكفر، وسنام الخيرات هو الإيمان، ولن يحصل نفرة الكفر وداعية الإيمان إلا بتوفيقه تعالى. وكل ما يتصور أنه قد نفع أو ضر من الجمادات أو المختارات فإن ذلك ينتهي إلى تخليق الله وجعله ذلك الشيء واسطة لذلك النفع أو الضر، فلا ضارّ ولا نافع بالحقيقة إلا هو سبحانه. ثم زاد لهذا المعنى بيانا فقال وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وهو إشارة إلى كمال القدرة وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ وإنه إشارة إلى كمال العلم. فالحكمة أعم من العلم لأنها عمل وعلم، وكونه خبيرا أخص من العلم لأنه العلم ببواطن الأمور وخباياها، فإذا اجتمعت هذه المعاني حصل العلم بكماله وغايته، وقد استدل بظاهر الآية من أثبت الفوقية لله تعالى وعورض بوجوه منها: أنه لو كان فوق العالم فإن كان في الصغر بحيث لا يتميز منه جانب من جانب كالجوهر الفرد مثلا فذلك لا يقوله عاقل، وإن كان ذاهبا في الأقطار كلها كان متجزئا. والجواب أنه لم لا يجوز أن يكون نورا قائما بذاته غير متناه لا متجزئا ولا متبعضا قاهرا لجميع الأنوار غالبا على جميع الأشياء، فلا غاية لجوده ولا نهاية(3/57)
لوجوده. وأما إنه كيف يتصور نور بلا نهاية مع أنه لا ينقسم ولا يتبعض فمجرد استبعاد فلا يصلح حجة وإدراك شيء من هذا النور محتاج إلى نور وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: 40] ومنها أنه لو كان غير متناه من كل الجهات لزم اختلاطه بالقاذورات.
والجواب أن هذا كلام مخيل فلا يستعمل في البرهان. ومنها أنه لو لم يكن خارج العالم خلاء ولا ملاء لم يمكن حصول ذات الله تعالى فيه، وإن كان خلاء فحصوله في جزء من أجزاء ذلك الخلاء دون سائر أجزائه محتاج إلى مخصص، فيكون الواجب مفتقرا فيكون محدثا هذا خلف. والجواب أنا ذكرنا أن نور الأنوار لا يتناهى وأنه وراء ما لا يتناهى بما لا يتناهى فيسقط هذا الاعتراض. ومنها أنه سبحانه موجود قبل الخلاء والحيز والجهة، فلا يكون بعد حصول هذه الأشياء موجودا فيها وإلا لزم التغير في ذاته. والجواب بالفرق بين المعية وبين الافتقار. ومنها أن العالم كرة فإما أن يكون الله تعالى فوق أقوام بأعيانهم وحينئذ يلزم أن يكون تحت أقدام من يقابلهم وإما أن يكون فوق الكل فيكون فلكا محيطا بسائر الأفلاك وهذا لا يقوله مسلم. والجواب الإلزامي بعد تسليم كون العالم كرة أنا نختار القسم الأول، ولا يلزم التحتية لأن التحت من جميع الجوانب هو ما يلي المركز، والفوق ما يلي السماء. أو القسم الثاني ولا يلزم من إحاطته بجميع الأشياء كونه فلكا كسائر الأفلاك، وأما التحقيق فقد مر. ومنها أن لفظ الفوق في الآية مسبوق بالقهر ويراد به القدرة والمكنة وملحوق بلفظ عباده، وأنه مشعر بالمملوكية والمقدورية. فالمناسب أن يراد بالفوق أيضا فوقية القدرة ولا يلزم التكرار لأن المراد أن القهر والقدرة عام في حق الكل. والجواب أن حمل الوسط على الطرفين أولى من العكس، بل لا نزاع في مفهوم العباد وإنما النزاع في مفهومي القاهرية والفوقية، وليس حمل أحدهما على الآخر أولى من غيره، ومنها أن الآية سيقت ردا على من اتخذ غير الله وليا وهذا إنما يحسن لو كان المراد بالفوقية القدرة لا الجهة. والجواب أن الفوقية بالوجه الذي قررناه في جواب الاعتراض الأول يفيد الاستعلاء المطلق وذلك يوجب أن يكون التعويل عليه في كل الأمور إذ لا وجود ولا ظهور لشيء من الأشياء إلا بفيضه ونوره. وقد يلوح للمتأمل في هذه الأجوبة بعد التنزيه عن التشبيه والتجسيم والحلول والاتحاد أسرار غامضة شريفة إن كان أهلا لها
«وكل ميسر لما خلق له» . «1»
قال الكلبي: إن رؤساء مكة قالوا: يا محمد ما نرى أحدا يصدقك بما تقول من أمر الرسالة. ولقد سألنا عنك اليهود والنصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا
__________
(1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 92 باب 3- 5، 7. مسلم في كتاب القدر حديث 6- 8. أبو داود في كتاب السنّة باب 16. الترمذي في كتاب القدر باب 3. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 10. أحمد في مسنده (1/ 6، 29، 133) .(3/58)
من يشهد لك أنك رسول كما تزعم فنزلت قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً الآية.
قال العلماء:
إنها دلت على أن أكبر الشهادات وأعظمها شهادة الله. ثم بيّن أن شهادة الله حاصلة إلا أنها لم تدل على أن تلك الشهادة لإثبات أيّ المطالب فقيل: إنها لإثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لما ذكرنا من سبب النزول. والمعنى قل يا محمد أي شيء أكبر شهادة حتى يعترفوا بأن أكبر الأشياء شهادة هو الله تعالى، فإذا اعترفوا بذلك فقل إن الله شهد لي بالنبوة بأن أظهر على وفق دعواي معجزا هو القرآن الذي عجزتم معاشر الفصحاء والبلغاء عن معارضته. وقيل:
إن حصول هذه الشهادة في وحدانية الله تعالى وذلك أن الوحدانية ليست مما يتوقف صحته على صحة السمع فلا يمتنع إثباتها بالسمع والمعنى قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ في إثبات الوحدانية والبراءة عن الأضداد والأنداد والأمثال والأشباه وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وأبلغكم أن الدين هو التوحيد والشرك مردود. واستدل الجمهور بالآية على أنه يصح إطلاق الشيء على الله تعالى وخالف جهم محتجا بقوله تعالى اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الأنعام: 102] إذ لا يمكن دعوى التخصيص فيه، فإن التخصيص إنما يجوز في صورة شاذة لا يلتفت إليها لقلة اعتبارها فيطلق لفظ الكل على الأكثر تنبيها على أن البقية جارية مجرى العدم. فلو كان الباري تعالى شيئا لكان أعظم الأشياء وأشرفها فيكون إخراجه من هذا العموم محض الكذب. وأيضا احتج بأن الشيء يطلق على المعدوم لقوله تعالى وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [الكهف: 23] والشيء الذي سيفعله غدا معدوم في الحال، فالشيء لا يفيد صفة مدح فلا يطلق عليه. والجواب عن الأول أن إخراج الأكثر من العموم جائز عندنا. ولو سلم فإنه تعالى واحد من الأشياء، والمخرج بهذا الاعتبار أقل عددا من الباقي. وعن الثاني أن لفظ الشيء أعم الألفاظ، ومتى صدق الخاص كالذات، والحقيقة صدق العلم بالضرورة. قال جهم قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ جملة مستقلة بنفسها لا تعلق لها بما قبلها فلا يصح استدلالكم. قلنا قُلْ أَيُّ شَيْءٍ سؤال ولا بد له من جواب.
وهو إما مذكور رأي قل الله أكبر الأشياء شهادة ثم ابتدئ فقيل شهيد أي وهو شهيد بيني وبينكم، أو محذوف والمعنى قل هو الله والله شهيد بيني وبينكم. وحسن الحذف لأنه إذا سأل عن أكبر الأشياء شهادة وذكر بعد ذلك أن الله شهيد علم جزما أن أكبر الأشياء شهادة هو الله أما قوله وَمَنْ بَلَغَ فمعطوف على ضمير المخاطبين والعائد إلى من محذوف أي لأنذركم يا أهل مكة وأنذر كل من بلغه القرآن من العرب والعجم. وقيل: من الثقلين. وقيل: من بلغه إلى يوم القيامة. وعن سعيد بن جبير من بلغه القرآن فكأنما رأى محمدا صلى الله عليه وسلم، وقيل: ومن بلغ أي من احتلم وبلغ أوان التكليف، وعلى هذا فلا حاجة إلى(3/59)
إضمار العائد.
ثم استفهم مبكتا فقال أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى وصف الجمع بصفة الواحدة كما يقال: الرجال فعلت. ثم دل على إيجاب التوحيد بثلاث جمل: أولاها قُلْ لا أَشْهَدُ أي بما تذكرونه من إثبات الشركاء، وثانيتها قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وكلمة «إنما» تفيد الحصر. وثالثتها وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ومن هنا قالت العلماء: المستحب لمن أسلم ابتداء أن يأتي بالشهادتين ويضم إليهما التبري عن كل دين سوى دين الإسلام. ولما زعم مشركو مكة أنهم سألوا اليهود والنصارى عن نعت محمد صلى الله عليه وآله فقالوا: ليس عندنا ذكره كذّبهم الله تعالى بقوله الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ أي يعرفون رسول الله بنعوته وحلاه الثابتة في الكتابين كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بالنعوت والحلي لا يخفون عليهم ولا يشتبهون بغير أبنائهم. الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ إما بدل أو بيان من «الذين» الأولى، ويكون المقصود وعيد المعاندين منهم والجاحدين. وإما مبتدأ والكلام جملة مستأنفة شاملة لجميع الجاحدين من أهل الكتاب ومن المشركين. والمراد بخسران النفس الهلاك الدائم الذي يحصل لهم بسبب الكفر. وقيل: ما من أحد إلا وله منزلة في الجنة إلا أن من كفر صارت منزلته إلى من أسلم فيكون قد خسر نفسه وأهله بأن ورّث منزلته غيره. ثم بيّن سبب خسرانهم مستفهما على سبيل الإنكار فقال وَمَنْ أَظْلَمُ وذلك أنهم جمعوا بين أمرين متنافيين: إثبات الباطل وهو الافتراء على الله، وجحد الحق وهو التكذيب بآيات الله، فمن الأول أن المشركين كانوا يقولون للأصنام إنهم شركاء الله والله أمرهم بذلك، وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، واليهود والنصارى كانوا يزعمون أن التوراة والإنجيل ناطقان بعدم النسخ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة إلى غير ذلك من مفترياتهم. ومن الثاني قدحهم في القرآن وفي صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ الذين وضعوا الشيء في غير موضعه الباطل مكان الحق والحق بإزاء الباطل. ثم كشف عن حالهم يوم القيامة فقال وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ وناصبه محذوف أي ويوم كذا كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في الوعيد. ويحتمل أن يكون مفعول «واذكر» أو معطوفا على محذوف أي لا يفلح الظالمون في الدنيا ويوم الحشر. أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ آلهتكم التي جعلتموهم شركاء الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ هم شركاء فحذف المفعولان. والمقصود من هذا الاستفهام التقريع والتبكيت، ويجوز أن يشاهدوهم إلا أنهم حيث لم ينفعوهم فكأنهم غيب عنهم، ويجوز أن يحال بينهم وبين آلهتهم وقت التوبيخ ليفقدوهم في الساعة التي علقوا بهم الرجاء فيها فتزداد حسرتهم، ويحتمل أن يقال: أين شفاعتهم لكم وانتفاعكم بهم؟ والغرض من جميع الوجوه أن يتقرر(3/60)
في نفوسهم أن الذي يظنونه مأيوس منه فيصير ذلك تنبيها لهم في الدنيا على فساد هذه الطريقة ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ من قرأ بالرفع على أنه اسم كان فالخبر إِلَّا أَنْ قالُوا والتقدير شيئا إلا أن قالوا ومن قرأ بالنصب مع تذكير يكن فبعكس ما قلنا. والتقدير شيء إلا أن قالوا، وأما مع تأنيث يكن فلوقوع الخبر مؤنثا كقولهم: من كانت أمك. أو بتأويل مقالتهم. قال الواحدي: الاختيار قراءة من قرأ بالنصب لأن «أن» إذا وصلت بالفعل لم توصف فأشبهت بامتناع وصفها المضمر. وكما أن المضمر والمظهر إذا اجتمعا كقولك: إن كنت القائم. كان جعل المضمر اسما أولى من جعله خبرا فكذلك هاهنا. قال الزجاج:
تأويل هذه الآية حسن في اللغة لا يعرفه إلا من وقف على معاني كلام العرب، وذلك أنه تعالى بين كون المشركين مفتونين بشركهم متهالكين في حبه، فذكر أن عاقبة كفرهم الذي لزموه أعمارهم وقاتلوا عليه وافتخروا به وقالوا إنه دين آبائنا لم تكن إلا الجحود والتبرؤ منه والحلف على عدم التدين به. ومثاله أن ترى إنسانا يحب شخصا مذموم الطريقة فإذا وقع في محنة بسببه تبرأ منه فيقال له: ما كانت محبتك أي عاقبة محبتك لفلان إلا أن تبرأت منه وتركته. فعلى هذا فتنتهم في شركهم في الدنيا كما فسرها ابن عباس. ولكن لا بد من تقدير مضاف وهو العاقبة، ويجوز أن يراد: ثم لم يكن جوابهم إلا أن قالوا، فسمي فتنة لأنه كذب، قال القاضيان: الجبائي وأبو بكر: إن أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب لأنهم يعرفون الله تعالى بالاضطرار فيكونون ملجئين إلى ترك القبيح وكيف لا وإنهم يعلمون أن ذلك لا يروج منهم حينئذ ولا يستفيدون بذلك إلا زيادة المقت والغضب من الله تعالى عليهم؟ ولا يجوز أن يقال: إنهم لما عاينوا القيامة اختلت عقولهم واضطربت فلهذا قالوا الكذب، أو أنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا لأنه لا يليق بحكمته تعالى أن يوبخهم ثم يحكى عنهم ما يجري مجرى الاعتذار عند اختلال عقولهم. ولأن تجويز نسيان أمر كان عليه الشخص مدة عمره نوع من السفسطة. وأيضا إنهم لو كذبوا في موقف القيامة ثم حلفوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقدموا على نوعين من القبيح فإن عوقبوا على ذلك صارت الآخرة دار التكليف وإن لم يعاقبوا كان إذنا من الله تعالى في ارتكاب الذنوب وكلاهما محال. فإذا الوجه في الآية أن يقال: إن القوم كانوا يعتقدون في أنفسهم وظنونهم أنهم موحدون فأجابوا بقولهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ أي في اعتقادنا وظنوننا، وعلى هذا فيكونون صادقين فيما أخبروا عنه لأنهم كانوا غير مشركين عند أنفسهم فيجيب تأويل قوله تعالى انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بأن المراد كذبهم في دار الدنيا كقولهم إنهم على صواب وإن ما هم عليه ليس بشرك وإن آلهتهم شفعاؤهم عند الله فلهذا قال وَضَلَّ عَنْهُمْ أي وانظر كيف غاب عنهم في الآخرة ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي يفتعلون إلهيته وشفاعته.(3/61)
والحاصل أن الآية سيقت لبيان تضاد حاليهم في الدنيا وفي الآخرة بالكذب وبالصدق ولكن حيث لا ينفعهم الصدق لأن الصدق في الآخرة إنما يعتبر إذا كان مقرونا بالصدق في الدنيا، هذا جملة كلام القاضيين. قال جمهور المفسرين: إن قول القائل المراد ما كنا مشركين في اعتقادنا، وكيف كذبوا على أنفسهم في الدنيا مخالفة الظاهر وإن الكفار قد يكذبون في القيامة لقوله تعالى يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ إلى قوله أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ [المجادلة: 18] ولو سلم أنهم لا يكذبون تعمدا إلا أن الممتحن ينطق بما ينفعه وبما لا ينفعه حيرة ودهشا، ألا تراهم يقولون رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها [المؤمنون: 107] وقد أيقنوا بالخلود؟ وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ [الزخرف: 77] وقد علموا أنه لا يقضى عليهم. واختلال عقولهم حال ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع كمال عقلهم في سائر الأوقات.
التأويل:
ما في الكون سوى الله، لا داع ولا مجيب فلهذا يسأل ويجيب قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ وله ما سكن في ليل البشرية إلى التمتعات الحيوانية، وفي نهار الروحانية إلى المواهب الربانية، وَهُوَ السَّمِيعُ أنين من سكن إليه الْعَلِيمُ بحنين من اشتاق إليه قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ اليوم وَلِيًّا وقد اتخذني الله في الأزل حبيبا فاطِرِ سموات القلوب على محبته وفاطر أرض النفوس على عبوديته وَهُوَ يُطْعِمُ أرواح العارفين طعام المشاهدات ويسقيهم كؤوس المكاشفات وَلا يُطْعَمُ لأنه لا يحتاج إلى قبول الفيض من غيره فالأنوار عنده كالذرّات أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ لأني خلصت من حبس الوجود بالكلية وحدي ولهذا يقول الأنبياء نفسي نفسي وأقول: أمتي أمتي إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي برؤية الغير عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هو وقت الاستنزال عن مقام التوحيد. مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ عذاب الشرك يوم قدّر الشرك لاقوام والتوحيد لاقوام وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ إن دائرة أزليته متصلة بدائرة أبديته، وكل نقطة من الدائرة تصلح للبداية والنهاية، فكل ما صدر منه فلن ينتهي إلا به وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ قهر الكفار بموت القلوب فضلوا في ظلمات الطبيعة، وقهر نفوس المؤمنين بأنوار الشريعة فخرجوا من ظلمات الطبيعة، وقهر قلوب المحبين بلذعات الأشواق إلى يوم التلاق، وقهر أرواح الصديقين بسطوات الجلال في أوقات الوصال. وَهُوَ الْحَكِيمُ فيما يقهره فلا يخلو من حكمة الْخَبِيرُ بمن يستأهل كل صنف من قهره فيقهره به فالله أكبر شهادة لأنه محيط بحقائق الأشياء ولا يحيط به شيء من الأشياء وَمَنْ بَلَغَ القرآن ووقف على حقائقه. ويقول للمشركين أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني العلماء بالقرآن يعرفون الله أو النبي. وفيه إشارة إلى أن الآباء قد تحقق عندهم أنهم مصادر الأبناء، فكذلك أهل المعرفة قد تحقق عندهم أن الله مصدر جميع الأشياء الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بإفساد الاستعداد الفطري ويوم يحشرهم جميعا يعني أهل المعرفة والنكرة أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ من الهوى والدنيا كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ في القيامة لأنهم كذبوا(3/62)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37)
في الدنيا ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 37]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29)
وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)
وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)
القراآت:
وَلا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ بالنصب فيهما: حمزة وحفص ويعقوب وافق ابن عامر في وَنَكُونَ الباقون: بالرفع ولدار الآخرة بالإضافة: ابن عامر بتأويل الساعة الآخرة، الباقون: بتعريف الدار ورفع الآخرة على الوصفية. تَعْقِلُونَ بتاء الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب وحفص وكذلك في الأعراف يُكَذِّبُونَكَ بالتخفيف من أكذبه إذا وجده كاذبا: علي ونافع والأعشى في اختياره. الباقون: بالتشديد من كذبه إذا نسبه إلى الكذب. أَنْ يُنَزِّلَ بالتخفيف: ابن كثير.
الوقوف:
وَقْراً ط بِها ط الْأَوَّلِينَ هـ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ج لابتداء النفي مع واو العطف وَما يَشْعُرُونَ هـ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ هـ مِنْ قَبْلُ ط لَكاذِبُونَ هـ بِمَبْعُوثِينَ هـ رَبِّهِمْ ط بِالْحَقِّ ط وَرَبِّنا ط تَكْفُرُونَ هـ بِلِقاءِ اللَّهِ ط لأن «حتى» للابتداء فيها لا لأن الواو للحال عَلى ظُهُورِهِمْ ط يَزِرُونَ هـ وَلَهْوٌ ط يَتَّقُونَ هـ تَعْقِلُونَ هـ يَجْحَدُونَ هـ نَصْرُنا ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقصود لكلمات الله كذلك.(3/63)
الْمُرْسَلِينَ هـ بِآيَةٍ ط مِنَ الْجاهِلِينَ هـ يَسْمَعُونَ هـ يُرْجَعُونَ هـ مِنْ رَبِّهِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ.
التفسير:
لما بيّن أحوال الكفار في الآخرة أتبعه بعض أسباب ذلك فقال وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ
قال ابن عباس: حضر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وعتبة وشيبة ابنا ربيعة وأمية وأبي ابنا خلف واستمعوا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر: ما تقول في محمد؟ فقال: ما أدري ما يقول إلا أني أرى تحريك.
شفتيه يتكلم بشيء وما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما كنت أحدثكم عن القرون الماضية.
وكان النضر كثير الحديث عن القرون الأولى، وكان يحدث قريشا فيستملحون حديثه فنزلت الآية. والأكنة جمع كنان وهو كل ما وقى شيئا وستره من الأغطية والقفل، ومنه أكننت وكننت. وأن يفقهوه مفعول لأجله أي كراهة فقههم. والوقر الثقل في الآذان. والتركيب يدور على الثقل ومنه الوقر بالكسر الحمل، والوقار الحلم. وفي الآية دلالة على أن الله تعالى هو الذي يصرف عن الإيمان ويحول بين المرء وبين قلبه. وقالت المعتزلة: لا يمكن إجراؤها على ظاهرها وإلا كأن فيها حجة الكفار، ولأنه يكون تكليفا للعاجز. ولم يتوجه ذمهم في قولهم وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ [البقرة: 88] فلا بد من التأويل وذلك من وجوه الأول: قال الجبائي: إن القوم كانوا يسمعون لقراءة الرسول ليتوسلوا بسماع قراءته إلى مكانه بالليل فيقصدوا قتله وإيذاءه، فكان الله تعالى يلقي على قلوبهم النوم والغفلة، وعلى آذانهم الثقل. وزيف بأن المراد لو كان ذلك لقيل «أن يسمعوه» بدل «أن يفقهوه» . وبأن قوله وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ أي كل دليل وحجة لا يُؤْمِنُوا بِها لا يناسبه. الثاني: أن المكلف الذي علم الله تعالى أنه لا يؤمن وأنه يموت على الكفر يسم قلبه بعلامة مخصوصة لتستدل الملائكة برؤيتها فلا يبعد تسمية تلك العلامة بالكنان مع انها في نفسها ليست بمانعة عن الإيمان. الثالث: يقال: إنه جبل على كذا إذا كان مصرا عليه وذلك على جهة التمثيل.
الرابع: لما منعهم الألطاف التي تصلح أن تفعل بالمهتدين وفوّض أمورهم إلى أنفسهم لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه. الخامس: أن هذا حكاية قولهم فِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: 5] وعورضت هذه الأدلة بالعلم والداعي، وذلك أن الله تعالى علم من الكافر أنه لا يؤمن وخلاف علمه محال، وأنه سبحانه هو الذي خلق فيهم داعية الكفر ومع وجود تلك الداعية يستحيل الإيمان فهو المعنى بالكنان. وتحقيق المسألة تقدم في أول سورة البقرة في قوله خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [البقرة: 7] والإفراد في يَسْتَمِعُ والجمع في قُلُوبِهِمْ اعتبار اللفظ من تارة ولمعناه أخرى حَتَّى إِذا جاؤُكَ هي حتى المبتدأة التي(3/64)
يقع بعدها الجمل كقوله: حتى ماء دجلة أشكل.
والجملة هاهنا مجموع الشرط والجزاء أعني قوله إِذا جاؤُكَ يقول: ويُجادِلُونَكَ في موضع الحال. ويجوز أن تكون حتى جارّة أي حتى وقت مجيئهم ويُجادِلُونَكَ حال بحاله ويَقُولُ تفسير له. والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى حالة المجادلة. ثم فسر الجدل بأنهم يقولون إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وأصل السطر هو أن يجعل شيئا ممتدا مؤلفا في صف ومنه سطر الكتاب وسطر من نخيل وجمعه أسطار وجمع الجمع أساطير.
وقال الزجاج: واحد الأساطير أسطورة كأحاديث وأحدوثة. وقال أبو زيد: لا واحد له كعباديد. قال ابن عباس: معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها أي يكتبونها. ومن فسر الأساطير بالخرافات والترهات نظر، إلى أن الأغلب هو أن لا يكون فيها فائدة معتبرة كحديث رستم وغيره فذلك معنى وليس بتفسير. ثم إن غرض القوم من هذا القول هو القدح في كون القرآن معجزا كما أن الكتب المشتملة على الأخبار والقصص ليست بمعجزة، والجواب أن هذا مقرون بالتحدي وقد عجزوا عن آخرهم دون تلك فظهر الفرق. ثم أكد طعنهم في القرآن بقوله وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ قال محمد بن الحنفية وابن عباس في رواية والسدي والضحاك: عن القرآن وتدبره والاستماع له وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ والنأي البعد. نأيته ونأيت عنه وناء الرجل إذا بعد لغة في «نأى» وحملوه على القلب لأن المصدر لم يجيء إلا على النأي. وقيل: الضمير للرسول والمراد النهي عن اتباعه والتصديق بنبوّته، جمعوا بين قبيحين: النأي والنهي فضلوا وأضلوا. وعن عطاء ومقاتل عن ابن عباس أنها نزلت في أبي طالب كان ينهى المشركين أن يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتباعد عما جاء به.
روي أن قريشا اجتمعوا إلى أبي طالب يريدون سوءا بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو طالب:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسد في التراب دفينا فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة وأبشر وقر بذاك منك عيونا وعرضت دينا لا محالة أنه من خير أديان البرية دينا ودعوتني وزعمت أنك ناصحي ولقد صدقت وكنت ثم أمينا لولا الملامة أو حذاري سبة لوجدتني سمحا بذاك مبينا
وضعفت هذه الرواية بقوله إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ يعني بما تقدم ذكره، ولكن النهي عن أذيته حسن لا يوجب الهلاك. ويمكن أن يجاب بأن الذم توجه على الهيئة الاجتماعية الحاصلة من النهي مع النأي كقوله أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 44] ولو سلم فلم لا يجوز أن يرجع الذم إلى القسم الأخير فقط.(3/65)
ثم بيّن أنه كيف يعود الضرر إليهم فقال وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ وجواب «لو» محذوف أي لرأيت سوء منقلبهم ونحو ذلك. وجاز حذفه للعلم به ولما في الحذف من تفخيم الشأن وهو ذهاب الوهم كل مذهب كما لو قلت لغلامك: والله لئن قمت إليك وسكت عن الجواب. ذهب فكره إلى أنواع المكاره من الضرب والقتل وغيرهما بخلاف ما لو قلت: لأضربنك. ولمثل هذا من إرادة المبالغة قال وُقِفُوا بلفظ الماضي مع «إذا» الدال على المضي كأن هذا الأمر وقع وتحقق فكان من حقه أن يخبر عنه بلفظ الماضي أي وقفوا على أن يدخلوا النار وهم يعاينونها، أو وقفوا عليها وهي تحتهم، أو هو من قولهم:
وقفت على المسألة الفلانية وقوفا أي عرفوا حقيقتها تعريفا أو المراد أنهم في جوف النار غائصين فيها فتكون «على» بمعنى «في» وجاز لأن النار دركات بعضها فوق بعض فلا يخلو من معنى الاستعلاء يا لَيْتَنا نُرَدُّ هو داخل في حكم التمني. أما قوله وَلا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ فمن قرأ بالنصب فيهما فبإضمار «أن» على جواب التمني والمعنى إن رددنا إلى دار التكليف لم نكذب ونكن من المؤمنين. ومن قرأ بالرفع فيهما فوجهان: أحدهما أن التمني يتم عند قوله نُرَدُّ ثم ابتدءوا وَلا نُكَذِّبَ وَنَكُونَ أي ونحن لا نكذب ونكون كأنهم ضمنوا أن لا يكذبوا ويكونوا من المؤمنين سواء حصل الرد أو لم يحصل. وشبهه سيبويه بقولهم: دعني ولا أعود بمعنى دعني وأنا لا أعود تركتني أو لم تتركني. وثانيهما أن يكونا معطوفين على نُرَدُّ أو حالين على معنى يا ليتنا نرد غير مكذبين وكائنين من المؤمنين فيدخل المجموع تحت حكم التمني. وأورد على هذا الوجه أن المتمني لا يكون كاذبا وقد قال تعالى وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وأجيب بأن هذا التمني قد تضمن معنى الوعد فجاز أن يتعلق به التكذيب كقول القائل: ليت الله يرزقني مالا فأحسن إليك فهذا متمن في حكم الواعد فلو رزق مالا ولم يحسن إلى صاحبه كذب لأنه كأنه قال: إن رزقني الله مالا أحسنت إليك. وأما قراءة ابن عامر فمعناه إن رددنا غير مكذبين نكن من المؤمنين ثم رد الله تعالى عليهم بأنهم ما تمنوا العود إلى الدنيا وترك التكذيب وتحصيل الإيمان لأجل كونهم راغبين في الإيمان بل لأجل خوفهم من العذاب الذي شاهدوه وعاينوه فقال بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وما الذي كانوا يخفونه في الدنيا. قال أكثر المفسرين: إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك فيقولون وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] فينطق الله تعالى جوارحهم فتشهد عليهم بالكفر فذلك معنى بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وقال المبرد: بدا لهم وبال عقائدهم وأعمالهم وسوء عاقبتها، وذلك أن كفرهم ما كان ظاهرا لهم وإنما ظهر لهم يوم القيامة. وقال الزجاج: بدا للأتباع ما أخفاه الرؤساء منهم من أمر البعث والنشور بدليل قوله بعد ذلك وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ وهذا قول(3/66)
الحسن. وقيل: إنها في المنافقين كانوا يسرون الكفر فيظهر نفاقهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة. وقيل: هو في أهل الكتاب يظهر لهم ما كانوا يكتمونه من صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
والأولى حمل الآية على الكل لأنه يوم تبلى السرائر فلا جرم تظهر الفضائح والقبائح وتنكشف الأسرار وتنهتك الأستار اللهم كفر عنا سيآتنا في ذلك اليوم. ثم قال وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ قيل كيف يتصوّر هذا وإنهم قد عرفوا الله تعالى حينئذ بالضرورة وشاهدوا الأحوال والأهوال؟ وأجاب القاضي بأن المراد ولو ردّوا إلى حالة التكليف. وعلى هذا التقدير لا تبقى المعرفة ضرورية فلا يمتنع صدور الكفر عنهم. وضعف بأن المقصود من إيراد هذا الكلام المبالغة في غيهم وتماديهم وإصرارهم على الكفر. وإذا فرض عودهم إلى حالة التكليف زال التعجب كما هو الآن فإذن لا تنحل العقدة إلا بأن يقال: المراد توكيد جريان القضاء السابق فيهم بحيث لو شاهدوا العذاب والعقاب ثم سألوا الرجعة فردوا إلى الدنيا لعادوا إلى الشرك ولم ينجع ذلك فيهم. وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما وعدوا في ضمن التمني أو في كل شيء ولهذا قالوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا «إن» نافية والضمير عائد إلى حقيقة الحياة المعلومة في الأذهان ولهذا أضيف إلى ضمير جمع المتكلم أي ما لنا حياة إلا هذه الحياة التي هي أقرب إلينا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعدها. وقيل: إن تقدير الآية ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه ولأنكروا البعث ولقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا.
ثم لما قرر إنكارهم كشف عن حالهم يوم القيامة فقال وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ تمسك بعض المشبهة بهذا على أنه تعالى يحضر تارة ويغيب أخرى، ورد بأن استعلاء شيء على ذات الله تعالى محال بالاتفاق فوجب تأويل الآية بأنه مجاز عن الحبس للتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي مولاه للعتاب، أو المضاف محذوف أي على جزاء ربهم أو وعده أو إخباره بثواب المؤمنين وعقاب الكافرين، أو هو من قولك: وقفته على كذا أي أطلعته عليه. ثم كان لسائل أن يقول: ماذا قال لهم ربهم إذ وقفوا عليه؟ فأجيب قالَ أَلَيْسَ هذا الذي عاينتموه من حديث البعث والجزاء بِالْحَقِّ الذي حدثتموه؟ قالُوا بَلى وَرَبِّنا وفيه دليل على أن حالهم في الإنكار سيؤل إلى الإقرار، ثم كأنه سئل ماذا قيل لهم بعد الإقرار؟ فأجيب قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي بسبب كفركم وذلك ليعلم أن الإقرار في غير دار التكليف لا ينفع، وذلك أن جوهر النفس اللطيفة القدسية بعث إلى هذا العالم الجسماني الكثيف وأعطى الآلات الجسمانية لتحصيل المعارف اليقينية والأخلاق الفاضلة التي تعظم منافعها بعد الموت. فإذا استعملها الإنسان بناء على اعتقاد عدم المعاد في تحصيل اللذات الفانية والسعادات المنقطعة إلى أن ينقضي أجله فقد ضاع رأس المال(3/67)
ولا ربح وذلك قوله قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ أي ببلوغ الآخرة وثوابها وعقابها.
عبر عن ذلك بلقاء الله لأنه لا حكم لأحد هناك إلا لله بخلاف الدنيا فإنه قد يظن أن للإنسان تصرفا واختيارا وملكا وملكا. وحمل اللقاء على الرؤية أيضا غير بعيد عند أهل السنة.
و «حتى» غاية ل كَذَّبُوا لا ل خَسِرَ لأن خسرانهم لا غاية له أي لم يزل بهم التكذيب إلى تحسرهم وقت مجيء الساعة بل وقت موتهم، فإن أمارات السعادة والشقاوة تلوح على صفحات أحوال المكلف من وقتئذ وهذا معنى
قوله صلى الله عليه وسلم «من مات فقد قامت قيامته»
وسمى يوم القيامة الساعة لسرعة الحساب فيه كأنه قيل: ما هو إلا ساعة الحساب، أو لأنها تفجأ الناس في ساعة لا يعلمها إلا الله تعالى ولهذا قال بَغْتَةً أي فجأة. وانتصابها على الحال أي باغتة من بغته إذا فاجأه، أو على المصدر العام أي بغتتهم الساعة بغتة أو الخاص لأن البغت نوع من المجيء قالُوا عامل «إذ» يا حَسْرَتَنا مثل يا وَيْلَتى [الفرقان: 28] وقد مر مثله في سورة المائدة أي احضري فهذا وقتك عَلى ما فَرَّطْنا أصله يدل على الترك والهمزة في الإفراط لإزالة ذلك. وقولهم فرطت القوم أي سبقتهم إلى الماء، معناه تركتهم من ورائي حتى حصل لي التقدم. أما الضمير في فِيها فقال ابن عباس: أي في الدنيا وإن لم يجر لها ذكر في الآية بدلالة العقل لأن موضع التقصير هو الدنيا. وقال الحسن: أي في وقت الساعة على معنى قصرنا في شأنها والإيمان بها وإعداد الزاد وتحصيل الأهبة لها.
وقال محمد بن جرير الطبري: يعود إلى الصفقة والمبايعة بدلالة ذكر الخسران. وقيل: إلى ما فيما فرطنا أي يا حسرتنا على الأعمال والطاعات التي تركناها وقصرنا فيها. ثم بين تضاعف خسرانهم بأنهم لم يحصلوا لأنفسهم مواجب الثواب ولكن حصلوا مواجب العقاب فقال وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ هي الآثام والخطايا. وأصل الوزر الثقل ومنه الوزير لأنه يحمل ثقل صاحبه. والوزر الملجأ لأنه يدفع عنه ما أصابه فكأنه حمله. أما كيفية حملهم الأوزار فقال في الكشاف: إنه مجاز عن حصولها لهم كقوله فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: 30] لأنه اعتيد حمل الأثقال على الظهور كما ألف الكسب بالأيدي. وقال الزجاج: الثقل قد يذكر في الحال والصفة. ثقل عليّ خطاب فلان أي كرهته، فالمعنى أنهم يقاسون عذاب ذنوبهم مقاساة ثقل ذلك عليهم. وقيل: هو كقولك: شخصك نصب عيني أي ذكرك ملازم لي. وقال جمع من المفسرين: إن المؤمن إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أحسن الأشياء صورة وأطيبها ريحا فيقول: أنا عملك الصالح طالما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم فذلك قوله يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً [مريم: 85] قالوا ركبانا وإن الكافر إذا خرج من قبره استقبله شيء هو أقبح الأشياء صورة وأخبثها ريحا فيقول: أنا عملك الفاسد طالما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم قاله قتادة والسدي.(3/68)
أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ بئس شيئا يزرون وزرهم.
ثم رغب في الحياة الباقية وزهد في الحياة العاجلة فقال وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ قال ابن عباس: يريد حياة أهل الشرك والنفاق لأن حياة المؤمن تحصل فيها أعمال صالحة فلا تكون لعبا ولهوا. وقال آخرون: هو عام في حياة المؤمن والكافر وذلك أن مدة اللهو واللعب وكل شيء يلهيك ويشغلك مما لا أصل له قليلة سريعة الانقضاء والزوال، ومدة هذه الحياة كذلك. وأيضا اللعب واللهو لا بد أن يتناهيا في أكثر الأمر إلى شيء من المكاره ولذات الدنيا كذلك، ولهذا رفضها العلماء المحققون والحكماء المتألهون.
وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ قال ابن عباس: هي الجنة وإنها خير لمن اتقى الكفر والمعاصي. وقال الأصم: التمسك بعمل الآخرة خير. وقال الآخرون: نعيم الآخرة خير من نعيم الدنيا من حيث إنها دائمة باقية مصونة عن شوائب الآفات والمخافات، آمنة من نقص الانقضاء والانقراض لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ فيه أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن اتقى الكفر والمعاصي، وأما الكافر والفاسق فالدنيا بالنسبة إليهما خير كما
قال صلى الله عليه وسلم «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» «1» .
أَفَلا تَعْقِلُونَ قال الواحدي: من قرأ بتاء الخطاب فالمعنى قل لهم أفلا تعقلون أيها المخاطبون، ومن قرأ بالياء فمعناه أفلا يعقل الذين يتقون أن الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار؟ وذلك أن خيرات الدنيا ليست إلا قضاء الشهوات التي يشارك فيها سائر الحيوانات، بل ربما كان أمر تلك الحيوانات فيها أكمل، فالجمل أكثر أكلا، والديك والعصفور أكثر وقاعا، والذئب والنمر والحيات أقوى غضبا وقهرا، وكل من وقف عمره على هذه المطالب لم يكن له عند العقلاء وزن ولا عند الحكماء والعلماء قدر، وكل من صرف عمره في تحصيل الكمالات الدائمات والسعادات الباقيات كان له في العيون مهابة وفي القلوب قبول، وذلك دليل على شهادة الفطرة الأصلية بخساسة اللذات الجسمانية وعلو مرتبة الكمالات الروحانية. وهب أن النوعين تشاركا في الفضل والمنقبة أليس المعلوم أفضل من المظنون وأن خيرات الآخرة معلومة قطعا والوصول إلى خيرات الدنيا في الغد غير معلوم ولا مظنون؟ فكم من سلطان قاهر بكرة صار تحت التراب عشية، وكم من متمول متغلب أصبح أميرا كبيرا ثم أمسى فقيرا حقيرا. وهب أنه وجد بعد هذا اليوم يوما آخر فلن يمكنه الانتفاع بكل ما جمع من الأسباب، ولو انتفع فقلما يخلص من شوائب المكاره
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 1. الترمذي في كتاب الزهد باب 16. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 3. أحمد في مسنده (2/ 197، 322، 389) [.....](3/69)
والآفات كما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال «من طلب ما لم يخلق أتعب نفسه ولم يرزق. قيل: وما هو يا رسول الله؟ قال: سرور يوم بتمامه»
وهب أن الدست له قد تم، أليس مآل كل ذلك إلى الزوال والانقراض؟ وكفى بذلك نقصا وكدرا كما قال:
كمال الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا
ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قَدْ نَعْلَمُ والمراد كثرة العلم والمبالغة كما مر في قوله قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ [البقرة: 144] والهاء في إِنَّهُ ضمير الشأن وكسرت بعد العلم لمكان لام الابتداء في لَيَحْزُنُكَ وما ذلك المحزن؟ قال الحسن: هو قولهم ساحر شاعر كاهن مجنون. وقيل: تصريحهم بأنهم لا يؤمنون به ولا يقبلون دينه. وقيل: نسبتهم إياه إلى الكذب فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ قال أبو علي وثعلب: أكذبه وكذبه بمعنى. وقيل: أكذبت الرجل ألفيته كاذبا، وكذبته إذا قلت له كذبت. وقال الكسائي: أكذبته إذا أخبرت أنه جاء بالكذب ورواه وكذبته إذا أخبرت أنه كاذب. وقال الزجاج: معنى كذبته قلت له كذبت، ومعنى أكذبته أن الذي أتى به كذب في نفسه من غير ادعاء أن ذلك القائل تكلف ذلك الكذب وأتى به على سبيل الافتعال والقصد. فمن قرأ بالتخفيف نظر إلى أن القوم كانوا يعتقدون أن محمدا صلى الله عليه وسلم ما ذكر ذلك على سبيل الافتعال والترويج بل تخيل صحة ذلك وأنه نبي إلا أن تخيله باطل. ثم إن ظاهر الآية يقتضي أنهم لا يكذبون محمدا صلى الله عليه وسلم ولكنهم يجحدون بآيات الله، وفي الجمع بين الأمرين وجوه: الأول أن القوم ما كانوا يكذبونه في السر ولكنهم كانوا يكذبونه في العلانية ويجحدون القرآن ونبوته ويؤكده رواية السدي أن الأخنس بن شريق وأبا جهل بن هشام التقيا فقال الأخنس لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيري. فقال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش فنزلت.
وقال أبو ميسرة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بأبي جهل وأصحابه فقالوا يا محمد إنا والله ما نكذبك إنك عندنا لصادق ولكن نكذب ما جئت به فنزلت.
وقال مقاتل: نزلت في الحرث بن عامر بن نوفل كان يكذب النبي صلى الله عليه وسلم في العلانية، فإذا خلا مع أهل بيته قال: ما محمد من أهل الكذب ولا أحسبه إلا صادقا فإذن هذه الآية نظير قوله تعالى في قصة موسى وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل:
14] فانظر. الثاني في تأويل الآية أنهم لا يقولون إنك كذاب لأنهم جربوك الدهر الطويل وما وجدوا منك كذبا وسموك الصادق الأمين فلا يقولون بعد إنك كاذب، ولكن جحدوا(3/70)
صحة نبوتك ورسالتك إما لأنهم اعتقدوا أن محمدا عرض له نوع خبل ونقصان فلأجل ذلك تخيل أنه رسول لا أنه كذب في نفسه، أو لأنهم زعموا أنه أمين في كل الأمور إلا في هذا الواحد. الثالث أنه لما ظهرت المعجزات على يده ثم إن القوم أصروا على التكذيب فقال له إن القوم ما كذبوك وإنما كذبوني، ونحوه قول السيد لغلامه إذا أهانه بعض الناس: إنهم لم يهينوك وإنما أهانوني ومثله قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح:
10] فكأنه قيل له: إله عن حزنك لنفسك وليشغلك عن ذلك ما هو أهم وهو استعظامك لجحود آيات الله والاستهانة بكتابه. الرابع: قيل في التفسير الكبير: أي لا يخصونك بهذا التكذيب بل ينكرون دلالة المعجزة على الصدق مطلقا ويكذبون جميع الأنبياء والرسل.
وقوله وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ من إقامة المظهر مقام المضمر تسجيلا عليهم بالظلم في جحودهم، لأن من وضع التكذيب مقام التصديق فقد ظلم. ثم صبر رسوله على أذية القوم فقال وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ وأيّ رسل مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا فأنت أولى بهذه السيرة لأنك مبعوث إلى كافة الخلائق فاصبر كما صبروا تظفر كما ظفروا. وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ أي لمواعيده في نحو قوله كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: 21] وقوله وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ [الصافات: 171] وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ قال الأخفش «من» زائدة والأصح أنها للتبعيض لقلة مجيء زيادة «من» في الإثبات، ولأن الواصل إليه بعض قصص الأنبياء لقوله مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [غافر: 78] فالتقدير: ولقد جاءك بعض أنبائهم. وكان يكبر على النبي صلى الله عليه وسلم كفر قومه وإعراضهم عما جاء به فنزلت وَإِنْ كانَ كَبُرَ أي شق عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ عن الإيمان وصحة القرآن فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ فافعل. يعني أنك لا تستطيع ذلك والجواب محذوف وحسن للعلم به. والنفق سرب في الأرض له مخلص إلى مكان ومنه اشتقاق المنافق. والسلم واحد السلاليم التي يرتقي عليها وأصله من السلامة كأنه يسلمك إلى مصعدك. والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو استطاع أن يأتي بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها وبكل ما اقترحوه رجاء إيمانهم، ويجوز أن يكون ابتغاء النفق أو السلم هو الآية كأنه قيل: لو استطعت ذلك لفعلت كل ذلك ليكون لك آية يؤمنون عندها، ثم قال وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى قال أهل السنة: فهو دليل على أنه تعالى لا يريد الإيمان من الكافر. وقالت المعتزلة: المراد مشيئة الإلجاء المنافي للتكليف.
والإلجاء هو أن يعلمهم أنهم لو حاولوا غير الإيمان لمنعهم منه فيضطرون إلى الإيمان.
مثاله: أن يحصل شخص بحضرة السلطان وهناك خدمه وحشمه فيعلم أنه لو هم بقتل ذلك(3/71)
السلطان لقتلوه في الحال فيصير هذا العلم مانعا له من القتل. وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. أما قوله فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ أي من الذين يرومون خلاف مأمور الله. فهذا النهي لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة ولكنه يفيد التغليظ وتأكيد الامتناع عن الجزع والإضراب عن الحزن والأسف على إيمان من لم يشأ الله إيمانه.
ثم بيّن السبب في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان فقال إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ مثل لقدرته على إلجائهم إلى الاستجابة. والمراد أنه تعالى هو الذي يقدر على إحياء قلوب هؤلاء الكفار بحياة الإيمان وأنت لا تقدر على ذلك، يعني أن الذين تحرص على حصول إيمانهم بمنزلة الموتى الذين لا يسمعون كقوله إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى [النمل: 80] أو المعنى أن هؤلاء الكفرة يبعثهم الله ثم إليه يرجعون فحينئذ يسمعون، وأما قبل ذلك فلا سبيل إلى إسماعهم. أما وجه تشبيه الكفرة بالموتى فلأن حياة الروح بالعلم ومعرفة الصانع كما أن حياة الجسد بالروح. ثم ذكر شبهة أخرى للطاعنين في نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وهو أنه ما جاء بآية قاهرة ومعجزة باهرة فكأنهم طعنوا في كون هذا القرآن معجزا على سبيل العناد أو قياسا على سائر الكتب السماوية، أو طلبوا معجزات تقرب من حد الإلجاء كشق الجبل وفلق البحر، فإن معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم من تسبيح الحصا وانشقاق القمر وغير ذلك ليست بأقل منها. أو اقترحوا مزيد الآيات بطريق التعنت واللجاج كقولهم إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] فأجابهم الله تعالى بقوله قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن فاعليته ليست إلا بحسب محض المشيئة عند أهل السنة، أو على وفق المصلحة عند المعتزلة، لا على موجب اقتراحات الناس ومطالباتهم. أو أنه لما ظهرت المعجزة الباهرة والدلالة الكافية من القرآن وغيره لم يبق لهم عذر ولا علة، فلو أجابهم إلى مقترحهم فلعلهم يقترحون اقتراحا ثانيا وثالثا وهلم جر أو ذلك يفضي إلى أن لا يستقر الدليل ولا تتم الحجة وهذا خلاف المقصود، أو لا يعلمون أنه لو أعطاهم سؤلهم ثم لم يؤمنوا لاستوجبوا الاستئصال، أو لا يعلمون أنهم لما طلبوا ذلك على سبيل العناد لا لأجل الفائدة- وقد علم الله ذلك- لم يعطهم مطلوبهم ولو كان غرضهم طلب الحق ونيله لأعطاهم مطلوبهم على أكمل الوجوه.
التأويل:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ إنكارا واختبارا وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ من شؤم إنكارهم حجبا من غير الإنكار وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً من فساد الاستعداد الفطري. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ بعين الظاهر لا يُؤْمِنُوا بِها من عمى القلوب وإعواز نور الإيمان فيها وَهُمْ يَنْهَوْنَ الطلاب عن الحق. وَإِنْ يُهْلِكُونَ بتنفير الخلق عن الحق إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأن التباعد من أهل الحق هو البعد عن الحق وهذا هو الهلاك الحقيقي. وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى(3/72)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)
النَّارِ
أي أرواح الأشقياء بعد الخلاص عن حبس الطبيعة عرفوا ألم عذاب القطيعة فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ إلى عالم الصورة وإلى الاستعداد الفطري بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ أين يظهر عليهم آثار الشقاوة التي كتبت لهم وكانوا يتكلفون سترها في عالم الصورة بلباس البشرية وَلَوْ رُدُّوا إلى عالم الصورة لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من اتباع الهوى فيفسدون استعدادهم مرة أخرى وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما يدعون لأنهم خلقوا لأجل التكذيب لا لأجل التصديق، ولهذا نسوا ما شاهدوا يوم الميثاق من الألطاف والإعطاف، وقولهم «بلى» في جواب خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ عرفوا ربوبية ربهم ولو عرفوها في الدنيا لم يذوقوا عذاب البعد في العقبى حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً هي الساعة التي يجتذب العبد فيها عن أوصاف البشرية بجذبات المحبة فجأة وهي قيامة أخرى لأن فيها تبدل أرض البشرية غير الأرض وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [الزمر: 69] فينظر المحب الصادق بالنور الساطع إلى أيام ضاعت منه في طلب غير الحق فيتأسف عليها ويقول: أيها القانص ما أحسنت صيد الظبيات، فاتك السرب وما ازددت غير الحسرات وَهُمْ يَحْمِلُونَ أثقال التعلقات الزائدة على ظهور وجودهم، فإن الوجود على السالك ثقيل مانع عن السلوك فكيف ما زيد عليه؟ إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ كلعب الصبيان ولهو أهل العصيان وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ هي السير من البشرية إلى الروحانية والإقبال على الله والإعراض عما سواه خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ غير الله أَفَلا تَعْقِلُونَ أن الإنسان خلق لهذا الشأن لا لغيره كقوله وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه: 41] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ من ضيق نطاق البشرية أثر في حبيب الله مقالة الجهلة ولا مبدل لكلمات الله لمقدّراته التي قدّرها ودبرها من الأزل إلى الأبد بكلمة «كن» وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ في عالم الأرواح عند رشاش النور على الهدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ الذين لا يعلمون الحكمة في جعل البعض في مظاهر اللطف والبعض بمظاهر القهر. والنهي في حقه صلى الله عليه وسلم هو نهي الامتناع عن الكينونة أي خلق في الأزل ممتنعا عن الجهل بواسطة كلمة لا تكن كما أنه خلق مستعدا للكمال بكلمة «كن» قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً في كل لحظة ولمحة وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ دلالة الكائنات على المكوّن والممكنات على الواجب والمصنوعات على الصانع وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [يوسف: 105] .
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
[سورة الأنعام (6) : الآيات 38 الى 50]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42)
فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)
وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)(3/73)
القراآت:
أَرَأَيْتَكُمْ وبابه بتليين الهمزة: أبو جعفر ونافع وحمزة في الوقف أريتكم وبابه بغير همز: عليّ. الباقون: أَرَأَيْتَكُمْ بالتحقيق فَتَحْنا بالتشديد: يزيد وابن عامر بِهِ انْظُرْ بضم الهاء روى الأصفهاني عن ورش.
الوقوف:
أَمْثالُكُمْ ط يُحْشَرُونَ هـ فِي الظُّلُماتِ ط يُضْلِلْهُ ط لابتداء شرط آخر مُسْتَقِيمٍ هـ تَدْعُونَ ج لأن جواب «إن» منتظر محذوف تقديره إن كنتم صادقين فأجيبوا مع اتحاد الكلام صادِقِينَ هـ تُشْرِكُونَ هـ يَتَضَرَّعُونَ هـ يَعْمَلُونَ هـ كُلِّ شَيْءٍ ط مُبْلِسُونَ هـ ظَلَمُوا ط الْعالَمِينَ هـ يَأْتِيكُمْ بِهِ ط يَصْدِفُونَ هـ الظَّالِمُونَ هـ وَمُنْذِرِينَ ج يَحْزَنُونَ هـ يَفْسُقُونَ هـ إِنِّي مَلَكٌ ج للابتداء بالنفي مع اتحاد القائل والمقول إِلَيَّ ط يتفكرون هـ.
التفسير:
لما بين أن إنزال سائر المعجزات لو كان مصلحة لهم لفعل ذلك، أكده بما يؤذن أن آثار فضله وإحسانه ولطفه وامتنانه واصلة إلى جميع الحيوانات، فلو كانت مصلحة المكلفين في إظهار تلك المعجزات القاهرة الملجئة لم يخل بذلك البتة، وفيه أيضا مزيد تقرير لأمر البعث وأنه حاصل لجميع الحيوان فضلا عن الإنسان. فإن الحيوان إما أن يكون بحيث يدب أو يكون بحيث يطير. وإنما خص من الدواب ما في الأرض بالذكر دون ما في السماء أو في الماء، لأن رعاية مصالح الأدون تستلزم رعاية مصالح الأشرف، ويمكن أن(3/74)
يقال: إن الماء أيضا من جملة الأرض لأنهما جميعا ككرة واحدة. قال علماء المعاني: إنما وصف الدابة بكونها في الأرض والطائر بأنه يطير بجناحيه ليعلم أنهما باقيان على عمومهما إذ بينهما بخواص الجنسين، ولولا ذلك لاحتمل أن يقدّر فيهما صفة نحو ترتع أو تصيد فيتخصصا، أو لأوهم أن المراد بهما غير الجنسين المتعارفين لقوله بعده إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ وقد يقول الرجل لعبده طر في حاجتي والمراد الإسراع. قال الحماسي:
طاروا إليه زرافات ووحدانا وقيل: ذكر يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ ليخرج عنه الملائكة ذوو الأجنحة، فإن المراد ذكر من هو أدون حالا. وقيل: إن الوصف للتأكيد كقولهم: نعجة أنثى. وكما يقال: مشيت إليه برجلي. وإنما جمع الأمم مع أنه أفرد الدابة والطائر، لأن النكرة المستغرقة في معنى الجمع. قال الفراء: كل صنف من البهائم أمة.
وفي الحديث «لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها» «1» .
ثم ما وجه المماثلة بين البشر والدابة والطائر؟ نقل الواحدي عن ابن عباس أنه قال: يعرفونني ويوحدونني ويسبحونني كقوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء: 44] كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور: 41] وعن أبي الدرداء:
أبهمت عقول البهائم إلا عن معرفة الإله وطلب الرزق. ومعرفة الذكر والأنثى. وهذا قول طائفة عظيمة من المفسرين. وقيل: وجه المماثلة كونها جماعات وكونها مخلوقة بحيث يشبه بعضها بعضا ويأنس بعضها ببعض ويتوالد بعضها من بعض. وضعف بأن هذا أمر معلوم مشاهد لا فائدة في الإخبار عنه. وقيل: هو أنه دبرها وخلقها وتكفل برزقها وأحصى أحوالها وما يجري عليها من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة. دليله قوله عقيبه ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ. وقيل: هو أنها تحشر يوم القيامة ويوصل إليها حقوقها
وقد جاء في الحديث «يقتص للجماء من القرناء» «2» .
ولكن قوله بعد ذلك ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يصير كالمكرر. وعن سفيان بن عيينة: ما في الأرض من آدمي إلا وفيه شبه من بعض البهائم. فمنهم من يقدم إقدام الأسد، ومنهم من يعدو عدو الذئب، ومنهم من ينبح نباح الكلب، ومنهم من يتطوّس كفعال الطاووس، ومنهم من يشبه الخنزير لو ألقي إليه الطعام الطيب تركه وإذا قام عن رجيعه لعب فيه، وكذلك نجد من الآدميين من يسمع
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الأضاحي باب 21. الترمذي في كتاب الصيد باب 16، 17. النسائي في كتاب الصيد باب 10. ابن ماجه في كتاب الصيد باب 2. أحمد في مسنده (4/ 85، 86) ، (5/ 54) .
(2) رواه أحمد في مسنده (1/ 72) .(3/75)
خمسين كلمة من الحكمة لا يحفظ واحدة وإن أخطأت مرة واحدة حفظها، ولم يجلس مجلسا إلا زاد فيه. واعلم يا أخي أنك تعاشر البهائم والسباع فبالغ في الحذر والاحتراز.
وذهب أهل التناسخ إلى أن الأرواح البشرية إن كانت سعيدة مطيعة لله تعالى موصوفة بالمعارف الحقة موسومة بالأخلاق الفاضلة فإنها بعد موتها تنتقل إلى أبدان الملوك، وربما قالوا إنها تصل إلى مخالطة عالم الملائكة. وإن كانت شقية جاهلة فإنها تنقل إلى أبدان الحيوانات، وكلما كانت أكثر شقاء فإنها تنتقل إلى بدن حيوان أخس وأكثر تعبا وعناء.
قالوا: وذلك لأن لفظ المماثلة يقتضي حصول المساواة في جميع الصفات الذاتية. ثم زعموا أن الله تعالى أرسل إلى كل جنس منها رسولا من جنسها لقوله وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] واستشهدوا بقصة النمل وحديث الهدهد ونحو ذلك. وفي تعداد مذاهب أرباب التناسخ طول والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «من» مزيدة للاستغراق أي ما تركنا وما أغفلنا شيئا قط. وقيل: للتبعيض أي ما أهملنا فيه بعض شيء يحتاج المكلف إلى معرفته. والكتاب اللوح المحفوظ المشتمل على جميع أحوال العالم على التفصيل. وقيل: القرآن لأنه هو الذي تسبق إليه الأذهان فيما بين أهل الإيمان، وأورد عليه أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب والحساب ولا تفاصيل كثير من العلوم ولا حاصل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع. وأجيب بأن لفظ التفريط لا يستعمل إلا فيما يجب أن يفعل، والمحتاج إليه إنما هو الأصول والقوانين لا الفروع التي لا تضبط ولا تتناهى. وما من علم إلا وفي القرآن أصله ومنه شرفه وفضله كقوله كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأعراف: 31] للطب. وقوله وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ [الأنعام: 62] للحساب. وكقوله خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ [الأعراف: 199] للأخلاق. وأما تفاصيل علم الفروع فذكر العلماء أن السنة والإجماع والقياس كلها مستندة إلى الكتاب كقوله وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] وكقوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 115] وكقوله:
فَاعْتَبِرُوا [الحشر: 2] وقيل: إن القرآن واف ببيان جميع الأحكام، لأن الأصل براءة الذمة عن التكاليف كلها وشغل الذمة لا بد فيه من دليل منفصل، وكل حكم لم يكن مذكورا في القرآن بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام لم يكن ذلك تكليفا أو يكون باقيا على أصل الإباحة والله تعالى أعلم. أما قوله ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ فللعقلاء فيه قولان: الأوّل قول الأشاعرة إنه تعالى يحشر الدواب والطيور لا لأن إيصال العوض إليهن واجب بل مجرد الإرادة والمشيئة ومقتضى الإلهية. الثاني قول المعتزلة لن يحشر الطيور والبهائم إلا لإيصال(3/76)
الأعواض إليها، لأن إيصال الآلام إليها من غير سبق جناية لا يحسن إلا للعوض. وفرع القاضي على ذلك فقال: كل حيوان استحق العوض على الله تعالى بما لحقه من الآلام وكان ذلك العوض لم يصل إليه في الدنيا فإنه يجب على الله تعالى حشره في الآخرة ليوفر عليه ذلك العوض، والذي لا يكون كذلك فإنه لا يجب حشره عقلا إلا أن السمع ورد بحشر الكل فيقطع بذلك. فرع آخر: كل حيوان أذن الله تعالى في ذبحه فالعوض له على الله تعالى، وكذا الذي أذن في قتله في كونه مؤذيا أو ألمه بمرض أو سخره للإنسان لأجل حمل الأثقال، وأما إذا ظلمها الناس فالعوض على الظالم، وكذا إذا ظلم بعضها بعضا، ولو ذبح المأكول لغير مأكله. فالعوض على الذابح ولهذا ورد النهي عن ذبح الحيوان لغير مأكله والمراد من العوض منافع عظيمة بلغت في الجلالة إلى حيث لو كانت هذه البهيمة عاقلة وعلمت أنه لا سبيل إلى تحصيل تلك المنافع إلا بواسطة تحمل ذلك الذبح لرضيت به. فرع آخر: مذهب القاضي وأكثر المعتزلة أن العوض منقطع وبعد ذلك تصير ترابا وحينئذقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ: 40] وقال أبو القاسم البلخي: يجب دوام العوض لأنه لا يمكن قطع ذلك العوض إلا بإماتة تلك البهيمة، وإماتتها توجب الألم، وذلك الألم يوجب عوضا آخر وهلم جرا إلى ما لانهاية له. وأجيب بالمنع من أن الإماتة لا يمكن تحصيلها إلا بالإيلام. فرع آخر: البهيمة إذا استحقت عوضا على بهيمة أخرى: فإن كانت البهيمة الظالمة قد استحقت عوضا على الله تعالى فإنه تعالى يوصل ذلك العوض إلى المظلوم وإلا فإنه تعالى يتكفل بذلك العوض، وهذا القدر يكفي في أحكام الأعواض بحسب المقام وهو سبحانه أعلم. ولما ذكر من خلائقه وآثار قدرته ما ينادي على عظمته ويشهد لربوبيته وينبه على رحمته الكاملة وعنايته الشاملة قال وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ لا يسمعون كلام الله البتة وَبُكْمٌ لا ينطقون بالحق خابطون فِي الظُّلُماتِ ظلمة الكفر وظلمة الشكوك وظلمة الحيرة والضلالة. ثم بين أن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان كلها بمشيئته وإرادته وتسخيره وتدبيره فقال مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ والجبائي أوّل الآية بأن المراد أنهم كذلك في الآخرة كقوله وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [الإسراء: 97] وأنهم شبهوا بمن حاله كذا، أو هو محمول على الشتم والإهانة، وأما قوله مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أي عن طريق الجنة ولا يشاء الإضلال إلا لمن يستحق عقوبته كما أنه لا يشاء الهدي إلا للمؤمنين. أو المراد بالإضلال منع الألطاف لأنهم ليسوا من أهلها وبالهداية منحها لأنهم من أهلها. ثم بين غاية جهالة الكفار وأنهم مع جحودهم يفزعون إلى الله في البليات فقال قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ هو منقول من رأيت بمعنى(3/77)
أبصرت أو عرفت كأنه قيل: أبصرته وشاهدت حاله العجيبة أو أعرفتها أخبرني عنها فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حالة عجيبة بشيء. فهذا من باب إيقاع السبب على المسبب لأن الإخبار إنما يكون بعد المشاهدة أو العرفان. أما إعرابه فالتاء ضمير الفاعل، والكاف للخطاب. فالتاء يكون بلفظ واحد في التثنية والجمع والتأنيث. وتختلف هذه المعاني على الكاف نحو: أرأيتك أرأيتكما أرأيتكم أرأيتكن. والتاء في جميع ذلك مفتوحة والكاف حرف خطاب وليست اسما وإلا لكانت إما مجرورة ولا جار، وإما مرفوعة وليست الكاف من ضمائر المرفوع ولا رافع أيضا لأن التاء فاعل ولا يكون لفعل فاعلان، وإما منصوبة وهو باطل من وجوه: أحدها أن هذا الفعل قد يتعدى إلى مفعولين نحو أرأيتك زيدا ما شأنه. فلو جعلت الكاف مفعولا لكان ثالثا
. وثانيها لو كان مفعولا لكان هو الثاني في المعنى وليس المعنى على ذلك إذ ليس الغرض أرأيت نفسك بل أرأيت غيرك ولذلك قلت: أرأيتك زيدا، وزيد غير المخاطب ولا هو بدل منه. وثالثها لو كان منصوبا على أنه مفعول لظهرت علامة التثنية والجمع والتأنيث في التاء نحو: أرأيتماكما وأ رأيتموكم وأ رأيتموكن. وقد ذهب الفراء إلى أنه اسم مضمر منصوب في معنى المرفوع ويجوز تصريف التاء. فأما مفعولا أرأيت في الآية فقيل: هما محذوفان تقديره أرأيتكم عبادتكم الأصنام هل تنفعكم عند مجيء الساعة؟
ودل عليه قوله أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ وقيل: لا يحتاج هاهنا إلى المفعول لأن الشرط وجوابه قد حصلا معنى المفعول وأما جواب الشرط فما دل عليه الاستفهام في قوله أَغَيْرَ اللَّهِ تقديره أرأيتكم الساعة دعوتم الله وحاصل الآية قل يا محمد لهؤلاء الكفار أرأيتكم إن أتاكم العذاب في الدنيا أو عند قيام الساعة، أتخصون آلهتكم بالدعوة أم تدعون الله دونها بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة فيكشف ما تدعونه إلى كشفه إن شاء لأن قوارع الساعة لا تكشف عن المشركين. وعلى هذا يكون قوله ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:
60] باقيا على إطلاقه لكن في الدنيا، ولو علقت المشيئة بكشف العذاب في الدنيا كان قوله ادْعُونِي أَسْتَجِبْ [غافر: 60] أيضا مقيدا بالمشيئة وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ قال ابن عباس: تتركون الأصنام ولا تدعونها لعلمكم أنها لا تضر ولا تنفع، ويجوز أن يراد لا تذكرون الأصنام في ذلك الوقت لأن أذهانكم مغمورة بذكر الله وحده، والمقصود من الآية تبكيت الكفار كأنه قيل: إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله تعالى لا إلى الأصنام فلم تقدمون عبادتها؟ وفيه أن مبنى الدين على الحجة والدليل لا على محض التقليد.
ثم سلى النبي صلى الله عليه وسلم بأن أعلمه أنه قد أرسل قبله إلى أقوام بلغوا في القسوة إلى أن أخذوا بالشدة في أنفسهم وأموالهم فلم يخضعوا وأصروا على كفرهم خلاف الأقوام المذكورين الذين يفزعون إلى الله في الشدائد، ويحتمل أن يقال: إن حكم الطائفتين واحد لأن التضرع(3/78)
واللجأ إلى الله لطلب إزالة البلية لا على سبيل الإخلاص غير معتبر. وفي الآية محذوف تقديره: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ رسلا فخالفوهم فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وحسن الحذف لكونه مفهوما. والبأساء والضراء البؤس والضر. أو البأساء القحط والجوع، والضراء الأمراض والأوجاع والرزايا لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ يتذللون ويتخشعون وأصله الانقياد وترك التمرد. ضرع الرجل ضراعة فهو ضارع أي ذليل ضعيف. احتج الجبائي بالآية على أنه تعالى إنما أرسل الرسل إليهم وسلط هذه البأساء والضراء عليهم إرادة أن يتضرعوا ويؤمنوا، فهو يريد الإيمان والطاعة من الكل. وأجيب بأن الترجي في حقه تعالى محال فإنهم يحملونه على الإرادة، ونحن نحمله على أنه تعالى يعاملهم معاملة المترجي. فالترجيح على أن الفسق وتزيين الشيطان وكل ما يفرضونه لا بد أن ينتهي إلى خلق الله وتكوينه. أما قوله فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا فمعناه نفي التضرع كأنه قيل: فلم يتضرعوا إذ جاءهم بأسنا. ولكنه جاء بلولا التحضيضية ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا العناد والقسوة والإعجاب، ثم بين أنه لما لم ينجع فيهم المواعظ والزواجر نقلهم من البأساء والضراء إلى الراحة والرخاء ففتح أبواب الخيرات عليهم وسهل موجبات المسرات لديهم كما يفعله الأب المشفق لولده، يخاشنه تارة ويلاينه أخرى. ومعنى كُلِّ شَيْءٍ أي كل شيء كان مغلقا عنهم من الخير حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أي ظنوا أن ذلك باستحقاقهم ولم يزيدوا إلا بطرا وترفها أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة.
وقال صلى الله عليه وسلم «إذا رأيت الله تعالى يعطي العاصي فإن ذلك استدراج من الله تعالى» «1» .
قال العلماء: وإنما أخذوا في حال الراحة والرخاء ليكون أشد لتحسرهم على ما فات من السلامة والعطاء فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ آيسون من كل خير. وقال الفراء: المبلس الذي انقطع رجاؤه.
ويقال للذي سكت عند انقطاع حجته قد أبلس. وقال الزجاج: المبلس الشديد الحسرة الحزين. «وإذا» هاهنا للمفاجأة وهي ظرف مكان «وهم» مبتدأ ومُبْلِسُونَ خبره وهو العامل في «إذا» فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الدابر للشيء من خلفه كالولد للوالد. دبر فلان القوم يدبرهم دبورا ودبرا إذا كان آخرهم. أبو عبيدة: دابر القوم آخرهم الذي يدبرهم. الأصمعي:
الدابر الأصل قطع الله دابره أي أصله وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ حمد نفسه على أن لم يترك منهم أحدا واستأصلهم لأن ذلك جار مجرى النعمة على أولئك الرسل، أو على أولئك الهالكين كيلا يزيدوا كفرا وعنادا فيزدادوا عذابا وعقابا، أو حمد على ما أنعم عليهم قبل
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (4/ 145) .(3/79)
ذلك وهو أن كلفهم وأزال عنهم الأعذار والعلل وبعث الأنبياء والرسل وأخذهم بالبأساء والضراء ثم نقلهم إلى الآلاء والنعماء إلا أنهم لم يزدادوا إلا انهماكا في الغي والضلال فطهر وجه الأرض من شركهم. وفيه إيذان بوجوب الحمد لله عند هلاك كل ظالم فإن ذلك من جملة آلاء الله سبحانه، ثم عاد إلى الدلالة على وجود الصانع الحكيم المختار وبيان وحدته جل جلاله فقال قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ وتقرير ذلك أن أشرف أعضاء الإنسان هو السمع والبصر والقلب كما عدّدنا منافعها في أوائل الكتاب، ولا ريب أن القادر على تحصيل قواها فيه وصرفها عن الآفات والمخافات ليس إلا الله وحده، ومعنى أخذ السمع والبصر تعطيل منافعهما، ومعنى الختم على القلب إزالة العقل حتى يصير كالمجانين. قال ابن عباس: إنه الطبع أو الإماتة حتى لا يعقل الهدى والصلاح يَأْتِيكُمْ بِهِ أي بذلك الذي أخذ من السمع والبصر والقلب، فوضع الضمير موضع اسم الإشارة بناء على أن الضمير المذكور بحكم الاستعمال يلزم أن يكون لذي عقل ولو فرضا. والأحسن أن يقال: إنه ذكر أشياء متعددة فوجب أن يعود الضمير إلى جميعها مؤنثا إذ لا ترجيح، وحيث لم يكن الضمير مؤنثا علم أنه أراد المذكور مطلقا فتعين أن يشار إليه بذلك. ثم إنه أقام الضمير المذكور مقامه أو يعود إلى ما أخذ وختم عليه وصح من غير التكلف المذكور بحكم التغليب انْظُرْ يا محمدا وكل من له أهلية النظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نوردها على الوجوه المختلفة المتكاثرة بحيث يكون كل واحد منها يقوّي ما قبله في الإيصال إلى المطلوب. ومعنى «ثم» التفاوت بين الحالين. ويَصْدِفُونَ أي يعرضون. ويقال: امرأة صدوف للتي تعرض وجهها عليك ثم تصدف أي تعرض. والصدف ميل في الحافر إلى الشق الوحشي. وصدف الدرة غشاؤها لميل فيه، قال الكعبي: لو خلق الله فيهم الإعراض والصد لم ينكر ذلك عليهم. وقالت الأشاعرة: لولا منع الله تعالى لنجع فيهم الدلائل القاطعة للأعذار. ثم عمم الدليل بقوله قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ والمعنى أنه لا دافع لنوع من أنواع العذاب إلا الله سبحانه فوجب أن لا يكون معبودا إلا هو. ثم العذاب المفروض إما أن يجيء من غير سبق أمارة تدل على ذلك وهو البغتة وأكثر ما يكون ذلك بالليل، أو مع سبق أمارة وهو الجهرة وأكثره بالنهار ولهذا قال الحسن: معناه ليلا أو نهارا. أما قوله هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ أي لا يهلك مع قوله وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً فمعناه أن الهلاك بالحقيقة وهو هلاك التعذيب والسخط مختص بالظالمين الأشرار لأن الأخيار وإن عمهم العذاب إلا أنهم يستفيدون بذلك ثوابا جزيلا، فهو لهم بلاء في الظاهر وآلاء في الحقيقة خلاف الظلمة فإنهم يخسرون الدنيا والآخرة ومثله
قوله صلى الله عليه وسلم «إن أمر المؤمن خير كله إن أصابته ضراء(3/80)
فصبر كان خيرا له وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له» «1» .
واعلم أنه ذكر هاهنا أَرَأَيْتَكُمْ مرتين فزاد خطابا واحدا، لأن عذاب الاستئصال ما عليه من مزيد فناسب زيادة الخطاب لأجل التأكيد، وفيما بينهما قال أَرَأَيْتُمْ حيث لم يكن كذلك، وكذلك في يونس. ثم ذكر أن الأنبياء والرسل بعثوا للتبشير والإنذار فقط ولا قدرة لهم على إظهار الآيات وإنزال المعجزات التي اقترحوها في قوله وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وأن ذلك مفوّض إلى مشيئة الله وحكمته فقال وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ بالثواب على الطاعات وَمُنْذِرِينَ بالعقاب على المعاصي. فمن قبل قولهم وأتى بالإيمان الذي هو من أفعال القلب والعمل الصالح الذي هو من أفعال البدن فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ ومعنى المس التقاء الشيئين من غير فصل. قال في الكشاف: جعل العذاب ماسا كأنه حي يفعل بهم ما يريد من الآلام وفيه نظر، لأن المس ليس من خواص الأحياء، نعم إنه من خواص الأجسام، فلو ادعيت المبالغة من هذا الوجه لم يكن بعيدا.
قال القاضي: إنه علل عذاب الكافرين بكونهم فاسقين فيكون كل فاسق كافرا. وأقول: هذا من باب إيهام العكس ولا يلزم العكس، فإن كل كافر فاسق ولا يلزم العكس.
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينفي عن نفسه أمورا ثلاثة فقال قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وهي جمع خزانة للمكان الذي يخزن فيه الشيء، وخزن الشيء إحرازه بحيث لا تناله الأيدي وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ قال في الكشاف: محله النصب عطفا على محل قوله عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ لأنه من جملة المقول أي لا أقول لكم ذاك ولا هذا. قلت: ويحتمل أن يكون عطفا على لا أَقُولُ أي قل لا أعلم الغيب فيكون فيه دلالة على أن الغيب بالاستقلال لا يعلمه إلا الله بخلاف كون خزائن الله عنده وكونه ملكا فإن النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون له هذه المقامات ولكن لا يظهرها. واختلف المفسرون في فائدة نفي هذه الأمور فقيل: المراد إظهار التواضع والخضوع لله تعالى والاعتراف بعبوديته حتى لا يعتقد فيه مثل اعتقاد النصارى في المسيح عليه السلام. وقيل: المقصود إبداء العجز والضعف وأنه لا يستقل بإيجاد المعجزات التي كانوا يقترحونها كقولهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى قوله هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء: 93] وقيل: أي لا أدّعي سوى النبوّة والرسالة ولا أدّعي الإلهية ولا الملكية وإنما زيد هاهنا لَكُمْ بخلاف سورة هود حيث قال وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ [الآية: 31] لأنه تقدم ذكر لكم في قوله إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ [هود: 25] فاكتفى بذلك. قال الجبائي: في الآية دلالة على أن الملك أفضل إذ
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 64. أحمد في مسنده (4/ 332، 333) .(3/81)
المراد لا أدّعي فوق منزلتي. قال القاضي: إن كان الغرض التواضع فالأقرب أن ذلك يدل على أن الملك أفضل، وإن كان المراد نفي قدرته عن أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على أفضلية الملائكة. إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ قيل: هذا النص يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يحكم من تلقاء نفسه بالاجتهاد في شيء من الأحكام، ولا يجوز لأحد من أمته أن يعمل إلا بالوحي النازل عليه لقوله تعالى فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] فلا يجوز العمل بالقياس، وأكد هذا الحكم بقوله قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وذلك أن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى، والعمل بمقتضى الوحي يقوم مقام عمل البصير. ثم قال أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ تنبيها على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين. وأجيب بأن أصل الاجتهاد والقياس إذا كان بالوحي لم يلزم الضلالة، والآية مثل للضال والمهتدي أو لمن ادعى المستقيم وهو النبوة والمحال وهو الإلهية والملكية أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ فلا تكونوا ضالين كالعميان، أو فتعلموا أني ما ادعيت سوى ما يليق بالبشر والله تعالى أعلم وأحكم.
التأويل:
وَما مِنْ دَابَّةٍ تدب في أرض البشرية وتتحرك من الحواس والجوارح والنفس وصفاتها إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ في السؤال عن أقوالهم وأحوالهم كقوله إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الإسراء: 36] ما فَرَّطْنا ما تركنا في القرآن من شيء يحتاج إليه الإنسان ظاهره وباطنه، ذاته وصفاته في السير إلى الله من الأوامر والنواهي والندب والآداب. ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ هاهنا بالسير وجذبات العناية، أو هناك بالسلاسل والأغلال يسحبون في النار في نار القطيعة على وجوههم لأن من شأنهم التكذيب كما قال وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بدلائلنا الموصلة إلينا صُمٌّ آذان قلوبهم عن استماع الحق بُكْمٌ ألسنة أحوالهم عن إجابة دعوة الحق في ظلمات صفات البشرية والأخلاق الذميمة.
بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ لأن رجوعه إلى ربه مركوز في روحانيته. وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ أي أرسلنا إليهم نعمة الصحة والكفاف والأمن فشغلوا بها عنا، فأرسلنا إليهم بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة ندعوهم بها إلينا فلم يهتدوا فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ التي هي موجبة للإلجاء. فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وعلموا أن حقائق ألطافنا مدرجة في دقائق صور قهرنا، وتحققوا أن درر محبتنا مستودعة في أصداف شدائد بأسنا، فاستقبلوها بصدق الالتجاء وحسن التضرع في الدعاء. فَلَمَّا نَسُوا بسبب القساوة ما ذُكِّرُوا بِهِ من معارضة البأساء والضراء فإنها تذكر أيام الرخاء وتعرّف قدر الصحة والنعماء وتؤدي إلى رؤية المنعم فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ من البلاء في صورة النعماء لأرباب الظاهر بالنعم الظاهرة من المال والجاه والقبول وأمثالها، ولأرباب الباطن بالنعم الباطنة من فتوحات(3/82)
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)
الغيب وأشباهها حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا وظنوا أنهم قد استغنوا عن صحبة الشيخ وتعليم تصرفاته فشرعوا في الطلب على وفق هواهم أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً بفقد الأحوال والاشتغال بالقال فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ متحيرون في تيه الغرور. والحمد لله على إظهار اللطف لأربابه والقهر لأصحابه ليعلم أن الكل بقدر كما قال قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية إلا القوم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم بصرف استعداد عبودية المولى في عبادة الهوى. فأما من ابتلي بعذاب الله من الآفات والمخافات والأمراض ونحوها ابتلاء فتاب ورجع فهو غيرها لك على الحقيقة قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ لم يقل ليس عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ ليعلم أن خزائن الله وهي العلم بحقائق الأشياء وماهياتها عنده بإراءة سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] وباستجابة دعائه في قوله «أرنا الأشياء كما هي» ولكنه يكلم الناس على قدر عقولهم. وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ أي لا أقول لكم هذا مع أنه كان يخبرهم عما مضى وعما سيكون بإعلام الحق،
وقد قال صلى الله عليه وسلم في قصة ليلة المعراج «نظرت خلفي نظرة علمت ما كان وما سيكون»
وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ وإن كنت قد عبرت عن مقام الملك حين قلت لجبريل: تقدم فقال: لو دنوت أنملة لاحترقت إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ أن أخبرهم وقل معهم. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ فلا يستوي مع الأعمى كلام البصير فكيف أخبركم عما أعمى الله بصائركم عنه وأنا به بصير. قوله تعالى:
[سورة الأنعام (6) : الآيات 51 الى 60]
وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60)(3/83)
القراآت:
بِالْغَداةِ مضموم الغين ساكن الدال مفتوح الواو وكذا في الكهف: ابن عامر. الباقون: بفتح الغين والدال وبالألف أَنَّهُ بالفتح فَأَنَّهُ بالكسر: أبو جعفر ونافع. وقرأ ابن عامر وعاصم وسهل ويعقوب جميعا بالفتح. الباقون: بالكسر فيهما وليستبين بياء الغيبة: زيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل. الباقون:
بالتاء الفوقانية سَبِيلُ بالنصب: أبو جعفر ونافع وزيد. الباقون: بالرفع يَقُصُّ ابن كثير وأبو جعفر ونافع وعاصم. الباقون يقضي الحق.
الوقوف:
يَتَّقُونَ هـ وَجْهَهُ ط الظَّالِمِينَ هـ مِنْ بَيْنِنا ط بِالشَّاكِرِينَ هـ الرَّحْمَةَ ط لمن قرأ أَنَّهُ بكسر الألف رَحِيمٌ هـ الْمُجْرِمِينَ هـ مِنْ دُونِ اللَّهِ ط أَهْواءَكُمْ لا لتعيين «إذا» بما قبله أي قد ضللت «إذا» اتبعت الْمُهْتَدِينَ هـ وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ط تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ط لِلَّهِ ط الْفاصِلِينَ هـ وَبَيْنَكُمْ ط بِالظَّالِمِينَ هـ إِلَّا هُوَ ط وَالْبَحْرِ ط مُبِينٍ هـ مُسَمًّى ط لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع اتحاد المقصود. تَعْمَلُونَ هـ.
التفسير:
لما وصف الرسل بكونهم مبشرين ومنذرين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالإنذار وهو الإعلام بموضع المخافة فقال له وَأَنْذِرْ بِهِ قال ابن عباس والزجاج: أي بالقرآن وهو المذكور هنا في قوله إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ [الأنعام: 50] وقال الضحاك: أي بالله.
قيل: والأول أولى لأن الإنذار والتخويف إنما يقع بالقول وفيه نظر، لأن الإنذار لا نزاع فيه أنه قول ولكن المنذر به قلما يكون قولا لقوله وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ [غافر: 18] فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى [الليل: 14] ولو زعم أن المراد وأنذرهم النار والعذاب بواسطة القرآن قلنا: فقدر مثله هاهنا، والمعنى أنذرهم العذاب بقول ينبىء عن شدة سخط الله وعقوبته. أما الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا فقيل: إنهم الكافرون الذين سبق ذكرهم، فلعل ناسا من المشركين من حالهم أنهم يخافون إذا سمعوا بحديث البعث أن يكون حقا فيهلكوا فهم ممن يرجى أن ينجع فيهم الإنذار فأمر أن ينذر هؤلاء دون المتمردين منهم. ثم قال هذا القائل ولا يجوز حمله على المؤمنين لأنهم يعلمون أنهم يحشرون، والعلم خلاف الخوف والظن. وضعف بأن الخوف شامل للناس كافة لعدم الجزم بالثواب وقبول الطاعة وإن كانوا مقرين بصحة الحشر والنشر فالظاهر أن الضمير يتناول الكل لأن العاقل لا بد أن يخاف(3/84)
الحشر سواء كان جازما به أو شاكا فيه. وأيضا إنه مأمور بتبليغ الكل فلا وجه للتخصيص.
وقيل: إنهم قوم مسلمون مفرطون في العمل فينذرهم بما أوحي إليه لعلهم يدخلون في زمرة أهل التقوى من المسلمين. وقيل: هم أهل الكتاب لأنهم مقرون بالبعث. ومعنى إِلى رَبِّهِمْ إلى حكمه وقضائه فلا يلزم منه مكان ولا جهة. أما قوله لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ فقال الزجاج: إن الجملة في موضع الحال من ضمير يُحْشَرُوا أي يخافون أن يحشروا غير منصورين ولا مشفوعا لهم. فإن كان الضمير للكفار فظاهر، وإن كان للمؤمنين فشفاعة الملائكة والرسل إذا كانت بإذن الله تعالى فإنها تكون بالحقيقة من الله تعالى فصح أنه ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع، ولا بد من هذه الحال لأن الحشر مطلقا ليس مخوفا وإنما المخوف هو الحشر على هذه الحالة لأنهم اعتقدوا أن لا ناصر ولا شفيع إلا الله وإذا لم يكن الله ناصرا وشفيعا لزم أن لا يكون ناصرا أصلا. لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ قال ابن عباس: لكي يخافوا في الدنيا وينتهوا عن الكفر والمعاصي. قالت المعتزلة: فيه دلالة على أنه أراد من الكفار التقوى والطاعة. وأجيب بأن الترجي راجع إلى العباد. ولما أمر بإنذار عموم المكلفين ليتقوا أردفهم بذكر المتقين وأمر بتقريبهم وإكرامهم.
روي عن ابن مسعود أن الملأ من قريش مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم- وعنده صهيب وبلال وخباب وعمار وغيرهم من ضعفاء المسلمين- فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء أتريد أن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم اتبعناك. فقال صلى الله عليه وسلم: ما أنا بطارد المؤمنين. فقالوا: فأقمهم عنا إذا جئنا فإذا قمنا فأقعدهم معك إن شئت. فقال: نعم طمعا في إيمانهم.
وروي أن عمر قال له: لو فعلت حتى ننظر إلى ماذا يصيرون. ثم إنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: اكتب بذلك كتابا، فدعا بالصحيفة وبعلي ليكتب فنزلت وَلا تَطْرُدِ الآية. فرمى بالصحيفة واعتذر عمر عن مقالته.
قال سلمان وخباب: فينا نزلت. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقعد معنا وندنو منه حتى تمس ركبتنا ركبته، وكان يقوم عنا إذا أراد القيام فنزلت وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الكهف: 28] فترك القيام عنا إلى أن نقوم عنه. وقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أمرني أن أصبر نفسي مع قوم من أمتي معكم المحيا ومعكم الممات، أثنى الله عليهم بأنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي.
قال ابن عباس والحسن ومجاهد: أي يصلون صلاة الصبح والعصر. وقيل: أي يذكرون ربهم طرفي النهار، والمراد بالغداة والعشي الدوام. والغداة لغة ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، والعشي ما بين الزوال إلى الغروب. قال الجوهري: غدوة بالتنوين نكرة وبدونه معرفة غير مصروفة كسحر. ومحل يُرِيدُونَ وَجْهَهُ نصب على الحال أو على الاستئناف كأنه قيل: ما أرادوا بالمواظبة على الدعاء؟ فأجيب(3/85)
بقوله يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ولا يثبت به لله تعالى عضو كما زعمت المجسمة ولكن المراد به التعظيم، فقد يعبر به عن ذات الشيء أو حقيقته كما يقال: هذا وجه الرأي وذاك وجه الدليل. وأيضا المحبة تستلزم طلب رؤية الوجه فلهذا السبب جعل الوجه كناية عن المحبة وطلب الرضا. ثم علل النهي بقوله ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ قيل: الضمير عائد إلى المشركين أي لا يؤاخذوا بحسابك ولا أنت بحسابهم حتى يهمك إيمانهم ويدعوك ذلك إلى أن تطرد المؤمنين، والأولى أن يعود إلى الفقراء ليناسب قوله فَتَطْرُدَهُمْ كما في قصة نوح إِنْ حِسابُهُمْ إِلَّا عَلى رَبِّي [الشعراء: 113] وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم وقالوا: يا محمد إنهم قبلوا دينك ولازموك لأجل المأكول والملبوس فقال الله تعالى: إن كان الأمر على ما زعموا فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر إن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم لا يتعدى إليك كما أن حسابك لا يتعدى إليهم، فالجملتان لهما مؤدى واحد وهو المفهوم من قوله وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. وقيل: ما عليك من حساب رزقهم من شيء ولا من حساب رزقك عليهم من شيء، وإنما الرازق لك ولهم هو الله سبحانه فدعهم يكونوا عندك، أما قوله فَتَطْرُدَهُمْ فهو جواب النفي في ما عَلَيْكَ وفي انتصاب فَتَكُونَ وجهان: أحدهما أنه جواب النهي، والثاني أنه عطف على فَتَطْرُدَهُمْ على وجه التسبب، لأن كونه ظالما معلوم من طردهم ومسبب عنه، فإن طرد من يستوجب التقريب والترحيب وضع للشيء في غير موضعه ومن هنا طعن بعض الناس في عصمة النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: كان يقول كلما دخل أولئك الفقراء عليه بعد هذه الواقعة مرحبا بمن عاتبني ربي فيهم أو لفظ هذا معناه. والجواب أنه ما طردهم لأجل الاستخفاف بهم والاستنكاف من فقرهم وإنما أفرد لهم مجلسا تألفا لقلوب المشركين وتكثيرا لسواد الإسلام مع علمه بأنه لا يفوت الفقراء بهذه المصالحة أمر مهم في الدنيا ولا في الدين، فغاية ذلك أنه يكون من باب تبرك الأولى والأفضل، وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الفتن العظيم فَتَنَّا ابتلينا بعض الناس ببعض، فأحد الفريقين وهم الكفار يرى الآخر مقدما عليه في المناصب الدينية فيقول أَهؤُلاءِ المسترذلون مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا كقوله: أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا [القمر: 25] والفريق الآخر يرى الأول مقدما عليه في الخيرات العاجلة والخصب والسعة الراحة والدعة فيقول: أهذا هو الذي فضله الله علينا. وأما المحققون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله فهو صواب، ولا اعتراض عليه بحكم المالكية وبحسب رعاية الأصلح. وبالجملة فصفات الكمال غير محصورة ولا تجتمع في إنسان واحد البتة بل هي موزعة على الخلائق وكلها محبوبة لذاتها. فكل إنسان يحسد(3/86)
صاحبه على ما آتاه الله تعالى من صفة الكمال، فمن عرف سر القدر رضي بنصيب نفسه وسكت عن التعرض لغيره وعاش عيشا طيبا في الدنيا والآخرة. قال هشام بن الحكم الافتتان الاختبار والامتحان، وفيه دليل على أنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند حدوثها.
والجواب أنه يعامل المكلف معاملة المختبر وقد مر مرارا. وقالت الأشاعرة: في الآية دلالة على مسألة خلق الأعمال لأن تلك الفتنة التي ألقاها الله تعالى ليست إلا اعتراضهم على الله والاعتراض عليه كفر. فهو تعالى خالق للكفر. وأيضا منة الله عليهم ليست إلا بالإيمان ومتابعة الرسول، فلو كان الموجد للإيمان هو العبد كان العبد هو المان على نفسه. أجاب المعتزلة بأن معنى فتناهم ليقولوا خذلناهم حتى آل أمرهم إلى أن قالوا، فتكون اللام لام العاقبة، وزيف بأنه عدول عن الظاهر مع أنا ننقل الكلام إلى الخذلان فلا بد من الانتهاء إليه تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ بمن يصرف كل ما أنعم به عليه فيما أعطاه لأجله فيظهر أفعاله على حسب معلوم الله تعالى. وقال في الكشاف: أي الله أعلم بمن يقع منه الإيمان والشكر فيوفقه للإيمان، وبمن يصمم على كفره فيخذله ويمنعه التوفيق.
وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا
قال عكرمة: نزلت في الذين نهى الله نبيّه صلى الله عليه وسلم عن طردهم وكان إذا رآهم بدأهم بالسلام، وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام.
وقال ماهان الحنفي: أتى قوم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا أصبنا ذنوبا عظاما، وأظهروا الندامة والأسف فما أخاله رد عليهم بشيء. فلما ذهبوا وتولوا نزلت الآية.
قال في التفسير الكبير: الأقرب أن تحمل الآية على عمومها، فكل من آمن بآيات الله تعالى يدخل تحت هذا التشريف والإكرام ثم أيدى إشكالا وهو أن المفسرين اتفقوا على أن هذه السورة نزلت دفعة واحدة، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال في كل واحدة من جميع آي هذه السورة إنها نزلت بسبب الأمر الفلاني؟ قلت: لا استبعاد في أن تنزل السورة دفعة وينزل الصحابة كل آية منها على واقعة تناسبها، كيف وهم أعرف بحقائق التنزيل وأعلم بدقائق التأويل لأنهم أهل مشاهدة الوحي وأرباب مزاولة الأمر والنهي؟! واعلم أن ما سوى الله تعالى فهو آيات وجود الله، وأنها لا تكاد تنحصر فيجب على المكلف أن يكون مدة حياته كالسابح في تلك البحار والسائح في هذه القفار ليكون دائما مترقيا في معارجها مترقبا أن تفيض عليه الأنوار من مدارجها فيستعد لبشارة سَلامٌ عَلَيْكُمْ ويستأهل لكرامة كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ إما أن يكون أمرا بتبليغ سلام الله إليهم، وإما أن يكون أمرا بأن يبدأهم بالسلام إكراما لهم. قال الزجاج: سَلامٌ إما مصدر «سلمت سلاما وتسليما» مثل: كلمت كلاما وتكليما. ومعناه الدعاء بأن يسلم من الآفات في نفسه(3/87)
ودينه، وإما أن يكون جمع سلامة. وقيل: السلام هو الله أي الله عليكم أي على حفظكم ولعل هذا الوجه إنما يتأتى في المعرف لا في المنكر. كَتَبَ رَبُّكُمْ من جملة المقول لهم تبشيرا بسعة رحمة الله وقبوله التوبة. ومعنى كتب على نفسه أوجب على ذاته إيجاب الكرم لا إيجابا يستحق بتركه الذم. وقالت المعتزلة: كونه عالما بقبح القبائح وباستغنائه عنها يمنعه عن الإقدام عليها ولو فعل كان ظلما، وإيجاب الرحمة ينافي القول بأنه منع الكافر من الإيمان ثم أمره حال ذلك المنع بالإيمان ثم يعذبه على ترك ذلك الإيمان، وأجيب بأنه فاعل لما يشاء ولا اعتراض عليه. أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ من قرأ بالفتح فعلى الإبدال من الرحمة، ومن قرأ بالكسر فعلى الاستئناف كأن الرحمة استفسرت فقيل: إنه من عمل مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ وهو في موضع الحال أي عمله وهو جاهل. والمراد أنه فاعل فعل الجهال لأن من عمل ما يضره في العاقبة وهو عالم بذلك أو ظان فهو من أهل السفه لا من أهل الحكمة والتدبير، أو أنه جاهل بعاقبته ومن حق الحكيم أن لا يقدم على ما لا يعرف مآل حاله. ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ بأن يندم على ما فعله وَأَصْلَحَ العمل في المستقبل فَأَنَّهُ غَفُورٌ يزيل العقاب عنه رَحِيمٌ يوصل الثواب إليه من قرأ بالكسر فعلى: أن الجملة جزاء للشرط، ومن قرأ بالفتح فعلى أن الخبر أو المبتدأ محذوف أي فغفرانه كائن أو فأمره أنه غفور. قيل: إن الآية نزلت في عمر حين أشار بإجابة الكفرة إلى ما طلبوا ولم يعلم أنها مفسدة. وَكَذلِكَ أي كما فصلنا في هذه السورة دلائلنا على التوحيد والنبوة والقضاء والقدر نُفَصِّلُ الْآياتِ ونميزها لك في تقرير كل حق ينكره أهل الباطل وليستبين معطوف على محذوف كأنه قيل:
ليظهر الحق وليستبين، أو معلق بمحذوف أي وليستبين سبيل المجرمين فصلنا ذلك التفصيل البين. من رفع «السبيل» قرأ ليستبين بالياء أو بالتاء لأن السبيل يذكر ويؤنث، ومن نصب السبيل قرأ لِتَسْتَبِينَ بتاء الخطاب مع الرسول يقال: استبان الأمر وتبين واستبنته وتبينته واستبانة سبيل المجرمين تستلزم استبانة طريق المحقين، فلذلك اقتصر على أحدهما كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] ولم يذكر البرد. وإنما ذكر المجرمين دون المحقين لأن طريق الحق واحد والمجرمون أصناف يشتبه أمرهم، فمنهم من هو مطبوع على قلبه، ومنهم من يرجى فيهم قبول الإسلام، ومنهم من دخل في الإسلام إلا أنه لا يحفظ حدوده فينبغي أن يستوضح سبيلهم ليعامل كلا منهم بما يجب، ومن جملة ذلك أنه نهى عن عبادة معبوداتهم وذلك قوله قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أي صرفت بالدلائل العقلية والسمعية أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ تعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ لأن عبادة المصنوع والمخلوق محض التقليد وعين الهوى قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ أثبت الضلال(3/88)
إذ ذاك ونفى الهدى مع أنهما متلازمان للتقرير والتأكيد، وفيه تعريض بهم أنهم كذلك. ثم نبه على ما يجب اتباعه بقوله قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي على حجة واضحة من معرفة ربي وأنه لا معبود سواه وَكَذَّبْتُمْ أنتم به حيث أشركتم به غيره. يقال: أنا على بينة من هذا الأمر وأنا على يقين منه إذا كان ثابتا عنده بدليل. وقيل: أي على حجة من جهة ربي وهي القرآن وَكَذَّبْتُمْ بِهِ أي بالبينة وذكر الضمير على تأويل القرآن أو البيان. ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني العذاب الذي استعجلوه في قولهم إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: 32] قال الكلبي: نزلت في النضر بن الحرث ورؤساء قريش كانوا يقولون: يا محمد آتنا بالعذاب الذي تعدنا به استهزاء منهم. إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ مطلق يتناول الكل. فقال الأشاعرة: لا يقدر العبد على أمر من الأمور إلا إذا قضى الله تعالى فيمتنع منه فعل الكفر إلا بإرادة الله، واحتجت المعتزلة بقوله يقضي الحق أي كل ما قضى به فهو الحق، وهذا يقتضي أن لا يريد الكفر من الكافر ولا المعصية من العاصي لأن ذلك ليس بحق. ويمكن أن يقال: إن جميع أحكامه حق وصدق ولا اعتراض لأحد عليه بحكم المالكية. وانتصاب الْحَقَّ على أنه صفة مصدر أي يقضي القضاء الحق، أو مفعول به من قولهم: قضى الدرع إذا صنعها أي يصنع الحق ويدبره. ومثله من قرأ يقصر الحق كقوله نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ [يوسف: 2] أي يقول الحق أو يتبعه من قص أثره وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ أي القاضين، وإنما كتب يقض في المصاحف بغير ياء لأنها سقطت في اللفظ لالتقاء الساكنين، وليوافق قراءة يَقُصُّ قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي أي في قدرتي وإمكاني ما تَسْتَعْجِلُونَ من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ
أمر الإهلاك بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ عاجلا غضبا لربي وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ فيؤخر عقابهم إلى وقته وأنا لا أعلم ما يجب في الحكمة من وقت عقابهم ومقداره. فإن قلت: أما يناقض هذا قوله فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا [الكهف: 6] فإن استعجال الهلاك ينافي الحرص على الإيمان، لأن من حرص على إيمان أحد حرص على طول حياته طمعا في إيمانه.
قلت: لا، بل يؤكده لاشتراك كل من الحكمين في الاستعجال اللازم للبشرية في قوله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الإسراء: 11] ثم بين سبحانه أعلميته بقوله على سبيل الاستعارة وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ أراد أنه المتوصل إلى المغيبات وحده كمن عنده مفاتح أقفال المخازن ويعلم فتحها ولم يمنعه من ذلك مانع، والمفاتح جمع مفتح وهو المفتاح، أو جمع مفتح بفتح الميم وهو المخزن، قال الحكيم في بيانه: إن العلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول وكل ما سوى الواجب فإنه موجود بإيجاده وتكوينه بواسطة أو بوسائط، فعلمه(3/89)
بذاته يوجب العلم بجميع آثاره على ترتيبها المعتبر- كليات كانت أو جزئيات- وعلمه بذاته لم يحصل إلا لذاته فصح أن يقال: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو. وفيه أنه لا ضد له ولا ند إذ لو كان في الوجود واجب آخر لكانت مفاتح الغيب حاصلة أيضا عنده فيبطل هذا الحصر، ولا يمكن أن تكون هذه المفاتح عند شيء من الممكنات لأن المحاط لا يحيط بمحيطه فلا يحيط ما دون الواجب بالواجب، فلا يكون المفتاح الأوّل للعلم بجميع المعلومات إلا عنده. ثم إن قوله وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ قضية معقولة مجردة، والإنسان الذي يقوي على الإحاطة بمعنى هذه القضية نادر جدا والقرآن إنما نزل لينتفع به جميع الناس فذكر من الأمور المحسوسة الداخلة تحت تلك القضية الكلية أمثالا لها ليعين الحس العقل فقال وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لأن ذكر هذا المحسوس يكشف عن حقيقة عظيمة لذلك المعقول، وقدم ذكر البر لأن الإنسان قد شاهد أحوال البر وكثرة ما فيه من المدن والقرى والجبال والتلال والمعادن والنبات والحيوان، وأما البحر فإحاطة الحس بأحواله أقل مع كثرة ما فيها من العجائب والغرائب أيضا. ثم أفرد من هذه المحسوسات قسما فقال وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها أي لا يتغير حال ورقة إلا والحق يعلمها. ثم عدل عن التعجيب من كثرة المدركات إلى التعجيب من صغر المدرك وخفائه فقال وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وفي تخصيص الحبة والورقة تنبيه للمكلفين على أمر الحساب لأنه إذا كان بحيث لا يهمل أمر الأشياء التي ليس لها ثواب ولا عقاب فلأن لا يهمل أمر المكلفين أولى.
ثم عاد إلى ذكر القضية الكلية المجردة بعبارة أخرى فقال وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ قال في الكشاف: ولا حبة ولا رطب ولا يابس عطف على ورقة وداخل في حكمها كأنه قيل: وما يسقط شيء من هذه الأشياء إلا وهو يعلمه. وقوله إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كالتكرير لقوله إِلَّا يَعْلَمُها ومعنى إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ واحد. والكتاب المبين علم الله أو اللوح. قال علماء التفسير: يجوز أن يكون الله جل شأنه أثبت كيفية المعلومات في كتاب من قبل أن يخلق الخلق لتقف الملائكة على نفاذ علمه في المعلومات وأنه لا يغيب عنه شيء، فيكون في ذلك عبرة كاملة للملائكة الموكلين باللوح المحفوظ لأنهم يقابلون به ما يحدث في العالم فيجدونه موافقا له. أو لأنه إذا كتب أحوال جميع الموجودات في ذلك الكتاب على التفصيل التام امتنع تغيرها وإلا لزم الكذب أو الجهل فتصير كتبة جملة الأحوال في ذلك الكتاب سببا تاما في أنه يمتنع تقدم ما تأخر وتأخر ما تقدم. ثم لما بين كمال علمه أردفه ببيان كمال قدرته بقوله وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ أي يتوفى أنفسكم التي بها تقدرون على الإدراك والتمييز. وذلك أن الأرواح الجسمانية تغور حالة النوم من الظاهر إلى الباطن(3/90)
فتتعطل الحواس عن بعض الأعمال، وأما عند الموت فتصير جملة البدن معطلة عن كل الأعمال فلهذا كان النوم أخا الموت فصح إطلاق لفظ الوفاة على النوم من هذا الوجه وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ أي ما كسبتم من العمل بالنهار ومنه الجوارح للأعضاء وللسباع ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ أي يردّ إليكم أرواحكم بالنهار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى أي أعماركم المكتوبة.
وقضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها بالموت. ثم لما ذكر أنه يميتهم أولا ثم يوقظهم ثانيا كان ذلك جاريا مجرى الإحياء بعد الإماتة فلا جرم استدل بذلك على صحة البعث في القيامة فقال ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في ليلكم ونهاركم وجميع أحوالكم وأوقاتكم. واعلم أن في هذه الآية إشكالا لأن قوله وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ كان ينبغي أن يكون بعد قوله ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ فإن البعث في النهار مقدم على الكسب فيه بل على تعلق العلم بالكسب. ويمكن أن يجاب بأن المراد ويعلم ما جرحتم في النهار الماضي بدليل قوله جَرَحْتُمْ دون «تجرحون» ثم يبعثكم في النهار الآتي. والغرض بيان إحاطة علمه وقدرته بالزمانين المحيطين بالليل. ولعل صاحب الكشاف لمكان هذا الإشكال عدل عن هذا التفسير إلى أن قال: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ والخطاب للكفرة أي أنتم منسدحون الليل كالحيف. والانسداح الانبطاح أو الاستلقاء وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ما كسبتم من الآثام فيه ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ من القبور فِيهِ أي في شأن ذلك الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكسب الآثام في النهار ومن أجله كقولك: فيم دعوتني؟ فيقول:
في أمر كذا لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى وهو الأجل الذي سماه وضربه لبعث الموتى وجزائهم على أعمالهم ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وهو المرجع إلى موقف الحساب. والأصوب عندي أن يقال: الخطاب عام، وكذا الكسب في النهار فينبغي أن لا يقيد بالآثام. أما الضمير في فِيهِ فيكون جاريا مجرى اسم الإشارة إلى الكسب. والبعث هو البعث من القبور إلى آخر ما قال والله أعلم.
التأويل:
وَأَنْذِرْ بِهِ أي بهذه الحقائق والمعاني الَّذِينَ يَخافُونَ أي يرجون أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ بجذبات العناية ويتحقق لهم أن لَيْسَ لَهُمْ في الوصول إلى الله مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ من الأولياء وَلا شَفِيعٌ يعني من الأنبياء، لأن الوصول لا يمكن إلا بجذبات الحق. وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ أخبر عن الفقراء أنهم جلساؤه بالغداة والعشي كما
قال «أنا جليس من ذكرني»
فلا تطردهم عن مجالستك فإنهم يطلبوني في متابعتك لا يريدون الدنيا ولا الآخرة ولكن يريدون وجهه.
وكل له سؤل ودين ومذهب ... ووصلكم سؤلي وديني رضاكم(3/91)
قال المحققون: الإرادة اهتياج يحصل في القلب يسلب القرار من العبد حتى يصل إلى الله. فصاحب الإرادة لا يهدأ ليلا ولا نهارا، ولا يجد من دون الوصول إلى الله سبحانه سكونا ولا قرارا ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ يعني الذي لنا معك في الحساب من المواصلة والتوحيد في الخلوة فإنهم ليسوا في شيء من ذلك ليكون عليك ثقلا وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي الذي لنا معهم في الحساب من التفرد للوصول والوصال ليس لك إلى ذلك حاجة ليثقل عليهم فَتَطْرُدَهُمْ فتكسر قلوبهم بالطرد فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ بوضع الكسر مقام الجبر فإنك بعثت لجبر قلوبهم لا لكسر قلوبهم كقوله وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [الحجر: 88] وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليشكر الفاضل وليصبر المفضول فيستويان في الفضل فلهذا قيل: لسليمان ولأيوب كليهما: نعم العبد. مع قدرة سليمان على أسباب الطاعة وعجز أيوب عنها. ومن فتنة الفاضل في المفضول رؤية فضله على المفضول أو تحقيره، ومنع حقه عنه في فضله، ومن فتنة المفضول في الفاضل حسده على فضله وسخطه عليه في منع حقه من فضله عنه، فإن المعطي والمانع هو الله. ومنها أن لا يرى الفاضل مستحقا للفضل ليقولوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ إنه سبحانه من كمال فضله على الفقراء حملهم محمل الأكابر والملوك في الدنيا فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: كن مبتدئا بالسلام عليهم وفي الآخرة فألهم الملائكة أن يسلموا عليهم في الجنة سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ [الزمر: 73] بل سلم بذاته عليهم سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:
58] وكل ذلك نتيجة سلامتهم من ظلمة الخلقة بإصابة رشاش النور في الأزل فلهذا قال كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أي الرحمة الخاصة كما خص الخضر في قوله آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا [الكهف: 65] والرحمة العامة كما
في الحديث الرباني للجنة «إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي»
أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ أي من المؤمنين سُوءاً بِجَهالَةٍ أي بجهالة الجهولية التي جبل الإنسان عليها لا بجهالة الضلالة التي هي نتيجة إخطاء النور فإن هذه لا توبة لها ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ أي رجع إلى الله بقدم السير من بعد إفساد الاستعداد الفطري وأصلح الاستعداد بالأعمال الصالحة لقبول الفيض. قُلْ إِنِّي نُهِيتُ في الأزل بإصابة النور المرشش. ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من عبادة الهوى لَقُضِيَ الْأَمْرُ يعني أمر القتال والخصومات ولاسترحت من أذيتكم لأن الشيء إنما ينفعل عن ضده لا عن شبيهه وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ يعني العلوم العقلية التي هي سبب فتح باب صور عالم الشهادة كالنقاش ينشيء الصور في ذهنه ثم يصوّرها في الخارج. وإنما وحد الغيب وجمع المفاتح لأن عالم الغيب عالم التكوين وهو واحد في جميع الأشياء وفي الملكوت كثرة يعلم التكوين وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وهو عالم الشهادة وَالْبَحْرِ وهو عالم(3/92)
وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
الغيب وَبهذا العلم ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ عن شجرة الوجود إِلَّا يَعْلَمُها لأنه مكونها ومسقطها وَلا حَبَّةٍ هي حبة الروح فِي ظُلُماتِ صفات أرض النفس، أو حبة المحبة في ظلمات أرض القلب وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ الرطب المؤمن، واليابس ما سيصير موجودا وما قد صار. أو الرطب الروحانيات، واليابس الجمادات. أو الرطب المؤمن، واليابس الكافر. أو الرطب العالم، واليابس الجاهل. أو الرطب العارف، واليابس الزاهد. أو الرطب أهل المحبة، واليابس أهل السلوة. أو الرطب صاحب الشهود، واليابس صاحب الوجود. أو الرطب الباقي بالله واليابس الباقي بنصيبه وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ليل القضاء وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ نهار القدر أو الليل، ليل صفات البشرية والنهار نهار الشهود في عالم الوحدة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 61 الى 73]
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)
قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)(3/93)
القراآت:
تَوَفَّتْهُ واسْتَهْوَتْهُ ممالة: حمزة الباقون: بتاء التأنيث قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ من الإنجاء: سهل ويعقوب وعباس. الباقون: بالتشديد وَخُفْيَةً بالكسر حيث كان: أبو بكر وحماد. الباقون: بالضم أَنْجانا ممالة: حمزة وعلي وخلف أَنْجانا بدون الإمالة: عاصم. الباقون أَنْجَيْتَنا قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ بالتشديد: يزيد وحمزة وخلف وعاصم وهشام. الباقون: بالتخفيف بَعْضٍ انْظُرْ وأشباه ذلك بكسر التنوين: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وابن شنبوذ عن أهل مكة، وابن ذكوان يُنْسِيَنَّكَ بالتشديد: ابن عامر.
الوقوف:
حَفَظَةً ط لا يُفَرِّطُونَ هـ الْحَقِّ ط الْحاسِبِينَ هـ وَخُفْيَةً ط لاحتمال الإضمار أي يقولون لئن أنجيتنا، وتعلق «لئن» بمعنى القول في تَدْعُونَهُ أصح الشَّاكِرِينَ هـ تُشْرِكُونَ هـ بَأْسَ بَعْضٍ ط يَفْقَهُونَ هـ وَهُوَ الْحَقُّ ط بِوَكِيلٍ هـ مُسْتَقَرٌّ ط للإبتداء ب «سوف» على التهديد مع شدة اتصال المعنى يعلمون هـ غَيْرِهِ ج الظَّالِمِينَ هـ يَتَّقُونَ هـ وَلا شَفِيعٌ ط للشرط مع العطف بِما كَسَبُوا لا لانقطاع النظم مع اتصال المعنى، أو لاحتمال أن يكون الَّذِينَ صفة أُولئِكَ وقوله لَهُمْ شَرابٌ خبر الْهُدَى ائْتِنا ج هُوَ الْهُدى ط الْعالَمِينَ لا لأن التقدير وأمرنا بأن أقيموا الصلاة وَاتَّقُوهُ ط تُحْشَرُونَ هـ بِالْحَقِّ ط فَيَكُونُ ط فِي الصُّورِ ط وَالشَّهادَةِ ط الْخَبِيرُ هـ.
التفسير:
من الدلائل الدالة على كمال قدرته وحكمته قوله وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ والمراد منه الفوقية بالقدرة والتسخير كما يقال: أمر فلان فوق أمر فلان أي أنه أعلى وأنفذ منه، ولا ريب أن الممكنات بأسرها تحت تصرف الواجب ينقلها من حيز العدم إلى حالة الوجود وبالعكس، ويتصرف فيها كيف يشاء، علويات كن أو سفليات، ذوات أو صفات، نفوسا أو أبدانا، أخلاطا وأركانا. ومن جملة قهره إرسال الحفظة- وهي جمع حافظ- على عبيده بضبط أعمالهم من الطاعات والمعاصي والمباحات لأنهم مطلعون على أقوال بني آدم لقوله ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق: 18] وعلى أفعالهم بقوله يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [الانفطار: 12] وأما صفات القلوب كالجهل والعلم فليس في الآيات ما يدل على اطلاعهم عليها. وعن ابن عباس أن مع كل إنسان ملكين: أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، فإذا تكلم الإنسان بحسنة كتبها من على اليمين، وإذا تكلم بسيئة قال من على اليمين لمن على اليسار: انتظر لعله يتوب عنها فإن لم يتوب عنها فإن لم يتب كتب عليه. قالت العلماء: من فوائد هذه الكتبة أن المكلف إذا علم أن الملائكة الموكلين عليه يكتبون أعماله(3/94)
في صحائف تعرض على رؤوس الأشهاد في مواقف القيامة كان ذلك زجرا له عن القبائح.
ومنها أن توزن تلك الصحائف يوم القيامة فإن وزن الأعمال غير ممكن. ومنها التعبد فعلى المكلف أن يؤمن بكل ما ورد به الشرع وإن لم يعرف وجه الحكمة في بعض ذلك. وقال بعض الحكماء: الحفظة النفوس والقوى الجسمانية التي تحفظ الأركان مع طبائعها المتضادة على امتزاجها. وقال بعض القدماء: منهم النفوس البشرية والأرواح السفلية مختلفة بجواهرها متباينة بماهياتها، فبعضها خيرة وبعضها شريرة، وكذا القول في الذكاء والبلادة والحرية والنذالة والشرف والخساسة، ولكل طائفة من هذه الأرواح السفلية روح سماوي هو لها كالأب المشفق والسيد الرحيم يعينها على مهماتها في يقظتها ومنامها على سبيل الرؤيا تارة، وعلى سبيل الإلهامات أخرى. فالأرواح الخيرة لها مباد من عالم الأفلاك وكذا الأرواح الشريرة وتلك المبادئ في مصطلحهم تسمى بالطباع التام لأن تلك الأرواح في تلك الطبائع والأخلاق تامة كلها وهذه الأرواح السفلية المتولدة منها أضعف منها لأن المعلول في كل باب أضعف من علته، لأصحاب الطلسمات والعزائم في هذا الباب كلام كثير. وقيل: إن النفوس المفارقة تميل إلى ما يناسبها ويساويها في الطبيعة والماهية من النفوس المتعلقة بالأبدان فتحفظها وتعينها حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي وقته أو أماراته تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا أي بإذننا وتفويضنا فالمتوفى بالحقيقة هو الله تعالى كما قال الله يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الزمر: 42] . وهؤلاء الرسل أتباع ملك الموت في قوله يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: 11] وهل هم الحفظة بأعيانهم أم غيرهم فيه قولان: أشهرهما الثاني لكون ملائكة الروح والريحان وهم الريحانيون غير ملائكة الكرب والأحزان وهم الكروبيون. وعن مجاهد: جعلت الأرض مثل الطست لملك الموت يتناول من يتناوله، وما من أهل بيت إلا ويطوف عليهم في كل يوم مرتين. وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ لا يقصرون فيما أمرهم الله تعالى به وفيه مدح لهم بالعصمة ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ أي إلى حكمه وجزائه مَوْلاهُمُ الْحَقِّ صفتان والضمير في رُدُّوا إما للملائكة يعني كما يموت بنو آدم يموت أولئك الملائكة، أو إلى البشر أي أنهم بعد موتهم يردون إلى الله تعالى والمعنى أنهم كانوا في الدنيا تحت تصرفات الموالي الباطلة وهي النفس والشهوة والغضب، فإذا ماتوا انتقلوا إلى تصرف المولى الحق. وفيه إشعار بأن الإنسان شيء آخر وراء هذا الهيكل المحسوس فإن هذا الهيكل يبقى ميتا والإنسان مردود إليه تعالى. وفي لفظ الرد إشارة إلى أن الروح كان موجودا قبل البدن وقد تعلق به زمانا ثم ردّ إلى موضعه الأصلي وهو عالم الأرواح بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] أَلا لَهُ الْحُكْمُ كقوله: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام: 57] وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ حسابا قيل: إنه تعالى يحاسب الخلق بنفسه دفعة واحدة فلا يشغله كلام عن كلام. وقيل: يحاسب كل إنسان واحد من الملائكة بإذن الله(3/95)
تعالى لأنه لو حاسب الكفار بذاته لتكلم معهم وهو محال لقوله وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [البقرة:
174] وقال الحكيم: معنى سرعة المحاسبة ظهور الملكات في الهيآت على النفس في آن قطع التعلق، قليلة كانت أو كثيرة، حميدة أو ذميمة، وبعد تعارض البعض بالبعض يبقى ما هو أغلب وبحسب ذلك يكون الثواب أو ضده. وذلك أنه لا يحصل للإنسان لحظة ولا لمحة ولا حركة ولا سكون إلا ويظهر منها في جوهر نفسه أثر من آثار السعادة أو ضدها قل أو كثر وهو المراد بكتبة الأعمال. قال الجبائي- هاهنا: لو كان كلامه قديما لوجب أن يكون متكلما بالمحاسبة الآن وقبل خلقه وذلك محال لأن المحاسبة تقتضي حكاية عمل تقدم.
وعورض بالعلم فإنه كان قبل العالم عالما بأنه سيوجد وبعد وجوده صار عالما بأنه وجد ولا يلزم منه تغير العلم. ثم عدّد لطفه وإحسانه بقوله قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ مجازا عن مخاوفهما وأهوالهما يقال ليوم الكربة: يوم مظلم وذو كواكب كأنه أظلم عليه وجه الخلاص، ويحتمل أن تكون الظلمات بالحقيقة. وظلمات البر ظلمة الليل وظلمة السحاب، وظلمات البحر هما مع ظلمة الماء. تَدْعُونَهُ في موضع الحال تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً مفعول لأجلهما أو تمييز أو مصدر خاص. والمراد أن الإنسان عند حصول هذه الشدائد يأتي بأمور: أحدها الدعاء. الثاني التضرع. والثالث: الإخلاص بالقلب وهو المعني بقوله وَخُفْيَةً ورابعها: التزام الشكر هو المراد من قوله لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ الظلم والشدة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فبين الله سبحانه أنه إذا شهدت الفطرة السليمة في هذه الحالة بأنه لا ملجأ الا إلى الله ولا معول إلا عليه وجب أن يبقى هذا الإخلاص عند كل الأحوال والأوقات. ثم بين أنه ينجيهم من تلك المخاوف ومن سائر موجبات الحزن والكرب، ثم إن ذلك الإنسان يقدم على الشرك الجلي وهو عبادة الأوثان أو الخفي وهو اتباع الهوى.
وبالجملة فعادة أكثر الخلق ذلك إذا شاهدوا الخوف أخلصوا، وإذا انتقلوا إلى الأمن والرفاهية أشركوا. ثم ذكر نوعا آخر من دلائل التوحيد مقرونا بنوع من التخويف فقال قُلْ هُوَ الْقادِرُ واللام للعهد أو للجنس فيفيد أنه هو الذي عرفتموه قادر، وهو الكامل القدرة عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كالمطر أو الحجارة مثل ما أمطر على قوم لوط وعلى أصحاب الفيل أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما أغرق فرعون وخسف بقارون. وقيل: من قبل أكابركم وسلاطينكم أو من جهة سفلتكم وعبيدكم. وقيل: هو حبس المطر والنبات أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً هي جمع شيعة أي يخلطكم فرقا مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم مشايعة لإمام. ومعنى خلطهم أن يوقع القتال بينهم فيختلطوا ويشتبكوا في ملاحم القتال.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «سألت الله أن لا يبعث على أمتي عذابا من فوقهم أو من تحت(3/96)
أرجلهم فأعطاني ذلك. وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني» «1»
«وأخبرني جبريل أن فناء أمتي بالسيف»
قالت الأشاعرة: في قوله أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً دلالة على أن الأهواء المختلفة والآراء الفاسدة والبدع كلها من الله تعالى وفي قوله وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ إشارة إلى أن المعاصي وأنواع الظلم مستندة إلى الله تعالى وقالت المعتزلة: الآية لا تدل إلا على أنه تعالى قادر على القبيح والنزاع في أنه هل يفعل ذلك أم لا؟ وأجيب بأن الآية دلت على أن القدرة على هذه الأمور تختص به، وهذه الأمور واقعة فيكون هو فاعلها بالضرورة انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نقرر الدلائل الواضحات. وقد قال مثل ذلك فيما قبل فالتقدير: انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون فلا نعرض عنهم بل نكررها لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ وَكَذَّبَ بِهِ أي بالعذاب المذكور في الآية السابقة قَوْمُكَ يعني قريشا ومن دان بدينهم وَهُوَ الْحَقُّ أي لا بد أن ينزل بهم. وقيل: أي بالقرآن وهو الحق لأنه كتاب منزل من عند الله.
وقيل: أي بتصريف الآيات لأنهم كذبوا كون هذه الأشياء دلالات. قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أي بحافظ حتى أجازيكم على تكذيبكم وإعراضكم عن قبول الدلائل إنما أنا منذر.
لِكُلِّ نَبَإٍ لكل خبر يخبره الله تعالى مُسْتَقَرٌّ أي استقرار أو موضع استقرار. والمراد بالنبإ المنبأ به لأن النبأ قد حصل، والمقصود أن لعذاب الله تعالى أو لاستيلاء المسلمين على الكفار بالقتل والأسر والقهر وقتا ومكانا يحصل فيه من غير خلف ولا تأخير وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ فيه من التهديد ما فيه.
ثم بين أن أولئك المكذبين إن ضموا إلى كفرهم وتكذيبهم الاستهزاء بالدين والطعن في الرسول فإنه يجب الاحتراز عن مجالستهم فقال وَإِذا رَأَيْتَ أيها السامع الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا والخوض في اللغة عبارة عن المفاوضة على وجه اللغو والعبث، ويقرب منه قول المفسرين إنه في الآية الشروع في آيات الله على سبيل الطعن والاستهزاء، وكانت قريش في أنديتهم يفعلون ذلك فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ بالقيام عنهم لقوله بعد ذلك فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى وقيل: المطلوب إظهار الإنكار وكل طريق أفاد هذا الغرض وإن كان غير القيام عن مجلسهم فإنه يجوز المصير إليه، هذا عند عدم الخوف، أما مع الخوف فهذا الفرض ساقط والتقية واجبة. نعم كل ما أوجب على الرسول صلى الله عليه وسلم فعله وجب عليه، سواء ظهر أثر الخوف أو لم يظهر وإلا لم يبق الاعتماد على التكاليف التي يبلغها وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ أي يشغلك بوسوسته حتى تنسى النهي عن مجالستهم فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى بعد أن تذكر النهي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي معهم فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الفتن حديث 20. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 9. الموطأ في كتاب القرآن حديث 35. أحمد في مسنده (5/ 240، 243) .(3/97)
عليهم بالظلم. قال الليث: الذكرى اسم للتذكرة. وقال الفراء: هي الذكر. قال في الكشاف بناء على مذهبه: يجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول فلا تقعد بعد الذكرى، بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم.
قال الجبائي: إذا كان عدم العلم بالشيء يوجب سقوط التكليف، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف، فعدم القدرة على الشيء أولى بأن يوجب سقوط التكليف، وهذا يدل على أن تكليف ما لا يطاق لا يقع، ويدل على أن الاستطاعة حاصلة قبل الفعل لأنها لو لم تحصل إلا مع الفعل لم يكن الكافر قادرا على الإيمان فوجب أن لا يتوجه عليه الأمر بالإيمان. قال ابن عباس: قال المسلمون: لئن كنا كلما استهزأ المشركون بالقرآن وخاضوا فيه قمنا عنهم لم نستطع أن نجلس في المسجد الحرام وأن نطوف بالبيت فنزلت الرخصة أن يقعدوا معهم ويذكروهم ويفهموهم بقوله وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ أي الشرك والكبائر والفواحش مِنْ حِسابِهِمْ من ذنوبهم التي يحاسبون عليها مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى أي ولكن يذكرونهم تذكيرا، أو ولكن عليهم أن يذكروهم، أو ولكن الذي تأمرونهم به ذكرى. ولا يجوز أن يكون عطفا على محل مِنْ شَيْءٍ كقول القائل: ما في الدار من أحد ولكن زيد لأن قوله مِنْ حِسابِهِمْ يأبى ذلك فإن الذكرى ليس من حساب المشركين.
ثم أكد الإعراض عنهم بقوله وَذَرِ الَّذِينَ والمراد ترك معاشرتهم وملاطفتهم والمبالاة بهم لا ترك إنذارهم وتخويفهم كقوله فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ [النساء: 63] وصفهم بوصفين الأوّل أنهم اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وفيه وجوه: اتخذوا دينهم الذي كلفوه ودعوا إليه وهو دين الإسلام لعبا ولهوا حيث سخروا به واستهزؤا، أو اتخذوا ما هو لعب ولهو يعني عبادة الأوثان وغيرها دينا لهم، أو المراد ما كانوا يحكمون به بمجرد التقليد والهوى كتحريم البحائر والسوائب، أو المراد أن المشركين وأهل الكتاب اتخذوا أعيادهم لعبا ولهوا لا كالمسلمين حيث اتخذوا عيدهم كما شرعه الله تعالى. قال ابن عباس: أو هو إشارة إلى من جعل دين الإسلام وسيلة إلى المناصب والرياسات والغلبة والجلال لا لأنه حق وصدق في نفسه، ويؤكد هذا الوجه الوصف الثاني وهو قوله وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا كأنهم أعرضوا عن حقيقة الدين واقتصروا على تزيين الظواهر ليتوسلوا بها إلى حطام الدنيا وَذَكِّرْ بِهِ أي بالقرآن أو بالدين القويم مخافة أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ قال الحسن ومجاهد: أن تسلم إلى الهلاك والعذاب وترتهن بسوء فعلها وأصله المنع فالمسلم إليه وهو العذاب يمنع المسلم ومنه الباسل الشجاع لامتناعه من قرنه. وقال قتادة: تحبس في جهنم. وعن ابن عباس: تفتضح لَيْسَ لَها أي النفس مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ إن تفد كل فداء لأن الفادي يعدل المفدى بمثله لا يُؤْخَذْ مِنْها قال في الكشاف: فاعل يُؤْخَذْ قوله مِنْها(3/98)
لا ضمير العدل لأن العدل هاهنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ. وأما في قوله وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ فبمعنى المفدى به فصح إسناده. قلت: إن فسر الأخذ بالقبول كما في قوله وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ [التوبة: 104] ارتفع الفرق. أُولئِكَ المتخذون هم الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا ثم بين ما به صاروا مرتهنين وعليه محبوسين بقوله لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ ثم رد على عبدة الأصنام بقوله قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ النافع الضار ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا أي لا يقدر على النفع والضر وَنُرَدُّ داخل في الاستفهام أي أنرجع إلى الشرك بعد إذ أنقذنا الله تعالى منه وهدانا للإسلام، فإن الردة عود الى الحالة الأولى التي كان الإنسان عليها من الجهل كقوله وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل: 78] كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ محله النصب على الحال من الضمير في نُرَدُّ أي أننكص على العقبين مشبهين من استهوته وهو استفعال من هوى في الأرض إذا ذهب فيها كأن معناه طلبت هويه أي سقوطه من الموضع العالي إلى الوهدة العميقة كقوله: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ [الحج: 31] وقيل: اشتقاقه من اتباع الهوى وحَيْرانَ حال أخرى لكن من الضمير في اسْتَهْوَتْهُ وكذا الجملة بعده. ومعنى الحيرة التردد في الأمر بحيث لا يهتدي إلى مخرجه منه. ومنه تحيرت الروضة بالماء إذا امتلأت فتردد فيها الماء. لَهُ أي لهذا المستهوي أَصْحابٌ رفقة يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى أي إن يهدوه الطريق المستوي فيكون مصدرا. وسمي الطريق المستقيم بالهدى يقولون له ائْتِنا أو الدعاء في معنى القول وهذا بناء على ما تزعمه العرب وتعتقده من أن الجن والغيلان تستهوي الإنسان وتستولي عليه، فشبه به الضال عن طريق الإسلام التابع لخطوات الشيطان، والمسلمون يدعونه إلى الحق وقد اعتسف المهمة تابعا للجن غير ملتفت إليهم. وقيل: إن لذلك الكافر أصحابا يدعونه إلى ذلك الضلال ويسمونه بأنه هو الهدى. وروي أن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق فإنه كان يدعو أباه إلى عبادة الأوثان قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ وهو الإسلام هُوَ الذي يحق أن يسمى هدى وما وراءه غي وضلال وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَأَنْ أَقِيمُوا قال الزجاج: لا بد من تأويل ليستقيم العطف فالتقدير: وأمرنا لنسلم ولنقيم، أو أمرنا أن أسلموا وأن أقيموا. قيل: والسر في العدول عن الظاهر أن المكلف كالغائب ما لم يسلم فإذا أسلم صار كالحاضر. وتقرير الآية أن متعلق الأمر إما أن يكون من باب الأفعال أو من باب التروك. والأول إما أن يكون من أفعال القلوب أو من أفعال الجوارح، ورئيس أفعال القلوب الإيمان بالله والإسلام وهو قوله لِنُسْلِمَ ورئيس أعمال الجوارح الصلاة وهو قوله وَأَنْ أَقِيمُوا ثم أشار إلى جوامع التروك بقوله وَاتَّقُوهُ ثم
قال وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ليعلم أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر.(3/99)
ثم دل على وجود الحاشر بقوله وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قائما أو ملتبسا بِالْحَقِّ بالحكم اللطيفة والغايات الصحيحة والأغراض المطابقة، وذلك أنه أودع في هذه الأجرام قوى وخواص وآثارا تتضمن مصالح الأبدان ومباهج نوع الإنسان وهكذا خلق يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ فقوله فاعل فَيَكُونُ ويَوْمَ مفعول خَلَقَ والمعنى أنه تعالى خلق العالم من الأفلاك والطبائع والعناصر والمواليد، وخلق يوم القيامة لرد الأرواح إلى الأجساد بطريق «كن فيكون» وعلى هذا يجوز أن يكون قوله الْحَقُّ مبتدأ وخبرا مستأنفا، أو قوله الْحَقُّ مبتدأ ويَوْمَ يَقُولُ ظرف دال على الخبر مثل «يوم الجمعة القتال» أي القتال واقع يوم الجمعة. والمراد أن قضاءه في ذلك اليوم حق وصدق خال عن الجور والعبث وَيَوْمَ يُنْفَخُ ظرف لقوله وَلَهُ الْمُلْكُ كقوله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ [غافر: 16] والمقصود أنه لا ملك في ذلك اليوم إلا له من غير دافع ولا منازع.
والصور باتفاق أكثر أهل الإسلام قرن ينفخ فيه ملك من الملائكة كما جاء في مواضع من القرآن وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ [الزمر: 68] ففزع فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر: 8] وقال أبو عبيدة: الصور جمع صورة مثل صوف وصوفة. وخطأه الأئمة فقالوا: كل جمع على لفظ الواحد سبق جمعه واحده فواحده بزيادة هاء فيه كالصوف، أما إذا سبق الواحد الجمع فليس كذلك كغرفة وغرف ولهذا يجمع صورة الإنسان على صور بالفتح كقوله فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [غافر: 64] ومن أسكن فقد أخطأ، ومما يدل على أن الصور هو القرن لا جمع صورة الإنسان أنه تعالى لم يضف النفخ إلى نفسه كما قال وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: 72] فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الأنبياء: 91] ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: 14] ثم لما بين كمال قدرته بقوله وله الملك ذكر كمال علمه بقوله عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي هو العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات وَهُوَ الْحَكِيمُ المصيب في أقواله وأفعاله الْخَبِيرُ النافذ علمه في بواطن الحقائق من غير اشتباه والتباس، فإن أمر البعث لا يتم إلا بقدرة كاملة وعلم تام كيلا يشتبه المطيع والعاصي والصديق والزنديق.
التأويل:
وَهُوَ الْقاهِرُ بوصف الجلال للأولياء، قهار بوصف الجبروت للأعداء.
وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً من صفات قهره حتى لو أرادت نفسه الخروج عن قيد مجاهدتها قهرتها سطوات العتاب فردتها إلى بذل الجهد، وإن أراد قلبه فرجة عن مطالبات العزة قهرته صدمات الهيبة فردته إلى توديع البهجة، ولو أراد روحه استرواحا من الحرقات قهرته بوارق التجلي فردته إلى بذل المهجة حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ يعني الفناء عن أوصاف(3/100)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
الوجود تَوَفَّتْهُ رسل صفات قهرنا وهم لا يقصرون في إفناء الأوصاف ثُمَّ رُدُّوا إلى البقاء بالله قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ بر الأجسام وبحر الأرواح فإن عالم الأرواح بالنسبة إلى عالم الألوهية ظلمانية. تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً بالجسم وَخُفْيَةً بالروح وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ آفة وفتنة ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ حين يتجلى لكم نور من أنوار صفاته، فبعضكم يقول: أنا الحق وبعضكم يقول: سبحاني ما أعظم شأني عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ بسدل حجاب العزة والغيرة بينه وبينكم أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ حجابا من أوصاف بشريتكم باستيلاء الهوى عليكم أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً بجعل الخلق فيكم فرقا. فمن قائل هم الصديقون، ومن قائل هم الزنديقون وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ بالقتل والصلب وقطع الأطراف انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ آيات المعارف للسائرين إلى الله لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ لشرائط السير ولا يفقهون في مقام دون الفناء عن كلية الوجود بالبقاء بشهود المعبود وَكَذَّبَ بهذا المقام قَوْمُكَ المنكرون وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ لا أسلك طريق هذا المقام بوكالتكم لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى كما قال لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ أي لكل سائر وواقف مستقر من درجات القرب أو دركات البعد وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ في أحوال الرجال ولا حظ لهم منها فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ولا تجالسهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غير تلك الطامات التي هي ريح في شبح. وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً لأن همهم من لبس الخرقة والتزيي بزي الطالبين إنما هو الدنيا وقبول الحق أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ أي كراهة أن يبطل استعدادها بالكلية بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بمقامات الرجال من الوصول والوصال قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أنطلب غير الله الذي هو النافع الضار. والنفع الحقيقي هو الفوز بالوصول إليه، والضر الحقيقي هو الانقطاع عنه. وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا إلى مقام الاثنينية التي كنا فيها بعد أن هدانا الله إلى الوحدة كالذي أضلته شياطين الجن والإنس في أرض البشرية باتباع الهوى حَيْرانَ من إغوائهم. وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ بترك الوجود كالكرة في ميدان القدرة مستسلما لصولجان القضاء وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ بمحافظة الأسرار عن الأغيار والاتقاء به عن غيره ليحشر إليه لا إلى الجنة أو النار كما قال: ألا من طلبني وجدني. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ أي لإظهار صفاته، فجعل المخلوقات مرآة لجماله وجلاله وإذا أراد أن يرى عبدا من عباده تلك الصفات يقول له: كن رائيا فيكون، ولن يصير رائيا بمجرد سعيه لأن قوله في حق الإنسان كن رائيا هو الحق وله ملك الإراءة وملك الرؤية، ينفخ الإراءة في صور القلب وَهُوَ الْحَكِيمُ فيما اختص الإنسان بإراءة الآيات الْخَبِيرُ بمن يخصه من بين الناس بالإراءة.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 83]
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)(3/101)
القراآت:
إِنِّي أَراكَ بفتح الياء: أبو عمرو وابن كثير وأبو جعفر ونافع لِأَبِيهِ آزَرَ بالضم على النداء: يعقوب رَأى كَوْكَباً بإمالة الهمزة: أبو عمرو غير عباس والنجاري عن ورش. وكذلك رَآهُ ورَآكَ وقرأ حمزة وعلي وخلف ويحيى وعباس وهبيرة من طريق الخراز بكسر الراء والهمزة. وافق ابن ذكوان في رَأى فقط وخالفهم فيما اتصلت بالكاف والهاء في سورة النجم. وافق ابن مجاهد والنقاش بالإمالة وكسر الراء في سورة «اقرأ باسم» رَأَى الْقَمَرَ ورَأَى الشَّمْسَ ونحوهما بكسر الراء وفتح الهمزة: حمزة وخلف ونصر وعباس ويحي والخراز. وروى خلف عن يحي بكسر الراء والهمزة أَتُحاجُّونِّي بتخفيف النون: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان. الباقون: بإدغام نون الإعراب في نون الوقاية وَقَدْ هَدانِ بالإمالة: علي. وقرأ سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل بالياء في الحالين، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل. دَرَجاتٍ بالتنوين: عاصم وحمزة وعلي وخلف ويعقوب.
الوقوف:
آلِهَةً ج للابتداء بأن مع اتحاد القول. مُبِينٍ هـ الْمُوقِنِينَ هـ رَأى كَوْكَباً ج لأن جواب «لما» قوله «رأى» مع اتحاد الكلام بلا عطف رَبِّي ج لأن جواب «لما» منتظر مع فاء التعقيب فيها. الْآفِلِينَ هـ هذا رَبِّي ج لذلك الضَّالِّينَ هـ هذا أَكْبَرُ ج لذلك يشركون هـ الْمُشْرِكِينَ ج لاحتمال الواو الحال أي وقد حاجه.
قَوْمُهُ ط هَدانِ ط لانتهاء الاستفهام شَيْئاً ط عِلْماً ط تَتَذَكَّرُونَ هـ سُلْطاناً ط للاستفهام بعد تمام الاستفهام بِالْأَمْنِ ج لأن جواب «إن» منتظر محذوف التقدير: إن كنتم تعلمون فأجيبوا مع اتحاد الكلام الْمُشْرِكِينَ هـ لتناهي الاستفهام وابتداء إخبار، ولو وصل اتصل بما قبله يهتدون هـ عَلى قَوْمِهِ ط مَنْ نَشاءُ ط عَلِيمٌ هـ.(3/102)
التفسير:
إنه سبحانه كثيرا ما يحتج على مشركي العرب بأحوال إبراهيم صلوات الرحمن عليه لأنه يعرف بالفضل والتقدم عند جميع الطوائف، وذلك أنه سلم قلبه للرحمن ولسانه للبرهان وبدنه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان. ثم إن بظاهر الآية يدل على أن اسم والد ابراهيم هو آزر، ومنهم من قال: اسمه تارح. قال الزجاج: لا خلاف بين النسابين أن اسمه تارح، فمن الملحدة من طعن في هذا النسب لهذا السبب. والجواب أن إجماع النسابة لا عبرة به لأن ذلك ينتهي إلى قول الواحد أو الأثنين- مثل وهب وكعب- أو غيرهما.
سلمنا أن اسمه كان «تارح» لكنه من المحتمل أن يكون أحدهما لقبا والآخر اسما أصليا، أو يكون آزر صفة مخصوصة في لغتهم كالمخطىء والمخذول. وقيل: إن آزر هو الشيخ الهرم بالخوارزمية وهذا عند من يجوز اشتمال القرآن على ألفاظ قليلة من غير لغة العرب. وقيل:
إن آزر اسم صنم يجوز أن ينبز به للزومه عبادته، فإن من بالغ في محبة واحد فقد يجعل اسم المحبوب اسما للمحب قال تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الإسراء: 71] وقال الشاعر:
أدعى بأسماء نبزا في قبائلها ... كأن أسماء أضحت بعض أسمائي.
أو أريد عابد آزر فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: إن والد إبراهيم كان تارح وكان آزر عما له والعم قد يطلق عليه اسم الأب بدليل قوله نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [البقرة: 133] ومعلوم أن إسماعيل كان عما ليعقوب. ومما يدل على صحة ظاهر الآية أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا حراصا متهالكين على تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وإظهار نقصه، فلو كان النسب كذبا لامتنع في العادة سكوتهم عن تكذيبه، وحيث لم يكذبوه علمنا أن النسب صحيح، قالت المعتزلة ومن يجري مجراهم: إن أحدا من آباء الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان كافرا وفسروا قوله وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 219] بانتقاله من ساجد إلى ساجد وأكدوه بما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لم أزل أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات»
وإن آزر كان عم إبراهيم وما كان والدا له لأن إبراهيم شافهه بالغلظة والجفاء في قوله: إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وقد قال تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما [الإسراء: 23] ولأنه ناداه بالاسم في قراءة من قرأ «آزر» بالضم. والنداء بالاسم دليل الاستخفاف ولهذا لم يقرأ بالضم في قوله وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي [الأعراف: 142] وأجيب بأن قوله وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 219] يحتمل وجوها أخرى سوف يجيء ذكرها، وبأن
قوله «لم أزل أنتقل»
محمول على أنه لم يقع في نسبه ما كان سفاحا. والتغليظ من إبراهيم إنما كان لأجل إصرار(3/103)
أبيه على الكفر كما قال فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة: 114] لا لأجل السفه والجفاء لقوله إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود: 75] ثم إن إبراهيم احتج على فساد اعتقاد عبدة الأصنام بقوله منكرا على آزر وقومه أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً أي معبودين. وذلك أن الأصنام لو كان لها قدرة على الخير والشر لكان الصنم الواحد كافيا فلما لم يكن الواحد كافيا دل ذلك على عجزها وإن كثرت، واحتج بعضهم بالآية على وجوب معرفة الله تعالى، وعلى أن وجوب الاشتغال بشكره معلوم بالعقل لا بالسمع لأن إبراهيم حكم عليهم بالضلال من حيث النظر والاستدلال، وأجيب بأنه لعله عرف ضلالهم بحكم شرع الأنبياء المتقدمين عليه وَكَذلِكَ أي مثل ما أريناه من قبح عبادة الأصنام والاشتغال بغير الله نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والنكتة فيه أن التخلي عن غير الله يوجب رفع الحجاب وبقدر ذلك يكون حصول التجلي والتحلي بالله وإنما لم يقل «أريناه» بلفظ الماضي لأنه أراد الحكاية كأنه قيل: كيف بلغ إبراهيم هذا المبلغ في قوة الدين والذب عنه؟ فأجيب أنا كنا نريه الملكوت وقت طفوليته لأجل أن يصير من الموقنين زمان بلوغه، أو المقصود بيان ارتفاعه في معارج الكمال وازدياده في ذلك على سبيل الدوام والاستمرار فإن مخلوقاته تعالى وإن كانت متناهية في الذات وفي الصفات إلا أن جهات دلالاتها على ذاته وصفاته سبحانه غير متناهية كما قال إمام الحرمين: معلومات الله غير متناهية، ومعلوماته في تلك المعلومات أيضا غير متناهية. فإن الجوهر الفرد يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، ويمكن اتصافه بصفات لا نهاية لها على البدل، فكل تلك الأحوال التقديرية معلومة لله تعالى، وكل تلك الأحوال دالة على حكمة الله تعالى وعظمة قدرته، وإذا كان الجوهر الفرد كذلك فكيف كل الملكوت! ولهذا قيل: السفر إلى الله تعالى له نهاية، فأما السفر في الله سبحانه فإنه بلا نهاية. والملكوت هو الملك والتاء للمبالغة كالرغبوت من الرغبة والرهبوت ومن الرهبة. قال بعضهم: إنه سبحانه أراه الملكوت بالعين. قالوا: شق له السموات حتى رأى العرش والكرسي إلى منتهى الأجرام العلوية، وشق له الأرض إلى ما تحت الثرى فرأى ما فيها من البدائع والعجائب.
عن ابن عباس أنه قال: لما أري إبراهيم ملكوت السموات والأرض وأري ما فيها وما في الأرض من العجائب رأى عبدا على فاحشة فدعا عليه وعلى آخر بالهلاك، فقال الله تعالى له: كف عن عبادي فهم بين خلال ثلاث: إما أن أجعل منهم ذرية طيبة، أو يتوبون فأغفر لهم، أو النار من ورائهم.
وقال الأكثرون: إن هذه الإراءة كانت بعين البصيرة، لأن ملك السموات والأرض لا يرى وإنما يعرف بالعقل ولو أريد نفس السموات والأرض صار لفظ الملكوت ضائعا. وأيضا قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ جار مجرى الشرح والتفسير لتلك الإراءة فثبت أنه استدل بتغير الأجرام وإمكانها(3/104)
وحدوثها على وجود الإله الواجب الحكيم. ثم قال بالآخرة وَتِلْكَ حُجَّتُنا والرؤية بالعين لا تصير حجة على قومه. وأيضا الإراءة بالعين تفيد العلم الضروري بالإله القادر ومثل هذه المعرفة لا توجب المدح والثواب كما للكفار في الآخرة. وأيضا اليقين عبارة عن تحصيل علم بالتأمل إذا كان مسبوقا بالشك، فالمراد نري إبراهيم ليستدل بها وليكون من الموقنين، أو ليكون من الموقنين نريه، أو فعلنا ذلك وذلك أن الإراءة قد تصير سببا للجحود لا الإيقان كما في حق فرعون وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى [طه: 56] وأيضا الإنسان لا يمكنه أن يرى بالعين أشياء كثيرة دفعة واحدة على سبيل الكمال، وبتقدير الإمكان لا يكون لها دوام وبقاء، وبتقدير البقاء تكون شاغلة للرائي عن الله. أما إذا نظر بعين البصيرة في المخلوقات وعرف حدوثها وإمكانها، وعرف أن كل ممكن يحتاج إلى الصانع الحق الواجب فكأنه بهاتين المقدمتين قد طالع صفحة الملكوت بعين عقله وسمع بأذن قلبه شهادتها بالاحتياج والانقياد لله، وهذه الرؤية باقية غير زائلة ولا شاغلة عن الله بل هي شاغلة للقلب والروح بالله. وهذه الرؤية وإن كانت حاصلة لجميع الموحدين لقوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] إلا أن الاطلاع على تفاصيل آثار حكمة الله تعالى في كل واحد من مخلوقات هذه العوالم بحسب أجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها وعوارضها ولواحقها كما هي، لا تحصل إلا لأكابر الأنبياء ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم في دعائه «أرني الأشياء كما هي»
ثم إن الإنسان في أول استدلاله لا ينفك قلبه عن اختلاج شبهة فيه، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت كان لكل واحد منها نوع تأثير وقوة، ويكون جاريا مجرى تكرار الدرس الواحد وتزداد النفس بكل منها نورا وإشراقا وانبساطا إلى أن يحصل الجزم ويكمل الإيقان وتطلع شمس العلم والعرفان إلى حيث أتيح لها من الارتقاء والتصاعد وذلك قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ قال في الكشاف: إنه معطوف على قوله وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ وقوله وَكَذلِكَ نُرِي جملة وقعت اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه.
يقال: جن عليه الليل وأجنه الليل. والتركيب يدور على الستر ومنه الجنة والجن والمجنون والجنين. وقيل: جن عليه الليل أي أظلم عليه ولأجل هذا التضمين عدي ب «على» . وأما «أجنة» فمعناه ستره من غير تضمين معنى أظلم. واعلم أن كثيرا من المفسرين ذكروا أن ملك ذلك الزمان رأى رؤيا وعبرها المعبرون بأنه يولد غلام ينازعه في ملكه، فأمر بذبح كل غلام يولد فحملت أم إبراهيم عليه السلام به وما أظهرت حملها للناس، فلما جاءها الطلق ذهبت إلى كهف في جبل ووضعت إبراهيم وسدت الباب بحجر فجاء جبريل عليه السلام فوضع أصبعه في فيه فمصه فخرج منه رزقه، وكان يتعهده جبريل عليه السلام وكانت الأم تأتيه أحيانا وترضعه. وبقي في الغار حتى كبر وعرف أن له ربا فسأل الأم فقال لها: من ربي؟ فقالت:(3/105)
أنا. فقال: من ربك؟ فقالت: أبوك. فقال لأبيه: من ربك؟ فقال: ملك البلد. فعرف إبراهيم جهلهما بربهما. فنظر من باب ذلك الغار ليرى ما يستدل به على وجود الرب سبحانه فرأى النجم الذي كان أصغر النجوم في السماء فقال: هذا ربي إلى آخر القصة. ثم منهم من قال: كان هذا بعد البلوغ وأوان التكليف، ومنهم من قال: كان هذا قبل البلوغ.
وأكثر المحققين على فساد هذا القول لوجوه منها: أن القول بربوبية النجم كفر بالإجماع والكفر لا يجوز على الأنبياء بالاتفاق. ومنها أن إبراهيم كان قد عرف ربه قبل هذه الواقعة لأن الله تعالى أخبر عنه أنه دعا أباه إلى التوحيد بالرفق مرارا بقوله يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ
[مريم: 42] الآيات. وفي هذا الموضع دعا أباه إلى التوحيد بالكلام الخشن، والدعوة بالرفق مقدمة على الدعوة بالخشونة والغلظة. ومنها أن هذه الواقعة كانت بعد أن أراه ملكوت السموات والأرض بدليل فاء التعقيب في قوله فَلَمَّا جَنَّ ومنها أنه تعالى وصفه بقوله إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الصافات: 84] ومدحه بقوله وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ [الأنبياء: 5] أي من أول زمان الفطرة. ومنها قوله عقيب هذه القصة وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ ولم يقل «على نفسه» . ومنها أنه قال بعد القصة يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مع أنه ما كان في الغار لا قوم ولا صنم. ومنها قوله وَحاجَّهُ قَوْمُهُ وفيه دليل على أنه إنما اشتغل بالنظر في الكواكب بعد أن خالط قومه ورآهم يعبدون الأصنام ودعوه إلى عبادتها فقال لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ردا عليهم وتنبيها على فساد قولهم، ويؤكده قوله كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ لأنه يدل على أنهم كانوا قد خوفوه بالأصنام كما في قصة هود إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ
[هود: 54] ومنها أن تلك الليلة كانت مسبوقة بالنهار، وكان ينبغي أن يستدل أوّلا بغروب الشمس على عدم إلهيتها ثم يبطل إلهية القمر وسائر الكواكب بالطريق الأولى، ولما لم يكن كذلك علمنا أن المقصود إلزام القوم وإفحامهم. والابتداء بأفول الكوكب لأنه اتفقت مكالمته مع القوم حال طلوع ذلك النجم، ثم امتدت المناظرة الى أن طلعت الشمس. ثم هاهنا احتمالان: الأول أن يقال إن هذا كلام إبراهيم بعد البلوغ ولكنه ذكره بلفظهم حتى يرجع إليه فيبطله، مثاله: أن يقول في مناظرة من يزعم قدم الجسم: الجسم قديم فإن كان كذلك فلم نشاهده ونراه متركبا متغيرا. فقولك «الجسم قديم» إعادة لكلام الخصم لإلزام الحجة عليه، أو المراد هذا ربي في زعمكم واعتقادكم كقول الموحد للجسم: الإله جسم محدود أي في زعمه واعتقاده. قال تعالى وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ [القصص: 62] وقال ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: 49] أي عند نفسك.
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: يا إله الآلهة في زعمهم.
أو المراد منه(3/106)
لاستفهام على سبيل الإنكار إلا أنه أسقط حرف الاستفهام لدلالة الكلام، أو أضمر القول أي يقولون هذا ربي وإضمار القول كثير وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا [البقرة: 127] أي يقولان ربنا وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ [الزمر: 3] أي يقولون: ما نعبدهم إِلَّا لِيُقَرِّبُونا [الزمر: 3] أو ذكر هذا الكلام على سبيل الاستهزاء، أو أنه عليه السلام قد عرف من تقليدهم لأسلافهم وبعد طباعهم عن قبول الدلائل أنه لو صرح بالدعوة لم يقبلوا قوله فمال إلى الاستدراج وذكر كلاما يوهم كونه مساعدا لهم مع أن إبراهيم كان مطمئنا بالإيمان فكان بمنزلة المكره على كلمة الكفر حيث لم يجد إلى الدعوة المأمور بها طريقا سوى ذلك. وإذا جاز ذكر كلمة الكفر لمصلحة تعود إلى شخص واحد لقوله تعالى إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل: 106] فلأن يجوز ذكرها لتخليص جم غفير من الكفر والعقاب الأبدي أولى. قالت العلماء: إن المكره على ترك الصلاة لو صلى حتى قتل استحق الأجر. ثم إذا جاء وقت القتال مع الكفار وعلم أنه لو اشتغل بالصلاة انهزم عسكر الإسلام فههنا يجب عليه ترك الصلاة والاشتغال بالقتال حتى لو صلى وترك القتال أثم. وإن من كان في الصلاة فرأى طفلا أو أعمى أشرف على غرق أو حرق وجب عليه قطع الصلاة لإنقاذهما ومثل هذه الواقعة قوله فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات: 88] وذلك أنهم كانوا يستدلون بعلم النجوم على الحوادث المستقبلة فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظاهر مع إنه كان بريئا عنه في الباطن ليتوصل بذلك إلى كسر الأصنام. قال المتكلمون: إنه يصح من الله تعالى إظهار خوارق العادات على يد من يدعي الإلهية، لأن صورة هذا المدعي وشكله يدل على كذبه فلا يروج التلبيس ولكنه لا يجوز إظهارها على يد من يدعي النبوّة كاذبا لأن التلبيس يروج حينئذ فكذا هاهنا قوله هذا رَبِّي لا يوجب الضلال لأن دلائل بطلانه جلية وفي ذلك استدراج لهم لقبول الدليل فكان جائزا. الاحتمال الثاني: أنه ذكر ذلك قبل البلوغ فلعله خطر بباله لشدة ذكائه قبل بلوغه إثبات الصانع سبحانه فتفكر فرأى النجم فقال هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ثم إنه تعالى أكمل بلوغه في أثناء هذا الفكر فقال عند أفول الشمس إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ واعلم أن القصة التي ذكرناها من أن إبراهيم عليه السلام ولد في الغار وتركته أمه وكان جبريل يربيه محتملة في الجملة، لأن الإرهاص- وهو تقديم المعجز على وقت الدعوى- جائز عندنا. ولم يجوّزه القاضي إلا إذا حضر في ذلك الزمان رسول من الله تعالى فتكون تلك الخوارق معجزة لذلك الرسول. قال في الكشاف: فإن قلت: لم احتج عليهم بالأفول دون البزوغ وكلاهما انتقال من حال إلى حال؟ قلت الاحتجاج بالأفول أظهر لأنه انتقال مع خفاء واحتجاب. وأنا أقول: الاحتجاج بالبزوغ في(3/107)
الآية لا يصح لأنه تعالى بين أنه نظر إلى الكوكب وقت كونه طالعا لا حين بزوغه ليلزم مشاهدة التغير والانتقال، وكذا إلى القمر وإلى الشمس دليله أنه لم يقل رأى القمر يبزغ بل بازغا. ولو سلم فإن أحسن الكلام ما يحصل فيه حصة الخواص والأوساط والعوام، فالخواص يفهمون من الأفول الإمكان فكل ممكن محتاج والمحتاج لا يجوز أن يكون منقطع الحاجات فلا بد من الانتهاء إلى الواجب بالذات. وأما الأوساط فإنهم يفهمون من الأفول مطلق الحركة، فكل متحرك محدث وكل محدث فهو محتاج إلى القديم. وأما العوام فإنهم يفهمون من الأفول الغروب، فكل كوكب يغرب فإنه يزول نوره ويذهب سلطانه ويصير كالمعزول ومن كان كذلك فإنه لا يصلح للإلهية، أقصى ما في الباب أن يقال: إن لها تأثيرات في أحوال العالم السفلى، ولكن تلك التأثيرات لما لم تكن لها بذاتها لزم استناد الكل إلى الواجب سبحانه وهو الإله الأعظم القادر على خلق السموات والنجوم النيرات، فيجب ان يكون قادرا على خلق البشر وعلى تدبير السفليات بالطريق الأولى فلا يلزم من وضع الواسطة رفع المبدإ بحال، ويعلم من قوله لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أنه تعالى ليس بجسم وإلا كان غائبا عنا فكان آفلا، وإنه لا يصح عليه المجيء والذهاب والنزول والصعود ولا الصفات المحدثة. وفيه أن معارف الأنبياء استدلالية لا ضرورية وأنه لا سبيل إلى معرفته تعالى إلا النظر والاستدلال. أما قوله فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً يقال بزغ القمر أو الشمس إذا
ابتدأ بالطلوع. وأصل البزغ الشق كأنه بنوره يشق الظلمة شقا قاله الأزهري. وفي قوله لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي إشارة إلى أن الهداية ليست إلا من الله تعالى. والمعتزلة حملوها على التمكين وإزاحة الأعذار ونصب الدلائل، وزيف بأن كل ذلك كان حاصلا فالهداية التي كان يطلبها بعد ذلك لا بد أن تكون زائدة عليها فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي أراد هذا الطالع أو هذا المرئي، أو ذكر بتأويل الضياء والنور، أو باعتبار الخبر وهو رب مع رعاية الأدب وهو ترك التأنيث عند اللفظ الدال على الربوبية كما لم يقولوا في صفة الله علامة وإن كانت بتاء مبالغة هذا أَكْبَرُ أي أكبر الكواكب جرما ونورا، وقد برهن في الهيئة على أنها مائة وستة وستون مثلا لكرة الأرض كلها. وإنما لم يقتصر على ذكر الشمس أوّلا مع أنه يلزم منه عدم ربوبية ما دونها من القمر والكواكب، لأنه أراد الأخذ من الأدون إلى الأعلى لمزيد التقرير والتصوير يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ قيل: لا يلزم من نفي ربوبية النجوم نفي الشريك مطلقا. والجواب أن القوم لم ينازعوه إلا في الصور المذكورة، فلما أثبت أنها ليست أربابا ثبت بالاتفاق نفي الشركاء على الإطلاق. ومعنى وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ وجهت عبادتي لأجله فإن من كان مطيعا لغيره منقادا لأمره فإنه يوجه وجهه إليه، فجعل توجيه الوجه إليه كناية عن الطاعة. وأصل الفطر الشق يقال: تفطر الشجر بالورق والورد إذا(3/108)
أظهرهما، والحنيف المائل عن كل معبود سوى الله تعالى. قال أبو العالية: الذي يستقبل البيت في صلاته.
ثم إن قومه حاجوه متمسكين بالتقليد تارة كقولهم إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ [الزخرف: 22] وكقولهم للرسول صلى الله عليه وسلم «أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ [ص: 5] ومخوّفين إياه بالأصنام أخرى فأجابهم بقوله أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ أي لما ثبت بالدليل الموجب للهداية صحة قولي فكيف ألتفت إلى حجتكم الواهية؟ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ لأن الخوف إنما يحصل ممن يقدر على النفع والضر إِلَّا أَنْ يَشاءَ إلا وقت مشيئة رَبِّي شيئا يخاف. فحذف المضاف أي إلا إن أذنبت فيشاء إنزال العقوبة بي، أو إلا أن يريد ابتلائي بمحنة، أو إلا أن يمكن بعض تلك الأصنام من ضري مثل أن يرجمني بكوكب، أو كان قد أودع فيها طلسم فيصيبني مكروه من جهته بإذن الله تعالى، وفائدة الاستثناء أنه لو حدث به شيء من المكاره في الأيام المستقبلة لم يحمله الحمقى والجهلة على قدرة الأصنام وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فلا يفعل إلا الخير والصلاح أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ أن نفي الأنداد عن رب الأرباب لا يوجب حلول العقاب ونزول العذاب، وأن الصحيح لا يساوي الفاسد، والعاجز لا يساوي القادر؟ ثم أكد ذلك بقوله وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً إذ لا سلطان فينزل.
وقيل: إنه لا يمتنع عقلا أن يؤمر باتخاذ تلك التماثيل والصور قبلة للصلاة والدعاء، ولكنه لم يؤمر به. والمعنى ما لكم تنكرون على الأمن في موضع الأمن ولا تنكرون على أنفسكم إلا من في موضع الخوف؟ ثم قال فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ يعني فريقي المشركين والموحدين. ولم يقل «فأينا أحق بالأمن أنا أم أنتم» اجتنابا عن تزكية نفسه. والغرض إني أحق بالأمن إن كنتم تعلمون ثم استأنف الجواب عن السؤال بقوله الَّذِينَ آمَنُوا الآية، والمعنى أن الذي حصل لهم الأمن المطلق هم المستجمعون لكمال القوة النظرية وسنامه الإيمان، ولكمال القوة العلمية وهو وضع الأشياء في موضعها وإليه الإشارة بقوله وَلَمْ يَلْبِسُوا أي لم يخلطوا إيمانهم بِظُلْمٍ. قالت الأشاعرة: شرط في الإيمان الموجب للأمن عدم الظلم، ولو كان ترك الظلم داخلا في الإيمان لم يكن لهذا التقييد فائدة فثبت أن الفاسق مؤمن. وقالت المعتزلة: شرط في حصول الأمن حصول الأمرين: الإيمان وعدم الظلم. فوجب أن لا يحصل إلا من للفاسق وذلك يوجب حصول الوعيد له أبدا. وأجيب بأن الظلم هاهنا الشرك لقوله إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] واجتماعه مع الإقرار بالصانع ممكن وحينئذ يصح إطلاق اللبس بمعنى الخلط ويكون المراد: الذين آمنوا بالله ولم يثبتوا له شريكا في(3/109)
المعبودية، ويؤيده أن القصة وردت في نفي الأضداد والأنداد. وأيضا لا يلزم من عدم الأمن المطلق حصول القطع بالعذاب الأبدي. واعلم أن المحاجة في الله تارة تكون موجبة للذم والإنكار كمحاجة قوم إبراهيم، وتارة تكون موجبة للمدح وذلك إذا كان الغرض تقريرا لدين الحق والمذهب الصدق كمحاجة إبراهيم من قوله فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ إلى هاهنا وإليها الإشارة بقوله وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه إليها ووفقناه لها نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ من قرأ بالإضافة فظاهر لأنه رفع يتعدى إلى واحد، ومن قرأ بالتنوين فيكون كقوله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة: 253] وقد تقدم في البقرة، واختلف في تلك الدرجات فقيل: أعماله في الآخرة، وقيل: تلك الحجج درجات رفيعة لأنها تقتضي ارتفاع الروح من حضيض العالم الجسماني إلى أعلى العالم الروحاني، وقيل: نرفع من نشاء في الدنيا بالنبوة والحكمة، وفي الآخرة بالجنة والثواب. أو نرفع درجات من نشاء بالحكمة والعلم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ فيرفع الدرجات بمقتضى الحكمة والعلم لا لموجب التشهي والشهوة.
التأويل:
رأى إبراهيم ملكوت الأشياء أي بواطنها ليكون من الموقنين عند كشفها كما كان موقنا عند كشف الضلال المودع في آزر وقومه فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ظلمة ليل البشرية أمطر سحاب العناية غيث الهداية على أرض قلبه فأنبت بذر الخلة المودعة في ملكوت قلبه، فرأى نور الرشد في صورة الكوكب طالعا من أفق سماء روحانيته فقال: هذا رَبِّي أراد به سره المكوكب لا الكوكب وإن لم يشعر به نفسه كما قيل:
هوى فؤادي ولم يعلم به بدني ... فالجسم في غربة والروح في وطن
فإن كذبت النفس فيما قالت للكوكب «هذا ربي» ما كذب الفؤاد ما رأى من الكوكب.
فقال هذا رَبِّي فلما احتجب كوكب نور الرشد بغلبات صفات الخلقية عند رجوعه إلى أوصافه ووافقه كوكب السماء بالغروب قال سره لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فلما اتسع انفتاح روزنة القلب إلى الملكوت بقدر القمر تجلى له نور الربوبية في مرآة القمر قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ عند رجوعه إلى أوصافه ازداد الشوق قال إن لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي برفع حجب الأوصاف ويبقني على وجود الخليقة لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ عن الحق كآزر وقومه. فلما انخرقت حجب الأوصاف وخرجت شمس الهداية من غيم البشرية، وأشرقت أرض القلب بنور ربها قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ شمس الهداية تعززا وتعظما ليغرب إبراهيم عليه السلام عن شرك الأنانية.
إن شمس النهار تغرب بالليل ... وشمس القلوب ليست تغيب.(3/110)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
تبرأ عن الأضداد والأنداد ونزعته همة الخلة عن الجهات وخلصه تجلي صفة الجمال عن شبكة الوهم والخيال. فقال يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ وقد يدور في الخلد أن إبراهيم صلوات الله الرحمن عليه جن عليه ظلمة الشبهة فنظر أولا في عالم الأجسام فوجدها آفلة في أفق التغير فلم يرها تصلح للإلهية، فارتقى منها إلى عالم النفوس المدبرة للأجسام فرآها آفلة في أفق الاستكمال فكان حكمها حكم ما دونها فصعد منها إلى عالم العقول المجردة، فصادفها آفلة في أفق الإمكان فلم يبق إلا الواجب الحق. ومن الناس من حمل الكوكب على الحس، والقمر على الخيال، والشمس على الوهم والعقل، ومراده أن هذه القوى المدركة الثلاثة قاصرة متناهية القوة، ومدبر العالم قاهر لها مستول عليها وَحاجَّهُ قَوْمُهُ ليسبلوا ستور شبههم على شموس عرفانه، وقد هداني إليه بالعيان بعد توالي البرهان إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً من الخذلان وهذا محال لأنه وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فهو أعلم بأهل العرفان وبأصحاب الخذلان وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ بشرك الالتفات إلى غيره من الأكوان حتى قال لجبريل: أما إليك فلا وَتِلْكَ يعني إراءة الملكوت وشواهد الربوبية في مرآة الكواكب وصدق التوجه إلى الحق والتبري عما سواه والخلاص عن شرك الأنانية والإيمان الحقيقي بالعيان حتى ارتقى من الأفعال إلى الصفات ثم إلى الذات آتَيْناها إِبْراهِيمَ بذاتنا من غير واسطة حتى جعلها حجة على قومه نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بجذبات الألوهية عن حضيض الأنانية الله حسبي.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 90]
وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)
أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)
القراآت:
وَالْيَسَعَ بتشديد اللام: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بالتخفيف، اقْتَدِهْ بإشباع الهاء: ابن عامر الحلواني عن هشام مختلسة، وبحذف الهاء في الوصل:
سهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بسكون هاء السكت على الأصل.
الوقوف:
وَيَعْقُوبَ ط كُلًّا هَدَيْنا ج لأن وَنُوحاً مفعول ما بعده، ولو وصل(3/111)
التبس بأنه مفعول ما قبله مع اتفاق الجملتين وَهارُونَ ط الْمُحْسِنِينَ هـ لا للعطف وَإِلْياسَ ط مِنَ الصَّالِحِينَ هـ لا للعطف وَلُوطاً ط الْعالَمِينَ هـ لا للعطف.
وَإِخْوانِهِمْ ج لبيان أن قوله وَاجْتَبَيْناهُمْ يعود إلى قوله كُلًّا هَدَيْنا كقوله وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا [مريم: 58] ولاحتمال الواو الحال أي وقد اجتبيناهم وذكر هديناهم بعده مُسْتَقِيمٍ هـ مِنْ عِبادِهِ ط يَعْمَلُونَ هـ وَالنُّبُوَّةَ ج بِكافِرِينَ هـ اقْتَدِهْ ط أَجْراً ط لِلْعالَمِينَ هـ.
التفسير:
لما حكى حجج إبراهيم صلوات الرحمن عليه في التوحيد والذب عن الدين الحنيفي عدّد وجوه نعمه وإحسانه عليه بعد نعمة إيتاء الحجة ورفع الدرجة فقال وَوَهَبْنا لَهُ باللفظ الدال على العظمة كما يقوله عظماء الملوك ليدل بذلك على عظم العطية، وذلك أنه جعل أشرف الناس وهم الأنبياء والرسل من نسله وعقبه. قيل: وإنما لم يذكر إسماعيل مع إسحق وإن كان هو أيضا ابنه لصلبه، لأن المقصود بالذكر هاهنا أنبياء بني إسرائيل وهم بأسرهم أولاد إسحق ويعقوب، وأما إسماعيل فإنه ما خرج من صلبه أحد من الأنبياء إلا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز ذكر محمد صلى الله عليه وسلم في هذا المقام لأنه أمر محمدا أن يحتج على العرب بأن إبراهيم لما ترك الشرك وأصر على التوحيد شرفه الله بالنعم الجسام في الدين والدنيا، ومن جملة ذلك أن آتاه أولادا كانوا ملوكا وأنبياء، فإذا كان المحتج بهذه الحجة هو محمد امتنع أن يذكر نفسه في هذا المعرض، فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحق. أما قوله وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ فالمقصود منه بيان كرامة إبراهيم بحسب الآباء أيضا مثل نوح وإدريس وشيث، وأما الضمير في قوله وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ فقد قيل: إنه يعود إلى «نوح» لأنه أقرب ولأنه تعالى ذكر في جملتهم لوطا وهو كان ابن أخي إبراهيم وما كان من ذريته، بل كان من ذرية نوح، ولأن ولد الإنسان لا يقال إنه ذريته فعلى هذا إسماعيل ما كان من ذرية إبراهيم وكان من ذرية نوح، ولأن يونس عليه السلام لم يكن من ذرية إبراهيم على قول بعضهم. وقيل: الضمير عائد إلى إبراهيم لأنه هو المقصود بالذكر في هذا المقام. واعلم أن الله تعالى ذكر أربعة من الأنبياء وهم: نوح وإبراهيم وإسحق ويعقوب. ثم ذكر من ذريتهم أربعة عشر نبيا: داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى والياس وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا. فالمجموع ثمانية عشر. وأنه لم يراع الترتيب بينهم في الآية لا بحسب الفضل والشرف ولا بحسب الزمان والمدة، فاستدل العلماء بذلك على أن الواو لا تفيد الترتيب. وقال في التفسير الكبير: إن وجه الترتيب أنه تعالى خص كل طائفة من طوائف الأنبياء بنوع من الكرامة. فمن المراتب المعتبرة عند الجمهور الملك(3/112)
والسلطنة وقد أعطى داود وسليمان من ذلك نصيبا عظيما، والمرتبة الثانية البلاء والمحنة وقد خص أيوب بذلك، والثالثة استجماع الحالتين وذلك في حق يوسف فإنه ابتلي أوّلا ثم أوتي الملك ثانيا. الرابعة قوّة المعجزات وكثرة البراهين والبينات وذلك حال موسى وهارون الخامسة الزهد الكامل كما في حق زكريا ويحيى وعيسى وإلياس ولهذا وصفهم بأنهم من الصالحين. السادسة الأنبياء الذين ليس لهم في الخلق أتباع ولا أشياع وهم إسماعيل واليسع ويونس ولوط. وأما المراد بقوله كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا قيل: المراد الهداية إلى طريق الجنة بدليل قوله وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ فإن جزاء المحسن على إحسانه لا يكون إلا الثواب. وقيل: لا يبعد أن يقال: المراد الهداية إلى الدين والمعرفة لأنهم اجتهدوا في طلب الحق فجازاهم الله بالوصال والوصول كما قال وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] وقيل: إنها الإرشاد إلى النبوّة والرسالة لأن الهداية المخصوصة بالأنبياء ليست إلا ذلك، وهذا إنما يصح عند من جوز أن تكون الرسالة جزاء على عمل. واستدل بعضهم بقوله وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ على أن الأنبياء أفضل من الملائكة، وذلك أن العالم اسم لكل موجود سوى الله تعالى فيدخل فيه الملائكة وكذا الأولياء. وقيل: فضلناهم على عالمي زمانهم فلا يتم الاستدلال. قال القاضي: ويمكن أن يقال: المراد وكل من الأنبياء يفضلون على كل من سواهم من العالمين. ثم الكلام في أن أي الأنبياء أفضل من بعض كلام آخر لا تعلق له بالأول. ثم قال وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ معطوف على كلًّا أي فضلنا بعض آبائهم. فالآباء هم الأصول، والذريات هم الفروع، والإخوان فروع الأصول. وفيه دليل على أنه تعالى خص كل من تعلق بهؤلاء بنوع من الشرف والكرامة. ثم إن قلنا المراد من الهداية الهداية إلى الثواب والجنة فقوله مِنْ آبائِهِمْ
وكلمة «من» للتبعيض يدل على أنه قد كان في آباء هؤلاء الأنبياء من كان غير مؤمن ولا واصل إلى الجنة، وإن فسرنا الهداية بالنبوة لم يفد ذلك إلا أنه يفيد أن لا تكون المرأة رسولا ولا نبيا وَاجْتَبَيْناهُمْ أي اصطفيناهم من جبيت الماء في الحوض وجبوته أي جمعته، ذلِكَ هُدَى اللَّهِ إشارة إلى معرفة التوحيد والتنزيه بدليل قوله وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ وفيه دليل على أن الهداية من الله تعالى وليس للعبد فيها اختيار. وفيه تهديد عظيم كقوله لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] والغرض من ذلك زجر الأمة. أُولئِكَ يعني الأنبياء الثمانية عشر. الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ولا بد بحكم العطف من تغاير الأمور الثلاثة. ووجه بأن الحكام على الخلق ثلاث طوائف: الحكام على بواطن الناس وهم العلماء، والحكام على ظواهر الخلق وهم السلاطين، والجامعون بين الأمرين وهم الأنبياء. فالأمور الثلاثة إشارة إلى هذه الأصناف الثلاثة. ومعنى إيتاء الكتاب الفهم(3/113)
التام بما في هذا الجنس والعلم المحيط بحقائقه وأسراره. ولو قيل: المراد بالإيتاء الابتداء بالوحي والتنزيل كصحف إبراهيم وتوراة موسى وإنجيل عيسى لم يشمل كل المذكورين لأنه تعالى ما أنزل على كل واحد منهم كتابا على التعيين. فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي بالأمور الثلاثة أو بالنبوة هؤُلاءِ يعني أهل مكة فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ أي ليسوا كافرين بها ومن توكيلهم بها أنهم وفقوا للإيمان بها والقيام بحقوقها كما يوكل الرجل بالشيء ليقوم به ويتعهده ويحافظ عليه. ومن القوم؟ قيل: كل مؤمن وقيل: أهل المدينة وهم الأنصار.
وقيل: هم والمهاجرون. وقال الحسن: هم الأنبياء الذين تقدم ذكرهم واختاره الزجاج لقوله عقيب ذلك أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وقال أبو رجاء: يعني الملائكة وضعف بأن اسم القوم قلما يقع على غير بني آدم. وفي الآية دلالة على أنه تعالى سينصر نبيه ويظاهر دين الإسلام على كل الأديان وقد وقع ما وعد وكان إخبارا بالغيب فصح إعجاز القرآن. وفيها استدلال للأشاعرة على أنه تعالى خلق قوما للإيمان ولو كان خلق الكل للإيمان والبيان والتمكين وفعل الألطاف مشتركا بين الكل لم يصح هذا التخصيص. أجاب الكعبي بأنه زاد المؤمنين من الألطاف ما لا يحصيه إلا الله، وبتقدير أن يستوي فإذا لم ينتفع به الكافر صح بحسب الظاهر أن يقال إنه لم يحصل له تلك الألطاف. ورد بأن الألطاف الداعية إلى الإيمان مشترك فيها بين الكافر والمؤمن، وبأن الوالد لما سوّى بين الولدين في العطية ثم إن أحدهما ضيع نصيبه فأي عاقل يجوّز أن يقول أحد إن الأب ما أنعم عليه وما أعطاه شيئا فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ من حذف الهاء في الوصل فعلى الأصل، ومن أثبتها في الوصل كما في الوقف أراد موافقة المصحف فإن الهاء ثابتة في الخط فكره مخالفة الخط في الحالين. وأما قراءة ابن عامر بكسر الهاء بغير إشباع فقال أبو بكر بن مجاهد: إنها غلط. وقال أبو علي الفارسي:
ليست بغلط ووجهها أن يجعل الهاء كناية عن المصدر الدال عليه الفعل. والتقدير: فبهداهم اقتد الاقتداء. وتقديم المفعول للاختصاص أي لا تقتد إلا بهم. ولا خلاف في أنه أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بالأنبياء المذكورين. إنما الكلام في تفسير الهدى. فمن الناس من قال: المراد الذي أجمعوا عليه وهو القول بالتوحيد والتنزيه عن كل ما لا يليق به في الذات والصفات والأفعال. وقال آخرون: المراد به الاقتداء بهم في شرائعهم إلا ما خصه الدليل، وعلى هذا فيلزمنا شرع من قبلنا، وقيل: اللفظ مطلق فيحمل على الكل إلا ما خصه الدليل المفصل. وقال القاضي: هذا بعيد لأن شرائعهم مختلفة متناقضة ولا يمكن الإتيان بالأمور المتناقضة معا، ولأن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العمل، ودليل إثبات شرعهم كان مخصوصا بتلك الأوقات، ولأن منصبهم يلزم أن يكون أجل من منصبه وأنه باطل بالإجماع، وأجيب بأن العام يجب تخصيصه في الصورة المتناقضة فيبقى فيما عداها حجة، وبأن(3/114)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
المستدل بالدليل فصل في ذلك الحكم فلا معنى للاقتداء بالدليل إلا إذا كان فعل الأول سببا لوجوب الفعل على الثاني، وبأنه يلزم أن يكون منصبه أجل من منصبهم لأنه أمر باستجماع خصال الكمال وصفات الشرف التي كانت متفرقة فيها كالشكر في داود وسليمان، والصبر في أيوب، والزهد في زكريا ويحيى وعيسى، والصدق في إسماعيل، والتضرع في يونس، والمعجزات الباهرة في موسى وهارون، ولهذا
قال «لو كان موسى حيا لما وسعه إلا اتباعي» .
ولما أمره بالاقتداء بالأنبياء وكان من جملة هداهم أن لا يطلبوا الأجر أي المال والجعل في إيصال الدين وإبلاغ الشريعة قيل له: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ أيها الأمة عَلَيْهِ على البلاغ أَجْراً إِنْ هُوَ يعني القرآن إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ يريد كونه مشتملا على كل ما يحتاجون إليه في المعاش والمعاد. وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الناس كافة لا إلى قوم دون قوم.
التأويل:
ومما رفعنا به درجات إبراهيم أنا وهبنا له إسحق ويعقوب. ولعله أفرد ذكر إسماعيل لمكان محمد صلى الله عليه وسلم وآله كيلا يقع ذكره تبعا لموهبة إبراهيم، فإن الكائنات تبيع لوجود محمد صلى الله عليه وسلم وآله، ومن آبائهم إلى آدم ومن ذرياتهم إلى محمد وَاجْتَبَيْناهُمْ في الأزل لهذا الشأن وَهَدَيْناهُمْ إلى الأبد وَلَوْ أَشْرَكُوا بأن لاحظوا غيرنا فأثبتوا شيئا من دوننا ونسبوا شيئا من الحوادث إلى غير قدرتنا، أو لم يبدلوا أنانيتهم في هويتنا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لتلاشي عرفانهم وتلف ما سلف من إحسانهم فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ لأنهم سلكوا حتى انتهى مسير كل منهم إلى ما قدر له: آدم في السماء الدنيا، ويحيى وعيسى في الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وموسى في السادسة، وإبراهيم في السابعة، وجميع الملائكة المقربين إلى سدرة المنتهى، وأنت محمد إلى مقام قاب قوسين أو أدنى قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ أيها الأنبياء على الاقتداء أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ ليعلموا أن الطريق إلى الله لا يسلك إلا بالاقتداء، أو لا أَسْئَلُكُمْ أيها الأمة على دعوتكم إلى الحق أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ من الله وبه وإليه وهو المستعان.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 100]
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95)
فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100)(3/115)
القراآت:
يجعلونه يبدونها ويخفون بياءات الغيبة: أبو عمرو وابن كثير، الباقون: على الخطاب ولينذر بياء الغيبة: أبو بكر وحماد. الباقون: بتاء الخطاب بَيْنَكُمْ بفتح النون: أبو جعفر ونافع وعلي وحفص والمفضل. الباقون: بالرفع وَجَعَلَ اللَّيْلَ على لفظ المضي ونصب الليل عاصم وحمزة وعلي وخلف الباقون وجاعل الليل على لفظ اسم الفاعل وبالإضافة وَجَنَّاتٍ بالرفع: الأعشى والبرجمي الباقون: بالنصب فَمُسْتَقَرٌّ بكسر القاف: أبو عمرو وابن كثير وسهل ويعقوب. الباقون: بالفتح ثَمَرِهِ بضمتين: حمزة وعلي وخلف وكذلك في آخر السورة ويس. الباقون: بفتحتين وَخَرَقُوا بالتشديد: أبو جعفر ونافع. الباقون: بالتخفيف.
الوقوف:
مِنْ شَيْءٍ ط كَثِيراً ط لمن قرأ يجعلونه بياء الغيبة. ومن قرأ بالتاء فوقفه حائز لانتهاء الاستفهام مع اتفاق الخطاب على تقدير وقد علمتم آباؤُكُمْ ط قُلِ اللَّهُ ط لأن قوله ذَرْهُمْ معطوف على قُلْ يَلْعَبُونَ هـ وَمَنْ حَوْلَها ط يُحافِظُونَ هـ أَنْزَلَ اللَّهُ ط أَيْدِيهِمْ ج لاتساق الكلام معنى مع تقدير(3/116)
حذف أي يقولون أخرجوا أَنْفُسَكُمُ ط لأن المراد من اليوم يوم القيامة تَسْتَكْبِرُونَ هـ ظُهُورِكُمْ ج لاتحاد القول. والوقف أوضح لابتداء النفي وانقطاع النظم شُرَكاءُ ط تَزْعُمُونَ هـ وَالنَّوى ط مِنَ الْحَيِّ ط تُؤْفَكُونَ هـ فالِقُ الْإِصْباحِ ج لمن قرأ وَجَعَلَ لانقطاع النظم واتصال المعنى على تقدير فلق وجعل، أو وقد جعل وعامل الحال معنى الفعل في فالق حُسْباناً ط الْعَلِيمِ هـ وَالْبَحْرِ ط يَعْلَمُونَ هـ وَمُسْتَوْدَعٌ ط يَفْقَهُونَ هـ ماءً ج للعدول مع اتحاد المقصود مُتَراكِباً ط ومن قرأ وَجَنَّاتٍ بالرفع فللعطف على قِنْوانٌ لفظا فيلزمه وقفه على دانِيَةٌ وإلا فليعطف ويفهم أن جَنَّاتٍ من جملة النخل، ومن خفض فوقفه على مُتَراكِباً جائز للعطف على قوله خَضِراً مع وقوع العارض وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ط وَيَنْعِهِ ط يُؤْمِنُونَ هـ بِغَيْرِ عِلْمٍ ط يَصِفُونَ هـ.
التفسير:
اعلم أن مدار القرآن على إثبات التوحيد والنبوة والمعاد. فبعد ذكر دليل التوحيد وإبطال الشرك شرع في تقرير أمر النبوة فقال وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ قال ابن عباس: أي ما عظموا الله حق تعظيمه حيث أنكروا النبوة والرسالة. وقال أيضا في رواية: ما آمنوا بأن الله على كل شيء قدير. وقال أبو العالية: ما وصفوه حق صفته. وقال الأخفش:
ما عرفوه حق معرفته أي في اللطف بأوليائه أو في القهر لأعدائه، وقال الجوهري: قدر الشيء مبلغه وقدرت الشيء أقدره وأقدره قدرا من التقدير أي حرره وعرف مقداره. ثم بيّن سبب عدم عرفانه بقوله إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وإنما كان منكر البعث والرسالة غير عارف بالله تعالى، لأنه إما أن يدعي أنه تعالى ما كلف أحدا من الخلائق تكليفا أصلا وهو باطل لأنه فتح باب المنكرات والقبائح بأسرها، وإما أن يسلم أنه تعالى كلف الخلق بالأوامر والنواهي ولكن لا على ألسنة الرسل وهذا أيضا جهل. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون العقل كافيا في إيجاب الواجبات وحظر المنكرات؟ فالجواب هب أن الأمر كذلك إلا أنه لا يمتنع تأكيد التصريف العقلي بل يجب تفصيل ذلك المجمل بالتعريفات المشروحة على ألسنة الرسل، لأن أكثر العقول قاصرة عن إدراك مدارك الأحكام الشرعية كما أن نور البصر قاصر عن إدراك المبصرات إلا إذا أعين بنور من خارج كنور الشمس أو السراج.
وأيضا تفويض مصالح العباد إلى مقتضى عقولهم يؤدي إلى التنازع والتشاجر لتصادم الأهواء وتناقض الآراء فلا بد من أن يتفقوا على واحد يصدرون عن رأيه، وتعيين ذلك الواحد من الخلق ترجيح بلا مرجح وإشراف على الضلال لاحتمال الخطأ في اجتهادهم، فلعل الخير في نظرهم يكون شرا في نفس الأمر فلزم أن يكون التعيين من الله سبحانه بكونه أعرف(3/117)
بالبواطن كقوله اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام: 124] وإنما يعرف ذلك المعين بظهور المعجزة على وفق دعواه تصديقا له، ومن أنكر ذلك ولم يجوّز خرق العادة فقد وصف الله تعالى بالعجز ونقصان القدرة. وقد طعن بعض الملحدة في الآية بأن هؤلاء القائلين إن كانوا كفار قريش أو البراهمة فهم ينكرون رسالة كل الأنبياء كما ينكرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فكيف يمكن إبطال قولهم بقوله قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى على أن قوله تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ بتاء الخطاب إنما يليق باليهود وإن كانوا أهل الكتاب فهم لا يقولون ما أنزل الله على بشر من شيء، بل يقرّون بنزول التوراة على موسى والإنجيل على عيسى. وأيضا الأكثرون اتفقوا على أن السورة مكية وأنها نزلت دفعة واحدة ومناظرات اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله كانت مدنية، فكيف يمكن حمل الآية على تلك المناظرة؟
والجواب أنهم إن كانوا كفار قريش فإنهم كانوا مختلطين باليهود والنصارى وكانوا قد سمعوا من الفريقين على سبيل التواتر ظهور المعجزات على يد موسى كالعصا وفلق البحر وإظلال الجبل وغيرها وكان جاريا مجرى ما يوجب عليهم الاعتراف بنبوة موسى، وعلى هذا لا يبعد إيراد نبوة موسى إلزاما لهم في قولهم ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ولما كان كفار قريش مع اليهود والنصارى متشاركين في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وآله لم يبعد أن يكون الكلام الواحد خطأ بالكفار قريش أوّلا ولأهل الكتاب آخرا وأما إن كانوا أهل الكتاب- وهو المشهور عند الجمهور- فالوجه ما
روي عن ابن عباس أن مالك بن الصيف من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رجلا سمينا دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله: أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى هل تجد فيها أن الله يبغض الحبر السمين؟ فأنت الحبر السمين قد سمنت من مالك الذي يطعمك اليهود. فضحك القوم فغضب ثم التفت إلى عمر فقال: ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له قومه: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ فقال: إنه أغضبني.
ثم إن اليهود لأجل هذا الكلام عزلوه وجعلوا مكانه كعب بن الأشرف. فلعل مالك بن الصيف لما تأذى من الكلام المذكور طعن في نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم وإنه ما أنزل عليه من شيء البتة فأمر بأن يقول في جوابه مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى أي لما سلمت أن الله تعالى أنزل الوحي والتنزيل على بشر وهو موسى فكيف يمكنك أن تقطع بأنه ما أنزل عليّ شيئا غاية ما في الباب أن تطالبني بالمعجز. والحاصل أنهم قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فألزموا ما لا بد لهم من الإقرار به من إنزال التوراة على موسى، وأدرج تحت الإلزام توبيخهم بالتحريف وإبداء بعض وإخفاء بعض. وقيل: اللفظ وإن كان مطلقا بحسب اللغة إلا أنه مقيد بحسب العرف بتلك الواقعة، فكأنه قال: ما أنزل الله على بشر من شيء في أنه يبغض الحبر السمين، وهذا كما إذا أرادت المرأة أن تخرج من الدار فغضب الزوج(3/118)
وقال: إن خرجت من الدار فأنت طالق، فإن كثيرا من الفقهاء قالوا: التعليق مقيد بتلك المرة حتى لو خرجت مرة أخرى لم تطلق. ويرد على هذا التوجيه أن قوله مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى لا يكون مبطلا لكلام الخصم. أما قوله «إن السورة مكية والمناظرات مدنية» فأجيب عنه بأن السورة مكية إلا هذه الآية فإنها نزلت بالمدينة في هذه الواقعة والله أعلم.
ومن الأحكام المستنبطة من الآية أن قوله وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ يفيد أن عقول الخلق قاصرة عن كنه معرفة الله تعالى وإن كانوا مقرين بالنبوة والرسالة لإطلاق قوله في موضع آخر وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ [الزمر: 67] ومنها أن النكرة في سياق النفي تعم وإلا لم يكن قوله مَنْ أَنْزَلَ مبطلا لقوله ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ ومنها أن النقض يقدح في صحة الكلام وإلا لم يكن في قوله مَنْ أَنْزَلَ حجة.
ويعلم منه أن قول من يقول إبداء الفارق بين الصورتين يمنع من كون النقض مبطلا ضعيف وإلا بطلت حجة الله تعالى في هذه الآية، فإن لليهود حينئذ أن تقول: معجزات موسى كانت أظهر وأبهر من معجزاتك فلا يلزم نبوتك. ومنها أن الغزالي رحمه الله تكلف وقال: حاصل الآية يرجع إلى أن موسى أنزل الله عليه شيئا، وأحد من البر ما أنزل الله عليه شيئا فينتج من الشكل الثاني أن موسى ما كان من البشر وهذا خلف محال، وليس هذه الاستحالة بحسب شكل القياس ولا بحسب صحة المقدمة الأولى فلم يبق إلا أنه لزم من فرض صحة المقدمة الثانية وهي قولهم ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ فوجب القول بكونها كاذبة فثبت أن دلالة هذه الآية على المطلوب إنما تصح عند الاعتراف بصحة الشكل الثاني، وعند الاعتراف بصحة قياس الخلف. ثم اعلم أنه سبحانه وصف كتاب موسى بكونه نورا وهدى للناس والعطف يقتضي المغايرة. فالمراد بالنور ظهوره في نفسه، وبالهدى كونه سببا لظهور غيره كقوله في وصف القرآن وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [الشورى: 52] قال أبو علي الفارسي تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ أي ذات قراطيس أي يودعونه إياها. فإن قيل:
إذا كان جميع الكتب كذلك فلم ذكر في معرض الذم؟ قلنا: لأنهم جعلوه قراطيس مفرقة مبعضة ليتوسلوا بذلك إلى إبداء بعض وإخفاء بعض مما فيه نعت محمد صلى الله عليه وسلم، أو شيء من الأحكام التي لا توافق هواهم كالرجم وغيره وَعُلِّمْتُمْ أيها اليهود على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ الأقدمون الذين كانوا أعلم منكم أن هذا القرآن يقص على بنى إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون، وقيل: كانوا يقرؤن الآيات المشتملة على نعت محمد صلى الله عليه وسلم وما كانوا يفقهون معانيها إلى أن بعث الله محمدا، فظهر أن المراد منها هو البشارة(3/119)
بمقدمه، وقيل: الخطاب لمن آمن من قريش كقوله لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ [يس: 6] قُلِ اللَّهُ أي أنزله الله فإنهم لا يقدرون على أن ينكروا ذلك فإن العقل السليم والطبع المستقيم يشهد بأن الكتاب الموصوف المؤيد قول صاحبه بالمعجزات الباهرة لا يكون إلا من الله سبحانه. ونظيره قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام: 19] والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حيث يجب على كل عاقل أن يعترف بها، فسواء أقر الخصم به أو لم يقر فالغرض حاصل. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ يقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه إنما أنت لاعب ويَلْعَبُونَ حال من ذَرْهُمْ أو من خَوْضِهِمْ ويحتمل أن يكون فِي خَوْضِهِمْ حالا من يَلْعَبُونَ وأن يكون صلة له أو ل ذَرْهُمْ. والمعنى أنك إذا أقمت الحجة عليهم وبلغت في الأعذار والإنذار هذا المبلغ العظيم فقد قضيت ما عليك كقوله إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ [الشورى: 48] قيل: إنها منسوخة بآية السيف وفيه نظر لأنه مذكور لأجل التهديد فلم يكن نزول آية القتال رافعا لشيء من مدلولات هذه الآية. ثم لما ذكر حال التوراة أعقبه بذكر القرآن فقال وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ وفائدة هذا الوصف أنه كان من الممكن أن يظن أن محمدا مخصوص من الله بعلوم كثيرة يتمكن بسببها من تركيب القرآن على هذا النسق من الفصاحة، فنفى ذلك الوهم وبين أن الله هو الذي تولى إنزاله بالوحي على لسان جبريل عليه السلام مُبارَكٌ كثير خيره دائم نفعه باعث على الخيرات زاجر عن المنكرات لما فيه من أصول العلوم النظرية والعملية. وقد جرت سنة الله تعالى بأن الباحث عنه والمتمسك به يفوز بعز في الدنيا وسعادة في الآخرة وقد جرب فوجد كذلك. مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ أي موافق لما قبله من الكتب الإلهية. أما في الأصول فلأنه يمتنع وقوع التفاوت فيها بحسب الأزمنة والأمكنة، وأما في الفروع فلأنها مشتملة على التبشير بمقدم محمد صلى الله عليه وسلم.
ويحصل منه أن التكاليف الموجودة فيها إنما تبقى إلى وقت ظهوره ثم تصير منسوخة وَلِتُنْذِرَ من قرأ بتاء الخطاب فظاهر، ومن قرأ على الغيبة فلأنه أسند الإنذار إلى الكتاب مجازا لأنه سبب الإنذار إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء: 45] وهو معطوف على ما دل عليه سائر الأوصاف كأنه قيل: أنزلناه للبركة ولتصديق ما تقدمه من الكتب وللإنذار، قال ابن عباس: سميت مكة أم القرى لأن الأرضين دحيت من تحتها. وقال أبو بكر الأصم:
لأنها قبلة أهل الدنيا فصارت هي كالأصل وسائر البلاد تبعا، وأيضا الناس يجتمعون إليها للحج وللتجارة كما يجتمع الأولاد إلى الأم. وقيل: لأن الكعبة أول بيت وضع للناس.
وقيل: إن مكة أول بلدة في الأرض ولا بد من تقدير مضاف محذوف أي أهل أم القرى ومن حولها. قيل: المراد أهل جزيرة العرب فاستدل اليهود بذلك على أنه مبعوث إلى العرب فقط. وأجيب بأن تخصيص هذه المواضع بالذكر لا يدل على نفي ما عداها لا سيما وقد(3/120)
ثبت بالتواتر أنه كان يدعي أنه رسول إلى العالمين. ويحتمل أن يقال: ما حوالي مكة يتناول جميع البلاد وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ أي بهذا الكتاب لأن أصل الدين خوف العاقبة فمن خافها لم يزل به الخوف حتى يؤمن. وليس لأحد من الأنبياء مبالغة في تقرير قاعدة البعث والقيامة مثل محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه أن كفار مكة يبعد منهم قبول هذا الدين لأنهم كانوا لا يعتقدون البعث والحشر وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ يعني أن الإيمان بالآخرة كما أنه يحمل المكلف على الإيمان بالنبي وبالكتاب كذلك يحمله على محافظة الصلوات.
وخص الصلاة بالذكر لأنها عماد الدين وسنام الطاعات كاد المحافظ عليها أن يأتي بأخواتها كلها ويجتنب المنكرات بأسرها.
ثم ذكر ما يدل على وعيد من ادّعى النبوّة وإنزال الكتاب عليه فرية وامتراء فقال وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً قال المفسرون: نزلت في الكذابين مسيلمة الحنفي والأسود العنسي.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «رأيت فيما يرى النائم كأن في يدي سوارين من ذهب فكبرا علي وأهماني. فأوحى الله إلي أن انفخهما فنفختهما فطارا عني فأوّلتهما الكذابين اللذين أنا بينهما كذاب اليمامة مسيلمة وكذاب صنعاء الأسود العنسي «1» » .
أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ كان مسيلمة يقول: محمد صلى الله عليه وسلم وآله رسول الله في بني قريش، وأنا رسول الله في بني حنيفة. واعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكل من نسب إلى الله تعالى ما هو بريء منه إما في الذات وإما في الصفات وإما في الأفعال كان داخلا تحت هذا الوعيد وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ قال المفسرون: هو النضر بن الحرث كان يدعي معارضة القرآن وهو قوله لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال: 31]
وروي أيضا أن عبد الله بن سعد أبي سرح القرشي كان يكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا تلا عليه «سميعا عليما» كتب هو «عليما حكيما» وإذا قال «عليما حكيما» كتب «غفورا رحيما» فلما نزل وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] أملاه الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما وصل إلى قوله أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ عجب عبد الله من تفصيل خلق الإنسان فقال: تبارك الله أحسن الخالقين فقال النبي صلى الله عليه وسلم اكتبها فكذلك نزلت، فشك عبد الله وقال: لئن كان محمد صلى الله عليه وسلم صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه، وإن كان كاذبا لقد قلت كما قال فارتد عن الإسلام ولحق بمكة. فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فر إلى عثمان- وكان أخاه من الرضاعة- فغيبه عنده حتى اطمأن أهل
__________
(1) رواه البخاري في كتاب المناقب باب 25. كتاب المغازي باب 70. مسلم في كتاب الرؤيا حديث 21. ابن ماجه في كتاب الرؤيا باب 10. أحمد في مسنده (1/ 263) ، (2/ 319) .(3/121)
مكة، ثم أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأمن له.
ثم فصل ما أجمل من الوعيد فقال وَلَوْ تَرى الآية. وجوابه محذوف أي لرأي يا إنسان أمرا عظيما إِذِ الظَّالِمُونَ يعني الذين ذكرهم من اليهود والمتنبئة. فاللام للعهد، ويحتمل أن تكون للجنس فيندرج هؤلاء فيه. وغمرات الموت شدائده وسكراته. وأصل الغمرة ما يغمر من الماء فاستعيرت للشدة الغالبة وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ قيل: إنه لا قدرة لهم على إخراج أرواحهم من أجسادهم فما الفائدة في هذا الخطاب؟ وأجيب بوجوه منها: أن المراد ولو ترى الظالمين إذا صاروا إلى غمرات الموت في الآخرة إذا ما دخلوا جهنم، وغمرات الموت عبارة عما يصيبهم هناك من أنواع الشدائد والتعذيبات وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ بالعذاب يكلمونهم يقولون لهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ من هذا العذاب الشديد إن قدرتم. ومنها وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ عند نزول الموت بهم في الدنيا وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ لقبض أرواحهم يقولون لهم أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ من هذه الشدائد وخلصوها من هذه الآفات والآلام، ومنها هاتوا أرواحكم وأخرجوها إلينا من أجسادكم وهذه عبارة عن العنف والتشديد في إزهاق الروح من غير تنفيس وإمهال، وأنهم يفعلون بهم فعل الغريم الملازم الملح يبسط يده إلى من عليه الحق ويقول: أخرج إليّ مالي عليك ولا أريم مكاني حتى أنزعه من أحداقك. ومنها أنه ليس بأمر وإنما هو وعيد وتقريع كقول القائل: امض الآن لترى ما يحل بك، والتحقيق أن نفس المؤمن حال النزع تنبسط في الخروج إلى لقاء ربه، ونفس الكافر تكره ذلك ويشق عليها الخروج، وقطع التعلق لأنها تصير إلى العذاب وإليه الإشارة
في الحديث «من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه» «1»
فهؤلاء الكفار يكرههم الملائكة على نزع الروح وعلى فراق المألوف. وفي الآية دلالة على أن النفس الإنسانية شيء غير هذا الهيكل المحسوس، لأن المخرج يجب أن يكون مغايرا للمخرج منه الْيَوْمَ يريد وقت الإماتة أو الوقت الممتد الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ كقولك «رجل سوء» بالإضافة لأن العقاب شرطه أن يكون مضرة مقرونة بالإهانة كما أن الثواب شرطه أن يكون منفعة مقرونة بالتعظيم، والتركيب يدور على قلة المبالاة بالشيء ومنه الهون بالفتح السكينة والوقار، وهان عليه الشيء أي حقر، وأهانه استخف به، والاسم الهون بالضم والهوان والمهانة.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث 14- 18. الترمذي في كتاب الجنائز باب 67. النسائي في كتاب الجنائز باب 10. الدارمي في كتاب الرقاق باب 43. الموطأ في كتاب الجنائز حديث 51. أحمد في مسنده (2/ 313، 346) .(3/122)
والحاصل أنه جمع لهم بين الأمرين الإيلام والإهانة بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ يعني أن هذا العذاب الشديد إنما حصل بمجموع الأمرين:
الافتراء على الله والتكبر على آيات الله وهو عدم الإيمان بها. قال الواحدي وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ أي لا تصلون له
لقوله صلى الله عليه وسلم «من سجد لله سجدة واحدة بنية صادقة فقد برىء من الكبر» .
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا يحتمل أن يكون معطوفا على قول الملائكة أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ثم الملائكة إما الملائكة الموكلون بقبض أرواحهم، وإما الملائكة الموكلون بعذابهم، ويحتمل أن يكون القائل هو الله تعالى إن جوزنا أنه يتكلم مع الكفار فُرادى جمع ينون ولا ينوّن واحده. قيل: فرد على غير قياس. وقيل: فردان كسكارى وسكران قاله ابن قتيبة. وقيل: فريد كرديف وردا في وهم الحداة والأعوان لأنه إذا أعيا أحدهم خلفه الآخر كَما خَلَقْناكُمْ أي على الهيئة التي ولدتم عليها في الانفراد، أو مجيئا مثل خلقنا لكم.
أَوَّلَ مَرَّةٍ والمراد التوبيخ والتقريع لأنهم بذلوا جهدهم وصرفوا كدهم في الدنيا إلى تحصيل أمرين: أحدهما المال والجاه، والثاني أنهم عبدوا الأصنام وجعلوها شركاء لله فيهم فقلبوا القضية وتركوا الحقيقة، وذلك أن النفس الإنسانية إنما تعلقت بالجسد ليكون البدن آلة لها في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة، فإذا فارقت البدن ولم يحصل لها هذان المطلبان عظم خسرانها وطال حرمانها فاستحق التوبيخ بقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى أي منفردين عما يجب من الأعمال والعقائد. ثم إنها مع ذلك اكتسبت أشياء قد علق الرجاء بها لأنه أفنى العمر في تحصيلها وأنها ليست مما يبقى معها فلا جرم استحق التقريع بقوله وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ أي أعطينا وتفضلنا به عليكم وَراءَ ظُهُورِكُمْ يعني أنها كالشيء الذي يبقى وراء ظهر الإنسان فلن يمكنه الانتفاع به وربما بقي معوج الرأس بسبب التفاته إليه وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ أي ليسوا معكم حتى يروا، أو ليسوا معكم بالشفاعة والنصرة كما زعمتم بدليل قوله لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ الآية. من قرأ بالنصب على الظرف فمعناه وقع التقطع بينكم كقوله وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ [البقرة: 166] يقال: جمع بين الشيئين أي وقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره. وقيل: المراد لقد تقطع وصلكم بينكم كقولهم إذا كان غدا فأتني أي إذا كان الرجاء أو البلاء غدا فأتني فأضمر لدلالة الحال، ومن قرأ بالرفع فلأنه أسند الفعل إلى الظرف اتساعا كما تقول: قوتل خلفكم وأمامكم، أو لأن المراد بالبين الوصل وإنما حسن استعماله في معنى الوصلة مع أن أصله الافتراق والتباين لأنه يستعمل في الشيئين اللذين بينهما مشاركة ومواصلة من بعض الوجوه(3/123)
كقولهم: بيني وبينه مشاركة وبيني وبينه رحم. والمعنى لقد تقطع وصلكم. قلت: ويحتمل أن يكون البين بمعنى الافتراق ويفيد المبالغة كقولهم: جد جده. فإذن العاقل من يكسب الزاد ليوم المعاد حتى لا يوبخ بقوله وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى ويصرف المال في وجوه التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله حتى لا يخاطب بقوله وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ بل يكون من زمرة وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [المزمل:
20] كيلا تطول حسرته يوم ينقطع بين النفس والجسد وصله. ثم إنه سبحانه لما فرغ من تقرير التوحيد والنبوّة والمعاد عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على وجود الصانع وكمال قدرته لتعلم أن حاصل المباحث العقلية والنقلية إنما هو معرفة ذات الله وصفاته وأفعاله فقال إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى أي بالنبات والشجر. وعن مجاهد أراد الشقين اللذين في الحنطة والنواة، والفلق هو الشق. وعن ابن عباس والضحاك: الفلق هو الخلق. ووجه بأن العقل يتصور من العدم ظلمة متصلة لا انفراج فيها ولا انشقاق، فإخراج الشيء من العدم إلى الوجود شق لذلك العدم وفلق بحسب التخيل والتعقل. واعلم أنه إذا وقعت الحبة والنواة في الأرض الرطبة ثم مر بها قدر من المدة أظهر الله في أعلاها شقا ومن أسفلها شقا، أما العالي فيخرج منه الشجرة الصاعدة إلى الهواء، وأما السافل فإنه يخرج منه الشجرة الهابطة في الأرض وهي المسماة بعروق الشجرة، وهاهنا عجائب منها: أن طبيعة الشجرة إن كانت تقتضي الهويّ في الأرض فكيف تولدت منها الشجرة الصاعدة إلى الهواء وبالعكس.
فاتصال الشجرتين على التبادل ليس بمقتضى الطبع والخاصية بل بمقتضى إرادة الموجد المختار. ومنها أن باطن الأرض جسم صلب كثيف لا تنفذ فيه المسلة ولا السكين، ثم إنا نشاهد أطراف تلك العروق مع غاية نعومتها تقوى على النفوذ والغوص في جرم الأرض، فحصول هذه القوّة الشديدة للجرم الضعيف ليس إلا بتقدير العزيز العليم. ومنها أنه يتولد من النواة شجرة ويحصل من الشجرة أغصان وأوراق وأزهار وأثمار، وللثمر قشر أعلى وقشر أسفل وفيه اللب، وفي اللب الدهن الذي هو المقصود الأصلي فتولد هذه الأجرام المختلفة في طبائعها وصفاتها وألوانها وطعومها وأشكالها مع تساوي تأثيرات النجوم والطبائع في المادة الواحدة يدل على وجود الفاعل المختار. ومنها أنك قد تجد الطبائع الأربع حاصلة في الفاكهة الواحدة، فالأترج قشره حار يابس ولحمه بارد رطب، وحماضه بارد يابس وبزره حار يابس، وكذلك العنب قشره وعجمه بارد يابس وماؤه ولحمه حار رطب. ومنها أنك تجد أحوال الفواكه مختلفة، فبعضها يكون لبه في الداخل وقشره في الخارج كالجوز واللوز، وبعضها يكون فاكهته المطلوبة في الخارج والخشبة في الداخل كالخوخ والمشمش، وبعضها يكون لنواها لب كالخوخ وقد لا يكون كالتمر، وبعض الفواكه(3/124)
يكون كله مطلوبا كالتين. فهذه الأحوال المختلفة والأشكال المتخالفة. تتضمن حكما وفوائد لا يعلمها إلا مبدعها. ومنها أنك إذا أخذت ورقة واحدة من أوراق الشجرة وجدت في وسطها خطا واحدا مستقيما يشبه النخاع في بدن الإنسان ولا يزال يستدق حتى يخرج عن إدراك الحس، ثم ينفصل عن ذلك الخط خطوط دقاق أصغر من الأول، فكأنه سبحانه أوجد ذلك لتقوى به الجاذبة المركوزة في جرم تلك الورقة على جذب الأجزاء اللطيفة الأرضية في تلك المجاري الضيقة. فإذا وقفت على عناية الخالق في إيجاد تلك الورقة الواحدة علمت أن عنايته في إيجاد جملة تلك الشجرة أكثر، وعلمت أن عنايته بتخليق الحيوان الذي خلق النبات لأجله يكون أكمل، وكذا عنايته بحال الإنسان الذي خلق لأجله النبات والحيوان ويصير ذلك مرقاة لك إلى وجود الصانع الخبير الحكيم القدير.
ثم بين كونه فالق الحب والنوى بقوله يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ لأن فلق الحب والنوى بالنبات والشجر الناميين من جنس إخراج الحي من الميت، لأن النامي في حكم الحيوان ولهذا قال يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الحديد: 17] ثم عطف على قوله فالِقُ الْحَبِّ قوله وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ قال ابن عباس: أخرج من النطفة بشرا حيا ثم يخرج من البشر الحي نطفة، أو يخرج من البيض دجاجة ومن الدجاجة بيضا، أو يخرج المؤمن من الكافر كما في حق إبراهيم، والكافر من المؤمن كنوح وابنه، أو المطيع من العاصي والعاصي من المطيع، أو العالم من الجاهل والجاهل من العالم، أو الكامل من الناقص والناقص من الكامل، وقد يجعل الضار نافعا وبالعكس. يحكى أن إنسانا سقى الأفيون في الشراب ليموت فلما تناوله ظن القوم أنه سيموت فرفعوه وجعلوه في بيت مظلم فلدغته حية وصارت تلك اللدغة لقوّة حرارة سم الحية سببا لدفع ضرر برد الأفيون. ونقل عن عبد القاهر الجرجاني أن قوله وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ معطوف على قوله يُخْرِجُ وإنما حسن عطف الاسم على الفعل هاهنا، لأن لفظ الفعل يدل على اعتناء الفاعل بذلك الفعل في كل وقت بخلاف لفظ الاسم ولهذا قال هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ [فاطر: 3] ليفيد أنه يرزقهم حالا فحالا وساعة فساعة إذا ثبت هذا فنقول الحي أشرف من الميت، فذكره بلفظ الفعل فيدل على أن الاعتناء بإخراج الحي من الميت أكثر من العكس ذلِكُمُ اللَّهُ المدبر الخالق النافع الضار المحيي المميت فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره، أم كيف تستبعدون البعث والنشور لأن الإعادة أهون من الإبداء؟ ثم عدل عن الأحوال الأرضية إلى الاستدلال بما فوقها وهي الأحوال الفلكية فقال فالِقُ الْإِصْباحِ وهو مصدر سمي به الصبح، المراد فالق ظلمة الإصباح وهو الغبش في آخر الليل وكأن الأفق كان بحرا مملوءا(3/125)
من الظلمة. ثم إنه سبحانه شق ذلك البحر المظلم بأن أجرى فيه جدولا من النور. فالمعنى فالق ظلمة الإصباح بنور الإصباح، وحسن الحذف للعلم به. أو المراد فالق الإصباح ببياض النهار وإسفاره ومنه قولهم «انشق عمود الفجر وانصدع الفجر» أو المراد مظهر الإصباح بواسطة فلق الظلمة، فذكر السبب وأراد المسبب، أو الفالق بمعنى الخالق كما مر وقد سلف لنا تقرير الصبح في البقرة في تفسير قوله عز من قائل إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [البقرة: 164] ثم إن كون الصبح بسبب وقوع ضوء الشمس على ضلع مخروط ظل الأرض في جانبه الشرقي لا ينافي كون الله سبحانه فالق الإصباح بالحقيقة، كما أن وجود النهار بسبب طلوع جرم الشمس عن الأفق لا ينافي ذلك، والإمام فخر الدين الرازي أراد أن يبين أن ذلك بقدرة الفاعل المختار فنفى كونه بسبب ضوء الشمس بحجج اخترعها من عنده وكلها خلاف المعقول والمنقول من علم الرياضة فلذلك أسقطناها عن درجة الاعتبار. النوع الثاني من الدلائل الفلكية الدالة على التوحيد قوله وجاعل الليل سكنا حجة من قرأ باسم الفاعل أن المعطوف عليه اسم فاعل، وحجة من قرأ بصيغة الفعل أن قوله بعد ذلك وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ منصوبان ولا بد من عامل وما ذلك إلا أن يقدر «جاعل» بمعنى «جعل» . والسكن ما يسكن إليه الرجل ويطمئن إليه من زوج أو حبيب ومنه قيل للنار: سكن كما سموها المؤنسة لأنها يستأنس بها، والليل يطمئن إليه التعب بالنهار لاستراحته فيه وجمامه. ويحتمل أن يراد: وجعل الليل مسكونا فيه كما قال لِتَسْكُنُوا فِيهِ [يونس: 67] فالليل والنهار من ضروريات مصالح هذا العالم، فهما نعمتان من الله تعالى وآيتان على وحدته وقدرته. النوع الثالث قوله وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً أي سببي حسبان لأن حساب الأوقات يعلم بسيرهما ودورهما. والحسبان بالضم مصدر حسب بالفتح كما أن الحسبان بالكسر مصدر حسب بالكسر. وقيل: إنه جمع حساب مثل «شهاب» «وشهبان» .
قال في الكشاف: الشمس والقمر قرئا بالحركات الثلاث. فالنصب على إضمار فعل دل عليه جاعل الليل أو يعطفان على محل الليل لأن اسم الفاعل أريد به هاهنا الاستمرار كما تقول: الله عالم قادر. فلا تقصد زمانا دون زمان فتكون الإضافة غير حقيقية ويكون لليل محل. قلت: وهذا مناقض لما ذكره في مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 3] من أنه يجوز أن يراد به زمان مستمر حتى تكون الإضافة حقيقية، ويصح وقوعه صفة للمعرفة. وأما وجه الجر فظاهر. ووجه الرفع كونهما مبتدأين محذوفي الخبر أي والشمس والقمر مجعولان أو محسوبان حسبانا وذلِكَ الجعل تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي قهرهما الْعَلِيمِ الذي دبرهما.
وذلك أن تقدير أجرام الأفلاك بصفاتها المخصوصة وهيآتها المحدودة وأوضاعها المعينة لا يتم إلا بقدرة شاملة لجميع الممكنات وعلم نافذ في الكليات والجزئيات. النوع الرابع قوله(3/126)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ عد هاهنا من منافع النجوم كونها سببا للاهتداء إلى الطرق والمسالك فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حيث لا يرون شمسا ولا قمرا. والتقدير في ظلمات الليل بالبر والبحر فأضافها إليهما لملابستها لهما. وقيل: المراد ظلمات بر التعطيل وبحر التشبيه فإن اختصاص كل من هذه الكواكب بحال وصفة أخرى مع تشاركها في الجسمية دليل ظاهر على مختار قادر. وأيضا اتصافها بالأعضاء والأبعاض والحدود والأحياز مع أنها لا تصلح للإلهية بالاتفاق دليل على تنزيه الله سبحانه من هذه السمات ولهذا قال قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيستدلون بالمحسوس على المعقول وينتقلون من الشاهد إلى الغائب.
ثم عدل عن الآيات الآفاقية إلى آيات الأنفس فقال وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أي خلقكم بطريق النشؤ والنماء مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هي آدم وحوّاء مخلوقة من ضلع من أضلاعه، وكذا عيسى لأنه من مريم وإن كان يتوسط كلمة «كن» أو بالنفخ وهي من آدم فَمُسْتَقَرٌّ من قرأ بكسر القاف فالتقدير فمنكم مستقر وَمنكم مُسْتَوْدَعٌ الأول اسم فاعل والثاني اسم مفعول. ومن قرأ بفتح القاف فالتقدير: فلكم مستقر ولكم مستودع. فيكون كلاهما اسمي مكان أو مصدرا. وذلك أن استقر لازم فلا يجيء منه المفعول به بلا واسطة فينبغي تفسير مستودع أيضا بما يشاكله استحسانا. وعن ابن عباس: أن المستودع الصلب والمستقر الرحم لقوله وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ [الحج: 5] ولأن اللبث في الرحم أكثر فيكون لفظ القرار بذلك أنسب بخلاف المستودع فإنه في معرض الاسترداد ساعة فساعة، وهذا شأن المني في الأصلاب فإنه بصدد الإراقة في كل حين وأوان. وقيل: المستقر صلب الأب والمستودع الرحم، لأن النطفة قد حصلت في صلب الأب أوّلا واستقرت هناك، ثم حصلت في الرحم على سبيل الوديعة، ولأن هذا الترتيب يناسب تقديم المستقر على المستودع. وعن الحسن:
المستقر حاله بعد الموت لأن سعادته وشقاوته تبقى وتستقر على حالة واحدة والمستودع حاله قبل الموت، لأن الكافر قد ينقلب مؤمنا والفاسق صالحا والوديعة على شرف الزوال والذهاب. وقال الأصم: المستقر الذي خلق من النفس الأولى وحصل في الوجود والمستودع الذي لم يخلق بعد وسيخلق. وعنه أيضا المستقر من في قرار الدنيا، والمستودع من في القبور إلى يوم البعث. وعن قتادة بالعكس. وعن أبي مسلم الأصفهاني: المستقر الذكر لأن النطفة إنما تستقر في صلبه، والمستودع الأنثى لأنها تستودع النطفة. وحاصل الكلام أن الإنسان خلق من نفس واحدة ثم إنه يتقلب في الأطوار ويتردد في الأحوال، وليس هذا بمقتضى الطبع والخاصية وإلا لتساوى الكل في الأخلاق والأمزجة فذلك إذن بتدبير(3/127)
فاعل قدير مختار خبير. ولهذا قال قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ ميزنا بعضها عن بعض لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ لأن الفائدة تعود إليهم وإن كان الإرشاد عاما، ولأن آيات الأنفس أقرب إلى الاعتبار وأهون لدى الاستبصار ختم هذه الآية بالفقه، وخصص خاتمة الآية الأولى بالعلم ليعلم أن الغافل عن هذه لا فطنة له ولا ذكاء أصلا فضلا عن العلم. ثم عدد ما كونه نعمة أبين فيه من كونه آية فقال وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً قيل: أي من جانب السماء وقيل: أي من السحاب لأن العرب تسمي كل ما فوقك سماء كسماء البيت. وقال أكثر أهل الظاهر: أي من السماء نفسها لأنه تعالى فاعل مختار قادر على خلق الأجسام كيف شاء وأراد. ونحن قد حكينا في أول سورة البقرة مذهب الحكماء في هذا الباب والله تعالى أعلم. قال ابن عباس: يريد بالماء هاهنا المطر، ولا تنزل قطرة من السماء إلا ومعها ملك.
والفلاسفة يحملون ذلك على الطبيعة الحالة فيها الموجبة للنزول إلى مركزها. فَأَخْرَجْنا بِهِ أي بواسطة ذلك الماء وذلك يوجب الطبع والمتكلمون ينكرونه نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ قال الفراء: أي نبات كل شيء له نبات فيخصص بنبت كل صنف من أصناف النامي ويخرج ما عدا ذلك. وفي الآية التفاتان: الأول من الحكاية إلى الغيبة حيث لم يقل «نحن الذين أنزلنا» والثاني من الغيبة إلى الحكاية وأنت خبير أن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب باب من أبواب البلاغة، وصيغة الجمع لأجل التعظيم كما هو ديدن الملوك. ثم لما بين أن السبب وهو الماء واحد والمسببات صنوف كثيرة فصل ذلك بعض التفصيل حسب ما ذكر في قوله إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى فقال فَأَخْرَجْنا مِنْهُ أي من النبات خَضِراً شيئا أخضر طريا وهو ما تشعب من أصل النبات الخارج من الحبة. نُخْرِجُ مِنْهُ أي من ذلك الخضر حَبًّا مُتَراكِباً بعضه على بعض. قال ابن عباس: يريد القمح والشعير والسلت والذرة، فأصل ذلك هو العود الأخضر وتكون السنبلة راكبة عليه من فوقه والحبات متراكبة وفوق السنبلة أجسام دقيقة حادة كالإبر. والمقصود من تخليقها أن تمنع الطيور من التقاط تلك الحبات المتراكبة. ولما ذكر ما نبت من الحب أتبعه ذكر ما ينبت من النوى فقال وَمِنَ النَّخْلِ وهو خبر وقوله مِنْ طَلْعِها بدل منه كأنه قيل: وحاصلة من طلع النخل قِنْوانٌ أو الخبر محذوف لدلالة أخرجنا عليه. والتقدير: ومخرجة من طلع النخل قنوان وهو جمع قنو كصنوان وصنو. والقنو العذق وهو من التمر بمنزلة العنقود من العنب، والطلع أول ما يبدو من غذق النخلة. قال ابن عباس: يريد العراجين التي قد تدلت من الطلع دانية من تحتها.
وعنه أيضا أنه أراد عذوق النخلة اللاصقة بالأرض. قال الزجاج: ولم يقل ومنها قنوان بعيدة لأن أحد القسمين يغني عن الآخر كما قال سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] ويحتمل أن يقال: ترك البعيدة لأن النعمة في القريبة أكمل وأتم. وقيل: أراد بكونها دانية أنها سهلة(3/128)
المجتنى متعرضة للقاطف كالشيء الداني القريب المتناول، وأن النخلة وإن كانت صغيرة ينالها القاعد فإنها تأتي بالثمر لا تنتظر الطول وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ بالنصب عطفا على خَضِراً أي وأخرجنا به جنات من أعناب. ومن قرأ بالرفع فعلى أنها مبتدأ محذوف الخبر أي وثم جنات من أعناب، أو وجنات من أعناب مخرجة، ولا يجوز أن يكون عطفا على قنوان وإن جوّزه في الكشاف، إذ يصير المعنى وحاصلة أو مخرجة من النخل من طلعها جنات حصلت من أعناب. أما قوله وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ بالنصب فللعطف على منصوبات قبلها أو للاختصاص لفضل هذين الصنفين. قال الفراء: أراد شجر الزيتون وشجر الرمان فحذف المضاف. واعلم أنه سبحانه قدم الزرع على الأشجار لأنه غذاء وثمار الأشجار فواكه والغذاء مقدم على الفواكه، ثم قدم النخل على سائر الفواكه لأن التمر يقوم مقام الغذاء ولا سيما للعرب. ومن فضائلها أن الحكماء بينوا أن بينه وبين الحيوانات مشابهات كثيرة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم «أكرموا عمتكم النخلة فإنها خلقت من بقية طينة آدم» ثم ذكر العنب عقيب النخل لأنه أشرف أنواع الفواكه وأنه ينتفع به من أوّل ظهوره إلى آخر حاله. فأوّله خيوط دقيقة حامضة الطعم لذيذة وقد يمكن اتخاذ الطبائخ منه، ثم يظهر الحصرم وهو طعام شريف للأصحاء وللمرضى من أصحاب الصفراء، ثم يتم العنب فيؤكل كما هو ويدخر ويتخذ منه الزبيب والدبس والخمر والخل ومنافع كل منها لا تحصى، إلا أن الخمر حرمها الشرع لإسكارها. وأخس ما في العنب عجمه والأطباء يتخذون منه جوارشنات نافعة للمعدة الضعيفة الرطبة. ويتلو العنب في المنفعة الزيتون لأنه يمكن تناوله كما هو، وينفصل منه الزيت الذي يعظم غناؤه، وأما الرمان فحاله عجيبة جدا لأنه قشر وشحم وعجم وماء.
والثلاثة الأول باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة، وأما ماء الرمان فبالضد من هذه الصفات وأنه ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى الاعتدال وأشدها مناسبة للطباع المعتدلة، وفيه تقوية للمزاج الضعيف وهو غذاء من وجه ودواء من وجه، وكأنه سبحانه جمع فيه بين المتضادين فيكون دلالة القدرة والرحمة والحكمة فيه أكمل وأنواع النبات أكثر من أن يفي بشرحها المجلدات فاكتفي بذكر هذه الأنواع الخمسة تنبيها على البواقي. وأما قوله مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ ففي تفسيره وجوه الأوّل أن هذه الفواكه تكون متشابهة في اللون والشكل مع أنها تكون مختلفة في الطعم واللذّة، فإن الأعناب والرمان قد تكون متشابهة في الصورة واللون والشكل ثم إنها تكون مختلفة في الحلاوة والحموضة وبالعكس. الثاني أن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القشر والعجم متشابها في الطعم والخاصية، وأما ما فيها من اللحم والرطوبة فإنها تكون مختلفة، ومنهم من يقول: الأشجار متشابهة والثمار مختلفة. ومنهم من قال: بعض حبات العنقود متشابهة وبعضها غير متشابه وذلك أنك قد تأخذ العنقود من(3/129)
العنب فترى جميع حباته مدركة نضيجة حلوة طيبة إلا حبات مخصوصة فإنها بقيت على أوّل حالها من الخضرة والحموضة والعفوصة، ومعنى اشتبه وتشابه واحد يقال: اشتبه الشيئان وتشابها كقولك: استويا وتساويا. وإنما قال مُشْتَبِهاً ولم يقل «مشتبهين» إما اكتفاء بوصف أحدهما، أو على تقدير والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك كقوله:
رماني بأمر كنت ووالدي ... بريئا ومن أجل الطويّ رماني
انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ من قرأ بفتحتين فلأنه جمع ثمرة مثل: بقر وبقرة، وشجر وشجرة. ومن قرأ بضمتين فعلى أنه جمع ثمرة أيضا مثل: خشبة وخشب. قال تعالى كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ [المنافقون: 4] أو على أن ثمرة جمعت على ثمار ثم جمع ثمار على ثمر إِذا أَثْمَرَ إذا أخرج ثمره وَيَنْعِهِ يقال: ينعت الثمرة ينعا وينعا بالفتح والضم إذا أدركت ونضجت. أمر بالنظر في حال ثمر كل شجرة أوّل حدوثها وفي آخر حالها فإنها قد تكون موصوفة بالخضرة والحموضة ثم تصير إلى السواد والحلاوة، وربما كانت أوّل الأمر باردة بحسب الطبيعة ثم تصير حارة الطبع وقد يخرج ضئيلا ضعيفا لا يكاد ينتفع به، ثم يؤل إلى كمال اللذة والمنفعة فحصول هذه الانتقالات والتغيرات لا بد له من سبب مستقل في التأثير سوى الطبائع والفصول والأفلاك والنجوم وما ذاك إلا السبب الأوّل ومبدع الكل، ولهذا ختم الآية بقوله إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قال القاضي: المراد لمن يطلب الإيمان بالله لأنه آية لمن آمن ولمن لم يؤمن، ويحتمل أن يقال: خص المؤمنين لأنهم المنتفعون بذلك دون غيرهم، أو المراد أن هذه الدلالة على قوّتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله تعالى في حقه بالإيمان وإلا فلا ينتفع به البتة ويكون من زمرة من قال في حقهم وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ قال الكلبي: عن ابن عباس نزلت في الزنادقة قالوا:
إن الله تعالى وإبليس أخوان، فالله خالق الناس والدواب والأنعام، وإبليس خالق الحيات والسباع والعقارب. قال في التفسير الكبير: هذا مذهب المجوس فإنما قال ابن عباس هذا قول الزنادقة لأن المجوس يلقبون بالزنادقة لأن الكتاب الذي زعم زرادشت أنه نزل عليه من عند الله يسمى بالزند والمنسوب إليه زندي، ثم عرّب فقيل زنديق، ثم جمع فقيل زنادقة، ثم إنهم قالوا كل ما في هذا العالم من الخيرات فهو من يزدان، وجميع ما فيه من الشرور فهو من أهرمن وهو المسمى بإبليس في شرعنا، ثم اختلفوا فالأكثرون منهم على أن أهرمن محدث ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة كقولهم إنه تعالى فكر في مملكة نفسه واستعظمها ففعل نوعا من العجب فتولد الشيطان من ذلك العجب، وكقولهم شك في قدرة(3/130)
نفسه فتولد من شكه الشيطان. والأقلون منهم قالوا إنه قديم أزلي والحاصل أنهم يقولون:
عسكر الله تعالى هم الملائكة، وعسكر إبليس هم الشياطين والملائكة فيهم كثرة عظيمة وهم أرواح طاهرة مقدسة تلهم الأرواح البشرية الطاعات، والشياطين فيهم أيضا كثرة عظيمة يلقون الوساوس إلى الأرواح البشرية، والله تعالى مع عسكره يحاربون إبليس مع عسكره فلهذا السبب حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء من الجن بلفظ الجمع وإن كان شريكه عندهم بالحقيقة واحدا وهو أهرمن. وانتصاب الْجِنَّ على أنه بدل أو بيان لشركاء أو على أنه مفعول أول ل جَعَلُوا وشُرَكاءَ ثانيه ويكون لِلَّهِ طرفا لغوا. وفائدة تقديم المفعول الثاني على هذا القول استعظام أن يتخذ لله شريك كائنا من كان، ملكا أو جنيا أو إنسيا، ولذلك قدم اسم الله على الشركاء. وقرىء الْجِنَّ بالرفع كأنه قيل: من هم؟
فقيل: الجن. وبالجر على الإضافة التي للتبيين. وقيل: إن الآية نزلت في الكفار الذين جعلوا الملائكة بنات الله. وحسن إطلاق الجن على الملائكة لاستتارهم عن العيون. ومعنى كونها شركاء أنها مدبرة لأحوال هذا العالم ومعينة لله إعانة الولد للوالد. وعن الحسن وطائفة من المفسرين: أن المراد أن الجن دعوا الكفار إلى عبادة الأصنام وإلى القول بالشركة فأطاعوهم كما يطاع الله. أما قوله وَخَلَقَهُمْ فإشارة إلى الدليل القاطع على إبطال الشريك. والضمير فيه إما أن يعود إلى الجن أو إلى الجاعلين فإن عاد إلى الجن فإن قلنا إن الآية نزلت في المجوس فتقريره أن الأكثرين منهم معترفون بأن إبليس محدث ولو لم يعترفوا بذلك والبرهان العقلي قائم على أن ما سوى الحق الواحد ممكن لذاته، وكل ممكن لذاته فهو محدث، فنقول حينئذ، كل محدث مخلوق وله خالق وما ذاك إلا الله سبحانه، وحينئذ يلزمهم نقض قولهم لأنه ثبت أن إله الخير قد فعل أعظم الشرور وهو خلق إبليس الذي هو مادة كل شر. وإن قلنا: إنها نزلت في كفار العرب القائلين الملائكة بنات الله، فظاهر لأنهم يسلمون أن الملائكة مخلوقون وأنهم تولدوا منه تولد الولد من الوالد. وإن عاد الضمير إلى الجاعلين فالمعنى: وعلموا أن الله خالقهم دون الجن كقوله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] ولم يمنعهم علمهم أن يتّخذوا من لا يخلق شريكا للخالق. والجملة في موضع الحال أي وقد خلقهم. وقرىء وَخَلَقَهُمْ بسكون اللام أي اختلاقهم للإفك يعني جعلوا لله خلقهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها [الأعراف: 28] ثم حكي عن قوم آخرين نوعا آخر من الإشراك فقال وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ وذلك قول أهل الكتابين في المسيح وعزير، وقول قريش في الملائكة، ومن هنا يعلم ضعف قول من قال وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ نزل في كفار قريش لأنه يلزم التكرار من غير فائدة ظاهرة، يقال: خرق الإفك وخلقه واخترقه واختلقه(3/131)
بمعنى. قال الحسن: كلمة عربية كان الرجل، إذا كذب كذبة في نادي القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله أعلم. ويجوز أن يكون من خرق الثوب إذا شقه أي اشتقوا له بنين وبنات. أما قوله بِغَيْرِ عِلْمٍ فكالتنبيه على إبطال قولهم، فإن من عرف الإله حق معرفته استحال أن يثبت له ولدا لأن ذلك الولد إن كان واجب الوجود لذاته كان مستقلا بنفسه قائما بذاته لا تعلق له في وجوده بالآخر تعلق الفرعية، وإن كان ممكن الوجود لذاته كان موجودا بإيجاد الواجب وكان عبدا له لا ولدا. وأيضا الولد إنما يحتاج إليه ليقوم مقام الوالد بعد فنائه ومن تقدس عن الفناء لم يحتج إلى الولد. وأيضا الولد جزء من أجزاء الوالد ومن لم يكن مركبا استحال أن ينفصل منه جزء يتولد منه الولد. ثم نزه نفسه عما لا يليق به فقال سُبْحانَهُ وهذا على لسان المسبحين وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ وهذا له في نفسه سواء سبحه مسبح أم لا. والمراد بالتعالي العلو بالشرف والرفعة بدليل قوله عما يصفون.
التأويل:
وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ حين أنكروا إنزال الكتب والبعثة على أنهم لو اعترفوا بذلك أيضا لم يعرفوه حق معرفته لأن المحاط لا يحيط بالمحيط. نعم تزداد معرفته بازدياد معرفة أوصافه تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ أي في القراطيس، وما يجعلونه في قلوبهم بالتخلق بأخلاقه وَعُلِّمْتُمْ بتعليم محمد صلى الله عليه وسلم ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ كقوله وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: 151] ومن الحكمة ما هو سره الذي يكون تعليمه بسر المتابعة سرا بسر وإضمارا بإضمار، والذي علم النبي هو الله في خلوة ما سوى الله ولهذا قال قُلِ اللَّهُ مُبارَكٌ على العوام بأن يدعوهم إلى ربهم، وعلى الخواص بأن يهديهم إلى ربهم، وعلى خواص الخواص بأن يوصلهم إلى ربهم ويخلقهم بأخلاقه، وفي كتاب المحبوب شفاء لما في القلوب مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ لأنه يصدق حقائق جميع ما في الكتب وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وهي الذرة المودعة في القلب التي هي المخاطب في الميثاق وقد دحيت جميع أرض القلب من تحتها وَمَنْ حَوْلَها من الجوارح والأعضاء والسمع والبصر والفؤاد والصفات والأخلاق بأن يتنوّروا بأنواره وينتفعوا بأسراره ويتخلقوا بأخلاقه. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فيستعملون الأدوات والآلات في أمور الدنيا والآخرة لا في الدنيا الفانية وشهوات النفس وهواها يُؤْمِنُونَ بالقرآن وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ بالترقي من صفاتهم إلى التخلق بأخلاق القرآن يداومون، فإن الصلاة معراج المؤمن وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بإظهار المواجد والحالات رياء ومراء من غير أن يكون له منها نصيب، أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ الإشارات ولم يلهم نفسه شيئا منها، ومن قال متشدّقا متفيهقا سأتكلم بمثل كلام الله من الحقائق والأسرار فتظهر مضرة ظلمه وافترائه عند(3/132)
سكرات الموت، وانقطاع تعلق الروح عن البدن، وإخراج النفس عن القالب كرها لتعلقها بالشهوات واللذات وطلب الرياسات، ويكون شدة النزع والهوان بحسب التعلقات وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى عن الدنيا وما يتعلق بها، أو فرادى عن تعلقات الكونين كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ في أوّل خلقة الروح قبل تعلقه بالقالب. وَتَرَكْتُمْ بالتجريد عن الدنيا وبالتفريد عن الدنيا والآخرة ما خَوَّلْناكُمْ من تعلق الكونين وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ الأعمال والأحوال التي ظننتم أنها توصلكم إلى الله لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وبينها عند انتهاء سيركم كما انتهى سير جبريل عند سدرة المنتهى، وحينئذ لا يصل إلى الوحدة إلا بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] ولو لم تدركه الجذبة المسندة إلى العناية لانقطع عن السير في الله بالله ونفى السدرة وهو يقول وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ حبة الذرة التي أخذ منها الميثاق المودعة في حبة القلب عن نبات المحبة، وفالق النوى ذكر لا إله إلا الله في أرض القلب عن شجرة الإيمان، كلمة طيبة كشجرة طيبة يخرج نبات المحبة التي هي من صفات الحي القيوم من الذرة الميتة الإنسانية، ومخرج الأفعال الطبيعية التي هي من صفات الكفار الموتى من المؤمن الحق في الدارين. وأيضا يخرج نخل الإيمان الحق من نوى الحروف الميتة في كلمة لا إله إلا الله، ومخرج ميت النفاق من الكلمة الحية وهي لا إله إلا الله فالِقُ الْإِصْباحِ فالق ظلمة الجمادية بصباح العقل والحياة والرشاد، وفالق ظلمة الجهالة بصباح الفهم والإدراك، وفالق ظلمات العالم الجسماني بتخليص النفس القدسية إلى صحبة عالم الأفلاك، وفالق ظلمات الاشتغال بعالم الممكنات بصباح نور الاستغراق في معرفة مدبر المحدثات والمبدعات. وبالجملة فالق أنوار الروح عن ظلمة ليل البشرية، وجاعل ليل البشرية سترا عن ضياء شمس الروح ليسكن فيه النفس الحيوانية والأوصاف البشرية وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً يعني تجلي شمس الروحانية وطلوع قمر القلب بالحساب لئلا يفسد أمر القلب والقالب. وأيضا تجلى شمس الربوبية وطلوع قمر الروحانية لليل البشرية بالحساب لئلا يفسد أمر الدين والدنيا على العبد بالتفريط والإفراط، فإن إفراط طلوع شموس المعارف والشهود آفة «أنا الحق وسبحاني» وفي تفريطه آفة أنا ربكم الأعلى وعبادة الهوى. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الذي لا يهتدى إليه إلا به الْعَلِيمِ بمن يستحق الاهتداء إليه وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ نجوم أنوار الغيوب في سموات القلوب لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ بر البشرية وبحر الروحانية إلى عالم الربوبية. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ أرواحكم
من روح واحد هو روح محمد صلى الله عليه وسلم
«أول ما خلق الله روحي كما خلق أجسادكم من جسد واحد هو جسد آدم أبي البشر»
فمن الأرواح ما تعلق بالأجساد واستقر وما هو بعد(3/133)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
مستودع في عالم الأرواح. وأيضا من الأرواح ما هو مستقر فيه نور صفة الإيمان وما هو مستودع فيه جذبات الحق، ومنها ما هو مستقر في أنانيته مع علو رتبته بالبقاء وما هو مستودع أنانيته بالفناء، وما هو مستقر ببقاء الحق باق وما هو مستودع في بقاء البقاء عن الفناء قَدْ فَصَّلْنَا دلالات الوصول في الوصال لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ إشارات القلوب وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ من سماء العناية ماءً الهداية فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ من أنواع المعارف فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً طريا من المعاني والأسرار يُخْرِجُ بِهِ من الحقائق ما تركب بعضها بعضها فترتب بعضها على بعض وَمِنَ النَّخْلِ يعني أصحاب الولايات مِنْ طَلْعِها من ثمرات ولايتهم ما هو متدان للطالبين أي منهم من يكون مرئيا فينتفع بثمرات ولايته، ومنهم من يختار العزلة والانقطاع عن المريدين. وَجَنَّاتٍ يريد أرباب الزهد والتقوى والفتوّة الذين لم يبلغوا رتبة الولاية من أعناب الاجتهاد وزيتون الأصول ورمان الفروع مُشْتَبِهاً أي متفقا في الأصول والفروع وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أي مختلفا فيما بين العلماء انْظُرُوا إلى ثمر الولايات كيف ينتفع به الخواص والعوام وَيَنْعِهِ أي الكامل منها. إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بأحوالهم وينتفعون بأموالهم وأحوالهم. وَجَعَلُوا لِلَّهِ إشارة إلى أنه كما يخرج بماء اللطف من أرض القلوب لأربابها أنواع الكمالات كذلك يخرج بماء القهر من أرض النفوس لأصحابها أنواع الضلالات.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 101 الى 110]
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107) وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
القراآت:
ولم يكن بياء الغيبة: قتيبة دَرَسْتَ بتاء التأنيث: ابن عامر وسهل ويعقوب دارست بتاء الخطاب من المدارسة: ابن كثير وابو عمرو. والباقون بتاء الخطاب دَرَسْتَ من الدرس. عَدْواً على فعول بالضم: يعقوب. الباقون عَدْواً(3/134)
على فعل. أَنَّها إِذا جاءَتْ بالكسر: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب وخلف وقتيبة ونصير وأبو بكر وحماد. الباقون: بالفتح. لا تُؤْمِنُونَ بتاء الخطاب: ابن عامر وحمزة.
الباقون: على الغيبة.
الوقوف:
وَالْأَرْضِ ط صاحِبَةٌ ط كُلِّ شَيْءٍ ط لاحتمال الواو الحال والاستئناف عَلَيْهِمْ ط رَبِّكُمْ ط لاحتمال الجملة الاستئناف والحال والعامل معنى الإشارة إِلَّا هُوَ ط لأن قوله خالِقُ بدل من الضمير المستثنى أو خبر ضمير محذوف فَاعْبُدُوهُ ط لاحتمال الواو الحال والاستئناف وَكِيلٌ هـ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ج لاختلاف الجملتين مع أن الثانية من تمام المقصود يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ط لاحتمال الواو الاستئناف والحال أي يدرك الأبصار لطيفا خبيرا. الْخَبِيرُ هـ مِنْ رَبِّكُمْ ط لابتداء الشرط مع فاء التعقيب فَلِنَفْسِهِ ط كذلك مع الواو. فَعَلَيْها ط بِحَفِيظٍ هـ يَعْلَمُونَ هـ مِنْ رَبِّكَ ط لاحتمال الجملة الحال والاستئناف على أنها جملة معترضة إِلَّا هُوَ ط للعطف مع العارض الْمُشْرِكِينَ هـ ما أَشْرَكُوا ط حَفِيظاً ط للابتداء بالنفي مع اتحاد المعنى بِوَكِيلٍ هـ بِغَيْرِ عِلْمٍ ط يَعْمَلُونَ هـ لَيُؤْمِنُنَّ بِها ط وَما يُشْعِرُكُمْ ط لمن قرأ أَنَّها بكسر الألف. لا يُؤْمِنُونَ هـ يَعْمَهُونَ هـ.
التفسير:
لما نبه إجمالا بقوله بغير علم على الدليل الدال على إبطال قول من خرق له بنين وبنات، فصل ذلك بقوله بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية. والمراد هو بديع السموات، ويجوز أن يكون بَدِيعُ مبتدأ والجملة بعده خبره. وتقرير الدليل أنكم إما أن تريدوا بكون عيسى ولدا له أنه أحدثه على سبيل الإبداع من غير تقدم نطفة ولا أب وحينئذ يلزمكم القول بأنه والد السموات والأرض بكونه مبدعا لهما وهذا باطل بالاتفاق، وإما أن تريدوا به الولادة كما هو المألوف في الحيوانات وهذا أيضا محال لأن تلك الولادة لا تصح إلا ممن كانت له صاحبة من جنسه وينفصل منه جزء يحتبس في رحمها، وهذه الأحوال إنما تثبت في حق الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق والحركة والسكون والحد والنهاية والشهوة واللذة، وكل ذلك على الله محال وأشار الى هذا بقوله أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وأيضا الولد بهذا الطريق إنما يتصور في حق من لا يقدر على خلق الأشياء دفعة واحدة، أما الذي إذا أراد شيئا فإنما يقول له كن فيكون فذلك في حقه مستحيل، وإلى هذا أشار بقوله خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وأيضا هذا الولد لا يكون أزليا وإلا كان واجبا لذاته غنيا عن غيره فبقي أن يكون حادثا فنقول: إنه تعالى عالم بكل المعلومات أزلا وأبدا كما قال وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فإن كان قد علم أن له في تحصيل ذلك الولد كمالا أو نفعا أو لذة لتعلقت(3/135)
إرادته بإيجاده في الأزل دفعا لذلك الاحتياج والنقصان، فيكون الولد أزليا على تقدير كونه حادثا هذا خلف، فتبين أن إله العالم فرد واحد صمد منزه عن الشريك والنظير والأضداد والأنداد والأولاد، فلهذا صرح بالنتيجة فقال ذلِكُمُ اللَّهُ فاسم الإشارة مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة أي ذلكم الموصوف الجامع لتلك الصفات المقدسة هو الله إلى آخره. وإنما قال هاهنا لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وفي «المؤمن» بالعكس لأنه وقع هاهنا بعد ذكر الشركاء والبنين والبنات فكان رفع الشرك أهم، وهنالك وقع بعد ذكر خلق السموات والأرض فكان تقديم الخالقية أهم. ثم قال فَاعْبُدُوهُ وهو مسبب عن مضمون الجملة المتقدمة يعني أن من استجمعت له هذه الكمالات كان حقيقا بالعبادة وَهُوَ مع تلك الصفات عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ يحفظه ويرزقه ويراقبه. قال في التفسير الكبير: إنه سبحانه أقام الدليل على وجود الخالق، ثم زيف طريق من أثبت له شريكا وهذا القدر لا يوجب التوحيد المحض لكن للعلماء في إثبات التوحيد طرق منها: أن الدليل قد دل على وجود صانع، والزائد على الواحد لم يدل دليل على ثبوته فليس عدد أولي من عدد آخر فيلزم آلهة لا نهاية لها، أو القول بعدد معين بلا ترجيح وكلاهما محال فلم يبق إلا الاكتفاء بواحد وهو المطلوب. ومنها أنا لو قدّرنا إلهين قادرين على كل المقدورات عالمين بكل المعلومات، فكل فعل يفعله أحدهما صار كونه فاعلا لذلك الفعل مانعا للآخر من تحصيل مقدوره وذلك يوجب أن يكون كل واحد يعجز الآخر وهو محال، وإن كان في أحدهما عجز ونقص لم يصلح للإلهية. ومنها أنا لو فرضنا إلها ثانيا فكان إما أن يكون الثاني مشاركا للأوّل في جميع صفات الكمال أو لا. وعلى الأول لا بد أن يحصل الامتياز بأمر وإلا لم يحصل التعدد، فذلك المميز إن كان من صفات الكمال لم يكن جميع صفات الكمال مشتركة بينهما، وإن كان من صفات النقص فالموصوف به لا يصلح للإلهية وكذا إن لم يكن الثاني مشاركا للأوّل في جميع صفات الكمال فثبت التوحيد بهذه الدلائل، مع أن الدليل النقلي في التوحيد كاف والله أعلم.
قالت الأشاعرة: عموم قوله خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ يدل على أنه خالق أفعال العباد. وقالت المعتزلة: إنما ذكر هذا الكلام في معرض المدح ولكنه لا يتمدح بخلق الزنا والكفر واللواط، وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا. وأيضا احتج كثير من المعتزلة به على نفي الصفات وعلى أن القرآن مخلوق. أما الثاني فلأن القرآن شيء فيدخل تحت العموم. وأما الأوّل فلأن الصفات لو كانت موجودة له تعالى لزم أن تكون مخلوقة له. وأجيب بأنكم تخصصون هذا العام بحسب ذاته ضرورة أنه يمتنع أن يكون خالقا لنفسه وبحسب أفعال العباد، فنحن أيضا نخصصه بحسب الصفات وبحسب القرآن. وأما الفرق بين قوله وَخَلَقَ(3/136)
كُلَّ شَيْءٍ
وقوله خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فذلك لأن الأول يتعلق بالزمان الماضي، والثاني يتناول الأوقات كلها على سبيل الاستمرار. ثم بين أن شيئا من القوى المدركة لا يحيط بحقيقته وأن عقلا من العقول لا يقف على كنه صمديته فقال لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ هذه الآية من مشهورات استدلالات المعتزلة على نفي رؤيته تعالى. قالوا: الإدراك بالبصر عبارة عن الرؤية بدليل أن قول القائل: أدركته ببصري وما رأيته متناقضان. ثم إن قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يقتضي أنه لا يراه شيء من الأبصار في شيء من الأحوال بدليل صحة الاستثناء.
وأيضا أنه ذكر الآية في معرض المدح والثناء، وكل ما كان عدمه مدحا ولم يكن ذلك من باب الفعل كان ثبوته نقصا كقوله لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255] لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الصمد: 3] فوجب كون الرؤية نقصا في حقه تعالى. وإنما قيدوا بما لا يكون من باب الفعل لأنه تعالى يمتدح بنفي الظلم عن نفسه في قوله وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:
46] مع أنه تعالى قادر على الظلم عندهم. وأجيب بالمنع من أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لأنه في أصل اللغة موضوع للوصول واللحوق ومنه قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء: 61] أي لملحقون وقوله تعالى حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ [يونس: 90] أي لحقه. وأدرك الغلام أي بلغ، وأدركت الثمرة إذا نضجت. وإذ قد ثبت ذلك فنقول:
الرؤية جنس والإدراك أي إدراك البصر رؤية مع الإحاطة. ولا يلزم من نفي الخاص نفي العام، فلا يلزم من نفي إدراك البصر نفي الرؤية. سلمنا أن إدراك البصر عبارة عن الرؤية لكن قوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ لا يفيد إلا نفي العموم وأنتم تدعون عموم النفي فأين ذاك من هذا. وإنما قلنا إنه لا يفيد إلا نفي العموم لأن صيغة الجمع كما تحمل على الاستغراق فقد تحمل على المعهود السابق أيضا. فقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يفيد أنها لا تدركه في الدنيا وأنها تدركه إذا تبدلت صفاتها وتغيرت أحوالها في الآخرة، أو نقول قول القائل: لا يدركه جميع الأبصار يفيد سلب العموم ولا يفيد عموم السلب، فلم لا يجوز أن يفيد أنه يدركه بعض الأبصار كما لو قيل إن محمدا ما آمن به كل الناس فإنه يفيد أنه آمن به بعض الناس، سلمنا أن الأبصار لا تدركه البتة فلم لا يجوز حصول إدراك الله تعالى بحاسة سادسة يخلقها الله تعالى يوم القيامة كما هو مذهب ضرار بن عمرو الكوفي. أو نقول: سلمنا أن الأبصار لا تدركه فلم قلتم إن المبصرين لا يدركونه، أما قولهم إن الآية مذكورة في معرض المدح فنقول: لو لم يكن الله تعالى جائز الرؤية لما حصل المدح بقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وإنما يحصل التمدح لو كان بحيث نصح رؤيته. ثم إنه تعالى يحجب الأبصار عن رؤيته لغاية جلاله ونهاية جماله. والتحقيق فيه أن النفي المحض والعدم الصرف لا يكون موجبا(3/137)
للمدح والعلم به ضروري، بل إذا كان النفي دليلا على حصول صفة ثابتة من صفات المدح قيل: إن ذلك النفي يوجب التمدح كقوله لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255] فإنه لا يفيد المدح نظرا إلى هذا النفي، فإن الجماد أيضا لا تأخذه سنة ولا نوم إلا أن هذا النفي في حق الباري تعالى يدل على كونه عالما بجميع المعلومات من غير تبدل ولا زوال. فقوله لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ يمتنع أن يفيد المدح إلا إذا دل على معنى موجود وذلك ما قلناه من كونه قادرا على حجب الأبصار ومنعها عن الإحاطة به، فثبت بما ذكرنا أن هذه الآية عليكم لا لكم لأنها أفادت أنه تعالى جائز الرؤية بحسب ذاته. ثم نقول: إذا ثبت ذلك يجب القطع بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة لأن القائل قائلان: قائل بجواز الرؤية مع أن المؤمنين يرونه، وقائل لا يرونه ولا تجوز رؤيته، وإذا بطل هذا القول يبقى الأول حقا لأن القول بجواز رؤيته مع أنه لا يراه أحد قول لم يقل به أحد وهذا استدلال لطيف. ثم إن القاضي استدل هاهنا على نفي الرؤية بوجوه أخر خارجة عن التفسير لائقة بالأصول. فأولها أن الحاسة إذا كانت سليمة وكان المرئي حاضرا وكانت الشرائط المعتبرة حاصلة- وهو أن لا يحصل القرب القريب والبعد البعيد وارتفع الحجاب وكان المرئي مقابلا أو في حكم المقابل- فإنه يجب حصول الرؤية وإلا لجاز أن يكون بحضرتنا بوقات وطبول ونحن لا نسمعها ولا نراها، وهذا يوجب السفسطة إذا ثبت هذا فنقول: القرب القريب والبعد البعيد والحجاب والمقابلة في حقه تعالى ممتنع، فلو صحت رؤيته كان المقتضي لحصول تلك الرؤية سلامة الحاسة وكون المرئي بحيث يصح رؤيته، وهذان المعنيان حاصلان في هذا الوقت فوجب أن تحصل رؤيته، وحيث لم تحصل علمنا أن رؤيته ممتنعة في نفسها. وأجيب بأن ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ولا يلزم من ثبوت حكم لشيء ثبوت مثله فيما يخالفه. وثانيها لو صحت رؤيته لأهل الجنة لرآه أهل النار أيضا لأن القرب والبعد والحجاب ممتنع في حقه تعالى.
وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يخلق الله تعالى الرؤية في عيون أهل الجنة ولا يخلقها في عيون أهل النار؟ وثالثها أن كل ما كان مرئيا كان مقابلا أو في حكم المقابل، والله تعالى منزه عن ذلك. وأجيب بمنع الكلية وبأنه إعادة لعين الدعوى لأن النزاع واقع في أن الموجود الذي لا يكون مختصا بمكان وجهة هل يجوز رؤيته أم لا. ورابعها أن أهل الجنة يلزم أن يروه في كل حال حتى عند الجماع لأن القرب والبعد عليه تعالى محال، ولأن رؤيته أعظم اللذات وفوات ذلك يوجب الغم والحزن وذلك لا يليق بحال أهل الجنة. وأجيب بأنهم لعلهم يشتهون الرؤية في حال دون حال كسائر الملاذ والمنافع.
(في تعديد الوجوه الدالة على جواز الرؤية) : منها هذه الآية كما بينا. ومنها أن موسى(3/138)
عليه السلام طلب الرؤية فدل ذلك على جوازها. ومنها أنه تعالى علق الرؤية على استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز. ومنها قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [الكهف:
110] قد اتفق الجمهور على أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله فسر الحسنى بالجنة والزيادة بالرؤية، ومنها قوله فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ [الكهف: 11] ونحو ذلك من الآيات الدالة على اللقاء، ومنها قوله كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف: 107] والاقتصار على النزل لا يجوز فالزائد على جنات الفردوس لا يكون إلا اللقاء. ومنها قوله وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: 13] وسوف يأتي في سورة النجم إن شاء الله تعالى. ومنها قوله وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] ومنها قوله كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين: 15] فيكون المؤمنون غير محجوبين. ومنها قوله فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ [الزخرف: 71] ولا شك أن القلوب الصافية مجبولة على حب معرفة الله على أكمل الوجوه وأكمل طرق المعرفة هو العيان. ومنها قوله وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً [الدهر:
20] فيمن قرأ بفتح الميم وكسر اللام. وأما الأخبار فكثيرة منها:
الحديث المشهور «إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته» «1»
والمراد تشبيه الرؤية بالرؤية في الجلاء والوضوح لا تشبيه المرئي بالمرئي. ومنها أن الصحابة اختلفوا في أن النبي صلى الله عليه وسلم وآله هل رأى الله تعالى ليلة المعراج ولم يكفر بعضهم بعضا بهذا السبب فدل ذلك على أنهم كانوا يجمعون على إمكان الرؤية. أما قوله تعالى وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ ففيه دليل على أنه سبحانه مبصر للمبصرات، راء للمرئيات، مطلع على ماهياتها، عليم بعوارضها وذاتياتها. ثم قال وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ وليس المراد باللطافة ضد الكثافة وهو رقة القوام فإن ذلك من صفات الأجسام، بل المراد لطف صنعه في تركيب أبدان الحيوانات من الأجزاء الدقيقة والأغشية الرقيقة والمنافذ الضيقة التي لا يعلمها إلا مبدعها. أو المراد أنه لطيف في الإنعام والرحمة لا يأمرهم فوق طاقتهم وينعم عليهم فوق استحقاقهم. أو الغرض أنه يثني عليهم بالطاعة ولا يقطع موادّ إحسانه عنهم بالمعصية. أو المراد أنه يلطف عن أن يدركه الأبصار الخبير بكل لطيف ولا يلطف شيء عن إدراكه، ثم عاد إلى تقرير أمر الدعوة والرسالة فقال قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ أي موجباتها والبصيرة للقلب بمنزلة البصر للعين. فَمَنْ أَبْصَرَ الحق وآمن فَلِنَفْسِهِ أبصر
__________
(1) رواه البخاري في كتاب المواقيت باب 16، 26. كتاب تفسير سورة 50 باب 2. كتاب الرقاق باب 52. أبو داود في كتاب السنة باب 19. الترمذي في كتاب الجنة باب 16. أحمد في مسنده (3/ 16، 17، 27) .(3/139)
وإياها نفع. وَمَنْ عَمِيَ عنه فعلى نفسه عمي وإياها ضر. قالت المعتزلة: فيه تصريح بأن العبد يتمكن من الأمرين: الفعل والترك. وعورض بالعلم والداعي وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظ أعمالكم وأجازيكم عليها، إنما أنا منذر والله هو الحفيظ عليكم. ثم حكى شبه المنكرين بقوله وَكَذلِكَ أي مثل ذلك التقرير البليغ نُصَرِّفُ الْآياتِ نأتي بها متواترة حالا بعد حال وَلِيَقُولُوا عطف على محذوف أي لتلزمهم الحجة وليقولوا أو متعلق بما بعده أي وليقولوا درست نصرفها. ومعنى دَرَسْتَ قرأت وتعلمت من الدرس، ومن قرأ دارست أي قرأت على اليهود وقرؤا عليك وجرت بينك وبينهم مدارسة ومذاكرة. وأما قراءة ابن عامر دَرَسْتَ فهي من الدروس بمعنى أن هذه الآيات قد درست وعفت أي هذه الأخبار التي تلوتها علينا من جملة أساطير القرون الخالية، قالت العلماء:
التركيب يدل على التذليل والتليين لأن من درس الكتاب فقد ذلله بكثرة القراءة، ومنه قيل للثوب الخلق «دريس» ، لأنه قد لان فكأنه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله صرف الآيات وهو أمران: أحدهما قوله وليقولوا دارست والثاني قوله وَلِنُبَيِّنَهُ أما الثاني فلا إشكال فيه لأنه بيّن أن الحكمة في هذا التصريف أن يظهر منه البيان والعلم والضمير في لِنُبَيِّنَهُ للآيات لأنها في معنى القرآن، أو يعود إلى القرآن وإن لم يجر له ذكر للعلم به، أو إلى التبيين الذي هو مصدر الفعل نحو: ضربته زيدا أي ضربت الضرب زيدا. وأما الأول فقد أورد عليه أن قولهم للرسول دارست كفر منهم بالقرآن والرسول، وعلى هذا فتعود مسألة الجبر والقدر، أما الأشاعرة فأجروا الكلام على ظاهره وقالوا: معناه أنا ذكرنا هذه الدلائل حالا بعد حال ليقول بعضهم دارست فيزدادوا كفرا على كفر، ونبينه لبعض فيزدادوا إيمانا على إيمان كقوله يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة: 26] وأما المعتزلة فقال الجبائي منهم والقاضي: إن هذا الإثبات محمول على النفي والتقدير: نصرف الآيات لئلا يقولوا كقوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] أي لئلا تضلوا. أو المراد لام العاقبة، وزيف بأن حمل الإثبات على النفي تحريف لكلام الله وفتح هذا الباب يخرج الكتاب عن أن يكون حجة. وأيضا إنه مناف للمقصود لأن إنزال الآيات نجما فنجما هو الذي أوقع الشبهة للقوم في أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما أتى بالقرآن على سبيل المدارسة والمذاكرة مع أقوام آخرين، ولهذا كانوا يقولون لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة. فالجواب الذي ذكره إنما يصح لو كان التصريف علة لأن يمتنعوا من هذا القول لكنه موجب له فسقط كلامهم، وأيضا حمل اللام على لام العاقبة مجاز، وحمل الكلام على الحقيقة أولى.
ثم إنه لما حكى عن الكفار أنهم نسبوه في شأن القرآن إلى الافتراء وإلى أنه دارس(3/140)
أقواما واستفاد هذه العلوم منهم ثم نظمها قرآنا وادّعى أنه نزل عليه من الله أتبعه قوله اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لئلا يصير ذلك القول سببا لفتوره في تبليغ الدعوة والرسالة والمقصود تقوية قلبه وإزالة الحزن الذي يعتريه بسماع تلك الشبهة، ونبه بالجملة المعترضة أو الحال المؤكدة وهي قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ على أنه سبحانه لما كان واحدا في الإلهية فإنه يجب طاعته ولا يجوز الإعراض عن تكاليفه بسبب جهل الجاهلين وزيغ الزائغين. ثم ختم الآية بقوله وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ وحمله بعضهم على أنها منسوخة بآية القتال. وضعف بأن المراد واترك مقابلتهم فيما يأتونه من سفه، وأن يعدل صلوات الله عليه إلى الطريق الذي يكون أقرب إلى القبول وأبعد عن التنفير والتغيظ. وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا مذهب الأشاعرة فيه ظاهر. وحمله المعتزلة على مشيئة الإلجاء والقسر. وأجيب بعد المعارضة بالعلم والداعي بأن الإيمان الاختياري هب أنه أنفع وأفضل من الإيمان القهري إلا أنه تعالى لما علم أن ذلك لا يقع ولا يحصل فقد كان يجب في حكمته أن يخلق الله فيه الإيمان القهري كي يخلص من العقاب، وإن لم يجب له الثواب كما أن الأب المشفق إذا علم أن ابنه لا يحسن الغوص يقول له: اترك الغوص في البحر ولا تطلب اللآلئ فإنك لا تجدها واكتف بالرزق القليل مع السلامة، فأما أن يأمره بالغوص في البحر مع اليقين التام بأنه لا يستفيد منه إلا الهلاك فإن ذلك من الرحمة والشفقة بمعزل. ثم ختم الكلام بما يكمل به بصيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وآله، وذلك أنه بيّن له قدر ما جعل إليه فذكر أنه ما جعله حفيظا ولا وكيلا عليهم وإنما فوض إليه الإبلاغ والإنذار. ثم إنهم لما نسبوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنه جمع القرآن بطريق المداومة وكان لا يبعد أن يغضب له المسلمون لسبب ذلك فيسبوا آلهتهم نهى الله تعالى عن ذلك فقال وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وذلك أن المسلمين إذا شتموا آلهتهم فربما غضبوا وذكروا الله بما لا ينبغي من القول. وفيه تنبيه على أن خصمك إذا شافهك بجهل وسفاهة لم يجز لك أن تقدم على مشافهته بما يجري مجرى كلامه فإن ذلك يوجب فتح باب المشاتمة والمسافهة وإنه لا يليق بالعقلاء. قال ابن عباس: لما نزل إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء: 98] قال المشركون: لئن لم تنته عن سب آلهتنا وعيبها لنهجونّ إلهك فنزلت.
وقال السدي: لما حضر أبا طالب الوفاة قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فلنأمرنه أن ينهي عنا ابن أخيه فإنا نستحي أن نقتله بعد موته فتقول العرب كان يمنعه فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان وأبو جهل والنضر بن الحرث وأمية وأبي ابنا خلف وعقبة ابن أبي معيط وعمرو بن العاص والأسود بن البختري إلى أبي طالب فقالوا: أنت كبيرنا(3/141)
وسيدنا، وأن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه. فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وآله فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك وبنو عمك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا وآلهتنا وندعك وإلهك. فقال أبو طالب:
قد أنصفك قومك وبنو عمك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيّ كلمة إن تكلمتم بها ملكتم العرب ودانت لكم بها العجم؟ قال أبو جهل: نعم وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها فما هي؟ قال: قولوا لا إله إلا الله فأبوا واشمأزوا فقال أبو طالب:
قل غيرها يا ابن أخي فإن قومك قد فزعوا منها. فقال: يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها، ولو أتوني بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها. فقالوا: لتكفن عن شتمك آلهتنا أو لنشتمنك ولنشتمن من يأمرك فأنزل الله تعالى هذه الآية.
قالت العلماء: إن القوم كانوا مقرين بوجود الإله تعالى فكيف يتصور إقدامهم على شتم الله؟ وأجيب بأنه ربما كان بعضهم قائلا بالدهر ونفي الصانع فما كان يبالي هذا النوع من السفاهة، أو لعل مرادهم شتم الرسول صلى الله عليه وسلم وآله فأجرى الله تعالى شتمه مجرى شتم الله كما في قوله إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] أو لعلهم من جهالتهم اعتقدوا أن الشيطان يحمله على ادعاء الرسالة ثم إنهم سموا ذلك الشيطان بأنه إله محمد صلى الله عليه وسلم وآله. وهاهنا سؤال وهو أن شتم الأصنام من أصول الطاعات فكيف يحسن من الله تعالى أن ينهى عنه؟ والجواب أن هذا الشتم وإن كان طاعة إلا أنه إذا وقع على وجه يستلزم منكرا وجب الاحتراز عنه، لأن هذا الشتم كان يستلزم إقدامهم على شتم الله سبحانه وشتم رسول وفتح باب السفاهة ويقتضي تنفيرهم عن قبول الدين وإدخال الغيظ والغضب في قلوبهم. وفيه أن الأمر بالمعروف قد يقبح إذا أدى إلى ارتكاب منكر، والنهي عن المنكر يقبح إذا أدى إلى زيادة منكر وغلبة الظن قائمة مقام اليقين في هذا الباب. وفيه تأديب لمن يدعو إلى الدين كيلا يتشاغل بما لا يفيد في المطلوب، فإن وصف الأوثان بأنها جمادات لا تنفع ولا تضر يكفي في القدح في إلهيتها فلا حاجة مع ذلك إلى شتمها، يقال: عدا فلان عدوا وعدوانا وعداء إذا ظلم ظلما يتجاوز القدر. قال الزجاج عَدْواً منصوب على المصدر لأن المعنى فيعدو عدوا وقرىء عَدْواً بفتح العين والتشديد أي في حال كونهم أعداء. ومعنى بِغَيْرِ عِلْمٍ على جهالة بالله وبما يجب أن يذكر به وكَذلِكَ أي مثل ذلك التزيين زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ قالت الأشاعرة: فيه دلالة على أنه تعالى هو الذي زين للكافر الكفر وللمؤمن الإيمان وللعاصي المعصية، وزيفه الكعبي بقوله تعالى وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل: 24] [العنكبوت: 38] وبقوله وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ [البقرة: 257] فإذا المراد أنه تعالى زين لهم ما(3/142)
لهم أن يعملوا وهم لا يفقهون، أو المراد زينا لكل أمة من أمم الكفار عملهم أي خليناهم وشأنهم وأمهلناهم حتى حسن عندهم سوء عملهم، أو أمهلنا الشيطان حتى زين لهم أو زينا في زعمهم وقولهم إن الله أمرنا بهذا وزينه لنا، وضعف بعد المعارضة بالعلم وخلق الداعي بأن قوله تعالى كَذلِكَ زَيَّنَّا بعد قوله فَيَسُبُّوا اللَّهَ مشعر بأن إقدامهم على ذلك المنكر إنما كان بتزيين الله تعالى. وأيضا الإنسان لا يختار الكفر والجهل ابتداء مع العلم بكونه كفرا وجهلا والعلم بذلك ضروري، بل إنما يختاره لأنه اعتقد كونه إيمانا وعلما وحقا وصدقا، ولولا سابقة الجهل الأول لما اختار الجهل الثاني ولا تذهب الجهالات إلى غير النهاية، فلا بد أن ينتهي إلى جهل أول يخلقه الله تعالى فيه وهو بسبب ذلك الجهل ظن الكفر إيمانا والجهل علما. قال: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ والغرض حكاية شبهة أخرى لهم وهي أن هذا القرآن كيفما كان أمره فليس من جنس المعجزات البتة، ولو أنك يا محمد جئتنا بمعجزة باهرة وبينة قاهرة لآمنا بك وأكدوا هذا المعنى بالأيمان والأقسام. قال الواحدي:
إنما سمى اليمين بالقسم لأن اليمين موضوعة لتوكيد الخبر وكانت الحاجة إلى ذكر الحلف عند انقسام الناس وقت سماع الخبر إلى مصدق ومكذب، فمعنى الأقسام إزالة القسمة وجعل الناس كلهم مصدقين بواسطة الحلف واليمين.
عن محمد بن كعب قال: كلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله قريش فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كانت معه عصا فضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن صالحا كانت له ناقة، فأتنا ببعض تلك الآيات حتى نصدقك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا. قال: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال: إن شئت أصبح الصفا ذهبا ولكن لم أرسل بآية فلم يصدق بها إلا أنزلت العذاب، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتركهم حتى يتوب تائبهم وأنزل الله الآيات إلى قوله وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ
قال الكلبي ومقاتل: إذا حلف الرجل بالله فهو جهد يمينه. وقال الزجاج: معناه بالغوا في الأيمان. والمراد بقوله لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ ما روينا من جعل الصفا ذهبا. وقيل: هي الأشياء المذكورة في قوله وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا [الإسراء: 90] الآيات. وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم وآله يخبرهم بأن عذاب الاستئصال كان ينزل بالأمم المتقدمين المكذبين فالمشركون طلبوا مثلها. قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ أي هو مختص بالقدرة على أمثال هذه الآيات لأن المعجزات لا تحصل إلا بتخليق الله تعالى، أو المراد بالعندية هو العلم بأن إحداث هذه المعجزات هل يقتضي(3/143)
إيمانهم أم لا كقوله وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [الأنعام: 59] أو المراد أنها وإن كانت معدومة في الحال إلا أنه تعالى متى شاء أحدثها وليس لكم أن تتحكموا في طلبها كقوله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ [الحجر: 21] وَما يُشْعِرُكُمْ ما استفهام والجملة خبره، ثم من قرأ أَنَّها بكسر الهمزة على الابتداء- وهي القراءة الجيدة- فالتقدير وما يشعركم ما يكون منهم ثم ابتدأ فقال أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ وأما قراءة الفتح فقال سيبويه: سألت الخليل عن ذلك فقال: لا تحسن لأنها تصير عذرا للكفار، لأن معنى قول القائل: ما يدريك أنه لا يفعل هو أنه يفعل. فمعنى الآية أنها إذا جاءت آمنوا وذلك يوجب مجيء هذه الآيات ويصير هذا الكلام عذرا لهم في طلبها، لكن القراءة لما كانت متواترة فلا جرم ذكر العلماء فيه وجوها: قال الخليل: «أن» بمعنى «لعل» تقول العرب: ائت السوق أنك تشتري لنا شيأ أي لعلك. ويقوي هذا الوجه قراءة أبي لعلها إذا جاءت لا يؤمنون وثانيها «أن» تجعل «لا» صلة كما في قوله ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: 12] وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء: 95] وثالثها أن المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها فقال الله: وما يدريكم أيها المؤمنون أنهم لا يؤمنون على معنى أنكم لا تدرون ما سبق به على من أنهم لا يؤمنون. وأما من قرأ لا تُؤْمِنُونَ بتاء الخطاب فالمراد وما يشعركم أيها الكفار. قال القاضي والجبائي: في الآية دلالة على أنه تعالى يجب أن يفعل كل ما في مقدوره من الألطاف إذ لو كان في المعلوم لطف يؤمنون عنده، ثم إنه لا يفعل ذلك لم يكن لتعليل ترك الإجابة بأنهم لا يؤمنون وجه. وأيضا لو كان الإيمان بخلق الله تعالى ولم يكن لفعل الألطاف أثر في حمل المكلف على الطاعات لم يكن لإظهار تلك المعجزات أثر. وأجيب بأن تأثير المعجزات عندهم مبني على وجوب اللطف، فلو أثبت اللطف به لزم الدور، وبأن الآية التي بعد هذه وهي قوله وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ تدل على أن الكفر والإيمان بقضاء الله وقدره. ومعنى تقليب الأفئدة والأبصار هو أنهم إذا جاءتهم الآيات القاهرة التي اقترحوها عرفوا كيفية دلالتها على صدق الرسول إلا أنه تعالى إذا قلب قلوبهم وأبصارهم عن ذلك الوجه الصحيح بقوا على الكفر ولم ينتفعوا بتلك الآيات. والتقليب تحريك الشيء عن وجهه،
وكان صلى الله عليه وسلم وآله يقول «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك» «1»
والمراد أنه تعالى يقلب القلوب تارة من داعي الخير إلى داعي الشر وبالعكس. وإنما قدم ذكر تقليب الأفئدة على تقليب الأبصار، لأن موضع الدواعي والصوارف هو القلب فإذا حصلت الداعية في القلب انصرف البصر عنه، والحاصل
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب القدر باب 7. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب 2. أحمد في مسنده (4/ 182) ، (6/ 91) .(3/144)
أن السمع والبصر آلتان للقلب فلهذا السبب وقع الابتداء بتقليب القلب. قال الجبائي:
المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم في جهنم على لهب النار وحرها لتعذيبهم. وزيف بأن قوله وَنَذَرُهُمْ إنما يحصل في الدنيا وهذا يستلزم سوء النظم. وقال الكعبي: المراد ونقلب أفئدتهم وأبصارهم بأنا لا نفعل بهم ما نفعل بالمؤمنين من الفوائد والألطاف حيث أخرجوا أنفسهم عن هذا الحد بسبب كفرهم. وضعف بأنه إنما استحق الحرمان من تلك الألطاف والفوائد بسبب إقدامه على الكفر وهو الذي أوقع نفسه في ذلك الحرمان فكيف يحسن إضافته إلى الله تعالى في قوله وَنُقَلِّبُ وقال القاضي: القلب باق على حالة واحدة إلا أنه تعالى أدخل التقليب والتبديل في الدلائل. واعترض بأن تقليب القلب نقله من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة. أما قوله كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فقال الواحدي: فيه حذف والتقدير ولا يؤمنون بهذه الآيات كما لم يؤمنوا بظهور الآيات أول مرة يعني أول مرة أتتهم الآيات مثل انشقاق القمر وغيره. والكناية في بِهِ إما عائدة إلى القرآن، أو إلى محمد صلى الله عليه وسلم وآله، أو إلى ما طلبوا من الآيات وقيل: الكاف للجزاء أي كما لم يؤمنوا أول مرة فكذلك نقلب أفئدتهم وأبصارهم عقوبة لهم. قال الجبائي: وَنَذَرُهُمْ أي لا نحول بينهم وبين اختيارهم ولا نمنعهم بمعاجلة الهلاك وغيره لكنا نمهلهم، فإن أقاموا على طغيانهم فذلك من قبلهم وأنه يوجب تأكيد الحجة عليهم. وقالت الأشاعرة: نقلب أفئدتهم من الحق إلى الباطل ونتركهم في ذلك الطغيان والضلال والعمى.
التأويل:
قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ دلالات السعادات الباقية، فمن أبصرها بنظر البصيرة فاشتغل بتحصيلها وأقبل على الله لسلوك سبيلها فذلك تحصيل لنفسه فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ وَمَنْ عَمِيَ فبالعكس. وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ لا تخاطبوا أهل الضلال على مواجب نوازع النفس والطبيعة فيحملهم ذلك على ترك الإجلال وإظهار الضلال، بل خاطبوهم بلسان الحجة والتزام الحجة ونفي الشبهة. وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ حسبوا أن البرهان يوجب الإيمان ولم يعلموا أنهم مقهورون تحت حكم السلطان، وما يغني وضوح الأدلة لمن لم تدركه سوابق الرحمة وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ عن الآخرة إلى الدنيا وَأَبْصارَهُمْ عن شواهد المولى إلى مشاهدة النفس والهوى كأنهم لم يؤمنوا يوم الميثاق إذ قلت ألست بربكم؟ قالوا بلى.
تم الجزء السابع ويليه الجزء الثامن وأوله وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ(3/145)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
بسم الله الرحمن الجزء الثامن من أجزاء القرآن الكريم
[سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 121]
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
القراآت:
قُبُلًا بكسر القاف وفتح الباء: أبو جعفر ونافع وابن عامر. الباقون:
بضمتين. مُنَزَّلٌ بالتشديد: ابن عامر وحفص والمفضل. كَلِمَةُ رَبِّكَ عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب. الباقون كلمات مَنْ يَضِلُّ من الإضلال: الأصبهاني عن نصير، فصل على البناء للفاعل وحَرَّمَ على البناء للمفعول: حمزة وخلف وعاصم غير حفص والمفضل، وقرأ أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وحفص جميعا بالفتح، الباقون: على البناء للمفعول فيهما لَيُضِلُّونَ بضم الياء: عاصم وحمزة وعلي وخلف، الباقون: بالفتح.
الوقوف:
يَجْهَلُونَ هـ غُرُوراً ط يَفْتَرُونَ هـ مُفَصَّلًا ط الْمُمْتَرِينَ هـ(3/146)
وَعَدْلًا ط لِكَلِماتِهِ ج لابتداء الضمير المنفصل مع احتمال الواو الحال أي لا تبديل لكلماته وهو يسمع ويعلم، الْعَلِيمُ هـ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ط يَخْرُصُونَ هـ عَنْ سَبِيلِهِ ج بِالْمُهْتَدِينَ هـ مُؤْمِنِينَ هـ إِلَيْهِ ط بِغَيْرِ عِلْمٍ ط بِالْمُعْتَدِينَ هـ وَباطِنَهُ ط يَقْتَرِفُونَ هـ لَفِسْقٌ ط لِيُجادِلُوكُمْ ج لَمُشْرِكُونَ هـ.
التفسير:
هذا شروع في تفصيل ما أجمله قوله أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ [الأنعام:
109] وكان المستهزءون بالقرآن خمسة: الوليد بن المغيرة المخزومي والعاصي بن وائل السهمي والأسود بن عبد يغوث الزهري والأسود بن المطلب والحرث بن حنظلة، أتوا الرسول صلى الله عليه وآله في رهط من أهل مكة فقالوا: أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم أحق ما تقول أم باطل، أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا أي كفيلا على ما تدعيه، فنفى الله تعالى عنهم الإيمان وإن أوتوا هذه المقترحات. قال أبو زيد: يقال لقيت فلانا قبلا وقبلا ومقابلة كلها بمعنى واحد وهو المواجهة رواه الواحدي، وقال أبو عبيدة والفراء والزجاج: قبلا بكسر القاف معناه معاينة.
روي عن أبي ذر قال: قلت للنبي صلى الله عليه وآله: أكان آدم نبيا؟ قال: نعم، كان نبيا كلمه الله تعالى قبلا،
وأما قبلا بضمتين فقيل: إنه جمع قبيل ومعناه الجماعة تكون من الثلاثة فصاعدا من قوم شتى مثل الروم والزنج والعرب ولهذا قال الأخفش في تفسيره أي قبيلا قبيلا. أو معناه الكفيل والعريف من قبل به يقبل قبالة، والمعنى لو حشرنا عليهم كل شيء فكفلوا بصحة ما يقول ما آمنوا، وموضع الإعجاز فيه أن الأشياء المحشورة منها ما ينطق ومنها ما لا ينطق، ومنها حي ومنها ميت، فإذا حشرها الله تعالى على اختلاف طبائعها مجتمعة في موقف واحد ثم أنطقها وأطبقوا على قبول هذه الكفالة كان ذلك من أعظم المعجزات، أما قوله تعالى: ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إيمانهم، فقد قالت الأشاعرة: فلما لم يؤمنوا دل على أنه تعالى ما شاء إيمانهم، وقالت المعتزلة: لو لم يرد منهم الإيمان لما وجب عليهم الإيمان كما لو لم يأمرهم به لم يجب، ولو أراد الكفر من الكافر لكان الكافر في كفره مطيعا لله لأنه لا معنى للطاعة إلا فعل المراد، ولو جاز من الله تعالى أن يريد الكفر لجاز أن يأمر به، ولجاز أن يأمرنا بأن نريد الكفر. فالمراد من الآية أنه شاء من الكل الإيمان الاختياري وما شاء الإيمان القهري. والمعنى: ما كانوا ليؤمنوا إيمانا اختياريا إلا أن يشاء الله مشيئة إكراه واضطرار فحينئذ يؤمنون، وزيف بأن الاختيار لا بد معه من حصول داعية يترجح بها أحد طرفي الممكن، ولا تحصل تلك الداعية إلا بتخليق الله تعالى فكأنه لا اختيار. قال الجبائي: قوله: إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ يدل على حدوث المشيئة إذ لو كانت قديمة وهي الشرط لزم من حصولها حصول المشروط. وأجيب بأنها قديمة إلا أن(3/147)
تعلقها بأحداث المحدث في الحال إضافة حادثة. ثم ختم الآية بقوله: وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ قالت الأشاعرة: أي لا يعلمون أن الكل بقضاء الله وبقدره. وقالت المعتزلة:
إنهم لا يدرون أنهم يبقون كفارا عند ظهور الآية التي طلبوها والمعجزات التي اقترحوها فيقسمون بالله جهد أيمانهم على ما لا يشعرون من حال قلوبهم، أو ولكن أكثر المسلمين يجهلون أن هؤلاء لا يؤمنون إلا أن يضطرهم فيطمعون في إيمانهم الاختياري بمجيء الآيات المقترحات.
ثم قال: وَكَذلِكَ قيل: إنه منسوق على قوله: كَذلِكَ زَيَّنَّا [الأنعام: 108] أي وكما زينا لكل أمة عملهم جَعَلْنا وقيل: إن المشار إليه محذوف أي وكما خلينا بينك وبين أعدائك كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء وأعدائهم، لم نمنعهم من العداوة لما فيه من الامتحان الذي هو سبب ظهور الثبات والصبر وكثرة الثواب والأجر. قالت الأشاعرة:
لا شك أن تلك العداوة معصية وكفر، وأن جعلها شرفا لآية تدل على أن خالق الخير والشر والطاعة والمعصية والإيمان والكفر هو الله. قال الجبائي: المراد بهذا الجعل أنه حكم وبين فإن الرجل إذا حكم بكفر إنسان قيل إنه كفره، وإذا أخبر عن عدالته قيل عدله. وقال الكعبي: إنه أمر الأنبياء بعداوتهم وأعلمهم بكونهم أعداء لهم فاقتضى ذلك أنهم صاروا أعداء للأنبياء. لأن العداوة تكون من الجانبين. أجاب أبو بكر الأصم بأنه لما أرسل محمدا إلى العالمين وخصه بتلك المعجزات صار ذلك التخصيص سببا للحسد والعداوة أو للبغضاء فهذا هو المراد بجعلهم أعداء له. وزيف بأن الأفعال مستندة إلى الدواعي وهي من الله تعالى، وبأن العداوة والمحبة متعلقة بالطبع لا بالإرادة والتكلف فلا يقدر عليها إلا الله تعالى. وانتصاب ال شَياطِينَ كما مر في قوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ [الأنعام:
100] قال الزجاج وابن الأنباري: عَدْواً في معنى الجمع، ولقائل أن يقول: لا حاجة إلى هذا التكلف لصحة قولنا: وكذلك جعلنا لكل واحد من الأنبياء عدوّا واحدا. إذ ليس يجب أن يحصل لكل واحد من الأنبياء أكثر من عدو واحد. عن ابن عباس: كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان. وقال مجاهد وقتادة والحسن: إن من الجن شياطين ومن الإنس شياطين، وإن شيطان الجن إذا أعياه المؤمن ذهب إلى متمرد من الإنس وهو شيطان الإنس فأغراه بالمؤمن ليعينه عليه.
روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال لأبي ذر: هل تعوّذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ قال: قلت: وهل للإنس من شياطين؟ قال:
نعم، هم شر من شياطين الجن.
وقيل: إن الجميع من ولد إبليس إلا أن الذي يوسوس للإنس يسمى شيطان الإنس، والذي يوسوس للجن يسمى شيطان الجن. وزيف بأن المقصود من الآية الشكاية من سفاهة الكفار الذين هم الأعداء وهم الشياطين. وعن(3/148)
مالك بن دينار أن شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجن لأني إذا تعوّذت بالله ذهب شيطان الجن عني وشيطان الإنس يجيئني فيجرني إلى المعاصي عيانا. ومعنى الإيحاء الإيماء أو القول السريع أي يوسوس شياطين الجن إلى شياطين الإنس، وكذلك بعض الجن إلى بعض، وبعض الإنس إلى بعض، وكأنه لا يتصوّر وسوسة الإنس إلى الجن إلا على تقدير القول بالتسخير. وزُخْرُفَ الْقَوْلِ ما يزينه من القول والوسوسة والإغراء على المعاصي، والتحقيق فيه أن الإنسان ما لم يعتقد في أمر من الأمور خيرية أو نفعا لم يرغب فيه. ثم إن كان هذا الاعتقاد مطابقا للواقع فهو الحق والصدق والإلهام وكان صادرا من الملك وإلا كان مزخرفا أي يكون باطنه فاسدا وظاهره مزينا، قال الواحدي: غُرُوراً نصب على المصدر لأن إيحاء الزخرف من القول في معنى الغرور. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ استدلال الأشاعرة به ظاهر والمعتزلة يحملونه على مشيئة الإلجاء. فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ منصوب على أنه مفعول معه أو مفعول به أي وافتراءهم أو ما يفترونه. قال ابن عباس: يريد ما زين لهم إبليس وغرهم به، وفيه تحذير من الكفر وترغيب في الإيمان وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وتنبيه له على ما أعد للكفرة من العقاب وله من الثواب بسبب صبره على سفاهتهم وتلطفه بهم. الصغو في اللغة الميل. يقال في المستمع إنه مصغ إذا مال بحاسته إلى ناحية الصوت. وأصغى الإناء إذا أماله حتى انصب بعضه في بعض. ويقال للقمر إذا مال إلى الغروب صغا وأصغى. قال الجوهري: صغا يصغو ويصغي صغوا أي مال، وكذلك صغى بالكسر يصغي بالفتح صغى وصغيا، واللام في وَلِتَصْغى لا بد لها من متعلق فقالت الأشاعرة: التقدير وإنما جعلنا مثل ذلك الشخص عدوّا للنبي لتميل إِلَيْهِ أو إلى قوله المزخرف أَفْئِدَةُ الكفار فيبعدوا بذلك السبب عن قبول دعوة النبي وَلِيَرْضَوْهُ وليختاروه على أنفسهم وَلِيَقْتَرِفُوا وليكتسبوا من الآثام ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ وقال الجبائي: إن هذا الكلام خرج مخرج الأمر ومعناه الزجر كقوله: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء: 14] . وزيف بأن حمل لام كي على لام الأمر تحريف. وقال الكعبي: هي لام العاقبة تقديره: ولتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء ووسوسة الشياطين أفئدة الكفار جعلنا لكل نبي عدوا. وعن أبي مسلم أنها معطوفة على موضع غُرُوراً والتقدير: يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليغتروا بذلك ولتميل قلوب الكفار إلى المذاهب الباطلة. وأورد عليه أن ميل القلوب إلى الآراء الفاسدة هو عين الاغترار فيلزم عطف الشيء على نفسه. وهاهنا بحث وهو أن الأشاعرة قالوا: البنية ليست شرطا للحياة، فالحي هو الجزء الذي قامت الحياة به، والعالم هو الجزء الذي قام العلم به. وقالت المعتزلة: الحي والعالم هو الجملة لا ذلك الجزء. حجة الأشاعرة أنه جعل الموصوف(3/149)
بالميل والرغبة في الآية هو القلب لا جملة الحي، وبمثله استدل من جعل المتعلق الأول للنفس هو القلب لا مجموع البدن. ثم إنه سبحانه لما ذكر أنه لا فائدة لهم في إظهار الآيات التي اقترحوها بين بقوله: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً الآية أن الدليل الدال على نبوته قد حصل وكمل والزائد على ذلك لا يجب الالتفات إليه، وإنما قلنا إن الدليل الدال على نبوته قد حصل لوجهين: الأول: أن الله تعالى قد حكم بنبوته من حيث إنه أنزل عليه الكتاب المبين المشتمل على العلوم الكثيرة والفصاحة الكاملة وقد عجز الخلق عن معارضته وأشار إلى هذا الوجه بقوله: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً يعني قل يا محمد إنكم تتحكمون في طلب سائر المعجزات، فهل يجوز في العقل أن يطلب غير الله حكما فإن كل أحد يقول إن ذلك غير جائز. الوجه الثاني: اشتمال التوراة والإنجيل على أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله حقا، وعلى أن القرآن كتاب حق من عند الله وأشار إليه بقوله: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ ثم قال: فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ والخطاب لكل أحد أي إذا ظهرت الدلائل فلا ينبغي
أن يمتري فيه أحد. وقيل: الخطاب للرسول في الظاهر والمراد به الأمة. وقيل: الخطاب للرسول في الحقيقة والمراد التهييج والإلهاب كقوله:
وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 14] والمراد فلا تكونن من الممترين في أن أهل الكتاب يعلمون أنه منزّل من ربك بالحق، ولا يريبك جحود أكثرهم. قال الواحدي: الحكم والحاكم واحد عند أهل اللغة. وقال بعض أهل التأويل: الحكم أكمل من الحاكم لأن الحاكم كل من يحكم والحكم هو الذي لا يحكم إلا بالحق.
ثم لما بين أن القرآن معجز قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي القرآن. وقوله: صِدْقاً وَعَدْلًا مصدران منتصبان على الحال من الكلمة، ومعنى تمامها أنها وافية كافية في كونها معجزة دالة على صدق محمد، أو كافية في بيان ما يحتاج المكلفون إليه إلى القيامة علما وعملا، أو المراد بالتمام أنها أزلية ولا يحدث بعد ذلك شيء. واعلم أن كل ما حصل في القرآن نوعان: الخبر والتكليف فالخبر كل ما أخبر الله تعالى عن وجوده أو عن عدمه كالخبر عن وجود ذاته وحصول صفاته أعني كونه تعالى قادرا سميعا بصيرا ويدخل فيه الخبر عن صفات التقديس والتنزيه كقوله تعالى: لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص: 3] لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255] ويدخل فيه الخبر عن أقسام أفعال الله تعالى وكيفية تدبيره لملكوته في السموات والأرض وفي عالم الأرواح والأجسام، ويدخل فيه الخبر عن أحكام الله تعالى في الوعد والوعيد والثواب والعقاب، ويدخل فيه الخبر عن أقسام أسماء الله تعالى والخبر عن النبوات وأقسام المعجزات، والخبر عن أحوال النشر والقيامة وصفات أهل الجنة والنار، والخبر عن أحوال المتقدمين والخبر عن المغيبات. وأما التكليف فيدخل فيه(3/150)
كل أمر ونهي توجه منه سبحانه على عبيده سواء كان ملكا أو بشرا أو شيطانا، وسواء كان ذلك في شرعنا أو في شرائع الأنبياء المتقدمين أو في مراسيم الملائكة المقربين الذين هم سكان السموات والجنة والنار والعرش وما وراءه مما لا يعلم أحوالهم إلا الله تعالى. فإذن المراد وتمت كلمات ربك صدقا إن كان من باب الخبر وعدلا إن كان من باب التكاليف وهذا ضبط حسن. وقيل: إن كل ما أخبر الله تعالى عنه من وعد ووعيد وثواب وعقاب فهو صدق لأنه لا بد أن يكون واقعا، وهو بعد وقوعه عدل لأن أفعاله منزهة عن أن تكون بصفة الظلم. ثم قال: لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ والمعنى أن هؤلاء الكفار يلقون الشبه في كون القرآن دالا على صدق محمد إلا أن تلك الشبهات لا تأثير لها في هذه الدلالة البتة لجلاء الدلالة ووضوحها. أو المراد أن كلماته تبقى موصوفة بصفتها مصونة عن التحريف والتغيير كما قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر: 9] أو الغرض أنها بريئة عن التناقض كما قال: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء: 82] أو المعنى أن أحكام الله تعالى لا تتغير ولا تتبدل لأنها أزلية والأزلي لا يزول، وهذا الوجه أحد الأصول القوية في إثبات الجبر إذ يلزم منه أن لا ينقلب السعيد شقيا وبالضد. ثم لما أجاب عن شبه الكفار بيّن أن عند ظهور الحجة وتبين المحجة لا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى كلمات الجهال فقال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ والمضل لا بد أن يكون ضالا ويعني بهم الذين ينازعون النبي في الدين غير قاطعين بصحة مذاهبهم كالزنادقة وعبدة الكواكب والأصنام، وكالذين يحرمون البحائر والسوائب والوصائل ويحللون الميتة فيحكمون على الحق بأنه باطل وعلى الباطل بأنه حق. ثم قال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يقدرون على أنهم على شيء أو يكذبون في أن الله أحل كذا وحرم كذا. وأصل الخرص حزر ما على النخل من الرطب تمرا. وليس لنفاة القياس تمسك بالآية من قبل توجه الذم على متبع الظن، لأن المذموم من اتباع الظن هو الذي لا يستند إلى أمارة كظن الكفار المستند إلى تقليد أسلافهم فقط، أما إذا كان الاعتقاد الراجح مستندا إلى أمارة فلم يتم أنه كذلك. ثم قال: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ والمراد أنك بعد ما عرفت أن الحق ما هو والباطل ما هو فلا تكن في قيدهم بل فوض أمرهم إلى خالقهم لأن الله تعالى عالم بأن المهتدي من هو والضال من هو فيجازي كل أحد بما يليق بعمله، أو المراد أن هؤلاء الكفار وإن أظهروا من أنفسهم ادعاء الجزم واليقين فهم كاذبون والله تعالى عالم بأحوال قلوبهم وبواطنهم، ومطلع على تحيرهم في أودية الجهالة وتيه الضلال، قال النحويون: إن أفعل التفضيل لا يعمل في مظهر، ففي الكلام محذوف أي يعلم من يضل عن سبيله، فإن لم يقدر محذوف قوي
بالباء كما في القلم(3/151)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [القلم: 7] وهذا هو الأصل، وإنما خص هذه السورة بالحذف موافقة لقوله: اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام:
124] وعدل إلى لفظ المستقبل تنبيها على قطع الإضافة لأن أكثر ما يستعمل «أفعل من» يستعمل مع الماضي نحو «أعلم من دب ودرج» و «أحسن من قام وقعد» و «أفضل من حج واعتمر» . فلو لم يعدل إلى لفظ المستقبل التبس بالإضافة تعالى الله عن ذلك. وجوّز بعضهم أن يكون «من» للاستفهام كقوله: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى [الكهف: 12] ثم قال: فَكُلُوا والفاء مسبب عن إنكار اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرّمون الحلال، وذلك أنهم كانوا يقولون للمسلمين: إنكم تزعمون أنكم تعبدون الله فما قتله الله أحق أن تأكلوا مما قتلتم أنتم. فقال الله سبحانه للمسلمين: إن كنتم محققين بالإيمان فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وهو المذكى ببسم الله. فإن قيل: إن القوم كانوا يبيحون ما ذبح على اسم الله تعالى ولا ينازعون فيه. وإنما النزاع في أكل الميتة فإنهم كانوا يبيحونها والمسلمون يحرمونها، فما الحكمة في إثبات الحكم في المتفق عليه وترك الحكم في المختلف فيه؟
فالجواب لعل القوم كانوا يحرمون أكل المذكاة ويبيحون أكل الميتة فرد الله تعالى عليهم في الأمرين بقوله: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وبقوله: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: 145] أو نقول: المراد اجعلوا أكلكم مقصورا على ما ذكر اسم الله عليه، وعلى هذا فيكون المراد تحريم الميتة فقط والله أعلم. أما قوله: وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ فأكثر المفسرين قالوا: المراد به ما فصل في أول المائدة من قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: 3] إلى آخر الآية، واعترض عليه بأن سورة الأنعام مكية والمائدة من آخر ما نزل بالمدينة، والآية تقتضي أن يكون المفصل مقدما على هذا المجمل بل الأولى أن يقال:
المراد قوله تعالى بعد هذه الآية: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الأنعام: 145] إلى آخرها. فإن هذا القدر من التأخر غير ضائر. وقوله: إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ أي دعتكم الضرورة إلى أكله بسبب شدّة المجاعة وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ المبالغة في قراءة ضم الياء أكثر لأن كل مضل فإنه يكون ضالا، وقد يكون الضال غير مضل، قيل: إنه عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أول من غير دين إسماعيل واتخذ البحائر والسوائب وأكل الميتة.
وقوله: بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ يريد أن عمرو بن لحي أقدم على هذه المذاهب عن الجهالة الصرفة، وقال الزجاج: المراد منه الذين يحللون الميتة ويناظرون في إحلالها، أو يحتجون عليها بقولهم إذ حل ما تذبحونه أنتم فلأن يحل ما يذبحه الله تعالى أولى، وكذلك كل ما يضلون فيه من عبادة الأوثان والطعن في نبوّة محمد صلى الله عليه وآله. وفي الآية دلالة على أن النزاع في الدين بمجرد التقليد حرام إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ فيجازيهم عليها(3/152)
وفيه من التهديد ما فيه.
ثم ذكر آية جامعة فقال: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ فقيل: ظاهره الزنا في الحوانيت وباطنه الصديقة في السر. قال الضحاك: كان أهل الجاهلية يرون الزنا حلالا ما كان سرا.
والأصح أن النهي عام إذ لا دليل على تخصيصه. ثم قيل: المراد ما أعلنتم وما أسررتم.
وقيل: ما عملتم وما نويتم. وقال ابن الأنباري: يريد وذروا الإثم من جميع جهاته كما تقول: ما أخذت من هذا المال قليلا ولا كثيرا أي ما أخذته بوجه من الوجوه. وقريب منه قول من قال: المراد النهي عن الإثم مع بيان أنه لا يخرج عن كونه إنما بسبب إخفائه وكتمانه. وقيل: المراد النهي عن الإقدام على الإثم. ثم قال: وَباطِنَهُ ليظهر بذلك أن الداعي له إلى ترك ذلك الإثم خوف الله لا خوف الناس. وقيل: ظاهر الإثم أفعال الجوارح، وباطنه أفعال القلوب من الكبر والحسد والعجب وإرادة الشر للمسلمين، ويدخل فيه الاعتقاد والعزم والنظر والظن والتمني والندم على أفعال الخيرات، ومنه يعلم أن ما يوجد في القلب قد يؤاخذ به وإن لم يقترن به عمل إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ أي يكتسبون من الآثام ومنه الاعتراف يمحو الاقتراف كما يقال: التوبة تمحو الحوبة. وظاهر النص يدل على أنه يعاقب المذنب البتة إلا أن المسلمين أجمعوا على أنه إذا تاب لم يعاقب. وأهل السنة على أنه إذا لم يتب احتمل العفو وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ نقل عن عطاء أنه قال: كل ما لم يذكر اسم الله تعالى عليه من طعام أو شراب فهو حرام تمسكا بعموم الآية. وأجمع سائر الفقهاء على تخصيص هذا العموم بالذبح، ثم اختلفوا فمالك: كل ذبح لم يذكر اسم الله تعالى عليه فهو حرام، ترك الذكر عمدا أو نسيانا وهو قول ابن سيرين وطائفة من المتكلمين. أبو حنيفة: إن ترك عمدا حرام وإن ترك نسيانا حل. الشافعي: متروك التسمية عمدا وسهوا حلال إذا كان الذابح مسلما لقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ والضمير عائد إلى الأكل الذي دل عليه الفعل أو إلى الموصول على أنه في نفسه فسق مثل «رجل عدل» أو على تقدير حذف المضاف أي وإن أكله لفسق. وقد أجمع المسلمون على أنه لا يفسق بأكل ذبيحة المسلم الذي ترك التسمية ولقوله تعالى: وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وهذه المناظرة كانت في مسألة الميتة
وذلك أن المشركين قالوا: يا محمد أخبرنا عن الشاة من قتلها إذا ماتت؟ قال: الله قتلها، قالوا:
فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك حلال، وما قتل الكلب والصقر حلال، وما قتله الله حرام؟ فأنزل الله الآية،
فالمراد من الشياطين هاهنا إبليس وجنوده وسوسوا إلى أوليائهم من المشركين ليخاصموا محمدا وأصحابه في أكل الميتة. وقال عكرمة: وإن الشياطين- يعني مردة المجوس- ليوحون إلى أوليائهم من مشركي قريش. وذلك أنه لما نزل تحريم الميتة(3/153)
سمعه المجوس من أهل فارس فكتبوا إلى قريش وكانت بينهم مكاتبة أن محمدا وأصحابه يزعمون أن ما يذبحونه حلال وأن ما يذبحه الله حرام، فوقع في أنفس ناس من المسلمين شيء فنزلت الآية. ثم قال: وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ يعني في استحلال الميتة إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ قال الزجاج: وفيه دليل على أن كل من أحل شيئا مما حرم الله تعالى أو حرم شيئا مما أحل الله فهو مشرك لأنه أثبت حاكما سوى الله تعالى. ثم قال الشافعي: الفسق في آية أخرى وهي، قوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً [الأنعام: 145] إلى قوله: أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ مفسر بما أهل به لغير الله فعلمنا أن الفسق في هذه الآية أيضا مفسر به نزلنا عن هذا المقام وهو التمسك بالمخصصات، فلم قلتم إنه لم يوجد ذكر الله هاهنا لما
روي أنه صلى الله عليه وآله قال: «ذكر الله مع المسلم سواء قال أو لم يقل»
فيحمل هذا الذكر على ذكر القلب. أو نقول: هب أن هذا الدليل يوجب الحرمة إلا أن معنا ما يدل على الحل، وإذا تعارض الحل والحرمة فالحل راجح لأن الأصل في الأشياء الإباحة وللعمومات الدالة على الحل كقوله: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] كُلُوا وَاشْرَبُوا [الطور: 19] ولأنه مستطاب وقد قال: أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: 4] ، ولأن الطبع يميل إليه وقد نهى عن إضاعة المال، هذا تقرير مذهب الشافعي ومع ذلك فالأولى بالمسلم أن يحترز عنه لقوة ظاهر النص. قال الكعبي: في الآية دلالة على أن الإيمان اسم لجميع الطاعات لأنه تعالى سمى مخالفته شركا. وأجيب بأنه لم لا يجوز أن يراد بالشرك هاهنا اعتقاد أن لله شريكا في الحكم.
التأويل:
وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى أي: قلوبهم الميتة وَحَشَرْنا أي أريناهم جميع الآيات المودعة في المكونات إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ فإن المشيئة تغير السجية والعناية الأزلية كفاية الأبدية وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ أن الهدى ليس بالمنى وأنه بمشيئة المولى، ثم أخبر أن البلايا للسائرين إلى الله هي المطايا فقال: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ هي النفس الأمارة التي هي أعدى الأعداء. وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هديناهم بنور الكتاب إلى حضرة الجلال فَلا تَكُونَنَّ نهى التكوين في الأزل وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ كلامه وقضاؤه في الأزل صِدْقاً فيما قال وَعَدْلًا فيما حكم بالوجود والعدم والسعادة والشقاوة والرد والقبول والخير والشر والحسن والقبح والإيمان والكفر، وأحسن شيء خلقه هو الإنسان لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [التين: 4] وكذلك شر شيء هو الإنسان عند فساد استعداده ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ [التين: 5] ولأهل الكمال نرق في كمال الحسن إلى الأبد، ولأهل النقصان تسفل في القبح إلى الأبد أيضا إظهارا للقدرة الكاملة غير المتناهية وَهُوَ السَّمِيعُ لحاجة كل ذي حاجة الْعَلِيمُ بما يستأهله كل موجود وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ(3/154)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
فِي الْأَرْضِ
وهم أهل الأهواء وأقلهم أهل الحق وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ في دعوى طلب الحق. فإن سبيل الحق لا يسلك بالهوى وإنما يسلك بالصدق والهدى. فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فمن أمارات الإيمان أن يأكلوا الطعام بحكم الشرع لا على وفق الطبع ويذيبوه بذكر الله كما
قال صلى الله عليه وآله «أذيبوا طعامكم بذكر الله»
فالأكل على الغفلة والنسيان والاستعانة به على العصيان يورث موت الجنان والحرمان من الجنان. وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ يا أهل الله ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ وهو الدنيا وما فيها والآخرة ونعيمها إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ من ضروريات البشر في الدارين بأمر المولى لا بالطبع والهوى إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ الذين جاوزوا المولى وركنوا إلى الدنيا والعقبى وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ يعني الأعمال الطبيعية وَباطِنَهُ يعني الأخلاق، الذميمة الردية سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ لأن الأخلاق الظلمانية توجب صدأ مرآة القلب وتزيدها رينا إلى أن يصير حجابا بين العبد وبين الله تعالى: ولا تأكلوا طعاما إلا بأمر الله وعلى ذكر الله وفي طلب الله ليندفع بنور الذكر ظلمة الطعام وشهوته، وَإِنَّهُ يعني ظلام الطعام يؤدي إلى الفسق الذي هو الخروج من النور الروحاني إلى الكلمة النّفسانية. وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ فإن للشيطان مجالا في الوسوسة إذا كانت النفوس في المجادلة مع القلوب لتدعوها إلى متابعة الهوى الله حسبي.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 130]
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124) فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126)
لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)(3/155)
القراآت:
مَيْتاً بالتشديد: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب رِسالَتَهُ بالنصب والتوحيد: ابن كثير وحفص والمفضل. الباقون: رِسالاتِهِ على الجمع وبالكسر في موضع النصب ضَيِّقاً وبابه بالتخفيف: ابن كثير حَرَجاً بكسر الراء: أبو جعفر ونافع وسهل وأبو بكر وحماد. الباقون: بالفتح يَصَّعَّدُ من الصعود: ابن كثير يصاعد من التصاعد بإدغام التاء في الصاد: أبو بكر وحماد. الباقون: يَصَّعَّدُ بالإدغام من التصعد.
يَحْشُرُهُمْ بياء الغيبة: حفص. الآخرون بالنون.
الوقوف:
بِخارِجٍ مِنْها ط يَعْمَلُونَ هـ فِيها ط وَما يَشْعُرُونَ هـ رُسُلُ اللَّهِ ط رِسالاتِهِ ط يَمْكُرُونَ هـ لِلْإِسْلامِ ج لابتداء شرط آخر مع العطف. فِي السَّماءِ ج لا يُؤْمِنُونَ هـ مُسْتَقِيماً ط يَذَّكَّرُونَ هـ يَعْمَلُونَ هـ جَمِيعاً ج للحذف أي يحشرهم ويقول لهم مع اتحاد المقصود مِنَ الْإِنْسِ الأول ج لتبدل القائل مع اتفاق الجملتين أَجَّلْتَ لَنا ط قال النار يغلظ الصوت على النار إشارة إلى أن النار مبتدأ بعد القول وليست فاعله شاءَ اللَّهُ ط عَلِيمٌ هـ يَكْسِبُونَ هـ وْمِكُمْ هذا
طافِرِينَ
هـ.
التفسير:
إنه سبحانه بعد أن ذكر أن المشركين يجادلون المؤمنين ضرب مثلا للفريقين فبيّن أن المؤمن المهتدي بمنزلة من كان ميتا فجعله الله حيا وأعطاه نورا يهتدي به في مصالحه، وأن الكافر بمنزلة من هو في الظلمات منغمس فيها لا خلاص له منها فيكون متحيرا على الدوام، وهل هما خاصان أو عامان فيه قولان: الأول
قال ابن عباس: يريد حمزة بن عبد المطلب وأبا جهل وذلك أن أبا جهل رمى رسول الله صلى الله عليه وآله بفرث وحمزة لم يؤمن بعد، فأخبر حمزة بما فعل أبو جهل وهو راجع من قنصه وبيده قوس، فأقبل غضبان حتى علا أبا جهل بالقوس وهو يتضرع إليه ويقول: يا أبا يعلى أما ترى ما جاء به سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا؟ فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله، أشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله فأنزلت الآية. وعن مقاتل: نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وأبي جهل وذلك أنه قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا منا نبي يوحى إليه. والله لا نؤمن به إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه فنزلت،
وعن عكرمة أنها نزلت في عمار بن ياسر وأبي جهل، وعن الضحاك هي في عمر بن الخطاب وأبي جهل. والقول الثاني أنها عامة في كل مؤمن(3/156)
وكافر لحصول المعنى في الكل. وإنما جعل الكفر موتا لأنه جهل والجهل يوجب الحيرة والوقفة فهو كالموت الذي يوجب السكون. وأيضا الميت لا يهتدي إلى شيء وكذلك الجاهل، والهدى علم وبصيرة وهما يوجبان الفوز بالمطالب كالحياة والنور، قال بعض العلماء: قوله: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً إشارة إلى أول مراتب النفس الإنسانية وهي الاستعداد المحض المسماة بالعقل الهيولاني عند الحكيم. وقوله: فَأَحْيَيْناهُ إشارة إلى ثانية مراتبها المسماة بالعقل بالملكة وهي أن يحصل لها العلوم الكلية الأولية. وقوله وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً إشارة إلى ثالثة المراتب وهي التي قد حصلت لها المعقولات المكتسبة ولكنها لا تكون حاضرة بالفعل بل تكون بحيث متى شاء صاحبها استرجاعها واستحضارها قدر عليه ولهذا يسمى عقلا بالفعل أي الفعل القريب، وقوله: يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ إشارة إلى رابعة المراتب وهي النهاية المسماة بالعقل المستفاد، وقد حصلت المعارف القدسية والجلايا الروحانية للنفس حاضرة بالفعل وصار جوهر الروح مشرقا بتلك المعارف مستضيئا بها.
ويمكن أن يقال: الحياة عبارة عن الاستعداد القائم بجوهر الروح، والنور عبارة عن اتصال نور الوحي والتنزيل فإنه لا بد في الإبصار من أمرين: سلامة الحاسة والنور الخارجي من الشمس والسراج، فكذلك البصيرة لا بد لها في الإدراك من سلامة حاسة العقل ومن طلوع نور الوحي فلهذا قال جمع من المفسرين: المراد بهذا النور القرآن، ومنهم من قال: نور الدين أو نور الحكمة. والأقوال متقاربة، وأما مثل الكافر فهو كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها وفيه أن ظلمات الجهل والأخلاق الذميمة صارت كالصفة اللازمة له لا تكاد تزول عنه فيبقى متحيرا خائفا فزعا نعوذ بالله من هذه الحالة. ومعنى المثل هاهنا الصفة الغريبة أي كمن صفته هذه والمراد كمن هو في الظلمات. ثم قال: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ والمزين هو الله بالتحقيق عند الأشاعرة. والشيطان بالحقيقة أو الله مجازا عند المعتزلة، والإضافة إلى الله بالحقيقة أو المجاز أولى بدليل قوله: وَكَذلِكَ جَعَلْنا أي وكما جعلنا في مكة صناديدها ليمكروا فيها كذلك جعلنا، أو وكما زينا للكافرين أعمالهم كذلك جعلنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ وهي جمع الأكبر ومُجْرِمِيها مضاف إليه والظرف مفعول ثان قدم ليعود الضمير إلى القرية. وقيل: التقدير جعلنا مجرميها أكابر. قال الزجاج: إنما جعل المجرمين أكابر لأنهم لأجل رياستهم أقدر على الغدر والمكر وترويج الأباطيل على الناس من غيرهم، ولأن كثرة المال وقوّة الجاه تحمل الناس على المبالغة في حفظهما وذلك لا يتم إلا باستعمال بعض الأخلاق الذميمة من المكر والغدر والكذب والغيبة والنميمة والشح والأيمان الكاذبة وكفى بهذه الأمور دليلا على خساسة المال والجاه. واللام في لِيَمْكُرُوا على أصله عند الأشاعرة، واستدلوا به على أن الشر بإرادة الله تعالى. وحمله(3/157)
المعتزلة على لام العاقبة مجازا كما حملوا الجعل في قوله: وَكَذلِكَ جَعَلْنا على التخلية والخذلان. ثم قال في معرض التهديد وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأن وباله يعود عليهم وَما يَشْعُرُونَ وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وآله وتقديم موعد بالنصرة، ثم إنه سبحانه حكى قول أبي جهل وأضرابه «زاحمنا بني عبد مناف في الشرف إلى آخره» وقول الوليد بن المغيرة «لو كانت النبوّة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا» فقال: وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ أي معجزة قاهرة أو وحي. قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ قال الضحاك: أراد كل واحد منهم ذلك كما في الآية الأخرى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر: 52] ويشبه أن يكون هذا الكلام الخبيث هو المراد بالمكر المذكور في الآية المتقدمة، وللمفسرين في مقترحهم قولان:
أحدهما- وهو الأشهر- أنهم أرادوا أن تحصل لهم النبوّة والرسالة كما حصلت للنبي صلى الله عليه وسلم وأن يكونوا متبوعين لا تابعين ومخدومين لا خادمين. وثانيهما عن ابن عباس والحسن أن المعنى وإذا جاءتهم آية من القرآن تأمرهم باتباع محمد صلى الله عليه وآله قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: 90] إلى قوله: حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [الإسراء: 93] من الله تعالى إلى أبي جهل وفلان وفلان فالقوم ما طلبوا النبوّة وإنما طلبوا آيات قاهرة ومعجزات ظاهرة مثل معجزات الأنبياء المتقدمين تدل على صحة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم. فقوله سبحانه في جوابهم على سبيل الاستئناف اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ على القول الأول ظاهر، وأما على القول الثاني فوجهه أن القوم إذا اقترحوا تلك الآيات فلو أظهر الله تعالى تلك المعجزات على وفق التماسهم لكانوا قد قربوا من منصب الرسالة. قال بعض العقلاء: الأرواح متساوية في تمام الماهية فحصول النبوّة والرسالة لبعضها دون بعض تشريف من الله تعالى وإحسان وتفضل. وقال آخرون: بل النفوس مختلفة بجواهرها وماهياتها فبعضها خيرة طاهرة من علائق الجسمانيات مشرقة بالأنوار الإلهية مستعلية منورة، وبعضها خبيثة كدرة محبة للجسمانيات، فالنفس ما لم تكن من القسم الأول لم تصلح لقبول الوحي والرسالة. ومراتب الرسل مختلفة فمنهم ذو معجزة واحدة وذو معجزتين أو أكثر، ومنهم من له تبع قليل ومنهم من آمن به جم غفير، ومنهم من كان الرفق غالبا عليه ومنهم من كان مدار أمره على التغليظ والتشديد. وفي الآية تعريض بأن حصول النبوّة والرسالة لا بد فيه من قلب سليم، والمقترحون فيهم من المكر والحسد ما فيهم فكيف يعقل حصول الرسالة لهم وإنما يحصل لهم ما يناسب أخلاقهم وأحوالهم ولهذا قال تعالى: سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ ذل وهوان عِنْدَ اللَّهِ أي في الآخرة أو في الدنيا(3/158)
بحكم الله وإيجابه من الأسر والقتل. أو المراد من عند الله فحذف «من» . أو قوله: عِنْدَ اللَّهِ مستأنف أي معدّ لهم ذلك، واعلم أن كمال العقاب لا بد فيه من أمرين: الضرر، والإهانة. ثم إن القوم لما تردوا عن طاعة محمد صلى الله عليه وآله طلبا للعز والكرامة فالله تعالى بيّن أنه يقابلهم بضد مقصودهم، فأول ما يوصل إليهم الذل والهوان وبعده عذاب شديد جميع ذلك بسبب مكرهم ونكرهم فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ يقال: شرح فلان أمره، إذا أظهره وأوضحه ومنه شرح المسألة إذا بينها. وقال الليث: شرح الله صدره فانشرح أي وسعه لقبول ذلك الأثر. ولا شك أن توسيع الصدر غير ممكن على سبيل الحقيقة ولكن هاهنا معنى وهو أنه إذا اعتقد الإنسان في عمل من الأعمال أن نفعه زائد وخيره راجح مال طبعه إليه وقوي طلبه ورغبته في حصوله وظهر في القلب استعداد شديد لتحصيله فسميت هذه الحالة سعة الصدر، وإن حصل في القلب علم أو اعتقاد أو ظن يكون ذلك العمل مشتملا على ضرر زائد ومفسدة راجحة دعاه ذلك إلى تركه وحصل في النفس نبوّة عن قبوله فيقال لهذه الحال ضيق الصدر، لأن المكان إذا كان ضيقا لم يتمكن الداخل من الدخول فيه، وإذا كان واسعا قدر على الدخول فيه. وأكثر استعمال شرح الصدر في جانب الحق والإسلام وقد ورد في الكفر أيضا قال تعالى: وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً [النحل: 106] .
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: كيف يشرح الله صدره؟ فقال صلى الله عليه وآله: يقذف الله تعالى فيه نورا حتى ينفسخ وينشرح، فقيل له: وهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزوله»
وهذا البيان مناسب لما ذكرنا فإن الإنابة إلى دار الخلود لا بد أن تترتب على اعتقاد أن عمل الآخرة زائد النفع والخير، والتجافي عن دار الغرور إنما ينبعث عن اعتقاد كون عمل الدنيا زائد الضر والضير، والاستعداد للموت قبل نزوله نتيجة مجموع الأمرين الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. أما قوله: حَرَجاً فمن قرأ بكسر الراء فعلى النعت، ومن قرأ بالفتح فعلى الوصف بالمصدر للمبالغة. قال الزجاج: الحرج في اللغة أضيق الضيق. وقيل: الحرج بالفتح جمع حرجة وهو الموضع الكثير الأشجار الذي لا تناله الراعية. حكى الواحدي بإسناده عن ابن عباس أنه قرأ هذه الآية وقال: هل هاهنا أحد من بني بكر؟ قال رجل: نعم. قال: ما الحرجة فيكم؟ قال: الوادي الكثير الأشجار المشتبك الذي لا طريق فيه. فقال: كذلك قلب الكافر.
ومعنى: يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كأنما يزاول أمرا غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يمتنع ويبعد عن الاستطاعة فكأن الكافر في نفوره من الإسلام وثقله عليه بمنزلة من يتكلف(3/159)
الصعود إلى السماء. وقيل: المراد أن قلبه يتباعد عن الإسلام وقبوله تباعد ما بين الأرض والسماء. كَذلِكَ يَجْعَلُ أي كما جعل ضيق الصدر في قلوبهم كذلك يجعل الرجس عليهم. وقال الزجاج: أي مثل ما قصصنا عليك يجعل الله الرجس. عن ابن عباس هو الشيطان يسلطه الله عليهم. وقال مجاهد: الرجس ما لا خير فيه. وعن عطاء: الرجس هو العذاب. وقال الزجاج: هو اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أن الهداية والضلال من الله تعالى بيانه أن العبد قادر على الإيمان وعلى الكفر وقدرته بالنسبة إلى الأمرين سواء ولا يترجح إلا لداعية، ولا معنى للداعية إلا علمه أو اعتقاده أو ظنه بكون ذلك الفعل مشتملا على مصلحة زائدة، ومجموع القدرة مع الداعي يوجب الفعل، ولا بد أن تنتهي تلك الداعية إلى تخليق الله وتكوينه دفعا للتسلسل فإذا خلق الله تعالى في قلبه اعتقاد أن الإيمان راجح المنفعة- وهو المراد بشرح الصدر- مال القلب إليه، وإذا خلق في قلبه اعتقاد أن الإيمان بمحمد سبب للمفسدة الدينية والدنيوية نبا طبعه عنه وبقي على الكفر. فحاصل الآية أن من أراد الله منه الإيمان قوى دواعيه إليه، ومن أراد منه الكفر قوى صوارفه عن الإيمان. وقالت المعتزلة: إنه لا دلالة في الآية على قولكم لأنه ليس فيها أكثر من أنه إذا أراد أن يهدي إنسانا أو يضله فعل به كيت وكيت، وليس فيها أنه أراد ذلك أو لم يرده نظيره قوله: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا [الأنبياء: 17] فبيّن أنه كيف يفعل اللهو لو أراده، ثمّ إنه لم يرد ذلك بالاتفاق وأيضا لم قلتم إنه أراد ومن يرد أن يضله عن الإيمان بل المراد من يرد الله أن يهديه يوم القيامة إلى طريق الجنة يشرح صدره للإسلام حتى يثبت عليه، وتفسير الشرح هو أنه يفعل به ألطافا تدعوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه. ومن يرد أن يضله عن طريق الجنة فعند ذلك يلقي في صدره الضيق والحرج لا في كل الأوقات بل في بعضها كيلا يمكن دفعه وخصوصا عند ظهور نصرة المؤمنين وبدوّ الذل والصغار في الكافرين. وأيضا لم لا يجوز أن يقال: المعنى فمن يرد الله أن يهديه إلى الجنة يشرح صدره للإسلام في ذلك الوقت الذي يهديه فيه إلى الجنة لما رأى من فوائد الإيمان ونتائجه من الدرجات العالية والمراتب الشريفة فتزداد رغبته فيه، ومن يرد أن يضله يوم القيامة عن طريق الجنة ففي ذلك الوقت يضيق صدره للحزن الشديد الذي ناله عند الحرمان من الجنّة والدخول في النار؟ وقال في الكشاف: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أن يلطف به ولا يريد أن يلطف إلا بمن له لطف يَشْرَحْ صَدْرَهُ للإسلام يلطف به حتى يرغب في الإسلام وتسكن إليه نفسه ويحب الدخول فيه وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ أي يخذله ويخليه وشأنه وهو الذي لا لطف له يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً يمنعه ألطافه حتى(3/160)
يقسو قلبه وينبو عن قبول الحق وينسد فلا يدخله الإيمان. وأجيب عن قولهم «ليس في الآية أنه أراد ذلك أو لم يرده» بأن قوله في آخر الآية: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ تصريح بأنه فعل به ذلك الإضلال لأن الكاف للتشبيه والتقدير: كما جعلنا ذلك الضيق والحرج في صدره كذلك يجعل. وفيه أيضا دلالة على أن المراد من قوله: وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ هو أنه يضله عن الدين، وتفسير الضيق والحرج باستيلاء الغم والحزن على قلب الكافر بعيد لأن أكثر من يعتريه الحزن في الدنيا هو المؤمن ولهذا
قال صلى الله عليه وعلى آله: «خص البلاء بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل» «1»
ولو خص ذلك بالآخرة كان من إيضاح الواضحات. فمن المعلوم لكل أحد أن من يضله الله عن طريق الجنة فإنه يضيق قلبه في ذلك الوقت. والجواب على قول صاحب الكشاف مما مر من أن فعل الإيمان يتوقف على أن تحصل في القلب داعية جازمة إلى الإيمان، وفاعل تلك الداعية هو الله تعالى وكذا القول في جانب الكفر، فإن سمى الداعيتين أحد باللطف والخذلان فلا مشاحة في الأسامي. قال القاضي في تفسيره: روي عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: تذاكرنا أمر القدرية عند ابن عمر فقال: لعنت القدرية على لسان سبعين نبيا فإذا كان يوم القيامة نادى مناد وقد جمع الناس بحيث يسمع الكل أين خصماء الله؟ فتقوم القدرية. قال: ولا يخفى أنهم الذين ينسبون أفعال العباد إلى الله قضاء وقدرا وخلقا لأنهم يقولون الذنب لله فأي ذنب لنا حتى تعاقبنا أنت الذي خلقته فينا وأردته منا وقضيته علينا ولم تخلقنا إلا له ولا يسرت لنا غيره، فهؤلاء لا بد أن يكونوا خصماء الله. أما الذين قالوا إن الله تعالى مكن وأزاح العلة وإنما أتى العبد من قبل نفسه فكلامه موافق لما يعامل به من إنزال العقوبة، فهؤلاء منقادون لله تعالى لا خصماؤه. هذا كلام القاضي وتعجب منه الأشاعرة فقالوا: كيف يكون خصم الله من يقول ليس للعبد على الله حجة ولا استحقاق بوجه من الوجوه وأن كل ما يفعله الرب في العبد فهو حكمة وصواب وليس للعبد على ربه اعتراض ولا مناظرة وكل ما يصل منه إلى عباده حتى الملائكة والأنبياء فهو تفضل منه وإحسان، لكن الخصم من يدعي عليه وجوب الثواب والعوض ويقول لو لم تعطني ذلك لخرجت عن الإلهية وصرت معزولا عن الربوبية وكنت من السفهاء وأن من واظب على الكفر سبعين سنة ثم إنه في آخر زمن حياته قال لا إله إلا الله محمد رسول الله عن القلب ثم مات، فإن رب العالمين أعطاه النعم الفائقة سنين غير محصورة، ثم إنه لو ترك ذلك لحظة واحدة قال العبد له إنك معزول عن الإلهية. يحكى أن
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 7. البخاري في كتاب المرضى باب 3. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 23. الدارمي في كتاب الرقاق باب 67. أحمد في مسنده (1/ 172، 174) ، (6/ 369) .(3/161)
الشيخ أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس أستاذه أبي علي الجبائي وترك مذهبه وكثر اعتراضه على أقاويله، عظمت الوحشة بينهما فاتفق أن أبا علي عقد مجلس التذكير وحضر عنده جم غفير، فذهب الشيخ أبو الحسن إلى ذلك المجلس مختفيا عن الجبائي وقال لبعض من حضر هناك من العجائز: إني أعلمك مسألة فاذكريها لهذا الشيخ. قولي له كان لي ثلاثة من البنين واحد في غاية الزهد، وآخر في غاية الفسق، والثالث كان صبيا لم يبلغ فماتوا على هذه الصفات فأخبرني أيها الشيخ عن أحوالهم. فقال الجبائي: أما الزاهد ففي درجات الجنة، وأما الكافر ففي دركات النار، وأما الصبي فمن أهل السلامة. فقال: قولي له إن الصبي لو أراد أن يذهب إلى تلك الدرجات العالية التي حصل فيها أخوه الزاهد فهل يمكن منه؟ قال الجبائي: لا لأن الله تعالى يقول له إنما أخوك وصل إلى تلك الدرجات لأنه أتعب نفسه في العلم والعمل وأنت فليس معك ذلك. فقال أبو الحسن: قولي له لو أن الصبي يقول: يا رب العالمين ليس الذنب لي لأنك أمتني قبل بلوغي، ولو أبلغتني فربما زدت على أخي الزاهد في الزهد، فقال الجبائي: يقول الله تعالى له علمت أنك لو عشت لطغيت وكفرت وكنت تستوجب النار فراعيت مصلحتك. فقال لها أبو الحسن: قولي له لو أن الأخ الكافر الفاسق رفع رأسه من الدرك الأسفل من النار وقال: يا رب العالمين ويا أحكم الحاكمين ويا أرحم الراحمين، لم راعيت حال الأخ الصغير وما راعيت حالي ومصلحتي؟
قال الراوي: فانقطع الجبائي فنظر فرأى أبا الحسن فعلم أن المسألة منه لا من العجوز. ثم إن أبا الحسين البصري جاء بعد أربعة أدوار وأكثر مجيبا عن الجبائي قائلا: نحن لا نرضى بهذا الجواب وإنما نقول: الجواب مبني على مسألة اختلف شيوخنا فيها، وهي أنه هل يجب على الله تعالى أن يكلف العبد أم لا؟ فقال البصريون: إنه غير واجب ولكنه تفضل وإحسان. وقال البغداديون: إنه واجب وعلى الأول لله تعالى أن يقول لذلك الصبي إني طولت عمر الأخ الزاهد وكلفته على سبيل التفضل ولم يلزم من كوني متفضلا على أحد بشيء أن أتفضل على غيره بمثله، وعلى قول البغداديين فلله أن يقول: إن إطالة عمر أخيك وتوجيه التكليف في حقه لم يستلزم مفسدة الغير فلا جرم فعلته، أما إطالة عمرك وتوجيه التكليف عليك فكان يلزم منه عود مفسدة إلى غيرك فلهذا ما فعلته وظهر الفرق. وأورد على القسم الأول أنه تعالى لما أوصل التفضل إلى أحدهما فالامتناع من إيصاله إلى الثاني قبيح منه عقلا لأنه ليس فعلا شاقا عليه ولا ينقص بذلك شيء من ملكه، والصبي محتاج إلى الإحسان إليه ومثل هذا الامتناع قبيح في الشاهد كمن منع غيره من النظر في مرآته المنصوبة على الجواد لعامة الناس. فإن كان حكم العقل في التحسين والتقبيح مقبولا فليكن هاهنا(3/162)
أيضا مقبولا وإلا فلا يقبل في شيء من الصور وتبطل كلية مذهبكم. وأورد على الشق الثاني أن قولنا: «تكليفه يتضمن مفسدة» ليس معناه أن ذات التكليف تتضمن المفسدة وإلا لم ينفك تكليف عن المفسدة وأنه باطل بالاتفاق، فمعناه إذا أنه تعالى علم أنه إذا كلف هذا الشخص فإن إنسانا آخر يختار من قبل نفسه فعلا قبيحا، فإن اقتضى هذا القدر أن يترك الله تعالى تكليفه وجب أن يقبح تكليف كل من علم الله من حاله أنه يكفر وإلا لزم محض التحكم. هذا تمام مناظرة الفريقين، ولعلك قد عرفت التحقيق هنا فيما سلف فتذكر.
ثم قال: وَهذا صِراطُ رَبِّكَ في المشار إليه وجوه منها: أنه المذكور في الآية المتقدمة. أما على مذهب الأشاعرة وهو أن الفعل يتوقف على الداعي وحصول تلك الداعية من الله تعالى فيكون الفعل من الله، ويلزم استناد الكل إلى قضائه وقدره. وأما على مذهب المعتزلة فالمراد هذا الذي قررنا طريقته التي اقتضتها الحكمة وعادته الجارية في عباده من التوفيق والخذلان. ومعنى مُسْتَقِيماً عادلا مطردا. وانتصابه على الحال المؤكدة والعامل ما في اسم الإشارة من معنى الفعل. أو هو محذوف أي أحقه. وعن ابن عباس: يريد هذا الذي أنت عليه يا محمد دين ربك. وقال ابن مسعود: يعني القرآن. قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ ذكرناها فصلا فصلا بحيث لا يختلط واحد منها بالآخر. قال في التفسير الكبير: قد بيّن الله تعالى صحة القول بالقضاء والقدر في آيات من هذه السورة متوالية متعاقبة بطرق كثيرة ووجوه مختلفة. وختم الآية بقوله: لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لأنه تقرر في عقل كل واحد أن أحد طرفي الممكن لا يترجح عن الآخر إلا لمرجح فكأنه يقول للمعتزلي: تذكر ما تقرر في عقلك أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا لمرجح حتى تزول الشبهة عن قلبك فإن حصول الفعل عن القادر لو لم يتوقف على الداعي مع تساوي طرفيه وجب أن يحصل هذا الاستغناء في كل الممكنات والمحدثات وحينئذ يلزم نفي الصانع وإبطال القول والفعل والفاعل والتأثير والمؤثر. ثم لما بيّن عظمة نعمته في الصراط المستقيم بيّن ما أعد وهيىء للمتذكرين فقال: لَهُمْ دارُ السَّلامِ أي دار الله يعني الجنة، والإضافة للتشريف والتعظيم كما قيل:
الكعبة بيت الله: أو دار السلامة من كل آفة وكرب والسلام والسلامة مثل: الضلال والضلالة والرضاع والرضاعة كلاهما مصدر. وقيل: السلام جمع السلامة لأن أنواع السلامة حاصلة في الجنة. ومعنى عِنْدَ رَبِّهِمْ أنها معدة عنده وفي ضمانه كما يقال لفلان عندي حق لا ينسى وذلك نهاية في بيان وصولهم إليها وكونهم على ثقة من حصولها وَهُوَ وَلِيُّهُمْ أي قريب منهم بالرحمة والرضوان أو مواليهم ومحبهم أو ناصرهم على أعدائهم، وذلك أن القوم قد عرفوا أن المدبر والمقدر ليس إلا هو جل جلاله، وأن النافع والضار ليس إلا هو(3/163)
سبحانه، فانقطعوا عن كل ما سواه فما كان رجوعهم إلا إليه، وما كان توكلهم إلا عليه، ولم يكن أنسهم إلا به، فلما صاروا بالكلية له لا جرم قال سبحانه: وَهُوَ وَلِيُّهُمْ على أنه متكفل لجميع مصالحهم دينا ودنيا. ثم قال: بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي بسبب أعمالهم، أو متوليهم بجزاء ما كانوا يعملون لئلا يقطعوا العمل ولا يتكلوا، وذلك أن بين النفس والبدن تعلقا شديدا وكما أن الهيآت النفسانية قد تؤثر في البدن كحمرة الخجل وصفرة الوجل فالهيآت البدنية قد تصعد من البدن إلى النفس، فإذا واظب الإنسان على أعمال الخير ظهرت الآثار المناسبة لها في جوهر النفس فلا بد للسالك من العمل بعد كمال العلم والمعرفة. ثم لما بين حال من تمسك بالصراط المستقيم أردفها بذكر من تعلق بضده فقال:
ويوم نحشرهم والمراد واذكر يوم كذا، أو يوم نحشرهم قلنا، أو متعلقة محذوف والتقدير: ويوم نحشرهم وقلنا يا معشر الجن كان ما لا يوصف لفظاعته، والضمير إما أن يعود إلى الشياطين الذين تقدم ذكرهم في قوله: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ أو يعود إلى جميع المكلفين الذين علموا أن الله تعالى يبعثهم من الثقلين وغيرهم، ويكون القائل على تقدير حذف القول هو الله تعالى كما أنه الحاشر لجميعهم. وهذا القول منه تعالى بعد الحشر لا يكون إلا للتبكيت وإنهم وإن تمردوا في الدنيا انتهى حالهم في الآخرة إلى الاستسلام والانقياد والاعتراف. وقال الزجاج: التقدير فيقال لهم: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ لأنه يبعد أن يتكلم الله تعالى بنفسه مع الكفار لقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ [البقرة: 174] قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ لا بد فيه من إضمار لأن الجن أي الشياطين لا يقدرون على الاستكثار من نفس الإنس، فالمراد قد استكثرتم من إضلال الإنس واستتباعهم فحشر معكم منهم الجم الغفير كما يقال استكثر الأمير من الجنود. أما قوله: وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ فالأقرب عند بعضهم أن فيه حذفا فكما قال للجن تبكيتا ناسب أن يقول للإنس أيضا مثل ذلك توبيخا لأنه حصل من الجن الدعاء ومن الإنس القبول. ولما بكت الله كلا الفريقين حكى جواب الإنس وهو قوله: رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وفيه قولان: الأول أن المراد استمتع الجن بالإنس والإنس بالجن وعلى هذا ففي الاستمتاع وجهان: أحدهما أن الرجل كان إذا سافر فأمسى بأرض منفردا وخاف على نفسه قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه. فيبيت آمنا في نفسه. فهذا استمتاع الإنس بالجن، وأما استمتاع الجن بالإنس فهو أن الإنسي إذا عاذ بالجني كان ذلك تعظيما منهم للجن وذلك الجني يقول: قد سدت الجن والإنس لأن الإنسي قد اعترف له بأنه يقدر أن يدفع عنه. وهذا قول الحسن وعكرمة والكلبي وابن جريج ويعضده قوله سبحانه: وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن: 6](3/164)
وثاني الوجهين أن الإنس كانوا ينقادون للجن ويطيعون حكمهم فصار الجن كالرؤساء والإنس كالأتباع فانتفعوا بالإنس انتفاع الرئيس بالخادم، وأما انتفاع الإنس بالجن فهو أن دلوهم على الشهوات واللذات إلى أن بلغوا هذا المبلغ الذي أيقنوا أنه يسوء عاقبتهم وهذا اختيار الزجاج. والقول الثاني أن البعضين كليهما من الإنس لأن استمتاع الجن بالإنس وبالعكس أمر قليل نادر وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أي ذلك الاستمتاع كان حاصلا إلى وقت محدود ثم جاءت الحسرة والندامة من حيث لا ينفع. وما ذلك الأجل؟ قيل: هو وقت الموت وعلى هذا فكل من مات من مقتول وغيره فإنه يموت بأجله لأنهم أقروا بأنهم بلغوا أجلهم وفيهم المقتول وغير المقتول. وقيل: هو وقت التخلية والتمكين وقيل: وقت المحاسبة في القيامة قالَ الله تعالى في جوابهم النَّارُ مَثْواكُمْ مقامكم ومقرّكم من ثوى بالمكان يثوي ثويا إذا أقام به. قال أبو علي الفارسي: المثوى اسم للمصدر دون المكان لأن قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها حال واسم الموضع لا يعمل عمل الفعل فالمعنى النار أهل أن يقيموا فيها خالدين. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ قيل: المراد منه أوقات المحاسبة ووقت كونهم في المحشر كأنه قيل: خالدين فيها منذ يبعثون إلا ما شاء الله من مقدار حشرهم من قبورهم ومقدار مدتهم في محاسبتهم. وقال ابن عباس: استثنى الله قوما سبق في علمه أنهم يسلمون ويصدقون النبي صلى الله عليه وآله. وعلى هذا يلزم أن يكون «ما» بمعنى «من» وفيه خلل آخر وهو أن الاستثناء إنما هو من يوم القيامة الذي يحشرون فيه، وقيل: المراد الأوقات التي ينقلون فيها من عذاب النار إلى عذاب الزمهرير.
روي أنهم يدخلون واديا فيه برد شديد فهم يطلبون الرد من ذلك البرد الشديد إلى حر الجحيم.
وقال في الكشاف: أو يكون هذا من قول الموتور الذي ظفر بواتره ولم يزل يحرق عليه أنيابه وقد طلب إليه أن ينفس عن خناقه أهلكني الله، إن نفست عنك إلا إذا شئت، فيكون قوله: «إلا إذا شئت» من أشد الوعيد مع تهكم لأنه إطماع محض ويأس كلي. وقال أبو مسلم: هذا الاستثناء غير راجع إلى الخلود وإنما هو راجع إلى الأجل المؤجل لهم كأنهم قالوا: وبلغنا أجلنا الذي سميته لنا إلا من أهلكته قبل الأجل المسمى يعني الآجال الاخترامية إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ فيما يفعله من ثواب وعقاب وسائر وجوه المجازاة. عَلِيمٌ بما يستأهله كل طائفة فكأنه تعالى يقول:
إنما حكمت لهؤلاء بعذاب الأبد لعلمي أنهم يستحقون ذلك. ثم لما حكى عن الجن أن بعضهم يتولى بعضا بين أن ذلك إنما حصل بتقديره وقضائه فقال: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً وذلك أن القدرة صالحة للعداوة والصداقة فترجيح أحد الجانبين لا يكون إلا بداعية خلقها الله قطعا للتسلسل، وأيضا لما بين أنه سبحانه ولي أهل الجنة بقوله: هُوَ(3/165)
وَلِيُّهُمْ
ذكر أن أولياء أهل النار من يشبههم في الظلم والخزي والنكال وأشار إليه بقوله:
بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بسبب كون ذلك البعض مكتسبا للظلم وهذه مناسبة في غاية اللطف لأن الجنسية علة الضم فالطيبات للطيبين والخبيثات للخبيثين. وفي الآية دلالة على أن الرعية متى كانوا ظلمة فإن الله تعالى يسلط عليهم ظالما مثلهم، فإن أرادوا الخلاص منه فليتركوا الظلم
وعن مالك بن دينار قال: جاء في بعض الكتب السماوية «أنا الله مالك الملوك، قلوب الملوك بيدي فمن أطاعني جعلتهم عليهم رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليهم نقمة، لا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك لكن توبوا إليّ أعطفهم عليكم» .
ثم بيّن أن كفار الثقلين لا يكون لهم إلى الجحود يوم القيامة سبيل وأنهم لا يعذبون إلا بالحجة فقال: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
قال أهل اللغة: المعشر كل جماعة مختلطة يجمعهم أمير واحد لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
استفهام على سبيل التقدير فلا جرم استدل الضحاك بالآية وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: 24] على أن من الجن رسلا كالإنس، ولأن استئناس الجنس بالجنس أكمل ولهذا قال سبحانه: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الأنعام: 9] والأكثرون على أنه ما كان من الجن رسول البتة إنما كانت الرسل من بني آدم وزعموا أن ذلك مجمع عليه. ورد بأنه كيف ينعقد الإجماع مع حصول الاختلاف؟ واستدل بعضهم على المطلوب بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آل عمران: 33] والمراد بالاصطفاء هاهنا النبوّة بالإجماع. وأجيب عن قول الضحاك بأن الآية تقتضي أن رسل الجن والإنس تكون بعضا من أبعاض هذا المجموع فكان هذا القدر كافيا في حمل اللفظ على ظاهره فلا يلزم إثبات رسول من الجن. وأيضا لا يبعد أن يقال: إن الرسل كانوا من الإنس، ثم كان من الجن نفر يستمعون من رسول الإنس وينذرون قومهم بذلك قال: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف: 29] الآية. وقد يسمى رسول الرسول رسولا كما أنه تعالى سمى رسل عيسى رسل نفسه فقال: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس: 14] ثم إنه سبحانه يكون قد بكت كفار الثقلين بهذه الآية لأنه أزال العذر وأزاح العلة بسبب أنه أرسل الرسل إليهم فإذا وصلت البشارة والنذارة إلى الكل بهذا الطريق فقد حصل المقصود. وقال الواحدي: أراد رسل من أحدكم وهو الإنس كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ [الرحمن: 22] أي من أحدهما وهو الملح الذي ليس بعذب. وعن الكلبي كانت الرسل قبل أن يبعث محمد يبعثون إلى الإنس ورسول الله صلى الله عليه وآله بعث إلى الجن والإنس. أما قوله: قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
فالمراد منه التنبيه على الأدلة بالتأويل وبالتلاوة يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا
يخوفونكم(3/166)
عذاب هذا اليوم فلم يجدوا بدا من الاعتراف فلذلك الُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
والسبب في أنهم أقروا في هذه الآية وجحدوا في قوله: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] هو أنهم مختلفو الأحوال في يوم القيامة مضطربون فتارة يقرّون وأخرى يجحدون. ومنهم من حمل هذه الشهادة على شهادة الجوارح عليهم. ثم أخبر الله تعالى عن حالهم في الدنيا بقوله: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
وعن حالهم في الآخرة بقوله: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
والمقصود من شرح أحوالهم في القيامة زجر أمثالهم في الدنيا عن الكفر والمعصية. وقد يستدل بالآية على أن لا وجوب قبل ورود الشرع وإلا لم يكن لهذا التوبيخ والتبكيت فائدة.
التأويل:
أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً في حالة العدم فَأَحْيَيْناهُ بالحياة الحقيقية أي بالحي الذي لا يموت وَجَعَلْنا لَهُ نور الوجود الحقيقي الذي يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ وبه يسمع وبه يبصر كَمَنْ هو محبوس فِي الظُّلُماتِ الطبيعة وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أي كل قالب أَكابِرَ مُجْرِمِيها من النفس والهوى والشيطان لِيَمْكُرُوا فِيها بمخالفات الشرع وموافقات الطبع. ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ من القلب والسر والروح. يَشْرَحْ صَدْرَهُ أي ينظر إلى قلبه بنظر العناية فينوّره بنور جماله وهو نور الإيمان، فيشرح الصدر بضوء النور الواقع في القلب وهذا الضوء هو المسمى بنور الإسلام. وهذا النور يقبل الزيادة والاشتداد إلى أن يصير الإيمان إيقانا والإيقان عيانا والعيان عينا. ضَيِّقاً لتزاحم ظلمات صفات البشرية حَرَجاً لتعلقاته بالدنيا وشهواتها كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ لأنه سفلي بالطبع لا يصعد إلا بالتصعيد والقسر. وَهذا الذي بينا من الهداية والضلالة صِراطُ رَبِّكَ باللطف والقهر فبجذبات اللطف يهدي السعيد وبسطوات القهر يضل الشقي. لَهُمْ دارُ السَّلامِ أي السلامة عن القطيعة في مقام العندية بالوصول إلى الوحدة بعد الخروج عن ظلمات الاثنينية. وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ في موقف القالب البشري بالحكمة البالغة والقدرة الكاملة يا مَعْشَرَ الْجِنِّ أي الصفات الشيطانية قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي غلبتم على الصفات الإنسانية وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ يعني النفس الأمارة رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ واستمتاع النفس الأمارة بالشيطان هو أن يستعين بصفات مكره على تحصيل شهواتها ولذاتها العاجلة وحظوظها، واستمتاع الشيطان بالإنس هو أن يستعين به على إضلال الحق وإغوائهم كما استعان بحواء على إغواء آدم. وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا
يعني أن مدة الاستمتاع وما جرى بيننا إنما كان بمقتضى قضائك وقدرك فأجابهم بأن الثوى في النار أيضا بقضاء الله إلا أن يشاء الله فيتوب عليهم إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في تقدير الاستمتاع عَلِيمٌ بأهل الجنة(3/167)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
وبأهل النار، وَكَذلِكَ أي كما جعلنا مردة الجن والإنس بعضهم أولياء بعض فكذلك نجعل بعض الظالمين أولياء بعض بما كانوا يكسبون من إفساد الاستعداد الفطري لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
يعني الإلهامات الربانية. وشهدوا على أنفسهم أقروا عند الحرمان عن السعادة العظمى أنهم بذواتهم كانوا صدأ مرآة قلوبهم وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النجم: 39، 40] وما التوفيق إلا منه.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 131 الى 140]
ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140)
القراآت:
عما تعملون بتاء الخطاب: ابن عامر مكاناتكم بالجمع حيث كان:
أبو بكر وحماد. الباقون مَكانَتِكُمْ على التوحيد. من يكون بالياء التحتانية: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بتاء التأنيث. بِزَعْمِهِمْ بضم الزاي علي وكذلك ما بعده الباقون:
بالفتح زَيَّنَ على البناء للمفعول قَتْلَ بالرفع أَوْلادِهِمْ بالنصب شركائهم بالجر:
ابن عامر. الآخرون زَيَّنَ على البناء للفاعل قَتْلَ بالنصب أَوْلادِهِمْ بالجر(3/168)
شُرَكاؤُهُمْ بالرفع وإن تكن بتاء التأنيث: ابن عامر ويزيد وأبو بكر وحماد مَيْتَةً بالرفع: ابن كثير وابن عامر ويزيد، وقرأ مَيْتَةً بالتشديد ابن كثير وابن عامر. الباقون:
بالتخفيف.
الوقوف:
غافِلُونَ هـ مِمَّا عَمِلُوا ط يَعْمَلُونَ هـ ذُو الرَّحْمَةِ ط آخَرِينَ هـ لَآتٍ لا لأن الواو بعده للحال بِمُعْجِزِينَ هـ عامِلٌ ج لابتداء التقرير مع فاء التعقب تَعْلَمُونَ هـ لا لأن ما بعده مفعول سواء كان من استفهامية أو موصولة عاقِبَةُ الدَّارِ ط الظَّالِمُونَ هـ لِشُرَكائِنا ج للشرط مع الفاء إِلَى اللَّهِ ج للفصل بين المتضادين معنى مع الاتفاق حكما شُرَكائِهِمْ ط يَحْكُمُونَ هـ دِينَهُمْ ط يَفْتَرُونَ هـ افْتِراءً عَلَيْهِ ط يَفْتَرُونَ هـ أَزْواجِنا ج للشرط مع العطف. شُرَكاءُ ط وَصْفَهُمْ ط عَلِيمٌ هـ عَلَى اللَّهِ ط مُهْتَدِينَ هـ.
التفسير:
ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من بعثة الرسل إليهم وإنذارهم سوء العاقبة وهو خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك ويحتمل أن يكون مبتدأ خبره أَنْ لَمْ يَكُنْ وهو للتعليل والمعنى الأمر ما قصصنا عليك، أو ذلك الذي ذكر لانتفاء كون ربك مهلك القرى و «أن» هي الناصبة للأفعال أو مخففة من الثقيلة، وعلى هذا يكون ضمير الشأن محذوفا أي أن الحديث كذا، ويجوز أن يكون، أَنْ لَمْ يَكُنْ بدلا من ذلِكَ كقوله: وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ [الحجر: 66] ومعنى قوله: بِظُلْمٍ أي بسبب ظلم أقدموا عليه وهذا أليق بأصول الأشاعرة. أو المراد ظالما لكم فيكون من فعل الله وهذا أنسب بأصول المعتزلة. ومعناه أنه تعالى لو أهلكهم قبل بعثة الرسل ولم ينبهوا برسول ولا كتاب كان ظالما. وعلى هذا التفسير يمكن للأشاعرة أن يقولوا إنه لو فعل ذلك لم يكن ظلما ولكنه يكون في صورة الظلم فأطلق الظلم على نفسه مجازا وإلا فهو تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ولا اعتراض عليه لأحد في شيء من أفعاله. وأما قوله: وَأَهْلُها غافِلُونَ فليس المراد من هذه الغفلة أن يتغافل المرء عما يوعظ به وإنما معناه أنه لا يبين لهم كيفية الحال وأن لا يزيل عذرهم وعلتهم. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أنه لا يحصل الوجوب قبل الشرع، وأن العقل المحض لا يدل على الوجوب البتة لأنها تدل على أنه تعالى ما يعذب أحدا على أمر من الأمور قبل بعثة الرسل لكن بعدها. والمعتزلة قالوا: إنها تدل من وجه آخر على تقرير الوجوب قبل الشرع لأن قوله: بِظُلْمٍ إن كان عائدا إلى العبد دل على أنه يمكن أن يصدر منه الظلم والقبيح قبل البعثة، وإن كان عائدا إلى الله تعالى فقد تم الاعتراف بتحسين العقل وتقبيحه. ثم لما شرح أحوال أهل الثواب والعقاب ذكر(3/169)
كلاما كليا فقال: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ أي ولكل عامل في عمله درجات، وعلى حسب تلك الدرجات يكون الجزاء إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ومعنى مِمَّا عَمِلُوا أي من جزاء أعمالهم. وقيل: إن أول الآية مختصة بأهل الطاعات لأن لفظ الدرجة يليق بهم ولأهل المعصية تكون الدركات وإليه الإشارة بقوله وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ قالت الأشاعرة:
في الآية دليل على مسألة الجبر والقدر فإنه تعالى حكم لكل واحد بدرجة معينة في وقت معين وبحسب فعل معين، وأثبت تلك الدرجة في اللوح المحفوظ وأشهد عليها الملائكة وخلاف علمه وإثباته وإشهاده محال. ثم بين أنه ليس يحتاج إلى طاعة المطيعين ولا يدخل عليه نقص بمعصية العاصين فقال: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ أما أنه غني في ذاته وصفاته وأفعاله وفي أحكامه عن كل ما سواه فلوجوب وجوده، وأن ما سواه ممكن لذاته مفتقر في الوجود وفي الأمور التابعة للوجود إليه فلا غنيّ إلا هو، وأما أنه ذو الرحمة فلأن كل ما دخل في الوجود من الخيرات والراحات والكرامات والسعادات من الروحانيات ومن الجسمانيات فهو من الحق وبإيجاده وتخليقه، والاستقراء دل على أن الخير غالب كالصحة والشبع والسمع والبصر وما ذلك إلا لرحمته الكاملة ورأفته الشاملة. والذي يتصوّر من رحمة الوالدين وغيرهما فإنما ذلك بإيجاد داعية ذلك فيهم ومع ذلك فتمكن الشخص من الانتفاع بها ليس إلا منه تعالى. ومن هذا يعلم تنزهه تعالى عن الظلم والسفه والكذب والعبث. ومن رحمته تكليف الخلائق ليعرضهم للمنافع الباقيات الدائمات. ثم لما وصف نفسه بأنه ذو الرحمة كان لظانّ أن يظن أن للرحمة معدنا مخصوصا وموضعا معينا فبين تعالى بقوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أنه قادر على وضع الرحمة في هذا الخلق وقادر على أن يخلق قوما آخرين ويضع رحمته فيهم، وعلى هذا الوجه يكون الاستغناء عن العالمين أكمل وأتم. ومعنى الإذهاب الإهلاك وأن لا يبلغهم مبلغ التكليف وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ أي:
من بعد ذهابكم لأن الاستخلاف لا يكون، إلا على طريق البدل من فائت، وقوله:
ما يَشاءُ أي خلق ثالث ورابع. ثم اختلفوا فقال بعضهم: خلقا آخرين من أمثال الجن والإنس لكن أطوع، وقال أبو مسلم: يعني خلقا ثالثا مخالفا للثقلين ليكون أقوى في دلالة القدرة. ثم بيّن سبب قدرته على ذلك فقال كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ لأن من قدر على تصوير النطفة المتشابهة الأجزاء بهذه الصور المخصومة قدر على تصويرها بصور أخرى مخالفة لها. وقال في الكشاف: المعنى كما أنشأكم من أولاد قوم آخرين لم يكونوا على مثل صفتكم وهم أهل سفينة نوح عليه السلام، ثم ذكر حال المعاد فقال: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ قال الحسن: أي من مجيء الساعة لأنهم كانوا ينكرون القيامة، ويحتمل أن يقال: إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ إشارة إلى لطفه أي ما يتعلق بالوعد والثواب فهو آت لا محالة.(3/170)
وقوله: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ أي خارجين عن قدرتتا وحكمنا إشارة إلى قهره، يقال:
أعجزه الشيء أي فاته. فالجزم في جانب الوعد والتعريض في جانب الوعيد دليل على أن جانب الرحمة والإحسان أغلب. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وآله بتهديد منكري البعث فقال:
قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ قال الواحدي: قراءة الإفراد أوجه لأن المصدر لا يجمع في أغلب الأحوال، وقال في الكشاف: المكانة تكون مصدرا. يقال: مكن مكانة إذا تمكن أبلغ التمكين. وبمعنى المكان يقال مكان ومكانة ومقام ومقامة، فمعنى الآية اعملوا على نمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم، أو اعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها. يقال للرجل: على مكانتك يا فلان أي اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف عنه إِنِّي عامِلٌ على مكانتي التي أنا عليها. والمعنى اثبتوا على كفركم وعداوتكم لي فإني ثابت على الإسلام وعلى مصابرتكم، والغرض تفويض الأمر إليهم على سبيل التهديد كقوله اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أينا تكون له العاقبة المحمودة، والفاء لتعقيب الجزاء ألا يعادي أي قل اعملوا فستجزون وهكذا في سورة الزمر بخلاف سورة هود حيث لم يقل هناك «قل» فصار استئنافا ومحل «من» نصب إن كان بمعنى «الذي» أو رفع والجملة مفعول تعلمون إن كان بمعنى أيّ وعاقِبَةُ الدَّارِ العاقبة الحسنى التي خلق الله هذه الدار لها وهي مصدر كالعافية. وهذا طريق من الإنذار لطيف المسلك فيه إنصاف وأدب ووثوق بأن المنذر محق ولهذا قيل له فإن الكافر تكون العاقبة عليه لا له.
ثم حكى أنواعا من جهالاتهم وركاكات أقوالهم تنبيها على ضعف عقولهم وقلة محصولهم وتنفيرا للعقلاء عن الالتفات إلى أقوال أمثالهم فقال: وَجَعَلُوا لِلَّهِ قال الزجاج: وجعلوا لله نصيبا ولشركائهم نصيبا بدليل قوله: فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا وجعل الأوثان شركاء لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونها عليها. ثم قال: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ وفي تفسيره وجوه: قال ابن عباس: كان المشركون يجعلون لله تعالى من حروثهم وأنعامهم نصيبا وللأوثان نصيبا، فما كان للصنم أنفقوه عليه وما كان لله أطعموه الضيفان والمساكين ولا يأكلون منه البتة. ثم إن سقط شيء مما جعلوه لله في نصيب الأوثان تركوه وقالوا إن الله غنيّ عن هذا، وإن سقط شيء مما جعلوا للأوثان في نصيب الله تعالى أخذوه وردّوه إلى نصيب الصنم وقالوا: إنه فقير. وإنما ذلك لحبهم آلهتهم وإيثارهم لها. وعن الحسن والسدي: كان إذا هلك لأوثانهم شيء أخذوا بدله مما لله ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله تعالى. وقال مجاهد: إنه إذا انفجر من سقى ما جعلوه للشيطان في نصيب الله عز وجل(3/171)
سدوه وإن كان على ضد ذلك تركوه، وقال قتادة: إذا أصابهم شدة استعانوا بالله وإذا أصابتهم حسنة نسبوها إلى شركائهم. وقال مقاتل: إن زكا ونما نصيب الآلهة ولم يزك نصيب الله تركوا نصيب الآلهة. وقالوا: لو شاء زكى نصيب نفسه. وأما إن زكا نصيب الله ولم يزك نصيب الآلهة قالوا لا بدّ لآلهتنا من نفقة وأخذوا نصيب الإله تعالى فأعطوه السدنة.
فمعنى فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أنه لا يصل إلى الوجوه التي كانوا يصرفونه إليها من قرى الضيفان والتصدق على المساكين، ومعنى الوصول إلى شركائهم أنهم ينفقونه عليها بذبح نسائك عندها والأجراء على سدنتها ونحو ذلك. وقوله: مِمَّا ذَرَأَ فيه أن الله تعالى كان أولى بأن يجعل له الزاكي لأنه هو الذي ذرأه أي خلقه. ثم إنه سبحانه ذم فعلهم فقال:
ساءَ ما يَحْكُمُونَ وذكر العلماء فيه وجوها: الأول أنهم رجحوا جانب الأصنام في الرعاية والحفظ على جانبه وهو سفه. الثاني جعلوا بعض الحرث لله وبعضه لغيره مع أنه تعالى هو الخالق للجميع. الثالث أن ذلك حكم أحدثوه من قبل أنفسهم ولم يشهد بصحته عقل ولا شرع وأشار إليه بقوله بِزَعْمِهِمْ الرابع لو حسن إفراز نصيب الأصنام لحسن إفراز نصيب لكل حجر ومدر. الخامس لا تأثير للأصنام في حصول الحرث والأنعام ولا قدرة لها على الانتفاع بذلك النصيب، فإفراز النصيب لها عبث. النوع الثاني من أحكامهم الفاسدة قوله: وَكَذلِكَ زَيَّنَ كان أهل الجاهلية يدفنون بناتهم أحياء خوفا من الفقر أو من التزويج، وكان الرجل يحلف بالله إن ولد له كذا غلاما لينحرن أحدهم كما فعل عبد المطلب على ابنه عبد الله، والشركاء على الوجه الأول الشياطين الذين أطاعوهم في معصية الله تعالى، وعلى الثاني هم السدنة والخدام، والأول قول مجاهد، والثاني للكلبي. وتقدير الكلام ومثل ذلك التزيين وهو تزيين الشرك في قسمة القربان بين الله والآلهة، أو مثل ذلك التزيين البليغ الذي علم من الشياطين زين لهم شركاؤهم من الشياطين أو من سدنة الأصنام قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بالوأد أو بالنحر. ثم إن وجه القراءة الأكثري ظاهر وليس فيها إلا تقديم المفعول وذلك لشدة الاعتناء به، وأما قراءة ابن عامر فخطأها الزمخشري من جهة الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف فإن ذلك قد جوز بالظرف كقوله:
لله در اليوم من لامها وضعف بغير الظرف كقوله:
فزججتها بمزجة ... زج القلوص أبي مزاده
وحملوه على ضرورة الشعر مع الاستكراه، والحق عندي في هذا المقام أن القرآن(3/172)
حجة على غيره وليس غيره حجة عليه، والقراآت السبع كلها متواترة فكيف يمكن تخطئة بعضها؟ فإذا ورد في القرآن المعجز مثل هذا التركيب لزم القول بصحته وفصاحته وأن لا يلتفت إلى أنه هل ورد له نظير في أشعار العرب وتراكيبهم أم لا، وإن ورد فكثير أم لا؟
ومع ذلك فقد وجهه بعض الفضلاء بأن المضاف إليه من الأول محذوف على نحو قوله:
بين ذراعي وجبهة الأسد والمضاف مضمر مع الثاني كقراءة من قرأ وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [الأنفال: 67] بالجر على تقدير عرض الآخرة، فتقدير الآية: قتل شركائهم أولادهم قتل شركائهم. ومعنى لِيُرْدُوهُمْ ليهلكوهم بالإغواء. قال ابن عباس: ليردوهم في النار. واللام محمول على العاقبة إن كان التزيين من السدنة، وعلى حقيقة التعليل إن كان من الشيطان وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ ليخلطوه عليهم ويشبهوه ودينهم ما كانوا عليه من دين إسماعيل فهذا الذي أتاهم بهذه الأوضاع الفاسدة أراد أن يزيلهم عن ذلك الدين الحق. وقيل: دينهم الذي وجب أن يكونوا عليه، وقيل: وليوقعوهم في دين ملتبس وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ لما فعل المشركون ما زين لهم، أو لما فعل الشياطين والسدنة التزيين أو الإرداء أو اللبس أو جميع ما ذكر إن جعل الضمير جاريا مجرى اسم الإشارة. والمعتزلة حملوا هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر. ثم قال: فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ على قانون قوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت: 40] وفيه مع التهديد التسجيل على المأمور بأنه لا يأتي منه إلا الشر والشرك.
قيل: إنما قال في هذه الآية وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ ليكون مناسبا لقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ وقال فيما قبل: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ [الأنعام: 112] لأنه وقع عقيب آيات فيها ذكر الرب كقوله: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ [الأنعام: 104] الآيات. النوع الثالث من أحكامهم الباطلة أنهم قسموا أنعامهم أقساما فأوّلها أن قالوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ وحجر «فعل» بمعنى «مفعول» كالذبح والطحن ويستوي في الوصف به المذكر والمؤنث والواحد والجمع لأن حكمه حكم الأسماء غير الصفات، وأصل الحجر المنع وسمي العقل الحجر لمنعه من القبائح، وفلان في حجر القاضي أي في منعه. كانوا إذا عينوا شيئا من حرثهم وأنعامهم لآلهتهم قالوا: لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يعنون خدم الأوثان والرجال دون النساء وَثانيها أن قالوا: هذه أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وهي البحائر والسوائب والحوامي وقد سبق في المائدة. وَثالثها: أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا في الذبح وإنما يذكرون عليها أسماء الأصنام. وقيل: هي أنعام لا يحجون عليها ولا يلبون على ظهورها وإنما فعلوا ذلك كله من غير حكم من الله وشرع منه بل افْتِراءً عَلَيْهِ وانتصابه(3/173)
على أنه مفعول له أو حال أو مصدر مؤكد لأن قولهم ذلك في معنى الافتراء. ثم قال:
سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ والمقصود منه الوعيد، وَالنوع الرابع من قضاياهم الفاسدة أن قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعنون أجنة البحائر والسوائب خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا هذا إن ولد حيا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ أي اشترك فيه الذكور والإناث، من قرأ بنصب ميتة فتقديره وإن يكن ما في بطونها ميتة، ومن قرأ بالرفع فعلى أن «كان تامة» ، أو لأن التقدير: وإن يكن لهم أو هناك ميتة. وإنما جاز تذكير الفعل وتأنيثه لأن تأنيث الميتة غير حقيقي، أو لأن الميتة لكل ميت ذكر أو أنثى فكأنه قيل: ميت ولهذا جاز عود الضمير إليه مذكرا في قوله: فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ وتذكير الضمير في قوله:
فَهُمْ للتغليب سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي جزاء وصفهم على الله الكذب في التحليل والتحريم إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ليكون الزجر واقعا على حد الحكمة وبحسب الاستحقاق. فإن قيل: كيف أنث خالِصَةٌ وذكر محرما؟ قلنا: الأول حمل على المعنى لأن ما في بطون الأنعام في معنى الأجنة، والثاني حمل على اللفظ، وفي الأول وجهان آخران: أن تكون التاء للمبالغة مثل راوية الشعر وأن يكون مصدرا كالعاقبة والعاقبة أي ذو خالصة. ثم إنه سبحانه جمع قبائح أحكامهم وأفعالهم وحكم عليهم بالخسران والسفاهة وعدم العلم والضلال وعدم الاهتداء فقال قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ الآية. وذلك أن الولد نعمة عظيمة من الله تبقي ذكره ونسله فالسعي في إبطال مثل هذه النعمة لضرر مظنون هو الفقر أو نحوه، أو لفائدة موهومة هي القربة إلى الأصنام دليل خفة العقل وعدم العلم وأنه موجب لخسران الدارين. وكذا تحريم ما أحل الله من الطيبات بالهوى والتقليد بل لمحض الافتراء على الله وإن ذلك من أعظم الذنوب وأكبر الكبائر، ولهذا سجل عليهم آخرا بالضلال ثم بعدم الاهتداء ليحصل كلا الأمرين لهم بالمطابقة كما حصل بالتضمن والله أعلم.
التأويل:
مُهْلِكَ الْقُرى أي قرى أشخاص الإنسان بِظُلْمٍ وهو صرف الاستعداد الفطري في استيفاء اللذات الفانية وَأَهْلُها غافِلُونَ لم يبلغوا مبلغ التكليف بعد. وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ عن كل مخلوق عامة وعن الإنسان خاصة ذُو الرَّحْمَةِ خلقهم ليربحوا عليه لا ليربح عليهم. واعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي على ما جبلتم عليه إِنِّي عامِلٌ على ما جبلت عليه قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ من الشياطين والنفس والهوى والدنيا سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ لأنهم ذهبوا مذهب الطبع لا مذهب الشرع، والعمل بالطبع وإن كان فيه نوع مجاهدة النفس لا يكون له نور إذا لم يكن لامتثال الشرع قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا(3/174)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
أَوْلادَهُمْ
لأن ذلك نتيجة انتزاع الرحمة عن قلوبهم وحرموا ما رزقهم الله صورة وهو ظاهر، ومعنى وهو استعداد حصول مراتب أهل القرب وَما كانُوا مُهْتَدِينَ لأن خشية الفقر حملتهم على قتل الأولاد. وقال أهل التحقيق: من أمارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 150]
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
القراآت:
حَصادِهِ بفتح الحاء: أبو عمرو وعاصم وابن عامر وسهل ويعقوب، الباقون: بالكسر وكلاهما مصدر مِنَ الضَّأْنِ بغير همزة: أبو عمرو غير شجاع وأوقية(3/175)
والأعشى والأصبهاني عن ورش ويزيد وحمزة في الوقف. وَمِنَ الْمَعْزِ ساكن العين:
عاصم وحمزة وعلي وخلف ونافع وأبو جعفر وابن فليح وزمعة والخزاعي عن البزي والقواس غير ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل عنه، الباقون: بفتحها إلا أن تكون بتاء التأنيث: ابن كثير وابن عامر ويزيد وحمزة وعباس من طريق ابن رومي عنه. مَيْتَةً بالتخفيف والرفع: ابن عامر وزاد يزيد التشديد. الباقون: بالياء وبالنصب. الْحَوايا ممالة: علي وحمزة وخلف. فَقُلْ رَبُّكُمْ وبابه مظهرا: الحلواني عن قالون والبرجمي.
الوقوف
. مُتَشابِهٍ ط. وَلا تُسْرِفُوا ط الْمُسْرِفِينَ هـ لا لأن قوله: حَمُولَةً منصوب ب أَنْشَأَ وَفَرْشاً ط الشيطان ط مُبِينٌ هـ لا لأن ثَمانِيَةَ منصوب ب أَنْشَأَ جَنَّاتٍ أَزْواجٍ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ط أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ ط لانتهاء الاستفهام صادِقِينَ هـ لا لأن اثْنَيْنِ منصوب ب أَنْشَأَ أيضا وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ط أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ ط لأن «أم» في قوله: أَمْ كُنْتُمْ بمعنى ألف استفهام توبيخ.
بِهذا ج للاستفهام مع الفاء ولانقطاع النظم مع اتحاد المعنى عِلْمٍ ط الظَّالِمِينَ هـ.
لِغَيْرِ اللَّهِ ج رَحِيمٌ هـ ظُفُرٍ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى. بِعَظْمٍ ط بِبَغْيِهِمْ ز للابتداء بأن وإثبات وصف الصدق مطلقا. وللوصل وجه لأن المعنى وإنا لصادقون فيما أخبرنا عن التحريم ببغيهم. واسِعَةٍ ط لاختلاف الجملتين الْمُجْرِمِينَ هـ مِنْ شَيْءٍ ط بَأْسَنا ط لَنا ط تَخْرُصُونَ هـ الْبالِغَةُ ج للشرط مع الفاء أَجْمَعِينَ هـ حَرَّمَ هذا ج لذلك مَعَهُمْ ج لتناهي جزاء الشرط مع العطف يَعْدِلُونَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه جعل مدار هذا الكتاب الكريم على تقرير التوحيد والنبوة والمعاد وإثبات القضاء والقدر وإنه بالغ في تقرير هذه الأصول وانتهى الكلام إلى شرح أحوال السعداء والأشقياء، ثم انتقل منه إلى تهجين طريقة منكري البعث والقيامة، ثم أتبعه حكاية أقوالهم الركيكة تنبيها على ضعف عقولهم، فلما تمم هذه المقاصد عاد إلى ما هو المقصود الأصلي وهو إقامة الدلائل على إثبات ذاته ووجوب توحيده فقال: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ الآية نشأ الشيء ينشأ نشأ إذا ظهر وارتفع، وأنشأه الله ينشئه إنشاء أظهره ورفعه جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ يقال: عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكا تعطف عليه القبضان. وقيل: كلاهما الكرم فإن بعض الأعناب تعرش وبعضها يبقى على(3/176)
وجه الأرض منبسطا كالقرع والبطيخ. وقيل: المعروشات ما يحتاج إلى أن يتخذ له عروش يحمل عليها فتمسكه وهو الكرم وما يجري مجراه، وغير معروشات هو القائم من الشجر المستغني باستوائه وقوة ساقه عن التعريش. وقيل: المعروشات ما في البساتين والعمارات مما غرسه الناس واهتموا به فعرشوه، وغير معروشات ما أنبته الله وحشيا في البراري والجبال فيبقى غير معروش. وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ فسر ابن عباس الزرع بجميع الحبوب التي تقتات مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ والأكل كل ما يؤكل والمراد هاهنا ثمر النخل والزرع فاكتفى بإعادة الذكر على أحدهما كقوله: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة: 11] أي إليهما. والمراد أن لكل شيء منهما طعما غير طعم الآخر ومُخْتَلِفاً حال مقدّرة أي أنشأه مقدّرا اختلاف أكله لأنه لم يكن وقت الإنشاء كذلك مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ في القدر واللون والطعم. ثم قال كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وقد قال في الآية المتقدمة أعني نظير هذه الآية وذلك قوله: وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ الآية إلى قوله انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ [الأنعام: 99] تنبيها على أن الأمر بالاستدلال بها على الصانع الحكيم متقدم على الإذن في الانتفاع بها لأن الحاصل من الأول سعادة روحانية أبدية، والحاصل من الانتفاع سعادة جسمانية زائلة. وفائدة هذا الأمر الإباحة، وقدم إباحة الأكل على إخراج الحق كيلا يظن أنه يحرم على المالك تناوله لمكان شركة المتشاركين فيه. وفي الآية إشارة إلى أن خلق هذه النعم إما للأكل وإما للتصدق، والأول لكونه حق النفس مقدم على الثاني لأنه حق الغير. وفيه أن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق لأن قوله: كُلُوا خطاب عام يتناول الكل، ويمكن أن يستدل به على أن الأصل عدم وجوب الصوم وأن من ادعى إيجابه فهو المحتاج إلى الدليل، وأن المجنون إذا أفاق في أثناء النهار لا يلزمه قضاء ما مضى، وأن الشارع في صوم النفل لا يجب عليه الإتمام. قال علماء الأصول: من المعلوم من لغة العرب أن صيغة الأمر تفيد ترجيح جانب الفعل فحملها على الإباحة أو الوجوب لا يصار إليه إلا بدليل منفصل، وفائدة قوله: إِذا أَثْمَرَ وقد علم أنه إذا لم يثمر لم يؤكل منه هي أن يعلم أن أول وقت الإباحة وقت اطلاع الشجر الثمر ولا يتوهم أنه لا يباح إلا إذا أدرك وأينع، أما قوله: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ فعن ابن عباس في رواية عطاء وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وطاوس والضحاك، أن الآية مدنية والحق هو الزكاة المفروضة وعلى هذا فكيف يؤدى الزكاة يوم الحصاد والحب في السنبل. والجواب أن المراد فاعزموا على إيتاء الحق يوم الحصاد واهتموا به حتى لا تؤخروه عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء، وقال مجاهد: الآية مكية وإن هذا حق في المال سوى الزكاة وكان يقول: إذا حصدت فحضرك(3/177)
المساكين فاطرح لهم منه، وكذا إذا دسته وإذا عرفت كيله فاعزل زكاته وزيف
بقوله صلى الله عليه وآله: «ليس في المال حق سوى الزكاة» «1»
وبأن قوله: وَآتُوا حَقَّهُ إنما يحسن ذكره لو كان ذلك الحق معلوما قبل ورود هذه الآية والإلزام الإجمال. وعن سعيد بن جبير أن هذا كان قبل وجوب الزكاة فلما فرض العشر أو نصف العشر فيما سقي بالسواقي نسخ، والقول الأول أصح. ثم إن أبا حنيفة احتج بالآية على وجوب الزكاة في الثمار لأنه قال:
وَآتُوا حَقَّهُ بعد ذكر الأنواع الخمسة وهي العنب والنخل والزرع والزيتون والرمان.
واعترض عليه بأن لفظ الحصاد مخصوص بالزرع. وأجيب بأن الحصد في اللغة عبارة عن القطع وذلك يتناول الكل. واحتج هو أيضا بها على أن العشر واجب في القليل والكثير للإطلاق، والجواب أن بيانه
في الحديث «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» «2» .
ثم قال تعالى: وَلا تُسْرِفُوا ولأهل اللغة فيه تفسيران: فعن ابن الأعرابي: السرف تجاوز ما حد لك. فعلى هذا إذا أعطى الكل ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف كما
جاء في الخبر «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» «3»
وروي أن ثابت بن قيس بن شماس عمد إلى خمسمائة نخلة فخذها فقسمها في يوم واحد ولم يدخل منها إلى منزله شيئا فنزلت الآية وَلا تُسْرِفُوا
أي لا تعطوا كله وإذا منع الصدقة فقد أسرف وبه فسر الآية سعيد بن المسيب، فإن مجاوزة الحد تكون إلى طرف الإفراط وإلى طرف التفريط. وقال عمر: سرف المال ما ذهب منه في غير منفعة. وعلى هذا فقد قال مقاتل: معناه لا تشركوا الأصنام في الأنعام والحرث. وقال الزهري: ولا تنفقوا في معصية الله تعالى. وعن مجاهد: لو كان أبو قبيس ذهبا فأنفقه رجل في طاعة الله تعالى لم يكن مسرفا، ولو أنفق درهما في معصية الله كان مسرفا، وهذا المعنى أراد حاتم الطائي حين قيل له لا خير في السرف فقال: لا سرف في الخير. ثم ختم الآية بقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ والمقصود منه الزجر فإن كل مكلف لا يحبه الله فإنه من أهل النار لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادة إيصال الثواب إليه. قوله: حَمُولَةً وَفَرْشاً معطوف على جنات أي وأنشأ من الأنعام هذين الجنسين. فالحمولة ما يحمل الأثقال
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 3.
(2) رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 6. البخاري في كتاب الزكاة باب 32، 42. مسلم في كتاب الزكاة حديث 7. الموطأ في كتاب الزكاة حديث 1، 2. أحمد مسنده (2/ 92) .
(3) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 18. الترمذي في كتاب الزكاة باب 38. النسائي في كتاب الزكاة باب 518- 53. الدارمي في كتاب الزكاة باب 21، 22. أحمد في مسنده (2/ 4، 152) .
(3/ 330، 346) .(3/178)
«فعولة» بمعنى «فاعلة» والفرش ما يفرش للذبح أو ينسج من وبره وصوفه وشعره الفرش مصدر بمعنى «مفعول» . وقيل: الحمولة الكبار التي تصلح للحمل، والفرش الصغار كالفصلان والعجاجيل والغنم لأنها دانية من الأرض للطافة أجرامها مثل الفرش المفروش عليها. كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالت المعتزلة: أي مما أحلها لكم وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ لا تسلكوا طريقه الذي يدعوكم إليه في التحليل والتحريم من عند أنفسكم كما فعل أهل الجاهلية. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ بين العداوة. وفي انتصاب ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ وجهان: قال الفراء: هو بدل من قوله: حَمُولَةً وَفَرْشاً. وجوز غيره أن يكون مفعول كُلُوا والعرب تسمي الواحد فردا إذا كان وحده فإذا كان معه غيره من جنسه سمي كل واحد منهما زوجا وهما زوجان، قال عز من قائل: خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى [النجم:
45] وقال: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ثم فسرها بقوله: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ أي زوجين اثنين وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ وفي الآية الثانية: وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قال الجوهري: الضائن خلاف الماعز والجمع يعني اسم الجمع الضأن والمعز مثل راكب وركب وسافر وسفر.
وضأن أيضا مثل حارس وحرس. وقال في الكشاف: إنه قرىء بفتح العين. والضأن ذوات الصوف من الغنم والمعز ذوات الشعر منها قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ نصب بقوله:
حَرَّمَ والاستفهام يعمل فيه ما بعده ولا يعمل فيه ما قبله. ويريد بالذكرين الذكر من الضأن وهو الكبش، والذكر من المعز وهو التيس، وبالأنثيين الأنثى من الضأن وهي النعجة، والأنثى من المعز وهي العنز، وذلك على طريق الجنسية والمشاكلة. ومعنى الاستفهام إنكار أن يحرم الله من جنسي الغنم ضأنها ومعزها شيئا من نوعي ذكورها وإناثها ولا مما يشتمل عليه أرحام الأنثيين أي مما يحمل إناث الجنسين، وكذلك الذكر من جنسي الإبل والبقر يعني الجمل والثور والأنثيان منهما الناقة والبقرة وما يحمل إناثهما وذلك أنهم كانوا يحرّمون ذكور الأنعام تارة وإناثها أخرى وأولادها كيفما كانت ذكورا أو إناثا، أو من خلط تارة وكانوا يقولون: قد حرمها الله فقيل لهم: إنكم لا تقرون بنبوّة نبي ولا شريعة شارع فكيف تحكمون بأن هذا يحل وهذا يحرم؟ وأكد ذلك بقوله: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ أخبروني بأمر معلوم من جهة الله يدل على تحريم ما حرمتم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الله حرمه.
واعلم أنه سبحانه منّ على عباده بإنشاء الأزواج الثمانية من الأنعام لمنافعهم وإباحتها لهم إلا أنه فصل بين بعض المعدود وبعضه بالاحتجاج على من حرمها وليس ذلك بأجنبي وإنما هي جملة معترضة جيء بها تأكيدا وتشديدا للتحليل، فالاعتراضات في الكلام لاتساق إلا للتوكيد، أما قوله: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ ف «أم» منقطعة أي بل أكنتم شهداء ومعناه الإنكار(3/179)
وفحواه أعرفتم التوصية به مشاهدين لأنكم لا تؤمنون بالرسل وتقولون إن الله حرم هذا فلم يبق إلا المشاهدة فتهكم بهم بذلك وسجل عليهم وعلى أمثالهم بالظلم بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فنسب إليه تحريم ما لم يحرم. قال المفسرون: يريد عمرو بن لحي بن قمعة الذي غيّر شريعة إسماعيل عليه السلام وبحّر البحائر وسيّب السوائب.
والأقرب أن اللفظ عام فيتناول كل مفتر وإذا استحق هذا الوعيد على افتراء الكذب في تحريم مباح فكيف إذا كذب على الله تعالى في مسائل التوحيد ومعرفة الذات والصفات والملائكة وفي النبوّات وفي المعاد؟! قال القاضي: في الآية دلالة على أن الإضلال عن الدين مذموم فلا يجوز أن ينسب إلى الله تعالى. وأجيب بأنه ليس كل ما كان مذموما منا كان مذموما من الله تعالى فإن تمكين العبيد من أسباب الفجور وتسليط الشهوة عليهم مذموم منّا دونه إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قال القاضي: لا يهديهم إلى ثوابه وإلى زيادات الهدى التي يختص المهتدى بها. وقالت الأشاعرة: معناه أنه لا ينقل المشركين من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، ثم لما بيّن فساد طريقة الجاهلية فيما يحل ويحرم من المطاعم أتبعه البيان الصحيح في الباب فقال: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً أي طعاما محرما عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ على آكل يأكله إِلَّا أَنْ يَكُونَ ذلك المأكول أو الموجود أو الطعام مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً مصبوبا سائلا. قال ابن عباس: يريد ما خرج من الأنعام وهي أحياء وما خرج من الأوداج عند الذبح فلا يدخل فيه الكبد والطحال لجمودهما، وما يختلط باللحم من الدم فإنه غير سائل. وسئل أبو مجلز عما يتلطّخ باللحم من الدم وعن القدر التي ترى فيها حمرة الدم فقال: لا بأس به إنما النهي عن الدم المسفوح. وباقي الآية ظاهر مما سلف في أمثالها، وانتصاب فِسْقاً على أنه معطوف على المنصوبات قبله، وأُهِلَّ صفة له منصوبة المحل سمي ما أهل به لغير الله فسقا لتوغله في باب الفسق كما يقال: فلان كرم وجود. وجوز أن يكون فِسْقاً مفعولا له من أُهِلَّ وعلى هذا فقد عطف أُهِلَّ على يَكُونَ والضمير في بِهِ يعود إلى ما يرجع إليه المستكن في يَكُونَ قالت العلماء: إن هذه السورة مكية وقد بيّن في الآية أنه لم يجد فيما أوحي إليه قرآنا أو غيره محرما سوى هذه الأربعة، وقد أكد هذا بما في النحل وفي البقرة مصدرة بكلمة «إنما» الدالة على الحصر فصارت المدنية مطابقة للمكية، والذي جاء في المائدة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ إلى قوله: وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ [الآية: 3] من أقسام الميتة ولكنه خص بالذكر لأنهم كانوا يحكمون على تلك الأشياء بالتحليل فثبت أن الشريعة من أولها إلى آخرها كانت مستقرة على هذا الحكم. وعلى هذا الحصر بقي الكلام في الخمر وفي سائر النجاسات(3/180)
والمستقذرات فنقول: إنه سبحانه قد وصف الخمر بأنه رجس وهاهنا علل تحريم لحم الخنزير بكونه رجسا فعلمنا أن النجاسة علة لتحريم الأكل وكل نجس فإنه يحرم أكله، هذا بعد إجماع الأمة على تحريم الخبائث والنجاسات. وإن جوزنا تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد كما
روي أنه صلى الله عليه وآله نهى عن كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور.
فلا إشكال. وقيل: المراد أن وقت نزول هذه الآية لم يكن محرم غير هذه الأربعة وزيف بأن تحريم شيء خامس نسخ والأصل عدمه. ثم بين سبحانه أنه حرم على اليهود أشياء أخر سوى هذه الأربعة فقال: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا وذلك نوعان: الأول أنه حرم عليهم كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وفيه لغات: ضم الفاء والعين وهي الفصحى، وكسرهما وهي قراءة ابن السماك، والضم مع السكون والكسر مع السكون وهي قراءة الحسن، واختلف في ذي الظفر فعن ابن عباس في رواية عطاء أنه الإبل فقط، وعنه في رواية أخرى وهو قول مجاهد أنه الإبل والنعام، وقيل: كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب، وسمي الحافر ظفرا على الاستعارة، وزيف بأن الحافر لا يكاد يسمى ظفرا وبأن البقر والغنم مباحان لهم كما يجيء مع أن لهما حافرا فإذن يجب حمل الظفر على المخلب والبراثن من الجوارح والسباع بل على كل ما له إصبع من دابة وطائر. وكان بعض ذوات الظفر حلالا لهم فلما ظلموا عمم التحريم. فعموم التحريم خاص بهم ولهذا قدم الجار في قوله وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا فيستدل بذلك على حل بعض هذه الحيوانات على المسلمين وهو ما سوى ذات المخلب والناب فيكون الخبر مبينا للآية لا مخالفا كما ظن صاحب التفسير الكبير. النوع الثاني قوله وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما قال في الكشاف: هو كقولك: «من زيد أخذت ماله» تريد بالإضافة يعني إضافة الأخذ إلى زيد بواسطة من زيادة الربط. والمعنى أنه حرم عليهم من كل ذي ظفر كله ومن البقر والغنم بعضهما وذلك شحومهما فقط، هذا أيضا ليس على الإطلاق لقوله: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما قال ابن عباس: إلا ما علق بالظهر من الشحم فإني لم أحرمه. وقال قتادة: إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونها. وقيل: إلا ما اشتمل على الظهور والجنوب من السحفة وهي الشحمة التي على الظهر الملتزقة بالجلد فيما بين الكتفين إلى الوركين. وهي بالحقيقة لحم سمين لأنه يحمر عند الهزال ولهذا لو حلف لا يأكل الشحم فأكل من ذلك اللحم السمين لم يحنث على الأصح. والاستثناء الثاني قوله: أَوِ الْحَوايا قال الجوهري:
الحوايا الأمعاء واحدها حوية وفي معناها حاوية البطن وحاوياء البطن. وقال الواحدي: هي المباعر والمصارين والفحوى، أو ما اشتمل على الأمعاء يعني أن الشحوم الملتصقة بالمباعر والمصارين غير محرمة، والاستثناء الثالث: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ قال جمهور المفسرين:(3/181)
يعني شحم الألية. وقال ابن جريج: كل شحم في القوائم والجنب والرأس وفي العينين والأذنين فإنه مخلوط بعظم فهو حلال لهم. والحاصل أن الشحم الذي حرم الله عليهم هو الثرب وشحم الكلية. وقيل: إن الحوايا غير معطوف على المستثنى وإنما هو معطوف على المستثنى منه والتقدير: حرمنا عليهم شحومهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم إلا ما حملت الظهور فإنه غير محرم. ودخوله كلمة «أو» كدخولها في قوله تعالى: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الدهر: 24] والمعنى كل هؤلاء أهل أن يعصى فاعص هذا واعص هذا فكذا هاهنا المعنى حرمنا عليهم هذا وهذا ذلِكَ الجزاء وهو تحريم الطيبات جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ بسبب قتلهم الأنبياء وأخذهم الربا واستحلالهم أموال الناس بالباطل وغير ذلك من قبائح أفعالهم وَإِنَّا لَصادِقُونَ في هذه الأخبار أو فيما يوعد به العصاة. قال القاضي: نفس التحريم لا يجوز أن يكون عقوبة على جرم صدر عنهم لأن التكليف تعريض للثواب والتعريض للثواب إحسان. وأجيب بأن المنع من الانتفاع يمكن أن يكون لمزيد الثواب ويمكن أن يكون بشؤم الجرم المتقدم فَإِنْ كَذَّبُوكَ في ادعاء النبوّة والرسالة أو في تبليغ الأحكام، وعلى أصول المعتزلة فإن كذبوك في إنجاز إيعاد العصاة وزعموا أن الله واسع الرحمة وأنه يخلف الوعيد جودا وكرما. فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ فلذلك لا يعجل بالعقوبة وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ إذا جاء وقت عذابه عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ يعني المكذبين. وعلى أصولهم رحمته واسعة لأهل طاعته ولا يرد بأسه مع ذلك عن الذين ارتكبوا الكبائر فماتوا قبل التوبة.
ثم حكى أعذار الكفار الواهية فقال: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وإنما جاز العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير أن أكد بالمنفصل لمكان الفصل بعد حرف العطف بلا الزائدة لتأكيد النفي. أخبر الله تعالى بما سوف يقولونه ولما قالوه. قال في سورة النحل: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل: 35] وإنما قال في سورة النحل بزيادة «نحن» و «من دونه» مرتين لأن الإشراك مستنكر مطلقا. فلفظ الإشراك يدل على إثبات شريك لا يجوز إثباته، وعلى تحليل أشياء وتحريم أشياء من دون الله فلم يحتج إلى لفظ من دونه، وأما العبادة فإنها غير مستنكرة على الإطلاق وإنما المستنكر عبادة شيء مع الله سبحانه، ولا تدل على تحريم شيء فلم يكن بد من تقييده بقوله: من دونه ولما حذف من الآية لفظة من دونه مرتين حذف معه نَحْنُ لتطرد الآية في حكم التخفيف. أما تفسير الآية فزعمت المعتزلة أنها تدل على قولهم في مسألة إرادة الكائنات من سبعة أوجه: الأول أن الذي حكى عن الكفار في معرض الذم والتقبيح وذلك قولهم: «لو شاء الله منا أن لا نشرك لم نشرك» هو صريح قول المجبرة(3/182)
فيكون هذا المذهب مذموما. الثاني قوله: كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فلم يذكر المكذب به تنبيها على أنهم جاؤا بالتكذيب المطلق لأن الله عز وعلا ركب في العقول وأنزل في الكتب ما دل على غناه وبراءته من مشيئته القبائح وإرادتها، والرسل أخبروا بذلك فمن علق وجود القبائح من الكفر والمعاصي بمشيئة الله وإرادته فقد كذب التكذيب كله وهو تكذيب الله ورسله وكتبه ونبذ أدلة السمع والعقل وراء ظهره. والحاصل أن هذا طريق متعين لكل الكفار المتقدمين منهم والمتأخرين في تكذيب الأنبياء وفي دفع دعوتهم عن أنفسهم لأنهم يقولون الكل بمشيئة الله تعالى. الثالث قوله: حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا وذلك يدل على أنهم استوجبوا الوعيد من الله تعالى في هذا المذهب. الرابع قوله: قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا وإنه استفهام على سبيل الإنكار أي لا علم لهؤلاء القائلين ولا حجة.
الخامس: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ السادس: وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ السابع: قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ لأنه أزال الأعذار بالتمكين والإقدار فلم يبق لكم على الله حجة وإنما الحجة البالغة له عليكم وذلك أنكم تقولون: لو أتينا بعمل على خلاف مشيئة الله لزم أن يكون الإله عاجزا مغلوبا. وهذا الكلام غير لازم لأن الله قادر على أن يحملكم على الإيمان والطاعة على سبيل القهر والإلجاء إلا أن ذلك يبطل الحكمة المطلوبة من التكليف وهذا هو المراد من قوله: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ وبوجه آخر إن كان الأمر كما زعمتم أن ما أنتم عليه بمشيئة الله فلله الحجة الكاملة عليكم فإن تعليقكم دينكم بمشيئة الله يقتضي أن تعلقوا دين من يخالفكم أيضا بمشيئته فتوالوا جميع أهل الأديان ولا تعادوهم. أجابت الأشاعرة بأنا قد بينا بالدلائل القاطعة من أول القرآن إلى هاهنا صحة مذهبنا فوجب تأويل هذه الآية دفعا للتناقض فنقول: إن القوم كانوا يتمسكون بمشيئة الله تعالى في إبطال دعوة الأنبياء، وفي أن التكليف عبث فبين الله تعالى أن ذلك من تكاذيبهم وأكاذيبهم، وأن التشبث بهذا العذر لا يفيدهم لأنه إله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض لأحد عليه، شاء الكفر من الكافر ومع ذلك بعث الأنبياء وأمر بالإيمان، وورود الأمر على خلاف الإرادة غير ممتنع ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس: أول ما خلق الله القلم فقال: اكتب القدر فجرى بما يكون إلى قيام الساعة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله «المكذبون بالقدر مجوس هذه الأمة» «1»
ثم إن ظاهر آخر الآية معناه وهو قوله: فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ وحمل المشيئة على مشيئة الإلجاء والقسر تعسف والله أعلم. ثم لما أبطل جميع حجج الكفار بين أنه ليس
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 10. [.....](3/183)
لهم على قولهم شهود فقال: قُلْ هَلُمَّ ومعناه إذا كان لازما أقبل وإذا كان متعديا أحضر.
قال الخليل: أصله «هالم» من قولهم لمّ الله شعثه أي جمعه كأنه قال: لمّ نفسك إلينا أي أقرب والهاء للتنبيه واستعطاف المأمور، ثم حذفت ألفها لكثرة الاستعمال وجعلا اسما واحدا يستوي فيه الواحد والجمع والتذكير والتأنيث في لغة أهل الحجاز، وأهل نجد يصرفونها «هلما هلموا هلمي هلممن» والأول أفصح وقد يوصل بإلى كقوله تعالى:
وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا [الأحزاب: 18] وقال الفراء: أصلها «هل أم» أرادوا بهل حرف الاستفهام ومعنى أم اقصد. وقيل: إن أصل استعماله أن قالوا هل لك في الطعام أم أي اقصد. ثم شاع في الكل. أمر الله تعالى نبيه باستدعاء إقامة الشهداء من الكافرين ليظهر أن لا شاهد لهم على تحريم ما حرموه. وإنما لم يقل شهداء يشهدون لأنه ليس الغرض إحضار أناس يشهدون بالتحريم وإنما المراد إحضار شهدائهم الموسومين بالشهادة لهم المعروفين بنصرة مذهبهم ولهذا قال: فَإِنْ شَهِدُوا أي فإن وقعت شهادتهم فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ أي لا تسلم لهم ما شهدوا به ولا تصدقهم لأن شهادتهم محض الهوى والتعصب ولأجل ذلك قال أيضا: وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالتكذيب وليرتب عليه باقي الآية فيعلم أن المتصف بهذه الصفات لا تكون شهادتهم عند العقلاء مقبولة.
التأويل:
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ في القلوب مَعْرُوشاتٍ من شجرة الإسلام والإيمان والإحسان وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ هي الصفات الروحانية التي جبلت القلوب عليها كالسخاء والحياء والوفاء والمودة والفتوة والشفقة والعفة والعلم والحلم والعقل والشجاعة والقناعة ونخل الإيمان وزرع الأعمال الصالحة وزيتون الأخلاق الحميدة ورمان الإخلاص بالشواهد والأحوال مُتَشابِهاً أعمالها وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ أحوالها كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ انتفعوا من ثمار الإيمان والأعمال والإخلاص بالشواهد والأحوال لا بالدعاوى والقيل والقال.
وَآتُوا حَقَّهُ وحقه دعوة الخلق وتربيتهم بالحكمة والموعظة الحسنة ويَوْمَ حَصادِهِ أوان بلوغ السالك مبلغ الرجال البالغين عند إدراك ثمرة الكمال للواصلين دون السالك الذي يتردد بعد بين المنازل والمراحل. وَلا تُسْرِفُوا بالشروع في الكلام في غير وقته والحرص على الدعوة قبل أوانها. وَمِنَ الْأَنْعامِ أي ومن الصفات الحيوانية التي هي مركوزة في الإنسان ما هو مستعد لحمل الأمانة وتكاليف الشرع، ومنها ما هو مستعد للأكل والشرب لصلاح القالب وقيام البشرية. كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ فرزق القلب هو التحقيق من حيث البرهان، ورزق الروح هو المحبة بصدق التحرز عن الأكوان، ورزق السر هو شهود العرفان(3/184)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
يلحظ العيان، فانتفعوا من هذه الأرزاق بقدر ما ينبغي. إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ يخرجكم بالتفريط والإفراط إلى ضد المقصود. ثم إن الصفات الحيوانية ثمان بعضها ذكور وبعضها إناث يتولد منها صفات أخر كلها محمودة إذا استعملت في محالها، وبمقدار ما ينبغي مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ والضأن والمعز من جنس الفرشية كما أن الإبل والبقر من جنس الحمولية. والذكر من الضأن والمعز هما صفة شهوة البطن والفرج والأنثى منهما صفة حسن الخلق عند الاستمتاع بها وصفة التسليم عند تحمل الأذى، والذكر من الإبل والبقر صفتا الظلومية والجهولية، وأنثاهما الحمولية والاستسلام للاستعمال. فبهذه الصفات الإنسانية صار الإنسان حامل أعباء الأمانة التي أبت المكونات عن حملها وهن أيضا حملة عرش القلب فافهم. وقد أحل الله تعالى استعمالها واستعمال المتولد منها على قانون الشريعة والطريقة، ومن زعم أنه يجب تركها وفصلها بالكلية فقد افترى لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا الكلام في نفسه حق وصدق إلا أنهم لما ذكروه في معرض الإلزام دفعا للأذية والآلام كذبوا فيما قالوا والله سبحانه أعلم بالصواب.
[سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 165]
قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)(3/185)
القراآت:
تَذَكَّرُونَ
بتخفيف الذال حيث كان: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد فحذفوا إحدى التاءين. الباقون: بالتشديد لأجل إدغام تاء التفعل في الذال وَأَنَّ هذا بسكون النون: ابن عامر ويعقوب وَأَنَّ هذا بكسر الهمزة وتشديد النون: حمزة وعلي وخلف، الباقون: وَأَنَّ بالفتح والتشديد صِراطِي بفتح الياء: ابن عامر والأعشى والبرجمي فَتَفَرَّقَ بتشديد التاء: البزي وابن فليح أن يأتيهم بالياء التحتانية وكذلك في النحل: علي وحمزة وخلف. الباقون: بالتاء الفوقانية. فارقوا وكذلك في الروم: حمزة وعلي الباقون فَرَّقُوا بالتشديد عَشْرُ بالتنوين أَمْثالِها بالرفع: يعقوب. الباقون بالإضافة رَبِّي إِلى بفتح ياء المتكلم: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع، قِيَماً بكسر القاف وفتح الياء: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل. الباقون: بالعكس مع تشديد الباء. مَحْيايَ بالسكون مَماتِي بالفتح: أبو جعفر ونافع. الباقون: بالعكس.
وَأَنَا أَوَّلُ بالمد: نافع وأبو جعفر.
الوقوف:
شَيْئاً ط للحذف أي وأحسنوا بالوالدين إِحْساناً ج لابتداء النهي مع احتمال العطف أي وأن لا تقتلوا، مِنْ إِمْلاقٍ ط. وَإِيَّاهُمْ ج للعطف مع العارض.
وَما بَطَنَ ط للفصل بين الحكمين المعظمين مع اتفاق الجملتين بِالْحَقِّ ط لانتهاء بيان الأحكام إلى توكيد الإيصاء للأحكام تَعْقِلُونَ هـ أَشُدَّهُ
ج للفصل بين الحكمين بِالْقِسْطِ
ط لاحتمال ما بعده الحال أو الاستئناف ذا قُرْبى
ج لتناهي جواب «إذا» وتقدّم مفعول أَوْفُوا
تَذَكَّرُونَ
هـ لمن قرأ وَأَنَّ هذا بالكسر. فَاتَّبِعُوهُ ج للفصل بين النقيضين معنى مع الاتفاق نظما. عَنْ سَبِيلِهِ ط تَتَّقُونَ هـ يُؤْمِنُونَ هـ تُرْحَمُونَ هـ لا لأن التقدير فاتبعوه لئلا تقولوا مِنْ قَبْلِنا ص. لَغافِلِينَ هـ لا للعطف أَهْدى مِنْهُمْ(3/186)
ج للفاء مع أن «قد» لتوكيد الابتداء. وَرَحْمَةٌ ج للاستفهام مع الفاء وَصَدَفَ عَنْها ط يَصْدِفُونَ هـ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ ط خَيْراً ط مُنْتَظِرُونَ هـ فِي شَيْءٍ ط يَفْعَلُونَ هـ أَمْثالِها ج لابتداء شرط آخر مع العطف لا يُظْلَمُونَ هـ مُسْتَقِيمٍ ج لاحتمال أن دِيناً نصب على البدل من محل إِلى صِراطٍ أو على الإغراء أي الزموا.
حَنِيفاً ج لابتداء النفي مع اتحاد المعنى الْمُشْرِكِينَ هـ الْعالَمِينَ هـ لا. لا شَرِيكَ لَهُ ج الْمُسْلِمِينَ هـ كُلِّ شَيْءٍ ط لانتهاء الاستفهام إلى الإخبار إِلَّا عَلَيْها ج لتفصيل الأمرين على التهويل مع اتفاق الجملتين أُخْرى ج لأنّ «ثم» لترتيب الإخبار مع اتحاد المقصود تَخْتَلِفُونَ هـ آتاكُمْ ط الْعِقابِ ز للتفصيل بين تحذير وتبشير والوصل للعطف أوضح رَحِيمٌ هـ.
التفسير:
لما بين فساد ما يقوله الكفار في باب التحليل والتحريم أتبعه البيان الشافي في الباب فقال: قُلْ تَعالَوْا وهو من الخاص الذي صار عاما لأن أصله أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه. و «ما» في قوله: ما حَرَّمَ إما منصوب بفعل التلاوة أي أتل الذي حرمه ربكم فالعائد محذوف. وقوله: عَلَيْكُمْ يكون متعلقا ب أَتْلُ أو ب حَرَّمَ وإما منصوب ب حَرَّمَ على أن «ما» استفهامية فلا راجع. والمعنى أقل أي شيء حرم لأن التلاوة نوع من القول وتقديم المفعول للتخصيص. فإن قيل: قوله أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً كالتفصيل لما أجمله في قوله: ما حَرَّمَ فيلزم أن يكون ترك الشرك والإحسان إلى الوالدين محرما. فالجواب أن المراد من التحريم البيان المضبوط، أو الكلام تم عند قوله: ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ ثم ابتدأ فقال: عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا أو «أن» مفسرة أي ذلك التحريم هو قوله: أَلَّا تُشْرِكُوا وهذا في النواهي واضح، وأما الأوامر فيعلم بالقرينة أن التحريم راجع إلى أضدادها وهي الإساءة إلى الوالدين وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله. ولا يجوز أن يجعل «أن» ناصبة وإلا لزم عطف الطلب أعني الأمر على الخبر. واعلم أنه سبحانه بيّن فرق المشركين في هذه السورة أحسن بيان، وذلك أن منهم من يجعل الأصنام شركاء لله تعالى فأشار إليهم بقوله:
وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً [الأنعام: 74] ومنهم عبدة الكواكب الذين أبطل قولهم بقوله: لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ [الأنعام: 76] ومنهم القائلون بيزدان وأهرمن ومنهم الذين يقولون الملائكة بنات الله والمسيح ابن الله وزيف معتقدهم بقوله: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام: 100] ثم عمم النهي بقوله: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً ثم حث على إحسان الوالدين وكفى به خصلة شريفة أن جعله(3/187)
تاليا لتوحيده. ثم أوجب رعاية حقوق الأولاد بعد رعاية حقوق الوالدين. ومعنى مِنْ إِمْلاقٍ أي من خوف الفقر كما صرح بذلك في الآية الأخرى وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء: 31] كانوا يدفنون البنات أحياء بعضهم للغيرة وبعضهم لخوف الإملاق وهو السبب الغالب فلذلك أزيل ذلك الوهم بقوله: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ فكما يجب على الوالد الاتكال في رزق نفسه على الله فكذا القول في حال الولد، قال شمر: أملق لازم ومتعد. أملق الرجل إذا افتقر، وأملق الدهر ما عنده إذا أفسده. وإنما قال هاهنا: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وقال في سبحان بالعكس لأن التقدير في الآية من إملاق بكم نحن نرزقكم وإياهم، وهناك زيدت الخشية التي تتعلق بالمستقبل فالتقدير خشية إملاق يقع بهم نحن نرزقهم وإياكم، ثم نهى عن قربان الفواحش كلها. ومعنى ما ظهر منها وما بطن كما مر في قوله: وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ [الأنعام: 120] وفيه أن الإنسان إذا احترز عن المعصية في الظاهر ولم يحترز عنها في الباطن دل على أن احترازه عنها ليس لأجل عبودية الله تعالى وامتثال أمره ولكن لأجل الخوف من مذمة الناس. ثم أفرز من جملة الفواحش قتل النفس المحرمة تنبيها على فظاعتها ولما نيط بها من الاستثناء وهو قوله إِلَّا بِالْحَقِّ وذلك أن قتل النفس المحرمة قد يكون حقا لجرم صدر عنها كما جاء في الحديث «لا يحل دم امرئ مسلم إلا لإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير حق» «1» وينخرط في سلكه جزاء قاطع الطريق. والحاصل أن الأصل في قتل النفس هو الحرمة وحله لا يثبت إلا لأمر منفصل. ثم لما بيّن النواهي الخمسة أتبعه الكلام الذي يقرب إلى القلوب القبول فقال:
ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ لما في لفظ التوصية من الرأفة والاستعطاف. ومعنى لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تعقلوا فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا. ثم ذكر أربعة أنواع أخر من التكاليف وذلك قوله: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي
أي بالخصلة أو الطريقة التي هِيَ أَحْسَنُ
وهي السعي في تثميره وإنمائه ورعاية وجوه الغبطة لأجله كما مر في أول سورة النساء حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ
أي احفظوا ماله إلى هذه الغاية أي أوان الاحتلام ولكن بشرط أن يؤنس منه الرشد. قال الفراء: واحد الأشد شدته في القياس ولم يسمع. وقال أبو الهيثم:
الواحد شدّة كأنعم في نعمة، والشدّة القوّة ومنه قولهم: «بلغ الغلام شدّته» . وقيل: إنه واحد جاء على بناء الجمع كآنك ولا نظير لهما وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ
بالعدل
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الديات باب 10. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. النسائي في كتاب القسامة باب 6، 14. الدارمي في كتاب السير باب 11.(3/188)
والسوية. وإيفاء الكيل إتمامه خلاف البخس. وقوله: وَالْمِيزانَ
أي الوزن بالميزان. فإن قيل: إيفاء الكيل والوزن هو عين القسط فما فائدة التكرار؟ قلنا: أمر الله المعطى بإيفاء إيتاء ذي الحق حقه من غير نقصان وأمر صاحب الحق بأخذ حقه من غير طلب الزيادة. ثم قال:
لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها
ليعلم أن الواجب هو القدر الممكن من العدالة والسوية لا التحقيق المؤدي إلى الحرج والعسر. فزعمت المعتزلة هاهنا أن هذا القدر من التضييق حيث لم يجوزه الله تعالى فكيف يكلف الكافر الإيمان مع أنه لا قدرة له عليه أو يخلق القدرة الموجبة للكفر والداعية المقتضية له ثم ينهاه عنه وعورض بالعلم والداعي كما تقدّم مرارا وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ
المقول له أو عليه ذا قُرْبى
حمله المفسرون على أداء الشهادة وعلى الأمر والنهي والأولى أن يحمل على الأقوال كلها ويدخل فيه قول الرجل في الدعاء إلى الدين. وتقرير الدلائل عليه بأن يذكر الدليل مخلصا عن الحشو ومبرأ عن النقص ومجردا عن العصبية والجدال على مقتضى الهوى والتشهي، وكذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكذا الحكاية والرواية والرسالة. وحكم الحاكم بحيث يستوي فيه بين القريب والبعيد ولا ينظر إلا إلى رضا الله، وختم الأوامر بقوله: وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
كما قال:
أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة: 1] ويندرج في هذه الخاتمة بالحقيقة جميع الأنواع المذكورة وَأَنَّ هذا صِراطِي من قرأ بالفتح والتخفيف فبإعماله في ضمير الشأن والتقدير: تعالوا أتل ما حرم وأتل أنه هذا صراطي، وكذا فيمن قرأ بالتشديد وبالفتح إلا أن ضمير الشأن لا يقدر.
وإن شئت جعلتها خفضا متعلقا بما قبله أي ذلكم وصاكم به وبأن هذا، أو بما بعده والتقدير وبأن هذا صراطي مستقيما فَاتَّبِعُوهُ ومن كسر فلأن التلاوة في معنى القول أو على الاستئناف والمعنى اتبعوا صراطي أنه مستقيم وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ المختلفة في الدين من اليهودية والنصرانية والمجوسية وسائر البدع والضلالات فَتَفَرَّقَ بِكُمْ الباء للتعدية أي فيفرقكم ذلك الأتباع عَنْ سَبِيلِهِ المستقيم وهو دين الإسلام.
وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله أنه خط خطا ثم قال: هذا سبيل الرشد. ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطا ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا هذه الآية.
فهذه الآية بالحقيقة إجمال لما في الآيتين المتقدمتين ولهذا ختمها بالتقوى التي هي ملاك العمل وخير الزاد وختم الأولى بقوله لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لأنها أمور ظاهرة جلية يكفي في تعقلها أدنى مسكة وعقل، وختم الثانية بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
لأن المذكور فيها أمور خفية تحتاج إلى التدبر والتذكر حتى يقف فيها على موضع الاعتدال. أو نقول: الأمور الخمسة المذكورة في الآية الأولى كلها عظام جسام وكانت الوصية بها من أبلغ الوصايا فختم الآية(3/189)
بما في الإنسان من أشرف السجايا وهو العقل الذي امتاز به الإنسان عن سائر الحيوان، وأما المذكورة في الثانية فأشياء يقبح تعاطيها وارتكابها وكانت الوصية بها تجري مجرى الزجر والوعظ فختمها بقوله: تَذَكَّرُونَ
أي تتعظون بمواعظ الله تعالى.
قوله: ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ معطوف على وَصَّاكُمْ فسئل كيف صح عطفه عليه بثم والإيتاء قبل الوصية بدهر طويل؟ وأجيب بأن التكاليف التسعة المذكورة تكاليف لا تختلف بحسب اختلاف الشرائع كما روي عن ابن عباس أن هذه الآيات محكمات لم ينسخهن شيء من جميع الكتب، وقيل: إنهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة ومن تركهن دخل النار، وعن كعب الأحبار: والذي نفس كعب بيده إن هذه الآيات لأول شيء في التوراة. وأما الشرائع التي كانت التوراة مختصة بها فهي إنما حدثت بعد تلك التكاليف التسعة فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديما وحديثا، ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى الكتاب وأنزلنا هذا الكتاب المبارك. وقيل: إن في الآية حذفا تقديره: ثم قل يا محمد صلى الله عليه وآله إنا آتينا. والمعنى اتل ما أوحي إليك ثم اتل عليهم خبر ما آتينا موسى. وقيل: هو معطوف على ما تقدم قبل شطر السورة من قوله: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [الأنعام: 84] وقوله: تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ مفعول له أي لتتم نعمتنا على الذي أحسن أي على من كان محسنا صالحا، أو المراد إتماما للنعمة والكرامة على العبد الذي أحسن الطاعة في التبليغ وكل ما أمر به، أو تماما على الذي أحسن موسى من العلم والشرائع من أحسن الشيء إذا أجاد معرفته أي زيادة على علمه. وقرىء أَحْسَنَ بالرفع أي على الدين الذي هو أحسن دين وأرضاه وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فيدخل في ذلك بيان نبوة رسولنا صلى الله عليه وآله وصحة دينه وشرعه وَهُدىً دلالة وَرَحْمَةً لكي يؤمنوا بلقاء ما وعدهم ربهم به من ثواب وعقاب وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ لا شك أنه القرآن مُبارَكٌ كثير الخير والنفع أو ثابت لا يتطرق إليه النسخ كما في الكتابين فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لكي ترحموا لأن الغرض من التقوى رحمة الله تعالى، أو اتقوا لترحموا جزاء على التقوى، أو اتقوا مخالفته على رجاء الرحمة. قال الفراء قوله: أَنْ تَقُولُوا مفعول وَاتَّقُوا وقال الكسائي: التقدير: إنا أنزلناه لئلا تقولوا. وقال البصريون: إنا أنزلناه كراهة أن تقولوا والخطاب لأهل مكة إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ أي التوراة والإنجيل عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا اليهود والنصارى وَإِنْ كُنَّا هي المخففة من الثقيلة واللام في لَغافِلِينَ هي الفارقة بينها وبين النافية والأصل وإنه كنا ومعنى الدراسة القراءة. وإنما قالوا: لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ لحدة أذهانهم وكثرة حفظهم لأيام العرب ووقائعها وخطبها وأشعارها وأمثالها مع كونهم أميين(3/190)
قطع الله عذرهم بإنزال القرآن عليهم. ثم قال: فَقَدْ جاءَكُمْ أي إن صدقتم أن عدم إنزال الكتاب يصلح للعذر وأنه لو أنزل عليكم الكتاب لكنتم أهدى منهم فقد جاءكم بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فيما يعلم سمعا وَهُدىً فيما يعلم سمعا وعقلا وَرَحْمَةٌ من الله في إصلاح المعاش والمعاد فَمَنْ أَظْلَمُ بعد هذه المعجزات والبينات مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها أي منع غيره منها لأن الأول ضلال والثاني إضلال، ثم ختم الآية بأشد الوعيد وأبلغ التهديد ثم ذكر أنهم بعد نصب الأدلة وإزاحة العذر لا يؤمنون البتة، وشرح أحوالا توجب المبادرة إلى الإيمان والتوبة فقال: هَلْ يَنْظُرُونَ أي ينتظرون ومعنى الاستفهام النفي وتقدير الآية إنهم لا يؤمنون بك إلا عند مجيء أحد هذه الأمور: مجيء الملائكة، أو مجيء الرب ويعني به عذابه وبأسه كما سلف في البقرة، أو مجيء المعجزات القاهرة. قال في الكشاف:
الملائكة ملائكة الموت أو ملائكة العذاب ومجيء الرب مجيء كل آية، ثم قال: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ وأجمعوا على أن المراد بهذه الآيات علامات القيامة.
عن البراء بن عازب قال: كنا نتذاكر أمر الساعة إذ أشرف النبي صلى الله عليه وآله فقال: «أتتذاكرون الساعة؟ إنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان ودابة الأرض وخسفا بالمشرق وخسفا بالمغرب وخسفا بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأجوج ومأجوج ونزول عيسى ونارا تخرج من عدن» «1»
والمراد أنه إذا بدت أشراط الساعة ذهب أوان التكليف عندها فلم ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل، ولا نفسا ما كسبت في إيمانها خيرا. ثم أوعدهم بقوله قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وآله بقوله: إن الذين فارقوا دينهم أو فرقوا ومعنى القراءتين في الحقيقة واحد لأن الذي فرق دينه بمعنى أنه أقر ببعض وكفر ببعض فقد فارقه أي تركه. قال ابن عباس: يريد أن المشركين بعضهم يعبدون الملائكة ويقولون إنهم بنات الله، وبعضهم يعبدون الأصنام ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فصاروا شيعا أي فرقا وإخوانا في الضلالة. والشيعة كل فرقة تشيع إماما لها. وقال مجاهد وقتادة: هم اليهود والنصارى تفرقوا فرقا وكفر بعضهم بعضا وأخذوا بعضا وتركوا بعضا كقوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ [البقرة: 85] وعن مجاهد أيضا أنهم من هذه الأمة وهم أهل البدع والشبهات
وفي الحديث «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة- كلها في الهاوية إلا واحدة وهي الناجية- وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة- كلها في الهاوية إلا واحدة. وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين كلها في الهاوية
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الملاحم باب 12. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 28.(3/191)
إلا واحدة» «1»
لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ أي إنك بعيد من أقوالهم ومذاهبهم والعقاب اللازم على تلك الأباطيل مقصور عليهم لا يتعداهم إليك. وقال السدي: معناه لم تؤمر بقتالهم فلما أمر بقتالهم نسخ. ويحتمل أن يقال: إن النهي عن القتال في وقت لا ينافي الأمر في وقت آخر فلا نسخ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ بالاستئصال والإهلاك ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ وفيه من الوعيد ما فيه. وفي الآية حث على أن كلمة المسلمين يجب أن تكون واحدة ليستأهلوا الثواب الجزيل كما قال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ هي لا إله إلا الله والسيئة الشرك. والأولى حملها على العموم فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها أقام صفة الجنس المميز مقام الموصوف تقديره: عشر حسنات أمثالها كقراءة من قرأ عَشْرُ أَمْثالِها بالرفع والتنوين، قيل: هذا أقل الموعود وقد وعد سبعمائة وبغير حساب. وقيل: ليس المراد التحديد بل أراد الأضعاف مطلقا كقول القائل: لئن أسديت إليّ معروفا لأكافئنك بعشرة أمثاله. وفي الوعيد لئن كلمتني واحدة لأكلمنك عشرا.
روى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وآله قال عن الله تعالى: «الحسنة عشر أو أزيد والسيئة واحدة أو أغفر فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره» وقال صلى الله عليه وآله يقول الله تعالى: «إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة وإن لم يعملها فإن عملها فعشر أمثالها وإن هم بسيئة فلا تكتبوها فإن عملها فسيئة» «2»
وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ أي لا ينقص من ثواب طاعاتهم ولا يزاد على عقاب سيآتهم. أسئلة: ما الحكمة في الأضعاف؟ جوابه كان للأمم أعمار طويلة وطاعات كثيرة فوضع الله لهذه الأمة ليلة القدر حيرا من ألف شهر وأضعاف الأعمال مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ [البقرة: 261] إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [الزمر: 10] وأيضا لو أن الخصماء يتعلقون بهم يوم القيامة فيذهبون بأعمالهم إلى أن تبقى الأضعاف فيقول الله أضعافهم ليست من فعلهم هي من رحمتي فلا أقتص منهم أبدا. آخر: كيف يوجب الكفر عقاب الأبد؟ جوابه أن الكافر كان على عزم الكفر لو عاش أبدا فاستحق العقاب الأبدي بناء على ذلك الاعتقاد بخلاف المسلم المذنب فإنه يكون على عزم الإقلاع فلا جرم تكون عقوبته منقطعة، وأيضا الذي جهله الكافر وهو ذات القديم سبحانه وصفاته شيء لا نهاية له فيكون جهله لا يتناهى فكذا عقابه.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب 1. الترمذي في كتاب الإيمان باب 18. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 17. أحمد في مسنده (2/ 332) (3/ 120، 145) .
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 203، 204. الترمذي في كتاب تفسير سورة 6 باب 10. أحمد في مسنده (1/ 227، 242) .(3/192)
آخر: إعتاق الرقبة الواحدة تارة جعل بدلا عن صيام ستين يوما وهو في كفارة الظهار وتارة بدلا عن صيام أيام قلائل. آخر: أحدث في رأس إنسان موضحتين فوجب أرشان فإن عاد ورفع الحاجر بينهما صار الواجب أرش موضحة واحدة فههنا ازدادت الجناية وقل العقاب.
آخر: قد يجتمع بسبب أطراف تبان ولطائف تزال ديات متعددة إذا حصل الاندمال، وقد ترتقي إلى نيف وعشرين. الأذنان أو إبطال حسهما، العينان أو البصر، الأجفان، المارن، الشفتان، اللسان أو النطق، الأسنان، اللحيان، اليدان، الذكر والأنثيان، الحلمتان، الشفران، الإليتان، الرجلان، العقل، السمع، الشم، الصوت، الذوق، الإمناء أو الإحبال، إبطال لذة الجماع، إبطال لذة الطعام، الإفضاء، البطش، المشي. وقد تضاف إليها موجبات الجوائف والمواضح وسائر الشجات. فإن عاد الجاني قبل الاندمال وحز الرقبة أوقده بنصفين لم يجب إلّا دية النفس، وكل ذلك يدل على أن رعاية المماثلة غير معتبرة في الشرع. والجواب عن الأسئلة الثلاثة أن هذه الأمور من تعبدات الشرع المطهر وتحكماته فلا سبيل بعقولنا إليها. ويمكن أن يجاب عن الثالث بأن بدل الأطراف لما لم يستقر بالاندمال دخل في دية النفس لعسر ضبط ذلك والجزاء الحقيقي موكول إلى يوم الجزاء والله أعلم. قال أهل السنة: كل الثواب تفضل من الله تعالى فلا إشكال. وقالت المعتزلة: إن بين الثواب والتفضل فرقا لأن الثواب هو المنفعة المستحقة والتفضل هو المنفعة التي لا تكون مستحقة. ثم اختلفوا فقال الجبائي: العشرة تفضل والثواب غيرها إذ لو كان الواحد ثوابا والتسعة تفضلا لزم أن يكون الثواب دون التفضل فلا يكون للتكليف فائدة. وقال آخرون:
لا يبعد أن يكون الواحد ثوابا إلا أنه يكون أعلى شأنا من التسعة الباقية. ثم لما علم رسوله صلى الله عليه وآله أنواع الدلائل والرد على أصناف المشركين وبالغ في تقرير إثبات القضاء والقدر وردّ على أهل الجاهلية أباطيلهم أمره بأن يقول: إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي ليعلم أن الهداية لا تحصل إلا بالله عز وجل. وقيما «فيعل» من قام كسيد من ساد. ومن قرأ قيما فعلى أنه مصدر بمعنى القيام كالصغر والكبر وصف به للمبالغة ومِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان وحَنِيفاً حال من إبراهيم أو من الملة، والمعنى هداني وعرفني ملة إبراهيم حال كونه أو كونها موصوفا بالحنيفية. ثم قال في صفة إبراهيم: وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ردا على من زعم عليه شيئا من ذلك.
ثم كما عرفه الدين القويم والطريق المستقيم علمه كيف يصنع به ويؤديه فقال: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي أي عبادتي وتقربي إليه كما روى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال:
النسك سبائك الفضة كل سبيكة منها نسيكة. وقيل: للمتعبد ناسك لأنه خلص نفسه من(3/193)
دنس الآثام وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث. وقيل: المراد بالنسك هاهنا الذبائح جمع بين الصلاة والذبح كما في قوله: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ [الكوثر: 2] وقيل: صلاتي وحجي أخذا من مناسك الحج. وَمَحْيايَ وَمَماتِي أي حياتي وموتي مصدران ميميان.
وقال في الكشاف: المراد وما آتيه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح. وفيه أنه لا يكفي في العبادات أن يؤتى بها كيف كانت بل لا بد أن يكون جميع حركات المرء وسكناته لله رب العالمين وَبِذلِكَ من الإخلاص أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ لأن إسلام كل نبي متقدم على إسلام أمته. وقال في التفسير الكبير: إنه تعالى أمر رسوله أن يبين أن صلاته وسائر عباداته وحياته ومماته كلها واقعة بخلق الله تعالى وتقديره وقضائه، وحكمه وذلك أن المحيا والممات بخلق الله فكذا الصلاة والنسك وبذلك من التوحيد أمرت، ثم لما أمر نبيه بالتوحيد المحض أمره أن يذكر ما يجري مجرى الدليل عليه فقال: قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وتقريره أن طوائف المشركين من عبدة الأصنام والكواكب ومن اليهود والنصارى والثنوية كلهم معترفون بأن الله تعالى خالق الكل فكأنه سبحانه قال: قل يا محمد منكرا أغير الله أطلب ربا مع أن هؤلاء الذين اتخذوا من دونه آلهة مقرون بأنه خالق تلك الأشياء ولا يدخل في العقل جعل المربوب والعبد شريكا للرب والمولى. وبوجه آخر الموجود إما واجب لذاته أو ممكن لذاته، وقد ثبت أن الواجب لذاته واحد وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته فهو إذن رب كل شيء، وصريح العقل شاهد بأن المربوب لا يكون شريكا للرب فلا يختص إذن بالربوبية غيره. ثم لما بين الدليل القاطع على التوحيد ذكر أنه لا يرجع إليه من كفرهم وشركهم ذم ولا عقاب فقال وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها ومعناه أن إثم الجاني عليه لا على غيره وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم نفس أخرى وهذا كالرد لقولهم: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: 12] ثم بين أن رجوع هؤلاء المشركين إلى موضع لا حاكم هناك إلا الله تعالى فقال: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ثم ختم السورة ببيان حال المبدإ والوسط والمعاد على سبيل الإجمال فقال وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ قيل: الخطاب لبني آدم لأنه جعلهم بحيث يخلف بعضهم بعضا. وقيل:
لأمة محمد صلى الله عليه وآله لأنه خاتم النبيين فخلفت أمته سائر الأمم، وقيل: لخواص الأمة الذين هم خلفاء الله في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها بالحق كقوله: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ [ص: 26] وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في الشرف والعقل والجاه والمال والرزق لا للعجز والبخل ولكن لأجل شبه(3/194)
الابتلاء والامتحان، ولظهور الموفر من المقصر وتميز المطيع من العاصي حسب ما تقتضيه الحكمة والعدالة والتدبير والتقدير. ثم وصف نفسه بالقدرة الكاملة على إيصال العقاب وإيفاء الثواب فقال إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فأدخل اللام في قرينة الترغيب وأسقطها عن قرينة الترهيب ترجيحا لجانب الرحمة والغفران فإن اللطف والرحمة تفيض عنه بالذات والقهر والتعذيب يصدر عنه بالعرض لأن ذلك من ضروريات الملك ولهذا
قال «سبقت رحمتي غضبي»
وإنما وصف العقاب بالسرعة لأن كل ما هو آت قريب.
وإنما لم يسقط اللام عن قرينة العقاب في سورة الأعراف في قصة أصحاب السبت لأن ذلك قد ورد عقيب ذكر المسخ فناسب التأكيد باللام، وإنما أخر قرينة الرحمة في الموضعين ليقع ختم الكلام على المغفرة والرحمة فيكون أدل على كمال رأفته ووفور إحسانه.
التأويل:
مِنْ إِمْلاقٍ فيه ترك التوكل على الله وعدم الثقة بالله وَأَوْفُوا الْكَيْلَ
أوفوا بكيل العمر وميزان الشرع حقوق الربوبية واستوفوا بكيل الاجتهاد وميزان الاقتصاد حظوظ العبودية من الألوهية. وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا
بأن لا تعبدوا ولا تحبوا ولا تروا إلا إياه وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً إشارة إلى أن الصراط المستقيم الحقيقي إلى الله تعالى هو صراط محمد صلى الله عليه وسلم تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ أي على من أحسن من أمتك إسلامه. وفيه أن الكتب المنزلة كلها وشرائع الأنبياء كانت تتمة للدين الحنيفي الذي هو الإسلام، ولهذا أمر بأن يقتدى بالأنبياء ليجمع بين هداه وهداهم. ويحتمل أن يراد بالذي أحسن النبي صلى الله عليه وآله والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ وبركته أنه أنزل على قلبه فكان خلقه القرآن فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ ما يبين لكم طريق السير إلى الله ومهدي ما يهديكم إلى الله أتم وأكمل مما جاء في الكتابين وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام: 59] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ عيانا وتسوقيهم إلى الله قهرا والجاء أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ إليهم إذ لم يأتوا إليه في متابعتك قُلِ انْتَظِرُوا للمستحيلات إِنَّا مُنْتَظِرُونَ للميعاد في المعاد إن الذين فارقوا الدين الحقيقي الذي فيه كمالية الإنسان وَكانُوا شِيَعاً فرقا مختلفة من المبتدعة والزنادقة والمتزيدة رياء وسمعة وعلماء السوء وملحدة المتفلسفة لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ لأنك على الحق وهم على الباطل وبينهما تضاد إنما أمرهم إلى الله في بدء الخلقة وقسم الاستعداد كما شاء ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ يوم الجزاء بما يستحقه كل منهم مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها قبل ذلك حتى يقدر على الإتيان بتلك الحسنة وهي حسنة الإيجاد من العدم، وحسنة الاستعداد حيث خلقه في أحسن تقويم، وحسنة التربية وحسنة الرزق وحسنة بعثة الرسل وحسنة إنزال الكتب، وحسنة تبيين الحسنات من السيئات، وحسنة التوفيق للحسنة(3/195)
وحسنة الإخلاص في الإحسان، وحسنة قبول الحسنات وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها لأن السيئة بذر يزرع في أرض النفس والنفس خبيثة لأنها أمارة بالسوء، والحسنة بذر يزرع في أرض القلب والقلب طيب وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: 58] والتحقيق أنه كما للأعداد ثلاث مراتب الآحاد والعشرات والمئات وبعد ذلك تكون الألوف إلى حيث لا يتناهى، فكذلك للإنسان أربع مراتب: النفس والقلب والروح والسر. فالعمل الواحد في مرتبة النفس أي إذا صدر عنها يكون واحدا، وفي مرتبة القلب يكون بعشر أمثالها، وفي مرتبة الروح يكون بمائة، وفي مرتبة السر يكون بألف إلى أضعاف كثيرة بقدر صفاء السر وخلوص النية إلى ما لا يتناهى، وهذا سر ما جاء في القرآن والحديث من تفاوت جزاء الحسنات والله تعالى أعلم ورسوله.
قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي من أسفل سافلين القالب بجذبة العناية الأزلية وَنُسُكِي أي سيري على منهاج «الصلاة معراج المؤمن» وَمَحْيايَ أي حياة قلبي وروحي وَمَماتِي أي موت نفسي لطلب رَبِّ الْعالَمِينَ والوصول إليه وَأَنَا أَوَّلُ المستسلمين عند الإيجاد لأمر «كن» كما قال: «أول ما خلق الله نوري» . قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ كيف أطلب غير الله وهو حبيبي والمحب لا يطلب إلا الحبيب وإذا هو رب كل شيء فيكون ما له لي، وإن طلبت غيره دونه يكون ذلك الغير علي لا لي كما قال وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها لأن النفس أمارة بالسوء والسوء عليها لا لها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فإن كان القلب سليما من كدورات صفات النفس باقيا على ما جبل عليه من حب الله تعالى وطلبه لا يؤاخذ بمعاملة النفس ولا يتألم بعذابها وإنما تكون النفس فقط مأخوذة بوزرها معاقبة بما هي أهله، وإن كان القلب منقلب الحال وأزاغه الله تعالى بإصبع القهر إلى محاذاة النفس فتصدأ مرآة القلب بصفات النفس وأخلاقها فيتبع النفس وهواها فيزول عنه الصفاء والطهارة والسلامة والذكر والفكر والتوحيد والإيمان والتوكل والصدق والإخلاص ورعاية وظائف العبودية فيكون مأخوذا بوزره لا بوزر غيره وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ كل واحد من بني آدم وقته خليفة ربه في الأرض. وسر الخلافة أن صوره على صفات نفسه حيا قيوما سميعا بصيرا عالما قادرا مريدا متكلما وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في استعداد الخلافة لِيَبْلُوَكُمْ ليظهر من المتخلق بأخلاقه منكم القائم به وبأوامره في العباد والبلاد، ومن الذي رجع القهقرى إلى صفات البهائم وأبطل الاستعداد للخلافة بالختم والطبع والحبس في سجين الطبيعة لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن وفقه لمرضاته ورفع درجاته الله حسبي.(3/196)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
(سورة الأعراف)
(مكية إلا خمس آيات) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ إلى قوله:
وَقَطَّعْناهُمُ حروفها 14210 كلماتها 3325، آياتها مائتان وست.
تفسير سورة الأعراف
[سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4)
فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)
القراآت:
يتذكرون بياء الغيبة ثم تاء التفعل: ابن عامر. والباقون كما مر في آخر الأنعام.
الوقوف:
المص هـ كوفي لِلْمُؤْمِنِينَ هـ أَوْلِياءَ ط تَذَكَّرُونَ هـ قائِلُونَ هـ ظالِمِينَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ لا للعطف غائِبِينَ هـ الْحَقُّ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب الْمُفْلِحُونَ هـ يَظْلِمُونَ هـ مَعايِشَ ط تَشْكُرُونَ هـ.
التفسير:
قد تقدم في أول الكتاب مباحث هذه المقطعة على سبيل العموم. وعن ابن عباس معنى المص أنا الله أعلم وأفصل. وقال السدي: معناه أنا المصوّر. وقيل: معناه ألم نشرح لك صدرك بدليل فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ كما زاد في الرعد راء لقوله بعده رَفَعَ السَّماواتِ [الآية: 2] ثم إن جعلنا هذه الحروف بدل جملة فلا محل لها من(3/197)
الإعراب، وإن كانت اسما للسورة جاز أن يكون المص مبتدأ وكِتابٌ يعني به السورة خبره والجملة بعده صفة له، وجاز أن يكون المص خبر مبتدأ محذوف وكذا كِتابٌ أي هذه المص هو كتاب أنزل إليك. والدليل على أنه منزل من الله تعالى هو أنه ما تلمذ لأستاذ ولا تعلم من معلم ولا طالع كتابا ولم يخالط أهل الأخبار والأشعار وقد مضى على ذلك أربعون سنة ثم ظهر عليه هذا الكتاب المشتمل على علوم الأولين والآخرين فلن تبقى شبهة في أنه مستفاد بطريق الوحي. القائلون بخلق القرآن زعموا أن الإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال وهذا من سمات المحدثات. وأجيب بأن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز هو الحروف والألفاظ ولا نزاع في كونها محدثة مخلوقة. فإن قيل: الحروف أعراض غير باقية بدليل أنه لا يمكن الإتيان بها إلا على سبيل التوالي وعدم الاستقرار فكيف يعقل وصفها بالنزول؟ أجيب بأنه تعالى أحدث هذه الرقوم في اللوح المحفوظ ثم إن الملك طالع تلك النقوش وحفظها ونزل فعلمها محمدا صلى الله عليه وآله.
ثم قال: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ أي شك. وسمي الشك حرجا لأن الشاك ضيق الصدر حرج كما أن المتيقن منفسح الصدر منشرح، ومعنى مِنْهُ أي من شأن الكتاب أي لا تشك في أنه منزل من عند الله أو من تبليغه أي لا يضق صدرك من الأداء وتوجه النهي إلى الحرج كقولهم لا أرينك هاهنا والمراد نهيه عن الكون بحضرته فإن ذلك سبب رؤيته ومثله قوله تعالى وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً [التوبة: 123] ظاهره أمر للمشركين وإنه في الحقيقة أمر للمؤمنين بأن يغلظوا على المشركين. وفي متعلق قوله لِتُنْذِرَ أقوال. قال الفراء: إنه متعلق ب أُنْزِلَ وفي الكلام تقديم وتأخير أي أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج. وفائدة التقديم والتأخير أن الإقدام على الإنذار والتبليغ لا يتم ولا يكمل إلا عند زوال الحرج عن الصدر.
وقال ابن الأنباري: إنه متعلق بالنهي واللام بمعنى كي والتقدير: فلا يكن في صدرك شك كي تقدر على إنذار غيرك لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم وكذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار لأن صاحب اليقين جسور لتوكله على ربه وثقته بعصمته. وقال صاحب النظم: اللام بمعنى «أن» كقوله: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا [التوبة: 32] وفي موضع آخر لِيُطْفِؤُا [الصف: 8] والتقدير لا يضق صدرك ولا تضعف عن أن تنذر به. وقيل: إن تقدير الكلام هذا الكتاب أنزله الله عليك وإذا علمت أنه تنزيل الله تعالى فاعلم أن عناية الله معك وإذا علمت هذا فلا يكن في صدرك حرج لأن من كان الله له حافظا وناصرا لم يخف أحدا، وإذا زال الخوف والضيق عن القلب فاشتغل بالإبلاغ والإنذار اشتغال الرجال الأبطال ولا تبال بأحد من أهل الضلال والإبطال. ثم قال: وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس:(3/198)
يريد مواعظ للمصدقين. وقال الزجاج: هو اسم في موضع المصدر. قال الليث: الذكرى اسم للتذكرة. وقال صاحب الكشاف: محل ذكرى يحتمل النصب بإضمار فعلها كأنه قيل لتنذر به وتذكر تذكيرا، والرفع عطفا على كتاب، أو بأنه خبر مبتدأ محذوف والجر للعطف على محل أن تنذر أي للإنذار وللذكرى. وإنما لم نقل على محل لتنذر لأن المفعول له يجب أن يكون فاعله وفاعل الفعل المعلل واحدا ولو صح ذلك لكان محله النصب لا الجر.
وخص الذكرى بالمؤمنين كقوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] والتحقيق فيه أن النفوس البشرية منها بليدة بعيدة عن عالم الغيب غريقة في بحر اللذات الجسمانية فتحتاج إلى زاجر قويّ، ومنها مشرقة بالأنوار الإلهية مستعدة للإنجذاب إلى عالم القدس إلا أنها غشيتها غواش من عالم الجسم فعرض لها نوع ذهول وغفلة، فالصنف الأول يحتاج إلى إنذار وتخويف وأما الصنف الثاني فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالى تذكرت معدنها وأبصرت مركزها واشتاقت إلى ما هنالك من الروح والراحة والريحان فلم تحتج إلا إلى تذكرة وتنبيه، فثبت أنه سبحانه أنزل هذا الكتاب على رسوله ليكون إنذارا في حق طائفة وذكرى في شأن طائفة. ثم كما أمر الرسول بالتبليغ والإنذار مع قلب قوي وعزم صحيح أمر المرسل إليهم وهم الأمة بالمتابعة فقال: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ومعنى كونه منزلا إليهم أنهم مخاطبون بذلك مكلفون به وإلا فهو بالحقيقة منزل على الرسول، قالت العلماء: المنزل متناول للقرآن والسنة جميعا. عن الحسن: يا ابن آدم أمرت باتباع كتاب الله وسنة رسوله. وفي الآية دلالة على أن تخصيص عموم القرآن بالقياس غير جائز لأن متابعة المنزل واجبة فلو عمل بالقياس لزم التناقض. فإن قيل: العمل بالقياس لكونه مستفادا من القرآن وهو قوله: فَاعْتَبِرُوا [الحشر: 2] عمل بالقرآن أيضا. قلنا: بعد التسليم إن الترجيح معنا لأن العمل بالمنزل ابتداء أولى من العمل بالمنزل بواسطة، ثم أكد الأمر المذكور بقوله: وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أي لا تتخذوا من دون الله أَوْلِياءَ من شياطين الجن والإنس فيحملوكم على عبادة الأوثان والأهواء والبدع. ويجوز أن يكون الضمير في مِنْ دُونِهِ لما أنزل أي لا تتبعوا من دون دين الله أولياء. احتج نفاة القياس بأن الآية دلت على أنه لا يجوز متابعة غير ما أنزل الله تعالى والعمل بالقياس متابعة غير ما أنزل فلا يجوز. لا يقال العمل بالقياس عمل بالمنزل لقوله: فَاعْتَبِرُوا [الحشر: 2] لأنا نقول: لو كان الأمر كذلك لكان تارك العمل بمقتضى القياس كافرا لقوله: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [المائدة: 44] وقد أجمعت الأمة على عدم تكفيره. أجاب مثبتو القياس بأن كون القياس حجة ثبت بإجماع الصحابة والإجماع دليل(3/199)
قاطع وظاهر العموم دليل مظنون فلا يعارض القاطع. وزيف بأنكم أثبتم أن الإجماع حجة بعموم قوله وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: 115] تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران: 110] وبعموم
قوله صلى الله عليه وآله «لا تجتمع أمتي على الضلالة» «1»
والفرع لا يكون أقوى من الأصل. أجاب المثبتون بأن الآيات والأحاديث والإجماع لما تعاضدت في إثبات القياس قوي الظن وحصل الترجيح. ومن الحشوية من أنكر النظر في البراهين العقلية تمسكا بالآية. وأجيب بأن العلم بكون القرآن لحجة موقوف على صحة التمسك بالدلائل العقلية فكيف تنكر. ثم ختم المخاطبة بنوع معاتبة فقال:
قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي تذكرون تذكرا قليلا. و «ما» مزيدة لتوكيد القلة. ثم ذكر ما في ترك المتابعة من الوعيد فقال: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ فموضع «كم» رفع بالابتداء و «من» مزيدة للتأكيد والبيان أي كثير من القرى أَهْلَكْناها مثل زيد ضربته وتقدم النصب أيضا عربي جيد وفي الآية حذف لا لقرينة الإهلاك فقط فإن القرية تهلك بالهدم والخسف كما يهلك أهلها ولكنه يقال التقدير: وكم من أهل قرية لقوله فَجاءَها بَأْسُنا والبأس بالأهل أنسب ولقوله:
أَوْ هُمْ قائِلُونَ ولأن الزجر والتحذير لا يقع للمكلفين إلا بهلاكهم ولأن معنى البيات والقيلولة لا يصح إلا فيهم. وإنما قال: فَجاءَها ردا بالكلام على اللفظ أو كما يقال الرجال فعلت. وهنا سؤال وهو أن قوله: فَجاءَها بَأْسُنا يقتضي أن يكون الهلاك مقدما على مجيء البأس ولكن الأمر بالعكس. والعلماء أجابوا بوجوه منها: أن المراد حكمنا بهلاكها أو أردنا إهلاكها فجاءها كقوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا [المائدة: 6] ومنها أن معنى الإهلاك ومعنى مجيء البأس واحد فكأنه قيل: وكم من قرية أهلكناها فجاءهم إهلاكنا وهذا كلام صحيح. فإن قيل: كيف يصح والعطف يوجب المغايرة؟
فالجواب أن الفاء قد تجيء للتفسير
كقوله صلى الله عليه وآله «لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه فيغسل وجهه ويديه»
فإن غسل الوجه واليدين كالتفسير لوضع الطهور مواضعه فكذا هاهنا مجيء البأس جار مجرى التفسير للإهلاك لأن الإهلاك قد يكون بالموت المعتاد وقد يكون بتسليط البأس والبلاء عليهم وقريب منه قول الفراء: لا يبعد أن يقال البأس والهلاك يقعان معا كما يقال: أعطيتني فأحسنت. وما كان الإحسان بعد الإعطاء ولا قبله وإنما وقعا معا. ومنها أن ذلك محمول على حذف المعطوف والتقدير: أهلكناهم فحكم بمجيء البأس لأن الإهلاك أمارة للحكم بوصول مجيء البأس. ومنها أنه من باب القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس كقولهم: عرضت الناقة على الحوض. وقوله بَياتاً
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب 8(3/200)
قال الجوهري: بيت العدوّ أي أوقع بهم ليلا والاسم البيات. وفي الكشاف أنه مصدر بات الرجل بياتا حسنا. وعلى القولين فإنه وقع موقع الحال بمعنى بائتين أو مبيتين. ثم قال:
أَوْ هُمْ قائِلُونَ والجملة حال معطوفة على بَياتاً كأنه قيل: فجاءها بأسنا مبيتين أو بائتين أو قائلين. وإنما حسن ترك الواو هاهنا من الجملة الاسمية الواقعة حالا لأن واو الحال قريب من واو العطف لأنها استعيرت منها للوصل فالجمع بين حرف العطف وبينه جمع بين المثلين وذلك مستثقل. فقولك: جائني زيد راجلا أو هو فارس. كلام فصيح، ولو قلت: جاءني زيد هو فارس كان ضعيفا. وقال بعض النحويين: الواو محذوفة مقدرة ورده الزجاج لما قلنا. أما معنى القيلولة فالمشهور أنها نومة الظهيرة. وقال الأزهري: هي الاستراحة نصف النهار وإن لم يكن نوم لقوله تعالى: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان: 24] والجنة لا نوم فيها وإنما خص وقتا البيات والقيلولة لأنهما وقتا الغفلة والدعة فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأفظع. وكأنه قيل للكفار لا تغتروا بالفراغ والرفاه والأمن والسكون فإن عذاب الله إنما يجيء دفعة من غير سبق أمارة.
أيا راقد الليل مسرورا بأوّله ... إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
فقوم لوط أهلكوا وقت السحر، وقوم شعيب وقت القيلولة. ثم قرر حالهم عند مجيء البأس فقال: فَما كانَ دَعْواهُمْ أي ما كانوا يدعونه من قبل دينهم وينتحلونه من مذهبهم إلا اعترافهم ببطلانه وفساده والإقرار بالإساءة والظلم على أنفسهم. وقال ابن عباس:
فما كان تضرعهم واستغاثتهم إلا قولهم هذا وذلك إقرار منهم على أنفسهم بالشرك. وقال أهل اللغة: الدعوى اسم يقوم مقام الدعاء. حكى سيبويه اللهم أشركنا في صالح دعاء المسلمين ودعوى المسلمين أي فما كان دعاؤهم ربهم إلا اعترافهم بعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم فلا يزيدون على ذم أنفسهم وتحسرهم على ما فرط منهم وفرطوا فيه. ومحل دَعْواهُمْ وعلى عكسه محل أَنْ قالُوا يجوز أن يكون نصبا أو رفعا كما سبق في إعراب قوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا [الأنعام: 23] ثم ذكر على ترك القبول والمتابعة وعيدا آجلا فقال: فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ نسأل المرسل إليهم عما أجابوا به رسلهم كقوله: وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص: 65] وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ عما أجيبوا به كما قال: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ [المائدة: 109] ثم قال:
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي على الرسل والمرسل إليهم ما كان منهم بِعِلْمٍ عالمين بأحوالهم الظاهرة والباطنة وأقوالهم وأفعالهم وَما كُنَّا غائِبِينَ عنهم وعما وجد منهم. فإن قيل:
ما الفائدة في سؤال المرسل إليهم بعد ما أخبر عنهم أنهم اعترفوا بذنوبهم؟ فالجواب أنهم لما(3/201)
أقروا بأنهم كانوا ظالمين مقصرين سئلوا بعد ذلك عن سبب الظلم أو التقصير تقريعا وتوبيخا. فإن قيل: ما الفائدة في سؤال الرسل مع العلم بأنه لم يصدر عنهم تقصير البتة؟
قلنا: ليلتحق كل التقصير بالأمة فيتضاعف إكرام الله تعالى في حق الرسل لظهور براءتهم عن جميع مواجب التقصير، ويتضاعف أسباب الخزي والإهانة في حق الكفار. فإن قلت: كيف الجمع بين قوله: فَلَنَسْئَلَنَّ وبين قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن: 39] فالجواب بعد تسليم اتحاد الزمان والمكان أن القوم لعلهم لا يسألون عن الأعمال لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إليها وعن الصوارف التي صرفتهم عنها. أو المراد نفي سؤال الاستفادة والاسترشاد وإثبات سؤال التوبيخ والإهانة فلا تناقض. وفي الآية إبطال قول من زعم أنه لا حساب على الأنبياء ولا على الكفار، وفيها أنه سبحانه عالم بالكليات وبالجزئيات ولا يعزب عن علمه شيء في الأرض ولا في السموات، فالإلهية لا تكمل إلا بذلك. وفيها أنه غير مختص بشيء من الأحياز والجهات وإلا كان غائبا عن غيره. ثم بيّن أن من جملة أحوال يوم القيامة وزن الأعمال فقال: وَالْوَزْنُ وهو مبتدأ خبره يَوْمَئِذٍ وقوله الْحَقُّ صفة المبتدأ أي الوزن العدل يوم يسأل الله الأمم ورسلهم. وقيل: لا يجوز الإخبار عن شيء وقد بقيت منه بقية فيجب على هذا أن يكون الْحَقُّ خبرا ويَوْمَئِذٍ ظرفا للوزن ومعنى الحق أنه كائن لا محالة. وفي كيفية الميزان قولان: الأول ما
جاء في الخبر «إنه تعالى ينصب ميزانا له لسان وكفتان يوم القيامة يوزن به أعمال العباد خيرها وشرها» .
وكيف توزن فيه وجهان: أحدهما أن المؤمن تتصوّر أعماله بصور حسنة وأعمال الكافر بصور قبيحة فتوزن تلك الصور ذكره ابن عباس. وثانيهما أن الوزن يعود إلى الصحف التي تكون فيها أعمال العباد.
يروى أن رسول الله صلى الله عليه وآله سئل عما يوزن يوم القيامة فقال: الصحف.
وعن عبد الله بن سلام أن ميزان رب العالمين ينصب بين الجن والإنس يستقبل به العرش إحدى كفتي الميزان على الجنة والأخرى على جهنم ولو وضعت السموات والأرض في أحدهما لوسعتهن، وجبريل آخذ بعموده ناظر إلى لسانه،
وعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يؤتى برجل يوم القيامة إلى الميزان ويؤتى له بتسعة وتسعين سجلا كل سجل مد البصر فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفة الميزان ثم يخرج له قرطاس كالأنملة فيه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا صلى الله عليه وآله عبده ورسوله فيوضع في الآخرة فترجح» «1»
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الإيمان باب 17. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 35. أحمد في مسنده (2/ 213) .(3/202)
قال القاضي: يجب أن يحمل هذا على أنه يأتي بالشهادتين بحقهما من العبادات وإلا كان إغراء على المعصية. ورد بأنه خلاف الظاهر وبأنه لا يبعد أن يكون ثواب كلمة الشهادة أوفى وأوفر من سائر الأعمال لأن معرفة الله تعالى أشرف العقائد والأعمال.
وروى الواحدي في البسيط أنه إذا خف حسنات المؤمن أخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من حجزته بطاقة كالأنملة فيلقيها في كفة الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح الحسنات فيقول ذلك العبد المؤمن للنبي صلى الله عليه وسلم: بأبي أنت وأمي ما أحسن وجهك وخلقك فمن أنت؟ فيقول: أنا نبيك وهذه صلواتك التي كنت تصليها عليّ قد وافتك أحوج ما تكون إليها
القول الثاني قول مجاهد والضحاك والأعمش وكثير من المتأخرين أن المراد من الميزان العدل لأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلا بالوزن والكيل فلا يبعد جعل الوزن مجازا عن العدل. ومما يؤكد ذلك أن أعمال العباد أعراض وأنها قد فنيت وعدمت ووزن المعدوم محال وكذا لو قدر بقاؤها.
وأما قولهم الموزون صحائف الأعمال أو صور مخلوقة على حسب مقادير الأعمال فنقول:
المكلف يوم القيامة إما أن يكون مقرا بأنه تعالى عادل حكيم وحينئذ يكفيه حكم الله تعالى بمقادير الثواب والعقاب في علمه بأنه عدل وصواب، وإما أن لا يكون مقرا فلا نعرف من رجحات الحسنات على السيئات وبالعكس حقية الرجحان. أجاب الأولون بأن جميع المكلفين يعترفون يوم القيامة أنه تعالى منزه عن الظلم والجور لكن الفائدة في وضع الميزان ظهور الرجحان لأهل الموقف وازدياد الفرح والسرور للمؤمن وبالضدّ للكافر. واختلف العلماء أيضا في كيفية الرجحان فقال بعضهم: يظهر هناك نور في رجحان الحسنات وظلمة في رجحان السيئات. وقال آخرون: بل يظهر الرجحان في الكفة. واختلف أيضا في الموازين فقيل: إنها جمع موزون وأراد الأعمال الموزونة والميزان المنصوب واحد. ولئن سلم أنها جمع الميزان فالعرب قد توقع لفظا لجمع على الواحد فتقول: خرج فلان إلى مكة على الأفراس والبغال. قاله الزجاج. وقال الأكثرون: كما لا يمتنع إثبات ميزان له لسان وكفتان فكذلك لا يمتنع إثبات موازين بهذه الصفة فما الموجب لترك الظاهر والمصير إلى التأويل قال عز من قائل: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ [الأنبياء: 47] وأيضا لا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزان ولأفعال الجوارح ميزان ولما يتعلق بالقول ميزان آخر. ثم إن المرجئة الذين يقولون المعصية لا تضر مع الإيمان قالوا: إن الله حصر أهل الموقف في قسمين منهم من تزيد حسناته على سيئاته ومنهم على العكس ولا ريب أن هذا القسم أهل الكفر لأنه حكم عليهم بأنهم الذين خسروا أنفسهم بسبب الظلم بآيات الله أي التكذيب بها وهذا لا يليق إلا بالكافر. ولئن سلم أن العاصي معاقب لكنه يعاقب أياما ثم يعفى عنه ويتخلص إلى رحمة الله تعالى فهو بالحقيقة ما خسر نفسه بل فاز برحمة الله أبد(3/203)
الآباد من غير زوال ولا انقطاع. قيل: في الآية دلالة على أن الذي تكون حسنات وسيئاته متعادلتين متساويتين غير موجود والله أعلم.
ثم لما فرغ من التخويف بالعذاب الآجل رغب الخلائق في قبول دعوة الأنبياء بطريق آخر وهو تذكير النعم فإن ذلك يوجب الطاعة فقال: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أقدرناكم على التصرف فيها وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ هي جمع معيشة وهي ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرها، أو ما يتوصل به إلى ذلك وبالجملة وجوه المنافع التي تحصل بتخليق الله تعالى ابتداء كالأثمار، أو بواسطة كالاكتساب والوجه في معايش تصريح الياء لأنها أصلية لا زائدة كصحائف بالهمز في صحيفة. وعن ابن عامر أو نافع في بعض الروايات الهمز تشبيها بصحائف واستبعده النحويون البصريون. ثم عاتب المكلفين بأنهم لا يقومون بشكر نعمه كما ينبغي فقال: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ وفيه إشارة إلى أنهم قد يشكرون وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] .
التأويل:
المص هو إله من لطفه أفرد عباده للمحبة وللمعرفة وأنعم عليهم بالصدق والصبر لقبول كمالية المعرفة والمحبة بواسطة كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فانفسح له صدرك وانشرح فلم يبق فيه ضيق وحرج بخلاف ما أنزل من الكتب في الألواح والصحف فقد عرض لبعضهم ضيق عطن فألقى الألواح. وكما شرف نبيه بالكتاب المنزل على قلبه حتى صار خلقه القرآن شرف أمته بأن أمرهم باتباع ما أنزل إليهم ليتخلقوا بأخلاق الله. وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ قبل أفسدنا استعدادها فَجاءَها بَأْسُنا أي إزاغة قلوبهم بإصبع القهارية وأهلها نائمون على فراش الحسبان قائِلُونَ في نهار الخذلان فما كان ادّعاؤهم إلا أن قالوا من قصر نظرهم لا من طريق الأدب إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فنسبوا التصرف إلى أنفسهم ولم يعلموا أن الله تعالى مقلب أفئدتهم وأبصارهم فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وهم عامة الخلائق هل قبلتم الدعوة وعملتم بما أمرتم أم لا فيكون السؤال سؤال تعنيف وتعذيب أو هم الذين قبلوا الدعوة فيكون السؤال سؤال تشريف وتقريب وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ سؤال إنعام وإكرام هل بلغتم وهل وجدتم أمما قابلي الدعوة فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ فليعلمن أنا ما أرسلنا الرسل إليهم عبثا وإنما أرسلناهم لأمر عظيم وخطب جسيم وَما كُنَّا غائِبِينَ عن الرسل بالنصر والمعونة وعن المرسل إليهم بالتوفيق والعناية وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ لأهل الحق لا الباطل لا نقيم لهم يوم القيامة وزنا. روي أنه يوم القيامة يؤتى بالرجل العظيم الطويل الأكول الشروب فلا يزن جناح بعوضة. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والأحوال الكاملة فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ من شر أنانيتهم وإنما جمع الموازين لأن لبدن(3/204)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
كل مكلف ميزانا يوزن به أعماله ولنفسه ميزانا يوزن به صفاتها ولقلبه ميزانا يوزن به أوصافه ولروحه ميزانا يوزن به نعوته ولسره ميزانا يوزن به أحواله ولخفيه ميزانا يوزن به أخلاقه.
والخفي لطيفة روحانيّة قابلة لفيض الأخلاق الربانية ولهذا
قال صلى الله عليه وآله: «ما وضع في الميزان شيء أقل من حسن الخلق»
وذلك أنه ليس من نعوت المخلوقين وإنما هو خلق رب العالمين والعباد مأمورون بالتخلق بأخلاقه خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أفسدوا استعدادها وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ هيأنا لكم خلافة الأرض دون غيركم من الحيوانات والملك وَجَعَلْنا لَكُمْ خاصة مَعايِشَ ولكل صنف من الملك والحيوانات معيشة واحدة وذلك أن الإنسان مجموع من الملكية والحيوانية والشيطانية والإنسانية. فمعيشة الملك هي معيشة روحه، ومعيشة الحيوان هي معيشة بدنه، ومعيشة الشيطان هي معيشة نفسه الأمارة بالسوء، وقد حصل للإنسان بهذا التركيب مراتب الإنسانية وإنها لم تكن لكل واحد من الملك والحيوان والشيطان وهي القلب والسر والخفي، فمعيشة قلبه هي الشهود، ومعيشة سره هي الكشوف، ومعيشة خفيه هي الوصال والوصول.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 11 الى 25]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20)
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25)
القراآت:
لَأَمْلَأَنَّ بتليين الهمزة الثانية حيث كان: الأصبهاني عن ورش وحمزة في(3/205)
الوقف. تُخْرَجُونَ من الخروج: حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب وابن ذكوان الباقون: مبنيا للمفعول من الإخراج والله أعلم.
الوقوف:
إِلَّا إِبْلِيسَ ط لأنه معرفة فلا تصلح الجملة صفة له. السَّاجِدِينَ هـ إِذْ أَمَرْتُكَ ط مِنْهُ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المقول. طِينٍ هـ الصَّاغِرِينَ هـ.
يُبْعَثُونَ هـ الْمُنْظَرِينَ هـ الْمُسْتَقِيمَ هـ لا للعطف شَمائِلِهِمْ ط شاكِرِينَ هـ مَدْحُوراً ط لأن ما بعده ابتداء قسم محذوف. أَجْمَعِينَ هـ الظَّالِمِينَ هـ الْخالِدِينَ هـ النَّاصِحِينَ هـ بِغُرُورٍ ج لأن جواب «لما» منتظر مع الفاء وَرَقِ الْجَنَّةِ ط لأن الواو للاستئناف مُبِينٌ هـ أَنْفُسَنا سكتة للأدب إعلاما بانقطاع الحجة قبل ابتداء الحاجة. الْخاسِرِينَ هـ عَدُوٌّ ط لعطف المختلفين إِلى حِينٍ هـ تُخْرَجُونَ هـ.
التفسير:
من جملة نعم الله تعالى علينا أن خلق أبانا آدم فجعله مسجودا للملائكة فلذلك ذكر تلك القصة عقيب تذكير النعم، ونظير هذه الآيات ما سبق في سورة البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [البقرة: 28] منع من المعصية بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ ثم علل ذلك المنع بكثرة نعمه على المكلفين وهو أنهم كانوا أمواتا فأحياهم ثم خلق لهم ما في الأرض جميعا من المنافع، ثم ختم ذلك بقصة جعل آدم خليفة في الأرض مسجودا للملائكة، والغرض من الكل أن التمرد والجحود لا يليق بإزاء هذه النعم الجسام. وقصة آدم وما جرى له مع إبليس ذكرها الله في سبعة مواضع: في «البقرة» وهاهنا وفي «الحجر» وفي «سبحان» وفي «الكهف» وفي «طه» وفي «ص» وسنبين بعض حكمة اختلاف العبارات بقدر الفهم إن شاء الله تعالى. وهاهنا سؤال وهو أن قوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا يقتضي أن أمر الملائكة بالسجود لآدم وقع بعد خلقنا وتصويرنا والأمر في الواقع بالعكس.
وأجاب المفسرون بوجوه منها: أن المضاف محذوف أي خلقنا أباكم آدم طينا غير مصوّر ثم صورنا أباكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا. وإنما حسن هذه الكناية لأن آدم عليه السلام أصل البشر نظير قوله لبني إسرائيل المعاصرين وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ [البقرة: 63] أي ميثاق أسلافكم.
وقال صلى الله عليه وسلم: ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل. وإنما قتله أحدهم.
ومنها أن المراد من خلقناكم آدم ثم صورناكم أي صورنا ذرية آدم في ظهره في صورة الذر ثم قلنا للملائكة وهذا قول مجاهد. ومنها خلقناكم ثم صورناكم ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة. ومنها أن الخلق في اللغة التقدير وتقدير الله تعالى عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته بتخصيص كل شيء بمقداره المعين له. فقوله:(3/206)
خَلَقْناكُمْ إشارة إلى حكم الله وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم. وقوله:
صَوَّرْناكُمْ إشارة إلى أنه تعالى أثبت في اللوح المحفوظ صورهم كما أنه أثبت صور كل كائن كما
جاء في الخبر «اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» .
ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم وأمر الملائكة بالسجود له. قال الإمام فخر الدين رضي الله عنه: وهذا التأويل عندي أقرب الوجوه في تأويل هذه الآية، وأما أن إبليس هل هو من الملائكة أم لا فقد تقدم في أوائل سورة البقرة فلا وجه لإعادته. أما قوله سبحانه: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ فظاهره يقتضي أنه تعالى طلب من إبليس ما منعه من ترك السجود وليس الأمر كذلك فإن المقصود طلب ما منعه من السجود كما قال في سورة ص ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص: 75] فلهذا الإشكال حصل للمفسرين رضي الله عنهم أقوال أوّلها وهو الأشهر: أن «لا صلة» زائدة كما في لا أُقْسِمُ [القيامة: 1] وكما في قوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [الحديد: 29] أي ليعلم وهذا قول الكسائي والفراء والزجاج والأكثرين. قال في الكشاف:
وفائدة زيادتها توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه كأنه قيل في لِئَلَّا يَعْلَمَ ليتحقق علم أهل الكتاب، وفي ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ ما منعك أن تحقق السجود وتلزمه نفسك. قلت: لعله أراد أن زيادة «لا» إشارة إلى نفي ما عدا المذكور ليلزم منه تحقق المذكور. وثانيها أن إثبات الزيادة في كلام الله تعالى خارج عن الأدب وأن الاستفهام للإنكار أي لم يمنعك من ترك السجود شيء كقول القائل لمن ضربه ظلما: ما الذي منعك من ضربي أدينك أم عقلك أم حياؤك؟ والمعنى أنه لم يوجد أحد هذه فما امتنعت من ضربي. وثالثها قال القاضي: ذكر الله تعالى المنع وأراد الداعي فكأنه قال: ما دعاك إلى أن لا تسجد لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها. وقيل:
الممنوع من الشيء مضطر إلى خلاف ما منع منه. وقيل: معناه ما الذي جعلك في منعة من عذابي؟ وقيل: معناه من قال لك لا تسجد. وأقول: يمكن أن لا يعلق قوله: أَلَّا تَسْجُدَ بقوله: ما مَنَعَكَ وإنما يكون متعلقه محذوفا التقدير: ما منعك من السجود أن لا تسجد أي لئلا تسجد توجه عليك هذا السؤال. والحاصل أن عدم سجودك ما سببه؟ إِذْ أَمَرْتُكَ أمر إيجاب. وفائدة هذا السؤال من علام الغيوب توبيخه وإفشاء معاندته وجحوده. واستدل العلماء بالآية على أن مجرد الأمر يقتضي الوجوب وإلا لم يترتب الذم عليه، وأن الأمر يقتضي الفور وإلا لم يستوجب الذم بترك السجود في الحال. ثم استأنف اللعين قصة أخبر فيها عن نفسه بالفضل على آدم زعما منه أن مثله مستبعد أن يؤمر بما أمر به وتلك الخيرية هي التي منعته عن السجود فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ثم بين هذه المقدمة بقوله خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ(3/207)
وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ
والنار أفضل من الطين لأن النار جوهر مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السموات ملاصق لها، والطين مظلم سفلي كثيف ثقيل بارد يابس بعيد عن الأجرام اللطيفة كلها، وأيضا النار قوية التأثير والفعل، والأرض ليس فيها إلا القبول والانفعال والفعل أشرف من الانفعال. وأيضا النار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة والنضج وأما الأرضية فللبرد واليبس تناسب الموت والحياة أشرف من الموت. وأيضا فما بين التمييز والشباب لما كان وقت كمال الحرارة كانت أفضل أوقات عمر الحيوان بخلاف وقت الشيخوخة لغلبة البرد واليبس المناسب للأرضية والمخلوق من الأفضل أفضل لأن شرف الأصل يوجب شرف الفرع. وأما أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون فما قد تقرر في العقول فهذه شبهة إبليس والمقدمات بأسرها ممنوعة، أما أن النار أفضل من الأرض فممنوع لأن كل عنصر من العناصر الأربعة يختص بفوائد ليست لغيره، وكل منها ضروري في الوجود وفي التركيب فلكل فضيلة في مقامه وحاله فترجيح بعضها على البعض تطويل بلا طائل. ومن تأمل ما ذكرناه في تفسير قوله سبحانه وتعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً [البقرة: 22] وقف على بعض منافعها وعلم أن طعن اللعين مردود جدا، ولو لم يكن في النار إلا الخفة المقتضية للطيش والاستكبار والترفع وفي الأرض إلا الرزانة الموجبة للحلم والوقار والتواضع لكفى به ردا لكلامه، وأما أن المخلوق من الأفضل أفضل فهو محل البحث والنزاع لأن الفضيلة عطية من الله تعالى ابتداء ولا يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة، فقد يخرج الكافر من المؤمن ويحصل الدخان من النار والتكليف يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل. فالاعتبار بما انتهى إليه لا بما خلق منه
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ائتوني بأعمالكم ولا تأتوني بأنسابكم»
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات: 13] وفي كلام الحكماء: العاقل من يفتخر بالهمم العالية لا بالرمم البالية. فثبت أن دعوى اللعين في قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ باطلة. ولئن سلم فلم لا يجوز خدمة الفاضل للمفضول تواضعا وإسقاطا لحق النفس؟ ولم لا يجوز الأمر بذلك لغرض الطاعة والامتثال أو لتشريف المفضول والرفع من مقداره؟ قالت العلماء هاهنا: إن قوله تعالى للملائكة: اسْجُدُوا لِآدَمَ خطاب عام يتناول جميع الملائكة: ثم إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس فاستوجب الذم والتعنيف والدخول في جملة المتكبرين على الله فدل ذلك على أنه لا يجوز تخصيص عموم النص بالقياس ويؤيد ذلك ما روي عن ابن عباس أنه كانت الطاعة بإبليس أولى من القياس فعصى ربه وقاس. وأول من قاس إبليس فكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله تعالى مع إبليس. ويمكن أن يجاب بأنه إنما استحق الذم لأن قياسه كان مبطلا(3/208)
للنص بالكلية لا مخصصا. وتقريره أنه لو قبح أمر من كان مخلوقا من النار بسجوده لمن كان مخلوقا من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقا من النور المحض بسجوده لمن هو مخلوق من الأرض أولى. ويحتمل أن يزيد هذا الجواب بأن الشريف إذا رضي بتلك الخدمة فلا اعتراض عليه وحينئذ لا يقبح أمره بذلك. ثم إن الملائكة رضوا بذلك فلا بأس، وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق فقبح أمره بالسجود، فقياسه يوجب تخصيص النص لا رفعه بالكلية فعلمنا أن استحقاق الذم إنما كان لتخصيص النص بالقياس كما ادعينا.
قالَ أي الله تعالى كلام تعنيف وتعذيب لا إكرام وتشريف أو قال على لسان بعض ملائكته فَاهْبِطْ يعني إذ لم تمتثل أمري فاهبط مِنْها. قال ابن عباس: يريد من الجنة وكانوا في جنة عدن وفيها خلق آدم. وقال بعض المعتزلة: أمر بالهبوط من السماء التي هي مكان المطيعين المتواضعين من الملائكة إلى الأرض التي هي مقر العاصين المتكبرين من الثقلين فَما يَكُونُ فما يصح لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها وتعصي فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ من أهل الصغار والهوان. يقال للرجل قم صاغرا إذا أهين. وفي ضده قم راشدا، قال الزجاج: إن إبليس طلب التكبر فابتلاه الله بالذلة والصغار كما قال النبي صلى الله عليه وآله: «من تواضع لله رفعه الله ومن تكبر وضعه الله» «1» قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ طلب الإنظار من الله تعالى إلى وقت البعث وهو وقت النفخة الثانية حين يقوم الناس لرب العالمين، ومقصوده أنه لا يذوق الموت فلم يعطه الله تعالى ذلك بل قالَ مطلقا إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ قيل:
إن هذا المطلق مقيد بقوله في موضع آخر إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ص: 81] أي اليوم الذي يموت الأحياء كلهم فيه وهو وقت النفخة الأولى، وقال آخرون: لم يوقت الله تعالى له أجلا. والمراد الوقت المعلوم في علم الله تعالى والدليل على ذلك أن إبليس كان مكلفا والمكلف لا يجوز أن يعلم أجله لأنه يقدم على المعصية بقلب فارغ حتى إذا قرب أجله تاب فيقبل توبته وهذا كالإغراء على المعاصي فيكون قبيحا. أجاب الأولون بأن من علم الله تعالى من حاله أنه يموت على الطهارة والعصمة كالأنبياء أو على الكفر والمعاصي كإبليس فإن إعلامه بوقت أجله لا يكون إغراء على المعصية لأنه لا يتفاوت حاله بسبب ذلك التعريف والإعلام قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي الإغواء ضد الإرشاد وأصل الغي الفساد ومنه غوى الفصيل إذا بشم والبشم فساد يعرض في جوفه من كثرة شرب اللبن. ولا يمكن أن يتعلق
__________
(1)
رواه مسلم في كتاب البر حديث 69. الترمذي في كتاب البر باب 82. الدارمي في كتاب الزكاة باب 34. الموطأ في كتاب الصدقة حديث 12. أحمد في مسنده (2/ 386) بدون لفظ «ومن تكبّر ... » .(3/209)
الباء بقوله: لَأَقْعُدَنَّ لأن لام القسم تأبى ذلك. لا يقال: والله يريد لأمرنّ. لأن حكم القسم وما يتلوه حكم همزة الاستفهام وحرف النفي الذي هو ما وهي تعمل من حيث المعنى لا من حيث اللفظ فكأنها عوامل ضعيفة فلم يتقدم عليها شيء من معمولاتها لضعفها. وإنما يتعلق بفعل القسم المحذوف و «ما» مصدرية تقديره: فبما أغويتني أي فبسبب إغوائك إياي أقسم. ويجوز أن تكون الباء للقسم أي فأقسم بإغوائك لأقعدن.
ومعنى القسم بالإغواء أنه من جملة آثار القدرة أي بقدرتك عليّ ونفاذ سلطانك في لأقعدن.
وقال في الكشاف: إن الأمر بالسجود كان سبب إغوائه وهو تكليف والتكليف من أحسن أفعال الله لكونه تعريضا لسعادة الأبد فكان جديرا بأن يقسم به وهذا يناسب أصول الاعتزال.
قال مشايخ العراق: الحلف بصفات الذات كالقدرة والعظمة والجلال والعزة يمين، والحلف بصفات الفعل كالرحمة والغضب لا يكون يمينا. ويعني بصفات الفعل ما يجوز أن يوصف بضده فيقال: رحم فلانا ولم يرحم فلانا وغضب ولم يغضب. وقال بعضهم: ما للاستفهام كأنه قيل: بأي شيء أغويتني ثم ابتدأ فقال: لَأَقْعُدَنَّ ويرد على هذا القول أن إثبات الألف إذا أدخل حرف الجر على «ما» استفهامية قليل. قيل: إن إبليس أضاف الإغواء هاهنا إلى الله وفي قوله: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ [ص: 82] أضاف الإغواء إلى نفسه والأول يدل على الجبر والثاني على القدر، وهذا دليل على أنه كان متحيرا في هذه المسألة. أجابت المعتزلة عن قوله: فَبِما أَغْوَيْتَنِي بأن قول إبليس واعتقاده ليس بحجة أو المراد أنه تعالى لما أمره بالسجود لآدم فعند ذلك ظهر منه كفر فلهذا المعنى أضاف الغي إلى الله. وقد يقال: لا تحملني على ضربك أي لا تفعل ما أضربك عنده، أو المراد بالإغواء الإهلاك واللعن. وقالت الأشاعرة: نحن لا نبالغ في أن المراد بالإغواء هاهنا هو الإضلال لأن حاصله كيفما كان يرجع إلى حكاية قول إبليس وهو ليس بحجة إلا أنا نقطع بأن الغاوي لا بد له من مغو وليس ذلك نفسه لأن العاقل لا يختار الغواية مع العلم بكونها غواية والدور أو التسلسل محال فلا بد أن ينتهي إلى خالق الكل وهو المقصود. أما قوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ فانتصابه على الظرف كقوله:
لدن بهز الكف يعسل متنه ... فيه كما عسل الطريق الثعلب
قال الزجاج: هو كقولهم ضرب زيدا الظهر والبطن أي على الظهر والبطن. والمراد لأعترضن لهم أي لبني آدم المذكورين في قوله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ على طريق الإسلام كما يعترض العدو على الطريق ليقطعه على السابلة، والحاصل أنه يواظب على(3/210)
الإفساد بالوسوسة مواظبة لا يفتر عنه ولهذا ذكر القعود لأن من أراد المبالغة في تكميل أمر من الأمور قعد حتى يصير فارغ البال فيمكنه إتمام المقصود.
واعلم أن العلماء اختلفوا في أن كفر إبليس كفر عناد أو كفر جهل. فمن قائل بالأول لقوله: صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ وصراط الله المستقيم هو دينه الحق. ومن قائل بالثاني لقوله:
فَبِما أَغْوَيْتَنِي فدل ذلك على أنه اعتقد أن الذي هو عليه محض الغواية، وإنما وصف الصراط بالمستقيم بناء على زعم الخصم واعتقاده ورد بأنه متى علم أن مذهبه ضلال وغواية فقد علم أن ضدّه هو الحق فكان إنكاره إنكار اللسان لا القلب وهو المعنى بكفر العناد، ويمكن أن يجاب بأنه أراد بالإغواء أيضا الإغواء بزعم الخصم، قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على أنه لا يجب على الله رعاية مصالح العبد في دينه ولا في دنياه وإلا لم يمهل إبليس حين استمهله مع علمه بالمفاسد والغوائل المترتبة على ذلك، ومما يؤيد ذلك أنه بعث الأنبياء دعاة للخلق إلى الحق وعلم من حال إبليس أنه لا يدعو إلا إلى الكفر والضلال، ثم إنه أمات الأنبياء وأبقى إبليس ومن كان يريد مصالح العباد امتنع منه أن يفعل ذلك. قال الجبائي في دفع هذا الاعتراض: إنه لا يختلف الحال بسبب وجوده وعدمه ولا يضل بقوله أحد بل إنما يضل من لو فرضنا عدم إبليس لكان يضل أيضا بدليل قوله تعالى: فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ [الصافات: 162] ولأنه لو ضل به أحد لكان بقاؤه مفسدة. وقال أبو هاشم: يجوز أن يضل به قوم ويكون خلقه جاريا مجرى زيادة الشهوة فإن هذه الزيادة من المشقة توجب الزيادة في الثواب. وضعف قول الجبائي بأنا نعلم بالضرورة أن الإنسان إذا جلس عنده جلساء السوء وحسنوا في عينه أمرا من الأمور مرة بعد أخرى فإنه لا يكون حاله في الإقدام على ذلك الفعل كحاله إذا لم يوجد هذا التحسين فكذا الشيطان المزين للقبائح في قلوب الكفار والفساق. وزيف قول أبي هاشم بأن خلق الزيادة في الشهوة حجة أخرى لنا في أنه تعالى لا يراعي المصلحة، وتقرير الحجة أن خلق تلك الزيادة يوقع في الكفر وعقاب الأبد ولو احترز عن تلك الشهوة فغايته أن يزداد ثوابه وحصول هذه الزيادة شيء لا حاجة إليه والأهم رفع العقاب لا تحصيل زيادة الثواب.
فلو كان إله العالم مراعيا لمصالح العباد لم يهمل الأهم لطلب الزيادة التي لا ضرورة إليها.
أما ذكر الجهات الأربع ففيه وجوه أحدها مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أي أشككهم في صحة البعث والقيامة وَمِنْ خَلْفِهِمْ ألقي إليهم أن الدنيا قديمة أزلية. وثانيها من بين أيديهم أنفرهم عن الرغبة في سعادات الآخرة، من خلفهم أقوي رغبتهم في لذات الدنيا وطيباتها فالآخرة بين أيديهم لأنهم يردون عليها ويصلون إليها، والدنيا خلفهم لأنهم يخلفونها، وثالثها قول(3/211)
الحكم والسدي مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ يعني الدنيا لأنها بين يدي الإنسان وإنه يشاهدها وَمِنْ خَلْفِهِمْ الآخرة لأنها تأتي بعد ذلك. وأما قوله: وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ فقيل:
عَنْ أَيْمانِهِمْ في الكفر والبدعة وَعَنْ شَمائِلِهِمْ في أنواع المعاصي. وقيل: عَنْ أَيْمانِهِمْ في الصرف عن الحق وَعَنْ شَمائِلِهِمْ في الترغيب في الباطل. وقيل: عَنْ أَيْمانِهِمْ افترهم عن الحسنات وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أقوي دواعيهم إلى السيئات قال ابن الأنباري: وهذا قول حسن لأن العرب تقول اجعلني عن يمينك أي من المقدمين ولا تجعلني عن شمالك أي من المؤخرين. وعن الأصمعي هو عندنا باليمين أي بمنزلة حسنة وبالشمال للعكس. وقال حكماء الإسلام: إن في البدن قوى أربعا هي الموجبة لفوات السعادات الروحانية: إحداها القوة الخيالية التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وموضعها البطن المقدم من الدماغ وإليها الإشارة بقوله: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وثانيتها القوّة الوهمية التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ومحلها البطن المؤخر من الدماغ وهو قوله: وَمِنْ خَلْفِهِمْ وثالثتها الشهوة ومحلها الكبد التي عن يمين البدن.
ورابعتها الغضب ومنشؤه القلب الذي هو في الشق الأيسر. فالشياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوسوسة. وقيل: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ الشبهات المبنية على التشبيه إما في الذات أو في الصفات كشبه المجسمة وإما في الأفعال كشبه المعتزلة في التعديل والتجويز والتحسين والتقبيح لأن الإنسان يشاهد هذه الجسمانيات فهي بين يديه وبمحضر منه فيعتقد أن الغائب مثل الشاهد وَمِنْ خَلْفِهِمْ شبهات أهل التعطيل لأن هذه بإزاء الأولى، وَعَنْ أَيْمانِهِمْ الترغيب في ترك المأمورات وَعَنْ شَمائِلِهِمْ الترغيب في فعل المنهيات. وعن شقيق رضي الله عنه ما من صباح إلّا ويأتيني الشيطان من الجهات الأربع إما من بين يدي فيقول لا تخف إن الله غفور رحيم فأقرأ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [طه: 82] وإما من خلفي فيخوفني من وقوع أولادي في الفقر فأقرأ وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها [هود: 6] وإما من يميني فيأتيني من قبل النساء فأقرأ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] وإما من شمالي فيأتيني من قبل الشهوات فأقرأ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ [سبأ: 54]
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه قعد له بطريق الإسلام. فقال له: تدع دين آبائك فعصاه فأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له تدع ديارك وتتغرب فعصاه فهاجر ثم قعد له بطريق الجهاد فقال له تقاتل فتقتل فيقسم مالك وتنكح امرأتك فعصاه فقاتل» «1»
وعلى هذا فالقعود في
__________
(1) رواه النسائي في كتاب الجهاد باب 19. أحمد في مسنده (3/ 483) .(3/212)
الطريق والرصد من الجهات مثل الوسوسة إليهم وتسويله بكل ما يمكنه ويتيسر له كقوله:
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ [الإسراء: 64] وبقي هاهنا بحث وهو أنه تعالى كيف قال: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ بحرف الابتداء وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ بحرف المجاوزة؟ قال في الكشاف: وقد تختلف حروف الظروف كما تختلف حروف التعدية على حسب السماع. يقال: جلس عن يمينه وعلى يمينه، فمعنى «على» أنه تمكن من جهة اليمين تمكن المستعلي من المستعلى عليه، ومعنى «عن» أنه جلس متجافيا عن صاحب اليمين منحرفا عنه غير ملاصق له، ثم كثر حتى استعمل في المتجافي وغيره ونظيره في المفعول به «رميت السهم عن القوس وعلى القوس ومن القوس» لأن السهم يبعد عنها ويستعليها إذا وضع على كبدها للرمي ويبتدىء الرمي منها، وكذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى في لأنهما ظرفان للفعل، ومن بين يديه ومن خلفه لأن الفعل يقع في بعض الجهتين كما تقول: جئته من الليل تريد بعض الليل. وقال بعض المفسرين: خص اليمين والشمال بكلمة «عن» لأنها تفيد البعد والمباينة وعلى جهتي اليمين والشمال ملكان لقوله: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ [ق: 17] والشيطان لا بد أن يتباعد عن الملك ولا كذلك حال القدام والخلف. وقالت الحكماء مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ هما الوهم والخيال كما مر والناشئ منهما العقائد الباطلة والكفر وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ الشهوة والغضب والناشئ منهما الأفعال الشهوية والغضبية. وضرر الكفر لازم لأن عقابه دائم وضرر المعاصي مفارق لأن عذابها منقطع فلهذا السبب خص هذين القسمين بكلمة «عن» تنبيها على أنهما في اللزوم والاتصال دون القسم الأول. وإنما اقتصر على الجهات الأربع ولم يذكر الفوق والتحت لأن القوى التي منها يتولد ما يوجب تفويت السعادات الروحانية هي هذه الموصوعة في الجوانب الأربعة من البدن، وأما في الظاهر
فقد روي أن الشيطان لما قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا: يا إلهنا كيف يتخلص الإنسان من الشيطان مع استيلائه عليه من الجهات؟ فأوحى الله تعالى إليهم أنه قد بقي للإنسان جهتا الفوق والتحت فإذا رفع يديه إلى فوق بالدعاء على سبيل الخضوع أو وضع جبهته على الأرض بطريق الخشوع غفرت له ذنب سبعين سنة.
قال القاضي: هذا القول من إبليس كالدلالة على أنه لا يمكنه أن يدخل في بدن ابن آدم ويخالطه لأنه لو أمكنه ذلك لكان بأن يذكره في باب المغالبة أحق. قلت: هذا مناف لما
في الحديث «إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم» «1» .
أما قوله: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ فسئل أنه من
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأحكام باب 81. كتاب بدء الخلق باب 11. أبو داود في كتاب الصوم-(3/213)
باب الغيب فكيف عرف؟ وأجاب بعضهم بأنه كان قد رآه في اللوح المحفوظ فقال على سبيل القطع واليقين. وقال آخرون: إنه قال على سبيل الظن لأنه كان عازما على المبالغة في تزيين الشهوات وتحسين الطيبات فغلب على ظنه أنهم يقبلون قوله، ولقد صدقه الله تعالى في ذلك الظن حيث قال: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ [سبأ: 20] وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] . وقيل: إن للنفس تسع عشرة قوة: الحواس الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب والقوى السبع الكامنة وهي الجاذبة والماسكة والهاضمة والدافعة والغاذية والنامية والمولدة وهي بأسرها تدعو النفس إلى عالم الجسم. وأما التي تدعوها إلى عالم الأرواح فقوة واحدة وهي العقل، ولا شك أن استيلاء تسع عشرة قوة أكثر من استيلاء واحدة لا سيما وهي في أول الخلقة تكون قوية، والعقل يكون ضعيفا وهي بعد قوتها يعسر جعلها ضعيفة مرجوحة فلذلك قطع بقوله: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ قالَ الله تعالى في جوابه إذا كان هذا عزمك اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً الذام العيب والذأم يهمز ولا يهمز، والدحر الطرد والإبعاد وفي المثل: لا تعدم الحسناء ذاما. واللام في لَمَنْ تَبِعَكَ موطئة للقسم ولَأَمْلَأَنَّ جوابه وهو ساد مسد جواب الشرط. وعن عاصم لَمَنْ تَبِعَكَ بكسر اللام بمعنى لمن تبعك منهم هذا الوعيد وهو قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ فغلب ضمير المخاطب كما في قوله: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الأعراف: 138] أي إنكم وإنهم على هذا. فقوله:
لَأَمْلَأَنَّ في محل الابتداء ولَمَنْ تَبِعَكَ خبره. قال القاضي: كما أن الكافر يتبعه كذلك الفاسق يتبعه فلذلك يجب القطع بدخول الفاسق النار. وأجيب بشرط عدم العفو. قوله:
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ الآية. فيها من المسائل أن قوله: اسْكُنْ أمر تعبد أو أمر إباحة من حيث إنه لا مشقة فيه فلا يتعلق به التكليف. وأن زوج آدم هي حواء وأن تلك الجنة كانت جنة الخلد أو جنة من جنان السماء أو جنة من جنان الأرض. وأن قوله وفَكُلا أمر إباحة لا أمر تكليف. وأن قوله: وَلا تَقْرَبا نهي تنزيه أو نهي تحريم. وأن الشجرة المشار إليها شجرة واحدة بالشخص أو بالنوع وإنها أيّ شجرة كانت. وأن ذلك الذنب كان صغيرا أو كبيرا. وأن الظلم في قوله: فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ بأي معنى هو؟ وأن هذه الواقعة وقعت قبل نبوة آدم أو بعدها؟ ونحن قد قضينا الوطر عن جميعها في سورة البقرة فلا حاجة إلى الإعادة فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ الوسوسة حديث النفس وهو فعل غير متعد كولولت المرأة ووعوع الذئب والمصدر الوسواس أيضا بكسر الواو والوسواس بالفتح الاسم
__________
- باب 78. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 65. الدارمي في كتاب الرقاق باب 16. أحمد في مسنده (3/ 156، 285) ، (6/ 337) .(3/214)
كالزلزال. ويوصل إلى المفعول باللام وبإلى. فمعنى وسوس له فعل الوسوسة لأجله ومعنى وسوس إليه ألقاها إليه أي تكلم معه كلاما خفيا يكرره لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما قيل: اللام لام العاقبة لأن الشيطان لم يقصد بالوسوسة ظهور عورتهما وإنما آل أمرهما إلى ذلك، وقيل: لام الغرض وبدو العورة كناية عن زوال الحرمة وسقوط الجاه الذي كان غرضه، أو لعله رأى في اللوح المحفوظ أو سمع من الملائكة أنه إذا أكل من الشجرة بدت عورته وفي ذلك سقوط حشمته. وقوله: وُورِيَ مجهول وارى أي ستر والسوءة فرج الرجل والمرأة. ثم بيّن وسوسة إبليس بأنه قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أي إلا كراهة أن تكونا ملكين إلى قوله: إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ. سؤال: كيف يطمع إبليس آدم في أن يكون ملكا عند الأكل من الشجرة مع أنه شاهد الملائكة ساجدين معترفين بفضله؟ والجواب بعد تسليم أن هذه الواقعة كانت بعد النبوة وبعد سجود الملائكة له، أن هذا أحد ما يدل على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الأرض أما ملائكة السموات وملائكة العرش والكرسي والملائكة المقربون فما سجدوا البتة لآدم وإلا كان هذا التطميع فاسدا. وربما يجاب بأنه أراد أنه يصير مثل الملك في البقاء والدوام وزيف بلزوم التكرار من قوله: أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ. قال الواحدي:
كان ابن عباس يقرأ مَلَكَيْنِ بكسر اللام كأن الملعون أتاهما من جهة الملك كقوله: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى [طه: 120] واعترض بأنه لا نزاع في هذه القراءة الشاذة وإنما النزاع في القراءة المشهورة. ويمكن أن يجاب بأن آدم لعله رغب في أن يصير من الملائكة في القدرة والقوة والبطش والخلقة بأن يصير جوهرا نورانيا مقره العرش والكرسي. نقل أن عمرو بن عبيد قال للحسن: إن آدم وحواء هل صدّقاه في قوله؟ فقال الحسن: معاذ الله لو صدّقاه لكانا من الكافرين. أراد الحسن أن تصديق الخلود يوجب إنكار البعث والقيامة وإنه كفر. ويمكن أن يقال: لو أراد بالخلود طول المكث لم يلزم التكفير، ولو سلم أن الخلود مفسر بالدوام فلا نسلم أن اعتقاد الدوام من آدم يوجب الكفر لأن العلم بالموت ثم البعث يتوقف على السمع ولعل ذلك الدليل السمعي لم يصل إلى آدم وقتئذ. ثم إن المحققين اتفقوا على أن التصديق لم يوجد من آدم لا قطعا ولا ظنا وإنما أقدما على الأكل لغلبة الشهوة كما نجد من أنفسنا عند الشهوة أن نقدم على الفعل إذا زين لنا الغير ما نشتهيه وإن لم نعتقد أن الأمر كما قال. ثم إن بعضهم زعم أن الترغيب كان في مجموع الأمرين كونهما ملكين وكونهما خالدين والظاهر أنه على طريقة التخيير. سؤال: المقاسمة من الجانبين فكيف يتصور التقاسم بين آدم وإبليس؟ والجواب كأنه قال لهما: أقسم بالله إني(3/215)
لكما ناصح وقالا له: نقسم بالله إنك إن صدقت ناصح. أو أقسم لهما بالنصيحة وأقسما له بقبولها، أو أخرج قسم إبليس على زنة المفاعلة لأنه اجتهد فيها اجتهاد المقاسم فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ أي أوقعهما فيما أراد من تغرير، وأصله أن الرجل العطشان يدلي رجليه في البئر ليأخذ الماء فلا يجد فيها ماء فوضعت التدلية موضع الطمع فيما لا فائدة فيه. وقيل: أي جرأهما على أكل الشجرة من قولهم: فلان يدل على أقرانه في الحرب كالبازي يدل على صيده. قال ابن عباس: غرهما باليمين. وكان آدم يظن أن لا يحلف أحد بالله كاذبا. وعن ابن عمر أنه كان إذا رأى من بعض عبيده طاعة وحسن صلاة أعتقه فكان عبيده يفعلون ذلك طلبا للعتق، فقيل له: إنهم يخدعونك فقال: من خدعنا بالله انخدعنا له. فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ فيه دلالة على أنهما تناولا اليسير قصدا إلى معرفة طعمه ولولا أنه ذكر في آية أخرى فَأَكَلا مِنْها [طه: 121] لم يدل على الأكل لأن الذوق قد يكون من غير أكل.
بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما ظهرت عوراتهما أي عورتاهما مثل صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: 4] مكان قلباكما وَطَفِقا يَخْصِفانِ أخذا في الفعل وهو الخصف، ويستعمل طفق بمعنى كاد.
قال الزجاج: أي يجعلان ورقة على ورقة ليستترا بهما كما تخصف النعل طرقة على طرقة وتوثق بالسيور. والورق ورق التين وفيه دليل على أن كشف العورة قبيح من لدن آدم ألا ترى أنهما كيف بادرا إلى الستر لما تقرر في عقلهما من قبح كشف العورة؟ أَلَمْ أَنْهَكُما عتاب من الله وتوبيخ وباقي الآيات مفسر في سورة البقرة. عن ثابت البناني: لما أهبط آدم وحضرته الوفاة أحاطت به الملائكة فجعلت حواء تدور حولهم فقال لها: خلي ملائكة ربي فإنما أصابني الذي أصابني فيك. فلما توفي غسلته الملائكة بماء وسدر وترا وحنطته وكفنته في وتر من الثياب وحفروا له ولحدوا ودفنوه بسرنديب بأرض الهند وقالوا لبنيه: هذه سنتكم بعده.
وقد بقي علينا من التفسير أسرار المتشابهات الواقعة في هذه القصة فلنفرغ لها. قوله:
ما مَنَعَكَ وفي ص يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ [الآية: 75] وفي الحجر يا إِبْلِيسُ ما لَكَ [الآية 32] حذف المنادى في هذه السورة لأن مضي ذكره هنا أقرب فلم يحتج إلى إعادة اسم اللعين بالنداء.
قوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ وفي ص ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ [الآية: 75] جمع بين لفظ المنع ولفظ «لا» في هذه السورة لأنه لما حذف النداء زاد لفظة «لا» زيادة في النفي وإعلاما بأن المخاطب به إبليس. وإن شئت قلت: جمع في السورة بين ما في «ص» وما في «الحجر» فقال: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ وما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ وحذف أَنْ تَسْجُدَ وحذف ما مَنَعَكَ لدلالة الحال ودلالة السورتين عليه فبقي ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ.(3/216)
قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ الآية في ص مثله كلاهما في جواب ما مَنَعَكَ ظاهر إلا أنه زاد في الحجر لفط الكون فقال: لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ [الآية: 33] ليكون مطابقا للسؤال حيث قيل: ما لك أن لا تكون مع الساجدين.
قوله: أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ وفي ص وفي الحجر رَبِّ فَأَنْظِرْنِي [الآية: 36] لأنه لما اقتصر في السؤال على الخطاب دون صريح الاسم اقتصر هاهنا أيضا على الخطاب دون ذكر المنادى بخلاف السورتين. وأما زيادة الفاء في السورتين دون هذه السورة فلأن داعية الفاء ما تضمنه النداء من أدعو وأنادي نحو قوله: رَبَّنا فَاغْفِرْ [آل عمران: 193] أي أدعوك فاغفر. فلما حذف النداء في هذه السورة تركت الفاء. وكذلك من قوله: إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ليطابق الجواب السؤال.
قوله: فَبِما أَغْوَيْتَنِي وفي الحجر رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي [الآية: 39] بزيادة النداء ليوافق ما قبله. وزاد في هذه السورة الفاء وكذا في «ص» فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ [الآية: 82] لزيادة الربط. ولم يمكن دخول الفاء في «رب» لامتناع النداء منه لأن ذلك يقع مع السؤال والطلب.
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً ليس في القرآن غيره وإنما اختص هذا الموضع بذلك لأن اللعين بالغ في العزم على الإغواء فقال: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ إلى آخره فبالغ الله جل وعلا في ذمه إذ الذام أشد الذم.
قوله: فَكُلا بالفاء وفي البقرة وَكُلا [الآية: 35] لأن اسكن هاهنا من السكنى التي معناها اتخاذ الموضع مسكنا وهذا لا يستدعي زمانا ممتدا يمكن الجمع بين الاتخاذ والأكل فيه بل يقع الأكل عقيبه، وفي البقرة من السكون الذي يراد به الإقامة فلم يصلح إلا بالواو فإن المعنى أجمعا بين الإقامة فيها والأكل من ثمارها ولو كان بالفاء لوجب تأخير الأكل إلى الفراغ من الإقامة. وإنما زاد في البقرة رَغَداً لما زاد في الخبر تعظيما بقوله:
وَقُلْنا قال بعض الأفاضل في الجواب عن هذه المسائل: إن اقتصاص ما مضى إذا لم يقصد به أداء الألفاظ بأعيانها كان اختلافها واتفاقها سواء إذا أدى المعنى المقصود. وهذا جواب حسن إن رضيت به كفيت مؤنة السهر إلى السحر والله أعلم.
التأويل:
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ أرواحكم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي خلقنا لأرواحكم أجسادا كما جاء في الحديث «إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام» ولتصوير الأجساد بداية وهي قوله: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ [الأعراف: 172] فإن لفظ الذرية يقع على المصورين ووسط يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ [آل عمران: 6](3/217)
ونهاية هي حالة الكهولية في الأغلب ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وأنتم في صلبه وهذا من التمكين أيضا فَسَجَدُوا لاستعدادهم الفطري للسجود ولائتمارهم لأمر الله إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ من المستعدين للسجود لما فيه من الاستكبار الناري قالَ ما مَنَعَكَ خطاب الامتحان لجرم إبليس ليظهر به استحقاقه اللعن فإنه لو كان ذا بصيرة لقال في الجواب منعني تقديرك وقضاؤك ولكنه كان أعور العين اليمنى بصيرا بالعين التي رأى بها أنانيته فقال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ أي منعني خيريتي منه أن أسجد لمن هو دوني، واستدل على خيريته بأنه خلق من نار وهي علوية نورانية لطيفة وآدم خلق من طين وهو سفلي ظلماني كثيف. وهذا القياس معارض بأن النار من خاصيتها الإحراق والفناء والطين من خواصه النشوء والإنماء والاستمساك الذي بقوته يصير الإنسان مستمسكا للفيض الإلهي ونفخ الروح فيه فاستحق سجود الملائكة لأنه صار كعبة حقيقية. فلما ابتلي إبليس بالصغار وطرد من الجوار أخذ في النوح وأيس من الروح ورضي بالعباد واطمأن بالحياة فقال: أَنْظِرْنِي فأجيب إلى ما سأل ليكون وبالا عليه ويزيد في شقوته، ولكن لم يجبه بأن لا يذيقه ألم الموت لقوله في موضع آخر إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ [ص: 81] قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لم تكن حوالته الإغواء إلى الله منه من نظر التوحيد وإنما كان للمعارضة والمعاندة لقوله: لَأُغْوِيَنَّهُمْ [الحجر: 39] لَأَقْعُدَنَّ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ من الجهات التي فيها حظوظ النفس مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قبل الحسد على الأكابر من المشايخ والعلماء المعاصرين وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبل الطعن في الأكابر الأقدمين والسلف الصالحين. وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل إفساد ذات البين وإلقاء العداوة والبغضاء بين الإخوان وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من جهة ترك النصيحة مع أهاليهم وأقاربهم وترك الأمر بالمعروف مع عامة المسلمين. أو المراد مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قبل الرياء والعجب وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبل الصلف والفخر وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل الادعاء وإظهار المواعيد والمواجيد وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من قبل الافتراء على أنفسهم ما ليس فيها من الكشوف والأحوال. أو مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ من قبل الاعتراض على الشيخ وَمِنْ خَلْفِهِمْ من قبل التفريق والإخراج عن صحبة الشيخ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ من قبل ترك حشمة المشايخ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ من قبل مخالفة الشيخ والرد بعد القبول. أو مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ أثوّر عليهم أهاليهم وأولادهم ليمنعوهم عن طلب الحق وَمِنْ خَلْفِهِمْ أثور عليهم آباءهم وأمهاتهم وَعَنْ أَيْمانِهِمْ أثور عليهم أحباءهم وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أثور عليهم أعداءهم وحسادهم. وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ يعني شجرة المحبة فإن المحبة مطية المحنة فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ على أنفسكما لأن للمحبة نارا ونورا فمن لم يرد نارها لم يجد نورها ومن يرد نارها احترقت أنانيته فيبقى بلا هوية نفسه مع هوية ربه فههنا يجد نور المحبة ويتنور به(3/218)
كقوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ [المائدة: 54] فشجرة المحبة شجرة غرسها الرحمن بيده لأجل آدم كما خمر طينة آدم بيده لأجل هذه الشجرة، وإنّ منعه منها كان تحريضا له على تناولها فإن الإنسان حريص على ما منع. ولم تكن الشجرة طعمة لغير آدم وأولاده إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أي من أهل السلو كملكين في زوايا الجنة أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ في الجنة كالحور والرضوان فسقاهما إبليس في كأس القسم شراب ذكر الحبيب وَقاسَمَهُما فلما غرقا في لجّة المحنة وذاقا شجرة المحبة بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي سوآت نار المحبة قبل نورها وهي نار فرقة الأحبة في البداية وَطَفِقا لاشتعال نائرة المحبة يجعلان كل نعيم الجنة على نارهما، فلما التهبت احترقت بلظى نارها حبة الوصلة ونعب غراب البين بالفرقة.
فبينما نحن في لهو وفي طرب ... بدا سحاب فراق صوبه هطل
وإن من كنت مشغوفا بطلعته ... مضى وأقفر منه الرسم والطلل
فالصبر مرتحل والوجد متصل ... والدمع منهمل والقلب مشتعل
وَناداهُما رَبُّهُما نداء العزة والكبرياء أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ فإنها تذل العزيز وتزيل النعيم وتذهب الطرب وتورث التعب والنصب إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ ولكن في عداوته صداقة مخفية تظهر ولو بعد حين.
واخجلتا من وقوفي باب دارهم ... لو قيل لي مغضبا من أنت يا رجل
فانغسل بماء الخجل منهما رعونات البشرية ولوث العجب والأنانية فرجعا عما طمعا فيه ووقفا لديه وعلما أن لا منجا ولا ملجأ منه إلا إليه فقالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا بأن أوقعناها في شبكة المحبة لا المحبة تبقينا بالوصال ولا المحنة تفنينا بالزوال وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا بنوال الوصال وَتَرْحَمْنا بتجلي الجمال لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ الذين خسروا الدنيا والعقبى ولم يظفروا بالمولى. فأمرا بالصبر على الهجر وقيل: اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ النفس عدو القلب والروح، والقلب عدو لما سوى الله وَلَكُمْ للنفس والقلب والرفع في أرض البدن مقام وتمتع في الشريعة باستعمال الطريقة للوصول إلى الحقيقة إلى حين تصير النفس مطمئنة تستحق الخطاب، ارجعي من الهبوط وارفعي بعد السقوط.
إن الأمور إذا انسدت مسالكها ... فالصبر يفتح منها كل ما ارتتجا
لا تيأسنّ وإن طالت مطالبة ... إذا استعنت بصبر أن ترى فرجا(3/219)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ... ومدمن القرع للأبواب أن يلجا.
قالَ فِيها أي في المحبة تَحْيَوْنَ بصدق الهمة وقرع باب العزيمة وَفِيها تَمُوتُونَ بطلب الحق على جادة الشريعة بإقدام الطريقة وَمِنْها تُخْرَجُونَ إلى عالم الحقيقة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 26 الى 34]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34)
القراآت:
ورياشا أبو زيد عن المفضل. الباقون رِيشاً وَلِباسُ بالنصب:
أبو جعفر ونافع وابن عامر وعليّ. الباقون بالرفع. خالِصَةً بالرفع: نافع. الآخرون بالنصب رَبِّيَ الْفَواحِشَ مرسلة الباء: حمزة.
الوقوف:
وَرِيشاً ط لمن قرأ وَلِباسُ مرفوعا ومن قرأ بالنصب وقف على التَّقْوى خَيْرٌ ط يَذَّكَّرُونَ هـ سَوْآتِهِما ط لا يُؤْمِنُونَ هـ أَمَرَنا بِها ط بِالْفَحْشاءِ ط ما لا تَعْلَمُونَ هـ الدِّينَ ط تَعُودُونَ هـ على جواز الوصل لرد النهاية إلى البداية الضَّلالَةُ ج مُهْتَدُونَ هـ وَلا تُسْرِفُوا ج لاحتمال الفاء أو اللام.
الْمُسْرِفِينَ هـ مِنَ الرِّزْقِ ط يَوْمَ الْقِيامَةِ ط يَعْلَمُونَ هـ ما لا تَعْلَمُونَ هـ أَجَلٌ ج لأن جواب «إذا» منتظر مع دخول الفاء فيها وَلا يَسْتَقْدِمُونَ هـ.(3/220)
التفسير:
لما ذكر أن الأرض مستقر لبني آدم ذكر أنه أنزل كل ما يحتاجون إليه في الدين والدنيا فقال: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا وأيضا لما ذكر واقعة آدم في انكشاف العورة وأنه كان يخصف عليها أتبعه ذكر اللباس الساتر للعورة إظهارا للمنّة وإشعارا بأن التستر باب من أبواب التقوى. ومعنى إنزال اللباس أنه قضى ثمة وكتب أو أنه حاصل بالمطر المنزل من السماء ومثله وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: 6] وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد: 25] والريش لباس الزينة استعير من ريش الطير لأنه لباسه وزينته أي أنزلنا عليكم لباسين لباسا يواري سوآتكم ولباسا لزينتكم لأن الزينة غرض صحيح كما قال: لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ [النحل: 6] ومن قرأ رياشا فقد قيل: إنه جمع ريش كشعب وشعاب. وقال الجوهري: الريش والرياش بمعنى كاللبس واللباس وهو لباس الفاخر.
ويقال: الريش والرياش المال والخصب والمعاش. وبالجملة كل شيء يعيش به الإنسان ومنه قولهم رشت فلانا أصلحت حاله، وقال ابن السكيت: الرياش مختص بالثياب والأثاث، والريش قد يطلق على سائر الأموال. أما قوله: وَلِباسُ التَّقْوى فمن قرأ بالنصب فعلى المنصوب قبله عطف، ومن رفع فعلى الابتداء وخبره إما الجملة التي هي ذلِكَ خَيْرٌ كأنه قيل: ولباس التقوى هو خير لأن أسماء الإشارة كالضمائر في صلاح العود بسببها، وإما المفرد الذي هو خَيْرٌ وذلِكَ بدل أو عطف بيان أو صفة بتأويل ولباس التقوى المشار إليه خير. والعدول إلى الإشارة إما لتعظيم لباس التقوى وإما أن يكون المراد بلباس التقوى هو اللباس المواري للسوأة لأن مواراة السوأة من التقوى تفضيلا له على لباس الزينة. ثم من المفسرين من حمل لباس التقوى على نفس الملبوس أي اللباس الذي أنزله الله تعالى ليواري به السوأة هو لباس التقوى لأن قوما من أهل الجاهلية كانوا يتعبدون بالتعري وخلع الثياب ويطوفون بالبيت عراة فيكون كقول القائل: قد عرفتك الصدق في أبواب البر والصدق خير لك من غيره فيعيده. أو المراد به ما يلبس من الدروع والجواشن والمغافر وغيرها في الحروب. أو يراد الملبوسات المعدة لأجل إقامة الصلاة.
ومنهم من حمله على لباس التقوى مجازا فقال قتادة والسدي وابن جريج: إنه الإيمان.
وقال ابن عباس: هو العمل الصالح. وقيل: هو السمت الحسن. وقيل: هو العفاف والتوحيد لأن المؤمن لا تبدو عورته وإن كان عاريا عن الثياب، والفاجر لا تزال عورته مكشوفة وإن كان كاسيا. وقال معبد: هو الحياء. وقيل: هو ما يظهر على الإنسان من السكينة والإخباث والأعمال الصالحات. وعلى هذا فمعنى الآية إن لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به وأقرب إلى الله تعالى مما خلق من اللباس والرياش الذي يتجمل به فأضاف اللباس إلى التقوى كما أضيف إلى الجوع والخوف في قوله: فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ(3/221)
الْجُوعِ وَالْخَوْفِ
[النحل: 112] ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على فضله ورحمته على عباده لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون عظيم النعمة فيه. ثم حذر أولاد آدم من قبول وسوسة الشيطان لأن المقصود من قصص الأنبياء عليهم السلام أن تكون عبرة لمن يسمعها فقال: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ الفتنة الامتحان، تقول: فتنت الذهب إذا أدخلته النار لتنظر ما جودته.
وقال الخليل: الفتن الإحراق. وورق فتين أي فضة محرقة، قال الله تعالى: يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ [الذاريات: 13] من قدر على إخراج الأب من الجنة مع كمال قوته وقرب عهده من فيضان ربه فهو على منع أولاده عن أن يدخلوا الجنة أقدر. ومحل كَما أَخْرَجَ نصب على المصدر أي فتنة مثل إخراج أبويكم لأن هذا الإخراج نوع من الفتنة. ومحل يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما حال أي أخرجهما نازعا لباسهما بأن كان سببا في أن نزع عنهما.
واللام في لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما لام العاقبة أو لام الغرض كما تقدم في قوله: لِيُبْدِيَ لَهُما [الأعراف: 20] قال ابن عباس: يرى آدم سوأة حواء ويرى حواء سوأة آدم وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر. وعن عائشة رضي الله عنها ما رأيت منه ولا رأى مني.
وحمله العلماء على الكراهية لا على التحريم. واختلفوا في اللباس الذي نزع عنهما فقيل:
الثوب الحائل بينهما وبين النظر. وعن سعيد بن جبير: كان لباسهما من جنس الأظفار.
وقيل: اللباس الذي هو ثياب الجنة، قال الكعبي: في الآية دلالة على أن المعاصي والفتن كلها منسوبة إلى الشيطان. وأجيب بأنه لا بد من الانتهاء إلى خالق الكل وموجد القدر والدواعي. ثم علل النهي وأكد التحذير بقوله: إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ أي جماعته من الثلاثة فصاعدا. والقبيل بنو أب واحد. وقال ابن قتيبة: أي أصحابه وجنده. وقال الليث:
هو وقبيله أي وجماعته. مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ أي يكيدون ويغتالون من حيث لا تشعرون.
قال بعض المتكلمين ومنهم المعتزلة: الوجه في أن الإنس لا يرون الجن رقة أجسام الجن ولطافتها، والوجه في رؤية الجن الإنس كثافة أجسام الإنس، والوجه في رؤية الجن بعضهم بعضا أن الله تعالى يقوي شعاع أبصار الجن ويزيد فيه ولو زاد الله في قوة أبصارنا لرأيناهم كما يرى بعضنا بعضا، ولو أنه تعالى كثف أجسامهم وبقيت أبصارنا على هذه الحالة لرأيناهم. وقال أهل السنة: إنهم يرون الإنسان لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكا، والإنس لا يرونهم لأنه تعالى لم يخلق هذا الإدراك في عيون الإنس. قال بعض العلماء: مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص ففيه دليل على أن الجن لا يرون ولا يظهرون للإنس، وأن إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم، وأن زعم من يدعي رؤيتهم فزور ومخرقة. ولو قدر الجن على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شاؤا لارتفع الوثوق عن(3/222)
الناس حتى الزوجة والولد، ولو كانوا قادرين على تخبيط الناس، وإزالة العقل عنهم لكان أولى الناس بذلك العلماء والمشايخ لأن العداوة بينهم وبين خواص الإنس أشد. وعن مجاهد قال إبليس: أعطينا أربع خصال: نرى ولا نرى ونخرج من تحت الثرى ويعود شيخنا فتى. وعن مالك بن دينار أن عدوّا يراك ولا تراه لشديد المئونة إلا من عصمه الله. والضمير في إِنَّهُ للشأن وهو تأكيد ليصح العطف على المرفوع المتصل، ثم قال إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ الآية. واحتج أهل السنة على أنه تعالى هو الذي سلط الشيطان عليهم حتى أضلهم وأغواهم ويتأكد هذا النص بقوله: أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا [مريم: 83] اعتذر القاضي بأن المراد من الجعل الحكم بأن الشيطان ولي لمن لا يؤمن أو المراد التخلية بينهم وبينهم كمن يربط الكلب في داره ولا يمنعه من التوثب على الداخل وأجيب بأن حمل الجعل على الحكم خلاف الظاهر، وهب أنه حكم بذلك فهل يمكن مخالفة حكم الله؟ وبأن الإرسال إنما يصدق على التسليط لا على التخلية المجردة قوله:
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قال بعضهم: نزلت في اتخاذهم البحائر والسوائب. وقيل: في الطواف بالبيت عراة والأولى التعميم والفحشاء الخصلة المتزايدة في القبح أعني الكبيرة والمراد أنهم كانوا يفعلون أشياء هي في أنفسها فواحش ويعتقدون أنها طاعات فوبخوا على ذلك لينتهوا عنها. ثم إنه حكى عنهم حجتين: الأولى التقليد ولم يذكر جوابها لظهور بطلانها عند كل عاقل، والثانية أن الله أمرهم بذلك فأجاب عنها بقوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ فللمعتزلة أن يحتجوا به على أن الشيء إنما يقبح لوجه عائد إليه وأن كونه في نفسه من الفحشاء مغاير لتعلق الأمر والنهي ولهذا أكد هذا المعنى بقوله: أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ والجواب أن عدم الأمر بالفحشاء لا ينافي إرادة الفحشاء ومشيئتها ونحن لا ندعي إلا أنه تعالى مريد لجميع الكائنات وأن شيئا منها لا يخرج عن حكمه وأرادته وتقديره مع أنه لا يأمر إلا بالعدل والصواب كما قال: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ قال عطاء والسدي: أي بالعدل وبما ظهر في العقول كونه حسنا. وعن ابن عباس هو قول لا إله إلا الله ويندرج فيه معرفة الله تعالى بذاته وأفعاله وأحكامه. أما قوله: وَأَقِيمُوا فليس من باب عطف الطلب على الخبر وإنما التقدير: وقل أقيموا وُجُوهَكُمْ أي استقبلوا القبلة واستقيموا وأخلصوا عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ في كل وقت سجود أو في مكان سجود كأن المعنى وجهوا وجوهكم حيثما كنتم في الصلاة إلى الكعبة. وقال ابن عباس: المراد أنه إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحد إني لا أصلي إلا في مسجد قومي. ثم لما أمر بالتوجه إلى القبلة أمر بعده بالدعاء والأظهر أن المراد به أعمال الصلاة سميت دعاء لأن(3/223)
أشرف أجزاء الصلاة هو الدعاء والذكر، ويمكن أن يقال: الدعاء بمعنى العبادة فيكون كقوله: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5] ثم برهن على المعاد ليتحقق الجزاء فقال: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ قال الحسن ومجاهد: كما بدأ خلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئا كذلك تعودون أحياء. وعن ابن عباس: المراد كما بدأ خلقكم مؤمنا أو كافرا تعودون فيبعث المؤمن مؤمنا والكافر كافرا، فإن من خلقه الله تعالى في أول الأمر للشقاوة يعمل بعمل أهل الشقاوة وكانت عاقبته ذلك، ومن خلقه للسعادة فإنه يعمل عمل أهل السعادة وكانت عاقبته السعادة. ويؤيد هذا التفسير قوله عقيب ذلك فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ وانتصاب فَرِيقاً الثاني بفعل مضمر يفسره ما بعده أي وخذل أو أضل فريقا حق عليهم الضلالة كقولك زيدا مررت به. قال القاضي: المعنى فريقا هدى إلى الجنة والثواب وفريقا حق عليهم الضلالة أي العذاب والصرف عن طريق الثواب لأن هذا هو الذي يحق عليهم دون غيره إذ العبد لا يستحق أن يضل عن الدين إذ لو استحق ذلك لجاز أن يأمر أنبياءه بإضلالهم عن الدين كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة. وأجيب بأن قوله: هَدى وحَقَّ ماض وحمله على المستقبل خلاف الظاهر، وبأن الهدى إلى الجنة أو الضلال عنها لا بد أن يكون محكوما به في الأزل وخلاف حكمه محال. ثم بيّن ما لأجله حقت على هذه الفرقة الضلالة أعني السبب القريب وإلا فانتهاء الكل إلى مسبب الأسباب فقال: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فقبلوا دعوتهم دون دعوته ولم يتأملوا في التمييز بين الحق والباطل. ثم بين أن جهلهم مركب لا بسيط فقال: وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ وفيه أن مجرد الظن والحسبان لا يكفي في أصول الدين بل لا بد فيه من القطع واليقين.
ثم لما أمر بالقسط وكان من جملته أمر اللباس والمأكول والمشروب وأيضا أمر بإقامة الصلاة وكان ستر العورة شرطا لصحتها فلا جرم قال: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عن ابن عباس قال: كان أناس من الأعراب يطوفون بالبيت عراة حتى إن كانت المرأة لتطوف بالبيت وهي عريانة فتعلق على سفليها سيورا مثل هذه السيور التي تكون على وجه الحمر تقيها من الذباب وهي تقول:
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله.
وعن طاوس: لم يأمرهم بالحرير والديباج وإنما كان أحدهم يطوف عريانا ويدع ثيابه وراء المسجد، وإن طاف وهي عليه ضرب وانتزعت منه لأنهم قالوا لا نعبد الله في ثياب(3/224)
أذنبنا فيها: وقيل: كانوا يفعلون ذلك تفاؤلا ليتعروا من الذنوب كما تعروا من الثياب.
وقال الكلبي: كان أهل الجاهلية لا يأكلون من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما في أيام حجهم يعظمون بذلك حجهم فقال المسلمون: يا رسول الله نحن أحق بذلك فأنزل الله الآية.
قال أكثر المفسرين: المراد من الزينة لبس الثياب لقوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور:
31] يعني الثياب. وأيضا الزينة لا تحصل إلا بالستر التام للعورات ولأنه يناسب ما تقدم من ذكر اللباس والرياش، ولأن ظاهر الأمر الوجوب وكل ما سوى اللبس غير واجب فوجب حمل الزينة على اللبس عملا بالنص بقدر الإمكان. والسنة فيه أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة. وقيل: الزينة المشط. وقيل: الطيب. ثم إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالآية تقتضي وجوب اللبس التام عند كل صلاة ترك العمل به في القدر الذي لا يجب ستره من الأعضاء إجماعا بقي الباقي داخلا تحت اللفظ. فإذن ستر العورة واجب في الصلاة وإلا فسدت صلاته. قال أصحاب أبي حنيفة: لبس الثوب المغسول بماء الورد على أقصى وجوه النظافة أخذ للزينة فيكفي في صحة الصلاة. وأجيب بأن اللام في قوله:
وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ [البينة: 5] تنصرف إلى المعهود السابق وهو صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم قلتم إنه يصلي في الثوب المغسول بماء الورد؟ أما قوله: وَكُلُوا أي اللحم والدسم.
وَاشْرَبُوا فقد قيل إنهما أمر إباحة بالاتفاق فوجب أن يكون أخذ الزينة أيضا على الإباحة.
وأجيب بأنه لا يلزم من ترك الظاهر في المعطوف تركه في المعطوف عليه مع أن الأكل والشرب قد يكونان واجبين. أيضا في الجملة وهما يشملان جميع المطعومات والمشروبات ويتناولان الأحوال والأوقات إلا ما خصه الدليل المنفصل. والعقل أيضا مؤكد لهذا المعنى لأن الأصل في المنافع الحل والإباحة. وفي قوله: وَلا تُسْرِفُوا وجهان: الأول أنه يأكل ويشرب بحيث لا يتعدى إلى الحرام ولا يكثر الإنفاق المستقبح ولا يتناول مقدارا كثيرا يضره ولا يحتاج إليه. الثاني- وهو قول أبي بكر الأصم- أن المراد من الإسراف قولهم بتحريم البحيرة والسائبة فإنهم أخرجوها عن ملكهم وتركوا الانتفاع بها. وأيضا إنهم حرموا على أنفسهم في وقت الحج ما أحله الله تعالى لهم، قال بعض العلماء: إن حمل الإسراف على الاستكثار مما لا ينبغي أولى من حمله على المنع مما يجوز وينبغي. وعن ابن عباس: كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة،
ويحكى أن الرشيد كان له طبيب نصراني حاذق فقال لعلي بن الحسين بن واقد صاحب المغازي: ليس في كتابكم من علم الطب شيء والعلم علمان علم أبدان وعلم أديان. فقال له: قد جمع الله الطب كله في نصف آية من كتابه. قال: وما هي؟ قال: قوله كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا فقال النصراني:(3/225)
ولا يؤثر عن رسولكم شيء في الطب فقال: قد جمع رسولنا صلى الله عليه وسلم الطب في ألفاظ يسيرة.
قال: وما هي؟ قال: قوله: «المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء وأعط كل بدن ما عودته» فقال: النصراني: ما ترك كتابكم ولا نبيكم لجالينوس طبا.
قيل: كانوا إذا أحرموا حرموا الشاة وما يخرج منها من لحمها وشحمها ولبنها فأنكر ذلك عليهم بقوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ قال ابن عباس وأكثر المفسرين: هي اللباس الساتر للعورة. وقال آخرون:
إنها تتناول جميع أنواع الزينة من الملابس والمراكب والحلي وكذا كل ما يستطاب ويستلذ من المآكل والمشارب والنساء والطيب.
عن عثمان بن مظعون أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
غلبني حديث النّفس عزمت على أن اختصي فقال: مهلا يا عثمان فإن خصاء أمتي الصيام.
قال: فإن نفسي تحدثني بالترهب فقال: إن ترهب أمتي القعود في المساجد لانتظار الصلوات. فقال: تحدثني نفسي بالسياحة قال: سياحة أمتي الغزو والحج والعمرة. فقال:
إن نفسي تحدثني أن أخرج مما أملك. فقال: الأولى أن تكفي نفسك وعيالك وأن ترحم المسكين واليتيم وتعطيه ما فضل من ذلك. فقال: نفسي تحدثني أن أطلق خولة. فقال: إن الهجرة في أمتي هجرة ما حرم الله تعالى. قال: فإن نفسي تحدثني أن لا أغشاها فقال: إن المسلم إذا غشى أهله وما ملكت يمينه فإن لم يصب من وقعته تلك ولدا كان له وصيف في الجنة وإن كان له ولد مات قبله أو بعده كان له قرة عين وفرح يوم القيامة، وإن مات قبل أن يبلغ الحنث كان له شفيعا ورحمة يوم القيامة. قال: فإن نفسي تحدثني أن لا آكل اللحم.
قال: مهلا إني آكل اللحم إذا وجدته ولو سألت الله أن يطعمنيه كل يوم فعله. قال: فإن نفسي تحدثني أن لا أمس الطيب. قال: مهلا فإن جبريل يأمرني بالطيب غبا وقال: لا تتركه يوم الجمعة. ثم قال: يا عثمان لا ترغب عن سنتي فإنه من رغب عن سنتي ومات فليس مني، ولو مات قبل أن يتوب صرفت الملائكة وجهه عن حوضي.
واعلم أن كل واقعة تقع فإما أن لا يكون فيها نفع ولا ضر أو يتساوى ضرها ونفعها فوجب الحكم في القسمين ببقاء ما كان على ما كان، وإن كان النفع خالصا وجب لإطلاق الآية، وإن كان الضرر خالصا وكان تركه خالص النفع فيلتحق بالقسم المتقدم، وإن كان النفع راجحا والضرر مرجوحا تقابل المثل بالمثل وبقي القدر الزائد نفعا خالصا، وإن كان الضرر راجحا بقي القدر الزائد ضررا خالصا وكان تركه نفعا خالصا، فبهذا الطريق صارت هذه الآية دالة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحل والحرمة إلا أن نجد نصا خاصا في الواقعة فنقضي به تقديما للخاص على العام. قال نفاة القياس: لو تعبدنا الله تعالى بالقياس لكان حكم ذلك القياس إما أن يكون موافقا لحكم هذا النص العام وحينئذ يكون ضائعا لأن هذا النص مستقل به، وإن كان(3/226)
مخالفا كان ذلك القياس تخصيصا لعموم هذا النص فيكون مردودا لأن العمل بالنص أولى من العمل بالقياس، فإذن القرآن واف بجميع الأحكام الشرعية والله تعالى أعلم. ثم بيّن أن الزينة والطيبات خلقت في الحياة الدنيا لأجل المؤمنين بالأصالة وللكفرة بالتبعية كقوله:
وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا [البقرة: 126] وأما في الآخرة فإنها خالصة لهم فقال: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً من قرأ بالرفع فلأنه خبر بعد خبر. قال أبو علي: أو على الخبر ولِلَّذِينَ آمَنُوا متعلق به والتقدير: هي خالصة للذين آمنوا في الحياة الدنيا يَوْمَ الْقِيامَةِ وعلى هذا يكون فِي الْحَياةِ ظرفا ل آمَنُوا ويَوْمَ الْقِيامَةِ ظرفا ل خالِصَةً فيفهم من ذلك أنها في غير يوم القيامة غير خالصة لهم بل تكون مشوبة برحمة الكفار. وعلى الأول يكون فِي الْحَياةِ ظرفا لمحذوف أي هي للذين آمنوا غير خالصة في الحياة الدنيا وهي لهم خالصة يوم القيامة. ومن قرأ بالنصب فعلى الحال وباقي التقدير كما ذكرنا آنفا كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي لقوم يمكنهم النظر والاستدلال حتى يتوصلوا به إلى تحصيل العلوم النظرية. ثم بين أصول الأفعال المحرمة وحصرها في ستة أنواع لأن الجناية إما على الفروج وأشار إليها بقوله: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وإما أن تكون على العقول وهي شرب الخمر وإليها الإشارة بقوله:
وَالْإِثْمَ وقيل: الفواحش الكبائر والإثم الصغائر. وقيل: الفواحش كل ما تزايد قبحه وتبالغ، والإثم عام لكل ذنب كأنه خصص أوّلا ثم عمم. وإما أن تكون الجناية على النفوس والأموال والأعراض وإليهن الإشارة بقوله: وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ومعنى بغير الحق أن لا يقدموا على إيذاء الناس بالقتل والقهر إلا أن يكون لهم فيه حق فحينئذ يخرج عن أن يكون بغيا، وإما أن تكون الجناية على الأديان إما بالطعن في التوحيد وإليه أشار بقوله:
وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي لا سلطان حتى ينزل وإما بالافتراء على الله وذلك قوله: وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فإن قيل: الفاحشة وغيرها هي التي نهى الله تعالى عنها فيصير تقدير الآية إنما حرم ربي المحرمات وهذا كلام خال عن الفائدة.
فالجواب أن كون الفعل فاحشة عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النهي عنه فيزول الإشكال. ثم شدد أمر التكاليف بالآجال المحدودة والأنفاس المعدودة فقال:
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ عن ابن عباس والحسن ومقاتل: معناه أنه تعالى أمهل كل أمة كذبت رسولها إلى وقت معين لا يعذبهم قبل ذلك ولا يؤخرهم عنه والمقصود وعيد أهل مكة.
وقيل: معناه أن أجل العمر لا يتقدم ولا يتأخر سواء الهالك والمقتول. وأورد على القول الأول أنه ليس لكل أمة من الأمم وقت معين في نزول عذاب الاستئصال. وعلى الثاني أنه كان ينبغي أن يقال: ولكل إنسان أو أحد أجل. ويمكن أن يقال: الأمة هي الجماعة في كل(3/227)
زمان والمعلوم من حالها التفاوت في الآجال فزال السؤال. وليس المراد أنه تعالى لا يقدر على تبقيته أزيد من ذلك ولا أنقص ولا يقدر على أن يميته إلا في ذلك الوقت لأن هذا يقتضي خروجه سبحانه وتعالى عن كونه قادرا مختارا أو صيرورته كالموجب لذاته، بل المراد أنه تعالى اختار أن الأمر يقع على هذا الوجه وإنما ذكر الساعة لأن هذا الجزء من الزمان أقل ما يستعمل في تقليل الأوقات عرفا. والساعة في اصطلاح أهل النجوم جزء من أربعة وعشرين جزءا من يوم بليلته. قيل: إن عند حضور الأجل يمتنع عقلا وقوع ذلك الأجل في الوقت المتقدم فما معنى قوله: وَلا يَسْتَقْدِمُونَ؟ وأجيب بأن مجيء الأجل محمول على قرب حضور الأجل كقول العرب: جاء الشتاء إذا قارب وقته ومع مقاربة الأجل يصح التقدم على ذلك الوقت تارة والتأخر عنه أخرى.
التأويل:
قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً هو لباس الشريعة يُوارِي سوآت الأفعال القبيحة في الظاهر وسوآت الصفات الذميمة النفسانية والحيوانية بآداب الطريقة في الباطن وَرِيشاً زينة وجمالا في الظاهر والباطن وَلِباسُ التَّقْوى وهو لباس القلب والروح والسر والخفي. فلباس القلب من التقوى هو الصدق في طلب المولى فيواري به سوآت الطمع في الدنيا وما فيها، ولباس الروح من التقوى هو محبة المولى فيواري به سوآت التعلق بغير المولى، ولباس السر من التقوى هو رؤية المولى فيواري بها رؤية غير المولى، ولباس الخفي من التقوى بقاؤه بهوية المولى فيواري بها هوية غير المولى ذلِكَ خَيْرٌ لأن لباس البدن بالفتوى هو الشريعة ولباس القلب بالتقوى هو الحقيقة ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ أي إنزال الشريعة والحقيقة مما يدل على المولى. لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ بالدنيا وما فيها ومتابعة الهوى فيخرجكم عن جنة الصدق في طلب الحق كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وجوار الحق يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما من الشرع وذلك نهيهما عن شجرة المحبة لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما من مخالفة الحق وما علما أن فيها هذه الصفة، ومن جملة سوآتهما كل كمال ونقصان كان مستورا فيهما فأراهما بعد تناول الشجرة إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ يعني من الروحانيين الذين لا صورة لهم في الظاهر فإنهم يرون بنظر الملكوت الروحاني من الإنساني بعض الأفعال التي تتولد عن الأوصاف البشرية كما رأوا في آدم قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ أي إنما يرونكم من حيث البشرية التي منشؤها الصفات الحيوانية فإنكم محجوبون بهذه الصفات عن رؤيتهم لا من حيث الروحانية التي هي منشأ علوم الأسماء والمعرفة فإنهم لا يرونكم في هذا المقام، وأنتم ترونهم بالنظر الروحاني بل بالنور الرباني. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ خلقناهم مستعدين لتولية أمور أهل الغفلة(3/228)
والطبيعة. وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً هي طلب الدنيا وحبها قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا على محبة الدنيا وشهواتها وَاللَّهُ أَمَرَنا بطلب الكسب الحلال قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وإنما يأمر بالكسب الحلال بقدر الحاجة الضرورية لقوام القالب بالقوت واللباس ليقوم بأداء حق العبودية وذلك قوله: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ كَما بَدَأَكُمْ لطفا أو قهرا تَعُودُونَ إليه.
فأهل اللطف يعودون إليه بالإخلاص والطاعة وأهل القهر الذين حقت عليهم الضلالة يعودون إليه جبرا واضطرارا فيسحبون في النار على وجوههم خُذُوا زِينَتَكُمْ فزينة الظاهر التواضع والخضوع، وزينة الباطن الانكسار والخشوع، وزينة نفوس العابدين آثار السجود، وزينة قلوب العارفين أنوار الوجود فالعابد على الباب بنعت العبودية والعارف على البساط بحكم الحرية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا في مقام العندية كما
قال: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «1»
وَلا تُسْرِفُوا بالإفراط فوق الحاجة الضرورية والتفريط في حفظ القوة بحيث تضيع حقوق العبودية. زِينَةَ اللَّهِ فزين الأبدان بالشرائع وآثارها، وزين النفوس بالآداب وأقدارها، وزين القلوب بالشواهد وأنوارها، وزين الأرواح بالمعارف وأسرارها، وزين الأسرار بالطوالع وآثارها، فمن تصدّى لطلب هذه المقامات فهي مباحة له من غير تأخير وقصور وحظر ومنع وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ما لم يكن مشوبا بحظوظ النفس، فهذه الكرامات والمقامات لهؤلاء السادة في الدنيا مشوبة بشواهد الآفات النفسانية وكدورات الصفات الحيوانية خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ من هذه الآفات والكدورات كما قال: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الحجر: 47] الْفَواحِشَ ما يقطع على العبد طريق السلوك إلى الرب ففاحشة العوام ما ظَهَرَ مِنْها ارتكاب المناهي وَما بَطَنَ خطورها بالبال، وفاحشة الخواص ما ظَهَرَ مِنْها تتبع ما لأنفسهم نصيب منه ولو بذرة وَما بَطَنَ
الصبر على المحبوب ولو بلحظة، وفاحشة الأخص ما ظَهَرَ مِنْها ترك أدب من الآداب أو التعلق بسبب من الأسباب وَما بَطَنَ الركون إلى شيء في الدارين والالتفات إلى غير الله من العالمين. وَالْإِثْمَ الإعراض عن الله ولو طرفة عين وَالْبَغْيَ وهو حب غير الله فإنه وضع في غير موضعه. وأن يستغيثوا بغير الله ما لم يكن فيه رخصة وحجة من الشريعة وَأَنْ تَقُولُوا بفتوى النفس وهواها أو بنظر العقل عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ حقيقتها أو تقولوا في معرفة الله وبيان أحوال السائرين ما لستم به عارفين وَلِكُلِّ أُمَّةٍ من السائرين إلى الله أو إلى
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الصوم باب 20، 48، 49. مسلم في كتاب الصيام حديث 57، 58.
الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (3/ 8) ، (6/ 126) .(3/229)
يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
الجنة مدة مضروبة في الأزل، وفيه وعد للأولياء واستمالة لقلوبهم ووعيد للأعداء وسياسة لنفوسهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 43]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
القراآت:
حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا كان يعقوب: إذا وقف على «إذا» يبتدىء تداركوا بالتاء. سهل: مخير، وكذلك قوله تعالى: قُلْتُمْ قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا وافق الكسائي في تثاقلتم أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ بالإمالة الشديدة: إبراهيم بن حماد وحمزة وعلي وخلف.
وقرأ أبو عمر وغير إبراهيم بن حماد لِأُولاهُمْ بالإمالة اللطيفة أُخْراهُمْ بالإمالة الشديدة، وافق ورش من طريق النجاري والخزاز عن هبيرة في أُخْراهُمْ بالإمالة الشديدة فَآتِهِمْ بضم الهاء: رويس وكذلك كل كلمة سقطت الياء لعلة. إلا قوله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ [الأنفال: 6] لا يعلمون بياء الغيبة: أبو بكر وحماد لا تُفَتَّحُ لَهُمْ بتاء التأنيث والتخفيف: أبو عمرو. وقرأ حمزة وعلي وخلف بفتح ياء تحتانية وبالتخفيف. الباقون بتاء التأنيث والتشديد. غواشي بالياء في الوقف: يعقوب وكذلك كل كلمة سقطت الياء لأجل التنوين أو لاجتماع الساكنين وهو مذهب سهل من طريق ابن دريد، ما كُنَّا بغير(3/230)
واو العطف: ابن عامر. الآخرون بالواو. أُورِثْتُمُوها وبابه بإدغام الثاء: أبو عمرو وحمزة وعلي وهشام.
الوقوف:
آياتِي لا لأن الفاء بعده لجواب الشرط وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ هـ النَّارِ ط خالِدُونَ هـ بِآياتِهِ ط مِنَ الْكِتابِ ط يَتَوَفَّوْنَهُمْ لا لأن ما بعده جواب «إذا» .
مِنْ دُونِ اللَّهِ ط كافِرِينَ هـ فِي النَّارِ ط أُخْتَها ط جَمِيعاً لا لما قلنا. مِنَ النَّارِ ط لا يعلمون هـ يكسبون هـ الْخِياطِ ط الْمُجْرِمِينَ هـ غَواشٍ ج الظَّالِمِينَ هـ وُسْعَها ط وجعل أُولئِكَ خبرا للموصول أوجه بناء على أن قوله:
لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها معترضة الْجَنَّةِ ط خالِدُونَ هـ الْأَنْهارُ ط للعطف مع العارض. هَدانَا اللَّهُ ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى بِالْحَقِّ ط لابتداء النداء بأنها جزاء بعد انتهاء الحمد والثناء على أنها عطاء تَعْمَلُونَ هـ.
التفسير:
لما بيّن أحوال التكليف وأن لكل أحد أجلا معينا لا يتقدم ولا يتأخر بيّن أنهم بعد الموت إن كانوا قد قبلوا الشرائع الحقة فلا خوف عليهم ولا حزن، وإن كانوا متمردين وقعوا في أشد العذاب فقال: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ وإعرابه مثل ما مر في سورة البقرة فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً [الآية: 38] والراجع محذوف أي فمن اتقى وأصلح منكم والذين كذبوا منكم. وإنما قال: رُسُلٌ مِنْكُمْ لأن ذلك يكون أقطع لعذرهم وأقرب إلى الفهم والأنس. ومعنى آياتي أحكامي وشرائعي الدالة على صحة المبدأ والمعاد. ثم قطع شأن الجاحدين بقوله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ والأول الحكم بوجود ما لم يوجد كأقوال أصناف المشركين وطوائف المبتدعة. والثاني إنكار حكم وجد من نبي أو كتاب. ثم أخبر عن عاقبة أمرهم فقال أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ قيل: أي العذاب المعين من سواد الوجه وزرقة العين. وقال الزجاج: أي أنواع البلايا المعدة لكل صنف منهم من السلاسل والأغلال وغيرها على مقدار ذنوبهم، وقيل: هم اليهود والنصارى يجب علينا إذا كانوا في ذمتنا أن ننصفهم ولا نتعدى عليهم وأن نذب عنهم فذلك معنى النصيب. وعن ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير أن النصيب هو ما سبق لهم في حكم الله تعالى ومشيئته من الشقاوة والسعادة والختم على الكفر والشرك، أو على الإيمان والتوحيد.
وقال الربيع وابن زيد: يعني ما كتب لهم من الأرزاق والأعمال والأعمار كأنه سبحانه بيّن أنهم وإن بلغوا في الكفر ذلك المبلغ العظيم إلا أن ذلك ليس بمانع من أن ينالهم ما قدر لهم من رزق وعمر تفضلا من الله تعالى لكي يصلحوا ويتوبوا ويؤكد هذا التفسير قوله عقيب ذلك حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ وذلك أن «حتى» هي التي يبتدأ بعدها الكلام وأنه(3/231)
هاهنا جملة شرطية فدل على أن مجيء الرسل المتوفين كالغاية، فحصول ذلك النصيب يكون مقدما على حصول الوفاة وليس ذلك إلا العمر والرزق. ومحل يَتَوَفَّوْنَهُمْ نصب على الحال من الرسل. قال ابن عباس: هم ملك الموت وأعوانه وإنهم يطالبون الكفار بهذه الأشياء عند الموت على سبيل الزجر والتوبيخ. وقال الحسن والزجاج: إن هذا يكون في الآخرة والرسل ملائكة العذاب يتوفون عدّتهم عند حشرهم إلى النار أي يستكملون عدّتهم حتى لا ينفلت منهم أحد. قال في الكشاف: «ما» وقعت موصولة بأين في خط المصحف قلت: وإني رأيت النقل على العكس كما ذكرته في المقدمة السابقة من مقدمات الكتاب، ومعنى الآية أين الآلهة التي تدعون أي تعبدونهم وتدعونهم في الشدائد قالُوا على سبيل الاعتراف والعود إلى الإنصاف ضَلُّوا عَنَّا أي غابوا وذهبوا ولم ننتفع بهم وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ بالاعتراف أو بشهادة الجوارح عند معاينة الموت أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ثم شرح بقية أحوال الكفار وذلك قوله: قالَ أي الله. وعن مقاتل هو من كلام خازن النار. وهذا مبني على أنه سبحانه لا يجوز أن يكلم الكفار وإن كان كلام سخط ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قيل:
أي ادخلوا في النار مع أمم والأولى أن لا يلتزم الإضمار والمجاز. والمعنى ادخلوا كائنين في جملة أمم تقدم زمانهم زمانكم في النار. وفيه دليل على أن أصحاب النار لا يدخلون النار دفعة واحدة ولكن فيهم سابق ومسبوق كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها في الدين والعقيدة. فالمشرك يلعن المشرك، واليهودي يلعن اليهودي، والنصراني يلعن النصراني، وكذا المجوس وسائر أديان الضلالة وإذا لعنت نظيرها فلأن تلعن غيرها أولى حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها أي تداركوا بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار وأدرك بعضهم بعضا واستقر معه قالَتْ أُخْراهُمْ أي آخرتهم دخولا في النار لِأُولاهُمْ دخولا فيها أو أتباعهم وسفلتهم لرؤسائهم وقادتهم والمعنيان متلازمان عندي لأن المضل لا بد وأن يكون مقدما على الضال في دخول النار. واللام بمعنى التعليل أي لأجل أولاهم وذلك لأن خطابهم مع الله لا معهم رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ الفاء للجزاء عَذاباً ضِعْفاً أي مضاعفا وذلك عذاب الضلال وعذاب الإضلال بالدعوة إلى الباطل وتزيينه في أعينهم والسعي في إخفاء الدلائل. قال أبو عبيدة: الضعف مثل الشيء مرة واحدة وهو قول الشافعي في رجل أوصى فقال: أعطوا فلانا ضعف نصيب ولدي يعطى مثل نصيبه مرتين. وقال الأزهري: العرب تريد بالضعف المثل إلى ما زاد وليس بمقصور على المثلين بدليل قوله عز من قائل:
فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا [سبأ: 37] وأقل ذلك عشرة لقوله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام: 160] وإنما قال الشافعي ما قال لأن ذلك متقن وما فوقه مشكوك قالَ أي الله أو خازن النار لِكُلٍّ من القادة والأتباع ضِعْفٌ أما(3/232)
للقادة فلما قلنا، وأما للأتباع فلأنهم عظموهم وقلدوهم وروّجوا أمرهم. سئل هاهنا إن تضعيف العذاب للشخص الذي يستحق العذاب ظلم وأجيب في التفسير الكبير بأن عذاب الكفار مؤبد فكل ألم يحصل فإنه يعقبه حصول ألم آخر إلى غير النهاية. قلت: وهذا لا يختص بصنف من الكفار دون صنف ولا بشخص دون شخص فلا يصلح للجواب.
والصواب أن يقال: معنى تضعيف عذاب التابع والمتبوع أن ذلك العذاب زائد على مقدار ما تستحقه تلك العقيدة لو حصلت لا من حيثية التابعية والمتبوعية والله أعلم وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ من قرأه على الغيبة فمعناه لا يعلم كل فريق مقدار عذاب الفريق الآخر لأن الاسم الظاهر يعود الضمير إليه على الغيبة، ومن قرأ على الخطاب فالمعنى لا تعلمون أيها المخاطبون ما لكل منكم من العذاب أو لا تعلمون يا أهل الدنيا ما مقدار ذلك. وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ إذ قد حكم الله بأن لكل منا ضعفا فَما كانَ أي فما ثبت لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ لأنكم مؤاخذون بالاتباع كما نحن مؤاخذون بالاستتباع فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ يحتمل أن يكون من قول القادة وأن يكون من قول الله تعالى فيهم. قال في التفسير الكبير: قول القادة ليس لكم علينا فضل كذب لأن الرؤساء لهم عذاب الضلال وعذاب الإضلال والاتباع لهم عذاب الضلال فقط لكنه حكاية قول الكفار يوم القيامة والكذب عليهم جائز عندنا كقولهم: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] قلت: إن سلمنا أن الكذب يجوز أن يصدر عنهم يوم القيامة إلا أن هذا الكلام لا يجوز أن يكون كاذبا لأنهم بنوا كلامهم على حكم الله سبحانه بأن لكل ضعفا.
ثم ذكر ما يدل على خلودهم في النار فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وهي الدلائل الدالة على الذات والصفات والنبوات والمعاد وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي ترفعوا عن قبولها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ قال ابن عباس: أي لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله تعالى من قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:
10] ومن قوله: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [المطففين: 18] وقال السدي وغيره: لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء التي هي موضع بهجة الأرواح وأماكن سعاداتها كما
جاء في الحديث «إن روح المؤمن يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال مرحبا بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ويقال لها ذلك حتى تنتهي إلى السماء السابعة. ويستفتح لروح الكافر فيقال لها ارجعي ذميمة فإنه لا تفتح لك أبواب السماء» «1»
وقيل: بناء على أن الجنة في السماء معناه ولا يؤذن لهم في الصعود إلى السماء ولا تطرّق لهم إليها حتى يدخلوا
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الزهد باب 31. أحمد في مسنده (2/ 364) .(3/233)
الجنة. وقيل: أي لا تنزل عليهم البركة والخير من قوله تعالى: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ [القمر: 11] وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ الولوج الدخول. وسئل ابن مسعود عن الجمل فقال: زوج الناقة استجهالا للسائل وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. والسم بالحركات الثلاثة وقد قرىء بها ثقب الإبرة وكل ثقب في البدن لطيف ومنه السم القاتل لنفوذه بلطفه في مسام البدن حتى يصل إلى القلب. والخياط ما يخاط به قال الفراء: خياط ومخيط كإزار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع. ولما كان جسم الجمل من أعظم الأجسام المشهورة عند العرب كما قال:
لا عيب بالقوم من طول ومن عظم ... جسم الجمال وأحلام العصافير
وكان سم الإبرة مثلا في ضيق المسلك حتى قيل: أضيق من خرت الإبرة. وقالوا للدليل الماهر خريت لاهتدائه في المضايق المشبهة بأخرات الإبر، وقف الله تعالى دخولهم الجنة على حصول هذا الشرط المحال ليلزم يأسهم من دخول الجنة قطعا فإن الموقوف على المحال محال ومثله قول العرب: «لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب ويبيض القار» ، وقرىء الجمل بوزن القمل وكذا الجمل بوزن الحبل وبمعناه لأنه حبل ضخم من ليف أو خوص من آلات السفن. واختار ابن عباس هذا التفسير قائلا: إن الله تعالى أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل يعني أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة والبعير لا يناسبه. وأهل التناسخ أوّلوا الآية بأن الأرواح التي كانت في الأبدان البشرية لمّا عصت وأذنبت فإنها بعد موت الأبدان ترد من بدن إلى بدن ولا تزال تبقى في التعذيب حتى تنتقل من بدن الجمل إلى بدن الذرة فتنفذ في سم الخياط، وحينئذ تصير مطهرة عن تلك الذنوب فتدخل الجنة وتصل إلى السعادة وَكَذلِكَ ومثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ قيل: هم الكافرون المكذبون المستكبرون المار ذكرهم، وقيل: يدخل فيه الفساق بشرط عدم التوبة عند المعتزلة، وبشرط عدم العفو عند الأشاعرة. ثم لما بين أنهم لا يدخلون الجنة ذكر أنهم يدخلون النار فقال: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي فراش وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ هي جمع غاشية وهي كل ما يغشاك أي يجللك، والمراد الإخبار عن إحاطة النار بهم من كل جانب فلهم منها غطاء ووطاء وفراش ولحاف. والتنوين في غَواشٍ مثله في «جوار» أعني أنه للتمكن عند بعض لأنه بعد حذف يائه لم يبق على زنة مساجد، وللعوض عند بعض، إما عن الياء أو عن إسكان الياء وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ هم المشركون أو الفسقة الذين ظلموا أنفسهم. ثم عقب الوعيد بالوعد فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ الآية. وقوله(3/234)
لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وقد مر تفسيره في آخر سورة البقرة اعتراض بين المبتدأ وخبره وليس بأجنبي وإلا لم يحسن. وفيه تنبيه للمقصرين على أن الجنة مع عظم قدرها تحصل بالعمل السهل من غير ما حرج وصعوبة فبعدا لمن فاتته وسحقا لمن فارقته. ومن جعله خبرا فالعائد محذوف أي لا نكلف نفسا منهم. ثم وصف أخلاق أهل الجنة فقال: وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ نزع الشيء قلعه من مكانه، والغل الحقد والتركيب يدور على الإخفاء ومنه الغلول كما مر في تفسير قوله: وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران: 161] وللآية تفسيران: الأول أزلنا الأحقاد التي كانت لبعضهم على بعض في دار الدنيا بتصفية الطباع وإسقاط الوسواس ومنعه من أن يرد على القلوب فإن الشيطان مشغول بالعذاب فلا يتفرغ لإلقاء الوسواس فلم يكن بينهم إلا التوادد والتعاطف.
عن علي كرم الله وجهه أني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم.
الثاني: أن درجات أهل الجنة متفاوتة بحسب الكمال والنقص، فالله تعالى أزال الحسد عن قلوبهم حتى إن صاحب الدرجة الناقصة لا يحسد صاحب الدرجة الكاملة فيكون هذا في مقابلة ما ذكره الله تعالى من تبري بعض أهل النار من بعض ولعن بعضهم بعضا وليس هذا ببديع ولا بعيد من حال أهل الجنة، فإن أولياء الله تعالى في دار الدنيا أيضا بهذه المثابة بحسن توفيق الله تعالى ونور عنايته وهدايته كل منهم قد قنع بما حصل له من نعيم الدنيا وطيباتها لا يميل طبعه إلى زوجة لغيره أحسن من زوجته ولا إلى مشتهى ألذ مما رزقه الله، وكل هذا نتيجة ملكة الرضا بالقضاء والتسليم لأمر رب الأرض والسماء، فيموتون كذلك ويحشرون على ذلك وفقنا الله لنيل هذا المقام ببركة أولئك الكرام تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وهذه من جملة أسباب التنزه والترفه أن أجرى على ظاهره، ومن جملة السعادات الروحانية أن أريد بها أنواع المكاشفات وأصناف التجليات وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا النعيم المقيم والفوز العظيم بأن يسر الأسباب وخلق الدواعي ومنع الصوارف، أو بأن أعطى العقل ونصب الأدلة وأزاح العلة وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ من قرأ بواو العطف فظاهر، ومن خذف الواو فلأنها جملة يقرب معناها من معنى الأولى وكأنها تفسرها فلا حاجة إلى العطف المؤذن بالتغاير. ثم حكى عنهم سبب الاهتداء وذلك قوله: لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فجعله واسطة لهدايتنا أو لطفا وتنبيها يقولون ذلك فيما بينهم سرورا واغتباطا بما نالوا وتلذذا بالتكلم به لا تقربا وتعبدا فإن الجنة ليست دار التكليف وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ بأنه تلكم الْجَنَّةُ والضمير للشأن والحديث ويجوز كونه بمعنى أي لأن النداء في معنى القول. وإنما قيل: تِلْكُمُ لأنهم وعدوا بها في الدنيا وكأنه قيل لهم هذه تلكم التي وعدتم بها، ويجوز أن يكون التبعيد للتعظيم. ومعنى أُورِثْتُمُوها صارت إليكم كما يصير الميراث إلى أهله. قد يستعمل الإرث ولا يراد به زوال(3/235)
الملك عن الميت إلى الحي كما يقال هذا الفعل يورثك الشرف أو العار. وقيل: أعطوا تلك المنازل من غير تعب في الحال فصار شبيها بالميراث. وقيل: إن أهل الجنة يرثون منازل أهل النار لما
روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: «ليس من مؤمن ولا كافر إلا له في الجنة والنار منزل فإذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار رفعت الجنة لأهل النار فنظروا إلى منازلهم فيها فقيل لهم هذه منازلكم لو عملتم بطاعة الله ثم يقال يا أهل الجنة رثوهم بما كنتم تعملون فيقسم بين أهل الجنة منازلهم»
قالت المعتزلة قوله: بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يدل على أن الموجب للجزاء هو العمل لا التفضل. وقال غيرهم: لما كان الموفق للعمل الصالح هو الله تعالى كان دخول الجنة بفضله. وجعل العمل أمارة على ذلك والمنادي هو الله جل وعلا أو الملك الموكل بذلك والله تعالى أعلم.
التأويل:
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ الهامات من أنفسكم من طريق قلوبكم وأسراركم وفيه أن بني آدم كلهم مستعدون لإشارات الحق وإلهاماته. افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن يقول أكرمني الله بالكرامات والمقامات ولم يعط أَوْ كَذَّبَ بمقامات أعطاها بعض أوليائه أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ من الشقاء الذي كتب لهم حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رسل الإلهامات الإلهية والواردات الربانية بعد أن كان هائما في تيه البشرية يَتَوَفَّوْنَهُمْ بجذبات الألطاف الإلهية عن الأوصاف البشرية قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الدنيا وشهواتها وَشَهِدُوا هؤلاء المجرمون المحرومون أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ساترين الحق بالباطل فهداهم الله تعالى. ثم قال لأهل الخذلان ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ وقدم الجن لأن الله تعالى خلق أولا بني الجان منهم مؤمن ومنهم كافر، فلما استولى أهل الكفر منهم بعث إليهم جندا من الملائكة- وقيل رئيسهم إبليس- فاستأصلوهم ثم خلق آدم وذريته منهم مؤمن ومنهم كافر. كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ في أعمال أهل النار لَعَنَتْ أُخْتَها المتقدمة في تلك الأعمال لأنهم سنوها حَتَّى إِذَا تدارك الكل في الأعمال الموجبة للنار. عَذاباً ضِعْفاً لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها لِكُلٍّ ضِعْفٌ لأن المتأخر أيضا متقدم الذي يتلوه ويستن بسنته وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ أنكم متقدمون لمتأخريكم فما كان لكم علينا من فضل لأنكم سننتم لمتأخريكم كما سننا لكم لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ سماء القلوب إلى الحضرة وَلا يَدْخُلُونَ جنة القربة والوصلة حتى يدخل جمل النفس المتكبرة في سم خياط أحكام الشريعة وآداب الطريقة، وحتى تصير بالتربية في إزالة الصفات الذميمة وقطع تعلقات ما سوى الله أدق من الشعرة بألف مرة فيلج في سم خياط الفناء فيدخل جنة البقاء وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ الذين(3/236)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
صارت أنفسهم في حمل الأوزار كالجمل لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ المجاهدة والرياضة فراش ومن فوقهم من مخالفات النفس قمع الهوى لحاف فتذهبهم وتحرق أنانيتهم. لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فيرفع عن ظاهرهم وباطنهم كلفة الإيمان والعمل حتى تيسر عليهم العبودية بحسن التوفيق.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 53]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)
القراآت:
نَعَمْ بكسر العين حيث كان: علي. الباقون بالفتح مُؤَذِّنٌ بغير همز:
النجاري عن روش ويزيد والشموني وحمزة في الوقف. أَنْ مخففة لَعْنَةُ اللَّهِ بالرفع:
عاصم وأبو عمرو وأبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب وابن مجاهد وأبو عون عن قنبل.
الباقون: مشددة وبالنصب.
الوقوف:
حَقًّا ج لانتهاء الاستفهام. نَعَمْ ج للعطف مع الابتداء بالتأذين.
عَلَى الظَّالِمِينَ هـ لا لأن «الذين» صفتهم عِوَجاً ج لاحتمال الواو الاستئناف أو الحال كافِرُونَ هـ لأن ما بعده لم يدخل في التأذين ولم يجز أن يكون حالا حِجابٌ ج لتناهي حال الفئتين واتفاق الجملتين بِسِيماهُمْ ط يَطْمَعُونَ هـ أَصْحابِ النَّارِ لا لأن ما بعده جواب «إذا» الظَّالِمِينَ هـ تَسْتَكْبِرُونَ هـ بِرَحْمَةٍ ط لتناهي الاستفهام والأقسام(3/237)
تَحْزَنُونَ هـ رَزَقَكُمُ اللَّهُ ط الْكافِرِينَ هـ الْحَياةُ الدُّنْيا ج للابتداء مع فاء التعقيب هذا لا «وما» مصدرية كما في كَما نَسُوا والتقدير ننساهم كنسيانهم وجحودهم يَجْحَدُونَ هـ يُؤْمِنُونَ هـ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ط بِالْحَقِّ ج لابتداء الاستفهام مع الفاء للتعقيب كُنَّا نَعْمَلُ ط يَفْتَرُونَ هـ.
التفسير:
ولما شرح وعيد الكفار وثواب الأبرار أتبعه المناظرات التي تدور بين الفريقين فقال: وَنادى وإنما ذكره بلفظ الماضي لأن المستقبل الذي يخبر الله تعالى عنه من حيث تحقق وقوعه كالماضي. والظاهر أن هذا النداء إنما يكون بعد الاستقرار في الجنة لأنه ورد بعد قوله: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها قيل: الجنة في أعلى السموات والنار في أسفل الأرض. ومع هذا البعد الشديد كيف يصح هذا النداء؟ وأجيب بأن البعد الشديد والقرب القريب عندنا ليس من موانع الإدراك، ولو سلم المنع في الشاهد فلا يسلم في الغائب. وهذا النداء يقع من كل أهل الجنة لكل أهل النار لأن أصحاب الجنة وأصحاب النار يفيد العموم لكن الجمع إذا قرن بالجمع يوزع الفرد على الفرد، فكل فريق من أهل الجنة ينادي من كان يعرفه من الكفار. و «أن» في أَنْ قَدْ وَجَدْنا مفسرة أو مخففة من الثقيلة كما مر في قوله: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ [الأعراف: 43] وكذا قوله: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ لأن النداء والتأذين في معنى القول. قال ابن عباس: وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا في الدنيا من الثواب حَقًّا صحيحا مطابقا للواقع فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من العقاب حَقًّا والغرض من هذا الاستفهام إظهار الشاشة والاغتباط وإيقاع الحزن في قلب العدو، وفي هذه الحكاية لطف للمؤمنين وترغيب كما في سائر الأخبار. وإنما حذف المفعول في وَعَدَ رَبُّكُمْ لدلالة المفعول في وَعَدَنا عليه، ولأن كونهم مخاطبين من قبل الله تعالى بهذا الوعد يوجب مزيد التشريف وأنه لا يليق إلا بحال المؤمنين ويحتمل أن يكون الإطلاق ليتناول كل ما وعد الله من البعث والحساب والثواب والعقاب وسائر أحوال القيامة قالُوا نَعَمْ قال سيبويه: نعم عدة وتصديق أي تستعمل تارة عدة وتارة تصديقا. فإذا قال:
أتعطيني؟ قال: نعم، فهو عدة. وإذا قال: قد كان كذا وكذا فقلت: نعم فقد صدقت.
والحاصل أن نعم للتصديق في الخبر والتحقيق في الاستفهام مثبتين كانا أو منفيين.
فلو قيل: قام زيد أو أقام زيد فتقول: نعم. كان معناه نعم قام زيد مصدقا أو محققا ولو قيل: ما قام زيد أو ألم يقم زيد فقلت: نعم. كان المعنى ما قام زيد مصدقا أو محققا. ومن ثم قال ابن عباس: لو قالوا في جواب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] «نعم» لكان كفرا. هذا من حيث اللغة وقد يكون العرف على خلاف ذلك كقول الفقهاء: لو قيل أليس لي عليك دينار(3/238)
فقلت: نعم التزمت بالدينار بناء على العرف الطارئ بعد الوضع. وكنانة تكسر العين من نعم. وروي عن عمر أنه سأل قوما عن شيء فقالوا: نعم فقال عمر: أما النعم فالإبل وقولوا نعم وأنكر هذه الرواية أبو عبيد فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قال ابن عباس: هو الملك صاحب الصور يأمره الله فينادي نداء يسمع أهل الجنة وأهل النار. ومعنى التأذين النداء والتصويت للإعلام ومنه الأذان لأنه إعلام بالصلاة وبوقتها. والظالمون في الآية قيل: عام للكافر والفاسق والظاهر أنهم الكفار لأن الصد عن سبيل الله أي المنع عن قبول الدين الحق بالقهر أو بالحيلة وإلقاء الشكوك والشبهات في الدلائل وهو المراد بقوله: وَيَبْغُونَها عِوَجاً وقد مر في آل عمران. والكفر بالآخرة كلها من أوصاف الكفرة وإنما قدم بالآخرة تصحيحا لفواصل الآي ولم يزد لفظة هم هنا على القياس. وأما في سورة هود فلما تقدم هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ وقال: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [الآية: 18] ولم يقل «عليهم» والقياس ذلك التبس أنهم هم أم غيرهم فكرر ليعلم أنهم هم المذكورون لا غيرهم. ثم وصف أهل الجنة والنار فقال: وَبَيْنَهُما يعني بين الجنة والنار أو بين الفريقين حِجابٌ وهو السور المذكور في قوله سبحانه: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ [الحديد: 13] قيل: أي حاجة إلى ضرب هذا السور والجنة فوق السموات والجحيم في أسفل سافلين. وأجيب بأن بعد أحدهما عن الآخر لا يمنع أن يكون بينهما سور وحجاب. والأعراف لغة جمع عرف بالضم وهو الرمل المرتفع ومنه عرف الفرس وعرف الديك، وكل مرتفع من الأرض عرف لأنه بسبب ارتفاعه يصير أعرف مما انخفض منه. الأعراف في الآية يفسر بالمكان تارة وبغيره أخرى. أما الذين فسروه بالمكان وهم الأكثرون فقال: إن الأعراف أعلى أعالي السور المضروب بين الجنة والنار ويروى عن ابن عباس. وعنه أيضا أن الأعراف شرف الصراط وعلى هذا التفسير فالذين هم على الأعراف من هم فيه قولان: أحدهما أنهم أقوام يكونون في الدرجة العليا من الثواب. وثانيهما: أنهم في الدرجة النازلة. وعلى الأول فيه وجوه:
فقال أبو مجلز: هم ملائكة يعرفون أهل الجنة وأهل النار. فقيل له: يقول الله تعالى:
وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ وأنت تقول: إنهم ملائكة. فقال: الملائكة ذكور لا إناث. ويرد عليه أن الرجل لغة يطلق على من يصلح أن يكون من نوعه أنثى بل يطلق على الذكر من بني آدم. وقيل: إنهم الأنبياء عليهم السلام أجلسهم الله تعالى على ذلك المكان العالي إظهارا لشرفهم وليكونوا مشرفين على الفريقين مطلعين على أحوالهم ومقادير ثوابهم وعقابهم.
وقيل: إنهم الشهداء. وعلى القول الثاني قيل: إنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم أوقفهم الله على هذه الأعراف لأنها درجة متوسطة بين الجنة والنار. ثم تؤل عاقبة أمرهم إلى الجنة(3/239)
برحمة من الله وفضل قاله حذيفة وابن مسعود واختاره الفراء. وخصصه بعضهم فقال: هم قوم خرجوا إلى الغزو بغير إذن أمهاتهم فاستشهدوا فساوت معصيتهم طاعتهم وفي هذا التخصيص نظر. وقال عبد الله بن الحرث: إنهم مساكين أهل الجنة. وقال قوم: هم الفساق من أهل الصلاة يعفو الله عنهم ويسكنهم الأعراف. وأما الذين فسروه بغير المكان وهو قول الحسن والزجاج فقد قالوا: إن المعنى وعلى معرفة أهل الجنة والنار رجال يميزون البعض من البعض إما بالإلهام أو بتعريف الملائكة. قال الحسن: والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا. وعلى جميع التفاسير فهم يعرفون أهل الجنة وأهل النار. قال قوم: يعرفون أهل الجنة بكون وجوههم ضاحكة مستبشرة مبيضة، وأهل النار بسواد وجوههم وزرقة عيونهم. وزيف بأن هذا النوع من المعرفة عام لأهل المحشر فلا وجه لتخصيص أصحاب الأعراف بذلك.
ويمكن أن يقال: إن معرفتهم لكونهم على الأمكنة المرتفعة آمنين. وقال المحققون: إنهم كانوا يعرفون أهل الخير والإيمان والصلاة وأهل الشر والكفر والإفساد وهم كانوا في الدنيا شهداء الله على أهل الإيمان والطاعة وعلى أهل الكفر والمعصية، فهو تعالى يجلسهم على الأعراف ليكونوا مطلعين على الكل يشهدون على كل أحد بما يليق به. ثم قال: وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي إنهم إذا نظروا إلى الجنة سلموا على أهلها. ثم أخبر على سبيل الاستئناف أن أهل الأعراف لم يدخلوا الجنة وَهُمْ يَطْمَعُونَ كأن سائلا سأل عن حالهم أو على أنه صفة أخرى لرجال. فإن قلنا: إن أصحاب الأعراف هم الأشراف فيكون الله تعالى أخر إدخالهم الجنة ليطلعوا على أحوال أهل الجنة والنار، ثم إنه تعالى ينقلهم إلى الدرجات العلا في الجنة كما
روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «ان أهل الدرجات العلا ليراهم من تحتهم كما ترون الكوكب الدريّ في وسط السماء وإن أبا بكر وعمر منهم»
ومعنى يطمعون على هذا يتيقنون كقول إبراهيم: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: 82] ولا يخفى ما في هذه العبارة من حسن الأدب. وإن قلنا أصحاب الأعراف هم الأوساط فلا إشكال لأنهم يطمعون من فضل الله وإحسانه أن ينقلهم من ذلك الموضع إلى الجنة وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قال الواحدي:
التلقاء جهة اللقاء وهي جهة المقابلة وهو في الأصل مصدر استعمل ظرفا. ولم يأت من المصادر على «تفعال» بالكسر إلا حرفان «تبيان» و «تلقاء» وإنه في الاسم كثير كتمثال وتقصار، والمعنى أنه كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النار تضرعوا إلى الله تعالى أن لا يجعلهم من زمرتهم. وفي بناء الفعل للمفعول وإن لم يقل وإذا أبصروا فائدة هي أن صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا ويوبخوا. ثم بين أن أصحاب الأعراف ينادون رجالا من أكابر أهل النار واستغنى عن التصريح بهم بوصفهم بما لا يليق إلا بهم فقال(3/240)
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ المال أو كثرتكم واجتماعكم وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عن الحق وعلى الناس، وفيه تبكيت للمخاطبين وشماتة بهم، ثم زادوا في التبكيت مشيرين إلى فريق من أهل الجنة كانوا يستضعفونهم ويستقلون أحوالهم، وربما استهزؤا بهم وأنفوا من مشاركتهم في دينهم لقلة حظوظهم من الدنيا فقالوا: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ أما قوله: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ إلى آخر الآية. فمن قول الله تعالى لأصحاب الأعراف، أو من قول الملائكة لهم بأمره، أو من قول بعضهم لبعض وذلك بعد أن يحبسوا ويجلسوا على الأعراف وينظروا إلى الفريقين ويقولوا. قال المفسرون: الرجال هاهنا الوليد بن المغيرة وأبو جهل ابن هشام والعاص بن وائل السهمي ونظراؤهم. وكانوا يقولون إن بلالا وسلمان وعمارا وأمثالهم يدخلهم الله الجنة ويدخلنا النار كلا والله إن الله لا يفضل علينا خدمنا ورعاتنا، أقسموا أن لا يخصهم بفضل دونهم فناداهم أصحاب الأعراف.
ثم ختم المناظرات بقوله: وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ قال ابن عباس: لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بفرج بعد اليأس فقالوا: ربنا إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فأمر الله بالجنة فزخرفت ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فعرفوهم، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل جهنم فلم يعرفوهم قد اسودت وجوههم وصاروا خلقا آخر، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وقالوا: أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ طلبوا الماء أوّلا لما في بواطنهم من الاحتراق الشديد. وفي الإفاضة نوع دلالة على أن أهل الجنة أعلى مكانا من أهل النار.
قال بعض العلماء: إنهم سألوا ذلك مع جواز الحصول. وقال آخرون: بل مع اليأس لأنهم عرفوا دوام عقابهم ولكن الآيس من الشيء قد يطلبه كما يقال في المثل: الغريق يتعلق بالزبد. وإن علم أنه لا يغنيه. قوله: أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قيل: أي سائر الأشربة لدخوله في حكم الإفاضة. وقيل: أي من الثمار أو الطعام. والمراد: وألقوا علينا من الطعام والفاكهة كقوله:
علفتها تبنا وماء باردا فيكون في الآية دليل على نهاية عطشهم وشدّة جوعهم. ثم كأن سائلا سأل فبماذا أجابهم أهل الجنة؟ فقيل: قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ أي منعهم شراب الجنة وطعامها كما يمنع المكلف ما يحرم عليه وهذه نهاية الحسرة والخيبة أعاذنا الله منها. ثم(3/241)
وصف هؤلاء الكافرين بأنهم الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ وقد مر تفسير الوصفين في أوسط سورة الأنعام. وقال ابن عباس: يريد المستهزئين المقتسمين، وجملة الأمر أن الإنسان يطمع في طول العمر وحسن العيش وكثرة المال وقوة الجاه فلشدة رغبته في هذه الأشياء يصير محجوبا عن طلب الدين غريقا في بحر الدنيا ومشتهياتها. ثم ذكر جزاءهم يوم القيامة على سبيل الحكاية فقال: فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ أي نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا قاله الحسن ومجاهد والسدي والأكثرون، وقيل: أي نعاملهم معاملة من نسي بتركهم في النار كما فعلوا هم في الإعراض عن آياتنا، فسمي جزاء النسيان نسيانا كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ
[الشورى: 40] والحاصل أنه لا يجيب دعائهم ولا يرحم ضعفهم وذلهم. عن أبي الدرداء أن الله تعالى يرسل على أهل النار الجوع حتى يزداد عذابهم فيستغيثون فيغاثون بالضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ثم يستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصة، ثم يذكرون الشراب فيستغيثون إلى أهل الجنة كما في هذه الآية فتقول أهل الجنة إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ، ويقولون لمالك ليقض علينا ربك فيجيبهم على ما قيل بعد ألف عام إنكم ماكثون، ويقولون ربنا أخرجنا منها فيجيبهم اخسؤا فيها ولا تكلمون، فعند ذلك ييأسون من كل خير ويأخذون في زفير وشهيق. وعن ابن عباس في صفة أهل الجنة: إنهم يرون الله عز وجل في كل جمعة، ولمنزل كل واحد منهم ألف باب فإذا رأوا الله تعالى دخل من كل باب ملك معهم الهدايا الشريفة. وقال: إن نخل الجنة خشبها الزمرد وقوائمها الذهب الأحمر وسعفها حلل وكسوة لأهل الجنة وثمرتها أمثال القلال أشد بياضا من الفضة وألين من الزبد وأحلى من العسل لا عجم فيها. فهذه صفة الفريقين من القرآن والحديث فتأهب لأيهما شئت والله الموفق. ولما شرح الله تعالى حال الطائفتين والمناظرات الجارية بينهم لتكون حاملا للمكلف على الحذر من مواجب النار وعلى الرغبة في مستتبعات الجنة بيّن شرف هذا الكتاب الكريم وغاية منافعه الجليلة فقال: وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ ميزنا بعضه عن بعض تمييزا يهدي إلى الرشاد ويؤمن من الغلط والتخليط. وإنما فعلنا ذلك لا كيفما اتفق بل عَلى عِلْمٍ بما في كل فصل من تلك الفصول من الفوائد الكثيرة والمنافع الغزيرة حتى جاء بريئا من كل خلل وقدح ومعجزا باقيا على وجه الدهر. وقوله: وهُدىً وَرَحْمَةً حالان من منصوب فَصَّلْناهُ كما أن عَلى عِلْمٍ حال من مرفوعه. ويحتمل أن يكونا مفعولا لهما لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأن فائدته تعود إليهم، ثم لما بيّن إزاحة العلة بسبب إنزال هذا الكتاب المفصل الموجب للهداية والرحمة بين بعده حال من كذب به فقال: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ والنظر هاهنا بمعنى الانتظار والتوقع، وكيف ينتظرون مع جحدهم وإنكارهم؟ الجواب لعل فيهم أقواما تشككوا(3/242)
وتوقفوا ولهذا السبب انتظروه. وأيضا إنهم كانوا جاحدين إلا أنهم بمنزلة المنتظرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة. قال الفراء: الضمير في تأويله للكتاب أي إلا عاقبة أمره وما يؤل إليه من بيان صدقه وظهور صحة ما نطق به من الوعد والوعيد، أو عاقبة ما وعدوا به على ألسنة الرسل من الثواب والعقاب، والتأويل مرجع الشيء ومصيره من قولهم آل الشيء يؤل يَوْمَ يَأْتِي يريد يوم القيامة وانتصابه على أنه ظرف يَقُولُ ومعنى:
نَسُوهُ تركوا العمل به والإيمان أو أنهم صاروا في الإعراض عنه بمنزلة من نسيه قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي متلبسين بما هو الحق، أو الباء للتعدية والمراد اعترافهم بثبوت الحشر والنشر وأحوال القيامة وأهوالها إذا عاينوها فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا منصوب بإضمار «أن» بعد الفاء والتقدير: هل يثبت لنا شفيع فيشفع أَوْ هل نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فنوحد الله تعالى بدلا عن الشرك ونطيعه بدلا عن المعصية. وفيه دليل على أن أهل الآخرة لا تكليف لهم خلافا للنجار ومن تبعه وإلا لم يسألوا الرد إلى دار التكليف ولم يتمنوه بل كانوا يتوبون في الحال. ثم حكم بأن ذلك التمني لا يفيدهم شيئا وأن مطلوبهم لا يكون البتة فقال: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي لا ينتفعون بالأصنام التي عبدوها في الدنيا وليس تفيدهم نصرة الأوثان التي بالغوا في نصرها.
التأويل:
نادى أهل المحبة أهل القطيعة أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا يعني
قوله: «ألا من طلبني وجدني»
فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حقا وهو
قوله: «ومن طلب غيري لم يجدني»
فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ العزة والعظمة على الظالمين الذين وضعوا استعداد الطلب في غير موضع مطلوبه، الذين يصدون القلب والروح عن سبيل الله وطلبه، ويطلبون صرف وجوههم إلى الدنيا وما فيها وَبَيْنَهُما حِجابٌ من الأوصاف البشرية والأخلاق الذميمة النفسانية فلا يرى أهل النار أهل الجنة وكذا بين أهل الجنة وأهل الله- وهم أصحاب الأعراف- حجاب من أوصاف الخلقية والأخلاق الحميدة الروحانية. وسميت أعرافا لأنها موطن أهل المعرفة، وسموا رجالا لأنهم بالرجولية يتصرفون فيما سوى الله تصرف الرجال في النساء ولا يتصرف فيهم شيء منه، فالأعراف مرتبة فوق الجنان في حظائر القدس عند الرحمن يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة وأهل النيران بِسِيماهُمْ من آثار نور القلب وظلمته وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ يعني هنيئا لكم ما أنتم فيه من النعيم والحور والقصور. ثم أخبر عن همة أهل الأعراف فقال: لَمْ يَدْخُلُوها أي الجنة ونعيمها ولم يلتفتوا إلى غير المولى وَهُمْ يَطْمَعُونَ في الوصول إلى الحق سبحانه. وَإِذا صُرِفَتْ(3/243)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ
ابتلاء ليعرفوا أنه تعالى من أي دركة خلصهم وبأي كرامة خصصهم ومن هذا القبيل يكون ما يسنح لأرباب الكمالات من الخواطر النفسانية وما أتاهم الله بشيء من الدنيا والجاه والقبول والاشتغال بالخلق ليعرفوا قدر العزلة والتجريد والأنس مع الله في الخلوات رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ يعني أهل الجنة وأهل النار ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ يا أهل الجنة وأهل الله من الطاعات ويا أهل النار من الدنيا والشهوات وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عن السير في حقيقة لا إله إلا الله أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ يعني أن من المؤمنين والعلماء بعلم الظاهر في بعض الأوقات من يقول لدناءة همته لأهل المحبة والمعرفة لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ الوصول ادْخُلُوا الْجَنَّةَ يعني الجنة المضافة إليه في قوله: ادْخُلِي جَنَّتِي [الفجر: 30] في حظائر القدس وعالم الجبروت لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ من الخروج وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ على ما فاتكم من نعيم الجنة إذ فزتم بشهود جمالنا. اعلم أن أهل الجنة وأهل النار يرون أهل الله وهم أصحاب الأعراف بالصورة ما داموا في مواطن الكونين، فإذا دخلوا الجنة الحقيقية المضافة إلى الله في حظائر القدس وسرادق العزة انقطع عنهم نظرهم ونظر الملائكة المقرّبين فافهم. يحكى عن بابا جعفر الأبهري أنه دخل على بابا طاهر الهمداني فقال: أين كنت فإني حضرت البارحة مع الخواص على باب الله فما رأيتك ثمة؟ فقال بابا طاهر: صدقت كنت على الباب مع الخواص وكنت داخلا مع الأخص فما رأيتني. أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ كانوا في الدنيا عبيد البطون حراصا على الطعام والشراب فماتوا على ما عاشوا وحشروا على ما ماتوا، وإن أهل الجنة لما جوعوا بطونهم لوليمة الفردوس كان اشتغالهم في الجنة بشهوات النفس والمضايقة بها قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ وفي الحقيقة إنما حرمهما عليهم في الأزل فلم يوفقوا لمعاملات تورث الجنة هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي ما يؤل إليه عاقبته في شأنهم. فللمؤمنين كشف الغطاء وسبوغ العطاء، ولأهل الجحود الفرقة والافتقار وعذاب النار أعاذنا الله تعالى منها.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 54 الى 58]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)(3/244)
القراآت:
يُغْشِي بالتشديد حيث كان: حمزة وعلي وخلف وأبو بكر وحماد وسهل ويعقوب غير روح. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ كلها بالرفع: ابن عامر.
الآخرون بالنصب. الريح على التوحيد: ابن كثير وحمزة وعلى وخلف نشرا بالنون وسكون الشين: ابن عامر. وبفتح النون وسكون الشين: حمزة وعلي وخلف وأبو زيد عن المفضل. وبضم الباء الموحدة والشين الساكنة: عاصم غير أبي زيد الباقون بضم النون والشين. مَيِّتٍ بالتشديد: أبو جعفر ونافع وحمزة وعلي وخلف وحفص والمفضل نَكِداً بفتح الكاف: يزيد. الآخرون بكسرها.
الوقوف:
حَثِيثاً ط لمن قرأ وَالشَّمْسَ وما بعده مرفوعات بِأَمْرِهِ ط وَالْأَمْرُ ط الْعالَمِينَ هـ وَخُفْيَةً ط الْمُعْتَدِينَ هـ للعطف مع الآية. وَطَمَعاً ط الْمُحْسِنِينَ هـ رَحْمَتِهِ ط الثَّمَراتِ ط تَذَكَّرُونَ هـ بِإِذْنِ رَبِّهِ ج للابتداء مع العطف نَكِداً ط يَشْكُرُونَ هـ.
التفسير:
لما بالغ سبحانه في تقرير أمر المعاد عاد على عادته إلى بيان المبدإ وهو ذكر الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القدرة والعلم تأكيدا للمعاد. والمعنى إن الذي يربيكم ويصلح شأنكم ويوصل إليكم الخيرات ويدفع عنكم المكاره هو الذي بلغ كمال قدرته وعلمه وحكمته ورحمته إلى حيث خلق هذه الأجسام الجسام وأودع فيها أنواع المنافع وأصناف الفوائد، فكيف يليق أن يرجع إلى غيره في طلب الخيرات ويعوّل على غيره في تحصيل السعادات؟ قال علماء الأدب: أصل ست سدس بدليل سديس وأسداس. ثم إن العرب كانوا يخاطبون اليهود فالظاهر أنهم سمعوا بعض أوصاف الخالق منهم فكأنه سبحانه يقول: لا تشتغلوا بعبادة الأوثان والأصنام فإن ربكم هو الذي سمعتم من عقلاء الناس أنه هو الذي خلق السموات والأرض على غاية عظمتهما ونهاية جلالتهما في ستة أيام. قيل:
إنه تعالى كان قادرا على إيجادهما دفعة واحدة فما الفائدة في ذكر أنه خلقهما في ستة أيام في أثناء ذكر ما يدل على وجود الصانع؟ وأجيب بأنه أراد أن يعلم عباده الرفق والتأني في الأمور والصبر فيها كيلا يحمل المكلف تأخير الثواب والعقاب على التعطيل. ومن العلماء من قال: إن الشيء إذا أحدث دفعة واحدة ثم انقطع الإحداث فلعله يخطر ببال بعضهم أن ذلك إنما وقع على سبيل الاتفاق، أما إذا أحدثت الأشياء على التعاقب والتواصل مع كونها مطابقة للحكمة والمصلحة كان ذلك أقوى في الدلالة على كونها واقعة بإحداث محدث(3/245)
حكيم عليم قادر رحيم. وأيضا ثبت بالدليل أنه تعالى يخلق العاقل أوّلا ثم يخلق السموات والأرض بعده لأن خلق ما لا ينتفع به في الحال يجر إلى العبث. ثم إن ذلك العاقل- ملكا كان أو جنيا- إذا شاهد في كل ساعة وحين حدوث شيء آخر على سبيل التعاقب والتوالي كان ذلك أقوى في إفادة اليقين لأنه يتكرر على عقله ظهور هذه الدلائل لحظة فلحظة. وأما تقدير المدة بستة أيام فلا يرد عليه إشكال لأن السؤال يعود على أي مقدار فرض، وقيل: إن لعدد السبعة شرفا عظيما ولهذا خصت ليلة القدر بالسابع والعشرين. فالأيام الستة لتخليق العالم والسابع لتحصيل كمال الملك والملكوت. فإن قيل: كيف يعقل حصول الأيام قبل خلق الشمس التي نيط تقدير الأزمنة بطلوعها وغروبها؟ فالجواب أن المراد خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام كقوله: وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم: 62] والمراد مقدار البكرة والعشي في الدنيا لأنه لا صباح عند الله ولا مساء. وعن ابن عباس أن هذه الأيام أيام الآخرة كل يوم ألف سنة مما تعدون. والأكثرون على أنها أيام الدنيا لأن التعريف بها يقع. والظاهر أنها الأيام بلياليها لا النهار. ونقول: يمكن أن تحمل الأيام الستة على الأطوار الستة التي للأجسام الهيولى والصورة والجسم البسيط ثم المركب المعدني والنباتي والحيواني والله تعالى أعلم بمراده. أما قوله سبحانه: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ فحمل بعضهم الاستواء على الاستقرار وزيف بوجوه عقلية ونقلية منها: أن استقراره على العرش يستلزم تناهيه من الجانب الذي يلي العرش، وكل ما هو متناه فاختصاصه بذلك الحد المعين يستند لا محالة إلى محدث مخصص فلا يكون واجبا. ولقائل أن يقول: لم لا يجوز أن يكون الإله تعالى نورا غير متناه ويراد باستقراره على العرش بلا تناهيه إحاطته به من الجوانب ونفوذه في الكل لا كإحاطة الفلك الحاوي بالمحوى، ولا كنفوذ النور المحسوس في الشرف، بل على نحو آخر تعوزه العبارة. ومنها أنه تعالى لو كان في مكان وجهة لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجهات أو متناهيا من بعضها دون بعض. وعلى الأول يلزم اختلاطه بجميع الأجسام حتى للقاذورات ومع ذلك فالشيء الذي هو محل السموات، إما أن يكون عين الشيء الذي هو محل الأرض أو غيره، وعلى الأول يلزم أن يكون السماء والأرض حالين في محل واحد فهما شيء واحد لا شيئان. وعلى الثاني يلزم التركيب والتجزئة في ذاته تعالى. وأما إن كان متناهيا من الجهات فلو حصل في جميع الأحياز فهو محال بالبديهة، وإن حصل في حيز واحد فلو كان جوهرا فردا لزم أن يكون واجب الوجود أحقر الأشياء وإلا لزم التبعيض لأن جهة الفوق منه تكون مغايرة لمقابلتها. وكذا الكلام فيه إن كان متناهيا من بعض الجهات، ولو جاز أن يكون الشيء المحدود من جانب أو جوانب(3/246)
قديما أزليا فاعلا للعالم فلم لا يجوز أن يقال فاعل العالم هو الشمس والقمر أو كوكب آخر؟
وأيضا يصح على الشق المتناهي أن يكون غير متناه وعلى غير المتناهي أن يكون متناهيا، لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية كل ما صح على واحد منها صح على الباقي فيصح النمو والذبول والزيادة والنقصان والتفريق والتمزق على ذاته تعالى فيكون ممكنا محدثا لا واجبا قديما. ولقائل أن يقول: إنه غير متناه ولا يلزم من ذلك أن يكون محلا للعالم ولا حالا فيه، واستصحاب الشيء للمحل غير كونه نفس المحل أو مفتقرا إلى المحل.
وحديث اختلاطه بالقاذورات تخييل لا أصل له عند الرجل البرهاني. ومنها أنه لو كان الباري يتعالى حاصلا في المكان والجهة لكان الأمر المسمى بالجهة إما أن يكون موجودا مشارا إليه أو لا يكون. فإن كان موجودا كان له بعد وامتداد وللحاصل فيه أيضا بعد وامتداد فيلزم تداخل البعدين ومع ذلك يلزم كون الجهة والحيز أزليين ضرورة كون الباري تعالى أزليا ومحال أن يكون ما سوى الواجب أزليا، وإن لم يكن موجودا لزم كون العدم المحض ظرفا لغيره ومشارا إليه بالحس وذلك باطل. واعترض بأن ذلك أيضا وارد عليكم في قولكم: «الجسم حاصل في الحيز والجهة» . وأجيب بأن مكان الجسم عندنا عبارة عن السطح الظاهر من الجسم المحوي وهذا المعنى بالاتفاق في حق الله محال فسقط الاعتراض. ولقائل أن يقول: الجهة مقطع الإشارة الحسية وهذا في حقه محال لعدم تناهيه.
ولم لا يجوز أن يكون المكان خلاء فلا يلزم تداخل البعدين ولو لزم هناك لزم في الأجسام أيضا بل لا بعد هناك ولا امتداد، ولو فرض فلن يلزم منه الانقسام في الخارج، ومنها أنه لو امتنع وجود الباري تعالى بحيث لا يكون مختصا بالحيز والجهة لكانت ذاته مفتقرة في تحققها ووجودها إلى غيره فيكون ممكنا. والجواب ما مر من أن استصحاب المكان لا يوجب الافتقار إليه. ومنها أن الحيز والجهة لا معنى له إلا الفراغ المحض، ولأن هذا المفهوم واحد فالأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية. فلو اختص ذاته تعالى بحيز معين لكان اختصاصه به لمخصص مختار، وكل ما كان فعل الفاعل المختار فهو محدث، فحصوله في الحيز محدث وكل ما لا يخلو عن الحادث فهو أولى بالحدوث فالواجب محدث هذا خلف.
ولقائل أن يقول: ما لا يتناهى لا يعقل له حيز معين ولو فرض لا تناهي الأحياز أيضا فافتقاره إليها ممنوع، وكيف يفتقر الشيء إلى ما تأخر وجوده عن وجود ذلك الشيء والمعية بعد ذلك لا تضر؟ ومنها لو كان في الحيز والجهة لكان مشارا إليه بالحس، ثم إن كان قابلا للقسمة لزم التجزي وإلا لكان نقطة أو جوهرا فردا فلا يبعد أن يقال: إن إله العام جزء من ألف جزء من رأس إبرة ملتصقة بذنب قملة أو نملة. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن كونه مع(3/247)
الحيز من جميع الجهات المفروضة يستلزم كونه مشارا إليه حسا فإن العقل يعجز عن إدراكه فضلا عن الحس وباقي الكلام لا يستحق الجواب. ومنها كل ذات قائمة بالنفس يشار إليها بحسب الحس فلا بد أن يكون جانب يمينه مغايرا لجانب شماله فيكون منقسما وكل منقسم مفتقر ممكن. قالوا: هذا الدليل مبني على نفي الجوهر الفرد. ومنها لو كان في حيز لكان إما أعظم من العرش أو مساويا له أو أصغر منه والثالث باطل بالإجماع والأولان يستلزمان الانقسام لأن المساوي للمنقسم منقسم وكذا الزائد عليه، لأن القدر الذي فضل به عليه مغاير لما سواه. ولقائل أن يقول: لا نسبة بين الجسم وبين نور الأنوار وتستحيل هذه التقادير.
ومنها أنه لو فرض كونه تعالى غير متناه من جميع الجهات كما يزعم الخصم لزم لا تناهي الأبعاد وإنه محال لبرهان تناهي الأبعاد. ولقائل أن يقول: إن برهان تناهي الأبعاد لا يسلم ولو سلم فلا بعد فيما وراء العالم الجسماني ولا امتداد. ومنها أنه سبحانه لو كان حاصلا في الحيز لكان كونه هناك إما أن يمنع من حصول جسم آخر فيه أو لا يمنع. وعلى الأول كان تعالى مساويا لجميع الأجسام في هذا المعنى، ثم إنه إن لم تحصل بينه وبينها مخالفة بوجه آخر صح عليه ما يصح عليها من التغيرات وإنه محال، وإن حصل بينه وبينها مخالفة بوجه آخر صح عليه ما يصح عليها من التغيرات وإنه محال، وإن حصل بينه وبينها مخالفة من سائر الوجوه كان ما به المشاركة مغايرا لما به المخالفة فيكون الواجب مركبا بل ممكنا.
وأيضا إن ما به المشاركة وهو طبيعة البعد والامتداد إما أن يكون محلا لما به المخالفة أو حالا فيه أو لا هذا ولا ذاك. فإن كان محلا له كان البعد جوهرا قائما بنفسه والأمور التي بها حصلت المخالفة أعراضا وصفات، وإذا كانت الذوات متساوية في تمام الماهية فكل ما يصح على بعضها يصح على البواقي، وكل ما يصح على بعض الأجسام من التفرق والتمزق والنمو والذبول والعفونة والفساد يصح على ذاته تعالى. وإن كان ما به المخالفة محلا وذوات وما به المشاركة حالا وصفة فذلك المحل إن كان له أيضا اختصاص بحيز وجهة فيجب افتقاره إلى محل آخر لا إلى نهاية وإلا كان موجودا مجردا فلا يكون بعدا وامتدادا هذا خلف. وإن لم يكن حالا ولا محلا كان أجنبيا مباينا فتكون ذات الله تعالى مساوية لتمام الأجسام في الماهية ويصح عليه ما يصح عليها هذا محال، وعلى التقدير الثاني- وهو أن ذاته تعالى لا تمنع من حصول جسم آخر في حيزه- لزم سريانه في ذلك الجسم وتداخل البعدين كما مر والكل محال، فالمقدم وهو كونه تعالى في حيز محال.
ولقائل أن يقول: كون البارئ تعالى مع الحيز مغاير لكون الجسم في الحيز فأين الاشتراك؟
ولو سلم فالاشتراك في اللوازم لا يوجب الاشتراك في الملزومات فمن أين يلزم التركيب؟
قوله: «فإن كان محلا له كان البعد جوهرا قائما بنفسه» قلنا: كون البعد جوهرا قائما بنفسه(3/248)
حق، ولكن الملازمة ممنوعة، وكذا قوله: «الأمور التي بها حصلت المخالفة» أعراض وصفات لجواز قيام العرض بالعرض كالبطء والسرعة القائمين بالحركة، قوله: «وإلا كان موجودا مجردا فلا يكون بعدا» ممنوع لما قلنا من احتمال وجود بعد مجرد بلا وجوبه، والكلام في سريانه في الموجودات قد مر. ومنها أنه لو كان في حيز فإن أمكنه التحرك منه بعد سكونه فيه كان المؤثر في حركته وسكونه فاعلا مختارا، وكل فعل لفاعل مختار فهو محدث وما لا يخلو عن المحدث أولى بأن يكون محدثا وإن لم يمكنه التحرك منه كان كالزمن المقعد العاجز وذلك محال. وأيضا لا يبعد فرض أجسام أخرى مختصة بأحياز معينة بحيث يمتنع خروجها عنها فلا يمكن إثبات حدوث الأجسام بدليل الحركة والسكون والكرامية يساعدون على أنه كفر. ولقائل أن يقول: إن الحركة والسكون من خواص الأجسام المفتقرة إلى أحياز، فأما النور المجرد فلا يوصف بالحركة والسكون وإن كان مع الحيز والمتحيز. سلمنا وجوب اتصافه بأحدهما فلم لا يجوز أن لا يمكنه التحرك لا لكونه زمنا مقعدا ولكن لأنه نور غير متناه لا يصح وصفه بالتخلخل والتكاثف ونحو ذلك، فتستحيل عليه الحركة لأنها موقوفة على شغل حيز وتفريغ حيز آخر، ولأن العالم النوراني الذي لا نهاية له مملوء منه فكيف يتصور خلو حيز عنه؟ ومنها أنه لو كان مختصا بحيز فإن كان لطيفا كالماء والهواء كان قابلا للتفرق والتمزق، وإن كان صلبا كان إله العالم جبلا واقفا في الحيز العالي، وإن كان نورا محضا جاز أن تفرض هذه الأنوار التي تشرق على الجدران إلها. وأيضا إن كان له طرف وحدّ فإن كان ذا عمق وثخن كان باطنه غير ظاهره وإلا كان سطحا في غاية الرقة مثل قشرة الثوم بل أرق منها ألف ألف مرة. قلت: إن أمثال هذه الكلمات لا تصدر إلا عمن لا يفرق بين النور المعقول والنور المحسوس، والجوهر المجرد والجوهر المادي، والشيء القائم بذاته والمفتقر إلى غيره. ومن العجب العجاب أن هذا المستدل قد سمع من جمهور العقلاء أن الأجرام الفلكية لا تطلق عليها الصلابة واللين، وإذا جاز أن يكون في أنواع الأجسام نوع لا يمكن أن يتصف بهذين المتقابلين لأن ذلك الموضع.
أجل وأشرف من أن يتصف بأحدهما، فلم لا يجوز أن يكون فيما هو أشرف من ذلك النوع شيء لا يتصف بهما؟! ومنها لو كان إله العالم فوق العرش لكان مماسا للعرش أو مباينا له ببعد متناه أو غير متناه. وعلى الأول فإن لم يكن له ثخن كان سطحا رقيقا كما مر، وإن كان له ثخن فالمماس مغاير لغير المماس ويلزم تركيبه، وإن كان مباينا ببعد متناه فلا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى أن يماسه ويعدو الإلزام المذكور، وإن كان مباينا ببعد غير متناه لزم أن يكون غير المتناهي محصورا بين الحاصرين، ولقائل أن يقول: المباينة والمماسة من(3/249)
خواص الأجسام وإنه تعالى نور مجرد محض فلا يصلح عليه الاتصال والانفصال والتماس والتباين والتداخل وأشباه ذلك. ومنها أن الاستقراء قد دل على أن الجرمية كلما كانت أقوى كانت الفاعلية والتأثير أضعف وبالعكس، ولهذا كان تأثير الأرض أقل من تأثير الماء، وتأثير الماء من تأثير الهواء، وتأثير الهواء من تأثير النار بالإحراق والطبخ، وتأثير النار من تأثير الأفلاك المؤثرة في العنصريات. ثم إنه لا قدرة ولا قوة أشد من قدرة الواجب لذاته فيكون بريئا من الحجم والجرم والكثافة والرزانة. قلت: في الاستقراء نزاع إنه صحيح تام أولا، ولكن لا نزاع في أن واجب الوجود تعالى شأنه بريء عن الحجمية والكثافة وعن كل شيء يقدح في قيوميته. وهاهنا حجج قد أوردت في أوائل سورة الأنعام في تفسير قوله سبحانه:
وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ [الأنعام: 18] وقد عرفت ما عليها فهذه حجج عقلية عول عليها الإمام فخر الدين الرازي رضي الله عنه في تفسيره الكبير، وقد أوردنا عليها ما كانت ترد من المنوع والاعتراضات لا اعتقادا للتشبيه والتجسم أو تقليدا لأولئك الأقوام بل تشحيذا للذهن وتقريبا إلى المعارف والحقائق وجذبا بضبع المتأمل في المضايق والمزالق فليختر المنصف ما أراد والله الموفق للرشاد. ولعل هذا المقام مما لا يكشف المقال عنه غير الخيال والله أعلم بحقيقة الحال. ثم قال رضي الله عنه: وأما الدلائل السمعية فكثيرة منها قوله تعالى:
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1] والأحد مبالغة في كونه واحدا والذي يمتلىء منه العرش ويفضل عن العرش يكون مركبا من أجزاء فوق أجزاء العرش وذلك ينافي كونه أحدا.
وأجيب بأنه ذات واحدة حصلت في كل الأحياز دفعة واحدة، وزيف بأن هذا معلوم الفساد بالضرورة لو جاز ذلك فلم لا يجوز أن يقال جميع العرش إلى ما تحت الثرى جوهر واحد وموجود واحد إلا أن ذلك الجزء الذي لا يتجزأ حصل في جملة الأحياز فظن أنه أشياء كثيرة. قلت: وهذه مغالطة فإن هذا الجزء الذي لا يتجزأ لصغره غير الشيء الذي لا يقبل التجزئة والانقسام لذاته. وأيضا المتحيز الذي مقداره ذراع في ذراع لا يشغل بالبديهة حيزين كل منهما ذراع في ذراع فلزم منه أن لا يشغل ذينك الحيزين متحيز مقداره. ضعف ذلك على أن الحق ما عرفت مرارا أن نور الأنوار قيوم في ذاته حاصل في جميع الأشياء لا منفصل عنها انفصال المحيط عن المحاط، ولا متصل بها اتصال العرض الساري في الأجسام، ولهذا لا يلزمه بانقسامها الانقسام. ومنها قوله: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة: 17] ويلزم منه أن يكون حامل العرش حاملا للإله. والجواب أنك إن سميت المعية حملا فلا نزاع. ومنها قوله: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ [محمد: 38] فوجب أن يكون غير مفتقر إلى المكان والجهة، والجواب أن الاستصحاب غير الافتقار. ومنها أن فرعون(3/250)
طلب حقيقة الإله في قوله: وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 23] ولم يزد موسى على ذكر الأوصاف. وأما فرعون فقد طلب الإله في السماء في قوله فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى [القصص: 38] فعلمنا أن التنزيه دين موسى ووصفه بالمكان والحيز دين فرعون. والجواب لا نزاع في أن حقيقة ذاته كما هي لا يعلمها إلا هو والبسائط المحضة لا تعرف إلا بلوازم، وطلب فرعون إنما كان مذموما لأنه تصور أن يكون الإله شخصا مثله على تقدير وجوده لقوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص: 38] . ومنها هذه الآية لأنها تدل على أنه استقر على العرش بعد تخليق السموات والأرض وكان قبل ذلك مضطربا. والجواب المراد بالاستقرار أنه كان ولم يكن معه شيء فإذا خلق ما خلق من عالم الأجسام والاختلاط بقي ما وراءه نورا محضا. ومنها قصة إبراهيم وتبرئه من الآفلين ولو كان جسما لكان آفلا في أفق الإمكان. والجواب أن نور الأنوار أجل من ذلك ولا يلزم من كونه مع جميع الأحياز ومع ما سواها أن يكون في مرتبة الأجسام بل النفوس والعقول. ومنها أن أول الآية أعني قوله:
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ يدل على قدرته وحكمته وكذا قوله يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إلى آخر الآية. فلو كان المراد من الاستواء هو الاستقرار كان أجنبيا عما قبله وعما بعده لأنه ليس من صفات المدح إذ لو استقر عليه بق وبعوض صدق عليه أنه استقر على العرش. فإذن المراد بالاستواء كمال قدرته في تدبير الملك والملكوت حتى تصير هذه الكلمة مناسبة لما قبلها ولما بعدها. والجواب أن الاستقرار بالتفسير الذي ذكرناه أدل شيء على المدح والثناء، وحديث البق والبعوض خراف وهل هو إلا كقول القائل: لو كان واجب الوجود بقا أو بعوضا صدق عليه أنه إله فلا يكون الإله دالا على المدح. ومنها أنه سبحانه حكم في آيات كثيرة بأنه خالق السموات فلو كان فوق العرش كان سماء لساكني العرش لأن السماء عبارة عن كل ما علا وسما، ومن هنا قد يسمى السحاب سماء فيلزم أن يكون خالقا لنفسه. والجواب بعد تسليم أن كل ما سما وارتفع فهو سماء من غير اعتبار أنه نور أو جسم، أن ذاته سبحانه مخصوصة بدليل منفصل كقوله: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:
16] هذا ولغير الموسومين بالمجسمة والمشبهة في الآية قولان: الأول القطع بكونه متعاليا عن المكان والجهة ثم الوقوف عن تأويل الآية وتفويض علمها إلى الله، والثاني الخوض في التأويل وذلك من وجوه: أحدها تفسير العرش بالملك والاستواء بالاستعلاء أي استعلى على الملك. وثانيها: أن «استوى» بمعنى «استولى» كقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق ... من غير سيف ودم مهراق.
وثالثها ذكر القفال أن العرش في كلامهم هو السرير الذي يجلس عليه الملوك، ثم(3/251)
جعل العرش كناية عن نفس الملك. يقال: استوى على عرشه واستقر على سرير ملكه إذا استقام له أمره واطرد. وفي ضدّه خلا عرشه أي انتقض ملكه وفسد. فالله تعالى دلّ على ذاته وصفاته وكيفية تدبيره للعالم بالوجه الذي ألفوه من ملوكهم ورؤسائهم لتستقر عظمة الله تعالى في قلوبهم إلا أن ذلك مشروط بنفي التشبيه، فإذا قال: إنه عالم فهموا منه أنه تعالى لا يخفى عليه شيء، ثم علموا بعقولهم أنه لم يحصل ذلك العلم بفكرة أو روية ولا باستعمال حاسة وإذا قال: قادر. علموا منه أنه متمكن من إيجاد الكائنات وتكوين الممكنات ثم عرفوا أنه غني في ذلك الإيجاد والتكوين عن الآلات والأدوات وسبق المادة والمدّة والفكرة والروية، وكذا القول في كل من صفاته. وإذا أخبر أن له بيتا يجب على عباده حجه فهموا منه أنه نصب موضعا يقصدونه لمآربهم وحوائجهم كما يقصدون بيوت الملوك والرؤساء لهذا المطلوب، ثم علموا بعقولهم نفي التشبيه وأنه لم يجعل ذلك البيت مسكنا لنفسه ولم ينتفع به لدفع الحر والبرد. وإذا أمرهم بتحميده وتمجيده فهموا منه أنه أمرهم بنهاية تعظيمه ثم علموا أنه لا يفرح بذلك التحميد والتمجيد ولا يحزن بتركه والإعراض عنه. وإذا أخبر أنه خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش فهموا منه أنه بعد أن خلقهما استوى على عرش الملك والجلال. ومعنى التراخي أنه يظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها بعد خلقها لأن تأثير الفاعل لا يظهر إلا في القابل. وقال أبو مسلم:
العرش لغة هو البناء والعارش الباني قال تعالى: وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ [النحل:
68] فالمراد أنه بعد أن خلقها قصد إلى تعريشها وتسطيحها وتشكيلها بالأشكال الموافقة لها.
قوله سبحانه: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ قال صاحب الكشاف: يلحق الليل بالنهار أو النهار بالليل يحتملهما اللفظ جميعا. وقال القفال: لما أخبر بالاستواء على العرش وأن أمر المخلوقات منوط بتدبيره ومشيئته أراهم ذلك عيانا فيما يشاهدونه لينضم العيان إلى الخبر. وقدم ذكر الليل والنهار لما في تعاقبهما من المنافع الجليلة فبهما تتم أمور الحياة، ثم وصف الحركة التي يحصلان منها بالسرعة والشدّة فقال يَطْلُبُهُ حَثِيثاً قال الليث:
الحث الإعجال وذلك أن حركة الفلك الأعظم أشدّ الحركات سرعة حتى إنها في مقدار ما تقول واحد واحد واحد يتحرك ألفا وسبعمائة واثنين وثلاثين فرسخا من مقعر فلكه والله أعلم بتحرك محدبه. فإن قيل: ما محل الجملتين؟ قلت: أما الأولى فمستأنفة كأنه قيل:
فماذا يفعل بعد خلق السموات والأرض؟ فأجيب يغشي الليل النهار. وعلى قول من يفسر الاستواء بالتدبير والتصرف يحتمل أن تكون هذه الجملة مبينة. وأما الثانية ففي محل النصب على الحال من الملحق كما أن حَثِيثاً منصوب على الحال من الطالب وهو الملحق(3/252)
بعينه. ثم قال: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ من قرأهن منصوبات فمعناه وخلق هذه الأجرام حال كونهن تحت تسخيره، ومن قرأها مرفوعات فعلى الابتداء والخبر، وكلتا القراءتين حسنة لأنك إذا قلت: ضربت زيدا استقام أن يقال زيد مضروب. وقوله: بِأَمْرِهِ متعلق بمسخرات أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره. قال في الكشاف: سمي ذلك أمرا على التشبيه كأنهن مأمورات بذلك. ومنهم من حمل هذا الأمر على الأمر الذي هو الكلام، وعلى هذا لا يبعد أن يكون بِأَمْرِهِ متعلقا ب خَلَقَ. بدأ بالشمس لأنه سلطان الكواكب، وثنى بالقمر لأنه كالنائب، وثلث بسائر النجوم لأنها كالخدم. فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، والشمس تأثيرها بالتسخين، والقمر تأثيره بالترطيب، وتوليد المواليد الثلاثة المعادن والنبات والحيوان لا يتم ولا يكمل إلا بتأثير الحرارة في الرطوبة.
ثم إنه سبحانه وتعالى خص كل كوكب بخاصية عجيبة وتأثير غريب لا يعلمه بتمامه إلا مبدعه وخالقه، واعلم أن الأجسام متماثلة في الجسمية فاختصاص جرم الشمس بالنور الباهر والتسخين الشديد والتدبيرات العجيبة في العالم العلوي والسفلي وكذا تخصيص كل واحد من سائر السيارات والثوابت بقوّة أخرى لا بد أن يستند إلى فاعل حكيم قدير عليم فلهذا قال: مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ. وأيضا إن لكل واحد من أجرام الشمس والقمر والكواكب سيرا خاصا من المغرب إلى المشرق، وسيرا آخر سريعا بسبب حركة الفلك الأعظم، فقوله:
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ تنبيه على أن حدوث الليل والنهار إنما هو بحركة الفلك الأعظم المسمى بالعرش، وقوله: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ إشارة إلى أن العرش يحرك جميع الأفلاك والكواكب وأنه سبحانه أودع في جرمه قوّة قاهرة قاسرة باعتبارها قويت على تحريك ما دونه على خلاف طبعها من المشرق إلى المغرب. وأيضا أن أقسام الأجسام ثلاثة: متحرك إلى الوسط وهما العنصران الثقيلان، ومتحرك عن الوسط وهما الخفيفان، ومتحرك على الوسط وهي الأجرام الفلكية، فيكون الأفلاك والكواكب متحركة بالاستدارة لا إلى المركز ولا عن المركز لا يكون إلا بتسخير الله تعالى، ولأمر ما أكثر الله سبحانه في كتابه الكريم من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السموات والأرض وتعاقب الليل والنهار وكيفية تبدل الضياء بالظلام وبالعكس، وأحوال الشمس والقمر والنجوم، وأمر بالنظر في ملكوت السماء والغبراء وبالتفكر فيهما قائلا: أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف: 185] أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها [ق: 6] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [الروم: 8] وإن من صنف كتابا شريفا مشتملا على دقائق العلوم العقلية والنقلية(3/253)
فالمعتقدون في شرفه وفضيلته فريقان: منهم من اعتقد كونه كذلك على الإجمال، ومنهم من وقف على دقائقها على سبيل التفصيل والكمال، ولا ريب أن اعتقاد الفريق الثاني يكون أكمل وأقوى إذا ثبت هذا فنقول: من اعتقد أن جملة هذا العالم محدث وكل محدث فله محدث حصل له بهذا الطريق إثبات الصانع، أما الذي ضم إلى هذه المعرفة البحث عن أحوال هذا العالم العلوي والعالم السفلي على التفصيل الممكن لا يزال ينتقل من برهان إلى برهان ومن دليل إلى دليل فإن يقينه يتزايد وبصيرته تتكامل إلى أن يصير علما معقولا مضاهيا لما عليه الموجود، ولمثل هذه الفوائد والأغراض والغايات أنزل هذا الكتاب الكريم لا لتكثير وجوه الإعراب والاشتقاقات المؤدية إلى الإطناب والإسهاب، وأما قوله عز من قائل أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فالخلق عبارة عن التقدير ويختص بكل ما هو جسم وجسماني لأنه خص بمقدار معين، فكل ما كان بريئا عن الحجم والمقدار فهو من عالم الأرواح وعالم الأمر لأنه أوجد بأمر «كن» من غير سبق مادّة ومدّة، فعالم الخلق في تسخيره وعالم الأمر في تدبيره واستيلاء الروحانيات على الجسمانيات بتقديره. وهاهنا مسائل ذكرها العلماء:
الأولى أنه تعالى متكلم آمر ناه مخبر مستخبر لأن قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ دل على أن له الأمر فوجب أن يكون له النهي وسائر أنواع الكلام ضرورة أنه لا قائل بالفرق. الثانية لا خالق إلا هو لأن قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ بتقديم الخبر يفيد الحصر. ولو سلم أنه لا يفيده فلا أقل من إفادة أنه خالق بعض الأشياء، وحينئذ يثبت المطلوب لأن افتقار المخلوق إلى الخالق لإمكانه والإمكان مفهوم واحد في الممكنات وإنه علة للحاجة إلى موجود معين، فجميع الممكنات محتاجة إلى ذلك المعين فالذي يكون مؤثرا في وجود شيء واحد يجب أن يكون هو المؤثر في جميع الممكنات ولا يحتاج إلى الممكنات. الثالثة قالت الأشاعرة:
كل أثر يصدر عن فلك أو ملك أو جني أو إنسي فخالق ذلك الأثر في الحقيقة هو الله تعالى لقوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ويتفرع على هذا أنه لا إله إلا الله وإلا كان الثاني مدبرا وخالقا، وأنه لا تأثير للكواكب في أحوال هذا العالم، وأن القول بالطبائع والعقول والنفوس على ما يزعم الفلاسفة وأصحاب الطلسمات باطل، وأن خالق أعمال العباد هو الله تعالى.
والقول بأن العلم يوجب العالمية والقدرة توجب القادرية باطل، كل ذلك لئلا يلزم خالق ومؤثر غير الله تعالى. الرابعة كلام الله تعالى قديم لأنه ميز بين الخلق وبين الأمر ولو كان أمر الله مخلوقا لما صح هذا التمييز. أجاب الجبائي بأنه لا يلزم من إفراد الأمر بالذكر عقيب الخلق أن لا يكون الأمر داخلا في الخلق كقوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] وعارض الكعبي بقوله: فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ(3/254)
وَكَلِماتِهِ
[الأعراف: 158] فإنه لو وجب مغايرة المعطوف للمعطوف عليه لزم أن تكون الكلمات غير الله تعالى، وكل ما كان غير الله تعالى فإنه محدث ومخلوق فكلمات الله مخلوقة. وقال القاضي: اتفق المفسرون على أنه ليس المراد بهذا الأمر كلام الله تعالى بل المراد به نفاذ إرادته وإظهار قدرته، وقال قوم: لا يبعد أن يقال الأمر داخل في الخلق ولكنه من حيث كونه أمرا يدل على نوع آخر من الكمال والجلال، والمعنى له الخلق والإيجاد في المرتبة الأولى. ثم بعد الإيجاد والتكوين له الأمر والتكليف في المرتبة الثانية. وقال آخرون: معنى قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ أنه إن شاء خلق وإن شاء لم يخلق، فقوله:
وَالْأَمْرُ يجب أن يكون معناه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر، ويلزم منه أن يكون الأمر محدثا مخلوقا لأنه لو كان قديما لم يكن ذلك الأمر بحسب مشيئته بل كان من لوازم ذاته فلا يصدق أنه إن شاء أمر وإن شاء لم يأمر هذا خلف. وأجيب بأنه لو كان الأمر داخلا تحت الخلق لزم التكرار والأصل عدمه فلا يصار إليه إلا للضرورة ولا ضرورة هاهنا. الخامسة في الآية دلالة على أنه ليس لأحد أن يلزم غيره شيئا إلا الله، ففعل الطاعة لا يوجب الثواب، وفعل المعصية لا يوجب العقاب، وإيصال الألم لا يوجب العوض. السادسة دلت الآية على أن القبيح لا يجوز أن يقبح لوجه عائد إليه، وأن الحسن لا يحسن لأمر عائد إليه وإلا لم يأمر إلا بما حصل فيه وجه الحسن ولم ينه إلا عما حصل فيه وجه القبح، فلا يكون متمكنا من الأمر والنهي كيف شاء وأراد هذا خلف. السابعة أطلق الخلق والأمر فيعلم أنه لو أراد خلق ألف عالم بما فيه من العرش والكرسي والكواكب في أقل من لحظة لقدر عليه، لأن هذه الماهيات ممكنة والحق قادر على كل الممكنات. الثامنة قال قوم: الخلق صفة من صفات الله تعالى وهو غير المخلوق لأن أهل السنة يقولون: معنى قوله: الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ أنه صفة له فكذا الخلق صفة قائمة بذاته فلا يكون مخلوقا، وأجيب بأن الخلق لو كان غير المخلوق فإما أن يكون قديما ويلزم من قدمه قدم المخلوق، وإما أن يكون حادثا فيفتقر إلى خلق آخر ويتسلسل، ويمكن أن يقال: الصفة قديمة والتعلق حادث. التاسعة له الأمر يقتضي أن لا أمر إلا لله.
وقول النبي صلّى الله عليه وآله: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم»
لا ينافي ذلك لأن الموجب لأمره في الحقيقة هو أمر الله تعالى، العاشرة في الآية دلالة على أن الله تعالى أمرا ونهيا على عباده والخلاف مع نفاة التكليف. قالوا: إن كان التكليف معلوم الوقوع كان واجب الوقوع فكان الأمر به تحصيلا للحاصل، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع فكان الأمر به أمرا بما يمتنع وقوعه وهو محال. وأيضا إنه تعالى إن خلق الداعي إلى فعله كان واجب الوقوع وإلا فلا فائدة في الأمر به. وأيضا(3/255)
الكافر أو الفاسق لا يستفيد بالتكليف، إلا الضرر المحض لأنه تعالى يعلم أنه لا يؤمن ولا يطيع وخلاف علم الله محال فلا يحصل من الأمر إلا مجرد استحقاق العذاب وهذا لا يليق بالرحيم الحليم. وأيضا التكليف إن لم يكن لفائدة في الأمر فهو عبث، وإن كان لفائدة فلا بد أن تعود إلى المكلف لأنه سبحانه غني فجميع الفوائد منحصرة في تحصيل نفع أو دفع ضر والله تعالى قادر على تحصيلهما للمكلف من غير واسطة التكليف فكان توسيط التكليف إضرارا محضا. والجواب أن أوّل الآية دل على أنه تعالى هو الخالق لكل العبيد، وإذا كان خالقا لهم كان مالكا لهم، وتصرف المالك في ملك نفسه كيف شاء مستحسن، ويحسن منه تعالى أن يأمر عباده بما شاء بمجرد كونه خالقا لا كما يقول المعتزلة من كون ذلك الفعل صلاحا أو من كونه موجب عوض أو ثواب. ولما بين أن له الأمر والنهي والحكم والتكليف ذكر أنه يستحق الثناء والتقديس فقال: تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وللبركة تفسيران: أحدهما الثبات والدوام ولا ريب أنه الواجب لذاته القائم بذاته الدائم الغني بذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه عن كل ما سواه. وثانيهما كثرة الآثار الفاضلة. ولا شك أن كل الخيرات والكمالات فائضة من جوده وإحسانه بل جميع الممكنات رشحة من بحار فضله وامتنانه. ثم لما بيّن كمال قدرته وحكمته وأرشد إلى التكليف الموصل إلى سعادة الدارين أتبعه ذكر ما يستعان به على تحصيل المطالب والمآرب الدينية والدنيوية فقال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً قال في الكشاف: نصب على الحال أي ذوي تضرع وخفية وكذلك خَوْفاً وَطَمَعاً قلت: ويحتمل الانتصاب على المصدر مثل: رجع القهقرى. والتضرع التذلل وهو إظهار ذل النفس والخفية بالضم أو الكسر ضد العلانية. قال بعض العلماء: الدعاء هاهنا بمعنى العبادة لئلا يلزم التكرار وعطف الشيء على نفسه في قوله: وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً والأظهر أنه على الأصل. ومن الناس من أنكر الدعاء قال: لأن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع أو كان مرادا في الأزل أو كان على وفق الحكمة والمصلحة وقع لا محالة وإلا فلا فائدة فيه. وأيضا إنه نوع من سوء الأدب وعدم الرضا بالقضاء وقد يطلب ما ليس بنافع له. وفيه من الاشتغال بغير الله وعدم التوكل عليه ما لا يخفى. والحق أن الدعاء نوع من أنواع العبادة ورفضه يستدعي رفض كثير من السوائل والوسائط والروابط، ولو لم يكن فيه إلّا معرفة ذلة العبودية وعزة الربوبية لكفى بذلك فائدة، ولهذا
روي عنه صلى الله عليه وآله: «ما من شيء أكرم على الله سبحانه من الدّعاء»
إلا أنه لا بد فيه من الإخلاص والصون عن الرياء والسمعة، وإليهما أشار بقوله: تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ونحن قد أطنبنا في تحقيق الدعاء وشرائطه في سورة البقرة في تفسير قوله: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي(3/256)
عَنِّي
[البقرة: 186] ثم ختم الآية بقوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وللمسلمين اتفاق على أنه ليس معنى المحبة عند إطلاقها على الله شهوة النفس وميل الطبع ولكنها عبارة عن إيصاله الثواب والخير إلى العبد، وهذا مبني على قول الكعبي وأبي الحسين أنه تعالى غير موصوف بالإرادة، وأن كونه مريدا لأفعال نفسه عبارة عن إيجادها وفعلها، وكونه مريدا لأفعال غيره هو كونه آمرا بها. وأما الأشاعرة ومعتزلة البصرة القائلون بصفة الإرادة فإنهم فسروا المحبة بإرادة إيصال الثواب. وقال بعض العلماء: إنا نجد في الشاهد أن الأب يحب ابنه فيترتب على تلك المحبة إرادة إيصال الخيرات إلى ذلك الابن وكانت هذه الإرادة أثرا من آثار تلك المحبة وثمرة من ثمراتها. غاية ما في الباب أن هذه المحبة في الشاهد عبارة عن الشهوة وميل الطبع ورغبة في النفس وذلك في حقه تعالى محال. إلا أنا نقول: لم لا يجوز أن يقال أن محبة الله صفة أخرى يترتب عليها إيصال الثواب أو إرادة الإيصال؟ لكنا لا نعرف تلك المحبة ما هي وكيف هي لأن عدم العلم بالشيء لا يوجب العلم بعدم ذلك الشيء. نظير ذلك أن أهل السنة يثبتون كونه مرئيا ثم يقولون إن تلك الرؤية لا كرؤية الأجسام والألوان. ويعني بالمعتدين المجاوزين ما أمروا به فيشمل كل من خالف أمر الله ونهيه. وقال الكلبي وابن جريج:
من الاعتداء رفع الصوت في الدعاء ويؤيده أنه أمر بالدعاء مقرونا بالإخفاء وظاهره الوجوب إذ قد أثنى على زكريا فقال: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا [مريم: 3]
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «دعوة في السر تعدل سبعين دعوة في العلانية»
وعنه صلى الله عليه وسلم «خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي» «1»
وعنه صلى الله عليه وآله: «سيكون قوم يعتدون في الدعاء وحسب المرء أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ قوله إنه لا يحب المعتدين» «2»
ومن هنا اختلف أرباب الطريقة أن الأولى في العبادات الإخفاء أم الإظهار فقيل: الأولى الإخفاء صونا لها عن الرياء. وقيل: الأولى الإظهار ليرغب غيره في الاقتداء. وتوسط الشيخ محمد بن علي الحكيم الترمذي فقال: إن كان خائفا على نفسه من الرياء فالأولى في حقه الإخفاء، وإن بلغ في الصفاء وقوة اليقين إلى حيث صار آمنا من شائبة الرياء فالأولى في حقه الإظهار ليحصل فائدة الاقتداء. قال الشافعي: إظهار التأمين أفضل. وقال أبو حنيفة: الإخفاء أفضل لأنه إن كان دعاء وجب إخفاؤه لقوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً
__________
(1) رواه أحمد في مسنده 1/ (172، 180، 187) .
(2) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 45. ابن ماجه في كتاب الدعاء باب 12. أحمد في مسنده (4/ 86، 87) (5/ 55) . [.....](3/257)
وإن كان اسما من أسماء الله تعالى على ما قيل فكذلك لقوله تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً فإن لم يثبت الوجوب فلا أقل من الندبية، ثم نهى عن مجامع المفاسد والمضار بقوله: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ فيدخل فيه خمسة أشياء: المنع من إفساد النفوس بالقتل، ومن إفساد الأموال بقطع الطريق والسرقة، وإفساد الأنساب بالزنا واللواط والقذف، وإفساد العقول بشرب المسكرات، وإفساد الأديان بالكفر والبدعة، وذلك أن قوله: لا تُفْسِدُوا منع عن إدخال ماهية الفساد في الوجود والمنع من الماهية يقتضي المنع من جميع أنواعه. ومعنى: بَعْدَ إِصْلاحِها بعد أن أصلح خلق الأرض على الوجه المطابق لمنافع الخلق الموافق لمصالح المكلفين، أو المراد إصلاح الأرض بسبب إرسال الأنبياء وإنزال الكتب وتفصيل الشرائع، فإن الإقدام على تكذيب الرسل وإنكار الكتب والتمرد عن قبول الشرائع يقتضي وقوع الهرج والمرج وحدوث الفتن في الأرض. وفي الآية دلالة على أن الأصل في المضار الحرمة فإن وجدنا نصا خاصا يدل على جواز الإقدام على بعض المضار قضينا به تقديما للخاص على العام. وفيها أيضا دلالة على أن كل عقد وقع التراضي به بين الخصمين فإنه منعقد صحيح لأن رفعه بعد ثبوته يكون إفسادا بعد الإصلاح، فإن وجدنا نصا يدل على عدم صحة بعض تلك العقود قضينا فيه بالبطلان عملا بالأخص.
فجميع أحكام الله تعالى داخلة تحت عموم هذه الآية الدالة على أن الأصل في المضار والآلام الحرمة كما كانت داخلة تحت عموم قوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف: 32] بأنها كانت تدل على أن الأصل في المنافع واللذات الإباحة والحل، فكل واحدة من الآيتين مطابقة ومؤكدة للأخرى، ثم لما بين أن الدعاء لا بد أن يكون مقرونا بالتضرع والإخفاء وبعدم المنافي وهو الإفساد بالوجوه الخمسة، ذكر أن فائدة الدعاء والباعث عليه أحد الأمرين الخوف من العقاب والطمع في الثواب. واعترض عليه بأن أهل السنة يقولون: التكاليف إنما وردت بمقتضى الإلهية والعبودية أي كونه إلها لنا، وكوننا عبيدا له اقتضى أن يحسن منه أن يأمر عبيده بما شاء كيف شاء ولا يعتبر فيه كونه في نفسه صلاحا وحسنا. والمعتزلة يقولون: إنها وردت لأنها في نفسها مصالح. فعلى القولين من أتى بها للخوف من العقاب والطمع في الثواب لم يأت بها لوجه وجوبها فوجب أن لا يصح. وأجيب بأن المراد من الآية ادعوه مع الخوف من وقوع التقصير في بعض الشرائط المعتبرة في قبول ذلك الدعاء ومع الطمع في حصول تلك الشرائط بأسرها أي كونوا جامعين في نفوسكم بين الخوف والرجاء في جميع أعمالكم ولا تقطعوا أنكم وإن اجتهدتم قد أديتم حق ربكم كقوله: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ [المؤمنون:
6] . والجواب الصحيح عندي أن غاية التكليف من الآمر غير غايته من المأمور إذا فهب أن(3/258)
الغاية الأولى هي المصلحة أو الإلهية والعبودية فلم لا يجوز أن تكون الغاية الثانية الخلاص من العذاب والوصول إلى الثواب؟ ثم ختم الآية بقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ظاهره أن يقال قريبة. وذكروا في حذف علامة التأنيث وجوها: فقيل: لأن تأنيث الرحمة غير حقيقي. وقال الزجاج: لأن الرحمة غير حقيقي. وقال الزجاج: لأن الرحمة والغفران والعفو والإنعام بمعنى واحد، أو لأن المراد بالرحمة الترحم أو الرحم.
وقيل: إنه صفة موصوف محذوف أي شيء قريب، أو شبه بفعيل الذي بمعنى مفعول كما شبه ذاك به فقيل: قتلاء وأسراء، وقيل: لأنه بزنة المصدر كالنقيض صوت العقبان أو الدجاجة والضغيب صوت الأرنب. وقيل: المراد ذات مكان قريب كلابن وتامر، وروى الواحدي بإسناده عن ابن السكيت تقول العرب: هو قريب مني وهما قريب مني وهي قريب لأنه في تأويل هو في مكان قريب مني. قال بعض المفسرين: معنى هذا القرب أن الإنسان يزداد بعدا عن الماضي وقربا من المستقبل أي الآخرة التي هي مقام رحمة الله. ويمكن أن يقال: المراد به قرب الحصول سواء كان في الدنيا أو في الآخرة كقوله: أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [البقرة: 214] قالت المعتزلة: إن ماهية الرحمة لما كانت حصة المحسنين وجب أن لا يحصل للكافر والفاسق منها شيء، والغرض أن صاحب الكبيرة لا يكون له نصيب من العفو. وأجيب بأن المحسن من صدر عنه الإحسان ولو من بعض الوجوه، فكل من آمن بالله تعالى وأقر بالتوحيد والنبوة فقد أحسن والدليل عليه الإجماع. على أن الصبي إذا بلغ وقت الضحوة وآمن بالله ورسوله واليوم الآخر ومات قبل الوصول إلى الظهر فإنه يسمى مؤمنا محسنا، على أن قوله ماهية الرحمة نصيب المحسنين ممنوع لأن الكافر أيضا في رحمة الله ونعمته في الدنيا بدليل قوله: وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ [البقرة: 126] ثم إنه سبحانه لما ذكر دلائل الإلهية وكمال العلم والقدرة من العالم العلوي أتبعه ذكر الدلائل من أحوال هذا العالم وهي الآثار العلوية من المعادن والنبات والحيوان ومن جملتها أحوال الرياح والسحب والأمطار. وأيضا لما أقام الدلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادر العليم الحكيم الرحيم أقام الدلالة في هذه الآية على صحة القول بالحشر والنشر ليتم بالآيتين تقرير المبدأ والمعاد فقال: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ الريح هواء متحرك، وتحركه ليس لذاته ولا للوازم ذاته وإلا دام بدوام الذات، فهو بتحريك الفاعل المختار. قالت الحكماء: من أسباب الريح أن يرتفع من الأرض أجزاء أرضية لطيفة تسخنت تسخينا شديدا، فبسبب تلك السخونة ترتفع وتتصاعد، فإذا وصلت إلى قريب من الفلك فإن الهواء الملتصق بمقعر الفلك يمنع هذه الأدخنة من الصعود بل يردها عن سمت حركتها لتحرك تلك الطبقة على(3/259)
الاستدارة تشيعا للفلك، فحينئذ ترجع الأدخنة وتتفرق في الجوانب وبسبب تفرقها تحصل الرياح. وكلما كانت تلك الأدخنة أكثر وكان صعودها أقوى كان رجوعها أيضا أشد فكانت الرياح أقوى، وزيف بأن صعود تلك الأجزاء الأرضية إنما يكون لأجل شدة تسخينها بالعرض، فإذا تصاعدت ووصلت إلى الطبقة الباردة بردت فامتنع صعودها إلى الطبقة العليا المتحركة بحركة الفلك. سلمنا أنها تصعد إلى الطبقة المتحركة بالاستدارة لكن رجوعها يجب أن يكون على الاستقامة كما هو مقتضى طبيعة الأرض لكنها تتحرك يمنة ويسرة.
وأيضا إن حركة تلك الأجزاء لا تكون قاهرة فإن الرياح إذا أصعدت الغبار الكثير ثم عاد ذلك الغبار ونزل على السطوح لم يحس أحد بنزولها، ونحن نرى هذه الرياح تقلع الأشجار وتهدم الجبال وتموج البحار، وأيضا لو كان الأمر على ما قالوا لكانت الرياح كلما كانت أشد وجب أن يكون حصول الأجزاء الغبارية الأرضية أكثر وليس كذلك، لأنه قد توجد الرياح العاصفة في وجه البحر وليس فيها شيء من الغبار. ويمكن أن يجاب بأن الحكم بامتناع الصعود استبعاد محض وحديث الرجوع على الاستقامة مبني على أن الريح هي تلك الأجزاء الراجعة فقط وليس كذلك، فإن الراجع إذا خرق الهواء حدث فيما يجاوره من الهواء تحرك واضطراب وتموج شبه ما يحدث في الماء إذا ألقي فيه حجر، وكذا الكلام في الوجهين الباقيين. وقال المنجمون: قد يحدث بسبب وصول كوكب معين إلى موضع معين من البروج ريح عاصفة، وزيف بأنه لو كان كذلك لزم تحرك كل الهواء. والجواب أن وصول الكوكب إلى الموضع الفلاني إنما يوجب تحرك الهواء بتسخين أو تلطيف أو تكثيف يحدث في بعض المواد المستعدة لذلك فيطلب ذلك القابل مكانا أكثر أو أقل مما كان عليه، فيلزم من ذلك تحرك الهواء المجاور له لاستحالة التداخل والخلاء لا يتدافع إلى أن يتحرك جميع كرة الهواء بل يتموج بعض أجزاء الهواء ثم يستقر كل في موضعه، ويختلف مقدار ذلك بحسب المؤثر والمتأثر والكل يستند إلى تدبير الله سبحانه وتقديره، وإنما قال في هذه السورة يُرْسِلُ الرِّياحَ بلفظ المستقبل وكذا في «الروم» لأن ما قبله هاهنا ذكر الخوف والطمع وأنهما يناسبان المستقبل، وأما في «الروم» فليناسب ما قبل وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ [الروم: 46] وقال في الفرقان: أَرْسَلَ الرِّياحَ [الفرقان: 48] بلفظ الماضي ليناسب ما قبله: كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ الفرقان: 45] وما بعده وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ [الفرقان:
62] وكذا في «فاطر» مبني على أول السورة فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ [فاطر: 1] وهما بمعنى الماضي والله تعالى أعلم. أما قوله: نَشْراً بنون مفتوحة وشين ساكنة فإنه مصدر نشر. وانتصابه إما على الحال بمعنى منتشرات وإما لأن أرسل ونشر(3/260)
متقاربان كأنه قيل: نشرها نشرا. ومن قرأ نَشْراً بضمتين فلأنه جمع نشور كرسول ورسل، وقد تخفف كرسل، ومن قرأ بُشْراً بضم الباء الموحدة وسكون الشين فلأنه مخفف بشر جمع بشير. ومعنى: بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أمام نعمته وهي الغيث الذي هو من أجلّ النعم وأحسنها وهذا بحسب الأغلب، فإن المطر قلما لا يتقدمه رياح يسلطها الله تعالى على السحاب والعرب تستعمل اليدين بدل قدام وأمام مجازا لأن اليدين من الحيوان متقدمان على الرجلين. حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ حملت ورفعت واشتقاقه من القلة لأن الرافع الذي يقدر على حمل الثقيل يزعم أن ما يرفعه قليل سَحاباً جمع سحابة ولهذا قال:
ثِقالًا على الجمع جمع ثقيلة والضمير في سُقْناهُ يعود إلى السحاب على لفظه، وضمير المتكلم في سُقْناهُ على أصله. أما الذي في قوله: وَهُوَ الَّذِي فعلى طريقة الالتفات وإلا فالظاهر أن يقال: نحن أرسلنا. واعلم أن السحاب المستمطر للمياه العظيمة إنما يبقى معلقا في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكا شديدا. ولتلك الحركات فوائد منها: أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى بعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر ثم تصير متفرقة. ومنها أن تتحرك الرياح يمنة ويسرة فتمنع الأجزاء المائية الرشية عن النزول فيبقى معلقا في الهواء. ومنها أن ينساق السحاب إلى موضع علم الله احتياجهم إلى نزول الأمطار، ومن الرياح مقوية للزروع والأشجار ومكملة لما فيها من النشوء والنماء وهي اللواقح. ومنها مبطلة لها كما في الخريف. ومنها طيبة لذيذة موافقة للأبدان.
ومنها مهلكة للحر الشديد كالسموم أو البرد الشديد. ومنها مشرقية ومغربية وشمالية وجنوبية، وبالحقيقة تهب الرياح من كل جانب ولكنها ضبطت كذلك، وقد يصعد الريح من قعر الأرض فقد يشاهد غليان شديد في البحر بسبب تولد الرياح في قعره ثم لا يزال يتزايد ذلك الغليان إلى أن ينفصل الريح إلى ما فوق البحر، وحينئذ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر، وعن ابن عمر: الرياح ثمان: أربع منها عذاب وهو العاصف والقاصف والصرصر والعقيم، وأربع منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات،
وعن النبي صلى الله عليه وآله: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والجنوب من ريح الجنة» «1» .
وعن كعب: لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض. وعن السدي أنه تعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب، ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فينزل الماء على السحاب، ثم يمطر السحاب بعد ذلك برحمته وهي المطر. ومعنى
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الاستسقاء باب 26. كتاب بدء الخلق باب 5. مسلم في كتاب الاستسقاء حديث 17. أحمد في مسنده (1/ 223) .(3/261)
لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أي لأجل بلد ميت ليس فيه نبات ولا زرع، والبلد كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون. فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ قال الزجاج وابن الأنباري: أي بالبلد.
وجائز أن يراد بالسحاب أو بالسوق فالباء للسببية. فَأَخْرَجْنا بِهِ قال الزجاج: أي بالبلد.
مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ ويجوز أن يراد أي بالماء. قال جمهور الحكماء: إنه تعالى أودع في الماء قوّة وطبيعة توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج الماء بالتراب. وقال أكثر المتكلمين: إن الثمار ليست متولدة من الماء وإنما أجرى الله تعالى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب كَذلِكَ مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات. نُخْرِجُ الْمَوْتى فالتشبيه إنما وقع في أصل الإحياء أي كما أحيا هذا البلد وأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر كذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا ترابا لأن من قدر على إحداث الجسم وخلق الرطوبة والطعم فيه كان قادرا على إحداث الحياة في بدن الميت. وقال كثير من المفسرين:
المراد أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الماء كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال مطر على الأجساد الرميمة.
يروى أنه يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطر كالمني أربعين يوما فينبتون عند ذلك أحياء.
وعن مجاهد: تمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها.
قال العلماء: إن هؤلاء المفسرين ذهبوا إلى هذا بناء على النقل وعلى إجراء العادة وإلا فإنه تعالى قادر على خلق الحياة في الجسم ابتداء من غير واسطة المطر كما أنه يجمع بقدرته الأجزاء المتفرقة والمتمزقة غاية التفرق والتمزق ولهذا ختم الآية بقوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ والمعنى أنكم شاهدتم أن الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف والخريف بالأزهار والثمار والأشجار ثم صارت وقت الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة، ثم أحياها مرة أخرى، فالقادر على إحيائها قادر على إحياء الأجساد بعد موتها، ثم ضرب الله سبحانه مثلا للمؤمن والكافر وشبه القرآن بالمطر، وذلك أن الأرض الحرة إذا نزل بها المطر حصل فيها أنواع الأزهار والثمار والأرض السبخة بعد نزول المطر لا يخرج منها إلا النزر القليل من النبات، فكذلك النفس الطاهرة النقية من شوائب الأخلاق الذميمة إذا اتصل بها أنوار القرآن ظهرت عليها أنواع المعارف والأخلاق الفاضلة، والنفس الخبيثة لا ترجع من ذلك إلا بخفي حنين.
وقيل: ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة. فمن يطلب هذا النفع اليسير فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لا بد منها ومن تحملها في أداء الطاعات كان(3/262)
أولى. وفي الآية دلالة على أن السعيد لا ينقلب شقيا وبالعكس، لأنها دلت على أن الأرواح قسمان: منها ما تكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به، ومنها ما تكون بالضد لا تقبل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة كالأرض السبخة التي لا يتولد فيها الأشجار والأنهار والثمار. ومما يقوّي هذا الكلام أن النفوس نراها مختلفة في الصفات فمنها مجبولة على حب الإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانيات كقوله تعالى: تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ [المائدة: 83] لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ [البقرة: 273] ومنها قاسية قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة، ومنها مائلة إلى الشهوة دون الغضب، ومنها على العكس، ومنها راغبة في المال دون الجاه، ومنها بالخلاف ومن الراغبين في المال من يرغب في العقار دون الأثمان والنقود، ومنهم من هو بالعكس. ومما يؤكد هذه المعاني قوله سبحانه وتعالى: بِإِذْنِ رَبِّهِ أي بتيسيره وهو في موضع الحال كأنه قيل: يخرج نباته حسنا كاملا لوقوعه في طباق نَكِداً والنكد الذي لا خير فيه. وتقدير الآية ونبات البلد الخبيث لا يخرج، أو البلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكدا فحذف المضاف الذي هو النبات وأقيم المضاف إليه وهو الضمير الراجع إلى البلد مقامه فانقلب مرفوعا مستكنا بعد أن كان مجرورا بارزا. من قرأ نَكِداً بفتح الكاف فعلى المصدر أي ذا نكد كَذلِكَ مثل ذلك التصريف نردّد الآيات ونكررها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمة الله لأن فائدة التصريف تعود عليهم وإنما ختم الآية بالحث على الشكر لأن الذي سبق ذكره هو أن الله تعالى يرسل الرياح النافعة فيجعلها سببا للمطر الذي هو سبب الملاذ والطيبات فهذا يدل من أحد الوجهين على وجود الصانع وقدرته، ومن الوجه الثاني على عظيم نعمته وقدرته فوجب من هذا الوجه مقابلتها بالشكر والله أعلم.
التأويل:
عرّف ذاته للخلق بصفات الهوية والألوهية والقادرية والخالقية والمدبرية والحكيمية والاستوائية فقال: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الآية وإنما خص ستة أيام لأن أنواع المخلوقات ستة: الأوّل الأرواح الإنسانية (ب) الملكوتيات منها الملائكة والجن والشياطين وملكوت السموات والأرض ومنها العقول المفردة والمركبة. (ج) النفوس السماوية الأرضية.
(د) الأجرام البسيطة العلوية كالعرش والكرسي والسموات والجنة والنار. (هـ) الأجسام البسيطة السفلية وهي العناصر، والأجسام الكثيفة المركبة من العناصر، فلما خلق الأنواع الستة استوى على العرش بعد الفراغ من خلقها استواء التصرف في العالم وما فيه. وخص العرش بالاستواء لأنه مبدأ الأجسام اللطيفة القابلة للفيض الرحماني. والاستواء كالعلم صفة من صفاته لا يشبه استواء المخلوقين كما أن علمه لا يشبه علم المخلوقين. ومن أسرار(3/263)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)
الخلافة الروح تتصرف في النطفة أيام الحمل فتجعلها عالما صغيرا، فبدنه كالأرض. ورأسه كالسماء والقلب كالعرش، والسر كالكرسى، والقلب يقسم فيض الروح إلى القالب كما أن العرش يقسم فيض الإله إلى سائر المخلوقات يُغْشِي أي يستولي ليل ظلمات النفس وصفاتها على نهار أنوار القلب وبالعكس. أَلا لَهُ الْخَلْقُ بواسطة وَالْأَمْرُ بلا واسطة ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً بالجوارح وَخُفْيَةً بالقلوب. أو تضرعا بأداء حق العبودية وخفية بمطالب حق الربوبية إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ الذين يطلبون منه سواه وَلا تُفْسِدُوا في أرض القلوب بعد أن أصلحها الله برفع الوسائط. وَادْعُوهُ خَوْفاً من الانقطاع وَطَمَعاً في الاصطناع، أو خوفا من الاثنينية وطمعا في الوحدة، أو خوفا من الانفصال وطمعا في الوصال. إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ الذين لا يرون سواه يرسل رياح العناية فينشر سحاب الهداية سحابا ثقالا بأمطار المحبة، سقناه لكل قلب ميت فأنزلنا به ماء المحبة فأخرجنا به ثمرات المكاشفات والمشاهدات، كذلك نخرج موت القلوب من قبور الصدور ولعلكم تذكرون أيام حياتكم في عالم الأرواح إذ كنتم في رياض القدس وحياض الأنس.
والبلد الطيب القلب الحي يتخلق بأخلاقه الحميدة كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي النفوس وصفاتها إلى أوصاف القلب وأخلاقه.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 72]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)(3/264)
القراآت:
إِلهٍ غَيْرُهُ بالجر على الوصف حيث كان: يزيد وعلي الباقون بالرفع حملا على محل مِنْ إِلهٍ إِنِّي أَخافُ بفتح الياء: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير أُبَلِّغُكُمْ بالتخفيف حيث كان: أبو عمرو. والباقون: بالتشديد. عباس: بالاختلاس بَصْطَةً بالصاد: أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل وعاصم وعلي وسهل وشجاع وابن الأخزم عن ابن ذكوان الحلواني عن قالون مخيرا.
الوقوف:
غَيْرُهُ ط عَظِيمٍ هـ مُبِينٍ هـ الْعالَمِينَ هـ لا يعلمون هـ تُرْحَمُونَ هـ بِآياتِنا ط عَمِينَ هـ هُوداً ط غَيْرُهُ ط تَتَّقُونَ هـ الْكاذِبِينَ هـ الْعالَمِينَ هـ أَمِينٌ هـ لِيُنْذِرَكُمْ ط لتناهى الاستفهام بسطة ج تنبيها على الإنعام العام بعد ذكر إنعام خاص مع اتفاق الجملتين تُفْلِحُونَ هـ آباؤُنا ج للعدول مع فاء التعقيب الصَّادِقِينَ هـ وَغَضَبٌ ط مِنْ سُلْطانٍ ج لانتهاء الاستفهام إلى أمر التهديد الْمُنْتَظِرِينَ هـ مُؤْمِنِينَ هـ.
التفسير:
لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل قاهرة وبينات باهرة شرع في قصص الأنبياء وفي ذلك فوائد منها، التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول الدلائل عادة معتادة فيكون فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. ومنها بيان سوء عاقبة المستكبرين وحسن عقبى المطيعين وفي ذلك تقوية قلوب المحقين وكسر قلوب المبطلين. ومنها التنبيه على أن الله سبحانه لا يهمل المبطلين وإن كان يمهلهم. ومنها العظة والاعتبار لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: 111] ومنها الدلالة على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم من حيث إنه إخبار بالغيب لأنه أمي لم يقرأ الكتب فيكون قد عرف ذلك بالوحي لا محالة. فمن القصص أولاها قصة آدم وقد مرت في أوّل السورة. الثانية قصة نوح وهو نوح بن لمك بن مثوشلخ بن أخنوخ، وأخنوخ اسم إدريس. قيل: كان اسمه يشكر فسمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه فأهلكوا فندم، أو حين راجع ربه في شأن ابنه، أو حين مر بكلب مجذوم فقال له: اخسأ يا قبيح فعوتب على ذلك. قال الله له: أعبتني إذ خلقته أم عبت الكلب؟ وهذه الوجوه متكلفة فإن الإعلام لا تفيد صفة في المسمى. والصحيح أنه اسم أعجمي. قال ابن عباس: معنى أرسلنا بعثنا. وقال آخرون: معناه أنه تعالى حمله رسالة(3/265)
يؤدّيها، فالرسالة على هذا التقدير تكون متضمنة للبعث فيكون البعث كالتابع لا أنه أصل.
قال في التفسير الكبير: وهذا البحث مبني على مسألة أصولية هي أن الرسول أرسل إلى قوم ليعرّفهم أحكاما لا سبيل لهم إلى معرفتها بعقولهم، أو الغرض من بعثته مجرد تأكيد ما في العقول. وهذا الاختلاف بتفاريع المعتزلة أليق، أمرهم نوح بعبادة الله ثم حكم بأنه لا إله إلا الله ثم حذرهم عذاب يوم عظيم هو القيامة أو الطوفان، ولم يذكر دليلا على هذه الدعاوى الثلاث لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم بعد ظهور المعجزة حجة، أو لعله قد ذكر الحجج وما حكاها الله تعالى لأنه قد علم من القرآن ذم التقليد في مواضع كثيرة فيعلم أن نبي الله لا يأمر قومه بالتقليد المحض، وأيضا قد مر دلائل التوحيد والنبوّة وصحة القرآن من أول سورة البقرة إلى هاهنا غير مرة، فوقع التعويل على ذلك هذا مع أن الحكم الثاني كالعلة للأوّل لأنه إذا لم يكن لهم إله غيره كان كل ما حصل عندهم من وجوه النفع والإحسان والبر واللطف حاصلا منه، ونهاية الإنعام توجب غاية التعظيم ومن هنا قال بعض العلماء: لا يحسن منا عبادة الله تعالى قبل العلم بأنه واحد لأنا إذا جوّزنا التعدد لم يتعين المنعم فتقع العبادة ضائعة، والإله معناه المستحق للعبادة وإلا فهو في الأزل غير معبود. ومعنى الخوف في الآية قال بعضهم:
الجزم واليقين فإنه كان جازما بنزول العذاب بهم عاجلا وآجلا. وقال آخرون: الشك لأنه كان يجوّز إيمانهم ومع هذا التجويز كيف يجزم بالعذاب، أو لعل السمع لم يرد بعد فلهذا كان متوقفا، أو لعله وصف العذاب بالعظم ولكنه جر على الجوار. ثم إنه تردد في وصف العذاب بالعظم لا في نفس العذاب. وقيل: المراد من الخوف التحذير. وجملة قوله: إِنِّي أَخافُ بيان للداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون الأصنام قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ أي الأشراف وصدور المجالس الذين هم بعض قومه في جواب نوح إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ في ذهاب عن طريق الحق. والصواب مبين بين والرؤية رؤية القلب بمعنى الاعتقاد والظن دون المشاهدة والبديهة. نسبوه إلى الضلال فيما ادعاه من التكليف والتوحيد والنبوّة والمعاد قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ لم يقل ضلال ليكون أبلغ في عموم السلب كأنه قال: ليس بي نوع من أنواع الضلال، ثم لما نفى عن نفسه العيب الذي نسب إليه وصف نفسه بأشرف الصفات وأجلها فاستدرك قائلا: وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ وهذا الاستدراك يسمى في علم البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم. وفي ذلك بيان فرط جهالتهم وعتوّهم حيث وصفوا من هو بهذه المنزلة من الهدى بالضلال الظاهر الذي لا ضلال بعده. وفيه أن مدح الإنسان نفسه إذا كان في موضع الضرورة جائز. ثم ذكر ما هو المقصود من البعثة وهو أمران:
الأول تبليغ الرسالة، والثاني تقرير النصيحة فقال أُبَلِّغُكُمْ الآية. والجملة استئناف(3/266)
بيان لكونه رسولا من رب العالمين، أو صفة لرسول. وإنما جاز أن تكون صفة ولفظ الرسول غائب نظرا إلى المعنى
كقوله: أنا الذي سمتن أمي حيدره
رِسالاتِ رَبِّي ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة، أو ما أوحي اليّ في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي. وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا.
ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جده إدريس وهي ثلاثون صحيفة، ومن صحف شيث وهي خمسون صحيفة وَأَنْصَحُ لَكُمْ قال الفراء: العرب لا تكاد تقول نصحتك وإن كان جائزا ولكن تقول نصحت لك. قال في الكشاف: وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة. وحقيقة النصح الإرشاد إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكر. ومعنى الآية: وأبلغكم تكاليف الله ثم أرشدكم إلى الأصلح الأصوب وأدعوكم إلى ما دعاني الله تعالى وأحب لكم ما أحب لنفسي وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أي أعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان، وذلك أنهم لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم أو أعلم أن الله يعاقبكم في الآخرة عقابا، أو أعلم من توحيد الله من صفات جلاله ما لا تعلمون، ويكون المقصود حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم. أَوَعَجِبْتُمْ الهمزة للإنكار، والمعطوف محذوف والتقدير: أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر من ربكم. قال الحسن: يعني الوحي الذي جاءهم به. وقال آخرون: الذكر المعجز كتابا أو غير كتاب. وقيل: هو الموعظة عَلى رَجُلٍ أي على لسانه قاله ابن قتيبة ونظيره آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمران: 194] وقال الفراء «على» بمعنى «مع» تقول: جاءنا الخبر على وجهك ومع وجهك كلاهما جائز. وقيل: أي منزل على رجل.
ومعنى مِنْكُمْ من بني نوعكم كأنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه لاعتقادهم أن المقصود من الإرسال التكليف، وأن التكليف لا منفعة فيه للمعبود لتعاليه ولا للعابد لتضرره في الحال، وأما في المآل فالله تعالى قادر على تحصيله بدون واسطة التكليف.
وأيضا إن العقل كاف في معرفة الحسن والقبيح، وما لا يعلم حسنه ولا قبحه فإن كان المكلف مضطرا إليه فعل لأنه تعالى لا يكلف مالا يطاق، وإن لم يكن مضطرا إليه ترك حذرا عن الخطر وبتقدير أنه لا بد من الرسول فإن إرسال الملائكة أولى لشدة بطشهم ووفور عصمتهم وطهارتهم واستغنائهم عن الأكل والشرب والنكاح، وبتقدير جواز كون النبي من البشر فلعلهم اعتقدوا أن من كان فقيرا خاملا لا يصلح للنبوّة فأنكر نوح عليه السلام كل هذه الأشياء لأنه تعالى خالق الخلق فله بحكم الإلهية أن يأمر عباده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها، ولا يجوز أن يخاطبهم بتلك التكاليف من غير واسطة لأن ذلك ينتهي إلى حد(3/267)
الإلجاء المنافي للتكليف، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول ملكا لأن الجنس إلى الجنس أسكن وقد مر في أوّل «الأنعام» . ثم بين ما لأجله يبعث الرسول فقال لِيُنْذِرَكُمْ الآية.
وإنه ترتيب أنيق لأن المقصود من البعثة الإنذار، ومن الإنذار التقوى، ومن التقوى الفوز برحمة الله. قال الجبائي والكعبي: في الآية دلالة على أنه تعالى لم يرد من المبعوث إليهم إلا التقوى والفوز بالجنة دون الكفر والعذاب، وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا فَكَذَّبُوهُ في ادعاء النبوّة وتبليغ التكاليف وأصروا قال بعض العلماء: ما في حق العقلاء من التكذيب فبغير الباء نحو كذبوا رسلي وكذبوه، وما في حق غيرهم فبالباء نحو كذبوا بآياتنا.
والتحقيق أن المراد كذبوا رسلنا برد آياتنا فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ استقروا مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وأنجيناهم في السفينة من الطوفان. قيل: كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل: كانوا تسعة وهم بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به. وإنما قال في سورة يونس فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ [الآية: 73] لأن التشديد للتكثير ولفظة من أدل على العموم ولهذا يقع على الواحد والتثنية والجمع والذكر والمؤنث بخلاف الذين إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ قال ابن عباس: عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوّة والمعاد. وقال أهل اللغة: يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر. فالعمى يدل على عمّى ثابت والعامي على عمّى حادث.
القصة الثالثة قصة هود وذلك قوله سبحانه وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً والتقدير لقد أرسلنا نوحا إلى قومه وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. واتفقوا على أن هودا ما كان أخاهم في الدين. ثم قال الزجاج: معناه أنه كان من آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة والجن.
وقيل: أراد واحدا منهم قاله الكلبي، وهو من قولك يا أخا العرب لواحد منهم، وقيل:
خص واحدا منهم بالإرسال إليهم ليكونوا أعرف بحاله في صدقه وأمانته. وقيل: معناه صاحبهم. والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم
قال صلى الله عليه وسلم «إن أخاكم أذن وإنما يقيم من أذن»
يريد صاحبهم. ونسبه هود بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح وهُوداً عطف بيان لأخاهم. وأما عاد فهم كانوا باليمن بالأحقاف. قال ابن إسحق: والأحقاف الرمل الذي بين عمان إلى حضرموت. واعلم أن ألفاظ هذه القصة بعضها يوافق الألفاظ المذكورة في قصة نوح وبعضها يخالفها فلنبين أسرارها فمنها قوله هناك فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وهاهنا قالَ يا قَوْمِ والفرق أن نوحا عليه السلام كان مواظبا على دعوتهم وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة، وأما هود فما كان جدّه إلى هذا الحد فلا جرم جاء بالتعقيب في قصة نوح دون قصة هود. ويمكن أن يقال: لما أضمر أَرْسَلْنا أضمر الفاء لأن الداعي إلى الفاء أَرْسَلْنا وفي الكشاف أن هذا وارد على سبيل الاستئناف. ومنها قوله ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ(3/268)
غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ
وفي قصة هود ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ لأن واقعة هود كانت مسبوقة بواقعة نوح فوقع الاقتصار على ذلك أي لعلكم تحذرون مثل ذلك العذاب العظيم الذي اشتهر خبره في الدنيا. ومنها قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ وفي قصة هود قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إما أن هذا وصف وارد للذم لا غير، وإما أنه لم يكن في أشراف قوم نوح من يؤمن وكان في أشراف قوم هود من آمن به منهم مرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه فأريد التفرقة بالوصف. ومنها أن قوم نوح قالوا إنا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وقوم هود قالوا إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ أي متمكنا منها تمكن المظروف من الظرف.
وذلك أن نوحا كان يخوّفهم بالطوفان العام وكان يشتغل بإعداد السفينة مدّة طويلة فوصفوه بضعف الرأي والبعد عن السداد. وأما هو فما ذكر شيئا إلا أنه زيف معتقدهم في عبادة الأصنام وطعن فيها فقابلوه بمثله ونسبوه إلى السفاهة وخفة العقل حيث فارق دين قومه. ثم قالوا وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ في ادعاء الرسالة. قيل: الظن بمعنى الجزم واليقين كقوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ [البقرة: 46] قال الحسن والزجاج: كانوا شاكين فيعلم أن الشك والتجويز في أصول الدين يوجب الكفر. ومنها قول نوح وَأَنْصَحُ لَكُمْ وقال هود وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ وذلك لأنه كان من عادة نوح عليه السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة، وصيغة الفعل دلت على التجدد المستمر ولهذا قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً [نوح: 5] إلى آخر الآيات. وأما هود فكان ثابتا على النصح غير مجدد إياه لحظة فلحظة كما كان يفعل نوح. ثم إن نوحا عليه السلام قال وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ لأنه كان يعلم من أسرار الله تعالى ما لم يصل إليه هود فلا جرم أمسك هود لسانه واقتصر على وصف نفسه بكونه أمينا ثقة أي عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة فليس من حقي أن آتي بالكذب والغش. أو المراد تقرير الرسالة فإنها تدور على الأمانة أي أنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه، أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه. وفي هذين الجوابين عن مثل ذينك الشخصين مع جلالة قدرهما دليل على أن الحكيم يجب أن لا يقابل السفهاء إلا بالكلام المبني على الحلم والإغضاء. ومنها أن هودا اقتصر على قوله لِيُنْذِرَكُمْ لما مر في قصة نوح أن فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة فلم يكن حاجة إلى الإعادة ولكنه ضم إلى ذلك شيئا آخر يختص بهم فقال وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكا قد استخلفكم فيها بعدهم وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأملاكهم وما يتصل بها من المنافع، «وإذا» مفعول به لا ظرف أي اذكروا وقت جعلكم خلفاء وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فالخلق التقدير وقلما يطلق إلا(3/269)
على الشيء الذي له مقدار وحجمية. والمراد حصول الزيادة في أجسامهم زيادة خارقة للعادة وإلا لم تذكر في معرض الامتنان. قال الكلبي: كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا. وقال آخرون: تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يد الإنسان إذا رفعها كانوا يفضلون على أهل زمانهم بهذا القدر. ومنهم من حمل اللفظ على الزيادة في القوة، ومنهم من قال: الخلق الخليقة وبسطتهم فيهم كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدّة والجلادة متناصرين متوادّين فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ في استخلافكم وبسطة أجرامكم وفيما سواهما من عطاياه وآلاء الله نعمه واحدها إلى ونحوه إني وآناء كعنب وأعناب. قال الجوهري: واحدها إني بالفتح وقد يكسر ويكتب بالياء. استدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرة بالآية قالوا: إنه تعالى رتب حصول الفلاح على مجرد التذكر. وأجيب بأن الآيات بالدالة على وجوب العمل مخصصة أو مقيدة والتقدير: فاذكروا آلاء الله واعملوا عملا يليق بذلك الإنعام لعلكم تفلحون. ذكرهم نبيهم نعم الله عليهم ليرجعوا إلى عقولهم فيعلموا أن العبادة نهاية التعظيم ولا تلق إلا بمن صدر عنه نهاية الإنعام وليس للأصنام على الخلق شيء من النعم لأنها جماد والجماد لا قدرة له أصلا فلم يكن للقوم جواب عن هذه الحجة إلا التمسك بطريقة التقليد وذلك قولهم أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ الهمزة لإنكار اختصاص الله وحده بالعبادة. وفي المجيء أوجه منها: أن يكون لهود معتزل يتحنث فيه أي يتعبد كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحراء قبل المبعث، فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم.
ومنها الاستهزاء اعتقادا منهم أن الله لا يرسل إلا ملكا فكأنهم قالوا: أجئتنا من السماء كما يجيء الملك؟ ومنها أن يراد به القصد كما يقال: ذهب يشتمني، ولا يراد حقيقة الذهاب كأنهم قالوا: أتعرضت لنا بتكليف عبادة الله وحده أي منفردا عن الأصنام وهو من المعارف التي وقعت حالا بتأويل. ولا يمكن أن يكون وحده هاهنا اعترافا كما يقول الموحد لا إله إلا الله وقال الله وحده لأن الفرض أنهم مشركون. ثم إن قول هود فيما قبل أَفَلا تَتَّقُونَ كان مشعرا بالتهديد والوعيد فلهذا استعجلوا العذاب زعما منهم أنه كاذب وذلك قولهم فَأْتِنا بِما تَعِدُنا فأجابهم هود بقوله قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ولا بد أن يحملا على معنييين متغايرين لمكان العطف. أما الغضب في حقه تعالى فإرادة إيقاع السوء كما سبق مرارا، وأما الرجس فقيل: العذاب. واعترض عليه بلزوم التكرار. وقيل: العقائد المذمومة والصفات القبيحة. وذلك أن الرجس ضد التطهير كما قال سبحانه في صفة أهل البيت إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب: 33] وقال القفال: الرجس هو الازدياد في الكفر بالرين على القلوب كما قال فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التوبة: 125] وهذا التفسير أخص. أما قوله قَدْ وَقَعَ ولم يقع العذاب بعد(3/270)
ففيه وجوه: قال بعض من يقول بأن إرادة الله تعالى حادثة: معناه أنه تعالى أحدث إرادة في ذلك الوقت. وقيل: أراد هود أنه أخبر بنزول العذاب. وقيل: جعل المتوقع الذي لا شك فيه بمنزلة الواقع كقولك لمن طلب منك حاجة قد كان ذلك. تريد أنها ستكون البتة. وعن حسان أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور وهو طفل فجاء أباه يبكي فقال له: يا بني ما لك؟
فقال: لسعني طوير كأنه ملتف في بردي حبرة فضمه إلى صدره وقال: يا بني قد قلت الشعر.
ثم أنكر عليهم قبيح فعالهم فقال أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ تناظرونني في شأن آلهة أشياء ما هي إلا أسماء سَمَّيْتُمُوها أحدثتموها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي لا حجة على حقيقتها فتنزل. والحاصل أنها أسماء بلا مسميات لأنكم تسمونها آلهة ومعنى الإلهية فيها معدوم محال. سموا واحدا بالعزي مشتقا من العز وما أعطاه الله تعالى عزا أصلا. وسموا آخر منها باللات من الإلهية وماله من الإلهية أثر. وإنما قال في هذه السورة نزل وفي غيرها مما سيجيء أَنْزَلَ لأن «نزل» للتكثير فيكون للمبالغة ويجري ما بعده مجرى التفصيل للجملة، أو أنواع للجنس والله أعلم. ثم إنه ذكرهم وعيدا محدودا فقال فَانْتَظِرُوا سوء عاقبة هذه الأصنام إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ عاقبة السوء أو عاقبة الحسنى وذلك قوله فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ بسبب رحمة كانوا يستحقونها مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي استأصلناهم ودمرناهم عن آخرهم وقد مر مثله في الأنعام. وفائدة نفي الإيمان عنهم في قوله وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ مع إثبات التكذيب بآيات ربهم أن يكون تعريضا بمن آمن منهم كمرثد بن سعد وغيره كأنه قيل: ولقد قطعنا دابر الذين كذبوا ولم يكونوا مثل من آمن منهم، أو معنى وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ في علم الله تعالى أي لم يكونوا من المكذبين الذي لو بقوا لآمنوا. قال في الكشاف: وإن عادا قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت وكانت لهم أصنام يعبدونها. صداء وصمود والهباء فبعث الله هودا نبيا وكان من أوسطهم وأشرفهم وأفضلهم حسبا فكذبوه وازدادوا عتوا وتجبرا، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا. وإن الناس كانوا إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله الفرج من ذلك عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر، فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا منهم قيل بن عنز ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه فلما نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم أنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان كانتا لمعاوية إحداهما وردة والأخرى جرادة ولما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا لأجله أهمه ذلك وقال: قد هلك أخوالي(3/271)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
وأصهاري وهؤلاء على ما هم عليه وكان يستحي أن يكلمهم خيفة أن يظنوا أنه ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا: قل قولا نغنيهم به لا يدرون من قاله فقال معاوية:
ألا يا قيل ويحك قم فهينم ... لعل الله يسقينا غماما
ويسقي أرض عاد إن عادا ... قد أمسوا ما يبينون الكلاما
الهينمة إخفاء الكلام في الدعاء وغيره، ومعنى يسقينا يجعله ساقيا لنا. وقوله ما يبينون الكلام أي لا يكادون يفقهون قولا من ضعفهم وسوء حالهم. فلما غنتا به قالوا: إن قومكم يتغوّثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم. فقال لهم مرثد بن سعد: والله لا يسقون بدعائكم ولكم إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم وأظهر إسلامه. فقالوا لمعاوية: أحبس عنا مرثدا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا، ثم دخلوا مكة فقال قيل: اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم فأنشأ الله سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء يا قيل اختر لنفسك ولقومك. فقال: اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث فاستبشروا بها وقالوا: هذا عارض ممطرنا. فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فتعبدوا الله فيها حتى ماتوا.
التأويل:
لقد أرسلنا نوح الروح إلى قومه ببلاد القوالب وهم القلب وصفاته والنفس وصفاتها، ومن صفة الروح العبودية والطاعة دعوة القلب والنفس وصفاتها إلى الله وعبوديته، ومن صفات النفس تكذيب الروح ومخالفته والإباء عن نصحه والتعجب فَكَذَّبُوهُ يعني النفس وصفاتها نوح الروح فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ في الفلك الشريعة وَأَغْرَقْنَا النفس وصفاتها في البحر الدنيا وشهواتها إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ عن رؤية الله والوصول إليه وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً كما أوقع التفاوت بين شخص وشخص فيما يعود إلى المباني أوقع التباين بين قوم وقوم فيما يرجع إلى المعاني قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أي مقالتكم تدل على حالتكم أنه أصابكم سطوات العذاب. فمن أمارات الإعراض رد العبد إلى شهود الأغيار وتغريقه إياه في بحار الظنون والأوهام والجدال.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 84]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)(3/272)
القراآت:
وقال الملأ بالواو: ابن عامر إِنَّكُمْ بحذف همزة الاستفهام: أبو جعفر ونافع وحفص وسهل. أإنكم بهمزتين: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير جفص، وهشام يدخل بينهما مدة، آينكم بالمد وبالياء: أبو عمرو وزيد. أينكم بالهمزة والياء: ابن كثير ويعقوب غير زيد.
الوقوف:
صالِحاً ج لئلا يظن أن صالِحاً صفة لا علم فالجملة بعده نعت له وهذا بخلاف اسم شعيب وغيره من الأعلام العربية غَيْرُهُ ط مِنْ رَبِّكُمْ ط أَلِيمٌ هـ بُيُوتاً ط لما مر في قصة هود مُفْسِدِينَ هـ مِنْ رَبِّهِ ج مُؤْمِنُونَ هـ كافِرُونَ هـ الْمُرْسَلِينَ هـ جاثِمِينَ هـ النَّاصِحِينَ هـ مِنَ الْعالَمِينَ هـ مِنْ دُونِ النِّساءِ ط لمكان الإضراب. مُسْرِفُونَ هـ مِنْ قَرْيَتِكُمْ ج لاحتمال التعليل استهزاء إِلَّا امْرَأَتَهُ ز لاحتمال الاستئناف والأشبه أنها حال المرأة مِنَ الْغابِرِينَ هـ مَطَراً ط الْمُجْرِمِينَ هـ.
التفسير:
القصة الرابعة قصة صالح مع قومه ثمود. قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل. وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى. وإنه لا ينصرف تارة بتأويل القبيلة وينصرف أخرى بتأويل الحي، أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح. وقيل: إن ثمود أخو جديس وطسم. وقد ورد القرآن بالصرف وبمنعه جميعا قال تعالى أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ(3/273)
أَلا بُعْداً لِثَمُودَ
[هود: 68] قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ آية ظاهرة دالة على صدقي وكأنه قيل:
ما تلك البينة فقال هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً وانتصابها على الحال والعامل فيها ما في اسم الإشارة أو حرف التنبيه من معنى الفعل أي أشير إليها أو أنبه عليها آية. ولَكُمْ بيان لمن هي له آية موجبة للإيمان وهم ثمود. وسبب تخصيص أولئك الأقوام بها مع أنها آية لكل أحد أنهم عاينوها وغيرهم أخبروا بها وليس الخبر كالمعاينة. أو لعله يثبت سائر المعجزات إلا أن القوم التمسوا هذه المعجزة بعينها على سبيل الاقتراح فأظهرها الله تعالى لهم فلهذا حسن التخصيص.
وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيما لها وتفخيما لشأنها حيث جاءت مكونة من عنده من غير فحل وطروقة آية من آياته كما تقول: آية الله وبيت الله، وبالحقيقة هي آية تشتمل على آيات.
فخروجها من الجبل آية، وكونها لا من ذكر وأنثى آية، وكمال خلقها من غير تدريج ومهل آية، وأن لها شرب يوم ولجميع ثمود شرب يوم آية، وكذا الكلام في قوتها المناسب للماء وفي غزارة لبنها، وأنكر الحسن فقال: إنها لم تحلب قطرة لبن قط.
ويروى أن جميع الحيوانات كانت تمتنع عن الورود في يوم شربها.
وقيل: سميت ناقة الله لأنه لا مالك لها سوى الله تعالى. وقيل: لأنها حجة الله على القوم فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ أي الناقة ناقة الله والأرض أرض الله فدعوها تأكل في أرض ربها ومما أنبت منها وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ من الضرب والطرد وسائر أنواع الأذى إكراما لآية الله. فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني أخذ الاستفزاز والاستئصال وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ تفسيره كما في قصة هود وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أنزلكم فيها والمباءة المنزل والأرض أرض الحجر تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها أي تبنون من سهول الأرض قصورا بما تعملون من الأراضي السهلة لبنا وآجرا ورهصا. وانتصاب بُيُوتاً على الحال المقدرة كما تقول خط هذا الثوب قميصا لأن الجبل لا يكون بيتا في حال النحت ولا الثوب قميصا في حال الخياطة. ويجوز أن تكون من مقدرة اكتفاء بقوله مِنْ سُهُولِها كما جاءت في موضع آخر تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ [الشعراء:
149] فيكون منصوبا على أنه مفعول به. وقيل: المراد أنهم كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ يعني إني قد ذكرت لكم بعض نعم ربكم فاذكروا أنتم تمامها وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ قيل: نهى عن عقر الناقة والأولى حمله على العموم. وإعرابه قد مر في أوائل سورة البقرة. قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي المساكين الذين استحقرهم رؤساء الكفار. وقوله لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من قوله لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا بتكرار الجار لشدة الاتصال. والضمير في مِنْهُمْ إما أن يرجع إلى الذين استضعفوا فيكون البدل بدل البعض ودل على أن المستضعفين فريقان مؤمنون وكافرون، وإما أن يرجع إلى قومه فيكون البدل بدل الكل ودل على أن الاستضعاف من شأن(3/274)
أهل الإيمان يستحقرهم المستكبرون، ولا يكون صفة ذم في حقهم وإنما الذم يعود إلى المستحقرين. وفي الآية دلالة على أن الفقر خير من الغنى لأن الاستكبار يتولد من كثرة المال والجاه والتصديق والانقياد ينشأ من قلتهما أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالوه على سبيل التهكم والسخرية لا للاستعلام والاسترشاد. قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ جعلوا إرساله أمرا بينا مكشوفا مسلما لا يدخله ريب وإنما الكلام في وجود الإيمان فنخبركم أنا به مؤمنون ولذلك قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا في جوابهم إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ قال الأزهري: العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ثم أطلق على النحر إطلاقا لاسم السبب على المسبب، وأسند العقر إلى جميعهم مع أنه ما باشره إلا بعضهم لأنه كان برضاهم، وقد يقال للقبيلة العظيمة أنتم فعلتم كذا ولعله لم يفعله إلا واحد منهم كقوله وَإِذْ قَتَلْتُمْ [البقرة: 72] وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ استكبروا عن امتثاله. قال مجاهد:
العتو الغلو في الباطل وأمر ربهم شأنه أي دينه، أو المراد أمر به صالح من قوله فَذَرُوها وَلا تَمَسُّوها والمعنى أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوهم فإن الإنسان حريص على ما منع. وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ أطلقوا الوعد وأرادوا ما وعدهم من العذاب واستعجالهم العذاب إنما كان لأجل تكذيبهم بكل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد، ولذلك علقوه بما كانوا ينكرونه وهو كونه من المرسلين فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قال الفراء والزجاج: هي الزلزلة الشديدة قال تعالى يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل: 14] قال الليث: هي كرجفان البعير تحت الرحل وكما ترجف الشجرة إذا أرجفتها الريح وهذا لا يناقض ما ورد في موضع آخر أنهم أهلكوا بالطاغية وفي آخر أنهم أهلكوا بالصيحة لأن الطغيان مجاوزة الحد. قال تعالى إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ [الحاقة: 11] فالزلزلة هي الحركة الخارجة عن الحد المعتاد، والغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة الهائلة.
فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي في بلدهم كقولك: دار الحرب ودار الإسلام. وقد جمع في آية أخرى فقال: فِي دِيارِهِمْ [هود: 67] لأنه أراد بالدار ما لكل واحد من منزله الخاص إلا أنه حيث ذكر الرجفة وحد وحيث ذكر الصيحة جمع لأن الصيحة كأنها من السماء فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة. ومعنى جاثِمِينَ موتى لا حراك بهم. قال أبو عبيدة: الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئا بالأرض في حال سكونه بالليل ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة التي تربط وتجمع قوائمها لترمى فَتَوَلَّى عَنْهُمْ الفاء للتعقيب. فالظاهر أن صالحا عليه السلام أدبر عنهم بعد ما أبصرهم جاثمين وكأنه تولى وهو مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وحد(3/275)
الرسالة بخلاف ما مر في قصتي نوح وهود لأن المراد هناك أشياء كانا يأمران بها قومهما بعد الإيمان بالله، وهاهنا وقع في آخر القصة فأراد بها مجموع ما أدى من الرسالة، أو أراد بذلك أداء حديث الناقة فقط. وَنَصَحْتُ لَكُمْ لم آل جهدا في النصيحة وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ حكاية لحال ماضية. واعترض على هذا التفسير بأنه كيف يصح خطاب الموتى؟
وأجيب بأنه قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه في حياته فلم يصغ إليه يا أخي كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل مني حتى ألقيت بنفسك إلى التهلكة. والفائدة في مثل هذا الكلام أن يسمعه بعض الإحياء فيعتبر به. ولعل القائل أيضا يتسلى بذلك وتزول بعض الغصة عن قلبه ويخف عليه ما نزل به،
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب قتلى بدر وقال: يا فلان ويا فلان قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقيل له: كيف تتكلم مع هؤلاء الجيف؟ فقال: ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يقدرون على الجواب.
وتفسير آخر وهو أن يكون تولى عنهم تولى ذاهب عنهم منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب. وجملة قصتهم ما
روي أن عادا لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض فكثروا وعمروا أعمارا طوالا حتى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته فنحتوا البيوت من الجبال وكانوا في سعة ورخاء من العيش، فعتوا عن أمر الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان فبعث الله إليهم صالحا وكانوا قوما عربا.
وصالح من أوسطهم نسبا. فدعاهم إلى الله فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية فقال: أية آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة فندعو آلهتنا وتدعوا إلهك، فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا.
فقال صالح: نعم. فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوها الاستجابة فلم تجبهم. ثم قال سيدهم جندع بن عمرو، وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء، والمخترجة التي شاكلت البخت فإن فعلت صدّقناك وأجبناك، فأخذ صالح عليهم المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدّقن. قالوا:
نعم. فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا، وكانت في غاية العظم حتى قال أبو موسى الأشعري: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة يعني- موضع بروكها- فوجدته ستين ذراعا. ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه ومنع بقاياهم ناس من رؤوسهم أن يؤمنوا فمكثت الناقة وولدها ترعي الشجر وتشرب الماء وكانت ترد غبا
كما قال عز من قائل لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [الشعراء: 155] وذلك أن الماء كان عندهم قليلا فجعلوا(3/276)
ذلك الماء بالكلية شربا لها يوما وشربا للقوم يوما. قال السدي: وكانت الناقة في اليوم الذي بشرب فيه الماء تحلب فيكفي الكل فكأنها كانت تصب اللبن صبا، وفي اليوم الذي يشربون الماء لا تأتيهم وكانت إذا وقع الحر تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطن الوادي، وإذا وقع البرد كان الأمر بالعكس فشق ذلك عليهم وقال لهم صالح: يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه فذبحوا تسعة نفر من أبنائهم ثم ولد العاشر فأبى أن يذبح ابنه فنبت نباتا سريعا، ولما كبر الغلام جلس مع قوم يشربون الشراب فأرادوا ماء يمزجونه به وكان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء فاشتد ذلك عليهم. فقال الغلام: هل لكم في أن أعقر هذه الناقة فشدّ عليها فلما بصرت به شدّت عليه فهرب منها إلى جانب صخرة فردّوها عليه، فلما مرت به تناولها فعقرها فسقطت فذلك قوله تعالى فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر: 29] وأظهروا حينئذ كفرهم وقيل: زينت لهم عقرها امرأتان- عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار- لما أضرت الناقة بمواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فانطلق فصيلها حتى رقي جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا وكان صالح قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه وانفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح: تصبحون غدا ووجوهكم مصفرة، وبعد غد ووجوهكم محمرة، واليوم الثالث ووجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب. فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله إلى أرض فلسطين. ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا.
واستبعد بعضهم أن العاقل مع مشاهدة هذه المعجزات والعلامات كيف يبقى مصرا على كفره؟ وأجيب بأنهم عنده مشاهدة العلامات خرجوا عن حدّ التكليف وأن تكون توبتهم مقبولة.
عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال: لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فأخذ بهم الصيحة فلم يبق منهم إلا رجل واحد كان في حرم الله. قالوا: من هو قال صلى الله عليه وسلم: ذاك أبو رغال. فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه،
وروي أن صالحا كان بعثه إلى قوم فخالف أمره.
وروي أن نبينا صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال: أتدرون من هذا؟
قالوا: الله ورسوله أعلم. فذكر قصة أبي رغال وأنه دفن هاهنا وأنه دفن معه غصن من ذهب فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن.
وروي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ونزل بهم العذاب يوم السبت.
وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعا فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفا وخمسمائة دار،
وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم،
ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين(3/277)
إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم، وقال صلى الله عليه وسلم يا علي، أتدري من أشقى الأوّلين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: عاقر ناقة صالح أتدري من أشقى الآخرين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال قاتلك.
القصة الخامسة قوله سبحانه وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ تقديره أرسلنا لوطا وقت قال لقومه، ويجوز أن يكون معناه واذكر لوطا إذ قال لقومه على أن «إذ» بدل من المفعول به لا ظرف. وإنما صرف نوح ولوط مع أن فيه سببين: العجمة والعلمية، لأن سكون وسطه قاوم أحد السببين أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أتفعلون الخصلة المتمادية في القبح ما سَبَقَكُمْ بِها قال في الكشاف: الباء للتعدية من قولك: سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله أي ما عملت قبلكم.
قلت: ومن المحتمل أن تكون الباء فيه مثله في قولك: كتبت بالقلم. وفي قوله تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ [المؤمنون: 20] أي ما سبقكم ملتبسا بها من أحد من العالمين «من» الأولى زائدة لتأكيد النفي وإفادة الاستغراق، والثانية للتبعيض. وموقع هذه الجملة استئناف لأنه أنكر عليهم أوّلا بقوله أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ثم وبخهم عليها فقال: وأنتم أوّل من عملها. أو هو جواب سؤال مقدر كأنه قيل: لم لا نأتيها؟ فقال: ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به. ويجوز أن تكون صفة للفاحشة كقوله:
ولقد أمر على اللئيم يسبني وهاهنا سؤال وهو أنه كيف يجوز دعوى عدم السبق في هذه الخصلة ولم تزل الشهوة داعية إليها؟ والجواب لعل متقدميهم كانوا يستقذرونها وينفرون عنها طبعا كسائر الحيوانات، أو المراد أن الإقبال بالكلية على ذلك العمل لم يوجد في الأعصار المتقدمة.
قال الحسن: كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء. وقال عطاء عن ابن عباس: استحكم ذلك فيهم حتى فعل بعضهم ببعض أإنكم لتأتون الرجال بيان لما أجمله في قوله أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وكلا الاستفهامين للإنكار. وفي الثاني أكثر ولهذا زيد فيه «إن» ومثله في النمل أَتَأْتُونَ وبعده أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ [النمل: 55] وفي العنكبوت إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ [الآية: 28] أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ [النمل: 55] فجمع بين «إن» «وأئن» القصة إِنَّا مُنَجُّوكَ إنا منزلون. وانتصب شَهْوَةً على أنها مفعول له أي لا حامل لكم على غشيان الرجال من دون النساء إلا مجرد الشهوة، أو مصدر وقع حالا يقال:
شهى يشهى شهوة بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحالة الموجبة لارتكاب القبائح وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء.
وختم هذه الآية بلفظ الاسم موافقة لرؤوس الآيات التي تقدمت الْعالَمِينَ النَّاصِحِينَ(3/278)
جاثِمِينَ الْمُرْسَلِينَ وفي النمل قال بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [الآية: 55] أما العدول من الإسراف إلى الجهل فلتغير العبارة، وكل إسراف جهل وكل جهل إسراف. وأما العدول من الاسم إلى الفعل فلتوافق ما قبلها من الآيات وكلها أفعال يُنْصَرُونَ تَتَّقُونَ يَعْلَمُونَ واعلم أن قبح هذا العمل كالأمر المقرر في الطباع ووجوه القبح فيه كثيرة منها:
أن أكثر الناس يحترزون فيه عن الولد لأن الولد يحمل المرء على طلب المال وإتعاب النفس في وجوه المكاسب إلا أنه تعالى جعل الوقاع سببا لحصول اللذة العظيمة حتى إن الإنسان يطلب تلك اللذة ويقدم على الوقاع وحينئذ يحصل الولد شاء أم أبى، وبهذا الطريق يبقى النسل ولا ينقطع النوع فوضع اللذة في الوقاع يشبه وضع الشيء الذي يشتهيه الحيوان في الفخ والغرض إبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع. فكل لذة لا تؤدي إلى هذا الغرض وجب الحكم بتحريمها لما فيه من ضياع البذر ولزوم خلاف الحكمة. ومنها أن الذكورة مظنة الفعل والأنوثة مظنة الانفعال، فانعكاس القضية يكون خروجا عن مقتضى الطبيعة والحكمة، ومنها أن الاشتغال بمحض الشهوة تشبه بالبهائم وخروج عن الغريزة الإنسانية. وهب أن الفاعل يلتذ بذلك العمل إلا أنه سعى في إلحاق العار العظيم بالمفعول ما دام حيا، والعاقل لا يرضى لأجل لذة زائلة إلحاق منقصة دائمة بغيره. ومنها أنه يوجب استحكام العداوة بين الفاعل والمفعول إلى حيث يقدم المفعول عل قتل الفاعل، أو على إلحاق الضرر به بكل طريق يقدر عليه وذلك لنفور طبعه عن رؤيته. وأما حصول هذا العمل بين الرجل والمرأة فإنه يوجب زيادة الألفة والمحبة كما قال تعالى خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم: 21] ومنها أنه تعالى أودع في الرحم قوّة جاذبة للمني بحيث لا يبقى شيء منه في مجاريه وأوعيته، أما إذا واقع الذكر فإنه يبقى شيء من أواخر المني في المجاري فيعفن ويفسد ويتولد منه العلل والأورام في الأسافل كما يشهد به القوانين الطبية. قال بعضهم: وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: 5، 6] يقتضي حل وطء المملوك مطلقا ذكرا كان أو أنثى. ولا يمكن تخصيص هذا العموم بقوله أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ [الشعراء: 165] لأن كلا من الآيتين أعم من الأخرى من وجه لأن المملوك قد يكون ذكرا وقد لا يكون، والذكر قد يكون مملوكا وقد لا يكون، فتخصيص إحداهما بالأخرى ترجيح من غير مرجح بل الترجيح لجانب الحل لمقتضى الأصل وذلك لأن المالك مطلق التصرف، ولأن شرع محمد أولى من شرع لوط. وأجيب بأن الاعتماد على التواتر الظاهر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا العمل حرام قال تعالى وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ بالواو كيلا يكون التعقيب(3/279)
بالفاء بعد الاسم. وفي النمل تَجْهَلُونَ فَما كانَ [النمل: 55] وفي العنكبوت وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ لصحة تعقيب الفعل الفعل إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ [الآية: 29] وفي النمل أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ [الآية: 56] ليكون ما في النمل تفسيرا لهذه الكناية وقيل: إن سورة النمل نزلت قبل الأعراف فيكون قد صرح في الأولى وكنى في الثانية. قال في الكشاف: يعني ما أجابوه بما يكون جوابا عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة. ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله ولكنهم جاؤا بكلام آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من فريتهم ضجرا بهم وبما يسمعونهم من وعظهم ونصحهم، وقولهم إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش وافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد. وقيل: المراد أن ذلك العمل في موضع النجاسة فمن تركه فقد تطهر. وقيل: ان البعد عن الإثم يسمى طهارة، فالمراد أنهم يتباعدون عن المعاصي والآثام فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي أنصاره وأتباعه والذين قبلوا دينه، وعن ابن عباس: أراد المتصلين به في النسب بدليل قوله إِلَّا امْرَأَتَهُ يقال: امرأة الرجل بمعنى زوجته ولا يقال مرء المرأة يعني زوجها لأن المالكية حق الزوج كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ وفي النمل قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ [النمل: 57] أي كانت في علم الله من الغابرين. قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ وإن قلنا بتأخر نزول الأعراف فالمعنى قدرناها من الغابرين فصارت من الغابرين، والغبور المكث والبقاء أي من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا، أو التذكير لتغليب الذكور وكانت كافرة موالية لأهل سدوم. روي أنها التفتت فأصابها حجر فماتت. ثم وصف العذاب فقال وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي أرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا. قيل: كانت المؤتفكة خمس مدائن. وقيل: كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة. فأمطر
الله عليهم الكبريت والنار. وقيل: خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم. وقيل: أمطر عليهم ثم خسف بهم. وروي أن تاجرا منهم كان في الحرم فوقف له الحجر أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه فَانْظُرْ يا محمد أو كل من له أهلية النظر والاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ وهذه الأمة وإن أمنت من عذاب الاستئصال إلا أن الخوف والاعتبار من شعار المؤمن لا ينبغي أن ينفك عنه على أن عذاب الآخرة أشدّ وأبقى ولم يأمنوه بعده.
مسائل: الأولى مذهب الشافعي أن اللواط يوجب الحدّ لأنه ثبت في شريعة لوط فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ ولم يظهر نسخ في شرعنا، ولأن ذكر الحكم عقيب(3/280)
الوصف المناسب يدل على علية الوصف للحكم، فالآية دلت على أن هذا الجرم المخصوص علة لحصول هذا الزاجر المخصوص. وقال أبو حنيفة: إن الواجب فيه التعزير لأنه فرج لا يجب المهر بالإيلاج فيه فلا يجب الحدّ كإتيان البهيمة، وعلى الأول ففي عقوبة الفاعل قولان: أحدهما أن عقوبته القتل محصنا كان أو لم يكن لما
روي انه صلى الله عليه وسلم قال «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول» «1»
وأصحهما أن حده حد الزنا فيرجم إن كان محصنا ويجلد ويغرب إن لم يكن محصنا لأنه حد يجب بالوطء، ويختلف فيه البكر والثيب كالإتيان في القبل. وعلى قول القتل فيه وجوه أحدها: يقتل بالسيف كالمرتد، والثاني وبه قال مالك وأحمد يرجم تغليظا، ويروى عن علي عليه السلام أيضا. والثالث يهدم عليه جدار أو يرمى من شاهق جبل ليموت أخذا من عذاب قوم لوط. وأما المفعول فإن كان صغيرا أو مجنونا أو مكرها فلا حد عليه ولا مهر لأن منفعة بضع الرجل لا تتقوم، وإن كان مكلفا طائعا فيقتل بما يقتل به الفاعل إن قلنا إن الفاعل يقتل، وإن قلنا يحد حد الزنا فيجلد ويغرب محصنا كان أو لم يكن، وإن أتى امرأة في دبرها ولا ملك ولا نكاح فالأظهر أنه لواط لأنه إتيان في غير المأتي ويجيء في الفاعل والمفعول ما ذكرنا. وقيل: إنه زنا لأنه وطء أنثى فأشبه الوطء في القبل فعلى هذا حده حد الزنا بلا خلاف. وترجم المرأة إن كانت محصنة. وإذا لاط بعبده فهو كالأجنبي على الأصح ولو أتى امرأته أو جاريته في الدبر فالأصح القطع بمنع الحد لأنها محل استمتاعه بالجملة.
التأويل:
هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ معجزة الخواص أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر عشراء بسقب سر السر وهو الخفي. وناقة الله هي التي تحمل أمانة معرفته وتعطي ساكني بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية، فَذَرُوها ترتع في رياض القدس وحياض الإنس وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بالانقطاع عن مواصلات الحقيقة. إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مستعدين للخلافة وَبَوَّأَكُمْ في أرض القلوب تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها وهي المعاملات بالصدق والإخلاص قُصُوراً في الجنان وَتَنْحِتُونَ من جبال أطوار القلب بُيُوتاً هي مقامات السائرين إلى الله فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ النعماء والإخلاص. فالأول يتضمن ترويح الظاهر، والثاني يوجب تلويح السر. فالترويح بوجود المسار والتلويح بشهود الأسرار وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ القلب بالفساد للاستعداد الفطري الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا هم الأوصاف البشرية
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الحدود باب 24. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 12.(3/281)
والأخلاق الذميمة لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا من أوصاف القلب والروح. أَتَعْلَمُونَ أن صالح الروح مُرْسَلٌ بنفخة الحق إلى بلد القلب وساكنيه ليدعوهم من الأوصاف السفلية لظلمانية إلى الأخلاق العلوية النورانية فَعَقَرُوا أي النفس وصفاتها ناقة سر القلب بسكاكين مخالفات الحق فَأَخَذَتْهُمُ رجفة الموت فَأَصْبَحُوا في دار قالبهم جاثِمِينَ والله العزيز.
تم الجزء الثامن ويليه الجزء التاسع أوله: وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً....(3/282)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
بسم الله الرحمن الرحيم الجزء التاسع من أجزاء القرآن الكريم
[سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 93]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)
القراءة:
كما مر.
الوقوف:
شُعَيْباً ط غَيْرُهُ ط إِصْلاحِها ط مُؤْمِنِينَ ج هـ لعطف المتفقتين أو وقوع العارض أو رأس الآية عِوَجاً ج لاتفاق الجملتين مع طول الكلام فَكَثَّرَكُمْ ج لعطف المتفقتين الْمُفْسِدِينَ هـ بَيْنَنا ج لاحتمال الواو الحال والاستئناف الْحاكِمِينَ هـ مِلَّتِنا ط كارِهِينَ هـ وقيل لا وقف لأن الابتداء بقوله وقَدِ افْتَرَيْنا قبيح قلنا إذا كان محكيا عن شعيب كان أقبح ولكن الكلام معلق بشرط يعقبه. مِنْها(3/283)
ط اللَّهِ ط رَبُّنا ط عِلْماً ط تَوَكَّلْنا وللعدول الْفاتِحِينَ هـ لَخاسِرُونَ هـ جاثِمِينَ هـ ج إن وصل وقف على كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا على جعل الَّذِينَ بدلا من الضمير في فَأَصْبَحُوا وكَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا حال لمعنى الفعل في الجاثمين. وإن جعل الَّذِينَ مبتدأ خبره كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا وقف على جاثِمِينَ وعلى فِيهَا ومن لم يقف على فِيهَا وجعل الَّذِينَ بدلا من الَّذِينَ الأول وقف على شُعَيْباً ويستأنف ب كانُوا ولا يخلو من تعسف. الْخاسِرِينَ هـ وَنَصَحْتُ لَكُمْ ط لأن فَكَيْفَ للتعجب فيصلح للابتداء مع أن فيه فاء التعقيب. كافِرِينَ هـ والله أعلم.
التفسير:
القصة السادسة قصة شعيب ومدين اسم البلد. وقيل: اسم القبيلة لأنه شعيب بن توبب بن مدين بن إبراهيم خليل الرحمن وكان يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه، وذلك أنه أمرهم بأشياء: الأوّل: عبادة الله، أمرهم بها ونهاهم عن عبادة غير الله وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء. الثاني: تصديق ما ادعاه من النبوّة وأشار إليه بقوله قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ أي معجزة دالة على نبوّتي. ففي الآية دلالة مجملة على أن لشعيب معجزة ظاهرة كما ينبغي لكل مدعي نبوّة وإلا كان متنبئا، غير أن معجزته لم تذكر في القرآن كما لم يذكر أكثر معجزات نبينا صلى الله عليه وآله فيه. يحكى أنه دفع إلى موسى عصاه وتلك العصا ربت التنين وأيضا قال لموسى: إن هذه الأغنام تلد أولادا عنقها أسود وسائرها أبيض وقد وهبتها منك وكان الأمر كما أخبر. وكل ذلك قبل أن يستنبأ موسى. فقال أهل السنة: إن هذه الأمور علامات نبوّة موسى ويسمى إرهاصا.
وقالت المعتزلة: إنها معجزات شعيب بناء على أن الإرهاص عندهم غير جائز. الثالث قوله فَأَوْفُوا الْكَيْلَ الآية. واعلم أن للأنبياء عليهم السلام أن يبدأوا في الموعظة بما يكون قومهم مقبلين عليه. وكان قوم شعيب مشغوفين بالبخس والتطفيف فكأنه يقول:
البخس عبارة عن الخيانة بالشيء القليل وهو أمر مستقبح في العقول ومع ذلك فقد جاءت البينة والشريعة الموجبة لتحريمه فلم يبق لكم فيه عذر فأوفوا الكيل والميزان. قال في الكشاف: لم يقل المكيال والميزان كما في سورة هود لأنه أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال، أو سمى ما يكال به بالكيل كما قيل العيش لما يعاش به، أو أريد فأوفوا الكيل ووزن الميزان، أو الميزان مصدر كالميعاد والميلاد. الرابع وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ يقال: بخسته حقه إذا نقصته إياه ومنه قيل للمكس البخس. وفي المثل تحسبها حمقاء وهي باخس. قال ثعلب: وإن شئت قلت باخسة وذلك بتأويل الإنسان أو النسمة يضرب لمن لا يعبأ به وفيه دهاء وجربزة. خص أولا ثم عمم ليشمل جميع أنواع الظلم كالغصب(3/284)
والسرقة وأخذ الرشوة وقطع الطريق وانتزاع الأموال بوجوه الاحتيال. يروى أنهم كانوا مكاسين لا يدعون شيئا إلا مكسوه، وكانوا إذا دخل الغريب بلدهم أخذوا دراهمه الجياد وقالوا هي زيوف فقطعوها قطعا ثم أخذوها بنقصان ظاهر وأعطوه بدلها زيوفا. الخامس وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وهذا أعم من البخس لشموله الأموال والأعراض والنفوس وكل ما يوجب مفسدة دنيوية أو دينية. والمعنى بعد إصلاح أهلها على حذف المضاف أو هو كقوله بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [سبأ: 33] أي بعد الإصلاح فيها يعني إصلاح الصالحين من الأنبياء ومتابعيهم العالمين بشرائعهم ذلِكُمْ الذي ذكر من الأمور الخمسة خَيْرٌ لَكُمْ في الإنسانية وحسن الأحدوثة وزيادة البركة لرغبة الناس في متاجرتكم عند اشتهاركم بالأمانة والديانة. ولا يخفى أن حاصل هذه التكاليف الخمسة يرجع إلى التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدقين لي في قولي. ثم فصل بعض ما أجمل فقال وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ قيل: الصراط حقيقة وذلك أنهم كانوا يجلسون على الطرق والمراصد كما كانت تفعل قريش بمكة يخوّفون من آمن بشعيب ويقولون إنه كذاب لا يفتنكم عن دينكم، أو كانوا يقطعون الطرق أو كانوا عشارين. وقيل: إنه مجاز عن الدين أي لا تقعدوا على طريق الدين ومنهاج الحق لأجل أن تمنعوا الناس عن قبوله اقتداء بالشيطان حيث قال لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ [الأعراف: 16] ودليل هذا المجاز قوله وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يقال: قعد بمكان كذا أي التصق به، وعلى مكان كذا أي علا ذلك المكان وفيه إذا حل، فحروف الجر تتعاقب في مثل هذا الموضع لتقارب معانيها. ومحل تُوعِدُونَ وما عطف عليه نصب على الحال، نهاهم عن القعود على صراط الله حال الاشتغال بأحد هذه الأفعال. وإنما قال بِكُلِّ صِراطٍ مع أن صراط الحق واحد لأنه يتشعب إلى معالم وحدود وأحكام كثيرة كل منها في نفسه سبيل، وكانوا إذا رأوا أحدا يشرع فيها أوعدوه وصدوه. والضمير في بِهِ راجع إلى كل صراط والتقدير:
توعدون من آمن به وتصدون عنه فوضع الظاهر موضع الضمير زيادة في التقبيح والتفظيع.
ومعنى وَتَبْغُونَها تطلبون لسبيل الله عِوَجاً أي تصفونها للناس بأنها معوجة وذلك بإلقاء الشكوك والشبهات. قال في الكشاف: أو يكون تهكما بهم وأنهم يطلبون لها ما هو محال لأن طريق الحق لا تعوج. ثم ذكرهم نعم الله تعالى لأن ذكر النعم مما يحمل على الطاعة ويبعد عن المعصية فقال وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ أي وقت كونكم قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ قال الزجاج يحتمل كثرة العدد بعد القلة وكثرة الغنى بعد الفقر وكثرة القدرة والشدة بعد الضعف والذلة. قيل: إن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله في نسلها(3/285)
بالبركة والنماء وصاروا كثيرا في العدة والعدة والشدّة. ثم حذرهم سوء عاقبة من أفسد قبلهم من الأمم وكانوا قريبي العهد مما أصاب المؤتفكة فقال وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ رغبهم أولا ثم رهبهم ثانيا وأكد الترهيب بقوله وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ الآية. وفيه وعيد للكافرين ووعد للمؤمنين وحث لهم على الصبر على ما يلحقهم من أذى المشركين إلى أن يحكم بمقتضى العدل والحكمة خير الحاكمين. ثم حكى جواب قومه المحجوجين المستكبرين وذلك قولهم لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي أحد الأمرين كائن لا محالة إما إخراجكم وإما عودكم إلى الكفر. وهاهنا سؤال وهو أن الكفر على الأنبياء محال فكيف يتصور عوده إليه؟ وهب أن قول الكفار ليس حجة أليس قول شعيب حجة حيث قال إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ؟ وأجيب بأن الكلام بني على التغليب، وأن شعيبا أراد عود قومه إلا أنه نظم نفسه في جملتهم لما ذكرنا، أو لعل رؤساءهم قالوا ذلك تلبيسا على القوم وشعيب أجرى كلامه على وفق ذلك، أو أنه كان في أوّل أمره يخفي مذهبه فتوهموا أنه على دينهم، أو أريد بالملة الشريعة التي صارت منسوخة بشرعه، أو يطلق العود على الابتداء كقوله:
وإن تكن الأيام أحسنّ مرّة ... إليّ فقد عادت لهن ذنوب.
قال شعيب في جوابهم أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ الهمزة للاستفهام والواو للحال والتقدير: أتعيدوننا في ملتكم في حال كراهيتنا؟. ثم صرح بأنه لا يفعل ذلك فقال قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إن فعلنا ذلك وذلك أن أصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة والبراءة عن الكذب والعود في ملتكم ينافي ذلك. ومعنى قوله بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها بعد أن علمنا قبحه وفساده ونصب الأدلة على بطلانه، أو المراد نجى قومه فغلب، أو المراد على حسب زعمكم ومعتقدكم كما مر. قال في الكشاف: وقوله قَدِ افْتَرَيْنا إخبار مقيد بالشرط وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون كلاما مستأنفا فيه معنى التعجب كأنهم قالوا: ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام لأن الارتداد أعظم من الكفر حيث إن المرتد يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل وكفره أزيد. والثاني أن يكون قسما على تقدير حذف اللام معناه والله لقد افترينا على الله كذبا وَما يَكُونُ لَنا أي ما ينبغي لنا وما يصح أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا قال أهل السنة: في الآية دلالة على أن المنجي من الكفر هو الله تعالى وكذا المعيد إليه قال الواحدي: ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر، ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إبراهيم: 35] وكثيرا ما
كان يقول(3/286)
نبينا صلى الله عليه وسلم: «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك» «1»
وقال يوسف تَوَفَّنِي مُسْلِماً [يوسف: 101] أجابت المعتزلة بوجوه: الأوّل: أن قوله إِلَّا أَنْ يَشاءَ قضية شرطية أي إن شاء يعد وليس فيه بيان أنه شاء أم أبى. الثاني: أن هذا على طريق التبعيد والإحالة. كما يقال لا يفعل ذلك إلا إذا ابيض القار وشاب الغراب. الثالث: لعل المراد ما لو أكرهوا على العود فإن إظهار الكفر عند الإكراه جائز وإن كان الصبر أفضل وما كان جائزا صح أن يكون مراد الله تعالى كما أن المسح على الخفين مراد الله وإن كان غسل الرجلين أفضل. الرابع: يحتمل أن يعود الضمير في فِيهَا إلى قرية. كأنه قال: إن أخرجتمونا من القرية حرم علينا العود فيها إلا بإذن الله تعالى. الخامس: المشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل فإنه تعالى يريد الكفر من الكافر ولا يجوز فعله إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر فيحتمل أن يراد بالمشيئة هاهنا الأمر فيكون التقدير: إلا أن يأمر الله أن نعود إلى شريعتكم المنسوخة، فإن الشرع المنسوخ لا يبعد أن يأمر الله تعالى بالعمل به مرة أخرى. السادس: قال الجبائيّ: المراد من الملة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصوم والصلاة، فمن الجائز أن يكون بعض أحكام الشريعة المنسوخة باقيا فيكون المعنى إلا أن يشاء الله إبقاء بعض تلك الملة فيدلنا عليها. ثم إن المعتزلة تمسكوا بالآية على صحة قولهم من وجهين: أحدهما: أن قوله وَما يَكُونُ لَنا معناه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود وذلك يقتضي أن كل ما شاء تعالى وجوده كان فعلا جائزا مأذونا فيه، وما كان حراما ممنوعا منه لم يكن مراد الله تعالى. وثانيهما: أن قوله لَنُخْرِجَنَّكَ أو لَتَعُودُنَّ لا وجه للفصل بينهما فإن كان العود بخلق الله كان الإخراج أيضا بخلقه. قلت: للسني أن يلتزم ذلك. أما قوله وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ فوجه تعلقه بما تقدمه على قول الجبائيّ هو أن التكليف بحسب المصالح فيكون معنى قول شعيب إلا أن يشاء الله إلا أن تختلف المصلحة في تلك العبادات فحينئذ يكلفنا بها والعلم بالمصالح لا يكون إلا بأن وسع كل شيء علما. وقالت الأشاعرة: وجه التعلق هو أن القوم لمّا قالوا لنخرجنك أو لتعودن قال شعيب وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً فربما كان في علمه قسم ثالث: وهو أن يبقينا في القرية مؤمنين ويجعلكم مقهورين خاسرين ويؤكد هذا التفسير قوله عقيب ذلك عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا أي لا على غيره. وانتصاب عِلْماً على التمييز.
وفي قوله وَسِعَ بلفظ الماضي دلالة على أنه تعالى كان في الأزل عالما بجميع
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب القدر باب 7. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 4، 8) ، (3/ 112) .(3/287)
المعلومات فلا يخرج عن شيء عن مقتضى علمه وهو معنى جفاف الأقلام وطي الصحف ولزوم الأحكام وسعادة السعيد وشقاوة الشقي ويعلم من عموم كل شيء أنه علم الماضي والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف يكون. فهذه أقسام أربعة يقع كل منها على أربعة أوجه لأنه علم الماضي كيف كان، وعلم أنه لو لم يكن ماضيا بل كان حالا أو مستقبلا أو معدوما محضا فإنه كيف يكون، وكذا الكلام في الأقسام الأخر فيكون المجموع ستة عشر. وإذا اعتبر كل منها بحسب كل جنس أو نوع أو صنف أو شخص من الجواهر أو الأعراض صار مبلغا تتحير فيه عقول العقلاء بل تقف دون أوّل قطرة من قطرات بحاره. ثم إن شعيبا لما أعرض عن الأسباب وارتقى بطريق التوكل إلى مسببها ختم كلامه بالدعاء قائلا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي: احكم واقض. وعن ابن عباس: ما أدري ما معناه حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: تعالى أفاتحك أي أحاكمك. وجوز الزجاج أن يكون معنى الآية أظهر أمرنا حتى يتضح وينكشف ما بيننا وبين قومنا. والمراد أن ينزل عليهم عذابا يدل على كونهم مبطلين وعلى كون شعيب وقومه محقين. ثم أثنى على الله بقوله وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ كما قال وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ قالت الأشاعرة: الإيمان فتح باب الخيرات وهو أشرف صفات المحدثات، فلو كان موجد الإيمان هو العبد كان خير الفاتحين هو العبد. وللمعتزلة أن يقولوا: لولا ألطافه المرجحة الداعية لم يوجد الإيمان من العبد فصح أن الله هو خير الفاتحين. ثم بيّن أن رؤساء قوم شعيب لمن يقتصروا على الضلال بل بادروا إلى الإضلال قائلين لمن دونهم لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ أي في الدين أو في الدنيا لأنه يمنعكم من ازدياد الأموال بطريق البخس والتطفيف فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قد سبق تفسيرها الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا يقال غني القوم في دراهم إذا طال مقامهم فيها. والمغاني المنازل إذا كان فيها أهلها. وقال الزجاج: أي كأن لم يعيشوا فيها مستغنين من الغنى الذي هو ضد الفقر. وعلى التفسيرين شبه حال المكذبين بحال من لم يكن قط في تلك الديار كقوله: كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر. قال في الكشاف الَّذِينَ كَذَّبُوا مبتدأ خبره كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا وكذلك كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص كأنه قيل: الذين كذبوا شعيبا هم المخصوصون بأن أهلكوا واستؤصلوا كأن لم يقيموا في ديارهم لأن الذين اتبعوا شعيبا قد أنجاهم الله الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً هم المختصون بالخسران العظيم دون أتباعه فإنهم الرابحون، وفي هذا الاستئناف والابتداء والتكرير مبالغة في رد مقالة الملأ لأشياعهم(3/288)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
وتسفيه لرأيهم واستهزاء بنصحهم لقومهم واستعظام لما جرى عليهم. قلت: والعرب قد تكرر للتفخيم والتعظيم فتقول: أخوك الذي ظلمنا أخوك الذي أخذ أموالنا أخوك الذي هتك أعراضنا. وأيضا إن القوم لما قالوا لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ بيّن الله تعالى أن الذين لم يتبعوه وخالفوه هم الخاسرون. وفي الآية فوائد أخرى منها: أن ذلك العذاب إنما حدث بتخليق فاعل مختار وليس ذلك أثر الكواكب والطبيعة وإلا حصل في أتباع شعيب كما حصل في حق الكفار. ومنها أن ذلك الفاعل عليم بالجزئيات حتى يمكنه التمييز بين المطيع والعاصي. ومنها أن يكون معجزة لشعيب حيث وقع ذلك العذاب على قوم دون قوم مع كونهم مجتمعين في بلد واحد فَتَوَلَّى عَنْهُمْ قد تقدم أن هذا التولي جائز أن يكون قبل نزول العذاب وجائز أن يكون بعده. قال الكلبي: خرج من بينهم ولم يعذب قوم نبي حتى أخرج من بين أظهرهم. ولما اشتد حزنه على قومه من جهة الوصلة والقرابة والمجاورة وطول الإلفة لأنهم كانوا كثيرين وكان يتوقع منهم الإجابة للإيمان عزّى نفسه وقال فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ لأنهم الذين أهلكوا أنفسهم بسبب إصرارهم على الكفر. والأسى شدة الحزن. وقيل: المراد لقد أعذرت إليكم في الإبلاغ والنصيحة والتحذير مما حل بكم فلم تسمعوا قولي ولم تقبلوا نصيحتي فكيف آسى عليكم لأنكم لستم مستحقين لذلك؟.
التأويل:
وَلا تَبْخَسُوا فيه أن البخاسة والدناءة والحرص والظلم من الصفات التي يجب تزكية النفس عنها فإن الله تعالى يحب معالي الأمور ويبغض سفسافها. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أرض الطبيعة التي جبل الإنسان عليها وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ لا تقطعوا الطريق على الطالبين بأنواع الحيل والمكايد. إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ بالتناصر والتعاون في الأمور وبكثرة العدد والعدد نعمة تامة يجب أن تصرف في إعلاء كلمة الدين وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ أي الروح والقلب وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا وهم النفس وصفاتها وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لا يجعل الروح والقلب المؤمنين تبعا للنفس الكافرة في العذاب وإذاقة ألم الهجران أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا إشارة إلى أن كل جنس لا يميل إلا إلى أشكاله وإلا وجد في إيابه من يأمن نهج أضرابه بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها في القسمة الأزلية افْتَحْ بَيْنَنا احكم بيننا وبينهم بإظهار حقيقة ما قدرت لنا من خاتمة الخير وإظهار ما قدرت لهم من خاتمة السوء فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فصارت صورتهم تبعا لمعناهم فإنهم كانوا جاثمي الأرواح في ديار الأشباح كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا لأن الباطل زاهق لا محالة.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 94 الى 102]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)(3/289)
القراآت:
لَفَتَحْنا بالتشديد: ابن عامر ويزيد أَوَأَمِنَ بسكون الواو: أو جعفر ونافع غير ورش، وابن عامر وابن كثير غير ابن فليح، وقرأ ورش بنقل حركتها إلى الساكن قبلها أولم نهد النون حيث كان: زيد عن يعقوب. الباقون: بالياء التحتانية رُسُلُهُمْ بسكون السين حيث كان: أبو عمرو.
الوقوف:
يَضَّرَّعُونَ هـ لا يَشْعُرُونَ هـ يَكْسِبُونَ هـ نائِمُونَ هـ لمن قرأ أَوَأَمِنَ بفتح الواو على أن الهمز للاستفهام، ومن سكن الواو فلا وقف لأن «أو» للعطف يَلْعَبُونَ هـ مَكْرَ اللَّهِ ج للفصل بين الإخبار والاستخبار مع أن الفاء للتعقيب.
الْخاسِرُونَ هـ بِذُنُوبِهِمْ ج للفصل بين الماضي والمستقبل والتقدير: نحن نطبع مع اتحاد القصة. لا يَسْمَعُونَ هـ مِنْ أَنْبائِها ج لعطف المختلفتين بِالْبَيِّناتِ ط لأن ضمير فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لأهل مكة وضمير. جاءهم للأمم الماضية مع أن الفاء توجب الاتصال مِنْ قَبْلُ ط الْكافِرِينَ هـ مِنْ عَهْدٍ ج لعطف الجملتين المختلفين لَفاسِقِينَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما عرّفنا أحوال هؤلاء الأنبياء وما جرى على أممهم ذكر ما يدل على أن هذا الجنس من الهلاك قد فعله بغيرهم وليس مقصورا عليهم، وبيّن العلة التي لأجلها فعل بهم ما فعل. والقرية مجتمع القوم فتشمل المدينة أيضا وتقدير الكلام:
وما أرسلنا في قرية من نبي إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضراء. قال الزجاج: البأساء الشدة في الأموال والضراء الأمراض في الأبدان. وقيل بالعكس لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي يتضرعون فأدغم التاء في الضاد والمعنى: ليحطوا أردية التعزز والاستكبار ويتبعوا نبيهم. ثم بيّن أن(3/290)
تدبيره في أهل القرى لا يجري على نمط واحد فقال ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ وهي كل ما يسوء صاحبه الْحَسَنَةَ وهي ما يستحسنه الطبع والعقل أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من الفقر والضر والسعة والصحة حَتَّى عَفَوْا كثروا ونموا في أنفسهم وأموالهم من قولهم عفا النبات والشحم والوبر ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم: «وأعفوا اللحى» «1»
وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ كما هو دأب الأشرين يقولون هذه عادة الدهر في أهله يوم محنة ويوم منحة. والمراد أنهم لم ينتفعوا بتدبير الله تعالى فيهم من رجاء بعد شدّة وأمن بعد خوف وراحة بعد عناء فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً آمن ما كانوا عليه ليكون ذلك أعظم من الحسرة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بنزول العذاب. والحكمة في جميع هذه الحكايات اعتبار من سمعها ووعاها وتعريف أن العصيان سبب الحرمان عن الخيرات وسد لجميع أبواب السعادات ولهذا قال وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى أي جنسها أو القرى المذكورة في قوله وما أرسلنا في قرية آمَنُوا بما يجب به الإيمان في باب المبدأ والمعاد وَاتَّقَوْا كل ما نهى الله عنه لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أي لأتيناهم بالخير من كل وجه أو أراد القطر والنبات.
والمراد بفتح البركات عليهم تيسير أسباب النجاح كقولهم: فتحت على القارئ إذا يسرت القراءة عليه بالتلقين وَلكِنْ كَذَّبُوا الرسل فَأَخَذْناهُمْ بالجدب والمحل وهو ضد البركة والخير بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أي بشؤم كسبهم وهو الكفر والمعاصي. ثم خوف المكلفين نزول العذاب عليهم في الوقت الذي يكونون فيه في غاية الغفلة وهو حال النوم بالليل وحال الضحى بالنهار، لأنه الوقت الذي يغلب على المرء فيه التشاغل باللذات والمهمات فقال أَفَأَمِنَ قال في الكشاف: الهمزة للإنكار والفاء للعطف على قوله فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً والآية بينهما اعتراض والتقدير: أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا، وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى؟ فلهذا عطف الثانية بالواو. وأما قوله أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فتكرير لقوله أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى فلهذا رجع فعطف بالفاء. قلت: يجوز أن يقدّر المعطوف عليه بعد الهمزة والمعنى: أفعلوا ما فعلوا فأمن وأما من قرأ «أو» ساكنة فمعناه إما أحد الشيئين ويرجع المعنى إلى قولنا فأمنوا إحدى هذه العقوبات، وإما للإضراب كما تقول: أنا أخرج ثم تقول أو أقيم. على أن المراد هو الإضراب عن الخروج وإثبات للإقامة أي لا بل أقيم. ومعنى بَياتاً قد تقدم في أوّل السورة. وضُحًى نصب على الظرف قال الجوهري: ضحوة النهار بعد طلوع الشمس ثم بعده الضحى وهو حين تشرق
__________
(1) رواه البخاري في كتاب اللباس باب 65. مسلم في كتاب الطهارة حديث 52. الترمذي في كتاب الأدب باب 18 النسائي في كتاب الطهارة باب 14. أحمد في مسنده (2/ 16، 52) .(3/291)
الشمس مقصورة، وتذكر على أنه مفرد كصرد وتؤنث على أنها جمع ضحوة. ثم بعده الضحاء ممدودا مذكرا وهو عند ارتفاع النهار الأعلى. في قوله وَهُمْ يَلْعَبُونَ يحتمل التشاغل بما لا يجدي عليهم من أمور الدنيا فهي لهو ولعب، ويحتمل خوضهم في كفرهم لأن ذلك كاللعب في أنه يضر ولا ينفع. ومكر الله كما تقدم في آل عمران عذاب بعد الاستدراج أو سمي جزاء المكر مكرا. عن الربيع بن خثيم أن ابنته قالت له: ما لي أرى الناس ينامون ولا أراك تنام؟ قال: يا بنتاه إن أباك يخاف البيات يعني المذكور في الآية.
اللهم اجعلنا من الخائفين العاقلين لا من الآمنين الغافلين. ثم لما بيّن حال المهلكين مفصلا ومحلا ذكر أن الغرض من القصص حصول العبرة للباقين فقال أَوَلَمْ يَهْدِ من قرأ بالياء ففاعله أَنْ لَوْ نَشاءُ والمعنى: أو لم يهد الذين يخلفون أولئك المتقدمين فيرثون أرضهم وديارهم هذا الشأن وهو أنا لو نشاء أصبناهم بذنوبهم أي بعقابها كما أصبنا من قبلهم. ومن قرأ بالنون فقوله أَنْ لَوْ نَشاءُ منصوب والهداية بمعنى التبيين على القراءتين ولهذا عدّي فعلها باللام، والمفعول على القراءة الأولى محذوف والتقدير: أولم يكشف لهم الحال والشأن المذكور. وأما قوله وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فإما أن يكون منقطعا عما قبله بمعنى ونحن نطبع كما مر في الوقوف، وإما أن يكون متصلا بما قبله. قال الكشاف: وذلك هو يرثون أو ما دلّ عليه معنى أَوَلَمْ يَهْدِ كأنه قيل: يغفلون عن الهداية ونطبع. ثم قال: ولا يجوز أن يكون معطوفا على أَصَبْناهُمْ وطبعنا لأن القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم فيجري مجرى تحصيل الحاصل ولقائل أن يقول: لا يلزم من المذكور وهو كونهم مذنبين أن يكونوا مطبوعين، فاقتراف الذنوب غير الطبع لأن يذنب أوّلا أو يكفر ثم يستمر على ذلك فيصير مطبوعا على قلبه. وأيضا جاز أن يراد لو شئنا لزدنا في طبعهم أو لأدمناه والله سبحانه أعلم بمراده. ثم أخبر عن الأقوام المذكورين تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فقال تِلْكَ الْقُرى وهي مبتدأ وخبر. وقوله يقص حال والعامل معنى اسم الإشارة، أو خبر بعد خبر، أو الْقُرى صفة ل تِلْكَ ونَقُصُّ خبر.
وفائدة الإخبار على هذا التقدير ظاهرة. وأما على الأوّلين فترجع الفائدة إلى الحال أو الخبر الثاني كما ترجع إلى الصفة في قولك: هو الرجل الكريم. الحاصل أن تلك القرى المذكورة نقص عليك بعض أنبائها ولها أنباء غيرها لم نقصها عليك، وأيضا خصصنا تلك القرى بقصص بعض أنبائها لأنهم اغتروا بطول الأمهال مع كثرة النعم وكانوا أقرب الأمم إلى العرب فذكرنا أحوالهم تنبيها على الاحتراز عن مثل أعمالهم. ثم عزى رسوله بقوله وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا من قبل اللام لتأكيد النفي(3/292)
وأن الإيمان كان منافيا لحالهم. قال ابن عباس والسدي: فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عند إرسال الرسل بسبب تكذيبهم يوم أخذ ميثاقهم حين أخرجهم من ظهر آدم أقروا باللسان كرها وأضمروا التكذيب. وقال الزجاج: فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات بما كذبوا به من قبل رؤية تلك المعجزات. وعن مجاهد: فما كانوا ليؤمنوا لو أحييناهم بعد الإهلاك ورددناهم إلى دار التكليف بما كذبوا من قبل كقوله وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [الأنعام: 28] وقيل: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بما كذبوا من قبل مجيئهم.
وقيل: ما كانوا ليؤمنوا في الزمان المستقبل بما كذبوا به في الزمان الماضي أي استمروا على التكذيب من لدن مجيء الرسل إلى أن ماتوا مصرين لم ينجع فيهم تكرير المواعظ وتتابع الآيات كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع الشديد يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ الذي كتب أن لا يؤمنوا أبدا. والطبع والختم والرين والكنان والغشاوة والصد والمنع واحد كما سلف. وقال الجبائي: هو أن يسم قلوب الكفار بسمات وعلامات تعرف الملائكة بها أن صاحبها لا يؤمن.
وقال الكعبي: إنما أضاف الطبع إلى نفسه لأجل أن القوم إنما صاروا إلى ذلك الكفر عند أمره وامتحانه فهو كقوله تعالى فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نوح: 6] ثم شرح حال المكلفين فقال وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ والضمير للناس على الإطلاق. قال ابن عباس: يعني بالعهد قوله للذر أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: 172] أقروا به ثم خالفوا. عن ابن مسعود هو الإيمان كقوله إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً [مريم: 87] يعني من قال لا إله إلا الله.
وقيل: العهد عبارة عن الأدلة على التوحيد والنبوّة والمراد الوفاء بالعهد وَإِنْ وَجَدْنا هي المخففة من الثقيلة بدليل اللام الفارقة في قوله لَفاسِقِينَ وقد عملت في ضمير شأن مقدر والتقدير: وإن الشأن والحديث علمنا أكثرهم فاسقين خارجين عن الطاعة والآية اعتراض.
ويحتمل أن يعود الضمير على الأمم المذكورين كانوا إذا عاهدوا الله في ضرر ومخافة لئن أنجيتنا لنؤمنن نكثوه بعد كشف الضر.
التأويل:
إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ الوفي يتضرع إليه عند البلاء ويتوكل عليه والعدوّ يذهل عن الحق ولا يرجع إليه وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى يعني صفات النفس آمَنُوا بما يرد إلى صفات القلب والروح من ألطاف الحق وَاتَّقَوْا مشتبهات النفس لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ أسباب العواطف من سماء الروح وأرض القلب فَأَخَذْناهُمْ عاقبناهم بعذاب البعد بما كسبوا من مخالفات الحق وموافقات الطبع بَياتاً في صور القهر ضُحًى في صورة اللطف بسطوات الجذبات وَهُمْ يَلْعَبُونَ يشتغلون بالدنيا. إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ من أهل القهر هم الذين خسروا سعادة الدارين من أهل اللطف هم(3/293)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)
الذين خسروا الدنيا والعقبى وربحوا المولى أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 126]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107)
وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122)
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)
القراآت:
حَقِيقٌ عَلى بالتشديد: نافع. الباقون: بالتخفيف مَعِيَ بفتح الياء حيث كان: حفص أَرْجِهْ بإسكان هاء الضمير: حمزة وعاصم غير المفضل أَرْجِهْ بكسر الجيم والهاء من غير إشباع: يزيد وقالون أرجهي بالإشباع: نافع غير قالون وعلي وعباس وخلف المفضل أرجئه بالهمزة: أبو عمرو غير عباس وسهل ويعقوب وابن الأخرم عن ابن ذكوان وهشام غير الحلواني أرجئهو بالإشباع: ابن كثير والحلواني عن هشام أرجئه بكسر الهاء: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان سحار بالمبالغة:
حمزة وعلي وخلف وكذلك في يونس. وقرأ قتيبة ونصير والدوري وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو بالإمالة. الباقون ساحِرٍ. إِنَّ لَنا بحذف همزة الاستفهام: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وحفص. أإن لنا بإثبات همزة الاستفهام: عاصم غير حفص وحمزة وعلي وخلف وابن عامر وهشام. يدخل بينهما مدة آين لنا المدة وقلب الهمزة ياء:(3/294)
أبو عمرو وزيد. أين لنا بالياء ولا مدة: سهل ويعقوب غير زيد تَلْقَفُ بالتخفيف حيث كان: حفص والمفضل تَلْقَفُ بالتشديد وإدغام التاء الأولى في الثانية: البزي وابن فليح.
الباقون: بتشديد القاف وحذف تاء التفعل. آمَنْتُمْ بهمزة واحدة ممدودة: حفص.
أأمنتم بزيادة همزة الاستفهام: حمزة وعلي وخلف وعاصم سوى حفص. آمَنْتُمْ بالمد وتليين الهمزة: أبو جعفر ونافع وابن عامر وأبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير غير الهاشمي وابن مجاهد وأبي عون عن قنبل فرعون وآمنتم بالواو الخالصة: الهاشمي عن قنبل وآمنتم بالواو وتحقيق الهمزة الأولى: ابن مجاهد وأبو عون والهرندي عن قنبل.
الوقوف:
فَظَلَمُوا بِها ج للفصل بين الخبر والطلب مع العطف بالفاء الْمُفْسِدِينَ هـ الْعالَمِينَ هـ ج وقف لمن قرأ حَقِيقٌ عَلى بالتشديد أي واجب عليّ، ومن قرأه مخففا جاز له الوصل على جعل حَقِيقٌ وصف الرسول و «على» بمعنى الباء إِلَّا الْحَقَّ ط بَنِي إِسْرائِيلَ ط الصَّادِقِينَ هـ مُبِينٌ هـ للفصل بين الجملتين والوصل أجود للجمع بين الحجتين لِلنَّاظِرِينَ هـ عَلِيمٍ هـ لا لأن ما بعده وصف لساحر مِنْ أَرْضِكُمْ ج لاحتمال أن ما بعده من تمام قول الملأ لفرعون وحده، والجمع للتعظيم أوله ولعظمائه حضرته، وأن يكون ابتداء جواب من فرعون أي فماذا تشيرون قاهِرُونَ هـ حاشِرِينَ هـ لا لأن ما بعده جواب الأمر عَلِيمٍ هـ الْغالِبِينَ هـ الْمُقَرَّبِينَ هـ الْمُلْقِينَ هـ أَلْقُوا ج للعطف عَظِيمٍ هـ عَصاكَ ط لحق المحذوف لأن التقدير فألقاها فإذا هي ما يَأْفِكُونَ هـ ما كانُوا يَعْمَلُونَ هـ صاغِرِينَ هـ ج لمكان حروف العطف ساجِدِينَ هـ ج لاحتمال كون قالُوا حالا بإضمار «قد» الْعالَمِينَ هـ لا للبدر هارُونَ هـ آذَنَ لَكُمْ ج للابتداء مع اتحاد القائل أَهْلَها ج لأن «سوف» للتهديد مع العطف تَعْلَمُونَ هـ أَجْمَعِينَ هـ مُنْقَلِبُونَ هـ للآية مع اتحاد المقول جاءَتْنا ط للعدول عن المحاباة إلى المناجاة مُسْلِمِينَ هـ.
التفسير:
القصة السابعة من قصص هذه السورة قصة موسى عليه السلام. وقد ذكر في هذه القصة من البسط والتفصيل ما لم يذكر في غيرها لأن جهل قومه أعظم وأفحش من جهل سائر الأقوام ولهذا كانت معجزاته أقوى من معجزات متقدميه من الأنبياء.
والضمير في قوله ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ يعود إلى الرسل أو إلى الأمم المذكورين، في قوله بِآياتِنا دلالة على كثرة معجزاته وأن النبي لا بد له من آية ومعجزة بها يمتاز عن المتنبي. فَظَلَمُوا بِها أي بتلك الآيات والمراد كفرهم بها لأن وضع الإنكار في موضع(3/295)
الإقرار وإيراد الكفر بدل الإيمان وضع للشيء في غير موضعه، أو تظلموا الناس بسببها حين أوعدوهم وصدوهم عنها وأذوا من آمن بها. فَانْظُرْ أيها المعتبر المستبصر بعين بصيرتك كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ كيف فعلنا بهم؟ وهذه قصة إجمالية ثم شرع في تفصيلها وذلك قوله وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي إله قادر عليم حكيم. وفيه أن العالم موصوف بصفات لأجلها افتقر إلى رب يربيه حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ من قرأ بالتشديد في عَلى وحَقِيقٌ إما بمعنى فاعل أي واجب عليّ ترك القول على الله إلا بالحق، أو بمعنى مفعول أي حق عليّ ذلك. تقول العرب إني لمحقوق على أن أفعل خيرا. وأما قراءة العامة حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ مرسلة الياء ففيه وجوه أحدها: أن يكون «علي» بمعنى «الباء» كقولهم جئت على حال حسنة وبحال حسنة، قال الأخفش: وهذا كما قال وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ [الأعراف: 86] أي على كل صراط ويؤكد هذا الوجه قراءة أبيّ حقيق بأن لا أقول أي أنا خليق بذلك. وثانيها: أن الحق هو الدائم الثابت والحقيق مبالغة فيه، وكل ما لزمك فقد لزمته فكأن المعنى أنا ثابت مستمر على أن لا أقول إلا الحق. وثالثها: أن يضمن حقيق معنى حريص. ورابعها: أن يكون من القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس فيؤل المعنى إلى قراءة نافع. وخامسها: أن يكون إغراقا في الوصف ومبالغة بالصدق والمراد أنا حقيق على قول الحق أي واجب عليّ أن أكون أنا قائله والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقا به. وسادسها: أن يكون على هذه هي التي تقرن بالأوصاف اللازمة الأصلية كقوله تعالى فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30] ويقال: جاءني فلان على هيئته وعلى عادته وعرفته وتحققته على كذا وكذا من الصفات. فمعنى الآية لم أتحقق إلا على قول الحق. ولما كان ظهور المعجزة على وفق الدعوى دالا على وجود الإله القادر المختار وعلى تصديق الرسول جميعا قال قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي بمعجزة قاهرة باهرة منه. ثم فرع عليه تبليغ الحكم وهو قوله فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي أطلقهم وخل سبيلهم حتى يذهبوا معي راجعين إلى الأرض المقدسة التي هي وطنهم ومولد آبائهم. وذلك أن يوسف عليه السلام لما توفي وانقرضت الأسباط غلب فرعون نسلهم واستعبدهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيه سؤالان: أحدهما لفظي وهو أن هاهنا شرطين فأين جوابهما؟ والجواب أن المؤخر في اللفظ مقدم في المعنى نظيره قول القائل: إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدا. وثانيهما: أن قوله إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ وقوله فَأْتِ بِها كلاهما واحد في المعنى فكيف يفيد تعليق أحدهما بالآخر؟
وجوابه المنع إذ المراد إن كنت جئت من عند من أرسلك بآية فأحضرها لتصح دعواك. ثم(3/296)
إن فرعون لما طالب موسى عليه السلام بإقامة البينة الدالة على وجود الرب وعلى صحة نبوته قلب العصا ثعبانا وأظهر اليد البيضاء وذلك قوله سبحانه فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ ومعنى كون الثعبان مبينا أن أمره ظاهر لا يشك في أنه ثعبان ليس مما جاءت به السحرة من التمويهات وإنما هو من قبيل المعجزات، أو المراد أنه أبان قول موسى عن قول المدعي الكاذب والثعبان في اللغة الحية الضخم الذكر.
روي أنه كان أشقر فاغرا فاه بين لحييه ثمانون ذراعا وضع لحيه الأسفل على الأرض ولحيه الأعلى على سور القصر ثم توجه نحو فرعون ليأخذه فوثب فرعون من سريره وهرب وأخذه البطن يومئذ أربعمائة مرة وكان لم ير منه الحدث قبل ذلك. وهرب الناس وصاحوا وحمل على الناس فانهزموا ومات منهم خمسة وعشرون ألفا، ودخل فرعون البيت وصاحوا يا موسى خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذه موسى فعاد عصا. والنزع في اللغة القلع والإخراج أي أخرجها من جيبه أو من جناحه بدليل قوله في موضع آخر وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ [النمل: 12]
روي أنه أرى فرعون يده وقال: ما هذه؟ فقال: يدك. ثم أدخلها في جيبه وعليه مدرعة صوف ثم نزعها فإذا هي بيضاء بياضا نورانيا غلب شعاعها الشمس،
وكان موسى عليه السلام آدم شديد الأدمة وقوله لِلنَّاظِرِينَ يتعلق ببيضاء فإنها لا تكون بيضاء للناظرين إلا إذا كان بياضها عجيبا خارجا عن العادة اجتمع الناس للنظر إليه كما يجتمعون للعجائب. واعلم أن القول بجواز انقلاب العادات عن مجاريها مقام صعب مشكل ولهذا اضطربت أقوال العلماء فيه فالأشاعرة جوّزوا ذلك على الإطلاق بناء على القول بالفاعل المختار فجوّزوا في الإنسان وسائر أنواع الحيوان أن يتولد دفعة واحدة من غير سابقة مادة ومدة، وجوّزوا في الجوهر الفرد أن يكون حيا عالما قادرا قاهرا من غير حصول بنية ولا مزاج، وجوّزوا في الأعمى الذي بالأندلس أن يبصر في ظلمة الليل البقة التي تكون بأقصى المشرق وفي سليم البصر أن لا يرى الشمس في كبد السماء من غير حائل. والمعتزلة جوّزوا انخراق العادات في بعض الصور دون بعض من غير ضابط ولا قانون اللهم إلا أن يحال على الشرع، والطبيعيون المتفلسفون أنكروا ذلك على الإطلاق وزعموا أنه لا يجوز حدوث الأشياء ودخولها في الوجود إلا على هذا الوجه المخصوص والطريق المعين والإلزام فتح باب الجهالات فإنه إذا جاز أن تنقلب العصا ثعبانا جاز في الشخص الذي شاهدناه كموسى وعيسى ومحمد مثلا أنه ليس هو الشخص الأوّل وهذا يوجب القدح في النبوة والرسالة.
فإن زعم زاعم أن هذه الأمور تختص بزمان دعوة الأنبياء. قلنا: المخصص في ذلك(3/297)
الزمان لا يعرف إلا بدليل غامض، وكل من لا يقف على ذلك الدليل يقع في تيه الإشكال والضلال مع أن زمان جواز الكرامات لا ينقرض عندكم أبدا فلا ينقضي التجويز سرمدا.
هذا وإنما جمع بين العصا واليد مع أن المعجز الواحد كاف لأن كثرة الدلائل توجب مزيد اليقين. قال بعض المتحذلقين: هما شيء واحد والمراد أن حجة موسى كانت قوية ظاهرة فمن حيث إن الحجة أبطلت أقوال المخالفين كانت كالثعبان الذي يلقف ما يأفكون، ومن حيث إنها كانت ظاهرة في نفسها وصفت باليد البيضاء كما يقال لفلان يد بيضاء في الأمر الفلاني أي قوّة كاملة ومرتبة ظاهرة. والتحقيق أن انقلاب العصا وغير ذلك أمور ممكنة في ذواتها لأن الأجسام متماثلة في الجسمية فكل ما صح على شيء صح على مثله والله سبحانه قادر على كل الممكنات، فكل ما ثبت وقوعه بالتواتر وجب قبوله من غير تأويل ودفع، ثم أن السحر كان غالبا في ذلك الزمان وكانت السحرة متفاوتين في ذلك، فزعم أتباع فرعون أن موسى عليه السلام كان لكونه في النهاية من علم السحر أتى بتلك الصفة وأنه كان يطلب بذلك الملك والرياسة وذلك قوله سبحانه قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ولا ينافي هذا ما حكاه الله تعالى في سورة الشعراء أنه قال ذلك فرعون، فإنه يحتمل صدور هذا القول في تلك الحالة منه ومنهم أو لعل فرعون قاله ابتداء فتلقفه الملأ فقالوه لغيرهم، أو قالوا عنه لسائر الناس على طريق التبليغ فإن الملوك إذا رأوا رأيا ذكروه للخاصة وهم يذكرونه للعامة. والأظهر أن قوله فَماذا تَأْمُرُونَ من كلام فرعون إما لأن الأمر لا يجوز أن يكون من الأدنى للأعلى، أو لأنه من قولهم أمرته فأمرني بكذا إذا شاورته فأشار عليك برأي ولهذا قال الملأ في جوابه أَرْجِهْ وَأَخاهُ أي أخر أمره وأمر أخيه ولا تعجل بقضاء في شأنهما فتصير عجلتك حجة عليك. قال الجوهري: أرجأت الأمر وأخرته يهمز ولا يهمز. وعن الكلبي وقتادة أن المعنى أحسبه، وزيف بأنه خلاف اللغة إلا أن يقال حبس المرء نوع من التأخير في أمره وبأن فرعون ما كان يظن أنه قادر على حبس موسى بعد مشاهدة حال العصا. وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ أي جامعين جمع مدينة وهي فعلية من مدن بالمكان يمدن مدونا إذا أقام به، ولهذا أطبق القراء على همز الْمَدائِنِ لأنه كصحائف. وقيل: إنها مفعلة من دنت أي ملكت وكأن هذا القائل لا يهمز مدائن. وقال المبرد: أصلها مديونة من دانه إذا قهره وساسه، فعل بها ما فعل بنحو «مبيع» في «مبيوع» وليس المراد مدائن الأرض كلها ولكن المقصود مدائن صعيد مصر. وقال ابن عباس: وكان رؤساء السحرة بأقصى مدائن الصعيد يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ الباء بمعنى «مع» أو للتعدية. قيل: كانوا سبعين ساحرا سوى رئيسهم.(3/298)
وقيل: بضعة وثلاثين ألفا. وقيل: سبعين إلفا. وقيل ثمانين ألفا وقيل: كان يعلمهم مجوسيان من أهل نينوى قرية بقرب الموصل. وضعف بأن المجوس من أتباع زرادشت وهو إنما جاء بعد موسى. وفي الآية دلالة على كثرة السحرة في ذلك الزمان ولهذا كانت معجزة موسى شبيهة بالسحر وإن كانت مخالفة في الحقيقة كما أن الطب لما كان غالبا على أهل زمن عيسى كانت معجزته من جنس ذلك كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، وكانت الفصاحة والبلاغة غالبة في عصر نبينا صلى الله عليه وسلم فلا جرم كانت معجزته العظمى وهي القرآن من جنس الفصاحة، وتحقيق السحر وسائر ما يتعلق به قد مر في سورة البقرة فليتذكر وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا لم يقل فقالوا بناء للكلام على سؤال مقدر كأن سائلا سأل ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً أي جعلا على الغلبة والتنكير للتعظيم كقول العرب إن له لإبلا وإن له لغنما يقصدون الكثرة قالَ نَعَمْ أي إن لكم أجرا وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أراد إني لا أقتصر لكم على الثواب بل لكم مع ذلك ما يقل معه الثواب وهو التقريب والتكريم لأن الثواب إنما يهنأ إذا كان مقرونا بالتعظيم.
روي أنه قال لهم تكونون أوّل من يدخل وآخر من يخرج.
وروي أنه دعا برؤساء السحرة فقال لهم: ما صنعتم؟ قالوا قد عملنا سحرا لا يطيقه سحرة أهل الأرض إلا أن يكون أمرا من السماء فإنه لا طاقة لنا به.
وفي الآية إشارة إلى أن أهل السحر ليسوا قادرين على قلب الأعيان وإلا قلبوا الحجر ذهبا بل قلبوا ملك فرعون إلى أنفسهم ولم يطلبوا منه الأجر، فعلى العاقل أن لا يغترّ بأكاذيبهم ومزخرفاتهم. ثم إن السحرة راعوا حسن الأدب فخيروا موسى أوّلا وقدموه في الذكر ثانيا حيث قالوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ كما هو دأب المتناظرين والمتصارعين، مع أن في قولهم وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ بالأمر أليق منه بالخبر.
وبدليل قوله وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ وفيه ترغيب في الثبات على الجهاد. فمعنى الآية إذن إن يكن منكم عشرون فليصبروا وليجتهدوا في القتال حتى يغلبوا مائتين، ثم الصبر لا يحصل إلا بكونه شديد الأعضاء قويا جلدا شجاعا غير جبان ولا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة، وعند حصول هذه الأمور كان يجب على الواحد أن يثبت للعشرة لما سبق من وعد النصر في قوله حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: 64] وإنما كرر النسبة مرتين لأن السرايا التي كان يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا ينقص عددها على العشرين وما كانت تزيد على المائة فورد على وفق الواقعة، وإما في الكرة الثانية فإنما كررت النسبة للطباق وليكون فيه بشارة وإشارة إلى أن عدد عسكر الإسلام سيؤول من العشرات والمئات إلى الألوف والله أعلم بمراده. ثم بين السبب في(3/299)
الغلبة فقال بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [الأنفال: 65] أي بسبب أن الكفار قوم جهلة لا يعرفون معادا وقد انحصرت السعادة عندهم في هذه الحياة العاجلة. وأيضا إنهم يعولون على قوتهم وشوكتهم والمسلمون يتوكلون على ربهم ويستغيثونه ويتوقعون منه إنجاز ما وعد من النصر والتأييد، ووجه آخر هو أن أهل العلم والمعرفة يكون لهم في أعين الناس هيبة وحشمة ويكونون في أنفسهم أقوياء أشداء لما تجلى عليهم من أنوار المعرفة والبصيرة يعرف ذلك أصحاب العلوم وأرباب المعارف بخلاف الجهلة الذين لا بصيرة لهم ولا نور.
قال عطاء: عن ابن عباس لما نزل التكليف الأول ضج المهاجرون وقالوا: يا رب نحن جياع وعدوّنا شباع ونحن في غربة وعدونا في أهليهم. وقال الأنصار: شغلنا بعدوّنا وواسينا إخواننا.
وعن ابن جريج كان عليهم أن لا يفروا ويثبت الواحد للعشرة وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث حمزة في ثلاثين راكبا قبل بدر فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب وأرادوا قتالهم فمنعهم حمزة. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أنيس إلى خالد بن صفوان وكان في جماعة وابتدر عبد الله فقال: يا رسول الله صفه لي فقال: إنك إذا رأيته ذكرت الشيطان ووجدت لذلك قشعريرة.
وبلغني أنه جمع لي فأخرج إليه وأقتله، فلما خرجت تعمية للمأفوك بالإفك. قال المفسرون: لما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم، فلما أخذها موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم والمقدار أصلا، فلعل الله سبحانه أعدم بقدرته تلك الأجرام العظيمة أو فرقها أجزاء لطيفة ثم قال سبحانه وتعالى فَوَقَعَ الْحَقُّ. قال مجاهد والحسن: ظهر، وقال الفراء: فتبين الحق من السحر. وقيل: الوقوع ظهور الشيء ووجوده نازلا إلى مستقره. وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا: لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا ولم تفقد، ولما فقدت ثبت أن ذلك بخلق الله وتقديره وبهذا تميز المعجزة عن السحر. وقال القاضي: معناه قوة الظهور بحيث لا يصح فيه نقيضه كما لا يصح في الواقع أن يصير لا واقعا. ومع ثبوت هذا الحق زالت الأعيان التي أفكوها وهي تلك الحبال والعصي وذلك قوله وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي الذي عملوه أو عملهم فَغُلِبُوا هُنالِكَ أي حين التحدي وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ لأنه لا ذل ولا صغار أعظم من حق المبطل من دحوض حجته.
روي أن تلك الحبال والعصي كانت حمل ثلاثمائة بعير، فلما ابتلعها ثعبان موسى وصارت عصا كما كانت قال بعض السحرة لبعض: هذا خارج عن حد السحر وإنما هو أمر إلهي.
قال المحققون: إنهم لأجل كمالهم في علم السحر ميزوا السحر عن غيره فانتقلوا ببركة ذلك من الكفر إلى الإيمان، فما ظنك بالإنسان(3/300)
الكامل في علم التوحيد والشريعة والحكمة. وفي قوله وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ دليل على أن ملقيا ألقاهم وما ذاك إلا الله سبحانه الموجد للدواعي والقدر. وقال الأخفش. من سرعة ما سجدوا صاروا كأنهم ألقاهم غيرهم لأنهم لم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين. قال بعض العلماء: الإيمان مقدم على السجود فكيف نقل عنهم أنهم سجدوا ثم قالوا آمنا برب العالمين؟ وأجيب بأنه لا يبعد أنهم عند الذهاب إلى السجود قالوا ذلك، أو أنهم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله في الحال شكرا على الفوز بذلك وإظهارا للخشوع والتذلل وإقرارا باللسان بعد التصديق بالجنان. قال المفسرون: لما قالوا آمنا برب العالمين قال فرعون: إياي يعنون. فلما قالوا رَبِّ مُوسى قال: إياي يعنون لأني أنا الذي ربيته فلما زادوا هارُونَ زالت الشبهة وعرف الكل أنهم آمنوا بإله السماء وكفروا بفرعون. وقيل:
أفردا بالذكر من جملة العالمين ليعلم أن الداعي إلى إيمانهم هو موسى. وقيل: خصا بالذكر تعظيما وتشريفا. ثم إن فرعون لما رأى أن أعلم الناس بالسحر أقر بنبوّة موسى بمحضر جمع عظيم خاف أن يصير ذلك حجة عليه عند قومه فألقى في الحال شبهة في البين بعد ما أنكر عليهم إيمانهم. أما الإنكار فذلك قوله آمنتم له من لم يزد حرف الاستفهام فعلى أنه إخبار توبيخا أي فعلتم هذا الفعل الشنيع، ومن قرأ بحرف الاستفهام فمعناه الاستبعاد والإنكار. وفي قوله قبل أَنْ آذَنَ لَكُمْ دلالة على مناقضة فرعون في ادعائه الإلهية لأنه لو كان إلها لما جاز أن يأذن لهم في أن يؤمنوا بغيره وهذا من جملة الخذلان والدحوض الذي يظهر على المبطلين. وأما الشبهة فقوله إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي هذه حيلة احتلتموها أنتم وموسى أو تواطأتم عليها لغرض لكم وهو أن تخرجوا القبط وتسكنوا بني إسرائيل.
وروى محمد ابن جرير عن السدي في حديث عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم أن موسى وأمير السحرة التقيا فقال له موسى: أرأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أن ما جئت به حق؟ فقال الساحر: لآتين غدا بسحر لا يغلبه سحر وإن غلبتني لأومنن بك، وفرعون ينظر إليهما ويسمع فلذلك زعم التواطؤ
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وعيد إجمالي وتفصيله لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي كل من شق طرفا ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ واختلف المفسرون هل وقع ذلك منه أم لا. فمن قائل إنه لم يقع لأنهم سألوا ربهم أن يتوفاهم من جهته لا بهذا القتل والقطع، ومن قائل وقع وهو الأظهر وعليه الأكثر ومنهم ابن عباس لأنه حكى عن الملأ أنهم قالوا لفرعون أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الأعراف: 127] ولو أنه ترك أولئك السحرة لذكروهم أيضا وحذروه إياهم،(3/301)
لأنهم قالوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً والصبر لا يطلب إلا عند نزول البلاء وقد يجاب عن الأول بأنهم داخلون تحت قوله وَقَوْمَهُ وعن الثاني بأنهم طلبوا الصبر على الإيمان والثبات عليه وعدم الالتفات إلى وعيده. وعن قتادة: كانوا أوّل النهار كفارا سحرة وفي آخره شهداء بررة، ثم حكى عن القوم أنهم قالوا عند الوعيد إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ أي نحن لا نبالي بالموت لأنا ننقلب إلى لقاء ربنا ونخلص منك، أو ننقلب إلى الله يوم الجزاء فيثيبنا على شدائد القطع والصلب أو إنا جميعا يعنون أنفسهم وفرعون يرجع إلى الله فيحكم بيننا، أو إنا لا محالة ميتون فما تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه وَما تَنْقِمُ مِنَّا قال ابن عباس: ما أتينا بذنب تعذبنا عليه وما تعب منا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا وهي المعجزات الظاهرة التي لا يقدر على مثلها إلا الله تعالى وهذا من باب تأكيد المدح بما يشبه الذم كقوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
ثم لما لجأوا إلى الدعاء كما هو دأب الصديقين عند نزول البلاء فقالوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أفض علينا سجال الثبات على متابعة الدين أو على ما توعدنا به فرعون وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الدين الذي جاء به موسى وأخبروا عن إيمانهم أوّلا وسألوا التوفي على الإسلام ثانيا. فيمكن أن يستدل بالآية على أن الإيمان والإسلام واحد، واحتجت الأشاعرة بالآية على أن الإيمان والإسلام بخلق الله تعالى وإلا لم يطلبوا ذلك منه، والمعتزلة يحملون أمثال ذلك على منح الألطاف. واعلم أن مبني القصة في هذه السورة على الاختصار وفي الشعراء على التطويل فلهذا قيل هناك يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ، وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ، قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وفي كل ذلك زيادة وأما قوله هاهنا وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ وهناك وَابْعَثْ فلأن الإرسال يفيد معنى البعث مع العلو فخص هذه السورة بذلك ليعلم أنّ المخاطب به فرعون دون غيره. وإنما قال هاهنا آمَنْتُمْ بِهِ وفي طه والشعراء آمَنْتُمْ لَهُ باللام لأن ضمير بِهِ في هذه يعود إلى رب العالمين، وفي السورتين إلى موسى، وقيل آمنت به وآمنت له واحد. وقال هاهنا ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ وفي السورتين لَأُصَلِّبَنَّكُمْ لأنه لما أفاد الترتيب كان العطف المطلق كافيا وكثير من متشابهات هذه السور الثلاث يعود إلى رعاية الفواصل فتنبه.
التأويل:
فَظَلَمُوا بِها بأن جعلوها سحرا فوضعوها في غير موضعها عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ الذين أفسدوا الاستعداد الفطري بالركون إلى الدنيا ولذاتها(3/302)
وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ لأني قائم بحقائق الجمع فان على الخلق وآثار التفرقة فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ لأنه أضاف العصا إلى نفسه في قوله هِيَ عَصايَ [طه: 18] ويعلم منه أن كل شيء أضفته إلى نفسك وجعلته محل حاجاتك فإنه ثعبان يبتلعك ولهذا قيل أَلْقِها يا مُوسى [طه: 19] فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ فيه أن الأيدي قبل تعلقها بالأشياء كانت بيضاء نقية نورانية روحانية وأن اليد لموسى كانت روحانية في جميع الأوقات ولكن ما كانت نورانيتها منظورة للناظرين إلا بإظهار الله تعالى في بعض الأوقات خرقا للعادات على يده الجسمانية يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ لا شك أن موسى أراد أن يخرجهم من أرضهم ولكن من أرض بشريتهم إلى نور الروحانية. قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ توهموا أن التأخير وحسن التدبير يغير شيئا من التقدير، ولم يعلموا أن عند حلول الحكم لا سلطان للعلم والفهم. أإن لنا لأجرا لم يعلموا أن أجرهم في المغلوبية لا في الغالبية قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ أجرى الله تعالى هذا على لسان فرعون حقا وصدقا فصاروا مقربين عند الله قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ أكرموا موسى بالتقديم والاستئذان فأكرمهم الله تعالى بالسجود والإيمان بِسِحْرٍ عَظِيمٍ أي عظيم في الإثم كما قال سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ وعظمة إثم السحر لمعارضة المعجزة فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فيه أن عصا الذكر إذا ألقيتها عند إلقاء سحر سحرة صفات النفس تبتلع بفم لا النفي جميع ما سحروا به أعين الناس فَوَقَعَ الْحَقُّ بإثبات لا إله إلا الله وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من تزيين زخارف الدنيا في العيون فَغُلِبُوا أي سحرة صفات النفس إذ تنوّرت بنور الذكر وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ ذليلين تحت أوامر الشرع ونواهيه وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أي صارت صفات النفس بعد التمرد منقادة للعبودية. رَبِّ مُوسى الروح وَهارُونَ القلب. واعلم أن صفات النفس إذا تنوّرت بنور الذكر يتبدل كفرها بالإيمان ولكن النفس بذاتها لا تؤمن ولا تتبدل اللهم إلا عند غرقها في بحر الواردات والمواهب الربانية كحال فرعون وإيمانه عند الغرق. وفي القصة دلالة على أنه تعالى قد يبرز العدوّ في صورة الولي مثل بلعام وبالعكس كالسحرة قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ هذا من جملة جهل فرعون، ظن أن الإيمان بإذنه ولم يعلم أن الإيمان بإذن الله لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ في موافقة موسى الروح في مدينة القالب لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها هو اللذات والشهوات البدنية لَأُقَطِّعَنَّ بسكين التسويل عن الأعمال الصالحة وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ
تعلقات الدنيا وزخارفها والله أعلم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 127 الى 141]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131)
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)(3/303)
القراآت:
سَنُقَتِّلُ بالتخفيف: ابن كثير وأبو جعفر ونافع يُورِثُها بالتشديد: الخزاز عن هبيرة كلمات ربك على الجمع: يزيد في رواية يَعْرِشُونَ بضم الراء حيث كان:
ابن عامر وأبو بكر وحماد. الباقون: بالكسر يَعْكُفُونَ بكسر الكاف: حمزة وخلف.
الباقون: بالضم أَنْجاكُمْ ابن عامر. الآخرون أَنْجَيْناكُمْ على الحكاية يُقَتِّلُونَ بالتخفيف: نافع.
الوقوف:
وَآلِهَتَكَ ط نِساءَهُمْ ج للابتداء والعطف واتحاد القائل قاهِرُونَ هـ واصْبِرُوا ج لما قلنا مِنْ عِبادِهِ ط لِلْمُتَّقِينَ هـ ما جِئْتَنا ط تَعْمَلُونَ هـ يَذَّكَّرُونَ هـ لَنا هذِهِ ج لبيان تباين الإضافتين على التناقض وَمَنْ مَعَهُ ج لا يَعْلَمُونَ هـ فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ هـ مُجْرِمِينَ هـ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ ج لأن جواب «لئن» منتظر مع اتحاد القائل بَنِي إِسْرائِيلَ ج لأن جواب «لما» منتظر مع دخول الفاء فيه يَنْكُثُونَ هـ غافِلِينَ هـ بارَكْنا فِيها ط للعدول عن الحكاية وكذلك بِما صَبَرُوا ط لعكسه. يَعْرِشُونَ هـ يَعْكُفُونَ هـ أَصْنامٍ لَهُمْ ج لاتحاد القائل بلا عطف آلِهَةٌ ط(3/304)
تَجْهَلُونَ هـ يَعْمَلُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ سُوءَ الْعَذابِ ج لاحتمال كون ما بعده مستأنفا أو حالا نِساءَكُمْ ط عَظِيمٌ هـ والله أعلم.
التفسير:
ثم أن فرعون بعد وقوع هذه الواقعة لم يتعرض لموسى ولا أخذه ولا حبسه لأنه كان كلما يرى موسى يخافه أشدّ الخوف إلا أن قومه لم يعرفوا ذلك فحملوه على أخذه وحبسه فقالوا أَتَذَرُ مُوسى أتتركه وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي يغيروا على الناس دينهم الذي كانوا عليه فيتوسلوا بذلك إلى أخذ الملك. وقوله وَيَذَرَكَ عطف على لِيُفْسِدُوا، وقوله وَآلِهَتَكَ مفعول معه. والمراد أنه إذا تركهم ولم يمنعهم كان ذلك مؤديا إلى تركه مع آلهته فقط، ويحتمل أن يكون منصوبا على أنه جواب الاستفهام والمعنى: أيكون منك أن تذر موسى ويكون من موسى أن يذرك وآلهتك. قال كثير من المفسرين: إن فرعون كان قد وضع لقومه أصناما صغارا وأمرهم بعبادتها وسمى نفسه الرب الأعلى. وقال الحسن: كان فرعون يعبد الأصنام ووجه بأنه لعله كان اتخذ أصناما على صور الكواكب على أن الكواكب مدبرات العالم السفلي. وأما المجدي في هذا العالم للخلق والمربي لهم فهو نفسه ولذلك قال أنا ربكم الأعلى أي أنا مربيكم والمنعم عليكم والمطعم لكم، وكل ذلك بناء على أنه كان دهريا ينكر وجود الصانع. ثم إن فرعون أوهم قومه أنه إنما لم يحبسه ولم يمنعه لعدم التفاته إليه لا للخوف منه فقال سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ فكأنه قال: إن موسى إنما يمكنه الإفساد بواسطة الرهط والشيعة فنحن نسعى في تقليل رهطه وشيعته وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ أي سنعيد عليهم ما كنا محناهم به قبل من قتل الأبناء ليعلموا أما على ما كنا عليه من الغلبة، ولئلا يتوهم العامة أنه المولود الموعود من قبل الكهنة ولكنه منتظر بعده قالَ مُوسى لما وصله ما جرى بين فرعون وملته لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ولا ريب أن الصبر نتيجة الاستعانة بالله فإن من علم أنه لا مدبر للعالم إلا الله تعالى انشرح قلبه بنور المعرفة وعلم أن الكل بقضاء الله وقدره فيسهل عليه ما يصل إليه، ثم لما أمرهم بشيئين بشرهم بآخرين فقال إِنَّ الْأَرْضَ يعني أرض مصر أو جنس الأرض فيتناول مصر بالتبعية لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ويعني بالتوريث جعل الشيء للخلف بعد السلف وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ والخاتمة الحميدة لمن هو بصدد التقوى منكم ومن القبط. وهذا من كلام المنصف وإلا فمعلوم أن القبط لا تقوى لهم، أو المراد أن كل من اتقى الله تعالى وخافه فالله الغني الكريم يعينه في الدنيا والآخرة. ثم إنهم خافوا وفزعوا من تهديد فرعون فشكوا إلى موسى مستعجلين النصر وقالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا
يعنون قتل أبنائهم(3/305)
قبل مولده إلى حين نبوته ثم إعادة ذلك عليهم في قوله سَنُقَتِّلُ إلى غير ذلك من أنواع المحن والمهن. فعند ذلك قال لهم موسى مصرحا بما رمز إليهم من البشارة قبل عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ أرض مصر ولا ريب أن في عَسى طمعا وإشفاقا ومثل هذا الكلام إذا صدر عن النبي المؤيد بالمعجزات القاهرة الناظر بنور الحق أفاد قوة اليقين وأزال ما خامره من الضعف. ثم قال فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ قال الزجاج: أي يرى الكائن منكم من العمل حسنه وقبحه شكره وكفره لوقوع ذلك منكم لأن الله تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم قديما وإنما يجازيهم على ما يقع منهم حديثا فتتعلق الرؤية الأزلية به. عن عمرو بن عبيد أنه دخل على المنصور قبل الخلافة. وعلى مائدته رغيف أو رغيفان. فطلب زيادة لعمرو فلم يكن فقرأ عمرو هذه الاية، ثم دخل عليه بعد ما استخلف فذكر له ذلك وقال قد بقي فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ. وكَيْفَ نصب ب تَعْمَلُونَ لا ب فَيَنْظُرَ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما يتقدمه. ثم حكى سبحانه ما نزل بفرعون وآله من المحن والبلايا بشؤم التكذيب والتمرد فقال وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ أي بسني القحط. فالسنة من الأسماء الغالبة غلبت على القحط كالدابة والنجم، وقد يراد بها في غير هذا الموضع الحول والعام. قال أبو زيد والفراء: بعض العرب يقول هذه سنين ورأيت سنينا فيعرب النون ومنه قول الشاعر:
دعاني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيبا وشيبننا مردا.
والسنون من الجموع المصححة الشاذة. عن ابن عباس: السنون لأهل البوادي وأصحاب المواشي وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لأهل الأمصار. وفائدة توسيط من أن يعلم أن كل الثمرات لم تنقص وإنما نقص بعضها لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيتنبهوا ويرجعوا إلى الانقياد والطاعة فإن مس الضر مما يلين الأعطاف ويرق القلوب. قيل: عاش فرعون أربعمائة سنة لم ير مكروها في ثلاثمائة وعشرين سنة وأصابه في تلك المدة وجع أو جوع أو حمى لما ادعى الربوبية. قال القاضي: في الآية دلالة على أنه تعالى أراد منهم أن يتذكروا لا أن يقيموا على ما هم عليه من الكفر. وأجيب بأنه يعاملهم معاملة المختبر ولا اختبار في الحقيقة ولا يرعوي عن الكفر والطغيان إلا من شاء وأراد وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ فلهذا حكى عن فرعون وقومه فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قال ابن عباس: أي العشب والخصب والمواشي والثمار وسعة الرزق والعافية والسلامة قالُوا لَنا هذِهِ أي نحن مخصوصون بذلك ولم نزل في الرفاهية والنعمة وهكذا عادة الزمان فينا ولم يعلموا أنها من الله فيشكروه عليها ويقوموا بحق نعمته وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ أضداد ما ذكرنا(3/306)
يَطَّيَّرُوا يتشاءموا بموسى ومن معه. وأصله يتطيروا فأدغم التاء في الطاء لقرب مخرجهما وإنما عرفت الحسنة وخصت ب إِذا ونكرت السيئة وقرنت ب إِنْ لأن جنس الحسنة وقوعه كالواجب لكثرته وشموله وأما السيئة فوقوعها نادر مشكوك فيه ولهذا قيل لقد عددت أيام البلاء فهل عددت أيام الرخاء؟ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ قال الأزهري: يقال للشؤم طائر وطيرة. وعن ابن عباس: طائرهم ما قضى عليهم وقدر لهم ومنه قول العرب طار له سهم كذا أي حصل ووقع ذلك في حظه. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير لأن الفأل الكلمة الحسنة والتطير عيافة الطير. قال الإمام فخر الدين الرازي:
وذلك لأن الأرواح الإنسانية أقوى وأصفى من الأرواح البهيمية فيمكن الاستدلال بالأول على بعض الخفيات بخلاف الثاني. ومعنى الآية أن كل ما يصيبهم من خير أو شر فهو بقضاء الله وبتقديره وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن الكل رهين بمشيئته وتقديره فيقولون هذا بيمن فلان أو بشؤمه. وقد تشاءمت اليهود بالنبي صلى الله عليه وسلم وآله في المدينة فقالوا: غلت أسعارنا وقلت أمطارنا مذ أتانا. قال في الكشاف: ويجوز أن يكون معناه ألا إنما سبب شؤمهم عند الله وهو عملهم المكتوب عنده الذي يجري عليهم ما يسوءهم لأجله ويعاقبون له بعد موتهم، وكما حكي عنهم أنهم لجهلهم أسندوا حوادث هذا العالم لا إلى قضاء الله وقدره كذلك حكى عنهم أنهم لجهلهم وسفههم لم يميزوا بين المعجزة والسحر قالُوا لنبيهم مَهْما تَأْتِنا بِهِ الآية وفي «مهما» قولان: فعن البصريين أن أصلها ما الشرطية زيدت عليها «ما» المؤكدة الإبهامية ثم كرهوا التكرار فجعلوا الألف من الأولى هاء. وعن الكسائي أن «مه» بمعنى «اكفف» و «ما» للشرط كأنه قيل: كف ما تأتنا به.
ومحل «مهما» الرفع بمعنى أيما شيء تأتنا به أو النصب بمعنى أي شيء تحضرنا تأتنا به.
ومِنْ آيَةٍ بيان لمهما والضمير في «به» وكذا في «بها» يعود إلى «مهما» لأن البيان كالزيادة فلا يعود إليه شيء ما أمكن العود إلى المبين إلا أن الضمير ذكّر تارة حملا على اللفظ وأنّث أخرى حملا على المعنى. وسموها آية تهكما إذ لو قالوا ذلك اعتقادا لم يردفوها بقولهم لِتَسْحَرَنا بِها وبقولهم فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ قال ابن عباس: إن القوم لما قالوا ما قالوا وكان موسى رجلا حديدا دعا عليهم فأرسل الله عليهم الطوفان. قيل: هو الجدري وهو أوّل عذاب وقع فيهم فبقي في الأرض. وقيل: هو الموتان. وقيل:
الطاعون. والأصح أنه المطر وأصله ما طاف وغلب من مطر أو سيل، أرسل الله عليهم السماء حتى كادوا يهلكون وبيوت بني إسرائيل وبيوت القبط مشتبكة فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا في الماء إلى تراقيهم فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف فقالوا لموسى:
ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك. فدعا فرفع عنهم فما آمنوا فنبت لهم تلك السنة(3/307)
من الكلأ والزرع ما لم يعهد بمثله وزعموا أن هذا الذي جزعوا منه هو خير لهم ولم يشعروا به فبعث الله عليهم الجراد فأكلت عامة زروعهم وثمارهم ثم أكلت كل شيء حتى الأبواب والسقوف والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شيء ففزعوا إلى موسى ووعدوه التوبة فأرسل الله تعالى ريحا فاحتملت الجراد فألقته في البحر. وقيل: خرج موسى إلى الفضاء فأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجع الجراد إلى النواحي التي جاء منها فقالوا: ما نحن بتاركي ديننا. فأقاموا شهرا فسلط الله عليهم القمل وهو الحمنان كبار القردان. وعن أبي عبيدة وقيل: الدبى وهو أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها. وقيل:
البراغيث. وقرأ الحسن العمل بعم وسكون الميم يريد القمل المعروف. وعن سعيد بن جبير هو السوس فأكل كل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض وكان يدخل بين ثوب أحدهم وبين جلده فيمصه وكان يأكل أحدهم طعاما ممتلئا قملا. وعن سعيد بن جبير كان إلى جنبهم كثيب أعفر فضربه بعصاه فصار قملا فأخذ في أبشارهم وأشعارهم وأشفار عيونهم وحواجبهم ولزم جلودهم كأنه الجدري فصاحوا وصرخوا وفزعوا إلى موسى فأخذ عليهم العهود فرفع عنهم فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، وعزة فرعون لا نصدقك أبدا.
فأرسل الله عليهم الضفادع بعد شهر فدخلت بيوتهم وامتلأت منها آنيتهم وأطعمتهم، وكان أحدهم إذا أراد أن يتكلم وثبت الضفدع إلى فيه وكان يمتلىء منها مضاجعهم فلا يقدرون على الرقاد، وكانت تقذف بأنفسها في القدور وهي تغلي. فشكوا إلى موسى فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دما، وكان يجتمع القبطي والإسرائيلي على إناء واحد فيكون ما يلي الإسرائيلي ماء وما يلي القبطي دما. وعطش فرعون حتى أشفى على الهلاك وكان يمص الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحا أجاجا. وقيل: الدم الرعاف سلطه الله عليهم. وقوله آياتٍ مُفَصَّلاتٍ نصب على الحال من المذكورات ومعناها ظاهرات لا يشكل على عاقل أنها معجزات أو فصل بين بعضها وبعض بزمان يمتحن فيه أحوالهم وينظر أيوفون بالعهد أم ينكثون كما
روي أن موسى عليه السلام مكث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات.
ولا شك أن كل واحدة من هذه معجزة في نفسها واختصاصها بالقبطي دون الإسرائيلي معجزة أخرى واستكبروا عن العبادة والطاعة وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ مصرين على الذنب والجرم.
ثم فصل استكبارهم وإجرامهم فقال وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ أي الأنواع الخمسة المذكورة من العذاب. وعن سعيد بن جبير أنه الطاعون وهو العذاب السادس الذي كان(3/308)
أصابهم فمات من القبط سبعون ألف إنسان في يوم واحد فتركوا غير مدفونين قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي بعهده عندك وهو النبوة ف بِما مصدرية والباء يتعلق ب ادْعُ تعلق القلم بالكتبة في قولك: كتبت بالقلم أي ادع الله لنا متوسلا إليه بعهده عندك. أو تعلق المقسم عليه بالفعل فتكون باء الاستعطاف أي أسعفنا إلى ما نطلب إليك من الدعاء لنا بحق ما عندك من عهد الله وكرامته بالنبوة. ووجه آخر وهو أن يكون قسما مجابا ب لَنُؤْمِنَنَّ فيكون متعلقا بالأقسام أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل أي نخيلهم وشأنهم فتذهب بهم حيث شئت فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ العذاب لا مطلقا ولا في جميع الوقائع بل إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ لا محالة ومعذبون فيه إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب «لما» أي لما كشفنا عنهم فاجأوا النكث وبادروه فانتقمنا منهم سلبنا النعمة عنهم بالعذاب فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ وهو البحر الذي لا يدرك قعره. وقيل: هو لجة البحر ومعظم مائه سمي باليم لأن المنتفعين به يتيممونه أن يقصدونه بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي كان إغراقهم بسبب التكذيب وَبأنهم كانُوا عَنْها أي عن الآيات وقيل عن النقمة بدلالة انتقمنا أي وكانوا عن النقمة قبل حلولها غافِلِينَ أي معرضين غير متفكرين فإن نفس الغفلة ليس باختيار الإنسان حتى يترتب الوعيد عليها. ثم بين ما فعله بالمحقين بعد إهلاك المبطلين فقال وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بقتل الأبناء واستحياء النساء والاستخدام في الأعمال الشاقة مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا يعني أرض مصر والشام لأنها هي التي كانت تحت تصرف فرعون. وقوله الَّتِي بارَكْنا فِيها أي بالخصب وسعة الأرزاق وذلك لا يليق إلا بأرض الشام. وقيل: المراد جملة الأرض لأنه خرج من بني إسرائيل من ملك جملتها كداود وسليمان وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى تأنيث الأحسن صفة للكلمة. قيل: يريد بالكلمة قوله في سورة القصص وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً [القصص: 5] إلى تمام الآيتين. ومعنى تَمَّتْ مضت واستمرت من قولك تم على الأمر إذا مضى عليه. وقيل: معنى تمام الكلمة الحسنى إنجاز الوعد الذي تقدم بإهلاك عدوّهم واستخلافهم في الأرض، لأن الوعد بالشيء جعله كالمعلق فإذا حصل الموعود صار تاما كاملا بِما صَبَرُوا أي بسبب صبرهم.
وفيه أن الصبر عنوان الظفر وضمين بالنصر والفرج وَدَمَّرْنا أي أهلكنا والدمار والهلاك ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ قال ابن عباس: يريد المصانع. وقال غيره: يعني العمارات وبناء القصور. ولعله على العموم فيتناول المعاني والأعيان وما كانوا يعرشون من الجنات كقوله هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ [الأنعام: 141] وقيل: وما كانوا يرفعون من(3/309)
الأبنية المشيدة في السماء كصرح هامان وغيره، وهاهنا تمت قصة فرعون والقبط. ثم ذكر ما جرى على بني إسرائيل بعد ذلك فقال وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ
روي أنه عبر بهم موسى يوم عاشوراء بعد ما أهلك الله فرعون وقومه فصاموه شكرا لله
فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ أي فمروا بقوم يَعْكُفُونَ يواظبون عَلى عبادة أَصْنامٍ لَهُمْ قال ابن جريج: كانت تماثيل بقر وذلك أوّل شأن العجل. وقيل: كانوا قوما من لخم نزلوا بالرقة عن قتادة.
وقيل: كانوا من الكنعانيين الذين أمر موسى بقتالهم قالُوا: يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ ما كافة للكاف عن العمل ولهذا دخلت على الجملة. وكأنهم طلبوا من موسى أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعباداتها إلى الله تعالى كقول الكفرة ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: 3] . فتوجه الذم عليهم لأن العبادة نهاية التعظيم سواء اعتقد في المعبود أنه إله واعتقد أنه مقرب من الله، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام وكأن هذا القول لم يصدر من مشاهير بني إسرائيل وعظمائهم كالسبعين المختارين، ولكنه صدر عن عوامهم وجهلتهم ولهذا قالَ لهم موسى إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تعجب من قولهم على أثر ما رأوا من الآيات العظمى فوصفهم بالجهل المطلق المؤكد.
وعن علي رضي الله عنه أن يهوديا قال له: اختلفتم بعد نبيكم قبل أن يجف ماؤه، فقال علي: اختلفنا عنه لا فيه. ثم قال: قلتم اجعل لنا إلها ولما تجف أقدامكم
إِنَّ هؤُلاءِ يعني عبدة تلك التماثيل مُتَبَّرٌ أي مكسر مهلك ما هُمْ فِيهِ من قولهم إناء متبر إذا كان فضاضا والتبار الهلاك. وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي يتبر الله أصنامهم ويهدم دينهم الذي هم عليه على يدي فيصير إلى الزوال والاضمحلال. وفي إيقاع هؤُلاءِ اسما ل إِنَّ وفي تقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبرا لأن إشارة إلى أن عبدة الأصنام ليسوا على شيء البتة وأن مصيرهم إلى النار لا محالة. قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً انتصب «غير» على الحال المقدمة التي لو تأخرت كانت صفة كما تقول: أبغيكم إلها غير الله. وانتصب إِلهاً على المفعول به. قال الواحدي: يقال بغيت فلانا شيئا وبغيته له قال تعالى يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [التوبة: 47] والمعنى أغير المستحق للعبادة أطلب معبودا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ خصكم بالنعم الجسام دون أبناء زمانكم. ومعنى الهمزة الإنكار والتعجب مما اقترحوه مع كونهم مغمورين في نعم الله، فإن الإله ليس شيئا يطلب ويجعل بل الإله هو الموجود بنفسه القادر على الإيجاد والإعدام والإكرام والإنعام.
والآية الباقية قد مر تفسيرها في البقرة، والفائدة في إعادتها هاهنا التعجب والتعجيب ممن اشتغل بعبادة غير هذا المنعم. وإنما قيل هاهنا تقتلون دون يُذَبِّحُونَ لتناسب قوله سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ والله أعلم.(3/310)
التأويل:
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ من الهوى والغضب والكبر لفرعون النفس أَتَذَرُ مُوسى الروح وَقَوْمَهُ من القلب والسر والعقل لِيُفْسِدُوا في أرض البشرية وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ من الدنيا والشيطان والطبع قالَ فرعون النفس سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ يعني أعمالهم الصالحة نبطلها بالرياء والعجب وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي الصفات التي عنها يتولد الأعمال وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ بالمكر والخديعة والحيلة قالَ مُوسى الروح لِقَوْمِهِ هم القلب والعقل والسر اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا على جهاد النفس ومخالفتها ومتابعة الحق إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ أي أرض البشرية يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يورث أرض بشرية السعداء الروح وصفاته فتتصف بصفاته، ويورث أرض بشرية الأشقياء النفس وصفاتها فتتصف بصفاتها وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ يعني عاقبة الخير والسعادة للأتقياء السعداء بصفاتها. أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالواردات الروحانية قبل البلوغ، كنا نتأذى من أوصاف البشرية ومعاملاتها مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا بالواردات والإلهامات الروحانية بعد البلوغ نتأذى من دواعي البشرية عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ النفس وصفاتها وفيه إشارة إلى أن الواردات الروحانية لا تكفي لإفناء النفس وصفاتها ولا بد في ذلك من تجلي صفات الربوبية فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ الكفور لا يرى فضل المنعم.
وكذا الملول إذا أراد قطيعة ... مل الوصال وقال كان وكانا.
وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ لأن بصائرهم مسدودة وعقولهم عن شهود الحق مصدودة فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ العلم الكثير وَالْجَرادَ الواردات وَالْقُمَّلَ الإلهامات وَالضَّفادِعَ الخواطر وَالدَّمَ أصناف المجاهدات والرياضات مُفَصَّلاتٍ وقتا بعد وقت وحينا غب حين فَاسْتَكْبَرُوا عن قبولها والعمل بها وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ في الأزل، فلهذا لم تفدهم الوسائط والأسباب وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ وهو عذاب القطيعة فَأَغْرَقْناهُمْ في يم الدنيا وشهواتها وَما كانُوا يَعْرِشُونَ أي يرفعون بالتجبر والتكبر أنفسهم. يقال عرش الطائر إذا ارتفع بجناحيه على من تحته وَجاوَزْنا بصفات القلب من بحر الدنيا وخلصناهم من فرعون النفس فوصلوا إلى صفات الروح. يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ من المعاني المعقولة والمعارف الروحانية فاستحسنوها وأرادوا العكوف على عتبة عالم الأرواح قالَ لهم موسى الوارد الرباني عند ركونهم إلى الروحانيات إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ يعني صفات الروح مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ من الركون والعكوف على استحلاء المعاني المعقولة وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ في غير طلب الحق والوصول إلى المعارف الربانية وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ من الحيوان والجن والملك بفضيلة العبور من الجسمانيات والروحانيات إلى الوصول إلى المعارف والحقائق الإلهية.(3/311)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 154]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
القراآت:
أَرِنِي أَنْظُرْ بسكون الراء وفتح الياء: ابن الفليح وزمعة والخزاعي عن البزي. الباقون: بكسر الراء وسكون الياء. دَكَّاءَ بالمد: حمزة وعلي وخلف. إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ بفتح ياء المتكلم: ابن كثير وأبو عمرو برسالتي على التوحيد: أبو جعفر ونافع وابن كثير. الباقون: بِرِسالاتِي آياتِيَ الَّذِينَ مرسلة الياء: ابن عامر وحمزة.
الرُّشْدِ بفتحتين: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بضم الراء وسكون الشين. مِنْ(3/312)
حُلِيِّهِمْ
بفتح الحاء وسكون اللام: يعقوب حُلِيِّهِمْ بالكسرات وتشديد الياء: حمزة وعلي. الباقون: مثله ولكن بضم الحاء. ترحمنا وتغفر لنا بالخطاب والنداء: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون: على الغيبة ورفع رَبُّنا على الفاعلية بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. قالَ ابْنَ أُمَّ بكسر الميم: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل. الباقون: بفتحها ومثله ابْنَ أُمَ
[الآية: 94] في طه.
الوقوف:
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ج للعطف مع اختلاف القائل الْمُفْسِدِينَ هـ رَبِّهِ لا لأن ما بعده جواب إِلَيْكَ ط فَسَوْفَ تَرانِي ج صَعِقاً ط الْمُؤْمِنِينَ هـ الشَّاكِرِينَ هـ الشَّاكِرِينَ هـ لِكُلِّ شَيْءٍ ج للعدول مع فاء التعقيب بِأَحْسَنِها ج الْفاسِقِينَ هـ بِغَيْرِ الْحَقِّ ج بِها ج لابتداء شرط آخر ولبيان تعارض الأحوال مع العطف سَبِيلًا ج ذلك سبيلا هـ غافِلِينَ هـ أَعْمالُهُمْ ط يَعْمَلُونَ هـ خُوارٌ ط سَبِيلًا هـ لئلا تصير الجملة صفة السبيل فإن الهاء ضمير العجل ظالِمِينَ هـ ضَلُّوا ج لأن ما بعده جواب. الْخاسِرِينَ هـ أَسِفاً ج لما بَعْدِي ج للابتداء بالاستفهام مع اتحاد القائل أَمْرَ رَبِّكُمْ ج لأن قوله وَأَلْقَى معطوف على قوله قالَ بِئْسَما وقد اعترض بينهما استفهام إِلَيْهِ ط يَقْتُلُونَنِي ط ز صلى والوصل أولى لأن الفاء للجواب أي إذا هم هموا بقتلي فلا تشمتهم بضربي. الظَّالِمِينَ هـ فِي رَحْمَتِكَ ز صلى الأولى أن يوصل لأن الواو للحال تحسينا للدعاء بالثناء الرَّاحِمِينَ هـ الدُّنْيا ط الْمُفْتَرِينَ هـ وَآمَنُوا ج لظاهر إن والوجه الوصل لأن ما بعده خبر والعائد محذوف والتقدير: إن ربك من بعد توبتهم لغفور لهم. رَحِيمٌ هـ الْأَلْواحَ ج صلى لاحتمال ما بعده الحال يَرْهَبُونَ هـ.
التفسير:
لما أهلك الله سبحانه أعداء بني إسرائيل سأل موسى ربه أن يؤتيه الكتاب الذي وعده فأمره بصوم ثلاثين وهو شهر ذي القعدة، فلما أتم الثلاثين أنكر من نفسه خلوف الفم فتسوّك فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدتها بالسواك، فأوحى الله تعالى إليه: أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك؟ فأمره الله أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحجة لهذا السبب. وقيل: فائدة التفصيل أنه تعالى أمره بصوم ثلاثين وأن يعمل فيها ما يقربه من الله، ثم أنزلت عليه التوراة في العشر وكلم فيها. وقال أبو مسلم الأصفهاني: من الجائز أن يكون موسى عند تمام الثلاثين بادر إلى ميقات ربه قبل قومه بدليل قوله في طه وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى [طه: 83] فلما أعلمه الله تعالى خبر قومه مع السامري رجع إلى قومه، ثم عاد إلى الميقات في عشرة أخرى فتم أربعون ليلة. وقيل: لا يمتنع أن يكون الوعد الأوّل لحضرة موسى وحده والوعد الثاني لحضرة(3/313)
المختارين معه ليسمعوا الكلام. ومن فوائد الفذلكة في قوله فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً إزالة وهم من يتوهم أن الميقات كان عشرين ثم أتمه بعشر فصار ثلاثين. والفرق بين الميقات والوقت أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال والوقت وقت الشيء قدره مقدرا أم لا. وانتصب أَرْبَعِينَ على الحال أي تم بالغا هذا العدد. وهارُونَ عطف بيان لِأَخِيهِ وقرىء بالضم على النداء اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي كن خليفتي فيهم وَأَصْلِحْ كن مصلحا أو أصلح ما يجب أن يصلح من أمور بني إسرائيل ومن دعاك إلى الإفساد فلا تتبعه.
وإنما جعله خليفة مع أنه شريكه في النبوّة بدليل وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي [طه: 32] والشريك أعلى حالا من الخليفة لأن نبوّة موسى كانت بالأصالة ونبوّة هارون بتبعيته فكأنه خليفته ووزيره. وإنما وصاه بالإصلاح تأكيدا واطمئنانا وإلا فالنبي لا يفعل إلا الإصلاح. وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا اللام بمعنى الاختصاص كأنه قيل: اختص مجيئه بوقتنا الذي حددنا له كما يقال: أتيته لعشر خلون من شهر كذا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ للناس في كلام الله مذاهب فقيل:
هو عبارة عن هذه الحروف المؤلفة المنتظمة. وقيل: صفة حقيقية مخالفة للحروف والأصوات وعلى الأول فمحل تلك الحروف والأصوات هو ذات الله تعالى وهو قول الكرامية، أو جسم مغاير كالشجرة ونحوها وهو قول المعتزلة. وعلى التالي فالأشعرية قالوا إن موسى عليه السلام سمع تلك الصفة الأزلية لأنه كما لا يتعذر رؤيته عندنا مع أنه ليس بجسم ولا عرض فكذا لا يمتنع سماع كلامه مع أنه ليس بحرف ولا صوت. وقال أبو منصور الماتريدي: الذي سمعه موسى عليه السلام أصوات مقطعة وحروف مؤلفة قائمة بالشجرة «1» . واختلف العلماء أيضا في أن الله تعالى كلم موسى وحده لظاهر الآية أو مع السبعين المختارين وهو قول القاضي لأن تكليم الله موسى معجز وقد تقدمت نبوّة موسى فلا بد من ظهور هذا المعنى لغيره قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أي أرني نفسك واجعلني متمكنا من رؤيتك فانظر إليك وأراك. عن ابن عباس: أن موسى عليه السلام جاء ومعه السبعون وصعد الجبل وبقي السبعون في أسفل الجبل وكلم الله موسى وكتب له في الألواح كتابا وقربه نجيا. فلما سمع صرير القلم عظم شوقه فقال رب أرني انظر إليك. قالت الأشاعرة إن موسى سأل الرؤية وأنه عارف بما يجب ويجوز ويمتنع على الله تعالى. فلو كانت الرؤية ممتنعة لما سألها. قال القاضي: للمحصلين من العلماء في هذا المقام أقوال: أحدها قول الحسن وغيره أن موسى ما عرف أن الرؤية غير جائزة على الله تعالى وهذا لا يقدح سبحانك في معرفته لأن العلم بامتناع الرؤية وجوازها لا يبعد أن يكون موقوفا على السمع، وزيف بأنه يلزم أن يكون موسى أدون حالا من علماء المعتزلة العالمين بامتناع الرؤية على الله
__________
(1) لم يتم كلام الماتريدي وانظره في الفخر ليتم لك الفرق بينه وبين المعتزلة كتبه مصححة.(3/314)
تعالى، وبأنهم يدعون العلم الضروري بأن كل ما كان مرئيا فإنه يجب أن يكون مقابلا أو في حكم المقابل، فلو لم يكن هذا العلم حاصلا لموسى كان ناقص العقل وهو محال، وإن كان حاصلا وجوّز موسى عليه المقابلة كان كفرا وهو أيضا محال. وثانيها طريقة أبي علي وأبي هاشم أن موسى عليه السلام سأل الرؤية عن لسان قومه فقد كانوا يكررون المسألة عليه بقولهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] وزيف بأنه لو كان كذلك لقال موسى أرهم ينظروا إليك، ولقال الله لن يروني، وبأنه لو كان محالا لمنعهم كما منعهم لما قالوا اجعل لنا إلها، وبأن ذكر الدليل القاطع في هذا المقام فرض مضيق فلم يمكن تأخيره مع أنهم كانوا مقرين بنبوّة موسى كفاهم في الامتناع عن السؤال قول موسى وإلا فلا انتفاع لهم بهذا الجواب فإن لهم أن يقولوا لا نسلم أن هذا المنع من الله بل هذا مما افتريته على الله. وثالثها وهو اختيار أبي القاسم الكعبي أن موسى سأل ربه المعرفة الضرورية بحيث تزول عندها الخواطر والوساوس كما في معرفة أهل الآخرة. وردّ بأنه تعالى أراه من الآيات كالعصا واليد وغيرها ما لا غاية بعدها فكيف يليق به أن يقول أظهر لي آية تدل على أنك موجود؟ ولو فرض أنه لائق بحال موسى فلم منعه الله تعالى عن ذلك؟ ولقائل أن يقول:
منعه في الدنيا لحكمة علمها الله تعالى ولا يلزم منه المنع في الآخرة. ورابعها وهو قول أبي بكر الأصم أن موسى أراد تأكد الدليل العقلي بالدليل السمعي، وتعاضد الدلائل أمر مطلوب للعقلاء. وضعف بأنه كان الواجب عليه حينئذ أن يقول: أريد يا إلهي أن يقوى امتناع رؤيتك بوجوه زائدة على ما ظهر في عقلي. ولقائل أن يقول: هذا تعيين الطريق. وفي الآية سؤال وهو أنه تعالى لم قال لَنْ تَرانِي دون لن تنظر إليّ ليناسب قوله أَنْظُرْ إِلَيْكَ والجواب لأن موسى لم يطلب النظر المطلق وإنما طلب النظر الذي معه الإدراك بدليل أَرِنِي ومن حجج الأشاعرة أنه تعالى علق رؤيته على أمر جائز هو استقرار الجبل والمعلق على الجائز جائز. وردّ بأنه علق حصول الرؤية على استقرار الجبل حال حركته بدليل قوله وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ أي في وقت النظر وعقيبه واستقرار الجبل حال حركته محال. ومنها قوله فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ أي ظهر وبان ومنه جلوت العروس إذا أبرزتها، أو ظهر للجبل اقتداره وتصدى له أمره وإرادته جَعَلَهُ دَكًّا أي مدكوكا كالمصدر بمعنى «مفعول» . والدك والدق أخوان. ومن قرأ بالمد أراد أرضا دكاء مستوية ومنه ناقة دكاء متواضعة السنام. والدكاء أيضا اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكة. والغرض من الجميع تعظيم شأن الرؤية وأن أحدا لا يقوى على ذلك إلا بتقوية الله وتأييده. وقالت المعتزلة:
الرؤية أمر محال لقوله لَنْ تَرانِي وكلمة «لن» إن لم تفد التأبيد فلا أقل من التأكيد.
وأيضا الاستدراك في قوله وَلكِنِ انْظُرْ معناه أن النظر إليّ محال فلا تطلبه ولكن عليك(3/315)
بنظر آخر إلى الجبل لتشاهد تدكك أجزائه وتفرق أبعاضه من عظمة التجلي، وإذا لم يطق الجماد ذلك فكيف الإنسان؟ قالت الأشاعرة هاهنا: لم يبعد أن يخلق الله تعالى حينئذ في الجبل حياة وعقلا وفهما ورؤية. وأيضا قوله وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً أي مغشيا عليه غشية كالموت دليل استحالة الرؤية على الأنبياء فضلا عن غيرهم.
روي أن الملائكة مرت عليه وهو مغشى عليه فجعلوا يلكزونه بأرجلهم يقولون: يا ابن النساء الحيض أطمعت في رؤية رب العزّة.
وأيضا قوله بعد الافاقة من الصعقة سُبْحانَكَ أنزهك عما لا يليق بك من جواز الرؤية عليك إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ من طلب الرؤية بغير إذن منك وإن كان لغرض صحيح هو تنبيه القوم على استحالة ذلك بنص من عندك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنك لست بمرئي ولا مدرك بشيء من الحواس. وقالت الأشاعرة: وأنا أوّل المؤمنين بأنك لا ترى في الدنيا أو بأنه لا يجوز السؤال منك إلا بإذنك. ثم لما سأل الرؤية ومنعه الله إياها أخذ في تعداد سائر نعمه عليه وأمره أن يشتغل بشكرها ف قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ الآية. والمقصود تسلية موسى عن منع الرؤية. قيل: وفي هذا دليل على جواز الرؤية في نفسها وإلا لم يكن إلى هذا العذر حاجة. وإنما قال اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ ولم يقل «على الخلق» لأن الملائكة قد تسمع كلام الله تعالى من غير واسطة كما سمعه موسى. والغرض أنه تعالى خصه من دون الناس بمجموع أمرين الرسالة والكلام وسائر الرسل لهم الرسالة فقط. وإنما كان الكلام بلا وسط سببا للشرف بناء على العرف الظاهر
وقد جاء في الخبر أن نبينا صلى الله عليه وسلم رأى ربه ليلة المعراج بعين الرأس.
وفي ذلك دليل على أفضليته على موسى شتان بين من اتخذه الملك لنفسه حبيبا وقرّبه إليه بلطفه تقريبا وبين من قرب له الحجاب وحال بينه وبين المقصود بواب ونواب. والمزاد بالرسالات هاهنا أسفار التوراة فَخُذْ ما آتَيْتُكَ من شرف الرسالة والكلام وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ لله على ذلك بأن تشتغل بلوازمها علما وعملا. ثم فصل تلك الرسالة فقال وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ قيل: خر موسى صعقا يوم عرفة وأعطاه الله التوراة يوم النحر. وذكروا في عدد الألواح وفيو جوهرها وطولها أنها كانت عشرة ألواح، وقيل سبعة، وقيل لوحين، وأنها كانت من زمرد جاء بها جبرائيل، وقيل من زبرجدة خضراء أو ياقوتة حمراء، وقيل كانت من خشب نزلت من السماء. وعن وهب أنها كانت من صخرة صماء لينها الله تعالى لموسى قطعها بيده وشققها بأصابعه. وقيل: طولها كان عشرة أذرع. والتحقيق أن أمثال هذه يحتاج إلى النقل الصحيح وإلا وجب السكوت عنه إذ ليس في الآية ما يدل على ذلك. وأما كيفية تلك الكتابة فقال ابن جريج:
كتبها جبرائيل بالقلم الذي كتب به الذكر واستمد من نهر النور وحكم هذا النقل أيضا كما قلنا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مفعول كَتَبْنا و «من» للتبعيض نحو أخذت من الدراهم(3/316)
مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا بدل منه فيدخل في الموعظة كل ما يوجب الرغبة في الطاعة والنفرة عن المعصية وذلك بذكر الوعد والوعيد. وأراد بالتفصيل تبيين كل ما يحتاج إليه بنو إسرائيل من أقسام الأحكام، ويجوز أن يكون مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا مفعولين ل كَتَبْنا والتقدير: وكتبنا له في الألواح موعظة من كل شيء وتفصيلا لكل شيء. قيل: أنزلت التوراة وهي سبعون وقر بعير يقرأ الجزء منها في سنة لم يقرأها إلا أربعة نفر: موسى ويوشع وعزير وعيسى.
وعن مقاتل: كتب في الألواح أني أنا الله الرحمن الرحيم لا تشركوا بي شيئا ولا تقطعوا السبيل ولا تحلفوا باسمي كذبا فإن من حلف باسمي كاذبا فلا أزكيه، ولا تزنوا ولا تقتلوا ولا تعقوا الوالدين.
فَخُذْها على إرادة القول أي وكتبنا فقلنا له خذها أو بدل من قوله فَخُذْ ما آتَيْتُكَ والضمير للألواح أو لكل شيء لأنه في معنى الأشياء، أو للرسالات أو للتوراة بِقُوَّةٍ بجد وعزيمة فعل أولى بالعزم من الرسل وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سئل هاهنا أنه لما تعبد بكل ما في التوراة وجب كون الكل مأمورا به، فظاهر قوله يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها يقتضي أن فيه ما ليس بأحسن وأنه لا يجوز الأخذ به. وأجاب العلماء بوجوه منها، أن تلك التكاليف منها ما هو حسن ومنها ما هو أحسن كالاقتصاص والعفو والانتصار والصبر، فمرهم أن يأخذوا بما هو أدخل في الحسن وأكثر للثواب فيكون كقوله وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الزمر: 55] وكقوله الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [الزمر: 18] قال قطرب: الأحسن بمعنى الحسن وكلها حسن. وقيل: الحسن يشمل الواجب والمندوب والمباح والأحسن الواجب والمندوب. وقال في الكشاف: يجوز أن يراد يأخذوا بما أمروا به دون ما نهوا عنه كقولهم الصيف أحر من الشتاء. ثم ختم الآية بالوعيد والتهديد فقال سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ قال ابن عباس والحسن ومجاهد يعني جهنم أي ليكن ذكر جهنم حاضرا في أذهانكم لتحذروا أن تكونوا منهم. وعن قتادة: يريد مواطن الجبابرة والفراعنة الخاوية بالشأم ومصر ليعتبروا بذلك فلا يفسقوا مثل فسقهم فيصيبهم مثل ما أصابهم. وقال الكلبي: هي منازل عاد وثمود وأقرانهم يمرون عليها في أسفارهم. وقيل: المراد الوعد والبشارة بأن الله تعالى سيرزقهم أرض أعدائهم ويؤيده ما قرىء سأورثكم. وقوله وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ [الأعراف: 137] .
ثم ذكر ما به يعامل الفاسقين المتكبرين فقال سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الآية. فاحتجت الأشاعرة بها على أنه تعالى قد يمنع عن الإيمان ويصرف عنه. وقال الجبائي: قوله سَأَصْرِفُ للاستقبال والمصروفون موصوفون بالتكبر والانحراف عن الطريق المستقيم في الزمان الماضي، فعلم أن المراد من هذا الصرف ليس هو الكفر. وأيضا الصرف مذكور(3/317)
على وجه العقوبة على التكبر والاعتساف ولا تكون العقوبة عين المعاقب عليه فوجب تأويل الآية. وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني: إن هذا الكلام تمام لما وعد الله به موسى من النصرة والعصمة أي أصرفهم عن آياتي فلا يقدرون على منعك من تبليغها كما قال في حق نبينا صلى الله عليه وسلم بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ إلى قوله وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة:
67] وقيل: سأصرف هؤلاء المتكبرين عن نيل ما في آياتي من العز والكرامة المعدّة للأنبياء والمؤمنين، فيكون ذلك الصرف المستلزم للإذلال والإهانة جاريا مجرى العقوبة على كفرهم وتكبرهم على الله تعالى. وقيل: إن من الآيات آيات لا يمكن الانتفاع بها إلا بعد سبق الإيمان فإذا كفروا فقد صيروا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بما بعد ذلك فحينئذ يصرفهم الله تعالى عنها. وبوجه آخر إن الله تعالى إذا علم من حال بعضهم أنه إذا شاهد تلك الآيات فإنه لا يستدل بها بل يستخف بها ولا يقوم بحقها، فإذا علم الله تعالى ذلك صح أن يصرفهم عنها، أو عن الحسن: إن من الكفار من يبالغ في كفره وينتهي إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه وهي بالطبع والخذلان، فالمراد بالمصروفين هؤلاء.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا عظمت أمتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرمت بركة الوحي»
قوله بِغَيْرِ الْحَقِّ أما أن يكون حالا بمعنى يتكبرون غير محقين لأن التكبير بالحق لله وحده، إذ لا كمال فوق كماله فله إظهار العظمة والكبرياء على كل من سواه، وإما أن يكون صلة للفعل أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الذي لا أصل له، ومنه يعلم أن للمحق أن يتكبر على المبطل كما قيل: التكبر على المتكبر صدقة. والرشد طريق الهدى والحق والصواب كلاهما واحد قاله الكسائي، وفرق أبو عمرو فقال: الرشد بضم الراء الصلاح لقوله فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء:
6] وبفتحتين الاستقامة في الدين قوله تعالى مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف: 66] وسبيل الغي ضد ما ذكرنا. ثم بين أن ذلك الصرف وتعكيس القضية إنما كان الأمرين: كونهم مكذبين بآيات الله، وكونهم غافلين عنها، ومحل ذلك الرفع على الابتداء أو النصب على معنى صرفهم الله ذلك الصرف بسبب أنهم كذا وكذا. ثم بيّن أن أولئك المتكبرين مجزيون شر الجزاء وإن صدر عنهم صورة الإحسان والخير فقال وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي جحدوا المعاد حبطت أعمالهم. ثم قال هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ احتجت الأشاعرة بها على فساد قول أبي هاشم إن تارك الواجب يستحق العقاب بمجرد ترك الواجب وإن لم يصدر عنه فعل ذلك. قالوا: لأنها دلت على أنه لا جزاء إلا على عمل وترك الواجب ليس بعمل. أجاب أبو هاشم بأني لا أسمي ذلك العقاب جزاء. ورد(3/318)
بأن الجزأ ما يجزىء، أي يكفي عن المنع عن النهي أو في الحث على المأمور، لكن العقاب على ترك الواجب كاف في الزجر عن ذلك فكان جزاء. قيل: إن بني إسرائيل كان لهم عيد يتزينون فيه يستعيرون من القبط الحلي فاستعاروها مرة فأغرق الله القبط فبقيت تلك الحلي في أيدي بني إسرائيل، فلهذا أضيفت إليهم على أن مجرد ملابسة الاستعارة أيضا تحقق الإضافة وتصححها. والحليّ جمع حلي كثدي وثديّ. ومن كسر الحاء فللإتباع. فجمع السامري تلك الحليّ وكان رجلا مطاعا فيهم ذا قدر وكانوا قد سألوا موسى أن يجعل لهم إلها يعبدونه فصاغ السامري لهم عجلا. واختلف المفسرون بعد ذلك فقال قوم: كان قد أخذ تراب حافر فرس جبرائيل فألقاه في جوف ذلك العجل فانقلب لحما ودما وظهر منه الخوار مرة واحدة فقال السامري هذا إلهكم وإله موسى. قال أكثر المفسرين من المعتزلة: إنه كان قد جعل ذلك العجل مجوّفا ووضع في جوفه أنابيب على وجه مخصوص، ثم وضع التمثال على مهب الرياح فظهر منه صوت شديد يشبه خوار العجل. وقال آخرون: إنه صير ذلك التمثال أجوف وخبأ تحته من ينفخ فيه من حيث لا يشعر به الناس. وإنما قال سبحانه وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى من أن المتخذ هو السامريّ وحده لأن القوم رضوا بذلك واجتمعوا عليه فكأنهم شاركوه، أو لأن المراد باتخاذ العجل هو عبادته كقوله ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ [البقرة: 51] أي من بعد مضيه إلى الطور.
قال الحسن: كلهم عبدوا العجل غير هارون لعموم الآية ولقول موسى في الدعاء رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي ولو كان غيرهما أهلا للدعاء لأشركهم في ذلك. وقال آخرون: بل كان قد بقي في بني إسرائيل من ثبت على إيمانه لقوله سبحانه مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ [الأعراف: 181] وهل انقلب ذلك التمثال لحما ودما أو بقي ذهبا كما كان مال بعضهم إلى الأوّل لأنه تعالى قال عِجْلًا جَسَداً لَهُ خُوارٌ والجسد اسم للجسم ذي اللحم والدّم والخوار إنما يكون للبقرة لا للصورة. واستبعده بعضهم وناقش في أن الجسد مختص بذي الروح. ثم قال: إن ذلك الصوت لما أشبه الخوار لم يبعد إطلاق لفظ الخوار عليه.
وقرأ على كرم الله وجهه جؤار بالجيم والهمزة
من جأر إذا صاح وجَسَداً بدلا من عِجْلًا ثم إنه سبحانه احتج على فساد كون ذلك العجل إلها بقوله أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ومن حق الإله أن يكون متكلما هاديا إلى سبيل الحق ومناهجه بما ركز في العقول من الأدلة وبما أنزل من الكتب. قالت المعتزلة:
هاهنا سؤال فمن كان مضلا عن الدين لا يصلح أن يكون إلها. قالت الأشاعرة: لو صح أن الإله يلزم أن يكون متكلما هاديا لزم أن يكون كل متكلم هاد إلها. والحق أن الملازمة(3/319)
ممنوعة فإن الدعوى ليست إلا أن كل إله يجب أن يكون متكلما هاديا والموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها على أنه يمكن أن يقال لا متكلم ولا هادي في الحقيقة إلا الله تعالى. ثم ختم الآية بقوله اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ وهذا كما قال في البقرة ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ [البقرة: 51] ثم أخبر عن عقبى حالهم بقوله وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ معناه ولما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل. واختلفوا في وجه هذه الاستعارة فقال الزجاج: أريد بالأيدي القلوب والأنفس كما يقال حصل في يده مكروه وإن كان من المحال حصول المكروه في اليد تشبيها لما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين. وقال في الكشاف: إن من شأن من اشتد ندمه أن يعض يده فتصير يده مسقوطا فيها لأن فاه وقع فيها، فأصل الكلام سقط فوه في يده فحذف الفاعل وبني الفعل للمفعول فيه كما يحذف الفعل ويبنى للمفعول فيه في قولهم «مرّ بزيد» وهذا من باب الكناية لأن عض اليد من لوازم الحسرة والندم. وقيل: كل عمل يقدم المرء عليه فذلك لاعتقاد أن ذلك العمل خير وصواب وأنه يورثه رفعة ورتبة، فإذا بان أن ذلك العمل باطل فكأنه انحط وسقط من علو إلى أسفل ومنه قولهم للرجل إذا أخطأ «ذلك منه سقطة» ثم إن اليد آلة البطش والأخذ والنادم كأنه تدارك الحالة التي لأجلها حصل له الندم وكأنه قد سقط في يد نفسه من حيث أنه بعد حصول ذلك الندم يشتغل بالتدارك والتلافي.
وحكى الواحدي أنه من السقط وهو ما يغشى الأرض بالغدوات شبه الثلج فمن وقع في يده السقط لم يحصل منه على شيء قط لأنه يذوب بأدنى حرارة، فهذا مثل من خسر في عاقبته ولم يحصل على طائل من سعة. وقال بعضهم: الآلة الأصلية في أكثر الأعمال اليد والعاجز فى حكم الساقط فسقاط اليد هو العجز التام كما يقال في العرف ضل يده ورجله لمن لا يهتدي إلى صلاحه. وقيل: إن «في» بمعنى «على» أي سقط على أيديهم فإن من عادة النادم أن يطأطىء رأسه ويضعه على يده تحت ذقنه. ثم قال الله تعالى وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا أي قد تبينوا ضلالهم كأنهم أبصروه بعيونهم. قال القاضي: الكلام على التقديم والتأخير لأن الندم والتحسر بعد تعرف الحال وتبين الخطأ والترتيب الأصلي: ولما رأوا أنهم قد ضلوا سقط في أيديهم. ويمكن أن يقال: الواو لا تفيد الترتيب، أو يقال: الإقدام على ما لا يعلم كونه صوابا أو خطأ فاسد موجب للندم وقد يتكامل العلم فيظهر أنه خطأ جزما. ثم إنهم اعترفوا بذنوبهم وانقطعوا إلى ربهم وذكروا مثل ما ذكر أبونا آدم وأمنا حواء إن لم ترحمنا ربنا الآية. وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ قال بعضهم إن موسى قد عرف خبر القوم بعد رجوعه إليهم. وقال الأكثرون وهو قول أبي مسلم: إنه كان عارفا بذلك(3/320)
قبل رجوعه بدليل قوله غَضْبانَ أَسِفاً فإنه يدل على أن هاتين الحالتين حاصلتان له عند رجوعه إليهم ولما جاء في سورة طه قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ [الآية: 85] وفيه دليل ظاهر على أنه تعالى أخبره بوقوع الواقعة في الميقات. والأسف الشديد الغضب وهو قول أبي الدرداء والزجاج. وعن ابن عباس والحسن إنه الحزين. وقال الواحدي: هما متقاربان فإذا جاءك ممن هو دونك غضبت وإذا جاءك ممن هو فوقك حزنت، فكأن موسى غضبان على قومه أسفا من فتنة ربه بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي خاطب عبدة العجل أو وجوه القوم- هارون والمؤمنين- حيث لم يكفوا العبدة. وفاعل بِئْسَما مضمر يفسره خَلَفْتُمُونِي والمخصوص محذوف التقدير: بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم. ومعنى مِنْ بَعْدِي مع قوله خَلَفْتُمُونِي من بعد ما رأيتم مني من توحيد الله ونفي الأنداد أو من بعد ما كنت أحمل القوم عليه من التوحيد والكف عن اتخاذ إله غير الله حيث قالوا جعل لنا إلها ومن حق الخلفاء أن يسيروا بسيرة مستخلفيهم من بعدهم ولا يخالفوهم ونظير الآية قوله فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ [مريم: 58] أي من بعد أولئك الموصوفين بالصفات الحميدة أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ قال الواحدي: العجلة التقدم بالشيء قبل وقته ولذلك صارت مذمومة في الأغلب بخلاف السرعة فإنها عمل الشيء في أوّل وقته. قال ابن عباس: يعني أعجلتم ميعاد ربكم فلم تصبروا له. وقال الحسن: أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين وذلك أنهم قدّروا أنه لما لم يأت على رأس الثلاثين ليلة فقد مات.
وروي أن السامري قال لهم: إن موسى لن يرجع وإنه قد مات.
وروي أنهم عدوا عشرين يوما بلياليها فجعلوها أربعين ثم أحدثوا ما أحدثوا.
وقال الكلبي: أعجلتم عبادة العجل قبل أن يأتيكم أمر ربكم. وقال عطاء: أعجلتم سخط ربكم. وفي الكشاف: يقال عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ونقيضه تم عليه وأعجله عنه غيره ويضمن معنى سبق فيعدى تعديته فيقال:
عجلت الأمر ومعنى: أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به وَأَلْقَى الْأَلْواحَ التي فيها التوراة لما لحقه من الدهش والضجر غضبا لله.
عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: «يرحم الله أخي موسى ما الخبر كالمعاينة» «1»
لقد أخبره الله تعالى بفتنة قومه فعرف أن ما أخبره الله تعالى به حق وأنه مع ذلك متمسك بما في يده.
وروي أن التوراة كانت سبعة أسباع فلما ألقى الألواح تكسرت فرفع منها ستة أسباعها وبقي سبع واحد، وكان فيما رفع تفصيل كل شيء وفيما بقي الهدى والرحمة.
قال في التفسير الكبير: إلقاء الألواح ثابت بالقرآن، فأما إلقاؤها بحيث تكسرت فلا وإنه جراءة
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (1/ 215، 271) .(3/321)
عظيمة ومثله لا يليق بالأنبياء. وأقول: الجراءة تحصل بنفس الإلقاء لا بالتكسر الذي لا يتعلق باختياره فكل ما يجعل عذرا عن نفس الإلقاء يصح أن يجعل عذرا عن التكسر وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ أي بشعر رأسه يجره إليه بذؤابته. واعلم أن موسى عليه السلام كان في نفسه حديدا شديد الغضب وكان هارون ألين منه جانبا ولذلك كان أحبّ إلى بني إسرائيل من موسى. وقد استتبع غضبه أمرين: أحدهما إلقاء الألواح والآخر أخذ رأس أخيه جار إليه، فزعم مثبتو عصمة الأنبياء أنه جر برأس أخيه إلى نفسه ليسارّه ويستكشف منه كيفية الواقعة لا لأجل الإهانة والاستخفاف، ثم إن هارون خاف أن يتوهم جهال بني إسرائيل أن موسى فعل ما فعل به إهانة فالَ يَا بْنَ أُمَ
من كسرها فعلى طرح ياء المتكلم، ومن فتحها فتشبيها بخمسة عشر لكثرة الاستعمال أو على الألف المبدلة من ياء الإضافة. وإنما أضافه إلى الأم إشارة إلى أن أمهما واحدة على ما روي أنه كان أخاه لأمه ليكون أدعى إلى العطف والرقة لأنها كانت مؤمنة فافتخر بنسبها ولأنها هي التي تحملت فيه الشدائد فذكره حقها إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي استذلوني وقهروني ولم يبالوا بي لقلة أنصاري وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي حين منعتهم عبادة العجل ونهيتهم عنها فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ العابدي العجل فإنهم يحملون هذا الذي تفعل بي على الإهانة لا على الإكرام وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ في اشتراك العقوبة والإذلال، ولا تعتقد أني واحد منهم. ولا يخفى ما في بعض هذا التفسير من التعسف والتكلف، والحق أن هذا القدر من الحدة الناشئة من عصبية الدين لا يقدح في العصمة وغايته أن يكون من قبيل ترك الأولى فلذلك قالَ موسى رَبِّ اغْفِرْ لِي ما أقدمت عليه من الحدة قبل جلية الحال وَلِأَخِي أن عساه فرّط في شأن الخلافة ثم أخبر عن مجازاة القوم فقال إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ إلها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ كلاهما في الحياة الدنيا. فالغضب ما أمروا به من قتل أنفسهم والذلة خروجهم من ديارهم وذل الغربة لا يخفى. واعترض بأن قوله سَيَنالُهُمْ للاستقبال وفي وقت نزول الآية كان القتل واقعا. وأجيب بأن هذا الكلام حكاية عما أخبر الله تعالى موسى به في الميقات من افتتان قومه وكان سابقا على وقوعهم في الغضب والذلة. قلت: ويجوز أن يكون الآيتان من تتمة قول موسى إلا أن قوله وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ينبو عن ذلك إلا أن يحمل على الاعتراض. ولما في هذا التفسير من التكلف ذهب به بعض المفسرين إلى أن المضاف في الآية محذوف والتقدير:
إن الذين اتخذ آباؤهم العجل يعني الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم سينالهم غضب من ربهم في الآخرة وذلة في الحياة الدنيا بضرب الجزية، أو غضب وذلة كلاهما في الدنيا بالقتل(3/322)
والجلاء كما نال بني قريظة والنضير، أو التقدير: إن الذين اتخذوا العجل سينال أولادهم وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ أي كل مفتر في دين الله فجزاؤه الغضب والذلة. قال مالك بن أنس: ما من مبتدع إلا وتجد فوق رأسه ذلة ثم قرأ هذه الآية وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا ظاهر الآية يدل على أن التوبة شرط العفو وأنه لا بد مع التوبة من تجديد الإيمان فما أصعب شأن المذنبين، ولكن عموم لفظ السيئات يدل على أن من أتى بجميع المعاصي ثم تاب فإن الله يغفرها له فما أحسن حال التائبين لَغَفُورٌ ستور عليهم محّاء لما صدر منهم رَحِيمٌ منعم عليهم بالجنة. وفيه أن الذنوب وإن جلت وعظمت فإن عفوه وكرمه أعظم وأجل.
ولما بين ما كان من موسى مع الغضب بين ما كان منه بعد الغضب فقال وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ قال علماء البيان: إنه خرج على قانون الاستعارة فكأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول ألق الألواح وغير ذلك، فترك النطق بذلك وقطع الإغراء.
وعن عكرمة أن المعنى سكت موسى عن الغضب فقلب كما يقال: أدخلت الخف في رجلي وإنما أدخل الرجل في الخف. وقيل: السكوت بمعنى السكون وقد قرىء به.
أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها منبها على زوال غضبه لأنه أوكد ما تقدم من إمارات الغضب وَفِي نُسْخَتِها فعلة بمعنى مفعول كالخطبة من النسخ والكتب أي في مكتوبها من اللوح المحفوظ سواء قلنا إن الألواح لم تتكسر وأخذها موسى بأعيانها بعد ما ألقاها أو قلنا إنها تكسرت وأخذ ما بقي منها، وقيل: النسخ بمعنى الإزالة لما روي عن ابن عباس أنه لما ألقى الألواح تكسرت فصام أربعين يوما فأعاد الله تعالى الألواح وفيها غير ما في الأولى هُدىً من الضلال وَرَحْمَةٌ من العذاب لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أدخل اللام في المفعول لتقدمه فإن تأخير الفعل يكسبه ضعفا ونظيره لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ [يوسف: 43] وقولك: لزيد ضربت.
ويجوز أن يكون المراد للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء وسمعة، وجوّز بعضهم أن تكون اللام صلة نحو ردف لكم.
التأويل:
ثَلاثِينَ لَيْلَةً لئلا تستكثر النفس الأربعين من ضعف البشرية وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ الخصوصية الأربعين في ظهور ينابيع الحكمة من القلب على اللسان وَقالَ مُوسى الروح لِأَخِيهِ هارُونَ القلب عند توجهه لمقام المكالمة والتجلي كن خليفتي في قومي من الأوصاف البشرية ووَ أَصْلِحْ ذات بينهم على وفق الشريعة وقانون الطريقة وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ من الهوى والطبيعة. وهذه الخلافة هي السر الأعظم في بعثة الروح من ذروة عالم الأرواح إلى حضيض عالم الأشباح وَلَمَّا جاءَ مُوسى ولما حصل الروح على بساط القرب وتتابع عليه كاسات الشرب أثر فيه سماع الكلمات فطال لسان(3/323)
انبساطه عند التمكن على بساطه ف قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ فقيل: هيهات أنت بعد في بعد الاثنينية وحجب جبل الأنانية فلن تراني لأنه لا يراني إلا من كنت له بصرا فبي يبصر وَلكِنِ انْظُرْ إلى جبل الأنانية فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ عند التجلي فَسَوْفَ تَرانِي ببصر أنانيتك وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً بالأنانية فكان ما كان بعد أن بان ما بان وأشرقت الأرض بنور ربها.
قد كان ما كان سرا أبوح به ... فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
فلو لم يكن جبل أنانية النفس بين موسى الروح وتجلي الرب لطاش في الحال وما عاش، ولولا أن القلب يحيا عند الفناء بالتجلي لما أمكنه الإفاقة والروح إلى الوجود، ولو لم يكن تعلق الروح بالجسد لما استسعد بالتجلي ولا بالتحلي فافهم. فَلَمَّا أَفاقَ من غشية الأنانية بسطوة تجلي الربوبية قالَ موسى بلا هويته سُبْحانَكَ تنزيها لك من خلقك واتصال الخلق بك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنك لا ترى بالأنانية وإنما ترى بنور هويتك. بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي دون رؤيتي وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ فإن الشكر يبلغك إلى ما سألت من الرؤية لأن الشكر يورث الزيادة والزيادة هي الرؤية لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يونس: 26] فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي بقوة الصدق والإخلاص أو بقوة وإعانة منا سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن طلب الله إلى طلب الآخرة أو الدنيا سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ فبحجاب التكبر يحجب المتكبر عن رؤية الآيات وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى أي سامري الهوى من بعد توجه موسى الروح لميقات مكالمة الحق. اتخذ حلى زينة الدنيا ورعونات البشرية التي استعارها بنو إسرائيل صفات القلب من قبط صفات النفس عِجْلًا هو الدنيا لَهُ خُوارٌ يدعو الخلق به إلى نفسه وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ عند رجوع موسى الروح إلى قومه وهم الأوصاف الإنسانية ندمت من فعلها وعادت إلى ما كانت فيه من عبودية الحق والإخلاص له قائلة لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا بجذبات العناية رَبُّنا الآية غَضْبانَ مما عبدت صفات القلب عجل الدنيا أَسِفاً على ما فاتها من عبودية الحق أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ بالرجوع إلى الدنيا وزينتها والتعلق بها قبل أوانه من غير أن يأمركم به ربكم. وفيه إشارة إلى أن أصحاب السلوك لا ينبغي أن يلتفتوا إلى شيء من الدنيا في أثناء الطلب اللهم إلا إذا قطعوا مفاوز النفس والهوى ووصلوا إلى كعبة وصال المولى فيأمرهم المولى أن يرجعوا إلى الدنيا لدعوة الخلق وَأَلْقَى الْأَلْواحَ يعني ما لاح للروح من اللوائح الربانية عند استيلاء الغضب الطبيعي. وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ القلب فإنه أخو الروح يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قسرا عند استيلاء طبيعة الروحانية قالَ ابْنَ أُمَّ هما من أب وأم واحد أبوهما الأمر وأمهما الخلق، وإنما نسبه إلى الخلق لأن في عالم الخلق تواضعا وتذللا بالنسبة إلى عالم(3/324)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
الأمر. إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي يعني أن أوصاف البشرية استذلوني بالغلبات عند غيبتك وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وهم الشيطان والنفس والهوى وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فيه أن صفات القلب تتغير وتتلون بلون صفات النفس ورعوناتها، ولكن القلب من حيث هو هو لا يتغير عما جبل عليه من محبة الله وطلبه وإنما يمرض بتغير صفاته كما أن النفس لا تتغير من حيث هي عما جبلت عليه من حب الدنيا وطلبها، وإنما تتغير صفاتها من الأمارية إلى اللوّامية والملهمية والمطمئنية والرجوع إلى الحق، ولو وكلت إلى نفسها طرفة عين لعادت إلى طبعها رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي إشارة إلى أن للروح والقلب استعداد قبول الجذبة الإلهية التي يدخلها بالسير في عالم الصفات وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ الذين يدّعون أن الله أعطاهم قوّة لا يضرهم عبادة الهوى والدنيا وشهواتها.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 159]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
القراآت
عَذابِي أُصِيبُ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع أصارهم على الجمع:
أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب والمفضل. الباقون على التوحيد.
الوقوف
لِمِيقاتِنا ج للابتداء بكلمة الجزاء مع فاء التعقيب وَإِيَّايَ ط مِنَّا ج لتصدر «ان» النافية مع اتحاد القائل فِتْنَتُكَ ج لأن ما بعده مستأنف وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ ط الْغافِرِينَ هـ إِلَيْكَ ط مَنْ أَشاءُ ط للفصل بين الجملتين تعظيما لشأنهما مع الاتفاق(3/325)
في اللفظ كُلَّ شَيْءٍ ط للتبيين واختلاف الجملتين والفاء لاستئناف وعد على الخصوص يُؤْمِنُونَ هـ ج لاحتمال ما بعده النصب أو الرفع على المدح والجر على البدل الْإِنْجِيلِ ج لأن يَأْمُرُهُمْ يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو يأمرهم، وأن يكون نعتا أي مكتوبا أمرا أو بدلا من مَكْتُوباً أو مفعولا بعد مفعول أي يجدونه أمرا، أو يكون التقدير الأمي الذي يأمرهم فيكون كالبدل من الصلة كانَتْ عَلَيْهِمْ ط أُنْزِلَ مَعَهُ لا لأن ما بعده خبر «فالذين» . الْمُفْلِحُونَ هـ وَالْأَرْضِ ج لاحتمال ما بعده الابتداء والحال أي استحق ملك السموات غير مشارك وَيُمِيتُ ط لطول الكلام وإلا فالفاء للجواب أي إذا كنت رسولا فأمنوا إجابة. تَهْتَدُونَ هـ يَعْدِلُونَ هـ.
التفسير:
الاختيار افتعال من لفظ الخير يقال: اختار الشيء إذا أخذ خيره وخياره ومن هنا سمي فعل الحيوان فعلا اختياريا، وذلك أن صدور الفعل عن الحيوان موقوف على حكمه بكون ذلك الفعل خيرا له من تركه. قال النحويون: أصله واختار موسى من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل، فمن الأفعال ما يتعدى إلى المفعول الثاني بحرف واحد ثم يتسع فيحذف الحرف. من ذلك قولهم: اخترت من الرجال زيدا ثم يتسع فيقال اخترت الرجال زيدا. وكذا استغفرت الله من ذنبي واستغفرته ذنبي. وجوّز بعضهم في الآية أن يراد بالقوم المعتبرون منهم إطلاقا لاسم الجنس على ما هو المقصود منهم فيكون مفعولا أوّل من غير واسطة ويكون سَبْعِينَ بدلا أو بيانا قيل: اختار من اثني عشر سبطا من كل سبط ستة فصاروا اثنين وسبعين فقال: ليتخلف منكم رجلان فتشاحوا فقال: إن لمن قعد منكم مثل أجر من خرج فقعد كالب ويوشع.
وروي أنه لم يجد إلا ستين شيخا فأوحى إليه أن يختار من الشبان عشرة فاختارهم فأصبحوا شيوخا.
وقيل: كانوا أبناء ما عدا العشرين ولم يجاوزوا الأربعين قد ذهب عنهم الجهل والصبا فأمرهم موسى أن يتطهروا ويطهروا ثيابهم ثم خرج بهم إلى طور سينا لميقات ربه. وللمفسرين خلاف في أن هذا الميقات عين ميقات الكلام والرؤية أم غيره؟ الذاهبون إلى الأوّل قالوا: إن موسى كان أمره ربه أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فلما سمعوا الكلام طلبوا الرؤية وقالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتهم الصاعقة وهي المراد من الرجفة في هذه الآية.
والذاهبون إلى الثاني حملوا القصة على ما مر في البقرة في تفسير قوله وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ وقد ذكرنا هنالك أن منهم من قال هذه الواقعة كانت قبل قتل الأنفس توبة من عبادة العجل، ومنهم من قال إنها كانت بعد القتل. واحتج أصحاب هذا المذهب على المغايرة بأنه تعالى ذكر قصة ميقات الكلام وطلب الرؤية ثم أتبعها ذكر قصة العجل ثم ختم الكلام بهذه القصة، فظاهر الحال يقتضي أن تكون هذه القصة مغايرة لتلك(3/326)
القصة وإلا انخرم التناسب.
عن علي عليه السلام أن موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبل فنام هارون فتوفاه الله تعالى، فلما رجع موسى إلى قومه قالوا إنه قتل هارون فاختار من قومه سبعين فذهبوا إلى هارون فأحياه الله تعالى فقال: ما قتلني أحد فأخذتهم الرجفة هنالك.
قيل: كانت موتا. وقيل أخذتهم الرعدة حتى كادت تبين مفاصلهم وتنقض ظهورهم فخاف موسى عليهم الموت فدعا الله تعالى وقال رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ قال في الكشاف: هذا تمن منه للإهلاك قبل أن يرى ما رأى كما يقول النادم على الأمر إذا رأى سوء المغبة لو شاء الله لأهلكني قبل هذا أَتُهْلِكُنا جميعا يعني نفسه وإياهم بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا قال أهل العلم: لا يجوز أن يظن موسى أن الله تعالى أهلك قوما بذنوب غيرهم، فهذا الاستفهام بمعنى الجحد أراد أنك لا تفعل ذلك كما تقول: أتهين من يخدمك تريد أنك لا تفعل ذلك، وقال المبرد: إنه استفهام استعطاف أي لا تهلكنا. قيل: لو كان تسفيههم لقولهم لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [النساء:
153] ناسب أن يقال: أتهلكنا بما قاله السفهاء. فإذن التسفيه لفعل صدر عنهم كعبادة العجل أو غيرها، ومنه يعلم أن هذا الميقات غير ميقات طلب الرؤية إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ الضمير يعود إلى الفتنة أي كما تقول إن هو إلا زيد وإن هي إلا هند قاله الواحدي. ولعله يعود إلى مقدر ذهني والمعنى أن الفتنة التي وقع فيها السفهاء لم تكن إلا فتنتك ابتلاءك ومحنتك حين كلمتني وسمعوا كلامك أو حين أسمعتهم صوت العجل تُضِلُّ بِها أي بالفتنة من تشاء فيفتتن وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ فيثبت على الحق. قالت المعتزلة: إن محنته لما كانت سببا لأن ضلوا واهتدوا فكأنه أضلهم بها وهداهم على الاتساع في الكلام أو الضمير يعود إلى الرجفة أي تُضِلُّ على الجنة بسبب عدم الصبر على تلك الرجفة، أو لعدم الإيمان بأنها من عندك مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي إلى الجنة بها الأضداد ما قلنا مَنْ تَشاءُ أو المراد بالإضلال الإهلاك أي تهلك من تشاء بالرجفة وتصرفها عمن تشاء أَنْتَ وَلِيُّنا يفيد الحصر أي لا ولي لنا ولا ناصر إلا أنت فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا قيل: تذكر أن قوله إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ جراءة عظيمة فأشرك نفسه مع قومه في طلب المغفرة والرحمة وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ لأن غفرانك غير متوقف على جلب نفع أو دفع ضر بل لمحض الفضل والكرم. وَاكْتُبْ أوجب لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ نظيره سؤال المؤمنين من هذه الأمة رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً [البقرة: 201] وقد فسرناها في سورة البقرة. واعلم أن كونه تعالى وليا للعبد يناسبه أن يطلب العبد منه دفع(3/327)
المضار وتحصيل المنافع ليظهر آثار كرمه وإلهيته. وأيضا اشتغال العبد بالتوبة والخضوع يناسب طلب هذه الأشياء. فذكر السبب الأوّل ثم رتب عليه الدعاء وختمه بالسبب الثاني وهو قوله إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قال أهل اللغة: النهود التوبة أي تبنا ورجعنا. وقد تم بذكر السببين عهد عز الربوبية وعهد ذل العبودية فلا يبعد وقوع الإجابة ولأن دفع الضر مقدم على تحصيل النفع، قدم طلب المغفرة والرحمة على طلب إيجاب الحسنة في الدارين قالَ الله تعالى في جواب موسى عَذابِي من حالة وصفته أني أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ إذا ليس لأحد عليّ اعتراض في ملكي. وقالت المعتزلة: أي من وجب عليّ في الحكمة تعذيبه ولم يكن في العفو عنه مساغ لكونه مفسدة. وقرأ الحسن من أساء من الإساءة وَرَحْمَتِي من شأنها أنها وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ قالت الأشاعرة: هذا من العام الذي أريد به الخاص. وقال أكثر المحققين: إن رحمته في الدنيا تعم الكل ما من مسلم ولا كافر ولا مطيع ولا عاص إلا وهو متقلب في نعمته. وأما في الآخرة فهي مختصة بالمؤمنين وذلك قوله فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وقيل: الوجود خير من العدم فلا موجود إلا وهو مشمول بنعمته. وقيل: الخير مطلوب بالذات والشر مطلوب بالعرض وما بالذات راجح غالب. وقالت المعتزلة: الرحمة عبارة عن إرادة الخير ولا حي إلا وقد خلقه الله تعالى للرحمة والخير واللذة وإن حصل هناك ألم فله أعواض كثيرة. واعلم أن تكاليف الله تعالى كثيرة ولكنها محصورة في نوعين: التروك والأفعال. فقوله فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إشارة إلى التروك. التكليف الفعلي إما ما لي وهو قوله وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وإما غيره وذلك قوله وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فإنه يشمل كل ما يجب على الإنسان علما وعملا. ثم ضم إلى ذلك اتباع النبي الأمي إلى آخره.
وصف محمدا صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بصفات تسع: الأولى الرسالة. الثانية النبوة. فإن قيل:
النبوة مندرجة تحت الرسالة فلم أفردها بالذكر؟ قلت: لا بل بينهما عموم وخصوص من وجه فقد يكون رسولا ولا يكون نبيا كقوله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: 1] وقد يكون نبيا لا رسولا ككثير من الأنبياء، فلا يكون أحد الوصفين على الإطلاق مغنيا عن الآخر.
ولو سلم فذكر الآخر تتميم وتصريح بما علم ضمنا. الثالثة: كونه أميا. قال الزجاج:
معناه أنه على صفة أمة العرب.
قال صلى الله عليه وسلم وآله: «إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب» «1» .
وقيل: إنه منسوب إلى الأم أي إنه على هيئته يوم ولد لم يكتسب خطا ودراسة. وكان هذا من جملة معجزات نبينا صلى الله عليه وسلم وبيانه من وجوه: الأول أنه كان يقرأ
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الصوم باب 13. مسلم في كتاب الصيام حديث 15. أبو داود فى كتاب الصيام باب 4. النسائي في كتاب الصوم باب 17. أحمد في مسنده (2/ 42، 52، 122) .(3/328)
عليهم كتاب الله منظوما مرة بعد أخرى من غير تبديل. والخطيب من العرب إذا ارتجل خطبة ثم أعادها فإنه لا بد أن يزيد فيها وينقص، فهذا المعنى من مدد سماوي كقوله سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [الأعلى: 6] الثاني لو كان يحسن الخط والقراءة لصار متهما بأنه طالع كتب الأوّلين، ولما أتى بهذا القرآن العظيم المشتمل على جلائل العلوم من غير تعلم ومطالعة عرف أنه من السماء وإليه الإشارة بقوله وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ [العنكبوت: 48] الثالث: أن تعلم الخط لا يفتقر إلا إلى فطنة قليلة ومع ذلك كان الخط مشكلا عليه. ثم إن الله تعالى آتاه علوم الأوّلين والآخرين وما لم يصل إليه أحد من العالمين، فالجمع بين هاتين الحالتين من الأمور الخارقة للعادة كالجمع بين الضدين. الصفة الرابعة الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ الضمير في يجدون للذين يتبعونه من بني إسرائيل. ثم إن كان المراد أسلافهم فالوجه أن يراد بالاتباع اعتقاد نبوته من حيث وجدوا نعته في التوراة إذ لا يمكن أن يتبعوه في شرائعه قبل بعثه إلى الخلق، ويكون المراد من قوله وَالْإِنْجِيلِ أنهم يجدون نعته مكتوبا عندهم في الإنجيل فمن المحال أن يجدوه في الإنجيل قبل إنزال الإنجيل، وإن كان المراد المعاصرين فالمعنى أن هذه الرحمة لا يفوز بها بني إسرائيل إلا من اتقى وآتى الزكاة وآمن بالدلائل في زمن موسى واتبع نبي آخر الزمان في شرائعه، وفي هذا دليل على أن نعته وصحة نبوّته مكتوب في التوراة والإنجيل، وإلا كان ذكر هذا الكلام من أعظم القوادح والمنفرات لأهل الكتابين عن قبول قوله، لأن الإصرار على الزور والبهتان يوجب نقصان حال المدعي فلا يرتكبه عاقل فلما أصر على ذلك دل على أن الأمر في نفسه كذلك. الخامسة والسادسة يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وقد ذكرنا تفصيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في آل عمران ومجامع ذلك محصورة في
قوله صلى الله عليه وسلم: «ملاك الدين تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله»
فإن كل ذرة من ذرات المخلوقات لما كانت دليلا قاهرا وبرهانا باهرا على توحيد الله وتنزيهه فإنه يجب النظر إليها بعين الاحترام والإشفاق كما يليق بها. السابعة وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ قيل: أي ما يستطاب طبعا لأن تناول ذلك يفيد لذة. وقيل: يعني الأشياء التي حكم الله تعالى بحلها وزيف بأنه يجري مجرى قول القائل: ويحل المحللات وهو تكرار. ويمكن أن يجاب بأن المراد ويبين لهم المحللات. وفائدة العدول أن يعلم أن كل حلال مستطاب طبعا وأن الأصل في كل ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحل إلا الدليل منفصل. وقيل: يعني ما يحرم عليه من الأشياء الطيبة كالشحوم وغيرها. الثامنة وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ قال(3/329)
عطاء عن ابن عباس: الميتة والدم ونحوهما من المحرمات. وقيل: كل ما يستخبثه الطبع فالأصل فيه الحرمة إلا بدليل منفصل. التاسعة وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ الإصر الثقل الذي يأصر حبه أي يحبسه من الحراك لثقله وهو مثل لصعوبة تكاليفهم كاشتراط قتل النفس في صحة التوبة. وكذا الأغلال التي كانت عليهم مثل لما في شرائعهم من الأمور الشاقة كالقصاص بتة من غير شرع الدية، وكقطع الأعضاء الخاطئة، وقرض موضع النجاسة من الجلد والثوب، وإحراق الغنائم، وتحريم العروق في اللحم جعلها الله تعالى أغلالا لأن التحريم يمنع من الفعل كما أن الغل يمنع من الفعل. عن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلي لبسوا المسوح وغلوا أيديهم إلى أعناقهم، وربما ثقب الرجل ترقوته وجعل فيها طرف السلسلة وأوثقها على السارية يحبس نفسه على العبادة. فالأغلال على هذا القول غير مستعارة، وفي الآية دلالة على أن الأصل في المضار والمشاق الحرمة كما
قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة»
وهذا أصل عظيم في هذه الشريعة. ثم لما وصفه بالصفات التسع أكد الإيمان به بقوله فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ قال ابن عباس: يعني من اليهود والأولى حمله على العموم وَعَزَّرُوهُ وقروه وعظموه. قال في الكشاف: وأصل العزر المنع ومنه التعزير للضرب دون الحد لأنه منع من معاودة القبيح. فالمراد ومنعوه حتى لا يقوى عليه عدوّه، وعلى هذا لم يبق بينه وبين قوله وَنَصَرُوهُ فرق كبير وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وهو القرآن أي أنزل مع نبوّته لأن نبوّته ظهرت مع ظهور القرآن أو يتعلق ب اتَّبَعُوا أي اتبعوا القرآن المنزل مع اتباع النبي والعمل بسنته، واتبعوا القرآن كما اتبعه النبي مصاحبين له في اتباعه أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالمطلوب في الدارين، اعلم أنه سبحانه لما قال فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ بين أن من شروط نزول الرحمة لأولئك المتقين كونهم متبعين لرسول آخر الزمان، ثم أراد أن يحقق عموم رسالته إلى المكلفين فقال قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً وانتصابه على الحال من إِلَيْكُمْ وفيه دليل على أن محمدا صلى الله عليه وآله مبعوث إلى الخلق كافة خلافا لطائفة من اليهود يقال لهم العيسوية أتباع عيسى الأصفهاني، زعموا أن محمدا صلى الله عليه وسلم رسول صادق لكنه مبعوث إلى العرب خاصة وفساده ظاهر لأنه من المعلوم بالتواتر من دينه أنه كان يدعي عموم الرسالة فإن كان رسولا حقا امتنع الكذب عليه، وإن لم يكن رسولا حقا فهذا يقتضي القدح في كونه رسولا إلى العرب وإلى غيرهم. وزعم بعض العلماء أنه عام دخله التخصيص لأنه(3/330)
غير مبعوث إلى غير المكلفين
بقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق»
وأيضا يمكن وجود قوم في طرف من أطراف العمارة لم يصل إليهم خبر وجوده فهم لا يكونون مكلفين بالإقرار بنبوّته.
والجواب أن رفع القلم عن الأصناف الثلاثة أيضا حكم عليهم بهذا الاعتبار يدخلون تحت الخطاب وإن وجود قوم كما زعمتم من المستبعدات فلا يستحق الالتفات إليه. قال بعض الأكابر: إن الآية وإن دلت على أنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى كل الخلق فليس فيها دلالة على أن غيره من الأنبياء ما كان مبعوثا إلى كلهم. وقد تمسك جمع من العلماء
بالحديث المشهور: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي أرسلت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، وختم بي النبيون»
ورد بأن مجموع هذه الأمور من خواصه لا كل واحد واحد، وبأن آدم بعث إلى كل أولاده في ذلك الزمان فيكون مبعوثا إلى كل الناس وقتئذ. ولا يخفى ضعف هذا الرد لأنا نعلم من دين محمد أنه خاتم النبيين وحده
في رواية أخرى: «وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي»
وإذا كان بعض هذه الأمور من خواصه لزم أن يكون كل واحد منها كذلك.
وأيضا أن آدم لم يكن مبعوثا إلى حواء لأنها عرفت التكليف لا بواسطة آدم بدليل ولا تقربا. ثم لما أمر رسول الله بأن يقول للناس أني رسول الله إليكم أتبعه ذكر ما يدل على صحة هذه الدعوى وأنها لا تتم إلا بتقرير أصول أربعة: أوّلها إثبات أن للعالم إلها حيا عالما قادرا وأشار إليه بقوله الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إذ لو لم يكن للعالم مؤثر موجب بالذات لا فاعل بالاختيار لم يمكن القول ببعثة الرسول. ومحل الَّذِي نصب أو رفع على المدح أو جر بدلا أو وصفا لله. وثانيها أن إله العالم واحد وذلك قوله لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لو فرض إلهان لم يكن عبادة أحدهما أولى من عبادة الآخر. وثالثها أنه تعالى قادر على الخير والشر والبعث والحساب كما قال يُحيِي وَيُمِيتُ
وإنما لم يوسط العاطف بين هذه الجمل لأن كل واحد منها مبينة لما قبلها، وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت أصل رابع وهو أنه يصح من الله تعالى إرسال الرسل ومطالبة الخلق بالتكاليف. أما بالأصل الأوّل والثاني فلأنه يحسن من المولى مطالبة عبده بطاعته وخدمته ولا سيما إذا كان فردا منزها عن الشريك والنظير مستقلا بالأمر والنهي. وأما الأصل الثالث فلأنه يحسن من القادر تكليف المكلف بنوع من طاعته إيصالا له إلى الجزاء وإلى لذة الجزاء، فإن تحصيل لذة الأجر بدون كونه أجر ممتنع وأشار إلى هذا الأصل الرابع بقوله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ اقتصر من الصفات المذكورة هاهنا على الأمية(3/331)
لأنها أجل الأوصاف وأدلها على حقيته، وذلك أنه لم يتفق له مطالعة كتاب ولا مصاحبة معلم لأنه ما كانت مكة بلدة العلماء وما غاب عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم غيبة طويلة يمكن التعلم فيها ومع ذلك فتح الله عليه أبواب العلم والتحقيق وأظهر عليه هذا القرآن الذي اشتمل على علوم الأوّلين والآخرين فليس ذلك إلا بتأييد سماوي وفيض إلهي. ثم وصفه بقوله الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ لأن النبي صلى الله عليه وآله يجب أن يكون ممن آمن بالله وبكتبه. وإنما لم يقل فآمنوا بالله وبي بعد قوله إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ بل عدل إلى المظهر ليمكن أن يجري عليه الصفات المذكورة. ولما في طريقة الالتفات من البلاغة، وليعلم أن الذي وجب الإيمان به واتباعه هو هذا الشخص المستقل بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته كائنا من كان، أنا أو غيري إظهارا للنصفة واحترازا عن العصبية. واعلم أن الكمالات إما نظرية وأشار إليها بقوله فَآمِنُوا بِاللَّهِ وإما عملية وإليها الإشارة بقوله وَاتَّبِعُوهُ والأولى إشارة إلى التكاليف المستفادة من أقواله، والثانية إشارة إلى المستفادة من أفعاله، فإن كل فعل يصدر عنه وقد واظب عليه فلا بد أن يكون جانب فعله ذلك الفعل جانب فعله راجحا على تركه. ثم إن ظاهر الأمر للوجوب فيجب علينا اتباعه وإن كان ذلك مندوبا له إلا أن يدل دليل منفصل على أن ذلك الفعل من خصائصه. ومعنى الترجي في لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ قد مر في نظائره ولا سيما في أوّل البقرة في قوله لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:
21] ثم لما ذكر الرسول وأنه يجب على الخلق متابعته ذكر أن في قوم موسى من اتبع الحق وهدي إليه فقال وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ أي يهدون الناس بكلمة الحق وَبِهِ أي بالحق يَعْدِلُونَ بينهم في الحكم لا يجورون. وهذه الآية متى حصلت وفي أي زمان كانت؟ اختلف المفسرون في ذلك. فقيل: هم اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله كعبد الله بن سلام وابن صوريا وغيرهما. ولفظ الأمة قد يطلق على القليل إذا كان لهم شأن كما أطلق على الواحد في قوله إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل:
120] وقيل: إنهم قوم ثبتوا على دين الحق الذي جاء به موسى ودعوا الناس إليه وصانوه عن التحريف والتبديل في زمن تفرق بني إسرائيل وإحداثهم البدع، ويجوز أن يكونوا أقاموا على ذلك إلى أن جاء المسيح فدخلوا في دينه، ويجوز أن يكونوا هلكوا قبل ذلك، وقال السدي وجماعة من المفسرين: إن بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطا تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرق بينهم وبين إخوانهم ففتح الله لهم نفقا في الأرض فساروا فيه سنة ونصفا حتى خرجوا من وراء الصين. ثم من المفسرين من قال: إنهم بقوا متمسكين بدين اليهودية إلى الآن بناء على أن خبر نبينا لم(3/332)
يصل إليهم فهم معذورون، ومنهم من استبعد عدم وصول الخبر إليهم مع أن خبر هذه الشريعة طار في كل أفق وتغلغل في كل نفق فقال: إنهم هنالك حنفاء مسلمون يستقبلون قبلتنا.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن جبرائيل ذهب به صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء نحوهم فكلمهم فقال لهم جبرائيل: هل تعرفون من تكلمون؟ قالوا: لا. قال: هذا محمد صلى الله عليه وسلم النبي الأمي فآمنوا به.
وقالوا: يا رسول الله إن موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه مني السلام، فرد محمد على موسى عليه السلام ثم أقرأهم عشر سور من القران نزلت بمكة ولم تكن نزلت فريضة غير الصلاة والزكاة، وأمرهم أن يقيموا مكانهم وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا ويتركوا السبت والله أعلم.
التأويل:
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ المختار من الخلق من اختاره الله تعالى وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [القصص: 68] فالذي اختاره الله كان مثل موسى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ [طه: 13] . والذين اختارهم موسى كانوا مستحقين بسوء الأدب للرجفة والصعقة. وهاهنا نكتة هي أن قلب موسى عليه السلام لما كان مخصوصا بالاصطفاء للرسالة والكلام دون القوم كان سؤاله للرؤية شعلة نار المحبة مقرونا بحفظ الأدب على بساط القرب بقوله رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قدّم عزة الربوبية وأظهر ذلة العبودية، وكان سؤال القوم من القلوب الساهية اللاهية فتصاعد دخان الشوق بسوء الأدب فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] قدّموا الجحود والإنكار وطلبوا الرؤية جهارا فأخذتهم الصاعقة. فصعقة موسى كانت صعقة اللطف مع تجلي صفة الربوبية، وصعقتهم كانت صعقة القهر عند إظهار صفة العزة والعظمة. ولما كان موسى عليه السلام ثابتا في مقام التوحيد كان ينظر بنور الوحدة فيرى الأشياء كلها من عند الله، فرأى سفاهة القوم من آثار صفات قهره فتنة واختيارا لهم فقال إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تزيغ بها قلب من تشاء بأصبع صفة القهر، وتقيم قلب من تشاء بإصبع صفة اللطف. وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً الرؤية كما كتبت لمحمد صلى الله عليه وسلم فَسَأَكْتُبُها يعني حسنة الرؤية والرحمة لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ بالله عن غيره وَيُؤْتُونَ عن نصاب هذا المقام الزَّكاةَ إلى طلابه والذين هم بأنوار شواهد الآيات بالتحقيق لا بالتقليد يؤمنون. وفي قوله الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ إشارة إلى أن في أمته من يكون مستعدا لاتباعه في هذه المقامات الثلاثة، ومعنى الأمي أنه أم الموجودات وأصل المكوّنات كما
قال صلى الله عليه وسلم: «أول ما خلق الله روحي» .
وقال حكاية عن الله لولاك لما خلقت الكون. فأما اتباعه في مقام الرسالة فبأن تأخذ منه ما أتاك وتنتهي عما نهاك وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر: 7] فالرسالة تتعلق بالظاهر والنبوة بالباطن فللعوام شركة مع الخواص(3/333)
في الانتفاع من الرسالة وللخواص اختصاص بالانتفاع من النبوة، فمن أدى حقوق أحكام الرسالة في الظاهر يفتح له ببركة ذلك أحوال النبوة في الباطن فيصير صاحب الإشارات والإلهامات الصادقة والرؤيا الصالحة والهواتف المملكية، وربما يؤل حاله إلى أن يكون صاحب المكالمة والمشاهدة والمكاشفة، ولعله يصير مأمورا بدعوة الخلق إلى الحق بالمتابعة لا بالاستقلال كما
قال صلى الله عليه وآله: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل»
وأما اتباعه في مقام أميته فذلك لأخص الخواص وذلك أنه صلى الله عليه وآله يرجع بالسير من مقام بشريته إلى مقام روحانيته الأولى، ثم بجذبات الوحي أنزل في مقام التوحيد وهو قاب قوسين، ثم اختطف بأنوار الهوية عن أنانيته إلى أو أدنى وهو مقام روحانيته ثم بجذبات النبوة أنزل في مقام التوحيد، ثم اختطف بأنوار المتابعة عن أنانيته إلى مقام الوحدة فقد حظي من مقام أميته مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ بالحقيقة هو مكتوب عنده في مقعد صدق يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وهو طلب الحق وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ طلب ما سواه وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ كل ما يقرّب إلى الله فإن الله هو الطيب وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ الدنيا وما فيها وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ أي العهد الذي بين الله وبين حبيبه أو لا يوصل أحد إلى مقام أميته إلا أمته وأهل شفاعته كقوله: «الناس يحتاجون إلى شفاعتي حتى إبراهيم» فكان من هذا العهد عليهم شدة وأغلال يمنعهم من الوصول إلى هذا المقام. فقد وضع النبي صلى الله عليه وسلم هذا الإصر والأغلال بالدعوة إلى متابعته، وأشار إلى هذه المعاني بقوله فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وقروه باعتقاد اختصاص هذا المقام به دون سائر الأنبياء والرسل ونصروه بالمتابعة وَاتَّبَعُوا نور الوحدة الذي أُنْزِلَ مَعَهُ له ملك سموات القلوب وأرض النفوس لا مدبر فيهما غيره، يحيي قلب من يشاء من عباده بنور الوحدة، ويميت نفسه عن صفات البشرية. وكلماته هي ما أوحى إليه ليلة المعراج بلا واسطة وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ يعني خواصهم الذين يرشدون الخلق بالكتاب المنزل بالحق على موسى وَبِهِ يَعْدِلُونَ في الحكم بين العوام فشتان بين أمة غايتهم القصوى هي هداية الخلق وكان نبيهم محجوبا بحجاب الأنانية عند سؤال الرؤية فأجيب ب لَنْ تَرانِي وبين أمة أمية بلغوا بجذبات أنوار المتابعة إلى مقام الوحدة حتى سموا أمة أميين
وقال في حقهم: «كنت له سمعا وبصرا ولسانا فبي يسمع وبي يبصر وبي ينطق» «1»
فلهذا دعا موسى عليه السلام:
اللهم اجعلني من أمة محمد صلى الله عليه وسلم شوقا إلى لقاء ربه فافهم جدا.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 38.(3/334)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
[سورة الأعراف (7) : الآيات 160 الى 171]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169)
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
القراآت:
تغفر بالتاء الفوقانية مضمومة وفتح الفاء: أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب والمفضل. الباقون: بالنون وكسر الفاء خطاياكم مجموعا جمع التكسير: أبو عمرو خطيئتكم بالرفع وعلى الواحدة: ابن عامر خَطِيئاتِكُمْ بالرفع مجموعا جمع السلامة: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب والمفضل. الباقون: مثله ولكن بالنصب الذي يليق بجمع سلامة المؤنث. يَسْبِتُونَ من الإسبات. زيد عن المفضل معذرة بالنصب حفص والمفضل. الباقون: بالرفع يئس مثل رئم: أبو جعفر ونافع بيس على فيعل كسيد: ابن عامر بَئِيسٍ على فيعل بفتح العين: الأعشى والبرجمي.
الباقون بَئِيسٍ على فعيل. تَأَذَّنَ بالتليين: الأصفهاني عن ورش والشموني وحمزة(3/335)
في الوقف تَعْقِلُونَ بتاء الخطاب: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان وسهل ويعقوب وحفص. الباقون بياء الغيبة يُمَسِّكُونَ من الإمساك: أبو بكر وحماد والآخرون بالتشديد.
الوقوف:
أُمَماً ط وإن اتفقت الجملتان لأن أَوْحَيْنا عامل إِذِ اسْتَسْقاهُ دون قَطَّعْناهُمُ فإن تفريق الأسباط لم يكن في زمان الاستسقاء الْحَجَرَ ط للحذف مع اتحاد الكلام أي فضرب فانبجست عَيْناً ط مَشْرَبَهُمْ ط وَالسَّلْوى ط ما رَزَقْناكُمْ ط لحذف جمل أي قلنا لهم كلوا ولا تدخروا فادخروا فانقطع عنهم وَما ظَلَمُونا ط يَظْلِمُونَ هـ خَطِيئاتِكُمْ ط الْمُحْسِنِينَ هـ يَظْلِمُونَ هـ الْبَحْرِ لا كيلا يصير ما بعده ظرفا لقوله وَسْئَلْهُمْ فإنه محال لا تَأْتِيهِمْ ج لاحتمال تعلق كَذلِكَ به أي يوم لا يسبتون لا تأتيهم إتيانا كإتيانهم يوم السبت. والأصح أن كذلك صفة مصدر محذوف أي نبلوهم بلاء كذلك فالوقف على كَذلِكَ جائز أيضا يَفْسُقُونَ هـ قَوْماً لا لأن الجملة بعده صفته شَدِيداً ط يَتَّقُونَ هـ يَفْسُقُونَ هـ خاسِئِينَ هـ الْعَذابِ ط رَحِيمٌ هـ وأمما ج لاحتمال كون ما بعده صفة أو مستأنفا دُونَ ذلِكَ ز للعطف على قَطَّعْناهُمْ فإن لم تجعل الجار صفة للأمم كان عطفا مع عارض يَرْجِعُونَ هـ سَيُغْفَرُ لَنا ج يَأْخُذُوهُ ط يَتَّقُونَ هـ تَعْقِلُونَ هـ الصَّلاةَ ص على تقدير حذف أي لا نضيع أجرهم إذ هم المصلحون ولا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ، وللوصل وجه على تقدير وضع الظاهر موضع الضمير أي إنا لا نضيع أجرهم المصلحين. واقِعٌ بِهِمْ ط الحق المحذوف تَتَّقُونَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه ختم قصة بني إسرائيل بتعداد جمل من أحوالهم تبصرة للمكلفين بعدهم. ومعنى قَطَّعْناهُمُ أي صيرناهم قطعا أي فرقا وميزنا بعضهم عن بعض كيلا يتحاسدوا ويتباغضوا فيقع بينهم الفتن والهرج. الأسباط أولاد الأولاد جمع سبط وأصله من السبط نبت يعتلفه الإبل فكان الأب كالشجرة والأولاد كالأغصان الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل من العرب وهاهنا سؤال وهو أن مميز ما عدا العشرة إلى تسعة وتسعين مفرد فهلا قيل اثني عشر سبطا؟ وأجيب بأن كل قبيلة أسباط لا سبط فوضع أسباطا موضع قبيلة كقوله:
بين رماحي مالك ونهشل ... ولهذا أنث اثنتي عشرة.
وقال الزجاج: المميز محذوف وأَسْباطاً نعت لذلك المحذوف والتقدير: اثنتي عشرة فرقة أسباطا. وقال الفارسي والجوهري: أَسْباطاً بدل من اثْنَتَيْ عَشْرَةَ والمميز كما قال الزجاج. وقوله أُمَماً بدل من اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لأن كل أسباط كانت جماعة(3/336)
كثيرة العدد تؤم خلاف ما كانت تؤمه الأخرى. وباقي الآية إلى قوله بِما كانُوا يَظْلِمُونَ قد مر تفسيره في البقرة، وكذا بيان المتشابهات فلنذكر النوع الآخر من أحوالهم. قوله تعالى وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ أي عن أهلها وليس المقصود تعرف هذه القصة من قبل اليهود لأنها معلومة للرسول صلى الله عليه وسلم من قبل الله تعالى، ولكن المراد تقرير ما كانوا قد أقدموا عليه من الاعتداء والفسق ليعلم أن لهم سابقة في ذلك، وليس كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم أول مناكيرهم. وقد يقول الإنسان لغيره: هل كان هذا الأمر كذا وكذا ليعرف ذلك الغير أنه محيط بتلك القصة؟ وفيه أنه إذا أعلمهم به من لم يقرأ كتابا ولم يتعلم علما كان ذلك مستفادا من الوحي فيكون معجزا. والأكثرون على أن تلك القرية أيلة، وقيل مدين، وقيل طبرية، والعرب تسمي المدينة قرية. ومعنى حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة من البحر وعلى شاطئه إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يتجاوزون حد الله فيه وهو اصطيادهم في يوم السبت. ومحل إِذْ يَعْدُونَ مجرور بدلا عن القرية بدل الاشتمال أي واسألهم عن وقت عدوانهم. قال في الكشاف: ويجوز أن يكون منصوبا بحاضرة أو بكانت بناء على أن كان الناقصة تعمل في غير الاسم والخبر وفيه نظر إذ لا معنى لكون القرية حاضرة البحر في وقت العدوان لأنها حاضرته في جميع الأحيان وقوله إِذْ تَأْتِيهِمْ منصوب ب يَعْدُونَ أو مجرور بدلا بعد بدل.
والحيتان جمع الحوت وهو السمكة شُرَّعاً ظاهرة على وجه الماء جمع شارع كركع وراكع وكل شيء دان من شيء فهو شارع، ودار شارعة إذا دنت من الطريق، ونجوم شوارع إذا دنت من المغيب، فالحيتان كانت تدنو من القرية بحيث يمكنهم صيدها، وعن الحسن تشرع على أبوابهم كأنها الكباش البيض. وقال ابن عباس ومجاهد: إن اليهود أمروا باليوم الذي أمرتم به وهو يوم الجمعة فتركوه واختاروا السبت فابتلاهم الله تعالى به وحرم عليهم الصيد فيه، وباقي القصة مذكور في البقرة، وفيها دلالة على أن من أطاع الله تعالى خفف عليه أهوال الدنيا والآخرة، ومن عصاه ابتلاه بأنواع البلاء والمحن. قالت الأشاعرة: لو وجب رعاية الأصلح على الله تعالى لوجب أن لا يكثر الحيتان في ذلك اليوم صونا لهم عن الكفر والمعصية وهذا الاعتراض وارد على خلق إبليس وسائر أسباب الشرور. والنوع الثالث قوله وَإِذْ قالَتْ وهو معطوف على إِذْ يَعْدُونَ وحكمه حكمه في الإعراب أُمَّةٌ مِنْهُمْ جماعة من صلحاء أهل القرية الذين بالغوا في موعظتهم حتى آيسوا الآخرين كانوا لا يتركون وعظهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ مدمرهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً لعلمهم بأن عاقبة المعصية شؤم والمنهمك في الفساد لا يكاد يفلح قالُوا مَعْذِرَةً من رفع فبتقدير هذه أو موعظتنا أو قولنا إبداء عذر إلى الله. والمعذرة(3/337)
مصدر كالمغفرة، ومن نصب فعلى أنّا نعتذر معذرة أو وعظناهم معذرة إلى ربكم أي إذا طولبنا بإقامة النهي عن المنكر قلنا قد فعلنا فنكون بذلك معذورين وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ولأنا نرجو أن يتقوا بعض الاتقاء فيتركوا الصيد في السبت فَلَمَّا نَسُوا يعني أهل القرية تركوا ما ذكرهم به الصالحون أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ ومعناه على اختلاف القراآت شديد من بؤس يبؤس بأسا إذا اشتد. والظاهر أن هذا العذاب عير المسخ المتأخر في قوله فَلَمَّا عَتَوْا تكبروا وتمردوا أو أبوا عن ترك ما نهوا عنه بحذف المضاف لأن الإباء عن المنهي عنه يكون طاعة قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ والمراد أمر التكوين والإيجاد لا أن هناك قولا. وقيل: فلما عتوا تكرير لقوله فَلَمَّا نَسُوا والعذاب البئيس هو المسخ. عن الحسن: أكلوا والله أوخم أكلة أكلها أهلها أثقلها خزيا في الدنيا وأطولها عذابا في الآخرة، هاه وأيم الله ما حوت أخذه قوم فأكلوه أعظم عند الله من قتل رجل مسلم ولكن الله جعل موعدا والساعة أدهى وأمر. وقد ذكرنا هذه القصة مع تحقيق المسخ في سورة البقرة إلا أنه بقي هاهنا بحث هو أن أهل القرية كم فرقة كانوا؟
فقيل: فرقتان المذنبة والواعظة، وأما الأمة القائلة «لم تعظون» فهم المذنبة بعينها قالوا للفرقة الواعظة لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ بزعمكم. والاعتراض على هذا القول أنه لو صح ذلك لكان اللائق أن يقال في الجواب معذرة إلى ربكم ولعلكم تتقون لأن الجميع خطاب من الفرقة الناهية للفرقة العاصية. والصحيح أنهم ثلاث فرق فرقة مذنبة وفرقة واعظة وفرقة قالوا للواعظين لِمَ تَعِظُونَ أما المذنبة فقد هلكوا بالاتفاق، وأما الواعظة فقد نجوا. بقي الكلام في الثالثة: فعن ابن عباس أنه توقف فيهم وكان يقول فيهم ليت شعري ما فعل بهؤلاء. وعنه أيضا أنهم هلكوا وكان إذا قرىء عليه هذه الآية بكى. وقال: إن هؤلاء الذين سكتوا عن النهي عن المنكر هلكوا ونحن نرى أشياء ننكرها ثم نسكت ولا نقول شيئا. وعن الحسن أنهم نجوا لأنهم كانوا ينكرون عليهم ويحكمون بأن الله سيهلكهم أو يعذبهم وإنما تركوا الوعظ لأنهم لم يروا فيه غرضا صحيحا لعلمهم بحال القوم، وإذا علم الناهي بحال المنهي وأن النهي لا ينجع فيه سقط عنه النهي. ولعل الواعظين لم يستحكم يأسهم بعد كما استحكم يأس هؤلاء أو لعلهم كانوا أحرص الطائفتين. ولعل الأمة سألوا عن علة الوعظ سؤال المسترشدين لا سؤال المنكرين والله تعالى أعلم بالسرائر. النوع الرابع: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ هو تفعل من الإيذان وهو الإعلام والمعنى عزم ربك لأن العازم على الأمر يحدث به نفسه فكأنه يؤذن النفس بأنه يفعله وأجري مجرى فعل القسم في الجزم بالجزاء نحو «علم الله» و «شهد الله» . فأجيب بجواب القسم أي ختم ربك(3/338)
وكتب على نفسه لَيَبْعَثَنَّ ومعناه التسليط كقوله بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ [الإسراء: 5] واختلف في العائد في عَلَيْهِمْ فقيل: يرجع إلى الممسوخين بناء على أن لهم نسلا. وقيل: إلى صلحاء تلك القرية فكأنه مسخ المعتدين وألحق الذل بالبقية. وقال الأكثرون: هم اليهود الذين أدركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى شريعته فثبتوا على الكفر واستمروا على اليهودية. أما العذاب فقيل: هو أخذ الجزية كانوا يؤدونها إلى المجوس إلى أن بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فضربها عليهم، فلا تزال مضروبة عليهم إلى يوم القيامة. وقيل:
الاستخفاف والإهانة. وقيل: القتل والقتال كما وقع في زمن بختنصر وغيره. وقيل:
الإخراج عن الأوطان كما في يهود خيبر وبني قريظة والنضير. وإذ قد أخبر الله تعالى بلزوم الذل والصغار إياهم ونحن نشاهد أن الأمر كذلك فهو إذا إخبار عن الغيب فيكون معجز. قيل: والخبر المروي في أن أتباع الدجال هم اليهود إن صح فمعناه أنهم كانوا قبل خروجه يهود، ثم دانوا بآلهيته فذكروا بالاسم الأول، وإنما تكلف ذلك لأنهم يكونون في وقت اتباع الدجال قاهرين غالبين. النوع الخامس: وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً فرقناهم فيها تفريقا شديدا فلا يكاد يوجد بلد إلا وفيه منهم طائفة مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ الذين كانوا في زمن موسى يهدون بالحق أو الذين هم وراء الصين. وعن ابن عباس ومجاهد: الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وآله وآمنوا به. وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي ومنهم ناس دون ذلك الوصف منحطون عنه فيجوز أن يكون فيهم بعض الصلاح وإن كان أدون من صلاح الأولين إلا أن قوله بعد ذلك لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يدل على أن المراد بهم الكفرة الفسقة الباقية على ضد الخير والرشاد. ومحل دُونَ ذلِكَ رفع على أنه صفة مرفوع محذوف كما قلنا وَبَلَوْناهُمْ عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بِالْحَسَناتِ الخصب والعافية وَالسَّيِّئاتِ بالجدب والشدائد لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لأن كلا من الحالتين تدعو إلى الطاعة والإنابة والنعم بالترغيب والنقم بالترهيب فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ ظاهره يدل على أن الأوّل ممدوح والثاني مذموم. فالمراد فخلف من بعد أولئك الصلحاء خلف سوء. قال الجوهري الخلف القرن بعد القرن يقال: هؤلاء خلف سوء لناس لاحقين بناس أكثر منهم.
قال الأخفش: وقد يحرك ومنهم من يقول خلف سوء من أبيه بالتسكين وخلف صدق من أبيه بالتحريك قال لبيد:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
والخلف الرديء من القول يقال: سكت ألفا ونطق خلفا أي سكت عن ألف كلمة ثم تكلم بخطأ وَرِثُوا الْكِتابَ أي التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرؤنها ويقفون على(3/339)
ما فيها من الأوامر والنواهي ولا يعملون بها يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى أي حطام هذا الشيء الأدنى يريد الدنيا وما يتمتع به منها. يقال الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر. وفي الإشارة بقوله هذَا الْأَدْنى تحقير وتخسيس. وأراد بالدنو القرب لأنه عاجل. أو دنو الحال وسقوطها وقلتها. والمراد كانوا يأخذونه من الرشا في تحريف الأحكام والنعوت وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا يؤاخذنا الله بما أخذنا. وإسناد الفعل إما إلى الجار والمجرور وإما إلى الأخذ الدال عليه يَأْخُذُونَ، وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ الواو للحال أي يرجون المغفرة جزما وهم مصرون والمراد الإخبار عن إصرارهم على الذنوب. وقال الحسن: هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وأنهم لا يشبعون منها.
ثم بين نكث عهدهم فقال أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أي التوراة. ومحل أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ رفع عطف بيان للميثاق المذكور في التوراة وهو أن لا يحرّفوا الكلم عن مواضعه ولا يقبلوا الرشا أو لا يصروا على الذنب مع الجزم بالغفران.
فإن خلاف كل ذلك خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله وتقول عليه ما ليس بحق.
ويجوز أن يكون أَنْ لا يَقُولُوا مفعولا لأجله ومعناه لئلا يقولوا ويجوز أن تكون «أن» مفسرة ولا يَقُولُوا نهيا كأنه قيل: ألم نقل لهم لا تقولوا على الله إلا الحق؟ وَدَرَسُوا عطف على أَلَمْ يُؤْخَذْ لأنه تقرير كأنه قيل: أخذ عليهم الميثاق وقرأوا ما فيه أي أنهم ذاكرون لما أخذ عليهم لأنهم قد قرأوه ودرسوه. وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ من ذلك العرض الخسيس لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الرشا والمحرمات. ثم لما ذكر حال من ترك التمسك بالتوراة أتبعها حال من تمسك أي اعتصم به فقال وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ الآية والتشديد للتكثير وفي إفراد إقامة الصلاة بالذكر مع أن التمسك بالكتاب مشتمل على كل عبادة إظهار لمزية الصلاة وإشعار بأنها عماد الدين. النوع السادس: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ قال أبو عبيدة: أصل النتق قلع الشيء عن موضعه والرمي به ومنه امرأة ناتق إذا كثر ولدها كأنها ترمي بأولادها رميا. والمعنى إذا قلعنا الجبل من أصله وجعلناه فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وهي كل ما أظلك من سقف أو حائط وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ علموا وتيقنوا أنه ساقط عليهم. وقيل: قوي في نفوسهم أنه يقع بهم إن خالفوا.
روي أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة فرفع الله الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخا في فرسخ.
وقيل لهم: إن قبلتموها بما فيها وإلا ليقعن عليكم. فلما نظروا إلى الجبل خر كل رجل منهم ساجدا على حاجبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى إلى الجبل فرقا من سقوطه فلذلك لا ترى يهوديا يسجد إلا على حاجبه الأيسر ويقولون هذه السجدة التي رفعت عنا بها العقوبة. ولما نشر موسى الألواح وفيها كتاب الله لم يبق جبل ولا حجر إلا اهتز فلذلك لا ترى يهوديا تقرأ عليه التوراة إلا(3/340)
اهتز ونغض لها رأسه. خُذُوا على إرادة القول أي قلنا لهم أو قائلين خذوا ما آتَيْناكُمْ من الكتاب بِقُوَّةٍ بجد وعزيمة على احتمال مشاقه وتكاليفه وَاذْكُرُوا ما فِيهِ من الأوامر والنواهي، أو من التعريض للثواب، أو المراد خذوا ما آتيناكم من الآية العظيمة بقوة إن كنتم تطيقونه كقوله إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا [الرحمن: 33] واذكروا ما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ما أنتم عليه من الإباء.
التأويل:
الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ هي قرية الجسد الحيواني على شاطىء بحر البشرية، وأهل قرية الجسد الصفات الإنسانية صنف روحاني كصفات الروح، وصنف قلبي كصفات القلب، وصنف نفساني كصفات النفس الأمارة بالسوء، وكل قد نهوا عن صيد حيتان الدواعي البشرية في سبت محارم الله، فلم تنتهك الحرمة إلا الصفات النفسانية إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً لأن الإنسان حريص على ما منع فتهيج الدواعي في المحرمات دون المحللات بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي بما كان من طبيعة النفس وصفاتها من الخروج عن أمر الله لأنها أمارة بالسوء وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ هي صفات القلب قالوا لصفات الروح لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ بالمخالفات عند استيفاء اللذات والشهوات أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً وهو المسخ بتبديل الصفات الإنسانية إلى الصفات الحيوانية قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ لأنه خلقنا هكذا آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر فنقضي ما علينا ليعلم أنّا ما تغيرنا عن أوصافنا الروحانية والملكية، ولعل النفس وصفاتها يَتَّقُونَ فتتصف بالمأمورية والاطمئنان فإنها قابلة لذلك بِعَذابٍ بَئِيسٍ وهو إبطال استعداد قبول الفيض الإلهي لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ على الأرواح والقلوب الذين يتبعون النفس وصفاتها مَنْ يَسُومُهُمْ وهو الشيطان المنظر إلى يوم القيامة سُوءَ الْعَذابِ عذاب البعد عن الله وعذاب ذلة الخدمة للنفس والشيطان وَقَطَّعْناهُمْ فرقنا الأرواح والقلوب في أرض الأجساد مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ قابلون لفيض نور الله وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ في القبول وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وهي الطاعات وَالسَّيِّئاتِ وهي المعاصي لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ إلى الحق. وذلك أن السير إلى الله يتم بقدم الطاعة وبقدم ترك المعصية ومن هنا قيل خطوتان وقد وصلت. أو بلوناهم بالحسنات ليرجعوا إلينا بقدم الشكر، والسيئات ليرجعوا بقدم الصبر أو بلوناهم بكثرة الطاعات والعجب بها كما كان حال إبليس وبكثرة المعاصي والندامة عليها كما كان حال آدم فَخَلَفَ من بعد الأرواح والقلوب لما سلكوا طريق الحق ووصلوا إلى مقعد صدق خلفهم النفوس الأمارة بالسوء وَرِثُوا الْكِتابَ وهو ما ألهم الله تعالى الأرواح والقلوب من المواعظ والحكم والمعاني والأسرار وورثتها النفوس(3/341)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
وجعلوها ذريعة للعروض الدنياوية وتحصيل المال والجاه واستيفاء اللذات وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا مثل هذه الزلات لأنا واصلون كاملون كما هو مذهب أهل الإباحة، أو سيغفر لنا إذا استغفرنا وهم يستغفرون باللسان لا بالقلب وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فيه أن الإنسان لو وكل إلى طبعه ونفسه لا يقبل شيئا من الأمور الدينية وإنما يعان على القبول بأمر ظاهر أو باطن.
وفيه أن على رؤوس أهل الطلب جبل أمر الحق وهو أمر التحويل فيحولهم بالقدرة إلى أن يأخذوا ما آتاهم الله تعالى بقوة منه لا بقوتهم وإرادتهم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 183]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)
ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
القراآت:
ذُرِّيَّتَهُمْ على التوحيد: حمزة وعلي وخلف وابن كثير وعاصم سوى حفص والمفضل. الباقون: على الجمع يقولوا بياء الغيبة في الحرفين: أبو عمرو يَلْهَثْ ذلِكَ بالإظهار: حفص والأصفهاني عن ورش، والحلواني عن قالون والنقاش عن أبي ربيعة عن قنبل يُلْحِدُونَ بفتح الياء والحاء: حمزة. الباقون: بضم الياء وكسر الحاء من الإلحاد وَلَقَدْ ذَرَأْنا مظهرا: أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ورش وعاصم غير الأعشى ذَرَأْنا بغير همزة: أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف. الباقون: بالهمز.
الوقوف:
أَنْفُسِهِمْ ج لأن التقدير وقال ألست بربكم مع اتحاد الكلام. بِرَبِّكُمْ ط فصلا بين السؤال والجواب. بَلى ج لأن شَهِدْنا يصلح أن يكون من قولهم(3/342)
فيوقف على شَهِدْنا ويعلق أن بمحذوف أي فعلنا ذلك لئلا تقولوا، ويصلح أن يكون شَهِدْنا من قول الملائكة أي قيل للملائكة اشهدوا فقالوا شهدنا فيكون منفصلا من جملة بلى متصلا بأن تقولوا. غافِلِينَ هـ لا للعطف مِنْ بَعْدِهِمْ ج لابتداء الاستفهام واتحاد القائل. الْمُبْطِلُونَ هـ يَرْجِعُونَ هـ الْغاوِينَ هـ هَواهُ ج لأن قوله فَمَثَلُهُ مبتدأ ولدخول الفاء فيه كَمَثَلِ الْكَلْبِ ج لابتداء الشرط من أن الجملة تفسير للمثل أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ط بِآياتِنا ط يَتَفَكَّرُونَ هـ يَظْلِمُونَ هـ الْمُهْتَدِي ج للعطف ولأن التفصيل بين الجملتين أبلغ في التنبيه الْخاسِرُونَ هـ وَالْإِنْسِ ط والوصل أولى لأن الجملة بعده صفه ل كَثِيراً، لا يَفْقَهُونَ بِها ج لأن العطف صحيح ولكن الوقف لإمهال فرصة الاعتبار وكذا الثانية ولهذا كرر لفظة لَهُمْ في أول كل جملة لا يَسْمَعُونَ بِها ط أَضَلُّ ط الْغافِلُونَ هـ فَادْعُوهُ بِها ص لعطف المتفقتين فِي أَسْمائِهِ ط يَعْمَلُونَ هـ يَعْدِلُونَ هـ لا يَعْلَمُونَ وج وعطف وَأُمْلِي على سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أحسن من جعله مستأنفا فيوقف على أُمْلِي، لَهُمْ، مَتِينٌ هـ.
التفسير:
لما شرح قصة موسى على أقصى الوجوه ذكر ما يجري مجرى تقرير الحجة على جميع المكلفين. وفي الآية للمفسرين قولان: أحدهما ما
روى مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب قال: سئل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: «إن الله تبارك خلق آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. قال رجل: يا رسول الله ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت في عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار»
وهذا القول ذهب إليه كثير من قدماء المفسرين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والضحاك وعكرمة والكلبي وابن عباس. وأما المعتزلة وأصحاب النظر والمعقولات فإنهم فسروا الآية بأنه تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من أصلاب آبائهم، وذلك الإخراج أنهم كانوا نطفة فأخرجها الله تعالى إلى أرحام الأمهات وجعلها علقة ثم مضغة ثم جعلهم بشرا سويا وخلقا كاملا، ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب في عقولهم من دلائل وحدانيته وعجائب خلقته وغرائب صنعته وكأنه قررهم وقال أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وكأنهم قالُوا بَلى أنت ربناهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا
وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل باب واسع في كلام الله ورسوله وفي كلام العرب نظيره فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت: 11] وقال الشاعر:(3/343)
امتلأ الحوض وقال قطني وهذا القول الثاني غير مناف للقول الأول ولا هو مطعون في نفسه إنما الكلام في صحة القول الأول. والمنكرون طعنوا فيه بوجوه: منها أن قوله مِنْ ظُهُورِهِمْ بدل مِنْ بَنِي آدَمَ بدل البعض من الكل. فالمعنى وإذ أخذ ربك من ظهور بني آدم. وعلى هذا فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر بني آدم شيئا. ويمكن أن يجاب بأنه تعالى يعلم أن الشخص الفلاني يتولد من آدم ومن فلان فلان آخر فعلى الترتيب الذي علم دخولهم في الوجود يخرجهم ويميز بعضهم من بعض فثبت إخراج الذرية من ظهور بني آدم بالقرآن، وثبت إخراج الذرية من ظهر آدم بالخير، فوجب المصير إليهما معا صونا للآية والخبر عن الطعن. ومنها أن أولئك الذر إن لم يكونوا عقلاء لم يمكن أخذ الميثاق منهم وإن كانوا عقلاء وجب أن يتذكروا تلك الحالة في هذا الوقت، وبهذا الدليل بعينه يبطل التناسخ.
ويحتمل أن يجاب بالفرق وذلك أنا إذا كنا في أبدان أخرى وبقينا فيها سنين ودهورا امتنع في مجرى العادة نسيانها، وأما أخذ هذا الميثاق فإنما حصل في أسرع زمان فلم يبعد حصول النسيان فيه. ومنها أن جميع الخلق من أولاد آدم جمع عظيم وجم غفير، وصلب آدم على صغره لن يتسع لذلك المجموع على أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم فكل واحدة من أولئك الذر لها بنية وإن كانت صغيرة والمجموع يبلغ مبلغا عظيما في الحجمية والمقدار، وأجيب بأن البنية عندنا ليست شرطا في الحياة والعقل. فمن الجائز أن يكون كل من الذر جوهرا فردا. ومنها أن فائدة أخذ الميثاق أن يكون حجة عليهم في ذلك الوقت أو في الدنيا، والإجماع منعقد على أنهم بسبب ذلك لا التكليف على الطفل فكيف يتوجه على الذر؟ وأجيب بأنه لا يسأل عما يفعل. وإن المعتزلة إذا أرادوا تصحيح القول بوزن الأعمال وإنطاق الجوارح قالوا لا يبعد أن يكون لبعض المكلفين في إسماع هذه الأشياء نطق فكذا هاهنا، ولا يبعد أن يكون لبعض الملائكة في تمييز السعداء من الأشقياء في وقت أخذ الميثاق نطق. وقيل: إن الله تعالى يذكرهم ذلك الميثاق يوم القيامة. ومنها أنه سبحانه قال وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: 12] وقال فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ [الطارق: 5، 6] وكون أولئك الذر أناسا ينافي كون الإنسان مخلوقا من الماء والطين. والجواب لا يجوز أن يخرج الله تعالى من صلب آدم ذرة من الماء ثم منها ذرة أخرى وهلم جرا إلى آخر نسلها ثم يعدم الكل أو يميتها فتحصل الحياة للإنسان أربع مرات: أولها؟ وقت الميثاق، وثانيها: في الدنيا، وثالثها: في القبر، ورابعها في القيامة، ويحصل له الموت ثلاث مرات بين كل حياتين واحد. ولا ينافي هذا حكاية قول الكفرة رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ(3/344)
[غافر: 11] لأنهم قالوا ذلك بناء على حسب ظنونهم. أما قوله أَنْ تَقُولُوا فالتقدير:
وأشهدهم على أنفسهم بكذا لئلا يقولوا أو كراهة أن يقولوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا المشهود له غافِلِينَ من قرأ بياء الغيبة فلأن الكلام على الغيبة وهو قوله مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ لئلا يقولوا. ومن قرأ على الخطاب فلأنه قد جرى في الكلام خطاب وهو قوله أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وكلا الوجهين حسن لأن الغائبين هم المخاطبون في المعنى. أَوْ تَقُولُوا يعني الكفار إنما أشركنا لأن آباءنا أشركوا فقلدناهم في ذلك الشرك فكان الذنب لأسلافنا فكيف تعذبنا على هذا الشرك وهو معنى قوله أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ والحاصل أن الله تعالى لما أخذ عليهم الميثاق امتنع منهم التمسك بهذا العذر. وعند المعتزلة معناه أشهدنا عليهم كراهة أن يقولوا إنما أشركنا على سبيل التقليد لأسلافنا لأن نصب الأدلة على التوحيد قائم فلا عذر معهم في الإعراض عنه والإقبال على التقليد والاقتداء بالآباء. وقال في الكشاف: المراد ببني آدم أسلاف اليهود الذين أشركوا بالله، وبذرياتهم الذين كانوا في عهد رسول الله من أخلافهم المقتدين بآبائهم لأن الآيات السابقة في شأن اليهود. وكذلك قوله وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي على اليهود نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا أما قوله وَكَذلِكَ أي ومثل ذلك التفصيل البليغ نُفَصِّلُ الْآياتِ لهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وإرادة أن يرجعوا إلى الحق ويعرضوا عن الباطل نفصلها أو يرجعوا إلى ما أخذ الله عليهم من الميثاق في التوحيد. ولبعض العلماء في الآية قول ثالث وهو أن الأرواح البشرية موجودة قبل الأبدان والإقرار بوجود الإله من لوازم ذواتها وحقائقها، وهذا العلم ليس مما يحتاج في تحصيله إلى كسب وطلب وهو المراد بأخذ الميثاق عليهم، لكنها بعد التعلق بالأبدان يشغلها التعلق عن معلومها فربما تتذكر بالتذكير والتنبيه وربما لا تتذكر وَاتْلُ عَلَيْهِمْ على بني آدم أو اليهود خاصة.
قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد: نزلت في بلعم بن باعوراء وذلك أن موسى عليه السلام قصد بلده الذي هو فيه وغزا أهله وكانوا كفارا فطلبوا أن يدعو على موسى وقومه. وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم. فامتنع منه فما زالوا يطلبونه منه حتى دعا عليهم فاستجيب له ووقع موسى عليه السلام وبنو إسرائيل بدعائه في التيه. فقال موسى: يا رب بأيّ ذنب وقعنا في التيه؟ فقال: بدعاء بلعم. فقال: كما سمعت دعاءه عليّ فاسمع دعائي عليه. ثم دعا موسى عليه السلام أن ينزع عنه الاسم الأعظم والإيمان فسلخه الله تعالى مما كان عليه ونزع عنه المعرفة فخرجت من صدره كحمامة بيضاء فهذه قصته.
ويقال أيضا أنه كان نبيا من أنبياء الله تعالى فلما دعا عليه موسى عليه السلام انتزع الله تعالى منه الإيمان فكان(3/345)
كافرا وهذا بعيد لأنه سبحانه قال الله أعلم حيث يجعل رسالاته [الأنعام: 124] وفيه أنه تعالى لا يشرف عبدا من عبيده بالرسالة إلا إذا علم امتيازه عن سائر عبيده بمزيد الشرف والفضل، ومن كان هذا حاله فكيف يليق به الكفر؟
وقال عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم وأبو روق: نزلت في أمية بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى يرسل رسولا في ذلك الوقت فرجا أن يكون هو فلما أرسل الله محمد صلى الله عليه وآله حسده ثم مات كافرا ولم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: لقد كاد يسلم.
وذلك أنه يوحد الله تعالى في شعره ويذكر دلائل توحيده من خلق السماء والأرض وأحوال الآخرة والجنة والنار.
وقيل: نزلت في أبي عامر الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم بالفاسق وكان يتزهد في الجاهلية، فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام وأمر المنافقين باتخاذ مسجد الضرار وأتى قيصر واستنجده على النبي صلى الله عليه وآله فمات هناك طريدا وحيدا وهو قول سعيد ابن المسيب.
وقيل: نزلت في منافقي أهل الكتاب وكانوا يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم نبي الحق عن الحسن والأصم. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: هو رجل أعطى ثلاث دعوات يستجاب له فيها، وكانت له امرأة يقال لها البسوس وكان له منها ولد وكان يحبها فقالت: اجعل لي منها دعوة. قال: لك منها واحدة فماذا تأمرين؟ قالت: ادع الله أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل. فلما علمت أن ليس فيهم مثلها رغبت عنه وأرادت شيئا آخر فدعا الله عليها أن يجعلها كلبة نباحة فذهب فيها دعوتان، وجاء بنوها فقالوا:
ليس لنا على هذا إقرار قد صارت أمنا كلبة نباحة يعيرنا بها الناس فادع الله أن يردها إلى الحال التي كانت عليها، فدعا الله فعادت كما كانت وذهبت الدعوات الثلاث وبها يضرب المثل فيقال: «أشأم من البسوس» . وقيل: هو عام فيمن عرض عليه الهدى فأعرض عنه وهو قول قتادة وعكرمة وأبي مسلم. ومعنى قوله آتَيْناهُ آياتِنا عند الأكثرين علمناه حجج التوحيد وفهمناه أدلته حتى صار عارفا بها فَانْسَلَخَ مِنْها فخرج من محبة الله تعالى إلى معصيته ومن رحمته إلى سخطه. يقال لكل من فارق شيئا بالكلية إنه انسلخ منه. وقال أبو مسلم آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها أي بيناها فلم يقبل وعري منها وتباعد كما هو شأن كل كافر لم يؤمن بالأدلة وأقام على الكفر. والقول الأول أولى لأن الانسلاخ يدل على أن الشيء كان موجودا فيه ثم خرج منه لا على إنه لم يوجد فيه أصلا. وأيضا ثبت بالأخبار أن الآية نزلت في إنسان كان عارفا بدين الله ثم خرج من المعرفة إلى الكفر والغواية وذلك قوله فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ أي أدركه ولحقه وصار قرينا له، أو أتبعه الشيطان خطواته أو كفار الإنس وغواتهم أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعا له فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ في علم الله تعالى أو فصار(3/346)
منهم وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ إلى منازل الأبرار بِها أي بتلك الآيات وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أصل الإخلاد اللزوم على الدوام فكأنه قيل: لزم الميل إلى الأرض ومنه أخلد فلان بالمكان إذا لزم الإقامة به. قال ابن عباس: معناه مال إلى الدنيا. وقاتل مقاتل: رضي بالدنيا. وقال الزجاج:
سكن إلى الدنيا. وقال الواحدي: فهؤلاء فسروا الأرض بالدنيا لأن ما في الدنيا من الضياع والعقار كلها أرض وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان يستخرج من الأرض وبها يكمل ويقوى، ومعنى قوله وَاتَّبَعَ هَواهُ أنه أعرض عن التمسك بما آتاه من الآيات، ثم إنه لو جاء الكلام على ظاهره لقيل: ولو شئنا لرفعنا بها ولكنا لم نشأ إلا أن قوله وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ لما دل على هذا المعنى لا جرم أقيم مقامه. قالت الأشاعرة: لفظة «لو» تدل على أن الله تعالى قد لا يريد الإيمان ويريد الكفر. وقال الجبائيّ: معناه ولو شئنا لرفعناه بأعماله بأن يحترمه ونزيل التكليف عنه قبل ذلك الكفر حتى تسلم له الرفعة لكنا عرضناه بزيادة التكليف لمنزلة زائدة فأبى أن يستمر على الإيمان، أو المراد لو شئنا لرفعناه بأن نحول بينه وبين الكفر قهرا أو جبرا إلا أن ذلك ينافي التكليف فلا جرم تركناه مع اختياره.
وقال صاحب الكشاف: ومعناه لو لزم العمل بالآيات ولم ينسلخ منها لرفعناه بها، وذلك أن مشيئة الله تعالى رفعه تابعة للزومه الآيات فذكرت المشيئة والمراد ما هي تابعة له ومسببة عنه كأنه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها ألا ترى إلى قوله وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله فوجب أن يكون وَلَوْ شِئْنا في معنى ما هو فعله. ثم وضع قوله فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ موضع فحططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في هذا المعنى ومحل قوله إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ النصب على الحال كأنه قيل:
كمثل الكلب ذليلا دائم الذلة لاهثا في الحالين، ويجوز أن يكون تفسيرا للمثل كما مر.
قال الليث: اللهث هو أن الكلب ونحوه إذا ناله الإعياء عند شدّة العدو وعند شدّة الحر فإنه يدلع لسانه من العطش، وكل شيء يلهث فإنه يلهث من إعياء أو عطش إلا الكلب اللاهث فإنه يلهث في جميع أحواله لا لحاجة وضرورة بل لطبيعته الخسيسة. فمعنى الآية أن هذا الكلب إن شدّ عليه وهيج لهث، وإن ترك لهث أيضا لأجل أن ذلك الفعل القبيح طبيعة أصلية له. عن ابن عباس: الكلب منقطع الفؤاد يلهث إن حمل عليه أو لم يحمل عليه.
قيل: لما دعا بلعم على موسى خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كما يلهث الكلب فيكون هذا وجه التمثيل. واعلم أن التمثيل ما وقع بجميع الكلاب وإنما وقع بالكلب اللاهث وأخس الحيوانات هو الكلب وأخس الكلاب هو اللاهث، وإن الرجل إذا توسل بعلمه إلى طلب الدنيا فذلك إنما يكون لأجل أن يورد عليهم أنواع علومه ويظهر عندهم فضائل نفسه(3/347)
ومناقبها، ولا شك أنه عند ذكر تلك الكلمات يدلع لسانه ويخرجه لأجل ما تمكن من قلبه من حرارة الحرص وشدة العطش إلى الفوز بالدنيا فكانت حاله شبيهة بحال ذلك الكلب الذي أخرج لسانه أبدا من غير حاجة ولا ضرورة بل لمجرد الطبيعة الجسدية. وأيضا هذا الحريص الضال إن وعظته فهو ضال وإن لم تعظه فهو ضال لأجل أن ذلك الضلال والخسار عادة أصيلة وطبيعة ذاتية له كما أن ذلك الكلب إن شدّ عليه لهث وإن ترك لهث.
ثم عمم بالتمثيل جميع المكذبين الضالين فقال ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وقال ابن عباس: يريد أهل مكة كانوا يتمنون هاديا يهديهم وداعيا يدعوهم إلى طاعة الله، ثم لما جاءهم من لا يشكون في صدقه وديانته كذبوه. وقيل: هم اليهود قرأوا نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة وذكر القرآن المعجز وما فيه وبشروا الناس باقتراب مبعثه وكانوا يستفتحون به فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به. فَاقْصُصِ الْقَصَصَ يريد قصص المكذبين أو قصص بلعم الذي هو نحو قصص المكذبين لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيحذرون مثل عاقبته إذ ساروا نحو سيرته. ثم ذكر تأكيدا آخر في باب التحذير فقال ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ ولا بد من تقدير مضاف ليناسب التمييز المخصوص بالذم فيصير التقدير: ساء مثلا القوم، أو ساء أصحاب مثل القوم. وفي ساءَ ضمير مبهم يفسره المنصوب بعده. وظاهر الآية يقتضي كون المثل مذموما فقيل: كيف يتصور ذلك مع أن الله تعالى ذكره؟ والجواب أن الذم إنما يتوجه إلى ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها حتى صاروا في ذلك بمنزلة الكلب اللاهث. أما قوله وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ فإما أن يكون معطوفا على كذبوا فيدخل في حيز الصلة بمعنى الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله وظلم أنفسهم، وإما أن يكون كلاما منقطعا بمعنى وما ظلموا إلا أنفسهم بالتكذيب، وتقديم المفعول للاختصاص كأنه قيل: وخصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدها إلى غيرها. ثم بين أن الهداية والضلال بتقديره فقال مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وهو محمول على اللفظ من حيث إن «من» مفرد اللفظ ومن حيث إن اهتدى مطاوع هدى وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ محمول على المعنى لأن من معناه هاهنا الجمع ولأن الخسار ليس مطاوع والإضلال بل الإضلال. مطاوع له والخسار لازم اللازم. ولا يخفى أن ظاهر الآية موافق لمعتقد الأشاعرة أن الهداية والضلال بل جميع الأفعال بخلق الله تعالى، والمعتزلة أولوها بأن المراد من يهد الله إلى الجنة والثواب فهو المهتدي في الدنيا، ومن يضلله عن الجنة والثواب يضلله عن طريق الجنة. وقال بعضهم:
التقدير من يهد الله فقبل هداه فهو المهتدي، ومن يضل بأن لم يقبل فهو الخاسر. وقيل:
من يهده الله بالألطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي، ومن يضلله عن ذلك بما تقدم منه(3/348)
بسوء اختياره فأخرج لهذا السبب تلك الألطاف من أن تؤثر فيه فهو الخاسر، وزيف بالعلم والداعي وبأن الأصل عدم الإضمار وبأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف فقد فعله عند المعتزلة في حق جميع الكفار وبالآية بعدها وهي قوله وَلَقَدْ ذَرَأْنا إلى آخره.
وذلك أنه بين أنه خلق كثيرا من الجن والإنس لجهنم وقد علم ذلك في الأزل وخلاف مقدوره ومعلومه محال. وأيضا العاقل لا يريد الكفر والجهل. الموجبين لدخول النار، فحصول ذلك على خلاف قصده واجتهاده لا يكون إلا من قبل غيره، ولا يتسلسل بل ينتهي إلى مسبب الأسباب لا محالة. لا يقال العبد إنما يسعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الباطل لأنه اشتبه لأمر عليه وظنه اعتقادا صحيحا لأنا نقول على هذا التقدير إنما وقع في هذا الجهل لأجل جهل متقدم، ولا يتسلسل بل ينتهي إلى جهل حصل ابتداء فيتوجه الإلزام.
قالت المعتزلة: الآيات الدالة على أنه سبحانه أراد من العبد الطاعة العبادة والخير فقط كثيره كقوله وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] وأيضا أنه قال في معرض الذم لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها إلى آخره. ولو كانوا مخلوقين للنار غير قادرين على الإيمان لم يحسن ذمهم. وأيضا لو خلقهم للنار لما كان له نعمة على الكفار أصلا لأن منافع الدنيا بأسرها لا اعتداد بها في جنب العذاب الدائم لكن القرآن مملوء من أنه تعالى منعم على جميع الخلائق. وأيضا مذهبكم يوجب أن لا يكون للمدح والذم والثواب والعقاب والترغيب والترهيب فائدة، ولو خلقهم للنار لوجب أن يخلقهم في النار ابتداء لأنه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم. وأيضا الآية متروكة الظاهر لأن لام الاختصاص لا تفيد فيها إلا إذا قدر «ولقد ذرأناهم» لكي يكفروا فيصيروا إلى جهنم فيجب بناؤها على قوله وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: 56] لأن ظاهره يصح من غير حذف. وعلى هذا أوجب أن تؤول الآية بأن اللام فيها لام العاقبة كقوله فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا [القصص: 8] أو يقال إنه جعلهم لإغراقهم في الكفر وشدّة شكائمهم فيه كأنهم مخلوقون للنار كقولهم ما خلق فلان إلا لكذا إذا كان غريقا في بعض الأمور. وأجيب إجمالا بأنه لا يسأل عما يفعل، وتفصيلا بأن النعمة وإن قلت فهي في نفسها نعمة، وبأن الوسائط معتبرة، وبأن حمل اللام على العاقبة تجوّز لا يصار إليه إلا لضرورة تصحيح المعنى، وهاهنا لا ضرورة فقد تعاضدت الدلائل العقلية كالعلم والداعي والنقلية كآيات كثيرة على أن الكل من الله فوجب المصير إلى طرف الجبر ولا سيما فإن ما قبل هذه الآية وهو قوله مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وما بعدها وهو قوله وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ يدل على ما قلنا. وأيضا لا ريب أن أولئك الكفار(3/349)
كانت لهم قلوب يفقهون بها مصالح الدنيا، وكذا أعين مبصرة وآذان سامعة، فالمراد أنهم كانوا يفقهون ويبصرون ويسمعون ما يرجع إلى مصالح الدين. ثم إنه تعالى كلفهم تحصيل الدين مع عدم القابلية كيف وإن الكفار بلغوا في عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي شدة النفرة عن قبول دينه مبلغا لا يكتنه كنهه. والعلم الضروري حاصل بأن حصول الحب والبغض في القلب ليس باختيار الإنسان بل هو حالة حاصلة في القلب كره الإنسان أو أراد، حينئذ يثبت القول بالجبر.
وروى الشيخ أحمد البيهقي في كتاب مناقب الشافعي أن عليّ بن أبي طالب عليه السلام خطب الناس فقال: وأعجب ما في الإنسان قلبه فيه مواد من الحكمة وأضدادها، فإن سنح له الرجاء أولهه الطمع، وإن هاج به الطمع أهلكه الحرص، وإن ملكه اليأس قتله الأسف، وإن عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وإن سعد بالرضا شقي بالسخط، وإن ناله الخوف شغله الحزن، وإن أصابته المصيبة قتله الجزع، وإن وجد مالا أطغاه الغنى، وإن عضته فاقة شغله البلاء، وإن أجهده الجوع قعد به الضعف، فكل تقصير به مضر، وكل إفراط له مفسد.
وهذا الفصل كالمطلع على سر مسألة القضاء والقدر لأن أعمال الجوارح مربوطة بأحوال القلوب، وكل حالة من أحوال القلب فإنها مستندة إلى حالة أخرى حصلت قبلها. وإذا وقف الإنسان على هذه الحالة علم أنه لا خلاص من الاعتراف بالجبر. وذكر الإمام الغزالي في الإحياء فصلا ثم قال: فإن قلت أني أجد من نفسي أني إن شئت الفعل فعلت وإن شئت الترك تركت فيكون فعلي حاصلا بي لا بغيري.
أجبنا وقلنا: هب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول: وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئا شئت، وإن شئت أن لا تشاءه لم تشأ، ما أظنك تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له، فلا مشيئتك بك ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك بك وإنما أنت مضطر في صورة مختار. والله تعالى أعلم. قال بعض العلماء أنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم، وفيه دليل على أن محل الفقه هو القلب.
وأقول: ليس المراد بالقلب هاهنا اللحم الصنوبري بل اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنسانا وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة وبالروح. أما قوله أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ فتقريره أن الإنسان يشاركه سائر الحيوان في القوى الطبيعية الغاذية والنامية والمولدة، وفي منافع الحواس الخمس الظاهرة، وفي أحوال التخيل والتفكر. وإنما يحصل الامتياز بالقوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به فإذا لم تحصل هذه الغاية للإنسان صار في درجة الأنعام بل أضل وأدون لأن الذي أعرض عن اكتساب الفضائل مع القدرة على تحصيلها من حيث النوع كان أخس(3/350)
حالا ممن لم يكتسبها مع العجز عنها. وقيل: وجه الأضلية أن الأنعام مطيعة لله والكافر غير مطيع. وقال مقاتل: الأنعام تعرف ربها وتبصر منافعها ومضارها فتسعى في تحصيلها ودفعها، وهؤلاء الكفار أكثرهم معاندون مصرون وقيل: إنها تفر أبدا إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها، والكافر يهرب عن ربه إلى الأصنام. وقيل: إنها لا تضل إذا كان معها مرشد والكافر يضل بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة.
وقال عطاء: إنهم الغافلون عما أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب. ثم نبه بقوله وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى على أن الموجب لدخول جهنم هو الغفلة عن ذكره سبحانه، والمخلص من عذاب جهنم هو ذكره، وكل من له ذوق وجد من نفسه أن الأمر كذلك فإن القلب إذا غفل عن الذكر وأقبل على الدنيا وقع في نار الحرص وزمهرير الحرمان ولا يزال ينتقل من رغبة إلى رغبة ومن طلب إلى طلب ومن ظلمة إلى ظلمة فإذا فتح على قلبه الذكر خلص من نيران الآفات وخسران الحسرات إلى معرفة رب الأرض والسموات. وهذا اللفظ مذكور في ثلاثة مواضع أخر: في آخر بني إسرائيل وفي أوّل طه وفي آخر الحشر. ومعنى حسن الأسماء حسن معانيها ومفهوماتها لأنها أسماء دالة على معاني الكمال ونعوت الجلال وهي محصورة في نوعين: عدم افتقاره تعالى إلى غيره وثبوت افتقار غيره إليه. وقد عرفت في تفسير البسملة أن أسماء الله تعالى لا تكاد تنحصر بحسب السلوب والإضافات، فكل من كان وقوفه على أسرار حكمه في مخلوقاته أكثر كان علمه بأسماء الله الحسنى أكثر. والآن نقول: إن من تقسيمات أسماء الله ما يقوله المتكلمون من أن صفات الله أنواع ما يجب وما يجوز وما يستحيل عليه تعالى. ومنها أن يقال إن أسماء الله إما أن يجوز إطلاقها على غيره كالرحيم والكريم وإن كان معناها في حق الله مغايرا لمعناها في حق غيره، وإما أن لا يجوز نحو «الله» و «الرحمن» . وقد يقيد القسم الأوّل بقيود مثل «يا أرحم الراحمين» و «يا أكرم الأكرمين» و «يا خالق السموات والأرضين» . ومنها أن يقال من الأسماء ما يمكن ذكره وحده كقولنا «يا الله يا رحمن يا حي يا حكيم» . ومنها ما لا يكون كذلك كقولنا «مميت» و «ضارّ» فإنه لا يجوز إفراده بالذكر بل يجب أن يقال «يا محيي يا مميت يا ضار يا نافع» . ومنها أن يقال أوّل ما يعلم من صفات الله تعالى كونه محدثا للأشياء مرجحا لوجودها على عدمها، وذلك إنما يعلم بواسطة الاستدلال بوجود الممكنات عليه، وذلك المرجح إما أن يرجح على سبيل الوجوب أو على سبيل الصحة، والأوّل باطل وإلا لزم دوام العالم بدوامه، والثاني هو المعنيّ بكونه قادرا. ثم إنا بعد هذا نستدل بكون أفعاله محكمة متقنة على كونه عالما ثم(3/351)
نقول: إن القادر العالم يمتنع أن لا يكون حيا فظهر أن العلم بصفاته وبأسمائه ليس واقعا في درجة واحدة بل العلم بها علوم مترتبة يستفاد بعضها من بعض، ومن البين أن الأسماء الحسنى لا تكون إلا لله تعالى لأن كل الشرف والجلالة يستلزم وجوب الوجود، وكل نقص وخساسة فإنه يعقب الإمكان وكل اسم لا يفيد في المسمى صفة كمال وجلال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله تعالى. ومن هنا اختلف في أنه هل يطلق عليه اسم الشيء أم لا؟
وقد مر تحقيق ذلك في تفسير البسملة وفي الأنعام في قوله قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ [الأنعام: 19] أما قوله فَادْعُوهُ بِها ففيه دليل على أن الإنسان لا يجوز أن يدعو ربه إلا بتلك الأسماء الحسنى بعد أن عرف معانيها ويكون مستحضرا الأمرين: عزة الربوبية وذلة العبودية، كما أنه في قوله عند التحريم «الله أكبر» يشير إلى أنه لا نسبة لكبريائه وعظمته إلى ما سواه من الروحانيات والجسمانيات والعلويات والسفليات وإنما هو أكبر من هذه الأشياء وأكبر من أن يقال له أكبر من هذه الأشياء وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ قال ابن السكيت: الملحد العادل عن الحق والمدخل فيه ما ليس منه. يقال قد ألحد في الدين ولحد. وقال غيره من أهل اللغة: الإلحاد العدول عن الاستقامة والانحراف عنها ومنه للحد الذي يحفر إلى جانب القبر. قال الواحدي: الأجود قراءة العامة ولا يكاد يسمع من العرب لأحد بمعنى ملحد. والإلحاد في أسماء الله تعالى يقع على ثلاثة أوجه: الأوّل: إطلاق أسمائه المقدسة على الأصنام كاشتقاقهم اللات من الله والعزى من العزيز، ومناة من المنان، وكان مسيلمة الكذاب يسمى نفسه الرحمن. والثاني أن يسموه بما لا يجوز عليه كما سمع عن البدو وإن قالوا بجهلهم «يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، يا نخيّ» بناء على أن النخوة مدح. الثالث: أن يأبوا تسميته ببعض أسمائه الحسنى كالرحمن مثلا. قال بعض العلماء: إن ورود الإذن في بعض الأسماء لا يجوز إطلاق سائر الألفاظ المشتقة منه عليه، فلا يجوز أن يقال «يا معلم» وإن ورد وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ [البقرة: 31] وكذا في حق الأنبياء لا يجوز أن يقال إن آدم عاص أو غاو وإن ورد وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [طه: 121] ثم أوعد الملحدين في أسمائه بقوله سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ ثم لما أخبر أن كثيرا من الثقلين مخلوقون للنار حكى أن بعضا منهم مخلوقون للجنة فقال وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وقد مر مثل هذه الآية في قصة موسى فعن قتادة وابن جريج وابن عباس أن المراد في الآية أمة محمد صلى الله عليه وآله.
وروى الربيع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إذا قرأها هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها» .
وعن الربيع بن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية فقال: إن من أمتي قوما على الحق(3/352)
حتى ينزل عيسى.
وعن الكلبي: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب. وقال الجبائي: هم العلماء والدعاة إلى الدين في كل حين ثم أعاد ذكر المكذبين وما عليهم من الوعيد فقال وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا قال ابن عباس: يريد أهل مكة والظاهر أنه عام. والاستدراج استفعال من الدرجة ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه، وأدرج الكتاب إذا طواه شيئا بعد شيء. ومعنى الآية سنقربهم إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ما يراد بهم. وذلك أنهم كلما أقدموا على ذنب فتح الله عليهم بابا من أبواب الخير فيزدادون بطرا وانهماكا في الغي والفساد، ثم يأخذهم أغفل ما يكونون وَأُمْلِي لَهُمْ أطيل لهم مدة عمرهم إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ عن ابن عباس: يريد أن مكري شديد والمتين من كل شيء هو القوي. يقال متن متانة. واحتجت الأشاعرة بألفاظ الاستدراج والإملاء والكيد في مسألة القضاء والقدر حتى قال بعض المجبرة: المراد سنستدرجهم إلى الكفر مع أنه فاسد لأن جزاء الكفر لا يكون كفرا آخر. وحملها المعتزلة على أن المراد سنستدرجهم إلى العقوبات إما في الدنيا وفي الآخرة، وزيف بأن هذا الاستدراج والإمهال مما يزيد الكافر به كفرا وعتوا واستحقاقا للعقاب، فلو أراد به الخير لأماته قبل أن يصير مستوجبا لتلك الزيادات من العقوبة بل كان يجب في حكمته ورعايته للأصلح أن لا يخلقه ابتداء، أو يميته قبل التكليف فلما خلقه وألقاه في ورطة التكليف وأمهله ومكنه من المعاصي مع علمه بأن كل ذلك لا يفيده إلا مزيد استحقاق العقاب علمنا أنه ما خلقه إلا للنار كما قال وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ الآية.
التأويل:
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ لم يقل «ربكم» ليعلم أن في الآية غموضا لا يطلع عليه غيره صلى الله عليه وسلم وغير من أنعم الله به عليه من خواص متابعيه صلى الله عليه وسلم، وأنه تعالى لم يكلم أحدا وهو يجيبه في العدم إلا بني آدم كلمهم وهم غير موجودين وأجابوه وهم معدومون فجرى بالجود ما جرى لا بالوجود، فهذا بدايتهم وإلى أن تنتهي نهايتهم بأن يكون الله تعالى سمعهم وأبصارهم وألسنتهم إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا بأن رضوا بالأثنينية وما جعلوا إلى الوحدة بالفناء في الله بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ الذين أبطلوا استعداد الرجوع إلى الوحدة لله وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ بهذه الدلالات من البداية إلى النهاية وهو مقام الوحدة فَانْسَلَخَ مِنْها أي وقع فرخ همته العلية عن ذكر طلب الحق ومحبته فأدركته هزة الشيطان وجعلته من الهالكين ليعلم أن المعصوم من عصمة الله وأن السلك الواصل يجب أن لا يأمن مكر الله فلا يفتح على نفسه أبواب التنعم والترفه، ولا يميل إلى حب المال والجاه وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً وهم مظاهر القهر فَادْعُوهُ بِها بأن تتصفوا بصفاته بالنيات الصالحات وبالأعمال الزاكيات ثم تتخلقوا بها بالأحوال بتصفية مرآة القلب ومراقبته عن التعلق بما سوى الله(3/353)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
تعالى. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بأن لم توافق أقوالهم أفعالهم سَنَسْتَدْرِجُهُمْ فينحطون عن مراتبهم بالتدريج والله أعلم.
[سورة الأعراف (7) : الآيات 184 الى 198]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)
القراآت:
فَبِأَيِّ بتليين الهمزة حيث كان: الأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف وَيَذَرُهُمْ بالياء مرفوعا: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم غير عياش والمفضل وَيَذَرُهُمْ بالياء مجزوما: عياش وحمزة وعلي وخلف. الباقون: بالنون مرفوعا إِنْ أَنَا إِلَّا بالمد: أبو نشيط شركا بكسر الشين وسكون الراء: أبو جعفر ونافع وأبو بكر وحماد. الآخرون: شُرَكاءَ على الجميع يَتَّبِعُوكُمْ مخففا: نافع. الباقون: بالتشديد.
يَبْطِشُونَ بضم الطاء يزيد قُلِ ادْعُوا بكسر اللام للساكنين وكذا بابه: حمزة وعاصم وسهل ويعقوب وعياش. الآخرون: بالضم للإتباع كيدوني بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل والحلواني عن هشام في(3/354)
الوصل ينظرون بالياء في الحالين: يعقوب وافق سهل وعياش في الوصل. إن وليّ الله بياء واحدة مشددة: أبو زيد عن المفضل وشجاع وعياش إذا قرأ الإدغام الكبير وَلِيِّيَ بثلاث ياءات: رويس والبرجمي. الباقون: بياءين أولاهما مشددة مكسورة والثانية مفتوحة.
الوقوف:
مِنْ جِنَّةٍ ط مُبِينٌ هـ مِنْ شَيْءٍ لا لأن التقدير وفي أن عسى أَجَلُهُمْ ط لابتداء الاستفهام مع الفاء يُؤْمِنُونَ هـ هادِيَ لَهُ ط لمن قرأ وَيَذَرُهُمْ، بالرفع على الاستئناف، ومن جزم فلا وقف لأنه معطوف على موضع فَلا هادِيَ لَهُ، يَعْمَهُونَ هـ مُرْساها ط عِنْدَ رَبِّي ج لاختلاف الجملتين إِلَّا هُوَ ط وَالْأَرْضِ ط بَغْتَةً ط عَنْها ط لا يَعْلَمُونَ هـ ما شاءَ اللَّهُ ط مِنَ الْخَيْرِ ج لاحتمال أن يفسر السوء بالجوع فيكون معطوفا على جواب «لو» . واحتمال أن يفسر بالجنون الذي نسبوه إليه فيكون ابتداء نفي يُؤْمِنُونَ هـ إِلَيْها ج لأجل الفاء فَمَرَّتْ بِهِ ج لذلك الشَّاكِرِينَ هـ فِيما آتاهُما ج لابتداء التنزيه ووجه الوصل تعجيل التنزيه يُشْرِكُونَ هـ وَهُمْ يُخْلَقُونَ هـ والوصل أولى للعطف يَنْصُرُونَ هـ لا يَتَّبِعُوكُمْ ط صامتين هـ صادِقِينَ هـ يَمْشُونَ بِها ز لأن «أم» عاطفة مع أنها في معنى ابتداء استفهام للإنكار والثانية والثالثة كذلك يَسْمَعُونَ بِها ط ينظرون هـ الْكِتابَ ط والوصل أولى لتكون الواو عاطفة الصَّالِحِينَ هـ ويَنْصُرُونَ هـ لا يَسْمَعُوا ط لا يُبْصِرُونَ هـ.
التفسير:
إنه تعالى لما بالغ في تهديد الملحدين المعرضين عن آياته الغافلين عن التأمل في بيناته عاد إلى الجواب عن شبهاتهم فقال أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا وإذا علم أن الرؤية بالبصر حالة مخصوصة بالانكشاف والجلاء ولها مقدمة هي تقليب الحدقة إلى جهة المرئي، كذلك رؤية البصيرة وهي المسماة بالعلم واليقين حال متعينة بالوضوح والإنارة ولها مقدمة هي تقليب حدقة القلب إلى الجوانب طلبا لذلك، وهذه الحالة تسمى بنظر العقل وفكرته. وفي اللفظ محذوف والتقدير: أو لم يتفكروا فيعلموا ما بصاحبهم من جنة وهي حالة من الجنون كالجلسة. كان جهال أهل مكة ينسبونه إلى الجنون لوجهين:
أحدهما أنه صلى الله عليه وسلم كان يغشاه حالة عجيبة عند الوحي شبيهة بالغشي يتربد وجهه ويتغير لونه، والثاني أن فعله وهو الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والدعاء إلى الله تعالى كان مخالفا لفعلهم.
وعن الحسن وقتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ليلا على الصفا يدعو فخذا فخذا من قريش: يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله وعقابه. فقال قائلهم: إن صاحبكم هذا لمجنون واظب على الصياح إلى الصباح.
فأمرهم الله تعالى بالتفكر والتدبر في أمره وذلك(3/355)
أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى عبادة الله وحده ويقيم عليهم الدلائل القاطعة بألفاظ فصيحة عجز الأولون والآخرون عن معارضتها، وكان حسن الأخلاق طيب العشرة مرضي السيرة مواظبا على أعمال حسنة، صار بسببها قدوة لعقلاء العالمين، ومن المعلوم بالضرورة أن مثل هذا الإنسان لا يمكن وصفه بالجنون وإنما هو نذير مبين أرسله رب العالمين لترهيب الكافرين وترغيب المؤمنين. ولما كان النظر في أمر النبوة مفرعا على دلائل التوحيد قال أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي في مدلولاتهما. والملكوت الملك العظيم، وفي إنكار عدم النظر دلالة على وجوب الاستدلال فيما للعقل إليه سبيل وقد مر في هذا الكتاب كيفية دلالة السموات والأرض على وجود الصانع ولا سيما في سورة البقرة عند قوله إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [البقرة: 164] ثم قال وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي مما يقع عليه اسم الشيء من أجناس غير محصورة. والغرض التنبيه على أن الدلالة على التوحيد ليست مقصورة على السموات والأرض، بل كل ذرة من ذرات هذا العالم فيها برهان باهر ودليل ظاهر على الوحدانية لأنها مختصة بحيز معين من الأحياز غير المتناهية، وبقدر معين من الأقدار، وبوضع معين من الأوضاع وكذا الكلام في لونها وشكلها وطبعها وطعمها وسائر صفاتها، وكل واحد من هذه الاختصاصات لا بد له من مخصص ولا بد من الانتهاء إلى واجب واحد في ذاته وفي جميع اعتباراته وَأَنْ عَسى هي مخففة من الثقيلة والأصل «وأنه عسى» على أن الضمير للشأن وفي أن يكون ضمير الشأن أيضا والمعنى: أو لم ينظروا في أن الشأن والحديث عسى أَنْ يَكُونَ الشأن قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ الموت أو القيامة. وإذا كان أحد هذين الاحتمالين قائما وجب على العاقل المسارعة إلى هذا الفكر والنظر سعيا في تخليص النفس من هذا الخوف الشديد والخطر العظيم. أما قوله فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ فمتعلق بقوله عَسى أَنْ يَكُونَ كأنه قيل: لعل أجلهم قد أقترب فما لهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن قبل الفوت، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق وبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا. ودلالة في إطلاق لفظ الحديث على القرآن على أنه ليس بقديم لأن المراد بالحديث ما يرادف الكلام، ولو سلم فإنه محمول على الألفاظ والكلمات ولا نزاع في حدوثها، قوله مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ قد سبق تفسير مثله. ثم لما تكلم في النبوة والتوحيد والقضاء والقدر أتبعه الكلام في المعاد فقال يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ وأيضا لما ذكر اقتراب الأجل بين أن وقت الساعة مكتوم عن الأفهام ليصير ذلك حاملا للمكلفين على المسارعة إلى التوبة وأداء الفرائض. ومن السائل؟ عن ابن عباس أنهم اليهود قالوا: يا محمد أخبرنا متى الساعة إن كنت نبيا فإنا نعلم متى هي. وعن قتادة:(3/356)
إنهم قريش قالوا: يا محمد إن بيننا وبينك قرابة فأسرّ إلينا متى الساعة. قال في الكشاف:
الساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا، سميت القيامة ساعة لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها أو على العكس لطولها كما يقال للحبشي أبو البيضاء، أو لأنها عند الله على طولها كساعة من الساعات عند الخلق وأَيَّانَ استفهام عن الزمان ويختص بالأمور العظام نحو أَيَّانَ مُرْساها [النازعات: 42] وأَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ [الذاريات: 12] ولا يقال أيان نمت. وكسر همزته لغة بني سليم. وعن ابن جني أن اشتقاقه من أيّ «فعلان» منه وأيّ فعل من أويت إليه لأن البعض يأوي إلى الكل، وأنكر أن يكون اشتقاقه من «أين» لأنه للزمان و «أين» للمكان ولقلة «فعال» في الأسماء وكثرة «فعلان» فيها. وقال الأندلسي:
أصله «أي أو أن» حذفت الهمزة مع الياء الأخيرة فبقي «أيوان» فأدغم بعد القلب. وقيل: أصله «أي آن» بمعنى «أيّ حين» فخفف بحذف الهمزة فاتصلت الألف والنون بأي. ورد بأن «آنا» لا يستعمل إلا بلام التعريف. والمرسى بمعنى الإرساء والإثبات، والرسوّ الثبات والاستقرار ولعله لا يطلق إلا على ما فيه ثقل ومنه رسا الجبل وأرست السفينة ولا أثقل من الساعة على الخلائق قُلْ إِنَّما عِلْمُها أي علم وقت إرسائها وإثباتها وإقرارها عِنْدَ رَبِّي قد استأثر به لم يخبر به أحدا من ملك مقرب ولا نبي مرسل يكاد يخفيها من نفسه ليكون أدعى إلى الطاعة وأزجر عن المعصية كما أخفى وقت الموت لذلك لا يُجَلِّيها لا يظهرها لِوَقْتِها أي للخبر عن وقتها قبل مجيئها أحد إِلَّا هُوَ والحاصل أنه لا يقدر على إظهار وقتها المعين بالإخبار والإعلام إلا هو ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قال الحسن: أي ثقل مجيئها على أهل السموات لانشقاق السماء وتكوير الشمس وانتثار النجوم، وعلى أهل الأرض لأن في ذلك اليوم فناءهم وهلاكهم. أو ثقل هذا اليوم على الخلائق بما فيه من الشدائد والأهوال، أو ثقل تحصيل العلم بوقتها المعين عليهم أي أشكل واستبهم حتى صار ثقيلا على الأفهام لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً إلا فجأة على حين غفلة منكم. وهذه الجمل مؤكدات ومبينات لما تقدمها ولهذا فقد العاطف.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه» «1»
وروى الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «والذي نفس محمد بيده لتقومن الساعة وإن الرجل ليرفع اللقمة إلى فيه حتى تحول الساعة بينه وبين
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 40. مسلم في كتاب الفتن حديث 116. أحمد في مسنده (2/ 166) ، (3/ 421) .(3/357)
ذلك» «1» .
ثم كرر يَسْئَلُونَكَ للتأكيد ولما نيط به من زيادة قوله كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها فكان السؤال الأول عن وقت قيام الساعة، والسؤال الثاني عن كنه ثقل الساعة شدتها ومهابتها ولهذا خص باسم الله في قوله قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لأن أعظم أسماء الله مهابة هو الله، وأما الرب فيدل على التربية والرحمة دون الهيبة والعزة، وفي الحفي وجوه: فقيل إنه البار اللطيف و «عن» بمعنى «الباء» أي كأنك بارّ بهم لطيف العشرة معهم وهذا قول الحسن وقتادة والسدي، والضمير عائد إلى قريش التي ادعت القرابة وجعلوها وسيلة إلى أن يخبرهم بالساعة. والمعنى أنك لا تكون حفيا بهم ما داموا على كفرهم ولو أخبرت بوقتها وأمرت بالإخبار عنها لكنت مبلغه القريب والبعيد من غير تخصيص كسائر ما أوحي إليك. وعلى هذا القول جاز أن يكون عَنْها متعلقا ب يَسْئَلُونَكَ أي يسألونك عنها كأنك حفي أي عالم بها فحذف قوله «بها» لطول الكلام أو لأنه معلوم. وقيل: عَنْها متعلق بمحذوف. وحفي «فعيل» من حفي فلان بالمسألة أي استقصى، والمعنى كأنك بليغ في السؤال عنها لأن من أكثر السؤال علم. وهذا التركيب يفيد المبالغة ومنه إحفاء الشارب، وأحفى في المسألة إذا ألحف. وقيل: المراد كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه وتؤثره يعني أنك تكره السؤال عنها لأنه من علم الغيب الذي استأثر الله به وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه مختص بذلك العلم أو لا يعلمون أن القيامة حق وإنما يقولون إن هي إلا حياتنا الدنيا، أو لا يعلمون السبب الذي لأجله خفيت معرفة وقتها المعين عن الخلق. ثم أمر نبيه بإظهار ذلة العبودية حتى لا ينسب إليه نقص ولا يعاب من قبل عدم العلم بالغيب فقال قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وفيه أن قدرته قاصرة وعلمه قليل، وكل من كان عبدا كان كذلك، والقدرة الكاملة والعلم المحيط ليس إلا لله تعالى. واحتجت الأشاعرة بالآية في مسألة خلق الأعمال قالوا: الإيمان نفع والكفر ضر فوجب أن لا يحصلا إلا بمشيئة الله تعالى. وأجابت المعتزلة بأن المراد لا أملك لنفسي من النفع والضر إلا قدر ما شاء الله أن يقدرني عليه ويمكنني منه. وظاهر الآية وإن كان عاما إلا أنها مخصوصة بصورة النزول. قال الكلبي: إن أهل مكة قالوا: يا محمد ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري فتربح، وبالأرض التي يريد أن تجدب فترتحل عنها إلى ما قد أخصب، فأنزل الله هذه الآية. فالمراد بالخير في قوله وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ هو جلب منافع الدنيا وخيراتها من الخصب والأرباح والأكساب.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (2/ 369) .(3/358)
وقيل: المراد ما يتصل بأمر الدين يعني لو كنت أعلم بالغيب لكنت أعلم أن الدعوة إلى الدين الحق تؤثر في هذا ولا تؤثر في ذلك فكنت أشتغل بدعوة هذا دون ذاك.
وقال بعضهم: لما رجع صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق جاء في الطريق ريح نفرت ناقته. منها فأخبر صلى الله عليه وسلم بموت رفاعة وكان فيه غيظ للمنافقين وقال: «انظروا أين ناقتي» . فقال عبد الله بن أبيّ لقومه: ألا تعجبون من هذا الرجل يخبر عن موت رجل بالمدينة ولا يعرف أين ناقته. فقال صلى الله عليه وآله: «إن ناسا من المنافقين قالوا كيت وكيت وناقتي في هذا الشعب قد تعلق زمامها بشجرة» فوجدوها على ما قال فنزلت.
أما قوله وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ فمعناه لكان حالي على خلاف ما هي عليه من المغلوبية في بعض الحروب والخسران في بعض التجارات والأخطاء في بعض التدبير إِنْ أَنَا إلا عبد مرسل للنذارة والبشارة وما من شأني أن أعلم الغيب. وقوله لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إما أن يتعلق بالبشير وحده ويكون المتعلق بالنذير وهو للكافرين محذوفا للعلم به كقوله سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: 81] أو يتعلق بالوصفين جميعا إلا أن المؤمنين لما كانوا هم المنتفعين بها خصوا بالذكر كقوله هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة: 2] واعلم أن أكثر ما جاء في القرآن من لفظي الضر والنفع معا جاءا بتقديم لفظ الضر على النفع وهو الأصل لأن العابد يعبد معبوده خوفا من عقابه أولا ثم طمعا في ثوابه ثانيا يؤيده قوله يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً [السجدة:
16] وحيثما تقدم النفع على الضر فذلك لسابقة لفظ تضمن معنى نفع كما في هذه السورة تقدم لفظ الهداية على الضلال في قوله مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ [الكهف:
17] وتقدم الخير على السوء في قوله لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ وفي الرعد تقدم ذكر الركوع في قوله طَوْعاً وَكَرْهاً [آل عمران: 83] والطوع نفع. وفي الفرقان تقدم قوله هذا عَذْبٌ فُراتٌ [الفرقان: 53] وهو نفع وفي سبأ تقدم البسط في قوله اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [الرعد: 26] وقس على هذا. ثم رجع إلى تقرير أمر التوحيد وإبطال الشرك فقال هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ والمروي عن ابن عباس أنها نفس آدم وقد تقدم مثل ذلك في أول سورة النساء. قال مجاهد: كان لا يعيش لآدم وامرأته ولد فقال لهما الشيطان: إذا ولد لكما ولد فسمياه عبد الحرث وكان اسم إبليس في الملائكة الحرث وذلك قوله فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً ولدا سويا جَعَلا يعني آدم وحوّاء لَهُ شُرَكاءَ والمراد تسميته بعبد الحرث وهذا تمام القصة وقد زيفها النقاد بوجوه منها:
أنه تعالى قال فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ بلفظ الجمع لا التثنية ومنها قوله أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً إلى آخر الآيات وفي ذلك تصريح بأن المراد الأصنام ولو كان المراد إبليس(3/359)
لكان «أيشركون ما لا يخلق شيئا وهو يخلق» ؟. ومنها أن آدم عليه السلام كان عالما بجميع الأسماء فكيف ضاقت عليه الأسماء، أم كيف لم يعرف أن اسم إبليس كان حارثا، أم كيف لم يتنبه لغدر إبليس بعد أن جرى عليه منه ما جرى؟ ومنها أنه أراد بذلك اسم علم أو اسم صفة والأوّل لا يستلزم محذورا إلا أن أسماء الأعلام لا تفيد في المسميات فائدة فلا يلزم الإشراك، والثاني يوجب الكفر الصريح ولا قائل بإمكان نسبته إلى آدم فعند ذلك ذكر العلماء في تأويله وجوها: أحدها أن هذا مثل فكأنه تعالى يقول هو الذي خلقكم أي كل واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنسانا يساويه في الإنسانية يسكن أي تلك النفس، فذكر بعد ما أنث حملا على المعنى ولأن الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويطمئن إليها فكان التذكير أحسن طباقا للمعنى فَلَمَّا تَغَشَّاها أي جامعها لأنه إذا علاها صار كالغاشية لها حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً قالوا: يريد النطفة. والحمل بالفتح ما كان في البطن أو على رأس الجرة، وبكسر الحاء ما حمل على الظهر أو على الدابة فَمَرَّتْ بِهِ أي استمرت وقضت على ذلك الحمل من غير إذلاق. وقيل: فقامت وقعدت به من غير ما ثقل. وقيل:
المراد بالخفة أنها لم تلق ما تلقاه بعض الحبالى من حملهن من الكرب والأذى فَلَمَّا أَثْقَلَتْ كان وقت ثقل حملها ولادتها دَعَوَا أي الزوج والزوجة اللَّهَ رَبَّهُما ومالك أمرهما الذي هو الحقيق بأن يدعى ويلتجأ إليه فقالا لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً ولدا قد صلح بدنه أو ولد ذكرا لأن الذكورة من الصلاح والجودة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لنعمائك فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً كما طلبا جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ ومن قرأ شركا فعلى حذف المضاف أي ذوي شرك وهم الشركاء أيضا. أو المراد أحدث لله إشراكا في الولد لأنهم تارة ينسبون ذلك الولد إلى الطبائع، وتارة إلى الكواكب، وتارة إلى الأوثان والأصنام، وثانيها أن يكون الخطاب لقريش الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم آل قصيّ والمعنى: هو الذي خلقكم من نفس قصي وجعل من جنسها زوجة عربية قرشية، فلما أتاهما ما طلبا من الولد الصالح السوي سميا أولادهما الأربعة بعبد مناف وعبد العزى وعبد قصي وعبد الدار. والضمير في يُشْرِكُونَ لهما ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك، وثالثها سلمنا أن الآية وردت في قصة آدم إلا أنه لا يجوز أن يكون قوله جَعَلا واردا بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتبعيد؟. ثم قال فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذين يقولون إن آدم عليه السلام كان يعبد الأصنام ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الإنعام ثم يقول لذلك المنعم إن ذلك المنعم عليه يقصد إيذاءك وإيصال الشر إليك فيقول ذلك المنعم: فعلت في حق فلان كذا(3/360)