تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام. وقوله: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عطف على أَنْ يُؤْتى والضمير في يُحاجُّوكُمْ ل أَحَدٌ لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة. قال: ومعنى الاعتراض، أن الهدى هدى الله، من شاء أن يلطف به حتى يسلم أو يزيد ثباته على الإسلام كان ذلك، ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم أي ستركم تصديقكم عن المسلمين والمشركين. وكذلك قوله:
قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ مؤكد للاعتراض الأول، أو هو اعتراض آخر يجيء بعد تمام الكلام كقوله: وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل: 34] بعد قوله: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها [النمل: 34] فإن قيل: إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم عنه، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضا بالإقرار؟ ربما يدل على صحة دين محمد صلى الله عليه وسلم عند أتباعهم وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب. فالجواب:
ليس المراد من هذا النهي الأمر بإفشاء هذا التصديق فيما بين أتباعهم، بل المراد أنه ان اتفق منكم تكلم بهذا فلا يكن إلا عند خويصتكم وأصحاب أسراركم. على أنه يحتمل أن يكون شائعا ولكن البغي والحسد كان يحملهم على الكتمان من غيرهم. فإن قيل: كيف وقع قوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ فيما بين جزأي كلام واحد؟ وهذا لا يليق بكلام الفصحاء؟
قلت: قال القفال: يحتمل أن يكون هذا كلاما أمر الله نبيه أن يقوله عند ما وصل الكلام إلى هذا الحد. كأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولا باطلا لا جرم أدب رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقابله بقول حق، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولا فيه كفر فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة: آمنت بالله أو لا إله إلا الله، أو تعالى الله، ثم يعود إلى تلك الحكاية. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الهدى هدى الله وأن الفضل بيد. واعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين: أحدهما أن يؤمنوا وجه النهار ويكفروا آخره ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام فأجاب بقوله: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ. وذلك أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة عين ولا أثر.
وثانيها أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتوا من الكتاب والحكمة والنبوة فأجاب عنه بقوله: قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ والمراد بالفضل الرسالة وهو في اللغة الزيادة، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان. والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير.
ومعنى قوله بِيَدِ اللَّهِ أنه مالك له غالب عليه يوضحه قوله يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ. وفيه دليل(2/189)
على أن النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق لأنه جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز وَاللَّهُ واسِعٌ كامل القدرة عَلِيمٌ بالحكم والمصالح وبمواقع فضله فلهذا يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ والحاصل أنه بين بقوله: إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ أنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاكم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها، فإن الزيادة من جنس المزيد عليه. ثم قال: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ والرحمة المضافة إليه تعالى أمر أجل من ذلك الفضل لأنه لا يكون من جنس ما آتاهم بل يكون أشرف وأعظم. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فمن قصر إنعامه وإكرامه على مراتب معينة وعلى أشخاص معينين كان جاهلا بكمال الله تعالى في قدرته وحكمته. ثم إنه تعالى كذبهم في دعواهم الاختصاص بالمناصب العالية فإن فيهم الخيانة المستقبحة في جميع الأديان ونقص العهد والكذب على الله إلى غير ذلك من القبائح فقال: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الآية. فيها دلالة على انقسامهم إلى قسمين: أهل للأمانة وأهل للخيانة. فقيل: إن أهل الأمانة هم الذي أسلموا، أما الذين بقوا على اليهودية فهم مصرون على الخيانة لأن مذهبهم أنه يحل لهم قتل كل من يخالفهم في الدين وأخذ أموالهم. وقيل:
إن أصحاب الأمانة هم النصارى لغلبة الأمانة عليهم، وأهل الخيانة اليهود لكثرة ذلك فيهم.
وقال ابن عباس: مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ هو عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداه إليه ومَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ هو فنحاص بن عازورا استودعه رجل من قريش دينارا فجحده وخانه. وقال أهل الحقيقة: هي فيمن يؤتى كثيرا من الدنيا فيخرج عن عهدته بعدم الالتفات إليه وقطع النظر عنه ثقة بالله وتوكلا عليه واكتفاء به، وفيمن يمتحن بالدنيا فيكون همه مقصورا عليها معرضا عما سواها غير مؤد حقوقها.
ويقال: أمنته بكذا وعلى كذا، فمعنى الباء إلصاق الأمانة بحفظها وحياطتها، ومعنى «على» استعلاؤها والاستيلاء عليها. والمراد بالقنطار والدينار هاهنا العدد الكثير والعدد القليل فلا حاجة إلى تعيينه. وأما الأقوال فيه فقد مرت في أوائل السورة. وقد يستدل بما روينا عن ابن عباس أن القنطار ألف ومائتا أوقية. ويدخل تحت القنطار والدينار العين والدين، لأن الإنسان قد يأتمن غيره على الوديعة وعلى المبايعة وعلى المقارضة، وليس في الآية ما يدل على التعيين لكنه نقل عن ابن عباس أنه محمول على المبايعة فقال: منهم من تبايعه بثمن القنطار فيؤده إليك، ومنهم من تبايعه بثمن الدينار فلا يؤده إليك. ونقلنا عنه أيضا أنها نزلت في الوديعة. وأما قوله إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً فمنهم من حمله على حقيقته. قال السدي:
يعني إلا مدة دوامك عليه يا صاحب الحق قائما على رأسه مجتمعا معه ملازما إياه، فإن(2/190)
أنظرت وأخرت أنكر. ومنهم من يحمله على الإلحاح والخصومة والتقاضي والمطالبة. قال ابن قتيبة: أصله أن الطالب للشيء يقوم به والتارك له يقعد عنه ومنه قوله تعالى: أُمَّةٌ قائِمَةٌ [آل عمران: 113] أي عاملة بأمر الله غير تاركة له. وقال أبو علي الفارسي: إنه في اللغة الدوام والثبات ومنه قوله: دِيناً قِيَماً [الأنعام: 161] أي ثابتا لا ينسخ. فمعنى الآية إلا دائما ثابتا في مطالبتك إياه بذلك المال. ذلِكَ الاستحلال وترك الأداء الذي دل عليه لا يؤده بسبب أنهم يقولون ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيل بالخطاب والعتاب. إما لأنهم يبالغون في التعصب لدينهم حتى استحلوا قتل المخالف وأخذ ماله بأي طريق كان، وإنا لأنهم قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه والخلق لنا عبيد فلا سبيل لأحد علينا إذا أكلنا أموال عبيدنا، ويحتمل أن يكونوا اعتقدوا في الإسلام أنه كفر فيحكمون على المسلمين بالردة فيستحلون دماءهم وأموالهم.
روي أن اليهود عاملوا رجالا في الجاهلية من قريش.
فلما أسلموا تقاضوهم فقالوا: ليس لكم علينا حق حيث تركتم دينكم، وادعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم
فلا جرم قال تعالى: وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بادعائهم أن ذلك في كتابهم وَهُمْ يَعْلَمُونَ أنهم كاذبون، وهذه غاية الجرأة والجهالة. أو يعلمون حرمة الخيانة، أو يعلمون ما على الخائن من الإثم.
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عند نزولها: كذب أعداء الله ما من شيء في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر.
وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال: إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة. قال: فتقولون ماذا؟ قال: نقول ليس علينا في ذلك بأس. قال: هذا كما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل. إنهم إذا أدوا الجزية لم يحل أكل أموالهم إلا بطيب أنفسهم، بَلى قال الزجاج: عندي وقف التمام هاهنا لأنه لمجرد نفي ما قبله أي بلى عليهم سبيل في ذلك وما بعده استئناف، وقال غيره: إنه يذكر في ابتداء كلام يقع جوابا عن المنفي قبله. فقولهم: ليس علينا جناح قائم مقام قوله: نحن أحباء الله تعالى فقيل لهم: إن أهل الوفاء بالعهد وأهل التقى هم الذين يحبهم الله. وعلى هذا فلا وقف على «بلى» . وفيه أن اليهود ليسوا من الوفاء والتقى في شيء، ولو أنهم أوفوا بالعهود أوفوا أول كل شيء بالعهد الذي أخذه الله تعالى في كتابهم من الإيمان بنبي آخر الزمان وهو محمد صلى الله عليه وسلم. ولو أنهم اتقوا الله لم يكذبوا عليه ولم يحرفوا كتابه. وعموم لفظ المتقين قائم مقام الضمير العائد إلى المبتدأ والضمير في بِعَهْدِهِ يجوز أن يرجع إلى مَنْ ويجوز أن يرجع إلى اسم الله كقوله في الآية التالية بِعَهْدِ اللَّهِ. واعلم أن الوفاء والتقى أصلان لجميع مكارم الأخلاق. فالوفاء بالعهد يشمل عهد الميثاق وعهد الله تعالى بالتزام التكاليف الخاصة(2/191)
والعامة، والتقوى تتممها وتزينها حتى يأتي بها على وجه الكمال من غير شائبة الاختلال.
فكل متق موف بالعهد ولا يلزم العكس، فلهذا اقتصر على قوله: يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ دون أن يقول يحب الموفين أو الموفين والمتقين فافهم. ثم إنه سبحانه لما وصف اليهود بالخيانة في أموال الناس- والخيانة فيها لا تتمشى إلا بالأيمان الكاذبة غالبا- لا جرم أردفها بالوعيد عليها. وأيضا الخيانة في العهود وفي تعظيم أسماء الله تناسب الخيانة في الأموال، فلا جرم قال: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ الآية. واختلفت الروايات في سبب النزول فمنهم من خصها باليهود لأن الآيات السابقة فيهم وكذا اللاحقة، ومنهم من خصها بغيرهم والروايات هذه.
قال عكرمة: نزلت في أبي رافع ولبابة بن أبي الحقيق وحيي بن أخطب وغيرهم من رؤوس اليهود. كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة في شأن محمد صلى الله عليه وسلم وبدلوه وكتبوا بأيديهم غيره، وحلفوا أنه من عند الله كيلا يفوتهم الرشا والمآكل التي كانت لهم على أتباعهم. وقال الكلبي: إن ناسا من علماء اليهود أولي فاقة أصابتهم سنة فاقتحموا إلى كعب بن الأشرف بالمدينة. فسألهم كعب: هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله في كتابكم؟ قالوا: نعم، وما تعلمه أنت؟ قال: لا. قالوا: فإنا نشهد أنه عبد الله ورسوله. قال كعب: لقد حرمكم الله خيرا كثيرا. لقد قدمتم عليّ وأنا أريد أن أميركم وأكسو عيالكم فحرمكم الله وحرم عيالكم.
فقالوا: فإنه شبه لنا فرويدا حتى نلقاه. فانطلقوا وكتبوا صفة سوى صفته ثم انتهوا إلى رسول الله فكلموه وسألوه ثم رجعوا فقالوا: لقد كنا نرى أنه رسول الله فلما أتيناه إذا هو ليس بالنعت الذي نعت لنا، ووجدنا نعته مخالفا للذي عندنا. وأخرجوا الذي كتبوا فنظر إليه كعب ففرح وأمارهم وأنفق عليهم فنزلت.
وعن الأشعث بن قيس: خاصمت رجلا في بئر فاختصمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: شاهداك أو يمينه. فقلت: إذا يحلف ولا يبالي.
فقال صلى الله عليه وسلم: «من حلف عليّ يمين يستحق بها مالا هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان» ونزلت الآية على وفقه.
وقيل: نزلت في رجل أقام سلعة في السوق فحلف لقد أعطى بها ما لم يعطه. ومعنى يشترون يستبدلون، وعهود الله مواثيقه، واليمين هي التي يؤكد الإنسان بها خبره من وعد أو وعيد أو إنكار أو إقرار بذكر اسم الله تعالى أو صفة من صفاته أو ما يجري مجراه. والثمن القليل متاع الدنيا من المال والجاه ونحوهما. ثم إنه تعالى رتب على الشراء بعهد الله وبأيمانهم ثمنا قليلا خمسة أنواع من الجزاء فقوله: أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إشارة إلى أنه لا نصيب لهم في منافعها ونعيمها. وقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ إشارة إلى حرمانهم عما عند الله من الكرامات والقرب.
وقوله: وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ إشارة إلى ما يحصل لهم هنالك من صنوف الآلام وضروب(2/192)
الأهوال. قال المحققون ومنهم القفال: المقصود من هذه الكلمات بيان شدة سخط الله عليهم لأن من منع كلامه في الدنيا غيره فإنما ذلك لسخطه عليه، وقد يأمره بحجبه عنه ويقول: لا أكلمك ولا أرى وجهك. وإذا جرى ذكره لم يذكره بالجميل. قال في الكشاف:
لا ينظر إليهم مجاز عن الاستهانة بهم والسخط عليهم. تقول: فلان لا ينظر إلى فلان تريد نفي اعتداده به. وأصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان وإن لم يكن ثمة نظر. ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجردا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر. قلت: لعله أراد بهذا المجاز الاستعارة كأنه شبه هذا النظر بذاك النظر، ثم حذف المشبه وأداة التشبيه فبقي استعارة. وفي التفسير الكبير: لا يجوز أن يكون المراد من هذا النظر الرؤية لأنه تعالى يراهم كما يرى غيرهم، ولا يجوز أن يكون المراد من النظر تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التماسا لرؤيته لأن هذا من صفات الأجسام وهو تعالى منزه عن ذلك، وقد احتج المخالف بهذه الآية على أن النظر المقرون بحرف «إلى» ليس بمعنى الرؤية وإلا لزم من هذه الآية أن لا يكون الله رائيا وذلك باطل. قلت: يجوز أن يراد بهذا النظر النظر المعهود وهو الذي سيخص الله تعالى به أولياءه من أنه ينظر إليهم وينظرون إليه وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] وعلى هذا جاز أن يكون النظر بمعنى الرؤية لأنه لا يلزم من نفي رؤية يراه العباد أيضا وقتئذ نفي رؤية لا يرونه حينئذ وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً عن ابن عباس هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ قال القفال: معناه أن يعمدوا إلى اللفظة فيحرفونها في حركات الإعراب تحريفا يتغير به المعنى. فإن الليّ عبارة عن عطف الشيء ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج وهذا كثير في لسان العرب فلا يبعد مثله في العبرانية. وإنما كانوا يفعلون مثل ذلك في الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفي غيرها بحسب أغراضهم الفاسدة. وفي الكشاف: أي يقتلونها بقراءته عن الصحيح إلى المحرف. أقول: وذلك أن لي اللسان أشبه بالتشدق والتنطع والتكلف مذموم، فعبر الله عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بليّ اللسان ذما لهم وتقريعا، ولم يعبر عنها بالقراءة، والعرب تفرق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد لِتَحْسَبُوهُ أي المحرف الذي دل عليه يَلْوُونَ ويجوز أن يقدر مضاف محذوف أي يعطفون ألسنتهم بشبه الكتاب لتحسبوا ذلك الشبه من الكتاب وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ نفى أوّلا كونه من الكتاب، ثم عطف عليه النفي العام(2/193)
ليعلم أنه كما أنه ليس من الكتاب ليس بسنة ولا إجماع ولا قياس. فإن كل هذا يصدق عليه أنه من عند الله بمعنى كونه حكما من أحكامه المستنبطة من الأصول. ويجوز أن يراد بالكتاب التوراة فقط وبقولهم: هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أنه موجود في كتاب سائر الأنبياء. وذلك أن القوم في نسبة ذلك المحرف إلى الله كانوا متحيرين خابطين. فإن وجدوا قوما من الأغمار الجاهلين بالتوراة قالوا: إنه من التوراة. وإن وجدوا قوما عقلاء زعموا أنه موجود في كتب سائر الأنبياء. واعلم أنه إن كان المراد من التحريف تغيير ألفاظ التوراة أو إعراب ألفاظها فالذين أقدموا على ذلك يجب أن يكونوا طائفة يسيرة يجوز التواطؤ منهم على الكذب، وإن كان المعنى تشويش دلالة تلك الآيات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بسبب إلقاء الشكوك والشبهات في وجوه الاستدلالات كما يفعله المبطلون في ملتنا إذا استدل المحقون بآية من كتاب الله تعالى لم يبعد إطباق الخلق الكثير والجم الغفير عليه. احتج الجبائي والكعبي بالآية على أن فعل العبد ليس بخلق الله تعالى وإلا صدق اليهود في قولهم هو من عند الله، لكن الله كذبهم. والغلط فيه أن القوم ما ادعوا أن التحريف من عند الله وبخلقه، وإنما ادعوا أن المحرف منزل من عند الله، أو هو حكم من أحكامه فتوجه التكذيب تكذيب الله إياهم إلى هذا الذي زعموا لا إلى ما لم يزعموا، فلم يبق لهما في الآية استدلال. ثم من جملة ما حرفه أهل الكتاب أن زعموا أن عيسى كان يدعي الإلهية ويأمر قومه بعبادته فلهذا قال عز من قائل: ما كانَ لِبَشَرٍ الآية.
وقيل: إن أبا رافع القرظي من اليهود والسيد من نصارى نجران قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال: معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني فنزلت.
وقيل: إن رجلا قال: يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض أفلا نسجد لك؟ قال: لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله.
وقيل: زعمت اليهود أن أحدا لا ينال من درجات الفضل ما نالوه فقال لهم الله: إن كان الأمر كما قلتم وجب أن لا تشتغلوا باستعباد الناس واستخدامهم وهذا الوجه يحتمله لفظ الآية فإن قوله: ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ كقوله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: 31] ومعنى قوله: ما كانَ لِبَشَرٍ قال الأصم: لو أرادوا أن يقولوا ذلك لمنعهم الله منه نظيره وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: 44، 45] لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ [الإسراء: 74، 75] وقيل: معناه أنه تعالى لا يشرف عبدا بالنبوة إلا إذا علم منه أنه لا يقول مثل ذلك الكلام. وقيل: إن الرسول يدعي تبليغ الأحكام عن الله تعالى ويحتج(2/194)
على صدقه بالمعجزة. فلو أمرهم بعبادة نفسه بطل دلالة المعجزة على كونه صادقا.
والتحقيق أن الأنبياء موصوفون بصفات لا يحصل معها هذا الادعاء، لأن النفس ما لم تكن كاملة بحسب قوتها النظرية والعملية لم تكن مستعدة لقبول نزول الكتاب السماوي عليه وللحكم وهو فهم ذلك الكتاب وبيانه. وقد يعبر عنه بالسنة والنبوة وهو كونه مأمورا بتبليغ ما فهم الى الخلق، وما أحسن هذا الترتيب، وإذا كانت كاملة بحسب القوتين وما يتبعهما امتنع من مثله مثل هذا القول والاعتقاد، لأن غاية جهد النبي وقصارى أمره صرف القلوب والأرواح من الخلق إلى الحق، فكيف يعقل منه ضده؟ فتبين أنه ليس المراد من قوله: ما كانَ لِبَشَرٍ إلى قوله: كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ أنه يحرم عليه هذا الكلام لأن ذلك محرم على كل الخلق. ولو كان المراد منه التحريم لم يكن فيه تكذيب للنصارى في ادعائهم ذلك على المسيح، لأن من ادعى على رجل فعلا فقيل له إن فلانا لا يحل له أن يفعل ذلك لم يكن مكذبا له فيما ادعاه عليه. ومثله ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم: 35] على سبيل النفي لذلك عن نفسه لا على وجه التحريم والحظر. وكذا قوله: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ [آل عمران: 161] ومعناه النفي لا النهي. ومعنى «ثم» في قوله: ثُمَّ يَقُولَ تبعيد هذا القول عن مثل ذلك البشر وَلكِنْ كُونُوا ولكن يقول كونوا رَبَّانِيِّينَ قال سيبويه:
الرباني منسوب الى الرب بمعنى كونه عالما به ومواظبا على طاعته كما يقال: رجل إلهي إذا كان مقبلا على معرفة الإله وطاعته. وزيادة الألف والنون في النسبة فقط للدلالة على كمال هذه الصفة كما قالوا: شعراني ولحياني ورقباني للموصوف بكثرة الشعر وطول اللحية وغلظ الرقبة. وقال المبرد: والربانيون أرباب العلم واحدها ربان وهو الذي يرب العلم ويرب الناس بتعليمهم وإصلاحهم والقيام بأمرهم. والألف والنون كما في ريان وعطشان لا يختص بحال النسبة. والربانيون بهذا التفسير يشمل الولاة أيضا. قال القفال: يحتمل أن يكون الوالي يسمى ربانيا لأن يطاع كالرب تعالى فينسب إليه. فمعنى الآية: ولكن يدعوكم إلى أن تكونوا ملوكا وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى ومواظبتكم على طاعته. وقال أبو عبيدة:
أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربية إنما هي عبرانية أو سريانية. وسواء كانت عربية أو عبرية تدل على الإنسان الذي علم وعمل بما علم ثم اشتغل بتعليم طرق الخير. عن محمد ابن الحنفية أنه قال حين مات ابن عباس: اليوم مات رباني هذه الأمة. والباء في قوله: بِما كُنْتُمْ للسببية و «ما» مصدرية وتُعَلِّمُونَ من التعليم أو العلم على القراءتين فيعلم منه أن التعليم أو العلم أو الدراسة وهي القراءة توجب على صاحبها كونه ربانيا، والسبب لا محالة مغاير للمسبب فهذا يقتضي أن يكون كونه ربانيا أمرا مغايرا لكونه عالما ومعلما ومواظبا على(2/195)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
قراءة العلم، وما ذاك إلا بأن يكون تعلمه لله وتعليمه لله ودراسته لله. فمن اشتغل بالعلم والتعليم والدراسة لا لهذا الغرض خاب وخسر وكان السبب بينه وبين ربه منقطعا وكان مثله كمن غرس شجرة تونقه بمنظرها ولا تنفعه بثمرها ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «نعوذ بالله من قلب لا يخشع ومن علم لا ينفع» «1»
وفي الآية دليل على صحة
قوله صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» «2»
تأمل تفهم بإذن الله. وَلا يَأْمُرَكُمْ من قرأ بالنصب فوجهان: أحدهما أن تجعل «لا» مزيدة لتأكيد النفي أي ما ينبغي لبشر أن ينصبه الله منصب الدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة ثم يخالفه إلى أن يأمر الناس بعبادة نفسه ويأمركم أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً كما نقول: ما كان لزيد أن أكرمه ثم يهينني ويستخف بي. والثاني أن يكون حرف النفي غير زائد فيرجع المعنى إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينهي قريشا عن عبادة الملائكة، واليهود والنصارى عن عبادة عزير والمسيح بحيث قالوا له: أنتخذك ربا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادة نفسه وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء، فيكون عدم الأمر في معنى النهي. ويراد بالنبيين غيره صلى الله عليه وسلم كأنه أخرج نفسه بتلك الدعوى عن زمرة الأنبياء. ومن قرأ بالرفع على الاستئناف فظاهر وتنصره قراءة عبد الله بن مسعود ولن يأمركم والضمير فيه على قراءة الرفع- قال الزجاج- لله. وقال ابن جريج لمحمد صلى الله عليه وسلم، وقيل: لعيسى. وإنما خص الملائكة والنبيين بالذكر لأن الذين وصفوا بعبادة غير الله لم يحك عنهم إلا عبادة الملائكة وعبادة المسيح. أَيَأْمُرُكُمْ أي البشر وقيل: الله بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ومعنى الاستفهام الإنكار أي إنه لا يفعل ذلك. قيل: وفيه دليل على أن المخاطبين كانوا مسلمين وهم الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسجدوا له. قلت: وضع الشيء ابتداء أسهل من رفع نقيضه ثم وضعه، فيحتمل أن يكون المراد ما صح ولا يعقل أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته بعبادة نفسه أول ما استنبىء، فكيف يعقل أن يأمرهم بذلك بعد الفهم بالإسلام واستنارة باطنهم بنور الهدى والإيمان بالله؟
[سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 91]
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الذكر حديث 73. أبو داود في كتاب الوتر باب 32. الترمذي في كتاب الدعوات باب 68. النسائي في كتاب الاستعاذة باب 2، 13. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 23.
أحمد في مسنده (2/ 167) .
(2) رواه البخاري في كتاب العلم باب 10. أبو داود في كتاب العلم باب 1. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 17. الدارمي في كتاب المقدمة باب 32. أحمد في مسنده (5/ 196) .(2/196)
القراآت:
لَما بكسر اللام حمزة والخزاعي. الباقون بفتحها. آتيناكم على صيغة جمع المتكلم: أبو جعفر ونافع. الباقون آتَيْتُكُمْ على الوحدة يَبْغُونَ بياء الغيبة وترجعون بتاء الخطاب مبنيا للمفعول: أبو عمرو غير عباس. وقرأ عباس وسهل وحفص بالياء التحتانية فيهما. وقرأ يعقوب يَبْغُونَ بالياء التحتانية يُرْجَعُونَ بالتحتانية مبنيا للفاعل. الباقون بتاء الخطاب فيهما. مِلْءُ بالهمزة الْأَرْضِ بغير الهمز. روى النجاري عن ورش وروى الأصفهاني عنه بغير همز فيهما. الباقون بالهمز فيهما.
الوقوف:
وَلَتَنْصُرُنَّهُ ط إِصْرِي ط أَقْرَرْنا ط الشَّاهِدِينَ هـ الْفاسِقُونَ هـ يُرْجَعُونَ هـ مِنْ رَبِّهِمْ ص مِنْهُمْ ج مُسْلِمُونَ هـ مِنْهُ ج لعطف المختلفتين الْخاسِرِينَ هـ الْبَيِّناتُ ط الظَّالِمِينَ هـ أَجْمَعِينَ هـ فِيها ج (لا) يُنْظَرُونَ هـ (لا) للاستثناء رَحِيمٌ هـ تَوْبَتُهُمْ ج الضَّالُّونَ هـ، افْتَدى بِهِ ط ناصِرِينَ هـ.
التفسير:
الغرض من هذه الآيات تعديد الأشياء المعروفة عند أهل الكتاب مما يدل على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم قطعا لأعذارهم وإظهارا لعنادهم من جملتها أخذ ميثاق النبيين. قال الزجاج: تقديره واذكر يا محمد في القرآن إذ أخذ الله. وقيل: واذكروا يا أهل الكتاب.
وإضافة الميثاق إلى النبيين إما أن تكون من إضافة العهد الى المعاهد منه، أو من إضافة(2/197)
العهد إلى المعاهد كما تقول: ميثاق الله وعهد الله. أما الاحتمال الأول فيؤيده ما يشعر به ظاهر اللفظ من أن آخذ الميثاق هو الله والمأخوذ منهم النبيون وهو قول سعيد بن جبير والحسن وطاوس. ثم على هذا القول ما
نقل عن علي أنه ما بعث آدم ومن بعده من الأنبياء إلا أخذ عليهم العهد لئن بعث محمد صلى الله عليه وسلم وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه.
والذي يدل على صحته ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لقد جئتكم بها بيضاء نقية أما والله لو كان موسى بن عمران حيا لما وسعه إلا اتباعي» «1»
فهذا على سبيل الفرض والتقدير، وهو أنهم لو كانوا أحياء لوجب عليهم الإيمان بمحمد وإلا فالميت لا يكون مكلفا. وقيل: المراد أولاد النبيين وهم بنو إسرائيل على حذف المضاف، أو أمة النبيين فقد ورد كثيرا في القرآن لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ويراد به الأمة كقوله يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطلاق: 1] وقيل: النبيون أهل الكتاب وقد ورد على زعمهم تهكما بهم لأنهم كانوا يقولون نحن أولى بالنبوة من محمد صلى الله عليه وسلم لأنا أهل الكتاب ومنا كان النبيون. ويؤكده قراءة أبي وابن مسعود وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب وأما الاحتمال الثاني فالمعنى أن الأنبياء عليهم السلام كانوا يأخذون الميثاق من أممهم بأنه إذا بعث محمد صلى الله عليه وسلم فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به، ويؤكده أنه تعالى حكم بأنهم إن تولوا كانوا فاسقين وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء وإنما يليق بالأمم. وروي عن ابن عباس أنه قيل له: إن أصحاب عبد الله يقرأون وإذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب ونحن نقرأ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ فقال: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم لَما آتَيْتُكُمْ من قرأ بفتح اللام ففيه وجهان: أحدهما: أن «ما» تكون موصولة واللام للابتداء وخبره لَتُؤْمِنُنَّ واللام فيه جواب القسم المقدور. والعائد الى الموصول في آتَيْتُكُمْ محذوف وفي جاءَكُمْ ما يدل عليه لِما مَعَكُمْ لأنه في معنى «ما آتيتكم» والتقدير للذي آتيتكموه من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق له والله لتؤمنن به- وثانيهما- واختاره سيبويه وغيره- كيلا يفتقر إلى تكلف الرابط أن يقال: أخذ الميثاق في معنى الاستحلاف. و «ما» هي المتضمنة لمعنى الشرط وحينئذ يحتاج القسم إلى الجواب والشرط إلى الجزاء، وليس هاهنا ما يصلح لكل منهما إلا الإيمان والنصرة. فالأصح في هذا المقام أن يجعل المذكور جوابا للقسم ظاهرا، ولهذا أدخل اللام والنون المؤكدة في «لتؤمنن» و «لتنصرن» وأدخل اللام في الشرط وتسمى موطئة لأنها تعين من أول الأمر وتمهد أن المذكور هو جواب القسم لا الشرط. ثم إن جواب الشرط يكون مستغنى عنه لأن جواب القسم يسد مسدّه. ومن قرأ بكسر اللام للتعليل ففيه أيضا وجهان: أحدهما أن تكون «ما»
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 1، 6. أحمد في مسنده (4/ 126) . [.....](2/198)
مصدرية أي أخذ الله ميثاقهم لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم موافقا لكم في الأصول لتؤمنن به، لأن من يؤتى الكتاب والحكمة فإن اختصاصه بهذه الفضيلة يوجب عليه تصديق سائر الأنبياء. والثاني أن تكون «ما» موصولة وبيان الرابط كما مر. وعن سعيد بن جبير لَما بالتشديد بمعنى «حين» . وقيل: أصله «لمن ما» أي لمن أجل ما آتيتكم. أدغمت النون في الميم فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفوا إحداها للتخفيف فيؤل المعنى إلى قراءة حمزة. وفي جميع القراآت قيل: لا بد من إضمار بأن يقال: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين فقال مخاطبا لهم لما آتيتكم. قلت: هذا من باب الالتفات فلا حاجة إلى الإضمار فكأنه قيل: وإذ أخذت أو أخذنا. ولما في أخذ الميثاق من معنى القول. ومن العلماء من قدر الإضمار بنوع آخر واستحسنه في التفسير الكبير مع أنه متكلف فقال: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لتبلغن الناس ما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم إن جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه. والنبيون عام وليس كلهم أصحاب كتاب ولكنه وصف الكل بوصف أشرفهم، أو الكتاب لذوي الكتب والحكمة لغيرهم، أو جعل الداعي إلى الكتاب وإلى العمل به كالذي أنزل عليه الكتاب. و «من» للبيان أو للتبعيض. وقوله: ثُمَّ جاءَكُمْ والرسول لا يجيء إلى النبيين وإنما يجيء إلى الأمم معناه أي في زمانكم وإن كان المراد من النبيين أولادهم أو أممهم فلا إشكال. والمراد بتصديقه لما معهم موافقته في التوحيد والنبوات وأصول الشرائع. فأما تفاصيلها وإن وقع الخلاف فيها فذاك في الحقيقة ليس بخلاف لأن جميع الأنبياء متفقون على أن الحق في زمان موسى ليس إلا شرعه عليه السلام وأن الحق في زمان محمد صلى الله عليه وسلم ليس إلا شرعه عليه السلام. ولو قلنا: إن المراد بالرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم فالمراد إما ما ذكرنا أو أن نعته وصفته وأحواله مذكورة في الكتب المتقدمة، فكان نفس مجيئه تصديقا لما كان معهم. والظاهر أن المراد بهذا الميثاق هو التوصية بأن يؤمنوا بكل رسول يجيء مصدقا لما معهم. وقيل: يحتمل أن يكون الميثاق إشارة إلى ما قرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقياد لأمر الله واجب، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولا عند ظهور المعجزات الدالة على صدقه، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا عند ذلك وجوبه. وقيل: المراد بأخذ الميثاق أنه تعالى شرح صفاته صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء المتقدمين، فإذا صارت أحواله صلى الله عليه وسلم مطابقة لما جاء في الكتب الإلهية وجب الانقياد له صلى الله عليه وسلم، وهذا إنما يصح لو كان المراد بالنبيين أولادهم أو أممهم أو ميثاق النبيين من الأمم أو ميثاق الله من النبيين على تقدير كونهم أحياء. أقول والله أعلم: يحتمل أن يراد بقوله ثُمَّ جاءَكُمْ(2/199)
المجيء في الزمان الماضي، فيكون معنى الآية أن الله تعالى أخذ ميثاقه من كل نبي أوتي كتابا وحكمة أن يؤمن بكل رسول كان قد جاء قبله موافقا لما معه وينصر دينه بأن يظهر حقيته في وقته وأنه من عند الله سبحانه وأنه موافق له في أصول العقائد وفي قواعد مكارم الأخلاق، فتكون هذه الآية تمهيدا لما يجيء بعد من قوله: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ الآية. قالَ الله أو كل نبي لأمته مستفهما بمعنى الأمر أَأَقْرَرْتُمْ بالإيمان به والنصرة؟ والإقرار في الشرع إخبار عن ثبوت حق سابق. وفي اللغة منقول بهمزة التعدية من قر الشيء يقر إذا ثبت ولزم مكانه. وَأَخَذْتُمْ أي قبلتم عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي عهدي. والأخذ بمعنى القبول كثير قال تعالى: لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ [البقرة: 48] أي لا يقبل. ويأخذ الصدقات أي يقبلها. سمي العهد إصرا لأنه مما يؤصر أي يشد ويعقد. ثم بعد المطالبة بالإقرار أكد ذلك بالإشهاد وقال: فَاشْهَدُوا أي فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار. وفي قوله: وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ وأنه لا يخفى عليه خافية، تذكير لهم وتوكيد عليهم وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادة الله وشهادة بعضهم على بعض. وقيل: فاشهدوا خطاب للملائكة. وقيل:
معناه ليجعل كل أحد نفسه شاهدا على نفسه كقوله: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ [الأعراف:
172] وقيل: بينوا هذا الميثاق للخاص والعام حتى لا يبقى لأحد عذر في الجهل به.
وأصله أن الشاهد هو الذي يبين تصديق الدعوى. وقيل: استيقنوا وكونوا كالمشاهد للشيء المعاين له، أو يكون خطابا للأنبياء بأن يكونوا شاهدين على الأمم. ثم ضم الى التوكيد الوعيد بقوله: فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ الميثاق وصنوف التوكيد فلم يؤمن ولم ينصر فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن دين الله وطاعته، ووعيد الفساق المردة معلوم. ثم وبخ من خرج من دين الله إلى غيره بإدخال همزة الاستفهام على الفاء العاطفة فقال: أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ ويحتمل أن يراد أيتولون فغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون من قرأ بتاء الخطاب فيهما فلأن ما قبله خطاب في «أقررتم» و «أخذتم» أو للالتفات بعد قوله فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ومن قرأ بياء الغيبة فلرجوع الضمير في الأول إلى الفاسقين، وفي الثاني إلى جميع المكلفين. والأصل أفتبتغون غير دين الله؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الحوادث إلا أنه قدم المفعول لأنه أهم من حيث إن الإنكار الذي هو فائدة الهمزة هاهنا متوجه إلى الدين الباطل.
وعن ابن عباس أن أهل الكتابين اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفوا فيه من دين إبراهيم، فكل واحد من الفريقين ادعى أنه أولى به فقال صلى الله عليه وسلم: كل الفريقين بريء من دين إبراهيم. فقالوا: ما نرضى بقضائك ولا نأخذ بدينك فنزلت.
وعلى هذا تكون الآية كالمنقطعة عما قبلها، ولكن(2/200)
الاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلقها بما قبلها. فالوجه أن هذا الميثاق لما كان مذكورا في كتبهم ولم يكن لكفرهم سبب إلا مجرد البغي والعناد، كانوا طالبين دينا غير دين الله، فاستنكر أن يفعلوا ذلك أو قرر أنهم يفعلون. ثم بيّن أن الإعراض عن دين الله خارج عن قضية العقل، وكيف لا وقد أخلص له تعالى الانقياد وخصص له الخضوع كل من سواه، لأن ما عداه كل ممكن وكل ممكن لذاته فإنه لا يوجد إلا بإيجاده ولا يعدم إلا بإعدامه، فهو ذليل بين يدي قدرته، خاضع لجلال قدره في طرفي وجوده وعدمه عقلا كان أو نفسا أو روحا أو جسما أو جواهرا أو عرضا أو فاعلا أو فعلا. ونظير الآية وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: 15] فلا سبيل لأحد إلى الامتناع عن مراده طَوْعاً وَكَرْهاً وهما مصدران وقعا موقع الحال لأنهما من جنس الفعل أي طائعين وكارهين كقولك: أتاني ركضا أي راكضا. ولو قلت أتاني كلاما أي متكلما لم يجز لأن الكلام ليس من جنس الإتيان. فالمسلمون الصالحون ينقادون لله طوعا فيما يتعلق بالدين وكرها في غيره من الآلام والمكاره التي تحالف طباعهم، لأنهم لا يمكنهم دفع قضائه وقدره. وأما الكافرون فينقادون في الدين كرها أي خوفا من السيف أو عند الموت أو نزول العذاب.
وعن الحسن: الطوع لأهل السموات، والكره لأهل الأرض. أقول: وذلك لأن السفلي ينجذب بالطبع إلى السفل فحمله نفسه على ما يخالف طبعه هو الكره. وبلسان الصوفية من شاهد الجمال أسلم طوعا، ومن شاهد الجلال أسلم كرها. فليس الاعتبار بذلك الإسلام الفطري بل الاعتبار بهذا الإسلام الكسبي وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ أي إلى حيث لا مالك سواه ظاهرا وباطنا، وفيه وعيد شديد لمن خالف الدين الحق إلى غيره. ثم إنه سبحانه لما بين أخذ الميثاق على الأنبياء في تصديق كل رسول كان قبله، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ليعرف منه غاية إذعانه ونهاية استسلامه. أما وجه التوحيد في قُلْ فظاهر، بناء على ما قلنا. وأما وجه الجمع في آمَنَّا فلتشريف أمته بانضمامهم معه في سلك الإخبار عن الإيمان، أو ليعلم أن هذا التكليف ليس من خواصه وإنما هو لازم لجميع المؤمنين كقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ [البقرة: 285] أو لإجلال قدر نبيه حيث أمر أن يتكلم عن نفسه كما يتكلم العظماء والملوك. وقدم الإيمان بالله لأنه أصل جميع العقائد، ثم ذكر الإيمان بما أنزل الله إليه لأن كتب سائر الأنبياء محرفة لا سبيل إلى معرفة أحوالها إلا بالفرقان المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الإيمان بما أنزل على مشاهير الأنبياء إذ لا سبيل إلى حصر الكل، وفي ذلك تنبيه على سوء عقيدة أهل الكتاب حيث فرقوا بين الأنبياء فصدقوا بعضا وكذبوا بعضا، ورمز إلى أنهم ليسوا من الدين في شيء حيث خالفوا مقتضى الميثاق. ثم إن قلنا إنه تعالى أخذ الميثاق على كل نبي أن يؤمن بكل رسول جاء بعده كما ذهب إليه الجمهور في(2/201)
تفسير قوله: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ [آل عمران: 81] فههنا قد أخذ الميثاق على محمد صلى الله عليه وسلم بأن يؤمن بكل رسول كان قبله ولم يؤخذ عليه الميثاق لمن يأتي بعده فيكون في الآية دليل على أنه لا نبي بعده.
واعلم أن الوحي ينزل من فوق وينتهي إلى الرسل فيجوز أن يعدّى أنزل ب «على» تارة كما في هذه الآية، وبحرف الانتهاء أخرى كما في البقرة. فنطق القرآن بالاعتبارين جميعا.
وقيل: عدي هناك ب «إلى» لمكان قولوا فإن الوحي يأتي الأمة بطريق الانتهاء، وعدي هاهنا ب «على» لمكان قُلْ. فإن الرسول يأتيه الوحي بطريق الاستقلال وزيفه في الكشاف بقوله تعالى: وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [المائدة: 48] وبقوله: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمران: 72] . والإنصاف أن هذا القائل لم يدع أن هذه المناسبة يجب اعتبارها في كل موضع وإنما ادعى اعتبارها في الموضعين فيصلح حجة للتخصيص والله أعلم.
وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ فائدة تقديم الجار أن يعلم أن هذا الإذعان والإيمان والاستسلام لا غرض فيه إلا وجه الله دون شيء آخر من طلب المال والجاه، بخلاف أحبار اليهود الذين يشترون بآيات الله ثمنا قليلا فليسوا من الإسلام في شيء وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ حيث فاته الثواب وحصل مكانه العقاب. والخاسرون هاهنا هم الكافرون فقط عند أهل السنة، ومع أصحاب الكبائر عند المعتزلة. وقد يستدل بالآية على أن الإيمان والإسلام واحد إذ لو كان الإيمان غير الإسلام كان غير مقبول، لأن كل ما هو غير الإسلام ليس بمقبول عند الله للآية. وقد ذكرنا مرارا أن النزاع لفظي لأن الإسلام إن أريد به الانقياد الكلي فلا فرق بينه وبين الإيمان كما في هذه الآية، وإن أريد به الإقرار باللسان فالفرق بناء على أن الاعتقاد القلبي داخل في مفهوم الإيمان، وعلى الفرق ورد قوله تعالى: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا [الحجرات: 17] ثم بيّن وعيد من ترك الإسلام فقال: كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ واختلف في سبب النزول، ففي رواية عن ابن عباس نزلت في يهود قريظة والنضير ومن دان بدينهم، كفروا بالنبي بعد أن كانوا مؤمنين قبل مبعثه وكانوا يشهدون له بالنبوة فلما بعث وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا به بغيا وحسدا وعنادا ولددا. وفي رواية أخرى عنه: نزلت في رهط كانوا أسلموا ثم ارتدوا ولحقوا بمكة، ثم أخذوا يتربصون به ريب المنون وكان فيهم من تاب فاستثنى التائب بقوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا. وعن مجاهد قال: كان الحرث بن سويد قد أسلم وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لحق بقومه وكفر فأنزل الله هذه الآية إلى قوله: فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فحملهن إليه رجل من قومه فقرأهن عليه فقال الحرث: والله إنك لصدوق وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم(2/202)
لأصدق منك وإن الله أصدق الثلاثة، ثم رجع فأسلم إسلاما حسنا. قالت المعتزلة في الآية:
إن أصولنا تشهد بأنه تعالى هدى جميع الخلق إلى الدين بمعنى التعريف ووضع الدلائل وإلا كان الكافر معذورا ولا يحسن ذمه على الكفر. ثم إنه حكم بأنه لم يهد هؤلاء الكفار فلا بد من تفسير الآية بشيء أخر سوى نصب الدلائل. قالوا: فالمراد بهذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين ثوابا لهم على إيمانهم كما قال: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] وقال: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد: 17] أو المعنى لا يهديهم إلى الجنة كقوله: وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ [النساء: 168] وقوله: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ [يونس: 9] وقال أهل السنة: المراد بالهداية خلق المعرفة. وقد جرت سنة الله في باب التكليف وفي دار العمل أن كل فعل يقصد العبد إلى تحصيله فإنه الله يخلقه عقيب قصد العبد فكأنه تعالى قال: كيف يخلق الله فيهم المعرفة والهداية وهم قصدوا تحصيل الكفر وأرادوه؟ وقال أهل التحقيق: كيف يهدي الله إليه قوما احتجبوا بالصفات الإنسانية والطبائع الحيوانية عن الأخلاق الربانية. وقوله: وَشَهِدُوا عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل إذ هو في تقدير أن آمنوا كقوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ [المنافقون: 10] ويجوز أن يكون الواو للحال بإضمار «قد» أي كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق. وكيفما كان فمعنى الآية يؤل إلى أنه تعالى لا يهدي قوما كفروا بعد الإيمان وبعد الشهادة بأن الرسول حق في نفسه غير باطل ولا مما يسوغ إنكاره بعد أن جاءتهم الشواهد الدالة على صدقه من القرآن وغيره، لكن الشهادة هي الإقرار باللسان، فيكون المراد من الإيمان هو التصديق بالقلب ليكون المعطوف مغايرا للمعطوف عليه. وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الواضعين للشيء في غير موضعه وذلك أن الخصال الثلاث- أعني الإيمان والشهادة ومشاهدة المعجزات- توجب مزيد الإيمان بالنبي المبعوث في آخر الزمان لا الكفر والعناد. وفيه دليل على أن زلة العالم أقبح من زلة الجاهل ولهذا صرح في آخر الآية بأنه تعالى لا يهديهم بعد أن عرض بذلك في أول الآية، ثم أردفه بغاية الوعيد قائلا أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ إلى قوله: وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ وقد مر مثله في البقرة. وهذا تحقيق قول المتكلمين بأن العذاب الملحق بالكافر مضرة خالصة عن شوائب المنافع دائمة غير منقطعة.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ الكفر العظيم. ولا يكفي التوبة وحدها حتى يضاف إليها العمل الصالح فلهذا قال: وَأَصْلَحُوا أي باطنهم مع الحق بالمراجعات، وظاهرهم مع الخلق بالعبادات، وأظهروا إنا كنا على الباطل حتى لو اغتر بطريقتهم المنحرفة مغتر رجع عنها.
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ في الدنيا بالستر رَحِيمٌ في الآخرة بالعفو. أو غفور بإزالة العقاب،(2/203)
رحيم بإعطاء الثواب. قوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً ازدياد الكفر قد يراد به الإصرار على الكفر، وقد يراد به ضم كفر إلى كفره وهو المراد في الآية باتفاق عامة المفسرين. ثم اختلفوا فقيل: إنهم أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ثم كفروا به عند المبعث ثم ازدادوا كفرا بسبب طعنهم فيه كل وقت، وإنكارهم لكل معجز يظهر عليه إلى غير ذلك من تخليطاتهم وتغليطاتهم. وقيل: إن اليهود كانوا مؤمنين بموسى ثم كفروا بعيسى والإنجيل، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. وهذا قول الحسن وقتادة وعطاء. وقيل: نزلت في الذين ارتدوا وذهبوا إلى مكة، وازديادهم الكفر أنهم قالوا: نقيم بمكة نتربص بمحمد ريب المنون. وقيل: عزموا على الرجوع إلى الإسلام على سبيل النفاق فسمى الله تعالى ذلك النفاق زيادة في الكفر. ثم إنه تعالى حكم في الآية الأولى بقبول توبة المرتدين، وحكم تعالى في هذه الآية بعدم قبولها، وهذا يوهم التناقض. وأيضا ثبت بالدليل أن التوبة بشروطها مقبولة فما معنى قوله لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ قال الحسن وقتادة وعطاء: المراد بازدياد الكفر إصرارهم عليه فلا يتوبون إلا عند حضور الموت، والتوبة حينئذ لا تقبل لقوله تعالى:
وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ [النساء: 18] وقيل: هي محمولة على ما إذا تابوا باللسان لا عن الإخلاص. وقال القاضي والقفال وابن الأنباري: هي من تتمة قوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا يريد أنه لو كفر بعد التوبة الأولى فإن التوبة الأولى لا تكون مقبولة. وقيل: لعل المراد أن التوبة من تلك الزيادة لا تكون مقبولة ما لم يتب عن الأصل المزيد عليه. أقول: ويحتمل أن يكون لن تقبل توبتهم جعل كناية عن الموت على الكفر كأنه قيل: إن اليهود والمرتدين المصرين على الكفر ما يتوبون عن الكفر لما في فعلهم من قساوة القلوب والإفضاء إلى الرين وانجراره إلى الموت على حالة الكفر. وفائدة هذه الكناية تصوير كونهم آيسين من الرحمة. هذا إذا خصصنا اليهود والمرتدين بالمصرين، أما على تقدير التعميم فنقول: إنما يجعل الموت على الكفر لازما لازدياد كفرهم لأن القضية حينئذ لا تكون كلية. فكم من مرتد أو يهودي مزداد الكفر لا بمعنى الإصرار يرجع إلى الإسلام ولا يموت على الكفر. فاكتفى بذكر لازم الموت على الكفر وهو عدم قبول التوبة حتى برز الكلام في معرض الكناية. ومن المعلوم أنها ذكر اللازم وإرادة الملزوم، وأنه لا بد للعدول من فائدة، فصح أن نبين فائدة العدول على وجه يصير القضية كلية وهي التغليظ في شأن أولئك الفريق من الكفار وإبراز حالهم في صورة حال الآيسين من الرحمة التي هي أغلظ الأحوال وأشدها، ألا ترى أن الموت على الكفر إنما يخاف لأجل اليأس من الرحمة، وهذا هو الذي عول عليه في الكشاف. والحاصل أنه(2/204)
كأنه قيل: إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا من حقهم أن لا تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون الكاملون في الضلال، ضلوا في تيه الأوصاف البهيمية والأخلاق السبعية فلم يكادوا يخرجون منهما بقدم الإنابة.
واعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام: أحدها الذي يتوب عن الكفر توبة صحيحة مقبولة وهو الذي سيق لأجله الآية التي ردفها الاستثناء، وثانيها الذي يتوب توبة فاسدة وهو المذكور في قوله: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ على وجه. وثالثها الذي يموت على الكفر من غير توبة فذكره في الآية الأخيرة. وملء الشيء قدر ما يملؤه وذَهَباً نصب على التمييز.
وربما يقال على التفسير. ومعناه أن يكون الكلام تاما إلا أنه يكون مبهما كقولك «عندي عشرون» فالعدد معلوم والمعدود مبهم. فإذا قلت «درهما» فسرت العدد. ومعنى الفاء في فَلَنْ يُقْبَلَ أن يعلم أن الكلام مبني على الشرط والجزاء، وإذا ترك كما في الآية الأولى فلعدم قصد التسبيب والاكتفاء بمجرد الحمل والوضع. هذا ما قاله النحويون ومنهم صاحب الكشاف. وليت شعري أنهم لو سئلوا عن تخصيص كل موضع بما خصص به فبماذا يجيبون؟ ولعل عقيدتهم في أمثال هذه المواضع أنها من الأسئلة المتقلبة وهو وهم. والسر في التخصيص هو أنه لما قيد في الجملة الثانية أنهم قد ماتوا على الكفر زيدت فاء السببية الجزائية تأكيدا للزوم وتغليظا في الوعيد والله أعلم. أما الواو في قوله وَلَوِ افْتَدى بِهِ فإنها تشبه عطف الشيء على نفسه لأنه كالمكرر، فلهذا كثر أقاويل العلماء فيه فقال الزجاج وابن الأنباري: إنها للعطف والتقدير: لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهبا لم ينفعه ذلك مع كفره ولو افتدى به أيضا لم يقبل منه. وقيل: إنها لبيان التفصيل بعد الإجمال فإن إعطاء ملء الأرض ذهبا يحتمل الوجوه الكثيرة، فنص على نفي القبول بجهة الفدية. وقيل: إن الملوك قد لا يقبلون الهدية ويقبلون الفدية، فإذا لم يقبلوا الفدية كان ذلك غاية الغضب ونهاية السخط، فعبر بنفي قبول الفداء عن شدة الغضب. وقيل: إنه محمول على المعنى كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. وقيل: يجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله: وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ [الزمر: 47] والمثل يحذف كثيرا في كلامهم مثل: ضربت ضرب زيد. أي مثل ضربه.
و «أبو يوسف أبو حنيفة» تريد مثله. كما أنه يراد به في نحو قولهم «مثلك لا يفعل» كذا أي أنت. وذلك أن المثلين يقوم أحدهما مقام الآخر في أغلب الأمور فكانا في حكم شيء واحد. فإن قيل: من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة شيئا، وبتقدير أن يملك فلا نفع في الذهب هناك، فما فائدة هذا الكلام؟ فالجواب أنه على سبيل الفرض والتقدير، والذهب(2/205)
كناية عن أعز الأشياء. والمراد أنه لو قدر على أعز الأشياء وفرض أن في بذله نفعا للآخذ وأن المبذول في غاية الكثرة لعجز أن يتوصل بذلك إلى تخليص نفسه من عذاب ربه. ثم صرح بعقابهم ونفى من يشفع لهم فقال: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ قال أهل التحقيق: وماتوا أي ماتت قلوبهم أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بموت القلب وفقد المعرفة وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ على إحياء القلب بنور المعرفة حسبي الله ونعم الوكيل.
تم الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع أوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا ...(2/206)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
(بسم الله الرحمن الرحيم) الجزء الرابع من أجزاء القرآن الكريم
[سورة آل عمران (3) : الآيات 92 الى 101]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96)
فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
القراآت:
أَنْ تُنَزَّلَ خفيفا: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون بالتشديد. حِجُّ الْبَيْتِ بكسر الحاء: يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون بفتحها.
الوقوف:
تُحِبُّونَ ط عَلِيمٌ هـ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ ط صادِقِينَ هـ الظَّالِمُونَ
هـ حَنِيفاً ط الْمُشْرِكِينَ هـ لِلْعالَمِينَ هـ ج لأن ما بعده يصلح حالا واستئنافا مَقامُ إِبْراهِيمَ ج للابتداء بالشرط مع الواو لأن الأمن من الآيات آمِناً ط سَبِيلًا ط لِلْعالَمِينَ هـ بِآياتِ اللَّهِ ط قد قيل: والوجه الوصل لأن الواو للحال تَعْمَلُونَ هـ شُهَداءُ ط تَعْمَلُونَ هـ كافِرِينَ هـ رَسُولُهُ ط لتناهي الاستفهام الى الشرط مُسْتَقِيمٍ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما ذكر أن الإنفاق لا ينفع الكافر البتة، علّم المؤمنين كيفية الإنفاق الذي ينتفعون به في الآخرة وهو الإنفاق من أحب الأشياء إليهم. وهاهنا لطيفة وهي(2/207)
أنه سبحانه وتعالى سمى جوامع خصال الخير برا في قوله تعالى: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ [البقرة: 177] الآية. وذكر في هذه الآية لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فالمعنى أنكم وإن أتيتم بكل الخيرات لم تفوزوا بإحراز خصلة البر ولم تبلغوا حقيقتها حتى تكون نفقتكم من أموالكم التي تحبونها وتؤثرونها. وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئا جعلوه لله.
يروى أنها لما نزلت جاء أبو طلحة فقال: يا رسول الله، حائط لي بالمدينة- يعني بيرحاء- وهو أحب أموالي إليّ صدقة. فقال صلى الله عليه وسلم: بخ بخ. ذاك مال رابح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. فقال أبو طلحة: افعل يا رسول الله. فقسمها صلى الله عليه وسلم في أقاربه.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم جعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب.
وروي أن زيد بن حارثة جاء عند نزول الآية بفرس له كان يحبه وجعله في سبيل الله، فجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد. فوجد زيد في نفسه وقال: إنما أردت أن أتصدق به. فقال صلى الله عليه وسلم: أما إن الله قد قبلها منك.
وكتب عمر إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى، فلما رآها أعجبته فقال: إن الله تعالى يقول: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ فأعتقها ولم يصب منها. ونزل بأبي ذرّ ضيف فقال للراعي: ائتني بخير إبلي. فجاء بناقة مهزولة فقال: خنتني. فقال: وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوم حاجتك إليه. فقال: إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي. وفي تفسير البر قولان: أحدهما ما به يصيرون أبرارا ليدخلوا في قوله: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [الانفطار: 13] فيكون المراد بالبر ما يصدر منهم من الأعمال المقبولة المذكورة في قوله: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ [البقرة: 177] وجملتها التقوى لقوله: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177] والثاني الجنة أي لن تنالوا ثواب البر. وقيل: المراد بر الله أولياءه وإكرامه إياهم من قول الناس «برني فلان بكذا وبر فلان لا ينقطع عني» . وقال تعالى: أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا [البقرة: 224] و «من» في قوله: مِمَّا تُحِبُّونَ للتبعيض نحو: أخذت من المال. ويؤيده قراءة عبد الله بن مسعود بعض ما تحبون وفيه أن إنفاق كل المال غير مندوب بل غير جائز لمن يحتاج إليه.
والمراد بما تحبون قال بعضهم: هو نفس المال لقوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8] وقيل: هو ما يكون محتاجا إليه كقوله: وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [الدهر: 8] وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [الحشر: 9] وقيل: هو أطيب المال وأرفعه كما مر. وعن ابن عباس: أراد به الزكاة أي حتى تخرجوا زكاة أموالكم. ويرد عليه أنه لا يجب على المزكي أن يخرج أشرف أمواله وأكرمها. وقال الحسن: هو كل ما أنفقه المسلم من ماله يطلب به وجه الله. ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي انها منسوخة(2/208)
بآية الزكاة. وضعف بأن إيجاب الزكاة لا ينافي الترغيب في بذل المحبوب لوجه الله.
و «من» في مِنْ شَيْءٍ للتبيين يعني من أي شيء كان، طيب أو خبيث فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم بحسبه أو يعلم الوجه الذي لأجله تنفقون من الإخلاص أو الرياء. ثم إنه سبحانه بعد تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد توجيه الإلزامات الواردة على أهل الكتاب في هذا الباب، أجاب عن شبهة للقوم وتقرير ذلك من وجوه: أحدها أنهم كانوا يعوّلون في إنكار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على إنكار النسخ، فأورد عليهم أن الطعام الذي حرمه إسرائيل على نفسه كان حلالا ثم صار حراما عليه وعلى أولاده وهو النسخ. ثم إن اليهود لما توجه عليهم هذا السؤال زعموا أن ذلك كان حراما من لدن آدم ولم يحدث نسخ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يطالبهم بإحضار التوراة إلزاما لهم وتفضيحا ودلالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أميا فامتنع أن يعرف هذه المسألة الغامضة من علوم التوراة إلا بخبر من السماء.
وثانيها أن اليهود قالوا له: إنك تدعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها وتفتي بحلها مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم؟ فأجيبوا بأن ذلك كان حلالا لإبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب. إلا أن يعقوب حرمه على نفسه بسبب من الأسباب، وبقيت تلك الحرمة في أولاده، فأنكروا ذلك فأمروا بالرجوع الى التوراة. وثالثها لما نزل قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ [النساء: 160] وقوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الأنعام: 146] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه إنما حرم عليهم كثير من الأشياء جزاء لهم على بغيهم وظلمهم. غاظهم ذلك واشمأزوا وامتعضوا من قبل أن ذلك يقتضي وقوع النسخ. ومن قبل أنه تسجيل عليهم بالبغي والظلم وغير ذلك من مساويهم. فقالوا: لسنا بأول من حرمت هي عليه وما هو إلا تحريم قديم فنزلت كُلُّ الطَّعامِ أي المطعومات كلها لدلالة كل على العموم وإن كان لفظه مفردا سواء قلنا الاسم المفرد المحلى بالألف واللام يفيد العموم أولا. والطعام اسم لكل ما يطعم ويؤكل. وعن بعض أصحاب أبي حنيفة: إنه اسم البر خاصة. ويرد عليه أن المستثنى في الآية من الطعام كان شيئا سوى الحنطة وما يتخذ منها. قال القفال: لم يبلغنا أنه كانت الميتة مباحة لهم مع أنها طعام، وكذا القول في الخنزير، فيحتمل أن يكون المراد الأطعمة التي كان يدعي اليهود في وقت نبينا صلى الله عليه وسلم أنها كانت محرمة على إبراهيم صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا يكون اللام في الطعام للعهد لا للاستغراق. والحل مصدر كالعز والذل ولذا استوى فيه الواحد والجمع. قال تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ [الممتحنة: 10] والوصف بالمصدر يفيد المبالغة. وأما الذي حرم إسرائيل على نفسه
فروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يعقوب مرض(2/209)
مرضا شديدا فنذر لئن عافاه الله ليحرّمن أحب الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام والشراب إليه لحمان الإبل وألبانها. وهذا قول أبي العالية وعطاء ومقاتل.
وقيل: كان به عرق النسا فنذر إن شفاه الله أن لا يأكل شيئا من العروق.
وجاء في بعض الروايات أن الذي حرمه على نفسه زوائد الكبد والشحم إلا ما على الظهر.
وهاهنا سؤال وهو أن التحريم والتحليل خطاب الله تعالى، فكيف صار تحريم يعقوب سببا للحرمة؟ فأجاب المفسرون بأن الأطباء أشاروا إليه باجتنابه ففعل وذلك بإذن من الله فهو كتحريم الله ابتداء. وأيضا لا يبعد أن يكون تحريم الإنسان سببا لتحريم الله كالطلاق والعتاق في تحريم المرأة والجارية. وأيضا الاجتهاد جائز على الأنبياء لعموم فَاعْتَبِرُوا [الحشر:
2] ولقوله في معرض المدح لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء: 83] ولأن الاجتهاد طاعة شاقة فيلزم أن يكون للأنبياء منها نصيب أوفر لا سيما ومعارفهم أكثر، وعقولهم أنور، وأذهانهم أصفى، وتوفيق الله وتسديده معهم أوفى. ثم إذا حكموا بحكم بسبب الاجتهاد يحرم على الأمة مخالفتهم في ذلك الحكم كما أن الإجماع إذا انعقد عن الاجتهاد فإنه يحرم مخالفته. والأظهر أن ذلك التحريم ما كان بالنص وإلا لقيل: إلا ما حرمه الله على إسرائيل.
فلما نسب إلى إسرائيل دل على أنه باجتهاده كما يقال: الشافعي يحلل لحم الخيل، وأبو حنيفة يحرّمه. وقال الأصم: لعلّ نفسه كانت تتوق إلى هذه الأنواع فامتنع من أكلها قهرا للنفس كما يفعله الزهاد، فعبر عن ذلك الامتناع بالتحريم. وزعم قوم من المتكلمين أنه يجوز من الله تعالى أن يقول لعبده: احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب، فلعل هذه الواقعة كانت من هذا الباب. ومعنى قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ إن هذا الاستثناء إنما كان قبل نزول التوراة، أما بعده فلم يبق كذلك بل حرم الله عليهم أنواعا كثيرة بدليل قوله تعالى:
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا [النساء: 160] إلى آخر الآية. ثم إن القوم نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إخباره عن الله تعالى فأمروا بالرجوع إلى كتابهم كما سبق تقريره،
فروي أنهم لم يجسروا على إخراج التوراة فبهتوا فلزمت الحجة عليهم وظهر إعجاز النبي صلى الله عليه وسلم وصدقه،
فلهذا قال: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ
الذي ظهر من الحجة الباهرة فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ
الواضعون الباطل في موضع الحق، والكذب في مقام الصدق والعناد في محل الإنصاف. وأيضا إن تكذيبهم وافتراءهم ظلم منهم لأنفسهم ولمن يقتدي بهم من أشياعهم قُلْ صَدَقَ اللَّهُ في جواب الشبه الثلاث وفيه تعريض بكذبهم فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وهي التي عليها محمد صلى الله عليه وسلم ومن تبعه حتى تتخلصوا من اليهودية التي فيها فساد دينكم ودنياكم حيث ألجأتكم الى تحريف كتاب الله لأغراضكم الفاسدة(2/210)
وألزمتكم تحريم الطيبات التي أحلت لإبراهيم ولمن يقتدي به وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وفيه تنبيه على أن محمدا صلى الله عليه وسلم على دين إبراهيم في الفروع لما ثبت أن الذي حكم صلى الله عليه وسلم بحله حكم إبراهيم بحله. وفي الأصول لأن محمدا وإبراهيم كليهما صلى الله عليهما وسلم لا يدعون إلا إلى التوحيد والبراءة عن كل معبود سوى الله تعالى، خلاف اليهود والنصارى، وخلاف عبدة الأوثان والكواكب.
قوله سبحانه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ قال مجاهد: هو جواب عن شبهة أخرى لليهود وذلك أنهم قالوا: بيت المقدس أفضل من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء وأرض المحشر وقبلة الأنبياء. فكان تحويل القبلة منه إلى الكعبة كالطعن في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: إن الآية المتقدمة سيقت لجواز النسخ، وإن أعظم الأمور التي أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخها هو القبلة، فذكر عقيب ذلك ما لأجله حولت القبلة إلى الكعبة. وقيل: لما انجر الكلام في الآية المتقدمة إلى قوله: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ وكان الحج من أعظم شعائر ملته، أردفها بفضيلة البيت ليفرع عليها إيجاب الحج. وقيل: زعم كل من اليهود والنصارى أنه على ملة إبراهيم، فبين الله تعالى ما يدل على كذبهم من حيث إن حج البيت كان من ملة إبراهيم وأهل الكتاب لا يحجون. قالت العلماء: الأول هو الفرد السابق، فلو قال: أول عبد أشتريه فهو حر. فلو اشترى عبدين في المرة الأولى لم يعتق واحد منهما لفقد قيد الفرد. ولو اشترى في المرة الثانية عبدا واحدا لم يعتق أيضا لفقدان قيد السابق. ومعنى كونه موضوعا للناس أنه جعل متعبدهم وموضع طاعتهم يتوجهون نحوه من جميع الأقطار، وليس كل أول يقتضي أن يكون له ثان فضلا أن يشاركه في جميع خواصه، فلا يلزم من كونه أول أن يكون بيت المقدس مثلا ثانيا له ولا مشاركا في وجوب الحج والاستقبال وغيرهما من الخواص.
ثم إن كونه أول بيت وضع للناس يحتمل أن يكون المراد أنه أول في البناء والوضع، ويحتمل أن يراد أنه أول في الوضع وإن كان متأخرا في البناء، فلا جرم حصل فيه للمفسرين قولان: الأول أنه أول في بنائه ووضعه جميعا.
روى الواحدي رحمه الله في البسيط بإسناده عن مجاهد أنه قال: خلق الله هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرضين.
وفي رواية أخرى: خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئا من الأرض بألفي سنة، وإن قواعده لفي الأرض السابعة السفلى.
وروى أيضا عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عن آبائه قال: إن الله تعالى بعث ملائكة فقال: ابنوا لي في الأرض بيتا على مثال البيت المعمور. وأمر الله تعالى من في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.
وهذا كان قبل خلق آدم وقد ورد في سائر كتب التفسير عن عبد الله بن عمر(2/211)
ومجاهد والسدي أنه أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق الأرض والسماء، وقد خلقه الله قبل الأرض بألفي عام، وكان زبدة بيضاء على الماء ثم دحيت الأرض من تحته. وعن الزهري قال: بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم ثلاثة صفوح في كل صفح منها كتاب. في الصفح الأول: «أنا الله ذو بكة وضعتها يوم وضعت الشمس والقمر وحففتها بسبعة أملاك حنفاء وباركت لأهلها في اللحم واللبن» . وفي الثاني: «أنا الله ذو بكة، خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي. من وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته» . وفي الثالث: «أنا الله ذو بكة خلقت الجن والإنس فطوبى لمن كان الخير على يديه وويل لمن كان الشر على يديه» . وقد يستدل على صحة هذا القول بما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: ألا إن الله قد حرم مكة يوم خلق السموات والأرض.
وتحريم مكة لا يمكن إلا بعد وجودها ولأنه تعالى سماها أم القرى، وهذا يقتضي سبقها على سائر البقاع، ولأن تكليف الصلاة كان ثابتا في أديان جميع الأنبياء. وأيضا قال تعالى في سورة مريم أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ إلى قوله: خَرُّوا سُجَّداً [مريم: 58] والسجدة لا بد لها من قبلة.
فلو كانت قبلتهم غير الكعبة لم تكن هي أول بيت وضع للناس هذا محال خلف. القول الثاني:
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أول مسجد وضع للناس؟ فقال: «المسجد الحرام ثم بيت المقدس فسئل كم بينهما؟ قال: أربعون سنة» «1»
وعن علي أن رجلا قال له: هو أول بيت؟ قال: لا. قد كان قبله بيوت، ولكنه أول بيت وضع للناس مباركا، فيه الهدى والرحمة والبركة.
واعلم أن الغرض الأصلي من ذكر هذه الأوّلية بيان الفضيلة وترجيحه على بيت المقدس. ولا تأثير لأولية البناء في هذا المقصود، وإن كان الأرجح ثبوت تلك الأولية أيضا كما روينا آنفا، وفي سورة البقرة أيضا من الأخبار والآثار. فمن فضائل البيت أن الآمر ببنائه الرب الجليل، والمهندس جبرائيل، وبانيه إبراهيم الخليل وتلميذه ابنه إسماعيل. ومنها أنه محل إجابة الدعوات ومهبط الخيرات والبركات، ومصعد الصلوات والطاعات، ومنها مقام إبراهيم كما يجيء، ومنها قلة ما يجتمع من حصى الجمار فيه فإنه منذ ألف سنة يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاة ثم لا يرى هناك إلا ما لو اجتمع في سنة واحدة لكان غير كثير. وليس الموضع الذي يرمى إليه الجمرات مسيل ماء أو مهب رياح شديدة. وقد جاء في الآثار أن كل من كانت حجته مقبولة رفعت جمراته إلى السماء. ومنها أن الطيور تترك المرور فوق الكعبة وتنحرف عنها البتة إذا
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 10، 40. مسلم في كتاب المساجد حديث 1، 2. النسائي في كتاب المساجد باب 3. ابن ماجه في كتاب المساجد باب 7. أحمد في مسنده (5/ 150) .(2/212)
وصلت إلى محاذاتها. ومنها أن الحيوانات المتضادة في الطبائع لا يؤذي بعضها بعضا عنده كالكلاب والظباء. ومنها أمن سكانها فلم ينقل البتة أن ظالما هدم الكعبة أو خرب مكة بالكلية، وأما بيت المقدس فقد هدمه بختنصر بالكلية، وقصة أصحاب الفيل سوف تجيء في موضعها إن شاء العزيز. ومنها أنه تعالى وضعها بواد غير ذي زرع لفوائد منها: أنه قطع بذلك رجاء أهل حرمه وسدنة بيته عمن سواه حتى لا يتوكلوا إلا على الله. ومنها أنه مع كونه كذلك يجبى إليه ثمرات كل شيء وذلك بدعوة خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم وإنه من أعظم الآيات.
ومنها أن لا يسكنها أحد من الجبابرة لأنهم يميلون إلى طيبات الدنيا، فيبقى ذلك الموضع المنيف والمقام الشريف مطهرا عن لوث وجود أرباب الهمم الدنية. ومنها أن لا يقصدها الناس للتجارة بل يأتون لمحض العبادة والزيارة. ومنها أنه تعالى أظهر بذلك شرف الفقر حيث وضع أشرف البيت في أقل المواضع نصيبا من الدنيا فكأنه تعالى يقول: جعلت الفقراء في الدنيا أهل البلد الأمين لأجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين. ومنها كأنه قيل: كما لم أجعل الكعبة إلا في موضع خال عن جميع نعم الدنيا فكذا لا أجعل كعبة المعرفة إلا في قلب خال عن محبة الدنيا لَلَّذِي بِبَكَّةَ. للبيت الذي ببكة. قال في الكشاف: وهي علم للبلد الحرام. ومكة وبكة لغتان كراتب وراتم. وضربة لازم ولازب مما يعتقب فيه الميم والباء لتقارب مخرجهما. وقيل: مكة البلد وبكة موضع المسجد. وفي الصحاح بكة اسم لبطن مكة. وأما اشتقاق بكة فمن قولهم بكه إذا زحمه ودفعه، وعن سعيد بن جبير: سميت بكة لأنهم يتباكون فيها أي يزدحمون في الطواف وهو قول محمد بن علي الباقر ومجاهد وقتادة. قال بعضهم: رأيت محمد بن علي الباقر يصلي. فمرت امرأة بين يديه فذهبت أدفعها فقال: دعها فإنها سميت بكة لأنه يبك بعضهم بعضا، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي ولا بأس بذلك في هذا المكان. ويؤكد هذا قول من قال: إن بكة موضع المسجد لأن المطاف هناك وفيه الازدحام. ولا شك أن بكة غير البيت لأن الآية تدل على أن البيت حاصل في بكة، والشيء لا يكون ظرفا لنفسه. وقيل:
سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة أي تدقها، لم يقصدها جبار بسوء إلا اندقت عنقه.
وأما مكة فاشتقاقها من قولك أمتك الفصيل ضرع أمه إذا امتص ما فيه واستقصى، فسميت بذلك لأنها تجذب الناس من كل جانب وقطر أو لقلة مائها كأن أرضها امتصت ماءها.
وقيل: إن مكة وسط الأرض، والعيون والمياه تنبع من تحتها، فكأن الأرض كلها تمك من ماء مكة. ثم إنه تعالى وصف البيت بكونه مباركا وهدى للعالمين. أما انتصابه فعلى الحال من الضمير المستكن في الظرف، لأن التقدير للذي ببكة هو والعامل فيه معنى الاستقرار.(2/213)
وأما معناه فالبركة إما النمو والتزايد وكثرة الخير، وإما البقاء والدوام. وكل شيء ثبت ودام فقد برك، ومنه برك البعير إذا وضع صدره على الأرض والبركة شبه الحوض لثبوت الماء فيها، وتبارك الله لثبوته لم يزل ولا يزال، والبيت مبارك لما يحصل لمن حجه واعتمره وعكف عنده وطاف حوله من الثواب وتكفير الذنوب.
قال صلى الله عليه وسلم «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام»
وقال صلى الله عليه وسلم: «الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» «1»
ولو استحضر العاقل في نفسه أن الكعبة كالنقطة وصفوف المتوجهين إليها في الصلوات في أقطار الأرض وأكنافها ولعمري إنها غير محصورة كالدوائر المحيطة بالمركز، ولا شك أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم علوية، وقلوبهم قدسية، وأسرارهم نورانية، وضمائرهم ربانية، علم أنه إذا توجهت تلك الأرواح الصافية إلى كعبة المعرفة واستقبلت أجسادهم هذه الكعبة الحسية، اتصلت أنوار أولئك الأرواح بنوره وعظم لمعان الأضواء الروحانية في سره. قال القفال: يجوز أن تكون بركته ما ذكر في قوله:
يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ [القصص: 57] فيكون كقوله: إِلَى الْأَرْضِ [الأنبياء: 71] المقدسة الَّتِي بارَكْنا فِيها [الأنبياء: 71] وإن فسرنا البركة بالدوام فلا شك أنه لا تنفك الكعبة من الطائفين والعاكفين والركع السجود. وإذا كانت الأرض كرة وكل آن يفرض فإنه صبح لقوم ظهر لآخرين وعصر لغيرهم أو مغرب أو عشاء، فلا تخلو الكعبة عن توجه قوم إليها البتة. وأيضا بقاء الكعبة على هذه الحالة ألوفا من السنين دوام. وأما كونه هدى للعالمين فلأنه قبلتهم ومتعبدهم أو لأنه يدل على وجود الصانع وصدق محمد صلى الله عليه وسلم بما فيه من الآيات والأعاجيب، أو لأنه يهدي إلى الجنة. ومعنى هدى هاديا أو ذا هدى قاله الزجاج، وجوز أن يكون محله رفعا أي وهو هدى فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ يحتمل أن يراد بها ما عددنا من بعض فضائله، ويكون قوله: مَقامُ إِبْراهِيمَ غير متعلق بما قبله، فكأنه قيل فيه آيات بينات ومع ذلك فهو مقام إبراهيم وموضعه الذي اختاره وعبد الله فيه. وقال الأكثرون إن الآيات بيانه وتفسيره قوله: مَقامُ إِبْراهِيمَ إما بأن يجعل وحده بمنزلة آيات كثيرة لأنه معجز رسول وكل معجز ففيه دليل أيضا على علم الصانع وقدرته وإرادته وحياته وتعاليه عن مشابهة المحدثات، فلقوة هذا الدليل عبر عنه بلفظ الجمع كقوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً [النحل: 120] وإما بأن يجعل المقام مشتملا على آيات لأن أثر القدم في الصخرة الصماء
__________
(1) رواه البخاري في كتاب العمرة باب 1. مسلم في كتاب الحج حديث 437. الترمذي في كتاب الحج باب 2، 88. النسائي في كتاب الحج باب 3، 5. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 3. الدارمي في كتاب مناسك الحج باب 7. الموطأ في كتاب الحج حديث 65. أحمد في مسنده (1/ 387) .(2/214)
آية، وغوصه فيها إلى الكعبين آية، وإلانة بعض الصخرة دون بعض آية وإبقاء هذا الأثر دون آثار سائر الأنبياء آية لإبراهيم خاصة، وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين وأهل الكتاب والملاحدة ألوفا من السنين آية. قال الزجاج: قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً من تتمة تفسير الآيات. وهذه الجملة وإن كانت من مبتدأ وخبر أو من شرط وجزاء إلا أنها في تقدير مفرد من حيث المعنى. فكأنه قيل: فيه آيات بينات وأمن من دخله كما لو قلت: فيه آية بينة من دخله كان آمنا كان معناه فيه آية بينة أمن من دخله. وهذا التفسير بعد تصحيحه مبني على أن الاثنين جمع كما
قال صلى الله عليه وسلم: «الاثنان فما فوقهما جماعة»
وفي القرآن هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا [الحج: 19] وقيل: ذكر آيتان وطوى ذكر غيرهما. دلالة على تكاثر الآيات كأنه قيل: فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن من دخله وكثير سواهما. ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم: «حبب إليّ من دنياكم ثلاث الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة» «1»
ومنهم من تمم الثلاثة فقال: مقام إبراهيم وأمن من دخله وإن لله على الناس حجه. وقال المبرد: مقام مصدر فلم يجمع والمراد مقامات إبراهيم هي ما أقامه من المناسك، فالمراد بالآيات شعائر الحج.
وقرأ ابن عباس وأبي ومجاهد وأبو جعفر المدني في رواية قتيبة آية بينة على التوحيد قاله في الكشاف. وفيه توكيد لكون مقام إبراهيم وحده بيانا. وأما حديث «أمن من دخله» فقد مر اختلاف العلماء فيه في سورة البقرة في قوله: وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً [البقرة: 125] وقيل: كان آمنا من النار لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا»
وعنه صلى الله عليه وسلم: «الحجون والبقيع يؤخذ بأطرافهما وينثران في الجنة»
وهما مقبرتا مكة والمدينة.
وعن ابن مسعود: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثنية الحجون وليس بها يومئذ مقبرة فقال: «يبعث الله من هذه البقعة ومن هذا الحرم كله سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر يدخلون الجنة بغير حساب يشفع كل واحد منهم في سبعين ألفا وجوههم كالقمر ليلة البدر»
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من صبر على حر مكة ساعة من نهار تباعدت منه جهنم مسيرة مائتي عام» .
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ لما ذكر فضائل البيت أردفه بإيجاب الحج وفيه لغتان: الفتح لغة الحجاز، والكسر لغة نجد، وكلاهما مصدر كالمدح والذم والذكر والعلم.
وقيل: المكسور اسم للعمل، والمفتوح مصدر. ومحل مَنِ اسْتَطاعَ خفض على البدل عَلَى النَّاسِ والمعنى: ولله على من استطاع من الناس حج البيت. وقال الفراء: يجوز أن ينوي الاستئناف بمن والخبر، أو الجزاء محذوف لدلالة ما قبله عليه والتقدير: من استطاع إليه سبيلا فلله عليه حج البيت. وقال ابن الأنباري: يحتمل أن يكون محله رفعا على البيان
__________
(1) رواه النسائي في كتاب عشرة النساء باب 1. أحمد في مسنده (3/ 128، 199) بدون لفظ «ثلاث» .(2/215)
كأنه قيل: من الناس الذين عليهم لله حج البيت؟ فقيل: هم من استطاع. والضمير في إِلَيْهِ للبيت أو الحج. واستطاعة السبيل إلى الشيء هي إمكان الوصول إليه. واحتج أصحاب الشافعي بالآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع لأن الناس يعم المؤمن والكفار وعدم الإيمان لا يصلح أن يكون معارضا ومخصصا لهذا العموم لأن الدهري مكلف بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. مع أن شرط صحة الإيمان بمحمد غير حاصل، والمحدث مكلف بالصلاة مع أن الوضوء الذي هو شرط صحة الصلاة ليس بحاصل. واحتج جمهور المعتزلة بالآية على أن الاستطاعة قبل الفعل لأنها لو كانت مع الفعل لكان من لم يحج لم يكن مستطيعا للحج فلا يتناوله التكليف المذكور وذلك باطل بالاتفاق. أجاب الأشاعرة بأن هذا أيضا لازم عليكم لأن القادر إما أن يكون مأمورا بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل وهو محال لأنه تكليف بما لا يطاق، أو بعد حصوله وحينئذ يكون الفعل واجب الحصول فلا يكون في التكليف به فائدة. وإذا كانت الاستطاعة منتفية في الحالين وجب أن لا يتوجه التكليف.
والحق أن وجوب الفعل بالقدرة والإرادة لا ينافي توجيه التكليف إليه.
واعلم أن الحج لا يجب بأصل الشرع في العمر إلا مرة واحدة لما
روي عن ابن عباس قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج. فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ فقال: لو قلتها لو جبت ولو وجبت لم تعملوا بها.
الحج مرة فمن زاد فتطوع» «1»
وقد يجب أكثر من مرة واحدة لعارض كالنذور والقضاء.
ولصحة الحج على الإطلاق شرط واحد وهو الإسلام، فلا يصح حج الكافر كصومه وصلاته. ولا يشترط فيها التكليف بل يجوز للولي أن يحرم عن المجنون وعن الصبي الذي لا يميز وحينئذ يصح حجهما لما
روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة وهي في محفتها، فأخذت بعضد صبي كان معها فقالت: ألهذا حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم ولك أجر.
وعن جابر قال: حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم. ولصحة المباشرة شرط زائد على الإسلام وهو التمييز. فلا تصح مباشرة الحج من المجنون والصبي الذي لا يميز كسائر العبادات، ويصح من الصبي المميز أن يحرم ويحج بإذن الولي، ولا يشترط فيها الحرية كسائر العبادات. ولوقوعه عن حجة الإسلام شرطان زائدان: البلوغ والحرية
لقوله صلى الله عليه وسلم: «أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام، وأيما عبد
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة 5 باب 15. النسائي في كتاب المناسك باب 1. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 2. الدارمي في كتاب المناسك باب 4. أحمد في مسنده (1/ 255، 291) .(2/216)
حج ثم عتق فعليه حجة الإسلام»
والمعنى فيه أن الحج عبادة عمر لا تتكرر فاعتبر وقوعها في حالة الكمال، ولأن التكليف تابع للتمييز فشرط هذا الحكم إذن يعود إلى ثلاثة: الإسلام والتكليف والحرية. ولو تكلف الفقير الحج وقع حجه عن الفرض كما لو تحمل الغني خطر الطريق وحج، وكما لو تحمل المريض المشقة وحضر الجمعة. ولوجوب حجة الإسلام شرط زائد على الثلاثة المذكورة آنفا وهو الاستطاعة بالآية. والاستطاعة نوعان: استطاعة مباشرته بنفسه واستطاعة تحصيله بغيره. النوع الأول يتعلق به أمور أربعة: أحدها الراحلة، والناس قسمان: أحدهما من بينه وبين مكة مسافة القصر فلا يلزمه الحج إلا إذا وجد راحلة سواء كان قادرا على المشي أو لم يكن لما
روي أنه صلى الله عليه وسلم فسر استطاعة السبيل إلى الحج بوجود الزاد والراحلة.
نعم لو كان قادرا على المشي يستحب له أن لا يترك الحج. وعند مالك القوي على المشي يلزمه الحج. ويعتبر مع وجدان الراحلة وجدان المحمل أيضا إن كان لا يستمسك على الراحلة ويلحقه مشقة شديدة. ثم العادة جارية بركوب اثنين في المحمل. فإن وجد مؤنة محمل أو شق محمل ووجد شريكا يجلس في الجانب الآخر لزمه الحج، وإن لم يجد الشريك فلا. القسم الثاني من ليس بينه وبين مكة مسافة القصر. فإن كان قويا على المشي لزمه الحج وإلا فلا يجب إلا مع الراحلة أو معها ومع المحمل كما في حق البعيد. والمراد بوجود الراحلة أن يقدر على تحصيلها ملكا أو استئجارا بثمن المثل أو بأجرة المثل وكذا في المحمل. المتعلق الثاني: الزاد وأوعيته وما يحتاج إليه في السفر مدة ذهابه وإيابه سواء كان له أهل أو عشيرة يرجع إليهم أو لا فحب الوطن من الإيمان. وكذا الراحلة للإياب وأجرة البذرقة. كل ذلك بعد قضاء جميع الديون ورد الودائع ونفقة من يلزمه نفقتهم حينئذ إلى العود، وبعد مؤن النكاح إن خاف العنت، وبعد مسكنه ودست ثوب يليق به وخادم يحتاج إليه لزمانته أو لمنصبه. ولو كان له رأس مال يتجر فيه وينفق من ربحه ولو نقص لبطلت تجارته، أو كان له مستغلات يرتفق منها نفقته، فالأصح عند الأئمة أنه يكلف بيعها لأن واجد للزاد والراحلة في الحال ولا عبرة لخوف الفقر في الاستقبال.
المتعلق الثالث: الطريق ويشترط فيه غلبة ظن الأمن على النفس من نحو سبع وعدو، والأمن على المال من عدو أو رصديّ وإن رضي بشيء يسير، والأمن على البضع للمرأة بخروج زوج أو محرم أو نسوة ثقات. وفي البحر يعتبر غلبة السلامة وفي البر وجود علف الدابة.
المتعلق الرابع: البدن ويشترط فيه أن يقوى على الاستمساك على الراحلة، فإن ضعف عن ذلك لمرض أو غيره فهو غير مستطيع للمباشرة. ولا بد للأعمى من قائد، وعند أبي حنيفة لا حج عليه. ويروى أنه يستنيب قال الأئمة: لا بد مع الشرائط من إمكان المسير وهو(2/217)
أن يبقى من الزمان بعد الاستطاعة ما يمكنه المسير فيه إلى الحج به السير المعهود، فإن احتاج إلى أن يقطع في يوم مرحلتين أو أكثر لم يلزمه الحج. ولو خرجت الرفقة قبل الوقت الذي جرت عادة أهل بلده بالخروج فيه لم يلزمه الخروج معهم. ووجوب الحج في العمر كالصلاة في وقتها، فيجوز التراخي لكنه إن دامت الاستطاعة وتحقق الإمكان ولم يحج حتى مات عصى على الأظهر وإن كان شابا. وقال أحمد ومالك وأبو حنيفة في رواية: إنه على الفور. حجة الشافعي أن فريضة الحج نزلت سنة خمس من الهجرة وأخره النبي صلى الله عليه وسلم من غير مانع فإنه خرج إلى مكة سنة سبع لقضاء العمرة ولم يحج وفتح مكة سنة ثمان، وبعث أبا بكر أميرا على الحاج سنة تسع وحج هو سنة عشر وعاش بعدها ثمانين يوما.
وأما النوع الثاني فهو استطاعة الاستنابة فإنها جائزة في الحج وإن كانت العبادات بعيدة عن الاستنابة، لأن المحجوج عنه قد يكون عاجزا عن المباشرة بسبب الموت أو الكبر أو زمانة أو مرض لا يرجى زواله.
وعن ابن عباس أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا رسول الله، إن أختي نذرت أن تحج وماتت قبل أن تحج، أفأحج عنها؟ فقال: لو كان على أختك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم. قال: فاقضوا حق الله تعالى فهو أحق بالقضاء» «1»
وعنه أن امرأة من خثعم قالت: يا رسول الله إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: نعم.
وقد تكون الاستنابة بطريق الاستئجار لأنه عمل يدخله النيابة فيجري فيه الاستئجار كتفريق الزكاة. وعند أبي حنيفة وأحمد لا يجوز ولكن يرزق عليه. ولو استأجر كان ثواب النفقة للآمر وسقط عنه الخطاب بالحج ويقع الحج عن الحاج. والحج بالرزق أن يقول: حج عني وأعطيك نفقتك.
وهذا أيضا جائز عند الشافعي كالإجارة، ولكن لا يجوز أن يقول استأجرتك بالنفقة لأنها مجهولة. والأجرة لا بد أن تكون معلومة. فهذا جملة الكلام في الاستطاعة عند الجمهور.
وعن الضحاك: إذا قدر أن يؤجر نفسه فهو مستطيع، وقيل له في ذلك فقال: إن كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه بل كان ينطلق إليه ولو حبوا، فكذلك يجب عليه الحج.
وفي الآية أنواع من التوكيد والتغليظ منها قوله: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ أي حق واجب له عليهم لكونه إلها فيجب عليهم الانقياد سواء عرفوا وجه الحكمة فيها أم لم يعرفوا فإن كثيرا من أعمال الحج تعبد محض. ومنها بناء الكلام على الأبدال ليكون تثنية للمراد
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأيمان باب 30. أبو داود في كتاب الأيمان باب 19. أحمد في مسنده (1/ 252) .(2/218)
وتفصيلا بعد الإجمال وإيراد للغرض في صورتين تقريرا له في الأذهان. ومنها ذكر من كفر مكان من لم يحج وفيه من التغليظ ما فيه ولهذا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا»
ونظيره
قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر» «1»
ومنها إظهار الغنى وتهويل الخطب بذكر اسم الله دون أن يقول: «فإنه» أو «فإني» فإنه يدل على غاية السخط والخذلان. ومنها وضع المظهر مقام المضمر حيث قال: عَنِ الْعالَمِينَ.
ولم يقل «عنه» لأنه تعالى إذا كان غنيا عن كل العالمين فلأن يكون غنيا عن طاعة ذلك الواحد أولى. ومن العلماء من زعم أن هذا الوعيد عام في حق كل من كفر ولا تعلق له بما قبله، ومنهم من حمله على اعتقاد عدم وجوب الحج ويؤكده ما روي عن سعيد بن المسيب إنها نزلت في اليهود قالوا: إن الحج إلى مكة غير واجب.
وعن الضحاك: لما نزلت آية الحج جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الأديان الستة. المسلمين واليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين- فخطبهم وقال: إن الله تعالى كتب عليكم الحج فحجوا. فآمن به المسلمون وكفرت به الملل الخمس وقالوا: لا نؤمن به ولا نصلي إليه ولا نحجه. فنزلت وَمَنْ كَفَرَ.
ومن الأحاديث الواردة في تأكيد أمر الحج
قوله صلى الله عليه وسلم: «حجوا قبل أن لا تحجوا فإنه قد هدم البيت مرتين ويرفع في الثالثة»
وروي «حجوا قبل أن لا تحجوا حجوا قبل أن يمنع البر جانبه»
أي يتعذر عليكم الذهاب إلى مكة من جانب البر لعدم الأمن أو غيره. وعن ابن مسعود: حجوا هذا البيت قبل أن تنبت في البادية شجرة لا تأكل منها دابة إلا نفقت أي هلكت. وعن عمر: لو ترك الناس الحج عاما واحدا ما نوظروا أي عجل عقوبتهم ويستأصلون.
ثم إنه سبحانه لاين أهل الكتاب في الخطاب فقال: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ التي دلتكم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم بعد ظهور البينات ودحوض الشبهات، أو بعد معرفة فضيلة الكعبة ووجوب الحج؟ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه. وهذه الحال توجب أن لا تجسروا على الكفر بآياته ودلالتها على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم إنه تعالى لما أنكر عليهم في ضلالهم وبخهم على إضلالهم فقال: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ قال المفسرون: وكان صدّهم عن سبيل الله إلقاء الشكوك والشبهات في قلوب ضعفة المسلمين، وإنكار أن نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم، ومنع من أراد الدخول في الإسلام بجهدهم وكدهم، أو بتذكير ما كان بينهم في الجاهلية من العداوات والحروب ليعودوا لمثله. ومحل تَبْغُونَها عِوَجاً أي اعوجاجا نصب على الحال أو بدل وهو بكسر العين
__________
(1) رواه النسائي في كتاب الصلاة باب 8. الترمذي في كتاب الإيمان باب 9. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 77. أحمد في مسنده (5/ 346) .(2/219)
الميل عن الاستواء في كل ما لا يرى كالدين والقول. وأما الشيء الذي يرى فيقال فيه «عوج» بالفتح كالحائط والقناة، ولهذا قال الزجاج: العوج بالكسر في المعاني وبالفتح في الأعيان. وتبغون بمعنى تطلبون ويقتصر على مفعول واحد إذا لم يكن معها اللام مثل «بغيت المال والأجر» فإن أريد تعديته إلى مفعولين زيدت اللام. فالتقدير تبغون لها عوجا كما تقول: صدتك ظبيا أي صدت لك ظبيا. والضمير عائد إلى السبيل فإنها تذكر وتؤنث.
والمعنى انكم تلبسون على الناس حتى توهموهم أن فيها زيفا كقولكم: إن النسخ يدل على البداء وإن شريعة موسى باقية إلى الأبد وإن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس بذلك المنعوت في كتابنا أو المراد أنكم تتبعون أنفسكم في إخفاء الحق وابتغاء ما لا يتأتى لكم من وجود العوج فيما هو أقوم من كل مستقيم. ويحتمل أن يكون عِوَجاً حالا بمعنى ذا عوج. وذلك أنهم كانوا يدعون أنهم على دين الله وسبيله فقيل لهم: إنكم تبغون سبيل الله ضالين وَأَنْتُمْ شُهَداءُ أنها سبيل الله التي لا يصد عنها إلا ضال مضل قاله ابن عباس. أو أنتم تشهدون ظهور المعجزات على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، أو أنتم شهداء بين أهل دينكم عدول يصغون لأقوالكم ويستشهدونكم في عظائم الأمور يعني الأحبار. وفيه أن من كان كذلك لا يليق بحاله الإصرار على الباطل والكذب والضلال والإضلال. ثم أوعدهم بقوله: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ كقول السيد لعبده وقد أنكر طريقته. لا يخفى عليّ سيرتك ولست بغافل عنك.
وإنما ختم الآية الأولى بقوله: وَاللَّهُ شَهِيدٌ وهذه بقوله: وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ لأن ذلك فيما أظهروه من الكفر بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا فيما أضمروه وهو الصد بالاحتيال وإلقاء الشبهة.
وفي تكرير الخطاب في الآيتين بقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ توبيخ لهم على توبيخ بألطف الوجوه وألين المقال لعلهم يتفكرون فينصرفون عن سلوك سبيل الضلال والإضلال. عن عكرمة
ويروى عن زيد بن أسلم وجابر أيضا أن شاس بن قيس اليهودي- وكان عظيم الكفر شديد الطعن على المسلمين- مر على نفر من الأنصار من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فغاظه ذلك حيث تألفوا واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية من العداوة وقال: ما لنا معهم إذا اجتمعوا من قرار. فأمر شابا من اليهود أن يجلس إليهم ويذكرهم يوم بعاث، وهو يوم اقتتلت فيه الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس على الخزرج. ففعل وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار. فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين، أوس بن قيظى أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج- فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئت والله رددتها الآن جذعة. وغضب الفريقان جميعا وقالا: قد فعلنا السلاح السلاح موعدكم الظاهرة وهي(2/220)
الحرة. فخرجوا إليها وانضمت الأوس والخزرج بعضها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية واصطفوا للقتال فنزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ الآيات فجاء النبي صلى الله عليه وسلم حتى قام بين الصفين فقرأها ورفع صوته، فلما سمعوا صوته صلى الله عليه وسلم أنصتوا له صلى الله عليه وسلم وجعلوا يستمعون، فما فرغ ألقوا السلاح وعانق بعضهم بعضا وجثوا يبكون.
وفي رواية زيد بن أسلم: خرج إليهم رسول الله فيمن معه من المهاجرين فقال: يا معشر المسلمين أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم أمر الجاهلية وألف بينكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟ الله الله. فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان وكيد من عدوهم، فألقوا السلاح وبكوا وعانق بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين فأنزل الله عز وجل الآيات.
قال جابر بن عبد الله: ما كان من طالع أكره إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأومى إلينا بيده وكففنا وأصلح الله ما بيننا، فما كان شخص أحب إلينا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما رأيت يوما قط أقبح ولا أوحش أوّلا وأحسن آخرا من ذلك اليوم.
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ استفهام بطريق الإنكار والعجب. والمعنى من أين يتطرق إليكم الكفر والحال أن آيات الله تتلى عليكم على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم في كل واقعة وبين أظهركم رسول الله يبين لكم كل شبهة ويزيح عنكم كل علة؟ ومع هذين النورين لا يبقى لظلمة الضلال عين ولا أثر، فعليكم أن لا تلتفتوا إلى قول المخالف وترجعوا فيما يعنّ لكم إلى الكتاب والنبي صلى الله عليه وسلم. قلت: أما الكتاب فإنه باق على وجه الدهر، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان قد مضى إلى رحمة الله في الظاهر، ولكن نور سره باق بين المؤمنين، فكأنه باق على أن عترته صلى الله عليه وسلم وورثته يقومون مقامه بحسب الظاهر أيضا. ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «إني تارك فيكم الثقلين ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وعترتي» «1»
وقال: «إن العلماء ورثة الأنبياء» «2»
اللهم اجعلنا من زمرتهم بعصمتك وهدايتك. وفي هذا بشارة لهذه الأمة أنهم لا يضلون أبدا إلى يوم القيامة. ثم بين أن الكل بعصمة الله وتوفيقه فقال: وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ يتمسك بدينه أو يلتجىء إليه في دفع شرور الكفار فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ والاعتصام الاستمساك بالشيء في منع نفسه من الوقوع في آفة. أما المعتزلة فحيث لم يجعلوا الاعتصام بخلق الله وهدايته بل قالوا: إنه بفعل
__________
(1) رواه مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 36، 37. الدارمي في كتاب فضائل القرآن باب 1.
أحمد في مسنده (3/ 14، 17، 367) .
(2) رواه البخاري في كتاب العلم باب 10. أبو داود في كتاب العلم باب 1. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 17. الدارمي في كتاب المقدمة باب 32. أحمد في مسنده (5/ 196) .(2/221)
العبد، تأوّلوا الآية بأن المراد بالهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات، أو المراد الهداية إلى الجنة. قال في الكشاف: فَقَدْ هُدِيَ أي فقد حصل له الهداية لا محالة كما تقول: إذا جئت فلانا فقد أفلحت كأن الهدى قد حصل له، فهو يخبر عنه حاصلا.
ومعنى التوقع في «قد» ظاهر لأن المعتصم بالله. متوقع للهدى، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده.
التأويل:
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ وهو صفة الله حَتَّى تُنْفِقُوا أحب الأشياء إليكم وهو أنفسكم. إن الفراش لم ينل من بر الشمع وهو شعلته حتى أنفق مما أحبه وهو نفسه كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا الخلق ثلاثة أصناف: الملك النوراني العلوي وغذاؤه الذكر وخلق للعبادة، والحيوان الظلماني السفلي وغذاؤه الطعام وخلق للخدمة، والإنسان المركب من القبيلين وغذاؤه لروحانيته الذكر ولجسمانيته الطعام وخلق للمعرفة والخلافة. وهذا الصنف على ثلاثة أقسام: منهم ظالم لنفسه وهو الذي بالغ في غذاء جسمانيته وقصر في غذاء روحانيته حتى مات روحه واستولت نفسه أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: 179] ومنهم مقتصد وهو الذي تساوى طرفاه خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً [التوبة: 102] وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ [فاطر: 32] وهو الذي بالغ في غذاء روحانيته وهو المذكور، وفرط في غذاء جسمانيته حتى ماتت نفسه وقوي روحه أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ [البينة: 7] فكان كل الطعام حلالا للإنسان كما للحيوان إلا ما حرم الإنسان السابق بالخيرات على نفسه بموت النفس وحياة القلب واستيلاء الروح من قبل أن ينزل الوحي والإلهام كما قيل:
المجاهدات تورث المشاهدات وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: 69] فمن افترى على الله الكذب بأن يريد أن يهتدي إلى الحق من غير جهاد النفس قُلْ صَدَقَ اللَّهُ في قوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ وكان من ملته إنفاق المال على الضيفان، وبذل الروح عند الامتحان، وتسليم الولد للقربان وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الذين يتخذون مع الله إلها آخر. إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لا لله لأنه غني عن العالمين.
وإن أنموذج بيت الله في الإنسان وهو العالم الصغير القلب الذي وضع ببكة صدر الإنسان مباركا عليه وهدى يهتدي به جميع أجزاء وجوده إلى الله بجوده. فإن النور الإلهي إذا وقع في القلب انفسح له واتسع، فبه يسمع وبه يبصر وبه يعقل وبه ينطق وبه يبطش وبه يمشي وبه يتحرك وبه يسكن فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ يصل بها الطالب إلى مطلوبه والقاصد إلى مقصوده، ومنها مقام إبراهيم وهو الخلة التي توصل الخليل إلى خليله وَمَنْ دَخَلَهُ يعني مقام إبراهيم ببذل المال والنفس والولد وإرضاء خليله كانَ آمِناً من نار القطيعة ومن(2/222)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
عذاب الحجاب. ثم أخبر عن وجوب زيارة بيت الخليل على الخليل إن استطاع إليه السبيل وذلك بأن وجد شرائط السلوك وإمكانه وآداب السير وأركانه. ومنها الإحرام بالخروج عن الرسوم والعادات، والتجرد عن الطيبات والمألوفات، والتطهر عن الأخلاق المذمومات، والتوجه إلى حضرة فاطر الأرض والسموات بخلوص النيات وصفاء الطويات. ومنها الوقوف بعرفات المعرفة، والعكوف على عتبة جبل الرحمة بصدق الالتجاء، وحسن العهد والوفاء. ومنها الطواف بالخروج عن الأطوار البشرية السبعية بالأطواف السبعة حول الكعبة الربوبية. ومنها السعي بين صفا الصفات ومروة الذات. ومنها الحلق بمحو آثار العبودية بموسى الأنوار الإلهية. وقس سائر المناسك على هذا. وَمَنْ كَفَرَ بوجدان الحق ولا يتعرض لنفحات الألطاف، ولا يترقب لجذبات الأعطاف التي توازي عمل الثقلين وهي الاستطاعة في الحقيقة فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ. لا يستكمل هو منهم وإنما يستكملون هم منه. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ ظاهر الخطاب معهم وباطنه مع علماء السوء الذين يبيعون دينهم بدنياهم ولا يعملون بما يعلمون فيضلون ويضلون، وما العصمة عن اتباع الهوى إلا منه تعالى.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 111]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106)
وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111)
القراآت:
حَقَّ تُقاتِهِ بالإمالة: علي. وَلا تَفَرَّقُوا بتشديد الراء: البزي وابن فليح.(2/223)
الوقوف:
مُسْلِمُونَ هـ وَلا تَفَرَّقُوا ص لعطف المتفقتين إِخْواناً ج لاحتمال الواو وللحال والاستئناف مِنْها ط تَهْتَدُونَ هـ الْمُنْكَرِ ط للعدول الْمُفْلِحُونَ هـ الْبَيِّناتُ ط عَظِيمٌ هـ (لا) لتعلق الظرف بلهم على الأصح. وقيل: منصوب بإضمار «اذكر» . وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ج اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ (لا) لأن التقدير: فيقال لهم: أكفرتم؟
تَكْفُرُونَ هـ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ ط خالِدُونَ هـ بِالْحَقِّ ط لِلْعالَمِينَ هـ ما فِي الْأَرْضِ ط الْأُمُورُ هـ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ط خَيْراً لَهُمْ ط الْفاسِقُونَ هـ قيل: لا وقف عليه وعليه وقف لأن المعرف لا يتصف بالجملة إِلَّا أَذىً ط والْأَدْبارَ وقفة لأن «ثم» لترتيب الإخبار أي ثم هم لا ينصرون، ولو كان عطفا لكان ثم لا ينصروا. لا يُنْصَرُونَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما حذر المؤمنين إضلال الكفار أمرهم في هذه الآيات بمجامع الطاعات ومعاقد الخيرات، فأولها لزوم سيرة التقوى. عن ابن عباس: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وهو أن يطاع فلا يعصى طرفة عين، وأن يشكر فلا يكفر، وأن يذكر فلا ينسى. أو هو القيام بالمواجب كلها والاجتناب عن المحارم بأسرها، وأن لا يأخذه في الله لومة لائم، ويقول بالقسط ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين، شق ذلك على المسلمين فنزلت فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] والجمهور على أنها منسوخة لأن معنى حَقَّ تُقاتِهِ واجب تقواه وكما يحق أن يتقي وهو أن يجتنب جميع معاصيه، ومثل هذا لا يجوز أن ينسخ وإلا كان إباحة لبعض المعاصي. ولا يجوز أن يراد بقوله:
حَقَّ تُقاتِهِ ما لا يستطاع من التكاليف كالصادر على سبيل الخطأ والسهو والنسيان لقوله:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] فعلى هذا لم يبق فرق بين الآيتين. ولناصر القول الأول أن يقول: إن كنه الإلهية غير معلوم للخلق، فلا يكون كمال قهره وقدرته وعزته معلوما فلا يحصل الخوف اللائق بذلك فلا يحصل حق الاتقاء، وإذا كان كذلك فيجوز أن يؤمر بالاتقاء الأغلظ والأخف، ثم ينسخ الأغلظ ويبقى الأخف، ونزول هذه الآية بعد قوله:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة: 286] ممنوع وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ليس نهيا عن الموت وإنما هو نهي عن أن يدركهم الموت على خلاف حال الإسلام وقد مر في البقرة مثله. ثم إنه تعالى أمرهم بما هو كالأصل لجميع الخيرات وإصلاح المعاش والمعاد وهو الاجتماع على التمسك بدين الله واتفاق الآراء على إعلاء كلمته فقال: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً حال كونهم مجموعين. وقولهم: اعتصمت بحبله يجوز أن يكون تمثيلا لاستظهاره به ووثوقه بعنايته باستمساك المتدلي من مكان مرتفع بحبل وثيق يأمن انقطاعه،(2/224)
لأن وجه الشبه وصف غير حقيقي ومنتزع من عدة أمور. ويجوز أن يكون الحبل استعارة للعهد والاعتصام لوثوقه بالعهد بناء على أن في الكلام تشبيهين، ويجوز أن تفرض الاستعارة في الحبل فقط ويكون الاعتصام ترشيحا لها. والحاصل أن طريق الحق دقيق والسائر عليه غير مأمون أن تزل قدمه عن الجادة، فيراد بالحبل هاهنا ما يتوصل به إلى الثبات على الحق وإن كانت عبارات المفسرين متخالفة. فعن ابن عباس: هو العهد كما يجيء إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ [آل عمران: 112] وقيل: إنه القرآن كما
روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أما إنها ستكون فتنة. قيل: فما المخرج منها؟ قال صلى الله عليه وسلم: كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو حبل الله المتين» «1»
وروى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم «هذا القرآن حبل الله»
وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله حبل متين ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي» «2»
وقيل: إنه دين الله. وقيل: إنه طاعة الله. وقيل: إخلاص التوبة.
وقيل: الجماعة لقوله تعالى عقيب ذلك: وَلا تَفَرَّقُوا لأن الحق لا يكون إلا واحدا، وما بعد الحق إلا الضلال. ويد الله مع الجماعة.
قال صلى الله عليه وسلم: «ستفترق أمتي على نيف وسبعين فرقة الناجي منهم واحد فقيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: الجماعة»
وروي «السواد الأعظم»
وروي «ما أنا عليه وأصحابي» «3»
قال صلى الله عليه وسلم: «لا تجتمع أمتي على الضلالة» «4»
وقد يتمسك بالآية نفاة القياس قالوا: الأحكام الشرعية إن احتيج فيها إلى الدلائل اليقينية امتنع الاكتفاء فيها بالقياس، وإن اقتصر فيها على الدلائل الظنية فالقول بجواز القياس لكل أحد يوجب التفرق والاختلاف وهو منهي عنه. وأجيب بأن الدلائل الدالة على وجوب العمل بالقياس مخصصة لعموم قوله: وَلا تَفَرَّقُوا. ثم إنه تعالى ذكرهم نعمته عليهم وذلك أنهم كانوا في الجاهلية بينهم إلا حن والبغضاء والحروب المتطاولة، فألف الله بين قلوبهم ببركة الإسلام فصاروا إخوانا في الله متراحمين متناصحين، وذلك أن من كان وجهه إلى الدنيا فقلما يخلو من معاداة ومناقشة بسبب الأغراض الدنيوية، أما العارف الناظر من الحق إلى الخلق فإنه يرى الكل أسيرا في قبضة القضاء فلا يعادي أحدا البتة لأنه مستبصر بسر الله في القدر. فإذا أمر أمر برفق ناصح لا بعنف معير وكان حبه لحزب الله ونظرائه في الدين ورفقائه في طلب
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب ثواب القرآن باب 14.
(2) رواه الترمذي في كتاب المناقب باب 31. أحمد في مسنده (3/ 14، 17) .
(3) رواه الدارمي في كتاب السير باب 75.
(4) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب 8.(2/225)
اليقين أشد من حب الوالد لولده، فكانوا كالأقربين والإخوان بل كجسد واحد وكنفس واحدة. وقيل: يريد الإخوان في النسب. وذلك أن الأوس والخزرج كانا أخوين لأب وأم، وكان بينهما العداوة والحروب، وبقيا على ذلك مائة وعشرين سنة إلى أن أطفأ الله ذلك بالإسلام، وألف بينهم برسول الله، فذكر الله تعالى تلك النعمة. وفيه دليل على أن المعاملات الحسنة الجارية فيما بينهم بعد الإسلام إنما حصلت من الله تعالى حيث خلق فيهم تلك الداعية المستلزمة لحصول الفعل. قال الكعبي: إن ذلك بالهداية والبيان والتحذير والمعونة والألطاف لا بخلق الفعل. وأجيب بأن كل هذا كان حاصلا قبل ذلك. فاختصاص أحد الزمانين بحصول الألفة والمحبة لا بد أن يكون لأمر زائد على ما ذكرتم. هذا شرح النعم الدنيوية عليهم، ثم ذكرهم النعم الأخروية بقوله: وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها وشفا الحفرة وشفتها حرفها بالتذكير والتأنيث، ومنه يقال: أشفى على الشيء إذا أشرف عليه كأنه بلغ شفاه أي حده وطرفه. وأنقذه واستنقذه خلصه ونجاه. والضمير في مِنْها للحفرة أو النار أو للشفاء إما لأنه في معنى الشفة وإما لإضافته إلى الحفرة وهو بعضها وهو كقوله:
كما شرقت صدر القناة من الدم قال بعضهم: الشفة أصغر من الشفا وكذلك الضلالة والضلال ولذلك قال نوح عليه السلام: لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ [الأعراف: 61] حين قال له قومه إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأعراف: 60] أي ليس بي صغير من الضلال فكيف الكبير منه؟ ومعنى الآية إنكم كنتم مشرفين بكفركم على جهنم تشبيها لها بالحفر التي فيها النار وتمثيلا لحياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على حرفها. وفيه تنبيه على تحقير مدة الحياة وإن طالت كأنه ليس بين الحياة وبين الموت المستلزم للوقوع في الحفرة إلا ما بين طرف الشيء وبين ذلك الشيء. قالت المعتزلة: معنى الإنقاذ أنه تعالى لطف بهم بالرسول صلى الله عليه وسلم وبسائر ألطافه حتى آمنوا. وقال أهل السنة: جميع الألطاف مشتركة بين المؤمن والكافر، فلو كان فاعل الإيمان هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار، لكن الآية دلت على أن الله تعالى هو المنقذ فعلم أن خالق أفعال العباد هو الله تعالى. كَذلِكَ مثل ذلك البيان البليغ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إرادة أن تزدادوا هدى أو لتكونوا على رجاء هداية. فالأول قول المعتزلة والثاني لأهل السنة، وقد مر في أوائل سورة البقرة. ثم رغب المؤمنين الكاملين في تكميل غيرهم فقال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وهو جنس تحته نوعان: الترغيب في فعل ما(2/226)
ينبغي من واجبات الشرع ومندوباته والكف عما لا ينبغي من محرماته ومكروهاته، فلا جرم أتبعه النوعين زيادة في البيان فقال: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ واختلفوا في أن كلمة «من» في قوله: مِنْكُمْ للتبيين أو للتبعيض. فذهب طائفة إلى أنها للتبيين لأنه ما من مكلف إلا ويجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، إما بيده أو بلسانه أو بقلبه، وكيف لا وقد وصفهم الله تعالى بذلك في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فهذا كقولك: لفلان من أولاده جند وللأمير من غلمانه عسكر. وتريد جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم. ثم قالوا: إن ذلك وإن كان واجبا على الكل إلا أنه متى قام به بعض سقط عن الباقين كسائر فروض الكفايات. وقال آخرون: إنها للتبعيض إما لأن في القوم من لا يقدر على الدعوة وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كالنساء والمرضى والعاجزين، وإما لأن هذا التكليف مختص بالعلماء الذين يعرفون الخير ما هو والمعروف والمنكر ما هما، ويعلمون كيف يرتب الأمر في إقامتهما، وكيف يباشر.
فإن الجاهل ربما نهى عن معروف وأمر بمنكر، وربما عرف الحكم في مذهبه وجهله في مذهب صاحبه فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا. وأيضا قد أجمعنا على أن ذلك واجب على الكفاية، فكان هذا بالحقيقة إيجابا على البعض الذي يقوم به. ثم إن نصب لذلك رجل تعين عليه بحكم الولاية وهو المحتسب.
واعلم أن الأمر بالمعروف على ثلاثة أضرب: أحدها ما يتعلق بحقوق الله تعالى وهو نوعان: أحدهما ما يؤمر به الجمع دون الأفراد كإقامة الجمعة حيث تجتمع شرائطها، فإن كانوا عددا يرون انعقاد الجمعة بهم والمحتسب لا يراه فلا يأمرهم بما لا يجوّزه ولا ينهاهم عما يرونه فرضا عليهم ويأمرهم بصلاة العيد. والثاني ما يؤمر به الأفراد كما إذا أخر بعض الناس الصلاة عن الوقت. فإن قال: نسيتها. حثه على المراقبة. ولا يعترض على من أخرها والوقت باق. وثانيها ما يتعلق بحقوق الآدميين وينقسم إلى عام كالبلد إذا تعطل شربه أو انهدم سوره أو طرقه أبناء السبيل المحتاجون وتركوا معونتهم. فإن كان في بيت المال مال لم يؤمر الناس بذلك، وإن لم يكن أمر ذوو المكنة برعايتها والي خاص كمطل المديون الموسر بالدين. فالمحتسب يأمره بالخروج عنه إذا استعداه رب الدين وليس له الحبس.
وثالثها الحقوق المشتركة كأمر الأولياء بإنكاح الأكفاء، وإلزام النساء أحكام العدد، وأخذ السادة بحقوق الأرقاء، وأرباب البهائم بتعهدها وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق، ومن يغير هيئات العبادات كالجهر في الصلاة السرية وبالعكس، أو يزيد في الأذان يمنعه وينكر عليه،(2/227)
ومن تصدى للتدريس والوعظ وهو ليس من أهله ولم يؤمن اغترار الناس به في تأويل أو تحريف، فينكر المحتسب عليه ويظهر أمره لئلا يغتر به. وإذا رأى رجلا واقفا مع امرأة في شارع يطرقه الناس لم ينكر عليه، وإن كان في طريق خال فهو موضع ريبة فينكر ويقول: إن كانت ذات محرم فصنها عن مواضع الريب، وإن كانت أجنبية فخف الله معها في الخلوة.
ولا ينكر في حقوق الآدميين كتعدي الجار في جدار الجار إلا باستعداء صاحب الحق، وينكر على من يطيل الصلاة من أئمة المساجد المطروقة، وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم وقصروا في النظر في الخصومات. والسوقي المختص بمعاملة النساء يختبر أمانته فإن ظهرت منه خيانة منع من معاملتهن. وبالجملة
«الإيمان بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق» «1»
فلينظر الداعي الى الخير في حال كل مكلف وغير مكلف حتى الصبيان، ليتمرنوا والمجانين كيلا يضروا ويدعوه إلى ما يليق به متدرجا من الأسهل إلى الأصعب في الأمر والإنكار كل ذلك إيمانا واحتسابا لا سمعة ورياء، ولا لغرض من الأغراض النفسانية والجسمانية. وذلك أنّ هذه الدعوة منصب النبي وخلفائه الراشدين بعده، ومن هاهنا ذهب الضحاك إلى أن المراد من المذكورين في هذه الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يتعلمون من الرسول ويعلمون الناس.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسول الله وخليفة كتابه»
وعن علي: أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن شنأ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وكفى بقوله تعالى: وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أي الأخصاء بالفلاح مدحا لهم. وقد يتمسك بهذا في أن الفاسق ليس له أن يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر لأنه ليس من أهل الفلاح. وأجيب بأن هذا ورد على سبيل الغالب، فإن الظاهر أن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لا يشرع فيه إلا بعد إصلاح أحوال نفسه، لأن العاقل يقدم مهم نفسه على مهم الغير وقلما يتفق ممن يزني بامرأة أن يأمرها بالمعروف في أنها لم كشفت عن وجهها. قال بعض العلماء: إن ترك ارتكاب المنهي عنه والنهي عن ارتكاب المنهي واجبان على الفاسق، فبتركه أحد الواجبين لا يسقط عنه الواجب الآخر. وعن بعض السلف: مروا بالخير وإن لم تفعلوا. وعن الحسن أنه سمع مطرف بن عبد الله يقول: لا أقول ما لا أفعل فقال: وأينا يفعل ما يقول؟ ود الشيطان لو ظفر بهذه منكم فلا يأمر أحد بمعروف ولا ينهي عن منكر. والحق في هذه القضية ما قيل:
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب 14. النسائي في كتاب الإيمان باب 16. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 9.(2/228)
وغير تقيّ يأمر الناس بالتقى ... طبيب يداوي الناس وهو مريض
والقرآن ينعي عليه بقوله: لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: 2، 3] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 44] وقد سلف تقريره في البقرة. وعن داود الطائي أنه سمع صوتا من قبر: ألم أزك ألم أصل ألم أصم ألم أفعل كذا وكذا؟ أجيب بلى يا عدو الله ولكن إنك إذا خلوت بارزته بالمعاصي ولم تراقبه.
قوله سبحانه: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا في النظم وجهان: أحدهما أنه تعالى ذكر في الآيات المتقدمة أنه بين في التوراة والإنجيل ما يدل على صحة دين الإسلام، ثم إن أهل الكتاب حسدوا محمدا فاحتالوا لإلقاء الشكوك في تلك النصوص، ثم انجر الكلام إلى أنه أمر المؤمنين بالدعاء إلى الخير، فختم الكلام بتحذير المؤمنين من مثل فعل أهل الكتاب من إلقاء الشبهات في النصوص واستخراج التأويلات الفاسدة، فعلى هذا تكون الآية من تتمة الآيات المتقدمة. وثانيهما أنه لما أمر الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن ضده وكان ذلك مما لا يتم إلا بالقدرة على تنفيذه، كيف وفي الناس ظلمة ومتغلبون، فلا جرم حذر أهل الحق أن يتفرقوا ويختلفوا كيلا يصير ذلك سببا لعجزهم عن القيام بهذا التكليف، وعلى هذا تكون الآية من تتمة الآية السابقة فقط. قال بعضهم: تفرقوا واختلفوا مؤداهما واحد والتكرير للتأكيد. وقيل: معناهما مختلف. تفرقوا بالعداوة واختلفوا في الدين. أو تفرقوا بسبب التأويلات الفاسدة للنصوص، واختلفوا بأن حاول كل منهم نصرة قوله. أو تفرقوا بأبدانهم بأن صار كل من الأحبار رئيسا في بلد، واختلفوا بأن صار كل منهم يدعي أنه على الحق وصاحبه على الباطل. ولعل الإنصاف أن أكثر علماء الزمان بهذه الصفة فنسأل الله العصمة والسداد. وَأُولئِكَ اليهود والنصارى الذين اختلفوا من بعد ما جاءهم الدلالات الواضحة والنصوص الظاهرة، أو أولئك الذين اقتفوا آثارهم من مبتدعة هذه الأمة لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ وفي تعليق الظرف بقوله لَهُمْ فائدتان:
إحداهما أن ذلك العذاب في هذا اليوم، والأخرى أن من حكم هذا اليوم أن يبيض بعض الوجوه ويسود بعضها ونظير ذلك في القرآن وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس: 38- 41] وفي أمثال هذه الألوان للمفسرين قولان:
أحدهما- وإليه ميل أبي مسلم-: أن البياض مجاز عن الفرح والسواد عن الغم وهذا مجاز مستعمل قال تعالى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا [النحل: 58] ولما سلم الحسن بن علي الأمر إلى معاوية قال له رجل: يا مسوّد وجوه المؤمنين. وتمام الخبر سوف يجيء إن شاء الله في تفسير سورة القدر. ولبعض الشعراء في الشيب:(2/229)
يا بياض القرون سودت وجهي ... عند بيض الوجوه سود القرون
وثانيهما: أن السواد والبياض محمولان على ظاهرهما وهما النور والظلمة، إذ الأصل في الإطلاق الحقيقة. فمن كان من أهل نور الحق وسم ببياض اللون وإسفاره وإشراقه وابيضت صحيفته وسعى النور بين يديه وبيمينه، ومن كان من أهل ظلمة الباطل وسم بسواد اللون وكمده واسودت صحيفته وأحاطت به الظلمة من كل جانب. قالوا: والحكمة في ذلك أن يعرف أهل الموقف كل صنف فيعظمونهم أو يصغرون بحسب ذلك ويحصل لهم بسببه مزيد بهجة وسرور أو ويل وثبور. وأيضا إذا عرف المكلف في الدنيا أنه يحصل له في الآخرة إحدى الحالتين ازدادت رغبته في الطاعات وترك المحرمات. قلت: والتحقيق فيه أن والهيئات والأخلاق الحميدة أنوار، والملكات والعادات الذميمة ظلمات، وكل منهما لا يظهر آثارهما كما هي إلا بعد المفارقة إلى الآخرة انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [الحديد: 13] واحتج أهل السنة بالآية على أن المكلف إما مؤمن وإما كافر وإنه ليس هاهنا منزلة بين المنزلتين، لأنه قسم أهل القيامة إلى قسمين: مبيض الوجوه وهم المؤمنون، ومسودها وهم الكافرون لقوله تعالى في آخر الآية فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ واعترض القاضي عليه بأن عدم ذكر القسم الثالث لا يدل على عدمه، وأيضا لفظ وجوه نكرة فلا يفيد العموم. وأيضا المذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد الإيمان، ولا شبهة أن الكافر الأصلي من أهل النار مع أنه غير داخل تحت هذين القسمين فكذا القول في الفساق. والجواب لم لا يجوز أن يكون المراد أن كل أحد أسلم وقت استخراج الذرية من صلب آدم، فيكون الخطاب لجميع الكفار؟ وأنه أيضا جعل موجب العذاب في آخر الآية هو الكفر من حيث إنه كفر لا الكفر من حيث إنه بعد الإيمان. فإن قيل: لم قدم البياض على السواد أوّلا وعكس آخرا؟ فالجواب بعد تسليم إفادة الواو الترتيب، أنه بدأ بذكر أهل الثواب وختم بهم أيضا تنبيها على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب كما
قال: «سبقت رحمتي غضبي»
ولما في ذلك من رعاية حسن المطلع والمقطع وأنه فن بديع في الفصاحة. ومن المراد بهؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم؟
قال أبي بن كعب: هم جميع الكفار لأنهم آمنوا وقت الميثاق، ورواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقيل: المراد أكفرتم بعد ما ظهر لكم ما يوجب الإيمان وهو ما نصبه الله من دلائل التوحيد والنبوة؟ وقال عكرمة والأصم والزجاج: إنهم أهل الكتاب آمنوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وكفروا به بعد بعثه. وقال قتادة: إنهم المرتدون. وقال الحسن: هم المنافقون.
وقيل: هم الخوارج الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمرقون من الدين كما يمرق السهم من(2/230)
الرمية» .
ولما رأى أبو أمامة رؤوسا منصوبة على درج مسجد دمشق دمعت عيناه ثم قال:
كلاب النار هؤلاء شر قتلى تحت أديم السماء، وخير قتلى تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء. فقال له أبو غالب: أشيء تقوله برأيك أم شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم أسمعه، إلا مرة أو مرتين أو ثلاثا حتى عد سبعا ما حدثتكموه. قال: فما شأنك دمعت عيناك؟ قال: رحمة لهم. كانوا من أهل الإسلام فكفروا ثم قرأ هذه الآية. ثم أخذ بيده فقال: إن بأرضك منهم كثيرا فأعاذك الله منهم. هذا مما أخرجه الإمام أبو عيسى الترمذي في جامعه. ولكن المشهور من مذهب أهل السنة أنّ الخروج على الإمام لا يوجب الكفر البتة، والاستفهام في قوله تعالى: أَكَفَرْتُمْ بمعنى الإنكار. قال القاضي: وفيه وكذا في قوله: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ دليل على أن الكفر منهم لا من الله. وقالت المرجئة: فيه دلالة على أن العذاب لا يكون إلا للكافر. أما قوله: فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ فالمراد بها الجنة التي هي محل الرحمة. وموقع قوله: هُمْ فِيها خالِدُونَ موقع الاستئناف كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فأجيب بذلك أي لا يظعنون عنها ولا يموتون. وفي إقامة الرحمة مقام الجنة دليل على أن العبد وإن كثرت طاعته فإنه لا يدخل الجنة إلا بفضل الله وبرحمته. وفي إضافة الرحمة إلى نفسه وتعليل العذاب بكفرهم والنص على خلود أهل الثواب دون أهل النار وإن كانوا مخلدين أيضا دلائل وإشارات إلى أن جانب العفو والمغفرة والرحمة مغلب. وكيف لا وقد أردفه بقوله: تِلْكَ الأحكام التي وردت في حيز الوعيد والوعد وانقضى ذكرها آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ متلبسة بِالْحَقِّ العدل من جزاء المحسن بإحسانه وجزاء المسيء بإساءته، أو متلبسة بالمعنى الحق لأن معنى المتلو حق وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ ولكن مصالح الخلق لا تنتظم إلا بتهديد المذنبين، وإذا حصل التهديد فلا بد من التحقيق دفعا للكذب عمن هو أصدق القائلين. قال الجبائي:
قوله: ظُلْماً نكرة في سياق النفي فوجب أن لا يريد شيئا مما يكون ظلما سواء فرض منه أو من العبد على نفسه أو على غيره، وإذا لم يرد لم يفعل إذ لو كان فاعلا لشيء من الأقسام الثلاثة كان مريدا له هذا خلف، فثبت بهذه الآية أنه تعالى غير فاعل للظلم وغير فاعل لأعمال العباد، إذ من جملتها القبائح، وقد بينا أنه لا يريدها. ثم إنه تعالى تمدح بأنه لا يريد ذلك، والتمدح إنما يصح لو صح منه فعل ذلك الشيء وصح منه كونه مريدا له، فدلت الآية على أنه قادر على الظلم وعلى أن يمنع الظلمة من الظلم على سبيل الإلجاء والقهر فلهذا قال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وأيضا لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح استدل عليه بأن فاعل القبيح إنما يفعل القبيح للجهل أو العجز أو الحاجة، وكل ذلك على(2/231)
الله تعالى محال لأنه مالك لكل ما في السموات وما في الأرض بل لكل ما في الوجود.
وربما يقال: معنى الآية إما أن يكون أنه لا يريد أن يظلمهم، أو أنه لا يريد أن يظلم بعضهم بعضا. والأول لا يستقيم على مذهبكم لأن من مذهبكم أنه تعالى لو عذب البريء من الذنب أشد العذاب لم يكن ظالما بل كان عادلا لأن الظلم تصرف في ملك الغير وهو تعالى إنما يتصرف في ملك نفسه، فتصور الظلم منه محال عندكم، فلا يلزم منه مدح. والثاني أيضا محال على قولكم لأن كلا بإرادة الله وبتكوينه عندكم، فثبت أنه لا يمكن حمل الآية على وجه صحيح في مذهبكم. أجاب أهل السنة من وجهين: الأول أنه يتوقف التمدح بنفي صفة على إمكان تصور ذلك الشيء منه بدليل قوله: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة: 255] وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ [الأنعام: 14] ولا يتوقف التمدح بذلك على صحة النوم والأكل عليه. الثاني أنه تعالى إن عذب من ليس بمستحق للظلم لم يكن ظالما لكنه في صورة الظلم. وقد يطلق اسم أحد المتشابهين على الآخر كقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: 40] والحق في هذا المقام أن الظلم وضع الشيء في غير موضعه. وإذا كان اللطف والقهر من ضرورات صفات الكمال، فوضع كل منهما في مظهره يكون وضع الشيء في موضعه فلا يكون ظلما. واحتجت الأشاعرة بقوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنها من جملة ما في السموات وما في الأرض. أجابت المعتزلة بأن قوله: لِلَّهِ إضافة ملك لا إضافة فعل كما يقال: هذا البناء لفلان. يراد أنه مملوكه لا أنه مفعوله. وأيضا الآية مسوقة في معرض المدح ولا مدح في نسبة الفواحش والقبائح إلى نفسه. وأيضا قوله: ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يتناول ما كان مظروفا لهما وذلك من صفات الأجسام لا من صفات الأفعال التي هي أعراض، وعورض بأن الإضافة إضافة فعل، لأن المؤثر في حصول فعل العبد هو مجموع القدرة والداعية المنتهية إلى تخليق الله دفعا للتسلسل أو الترجيح من غير مرجح. قالت الحكماء:
تقديم السموات في الذكر على الأرض دليل على أن جميع الأحوال الأرضية مستندة إلى الأسباب السماوية، ولا شك أن الأحوال السماوية مستندة إلى خلقه وتكوينه تعالى فيكون الجبر أيضا لازما من هذا الوجه. وَإِلَى اللَّهِ أي إلى حيث لا مالك سواه تُرْجَعُ الْأُمُورُ فالأول إشارة إلى أنه تعالى مبدأ المخلوقات كلها، وهذا إشارة إلى أن معاد الكل إليه.
قوله عز من قائل: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ في النظم وجهان: أحدهما أنه لما أمر المؤمنين بما أمر ونهاهم عما نهى، عدل الى طريق آخر يقتضي حملهم على الانقياد والطاعة لأن كونهم خير الأمم مما يقوّي داعيتهم في أن لا يبطلوا على أنفسهم هذه المزية، وذلك إنما(2/232)
يكون بالتزام التكاليف الشرعية. وثانيهما أنه لما ذكر حال الأشقياء وحال السعداء نبه أوّلا على ما هو السبب لوعيد الأشقياء بقوله: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ بمعنى أنهم استحقوا ذلك بأفعالهم القبيحة. ثم نبه على سبب وعد السعداء بقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أي تلك الكرامات والسعادات إنما فازوا بها في الآخرة لأنهم كانوا في الدنيا خير أمة، وأقول:
لما انجر الكلام في مخاطبة المؤمنين الى بيان أن كل ما في الوجود ملكه وملكه إبداعا واختراعا وأن منتهى الكل إليه، أتبع ذلك مزية هذه الأمة ليعلم أنها بسابقة العناية الأزلية إذ جعلهم مظهر الألطاف، وذكر بعدها رذيلة أهل الكتاب ليعرف أنها لوقوعهم في طريق القهر ولا اعتراض لأحد على ما يفعله المالك في ملكه. عن عكرمة ومقاتل أن مالك بن الصيف ووهب بن يهوديا اليهوديين قالا لابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى حذيفة: إن ديننا خير مما تدعوننا إليه، ونحن خير وأفضل منكم. فأنزل الله هذه الآية. قال بعض المفسرين: «كان» هاهنا تامة، وانتصاب خَيْرَ أُمَّةٍ على الحال أي حدثتم ووجدتم خير أمة. والأكثرون على أنها ناقصة، فجاء إيهام أنهم كانوا موصوفين بالخيرية في الزمان الماضي دون ما يستقبل. فأجيب بأن «كان» لا تدل على عدم سابق ولا انقطاع طارئ بدليل قوله: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً [النساء: 69] وقيل: المراد كنتم في علم الله أو في اللوح المحفوظ خير أمة، أو كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة كقوله: ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ [الفتح: 29] وقال أبو مسلم: هذا تابع لقوله: وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ وما بينهما اعتراض والتقدير: أنه يقال لهم عند الخلود في الجنة: كنتم في دنياكم خير أمة فلهذا نلتم من الرحمة وبياض الوجه ما نلتم. وقال بعضهم: لو شاء الله لقال: أنتم. فكان هذا التشريف حاصلا لكلنا، ولكنه مخصوص بقوم معينين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم السابقون الأولون ومن صنع مثل صنيعهم. وقيل: إنها زائدة والمعنى:
أنتم خير أمة. وزيفه ابن الأنباري بأن الزائدة لا تقع في أول الكلام ولا تعمل كقول العرب «عبد الله كان قائم وعبد الله قائم كان» ولا يقولون: «كان عبد الله قائم» على أن «كان» زائدة.
لأن البداءة بها دليل شدة العناية، والملغى لا يكون في محل العناية. وقيل: إنها بمعنى صار أي صرتم خير أمة. وأصل الأمة الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم هي الطائفة الموصوفة بالإيمان به والإقرار بنبوته. وإذا أطلقت الأمة في نحو قول العلماء «اجتمعت الأمة» وقعت عليهم. وقد يقال لكل من جمعتهم دعوته إنهم أمة الدعوة ولا يطلق عليهم لفظ الأمة إلا بهذا القيد. قال الزجاج: ظاهر الخطاب في كُنْتُمْ مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه عام في حق كل الأمة. ونظيره كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [البقرة: 178] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ [البقرة: 183] وقوله: لِلنَّاسِ إما أن يتعلق ب أُخْرِجَتْ(2/233)
والمعنى: كنتم خير الأمم المخرجة للناس في جميع الأعصار. ومعنى إخراجها أنها أظهرت للناس حتى تميزت وعرفت وفصل بينها وبين غيرها. وإما أن يتعلق ب كُنْتُمْ أي كنتم للناس خير أمة. ثم بين سبب الخيرية على سبيل الاستئناف بقوله: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ كما تقول: زيد كريم يطعم الناس ويكسوهم ويقوم بمصالحهم. وقد يستدل بالآية على أن إجماع هذه الأمة حجة لأنها لو لم تحكم بالحق لم تكن خيرا من المبطل، ولأن اللام في بِالْمَعْرُوفِ وفي الْمُنْكَرِ للاستغراق فيقتضي كونهم آمرين بكل معروف وناهين عن كل منكر فيكون إجماعهم حقا. وأما أنه من أي وجه يقتضي ذلك كون هذه الأمة خير الأمم مع أن الصفات الثلاثة كانت حاصلة لسائر الأمم فذلك أن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان وباليد، وأقواها ما يكون بالقتال لأنه إلقاء النفس في خطر القتل. وأعرف والمعروفات الدين الحق والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات الكفر بالله، فكان الجهاد في الدين تحملا لأعظم المضارّ لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع وتخليصه من أعظم المضار، فكان من أعظم العبادات. ولما كان أمر الجهاد في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا نبي السيف أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله» «1»
فلا جرم صار ذلك موجبا لفضل هذه الأمة على سائر الأمم، وهذا معنى ما روي عن ابن عباس في تفسير قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويقروا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، ولا إله إلا الله أعظم المعروف والتكذيب أنكر المنكر. وفائدة القتل على الدين لا ينكره منصف فإن أكثر الناس يحبون ما ألفوه من الأديان الباطلة ولا يتأملون في الدلائل التي تورد عليهم، فإذا خوف بالقتل دخل في دين الحق مكرها إلى أن يألفه متدرجا. وأما الإيمان بالله فلا شك أنه في هذه الأمة أكمل لأنهم آمنوا بكل ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو ثواب أو عقاب إلى غير ذلك، ولا يقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض. وإنما اقتصر في وصف الأمة على الإيمان بالله لأنه يستلزم الإيمان بالنبوة وبسائر ما عددنا وإلا لم يكن في الحقيقة إيمانا، ولهذا نفى عن أهل الكتاب في قوله: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ وإنما قدم الأمر بالمعروف على الإيمان بالله في الذكر مع أن الإيمان مقدم على كل الطاعات، لأن الآية سيقت لبيان فضل الأمر بالمعروف وتأكد القيام به ولهذا كرر بعد قوله:
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 32- 36. البخاري في كتاب الإيمان باب 17، 28. أبو داود في كتاب الجهاد باب 95. الترمذي في كتاب تفسير سورة 88. النسائي في كتاب الزكاة باب 3.
ابن ماجه في كتاب الفتن باب 1- 3. بدون لفظ «أنا نبي السيف» .
[.....](2/234)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ فكانت العناية به أشد فكان تقديمه أهم. وليعلم أن التكميل أفضل من الكمال نفسه ولهذا استلزم الأول الثاني دون العكس، ولأن التكميل يتضمن الكمال فكان في تأخير الإيمان بالله تكريرا له مرة بالتضمن وأخرى بالمطابقة على أن الواو لا تفيد الترتيب، وأيضا أراد أن يبني عليه قوله: وَلَوْ آمَنَ. وفي التفسير الكبير:
إن أصل الإيمان مشترك فيه بين الأديان فلا تتبين فيه الخيرية، لكن الآية سيقت لبيان الخيرية وليس ذلك إلا لأن هذه الأمة أقوى في باب الأمر بالمعروف فلهذا قدم، ثم أتبع ذكر الإيمان بالله ليعلم أن شرط تأثير الأمر بالمعروف في الخيرية حاصل. ولا يخفى أن هذا الجواب مبني على أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وعلى أن إيمان أهل الكتاب معتد به وليس كذلك، ولهذا قال تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ يعنى إيمانا معتبرا وهو الإيمان بالله وبسائر ما لا بد منه من الأمور المعدودة لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لحصلت لهم صفة الخيرية أيضا لانضمامهم في زمرة هذه الأمة، أو لحصل لهم من الرياسة وحظوظ الدنيا ما هو خير مما تركوا هذا الدين لأجله، لأن الحاصل على هذا التقدير عزة الإسلام مع الفوز بما وعدوا من إيتاء الأجر في الآخرة مرتين، وعلى ما هم فيه ليس إلا استتباع بعض الجهلة من العوام وشيء نزر من الرشا، وبعد ذلك خلود في النار. ثم فصل أهل الكتاب على سبيل الاستئناف فقال: مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ كعبد الله بن سلام ورهطه وكالنجاشي وأصحابه، فاللام للمعهود السابق وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ الخارجون عن طاعة الله تعالى وعن دينه فيقارب الكفر أو يرادفه، أو المراد أنهم ليسوا بعدول في دينهم أيضا فهم مردودون باتفاق الطوائف كلهم، فلا ينبغي أن يقتدى بهم البتة. ثم أخبر عن حالهم وكان كما قال وهو آية الإعجاز بجملة مستأنفة هي لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً الإضرار ألا يجاوز أذى بقول كطعن في الدين أو تهديد أو تحريف نص أو إلقاء شبهة أو إظهار كلمة الكفر بإشراكهم عزيرا والمسيح. والأذى مصدر كالأسى يقال: يفعلون أذاه يؤذيه أذى وأذاة وأذية. والأذى نوع من الضر فصح انتصابه به والتقدير:
لن يضروكم شيئا من أنواع الضرر إلا ضررا يسيرا. ومن هذا تبين أن الاستثناء ليس بمنقطع على ما ظن وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ منهزمين ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ وإنما لم يجزم بالعطف على يُوَلُّوكُمُ لئلا يصير نفي النصر مقيدا بمقاتلتهم بل يرفع ليكون نفي النصر وعدا مطلقا، وتكون هذه الجملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم وينهزموا، ثم أخبركم وأبشركم أن النصر والقوة منتف عنهم رأسا فلن يستقيم لهم أمر البتة. ومعنى «ثم» إفادة التراخي في الرتبة لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أينما كانوا أعظم من الإخبار بانهزامهم عند القتال. فإن قيل: هب أن اليهود كذلك، لكن النصارى قد يوجحد لهم قوة وشوكة في ديارهم. قلنا: هذه الآيات مخصوصة باليهود وأسباب النزول تدل على(2/235)
ذلك، فكان كما أخبر من حال بني قريظة والنضير وبني قينقاع وأهل خيبر. أو لعل نفي النصرة عنهم بعد القتال ولم يوجد نصراني بهذه الحالة. وفي الآية تشجيع للمؤمنين وتثبيت لمن آمن من أهل الكتاب كيلا يلتفتوا إلى تضليلاتهم وتحريفاتهم.
التأويل:
اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ لأهل العزائم وقوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: 16] لأهل الرخص. والمعنى: اتقوا عن وجودكم بالله وبوجوده وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ لا ينتف وجودكم المجازي إلا وقد سلمتم لتصرفات الأحكام الإلهية والجذبات الربانية، واستفدتم الوجود الحقيقي وهو البقاء بالله. وَاعْتَصِمُوا أهل الاعتصام طائفتان: أهل الصورة وهم المتعلقون بالأسباب لأن مشربهم الأعمال فقيل لهم اعتصموا بحبل الله وهو كل سبب يتوصل به إلى الله من أعمال البر، وأهل المعنى وهم المنقطعون عن الأسباب إذ مشربهم الأحوال فقيل لهم: واعتصموا بالله هو مولاكم مقصودكم أو ناصركم، ولا تفرقوا في الظاهر وهو مفارقة الجماعة، وفي الباطن وهو الميل الى البدع والأهواء.
وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ وهي عداوة بعضكم لبعض وعداوتكم لله ولأنفسكم فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بالهداية والإيمان وتأليف القلوب كَذلِكَ مثل ما بين آياته للأوس والخزرج حتى صاروا إخوانا يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أيها الطلاب آياتِهِ وهي الجذبة الإلهية وتجلي صفات الربوبية وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ بالأفعال دون الأقوال وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ من وعيد من يأمر بالمعروف ولا يأتيه يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ لأن الوجوه تحشر بلون القلوب كقوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق: 9] أي يجعل ما في الضمائر على الظواهر أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ هم أرباب الطلب السائرون إلى الله انقطعوا في بادية النفس واتبعوا غول الهوى وارتدوا على أعقابهم القهقرى. فَذُوقُوا الْعَذابَ لأن الناس نيام لا يذوقون ألم جراحات الانقطاع والإعراض عن الله، فإذا ماتوا انتبهوا وذاقوا. فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ في الدنيا بالجمعية والوفاق مع أهل الله هُمْ فِيها خالِدُونَ في الآخرة، ولأنه يموت على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه تِلْكَ الأحوال آياتُ اللَّهِ مع خواصه نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ نظهرها على قلبك بالتحقيق وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ بأن يضع السواد والبياض في غير موضعهما. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ من العدم إلى الوجود مستعدة لقبول كمالية الإنسان. من جملة الخيرية تخفيف التكليف وضمان التضعيف، ومنها عاقب مطيعهم بشؤم عصيانهم، وغفر لعصاة هذه الأمة ببركة مطيعهم، ومنها زلاتهم لعنة وزلاتنا رحمة، ومنها شكا منهم إلينا وشكر منا إليهم قبل وجودنا وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ يعني علماء السوء لَنْ يَضُرُّوكُمْ أيها المحققون إِلَّا أَذىً من طريق الإنكار والحسد وَإِنْ(2/236)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
يُقاتِلُوكُمْ
ينازعوكم ويخاصموكم يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ من صدق نياتكم. لا يُنْصَرُونَ لأنكم أهل الحق وحزب الله وإن حزب الله هم الغالبون.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 112 الى 120]
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116)
مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
القراآت:
وَيُسارِعُونَ وبابه ك سارِعُوا [آل عمران: 133] ونُسارِعُ [المؤمنون: 56] ممالة: قتيبة وأبو عمرو طريق بن عبدوس. ما يَفْعَلُوا فَلَنْ يُكْفَرُوهُ بياء الغيبة: حمزة وعلي وخلف وحفص أبو عمرو مخير. الباقون: بتاء الخطاب.
تَسُؤْهُمْ وبابه من كل همزة مجزومة بغير همزة: الأعشى وأوقية. والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف لا يَضُرُّكُمْ من الضير: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ونافع.
وقرأ المفضل لا يَضُرُّكُمْ بالفتح الباقون: لا يَضُرُّكُمْ بالضم كلاهما من الضر مجزوما ثم محركا للساكنين فالفتح للخفة والضم للإتباع. تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ بتاء الخطاب: سهل.
الباقون: بياء الغيبة.
الوقوف:
الْمَسْكَنَةُ ط بِغَيْرِ حَقٍّ ط يَعْتَدُونَ هـ قيل: لا وقف عليه لأن ضمير لَيْسُوا يعود إلى ما يعود إليه ضمير مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ لبيان الفضل بين الفريقين، والذين(2/237)
عصوا واعتدوا أحد الفريقين. سَواءً ط يَسْجُدُونَ هـ قيل: لا وقف على جعل يُؤْمِنُونَ حالا لضمير يَسْجُدُونَ ولا يصح بل الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوصاف لهم مطلقة غير مختصة بحال السجود الْخَيْراتِ ط الصَّالِحِينَ هـ يُكْفَرُوهُ ط بِالْمُتَّقِينَ هـ شَيْئاً ط النَّارِ ج خالِدُونَ هـ أَهْلَكَتْهُ
طظْلِمُونَ
ج خَبالًا ط ما عَنِتُّمْ ج لاحتمال كون قد بدت حالا أَكْبَرُ ط تَعْقِلُونَ هـ كُلِّهِ ج للعطف مع الحذف أي وهم لا يؤمنون بكتابكم آمَنَّا ق قد قيل:
والوصل أولى لأن المقصود بيان تناقض حاليهم في النفاق مِنَ الْغَيْظِ ط يغيظكم ط الصُّدُورِ هـ تَسُؤْهُمْ ز للابتداء بشرط آخر والوصل أجوز إذ الغرض تقرير تضاد الحالين منهم. يَفْرَحُوا بِها ط لتناهي وصف الذم لهم وابتداء شرط على المؤمنين شَيْئاً ط مُحِيطٌ هـ.
التفسير:
هذا خبر آخر من مستقبلات أحوال اليهود المعلومة بالوحي. والمعنى ضربت عليهم الذلة والهوان في عامة الأحوال بالقتل والسبي والنهب أينما وجدوا إلا معتصمين أو متلبسين أي إلا في حال اعتصامهم بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ يعني ذمة الله وذمة المسلمين، فهما في حكم واحد أي لا عزلهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم الى الذمة بقبول الجزية، فحينئذ يكون دمهم محقونا ومالهم مصونا وهو نوع من العزة وقيل: حبل الله الإسلام، وحبل الناس الذمة. فعلى هذا يكون الواو بمعنى «أو» . وقيل:
ذمة الله الجزية المنصوص عليها، وذمة الناس ما يزيد الإمام عليها أو ينقص بالاجتهاد.
وإنما صح الاستثناء المفرغ من الموجب نظرا إلى المعنى لأن ضرب الذلة عليهم معناه لا تنفك عنهم وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ قيل: إنه من قولك «تبوأ فلان منزل كذا» والمعنى مكثوا في غضب الله. وسواء قولك حل بهم الغضب وحلوا بالغضب. وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ عن الحسن أن المراد بها الجزية، وإنما أفردت بالذكر بعد الاستثناء ليعلم أنها باقية غير زائلة بعد اعتصامهم بالذمة. وقال آخرون: المراد أنك لا ترى منهم ملكا قاهرا ولا رئيسا مطاعا لكنهم مستخفون في جميع النواحي والأكناف، يظهرون من أنفسهم الفقر والمدقعة البتة.
وباقي الآية قد مر تفسيره في البقرة إلا أنه سبحانه قال في هذا الموضع من هذه السورة وفي النساء الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ لأن جمع التكسير يفيد التكثير فذكر في الموضعين أعني في البقرة وفي أول السورة ما ينبىء عن القلة مع أن ذلك موافق لما بعده من جموع السلامة كالذين والصابئين وغيرهما. ثم تدرج إلى ما هو نص في الكثرة في الموضعين الآخرين نعيا عليهم وتفظيعا لشأنهم، ولمثل هذا عرّف الحق في البقرة إشارة إلى الحق الذي أذن الله أن(2/238)
تقتل النفس به وهو قوله: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ [الأنعام: 151] ثم نكر في المواضع الباقية أي يغير ما حق أضلالا في نفس الأمر ولا بحسب معتقدهم وتدينهم. لَيْسُوا سَواءً كلام تام وما بعده كلام مستأنف للبيان. قال الفراء وابن الأنباري:
تقديره من أهل الكتاب أمة قائمة ومنهم أمة مذمومة، إلا أنه أضمر ذكر هذا القسم على مذهب العرب من الاكتفاء بأحد الضدين لخطورهما بالبال معا غالبا. قال أبو ذؤيب:
دعاني إليها القلب إني لآمرها ... مطيع فما أدري أرشد طلابها؟
أراد أم غيّ فاكتفى بذكر الرشد عن ضده. وتقول: زيد وعبد الله لا يستويان، زيد عاقل دين ذكي. فيغني هذا عن أن يقال: وعبد الله ليس كذلك. وقيل: وهو اختيار أبي عبيدة أن أُمَّةٌ مرفوعة ب لَيْسُوا على لغة من قال: أكلوني البراغيث. أو هو بدل من الضمير على نحو أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا [الأنبياء: 3] والتقدير: ليسوا سواء أمة قائمة وأمة مذمومة. وفي تفسير أهل الكتاب قولان: الأول وعليه الجمهور أنهم اليهود والنصارى. قال ابن عباس ومقاتل: لما أسلم عبد الله بن سلام وأضرابه قالت أحبار اليهود:
ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا لما تركوا دين آبائهم وقالوا لهم: لقد خسرتم حين استبدلتم بدينكم دنيا غيره فنزلت. وعن عطاء أنها نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم. الثاني أنهم كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان فعلى هذا يكون المسلمون منهم.
عن ابن مسعود قال: أخر رسول صلى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله في هذه الساعة غيركم.
وفي رواية: فبشر صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب فأنزل الله هذه الآيات لَيْسُوا سَواءً إلى قوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ
قال القفال رحمه الله: لا يبعد أن يقال:
أولئك الحاضرون كانوا نفرا من مؤمني أهل الكتاب. فقيل: ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فأقاموا صلاة العشاء في الساعة التي ينام فيها غيرهم مع أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا. ولا يبعد أيضا أن يقال: المراد كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسماهم الله أهل الكتاب كأنه قيل: أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة، والمسلمون الذين سماهم الله تعالى أهل الكتاب حالهم وصفتهم كذا فكيف يستويان؟ فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيدا لما تقدم من قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ [آل عمران: 110] كقوله: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ [السجدة: 18] ثم إنه تعالى مدح الأمة المذكورة بصفات ثمان: الأولى: أنها(2/239)
قائمة. قيل: أي في الصلاة. وقيل: ثابتة على التمسك بدين الحق ملازمة له غير مضطربة.
وقيل: أي مستقيمة عادلة من قولك: «أقمت العود فقام» بمعنى استقام. وهاهنا نكتة وهي أن الآية دلت على أن المسلم قائم بحق العبودية. وقوله: قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] دل على أن المولى قام بحق الربوبية وهذه حقيقة قوله: وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [البقرة: 40] . الصفة الثانية: يَتْلُونَ أي أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل. فالتلاوة القراءة. وأصل الكلمة الإتباع. فكأن التلاوة هي إتباع اللفظ، وآيات الله القرآن. وقد يراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على صانعها. وآناء الليل ساعاته واحدها أنى مثل «معا» و «أني» و «أنو» مثل «نحى» و «تلو» . الصفة الثالثة: وَهُمْ يَسْجُدُونَ يحتمل أن يكون حالا من يَتْلُونَ كأنهم يقرأون في القرآن السجدة تخشعا إلا أن ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا إني نهيت أن أقرأ راكعا وساجدا»
يأباه وأن يكون كلاما مستقلا أي يقومون تارة ويسجدون أخرى ويتغون الفضل والرحمة بكل ما يمكن كقوله: يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً [الفرقان: 64] قال الحسن: يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه وذلك لإحداث النشاط والراحة، وأن يكون المراد: وهم يصلون ويتهجدون. والصلاة تسمى سجدة وركعة وسبحة، وأن يراد وهم يخضعون لله كقوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الرعد: 15] وعلى هذين الاحتمالين لا منع من كونه حالا. الصفة الرابعة: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فالصفات المتقدمة إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية. وهذه إشارة إلى كمالهم بحسب القوة النظرية، فإن حاصل المعارف معرفة المبدأ والمعاد. ولا يخفى أن غير مؤمني أهل الكتاب ليسوا من القبيلين في شيء بسبب تحريفاتهم واعتقاداتهم الفاسدة. الخامسة والسادسة:
وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وهاتان الصفتان إشارة إلى أنهم فوق التمام وذلك لسعيهم في تكميل الناقصين بإرشادهم إلى ما ينبغي ومنعهم عما لا ينبغي. وفيه تعريض بالأمة المذمومة أنهم كانوا مداهنين. وعن سفيان الثوري: إذا كان الرجل محببا في جيرانه محمودا عند إخوانه فاعلم أنه مداهن. الصفة السابعة وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي المذكورات كلها وهي من صفات المدح لأن المسارعة في الخير دليل فرط الرغبة فيه حتى لا يفوت ففي التأخير آفات. وما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «العجلة من الشيطان» «1»
مخصوص بهذه الآية. على أنها لا تفيد كلية الحكم لأن القضية أهملت إهمالا، كيف لا والأمور متفاوتة.
منها ما يحمد فيه التأخير لكونه مما يحصل على مهل وتدريج فلو طلب منه خلاف وضعه
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب البر باب 66.(2/240)
فات الغرض وضاع السعي، أو لكونه غير معلوم العاقبة فيفتقر إلى مزيد تدبر وتأمل. ومنها ما يحمد فيه التعجيل لضد ما قلنا فتنتهز فيه الفرصة وتغتنم، فإن الفرص تمر مر السحاب.
قال صلى الله عليه وسلم: «اغتنم خمسا قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك» .
الصفة الثامنة: أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ وذلك أن الأمور بخواتيمها والعاقبة غير معلومة إلا في علم الله تعالى فإذا أخبر عنهم بانخراطهم في سلك الصالحين فذلك المقصود وقصارى المجهود. ثم شرط للأمة الموصوفة بل لجميع المكلفين إيصال الجزاء إليهم البتة تأكيدا للإخبار عنهم بقوله:
وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ فقال: وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ أي لن يحرموا ثوابه ولن يمنعوه. فضمن الكفران معنى الحرمان ولهذا يعدى إلى مفعولين، مع أن الأصل فيه التعدية إلى واحد نحو: شكر النعمة وكفرها. وسمى منع الجزاء كفرا كما سمى إيصال الثواب شكرا في قوله: فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة: 158] ثم ختم الكلام بقوله: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ مع أنه عالم بكل الأشياء بشارة لهم بجزيل الثواب، ودلالة على أنه لا يفوز عنده بالكرامة إلا أهل التقوى، وتنبيها على أن الملتزم لوعدهم هو معبودهم الحق القادر الغني الحميد الخبير الذي لا غاية لكرمه ولا نهاية لعلمه، فما ظنك بمثيب هذا شأنه؟! ثم بين أحوال أهل الشقاء بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية. وقد سبق تفسير مثله في أول السورة. ثم إنه لما بين أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئا أمكن أن يخطر ببال أحد أن الذي ينفقون منه في وجوه الخيرات لعلهم ينتفعون بذلك فأزال ذلك الوهم بقوله: ثَلُ ما يُنْفِقُونَ
الآية. قال أكثر المفسرين وأهل اللغة: الصر البرد الشديد. وهو منقول عن ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد. وفي الصحاح: الصر بالكسر برد يضر بالنبات والحرث. وعلى هذا فمعنى الآية:
كمثل ريح فيها برد وذلك ظاهر. وجوز في الكشاف أن يكون الصر صفة معناه البارد فيكون موصوفه محذوفا بمعنى فيها قرّة صر كما تقول: برد بارد على المبالغة، أو تكون «في» تجريدية كما يقال: رأيت فيك أسدا أي أنت أسد، وإن ضيعني فلان ففي الله كاف وكافل.
وقيل: الصر السموم الحارة. وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس يها صِرٌّ
قال:
فيها نار. وعلى القولين، الغرض من التشبيه حاصل سواء كان بردا مهلكا أو حرّا محرقا فإنه يصير مبطلا للحرث فيصح التشبيه. وهذا في التشبيه المركب الذي مر ذكره في أول سورة البقرة. ويجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث. والمراد ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون بها وجه الله، ولهذا قيده بقوله: ي هذِهِ الْحَياةِ(2/241)
الدُّنْيا
فشبه ذلك بالزرع الذي حسه البرد فصار حطاما. وقيل: مثل ما ينفقون يعني أبا سفيان وأصحابه من سفلة اليهود المنفقين على أحبارهم في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي جمع العساكر عليه صلى الله عليه وسلم في كونه مبطلا لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر، كمثل ريح فيها صر في كونه مبطلا للحرث. والظاهر أن الضمير في نْفِقُونَ
عائد إلى جميع الكفار. وذلك أن إنفاقهم إما أن يكون لمنافع الدنيا فلا يبقى له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلا عن الكافر، وإما أن يكون لمنافع الآخرة فالكفر مانع عن الانتفاع، ولعلهم كانوا ينفقون في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأرامل راجين خيرا كثيرا في المعاد، لكنهم إذا قدموا الآخرة رأوا كفرهم مبطلا لآثار تلك الخيرات، فكان كمن زرع زرعا وتوقع منه نفعا كبيرا فأصابه جائحة فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف. ولعلهم كانوا ينفقون فيما ظنوه خيرا وهو معصية كإنفاق الأموال في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وفي تخريب ديار المسلمين. ولا يبعد أيضا تفسير الآية بخيبتهم في الدنيا فإنهم أنفقوا أموالا كثيرة في تجهيز الجيوش والإغراء على المسلمين وتحملوا المتاعب ثم انقلب الأمر عليهم وأظهر الله الإسلام وأعز أهله، فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الحيرة والحسرة. وقيل: المراد بالإنفاق هاهنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة كقوله: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 118] والمراد جميع الانتفاعات. أما فائدة قوله: لَمُوا أَنْفُسَهُمْ
وعدم الاقتصار على قوله: صابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ
فهي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه أثر ولا عثر، وحرث المسلم المطيع ليس كذلك لأنه إذا أصابته جائحة في الدنيا أبدله الله خيرا منه في الدنيا أو في الآخرة. فإن المسلم مثاب على كل ألم يصيبه حتى الشوكة يشاكها، أما الذين عصوا الله فاستحقوا إهلاك حرثهم عقوبة لهم فحرثهم هو الذي لا يتصور منه بعد الإهلاك فائدة أصلا. ويحتمل أن يراد بالظالم هاهنا وضع الزرع في غير موضعه. فإن من زرع لا في موضعه وفي غير أوانه ثم أصابته الآفة كان أولى بأن يصير ضائعا. والضمير في ما ظَلَمَهُمُ
للمنفقين أي ما ظلمهم بأن لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول، أو لأصحاب الحرث أي ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما استحقوا به العقوبة. ثم إنه تعالى لما بالغ في شرح أحوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين من مخالطة الكافرين. قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ويواطؤن رجالا من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع، فنهاهم الله عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم وبطانة الرجل خصيصه وصفيه الذي يفضي(2/242)
إليه بشقوره أي أموره اللاصقة بالقلب المهمة له. الواحد شقر وأصله من البطن خلاف الظهر، ومنه بطانة الثوب للذي يلي منه الجسد خلاف الظهارة. نهاهم عن مودة كل كافر لان قوله: بِطانَةً نكرة في سياق النفي. وقوله: مِنْ دُونِكُمْ يؤكد ذلك. وهو إما أن يتعلق ب لا تَتَّخِذُوا ويكون صفة لبطانة أي بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم والأول أولى، لأن الغرض ليس هو النهي عن اتخاذ البطانة وإنما المقصود النهي عن الاتخاذ من غير أبناء جنسهم وأهل ملتهم بطانة، وأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى. و «من» للتبيين وقيل: زائدة. ثم ذكر علة النهي فقال: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا يقال: ألا في الأمر يألو إذا قصر فيه، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم: «لا آلوك نصحا أو جهدا» على التضمين أي لا أمنعك نصحا. والخبال الفساد والنقصان ومنه رجل مخبول ومخبل ناقص
العقل فاسده. وقيل: خبالا نصب على التمييز، وقيل: مصدر في موضع الحال. والمعنى لا يتركون جهدهم في مضرتكم وفساد حالكم. وَدُّوا ما عَنِتُّمْ أي عنتكم على أن «ما» مصدرية. والعنت الوقوع في أمر شاق ومنه يقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه قد أعنته. والمراد أحبوا وتمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر. والحاصل من الجملتين أنهم لا يقصرون في إفساد أموركم فإن لم يمكنهم ذلك لمانع من خارج فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ هي شدة البغض كالضراء شدة الضر.
والأفواه جمع الفم وأصله فوه بدليل تكسيره كسوط وأسواط. فحذفت الهاء تخفيفا وأقيمت الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان. وظهور البغضاء من اليهود واضح لقشرهم العصا وكشرهم عن الأنياب وعدم التقية في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب. وأما من المنافقين فذلك أن المداجي لا بد أن ينفلت من لسانه ما يكشف عن نفاقه وخبث طويته. وعن قتادة قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضا على ذلك. وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ لأن فلتات اللسان متناهية وكوامن الصدور تكاد تكون غير متناهية. ثم بيّن أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من غاية العناية وحثهم على إعمال العقل في مدلولات هذه النصائح فقال: قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ من أهل العقول. وقيل: إن كنتم تعقلون الفصل بين ما يستحقه العدوّ والولي. ثم إن سياق هذه الجمل يحتمل أن يكون على سبيل تنسيق الصفات للبطانة كأنه قيل: لا تتخذوا بطانة غير آليكم خبالا وادّين عنتكم بادية بغضاؤهم. وأما قَدْ بَيَّنَّا فكلام مبتدأ، أو أحسن من ذلك وأبلغ أن تكون الجمل مستأنفات كلها على جهة التعليل للنهي كما قلنا، فكأنه قيل: لم لا نتخذهم بطانة. فقيل:
لأنهم لا يقصرون فقيل: لم يفعلون ذلك؟ فقيل: لأنهم يودون عنتكم. ثم قيل: وما آية(2/243)
ودادة العنت؟ فقيل: قد بدت والله أعلم. أما كون هذا التقدير أحسن فلأن الجمل المتعاقبة على سبيل التنسيق يتوسط بينها العاطف ولا عاطف هاهنا، وأما كونه أبلغ فلبناء الكلام على السؤال والجواب ولتقليل اللفظ وتكثير المعنى ولإثبات الدعاوى بالبراهين، ولا يخفى جلالة قدر هذه الفوائد. ثم استأنف للتحذير نمطا آخر من البيان مشتملا على التوبيخ فقال:
ها أَنْتُمْ أُولاءِ الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب، ثم ذيله ببيان الخطأ وهو قوله:
تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ لأنكم تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء ويريدون لكم الكفر وهو أقبح الأشياء، أو تحبونهم لما بينكم وبينهم من الرضاعة والقرابة ولا يحبونكم لاختلاف الدين، أو تحبونهم لأنهم أظهروا لكم الإيمان ولا يحبونكم لتمكن الكفر في باطنهم، أو تحبونهم لأنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب ولا يحبونكم لأنكم تحبون الرسول وهم يبغضونه ومحب المبغوض مبغوض، أو تحبونهم فتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم ولا يحبونكم لأنهم لا يفعلون مثل ذلك بكم، أو تحبونهم لأنكم لا تريدون وقوعهم في المحن ولا يحبونكم لأنهم يتربصون بكم الدوائر.
والحق أن هذه الاعتبارات وأمثالها مما لا تكاد تنحصر داخلة في الآية. ثم ذكر سببا آخر مما يأبى أن يكون بينهما جامع فقال: وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وأضمر قرينه وهو «وهم لا يؤمنون به» لأن ذكر أحد الضدين يغني عن الآخر غالبا. والمراد بالكتاب الجنس كقولهم «كثر الدرهم في أيدي الناس» . وفي الكشاف: إن الواو في وَتُؤْمِنُونَ للحال، واللام في بِالْكِتابِ للعهد أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله. وفيه توبيخ شديد لأنهم في باطنهم أصلب منكم في حقكم. ثم ذكر مضادة أخرى فقال: وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا أحدثنا الدخول في الإيمان وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا ويوصف المغتاظ أو النادم بعض الأنامل والبنان والإبهام لأن هذا الفعل كثيرا ما يصدر منهما فجعل كناية عن الغضب والندم، وإن لم يكن هناك عض وإنما حصل لهم هذا الغيظ وهو شدة الغضب لما رأوا من ائتلاف المؤمنين وعلو دينهم وارتفاع شأنهم قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ دعاء عليهم بأن يزداد ما يوجب غيظهم من قوة الإسلام وعز أهله، فإن ذلك يتضمن ذلهم وخزيهم. والحاصل أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأن الله تعالى أتاح أن يظهر دين الإسلام على الأديان كلها والمقدر كائن، فإن كان هذا سببا لغيظكم فلا محالة يكون موتكم على هذا الغيظ. ثم إن قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بصواحباتها وهي الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه. إن كان داخلا في جملة المقول، فمعناه أخبرهم بما يسرونه من الغيظ وقل لهم: إن غيظكم سيزداد إلى أن يذيبكم أو تموتوا عليه، وقل لهم: إن الله يعلم ما هو أخفى(2/244)
مما تسرونه وهو مضمرات القلوب وخفياتها. وإن كان خارجا فالمعنى قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من اطلاعي إياك على أسرارهم فإني أعلم ما أضمره الخلائق ولم يظهروه على ألسنتهم أصلا. ويجوز أن لا يكون أمرا بالقول لفظا بل يراد حدّث نفسك بأنهم سيهلكون غيظا وحسدا، فيكون أمرا للرسول بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله ونصره. ثم ذكر نوعا آخر من مضادتهم ومعاداتهم فقال: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ أي حسنة كانت من منافع الدنيا كالصحة والخصب والغنيمة والظفر على الأعداء والائتلاف بين الأحباء تَسُؤْهُمْ ساءه يسوءه نقيض سره يسره وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ ضد من أضداد ما عددنا. يَفْرَحُوا بِها ولم يفرق صاحب الكشاف هاهنا بين المس والإصابة وجعل المعنى واحدا. وأقول: يشبه أن يكون المس أقل من الإصابة وأنه أدخل في بيان شدة العداوة، وذلك أن الحسد لا ينهض لقليل من الخير إلا أن يكون هناك كمال البغض، والشماتة قلما توجد إذا أصاب العدوّ بلية عظمى كما قيل:
عند الشدائد تذهب الأحقاد إلا أن يكون ثمة غاية الحقد. وإذا كان حال القوم مع المسلمين في القضيتين بالخلاف دل ذلك على شدة بغضهم ونهاية حقدهم، وعلى هذا فلا يبعد أن يقال التنوين في حَسَنَةٌ للتقليل وفي سَيِّئَةٌ للتعظيم. وَإِنْ تَصْبِرُوا على عداوتهم وَتَتَّقُوا ما نهيتم عنه من موالاتهم، أو إن تصبروا على أوامر الله تعالى وتتقوا محارمه لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ وهو احتيال الإنسان لإيقاع غيره في مكروه. وقال ابن عباس: هو العداوة. شَيْئاً من الضرر بل كنتم في كنف الله وحفظه. وفيه إرشاد من الله تعالى إلى أن يستعان على دفع مكايد الأعداء بالصبر والتقوى، فمن كان لله كان الله له. وفي كلام الحكماء إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك. وقال بعضهم:
إذا ما شئت إرغام الأعادي ... بلا سيف يسل ولا سنان
فزد في مكرماتك فهي أعدى ... على الأعداء من نوب الزمان
إن الله بما تعملون في عداوتكم أو بما تعملون أنتم من الصبر والتقوى. مُحِيطٌ فيجازي كل أحد بما هو أهله.
التأويل:
ضربت عليهم ذلة الطمع ومسكنة الحرص إلا أن يعتصموا بمحبة الله وطلبه وحبل من الناس يعني متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته. ويقتلون الأنبياء يميتون سنتهم وسيرهم.
ليسوا أي العلماء الربانيون والمداهنون. فلن تكفروه لأنه من تقرب إليه شبرا تقرب إليه ذراعا. ثم أخبر عن نفقات أهل الشهوات في استيفاء اللذات الجسمانية بقوله: ثَلُ ما(2/245)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ
هي هواء الهوى يها صِرٌّ
الشهوةصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ
هو الحرث الروحاني لَمُوا أَنْفُسَهُمْ
بإبطال الاستعداد الإنساني. ثم نهى أهل المحبة عن مباطنة أهل السلو من هذا الحديث فقال: لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا لا يقصرون في إنكاركم والاعتراض عليكم والطعن فيكم وَدُّوا من نعيم الدنيا ومشتهياتها ما عَنِتُّمْ ما مقتموه وتركتموه لدناءة همتهم وعلو همتكم، أو فرحوا بما قاسيتم من المجاهدات والتزام الفقر والصبر على المكاره. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ اعتراضاتهم الفاسدة وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ الحاسدة من الغل والحقد أَكْبَرُ تُحِبُّونَهُمْ محبة الرحمة والشفقة وَلا يُحِبُّونَكُمْ لتناكر الأرواح واختلاف حال الأشباح وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ بجميع ما في القرآن من ترك الدنيا وجهاد النفس. عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بالقلوب التي في الصدور أن موتها في الغيظ والحسد. إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ كرامة من الله وقبول من الخلق. سيئة إنكار من الجهال وطعن.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 129]
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
القراآت:
تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ بغير همز: أبو عمرو غير شجاع وورش والأعشى وحمزة في الوقف. مُنْزَلِينَ بالتشديد وفتح الزاي: ابن عامر. الباقون: بالتخفيف والفتح أيضا.
مُسَوِّمِينَ بكسر الواو: أبو عمرو وابن كثير وعاصم وسهل ورويس. الباقون. بالفتح.
الوقوف:
لِلْقِتالِ ط عَلِيمٌ هـ لأن «إذ» بدل من إِذْ غَدَوْتَ أو يتعلق بالوصفين أو بقوله تُبَوِّئُ أَنْ تَفْشَلا (لا) لأن الواو للحال وَلِيُّهُما ط الْمُؤْمِنُونَ هـ أَذِلَّةٌ ج للفاء تَشْكُرُونَ هـ مُنْزَلِينَ ط لتمام القول بَلى (لا) لاتحاد مع ما بعده مُسَوِّمِينَ هـ قُلُوبُكُمْ بِهِ ط الْحَكِيمِ (لا) لتعلق اللام بمعنى الفعل في النصر خائِبِينَ هـ ظالِمُونَ هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط مَنْ يَشاءُ ط رَحِيمٌ هـ.(2/246)
التفسير:
إنه سبحانه لما وعدهم النصر على الأعداء إن هم صبروا واتقوا وخلاف ذلك إن لم يصبروا، أتبعه قوله: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ يعني أنهم يوم أحد كانوا كثيرين مستعدين للقتال، فلما خالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم انهزموا، ويوم بدر كانوا قليلين غير مستعدين لكنهم أطاعوا أمر الرسول فغلبوا واستولوا على خصومهم. ووجه آخر في النظم وهو أن الانكسار يوم أحد إنما حصل بسبب تخلف عبد الله بن أبيّ بن سلول المنافق، وذلك يدل على أنه لا يجوز اتخاذ المنافقين بطانة. قال أبو مسلم: هذا كلام معطوف بالواو على قوله: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا [آل عمران: 13] أي قد كان لكم مثل تلك الآية إذ غدا الرسول يبوىء المؤمنين. والجمهور على أنه منصوب بإضمار «اذكر» . وعن الحسن أن هذا الغدو كان يوم بدر. وعن مجاهد أنه يوم الأحزاب. وأكثر العلماء بالمغازي على أن هذه الآية نزلت في واقعة أحد. وهو قول ابن عباس والسدي وابن إسحق والربيع والأصم وأبي مسلم.
روي أن المشركين نزلوا بأحد يوم الأربعاء، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ودعا صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبيّ ولم يدعه قط قبلها فاستشاره. فقال عبد الله وأكثر الأنصار: يا رسول الله أقم بالمدينة ولا تخرج إليهم، فو الله ما خرجنا منها إلى عدوّ قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا إلا أصبنا منه، فكيف وأنت فينا؟ فدعهم فإن أقاموا أقاموا بشر محبس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم ورماهم النساء والصبيان بالحجارة، وإن رجعوا رجعوا خائبين. وقال بعضهم: يا رسول الله اخرج بنا إلى هؤلاء إلا كلب لا يرون أنا قد جبنا عنهم. وقال صلى الله عليه وسلم: إني رأيت في منامي بقرا مذبحة حولي فأوّلتها خيرا، أو رأيت في ذباب سيفي ثلما فأولته هزيمة، ورأيت كأني أدخلت يدي في درع حصينة فأوّلتها المدينة. فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم. فقال رجال من المسلمين- قد فاتتهم بدر وأكرمهم الله بالشهادة يوم أحد-: أخرج بنا إلى أعدائنا فلم يزالوا به صلى الله عليه وسلم حتى دخل فلبس لأمته. فلما رأوه قد لبس لأمته ندموا وقالوا: بئسما صنعنا، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه. فقالوا: اصنع يا رسول الله ما رأيت. فقال: لا ينبغي لنبي أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل. فخرج يوم الجمعة بعد صلاة الجمعة من المدينة.
قالوا من منزل عائشة وهو المراد بقوله: مِنْ أَهْلِكَ
عن مجاهد والواحدي أنه مشى على رجليه إلى أحد وأصبح بالشعب منها يوم السبت للنصف من شوّال.
وجعل يصف أصحابه للقتال كأنما يقوّم بهم القداح إن رأى صدرا خارجا قال: تأخر. وكان نزوله في جانب الوادي، وجعل صلى الله عليه وسلم ظهره وعسكره إلى أحد. وأمر صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جبير على الرماة وقال لهم:
انضحوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا.
وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: اثبتوا في هذا المقام فإذا(2/247)
عاينوكم ولو كم الأدبار، فلا تطلبوا المدبرين ولا تخرجوا من هذا المقام.
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خالف، رأى عبد الله بن أبيّ شق عليه ذلك وقال: أطاع الصبيان وعصاني ثم قال لأصحابه: إن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما يظفر بعدوّكم وقد وعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتم أعداءهم فانهزموا فيتبعونكم فيصير الأمر على خلاف ما ذكر محمد صلى الله عليه وسلم. فلما التقى الفريقان انخزل عبد الله بن أبي بثلث الناس وقال: يا قوم علام نقتل أولادنا وأنفسنا. وكان جملة عسكر الإسلام ألفا- وقيل: تسعمائة وخمسين- فبقي نحو من سبعمائة. وكان المشركون ثلاثة آلاف فقوّاهم الله مع ذلك حتى هزموا المشركين. لكنهم لما رأوا انهزام القوم وكان الله تعالى بشرهم بذلك طمعوا أن تكون هذه الواقعة كواقعة بدر، فطلبوا المدبرين وتركوا ذلك الموضع وخالفوا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يعلموا أن ظفرهم يوم بدر ببركة طاعتهم لله ولرسوله، ومتى تركهم الله مع عدوّهم لم يقوموا لهم. فنزع الله الرعب من قلوب المشركين، فكرّوا على المسلمين وتفرق العسكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما
قال: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ
وشج وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وشلت يد طلحة دونه صلى الله عليه وسلم ولم يبق معه إلا أبو بكر وعلي والعباس وطلحة وسعد. ووقعت الصيحة في العسكر أن محمدا قتل. فأشرف أبو سفيان وقال: أفي القوم محمد؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تجيبوه.
فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ فقال: لا تجيبوه.
قال: أفي القوم ابن الخطاب؟ فقال: إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه فقال: كذبت يا عدوّ الله. أبقى الله لك ما يخزيك. فقال أبو سفيان مرتجزا:
أعل هبل أعل هبل.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله أعلى وأجل.
قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عزى لكم.
فقال صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
قال أبو سفيان: يوم بيوم بدر والحرب سجال.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أجيبوه. قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
ولنرجع إلى التفسير بوّأته منزلا وبوّأت له منزلا أنزلته فيه. ومقاعد أي مواطن ومواقف، وقد اتسع في «قعد» و «قام» حتى استعمل المقعد والمقام في المكان ومنه قوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ [القمر: 55] وقوله: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ [النمل: 39] أي من موضع حكمك. ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم لما أمرهم أن يثبتوا في تلك الأمكنة ولا ينتقلوا عنها شبهت بالمقاعد لذلك، ويحتمل أن المقاتلين قد يقعدون في الأمكنة المعينة إلى أن يلاقيهم العدوّ فيقوموا فلهذا سميت تلك المواضع مقاعد وَاللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بضمائركم ونياتكم فإنا بينا أنه كان في القوم موافق ومنافق إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ هما(2/248)
حيان من الأنصار: بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس، وهما الجناحان. أَنْ تَفْشَلا والفشل الجبن والخور. والظاهر أنها ما كانت عزيمة ممضاة ولكنها كانت حديث نفس وقلما تخلو النفس عند الشدة من بعض الهلع. فإن ساعدها صاحبها ذم وإن ردها إلى الثبات والصبر فلا بأس بما فعل. وعن معاوية أنه قال: عليكم بحفظ الشعر فقد كدت أضع رجلي في الركاب يوم صفين فما ثبتني إلّا قول عمرو بن الأطنابة:
أقول لها إذا جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
ومما يدل على أن ذلك الهمّ لم يفض إلى حد العصيان قوله تعالى: وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ولو كانت عزيمة لما ثبت معها الولاية. ويجوز أن يراد والله ناصرهما ومتولي أمرهما فما لهما يفشلان ولا يتوكلان على الله وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ والتوكل «تفعل» من وكل أمره إلى فلان إذا اعتمد في كفايته عليه ولم يتوله بنفسه. وفيه إشارة إلى أن الإنسان يجب أن يدفع ما يعرض له من مكروه وآفة بالتوكل على الله، وأن يصرف الجزع عن نفسه بذلك.
عن جابر: فينا نزلت إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ نحن الطائفتان: بنو حارثة وبنو سلمة. وما يسرني أنها لم تنزل لقول الله وَاللَّهُ وَلِيُّهُما أخرجاه في الصحيحين. ومع ذلك قال بعض العلماء:
إن الله أبهم ذكرهما وستر عليهما ولا يجوز لنا أن نهتك ذلك الستر. وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وإنه ماء بين مكة والمدينة. عن الواقدي أنه اسم لماء بعينه. وعن الشعبي أنه سمي باسم رجل كان ذلك الماء له وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ إنما جاء بجمع القلة دون الأذلاء الذي هو للكثرة ليدل على أنهم مع قلة العدد- وهو المراد بذلتهم- كانوا قليلي العدد أيضا كما مر في تفسير قوله: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ [آل عمران: 13] ولم يعن بالذلة هاهنا نقيض العزة لقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون: 8] أو لعل المراد أنهم كانوا أذلة في زعم المشركين وفي اعتقادهم لقلة عددهم وسلاحهم كما حكى عنهم «ليخرجن الأعز منها الأذل» أو لعل الصحابة كانوا قد شاهدوا الكفار في مكة في غاية القوة والشوكة، وإلى هذا الوقت ما اتفق لهم استيلاء على أولئك الكفار فكانت هيبتهم باقية في نفوسهم فَاتَّقُوا اللَّهَ في الثبات مع رسوله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بسبب تقواكم ما أنعم به عليكم من نصره. أو لعل الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها، فوضع الشكر موضع الإنعام لأنه سبب له إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ اختلف المفسرون في أن هذا الوعد حصل يوم بدر فيكون العامل في «إذ» قوله:
نَصَرَكُمُ أو حصل يوم أحد فيكون بدلا ثانيا من إِذْ غَدَوْتَ والأول قول أكثر المفسرين لأن الكلام متصل بقصة بدر، ولأن العدد والعدد يوم بدر أقل وكان الاحتياج إلى المدد أكثر. والثاني مروي عن ابن عباس والكلبي والواقدي ومقاتل ومحمد بن إسحق، لأن المدد(2/249)
يوم بدر كان بألف من الملائكة لقوله تعالى في سورة الأنفال فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ [الأنفال: 9] دون ثلاثة آلاف وخمسة آلاف فأنى صاروا خمسة آلاف وأجيب بأنهم أمدوا بألف ثم زيد ألفان فصاروا ثلاثة آلاف، ثم زيدت ألفان آخران فصاروا خمسة آلاف. فكأنه قيل لهم: أن يكفيكم أن يمدكم ربكم بألف من الملائكة؟ فقالوا: بلى.
ثم قيل: ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف؟ فقالوا: بلى. ثم قيل لهم: إن تصبروا وتتقوا يمددكم ربكم بخمسة آلاف. وهو كما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: «أيسركم أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: نعم. قال: أيسركم أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قالوا: نعم. قال:
فإني أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة» «1» .
وأيضا لعل أهل بدر أمدوا بألف، ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قريش بعدد كثير فخافوا وشق ذلك عليهم لقلة عددهم فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءهم مدد فأنا أمدكم بخمسة آلاف من الملائكة. ثم إنه لم يأت قريشا ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قريش فاستغنى عن إمداد المسلمين بالزيادة على الألف. قالوا: إن الكفار كانوا يوم بدر ألفا والمسلمون على الثلث منهم فأنزل الله ألفا من الملائكة بعدد الكفار، وأما يوم أحد فكان عدد المسلمين ألفا وعدد الكفار ثلاثة آلاف، فلا جرم أنزل الله ثلاثة آلاف من الملائكة بعدد الكفار أيضا، ثم وعدهم أن يجعل الثلاثة الآلاف خمسة آلاف إن صبروا واتقوا. وأجيب بأن هذا تقريب حسن ولكنه لا يغلب على الظن أن يكون الأمر كذلك. قالوا: قال تعالى: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ ويوم أحد هو الذي كان يأتيهم الأعداء، أما يوم بدر فهم ذهبوا إلى الأعداء. وأجيب بأن المشركين لما سمعوا يوم بدر أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه قد تعرضوا للعير، ثار الغضب في قلوبهم واجتمعوا وقصدوا النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن الصحابة لما سمعوا ذلك خافوا فأخبرهم الله تعالى أنهم إن أتوكم من فورهم يمددكم ربكم بخمسة آلاف. ثم قالوا في وجه النظم إنه تعالى ذكر قصة أحد ثم قال: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أي يجب أن يكون توكلكم على الله لا على كثرة عددكم وعددكم وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ثم عاد إلى قصة أحد. ثم إنزال خمسة آلاف كان مشروطا بشرط أن يصبروا ويتقوا. ثم إنهم لم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا بل خالفوا أمر الرسول، فلما مات الشرط لا جرم فات المشروط. وأما إنزال ثلاثة آلاف فإنه صلى الله عليه وسلم وعدهم ذلك بشرط أن يثبتوا في تلك المقاعد، فلما أهملوا الشرط لم يحصل المشروط.
روى الواقدي عن مجاهد أنه قال: حضرت الملائكة يوم أحد ولكنهم لم يقاتلوا.
وروي عن
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 376، 377. الترمذي في كتاب الجنّة باب 13. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 34. أحمد في مسنده (4/ 160) .(2/250)
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أعطى اللواء مصعب بن عمير فقتل مصعب فأخذه ملك في صورة مصعب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تقدم يا مصعب. فقال الملك: لست بمصعب. فعرف الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ملك أمد به.
وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: كنت أرمي السهم يومئذ فيرده عليّ رجل أبيض حسن الوجه وما كنت أعرفه، فظننت أنه ملك. هذا حاصل تقرير القولين. واختلفوا أيضا في عدد الملائكة فمنهم من ضم العدد الناقص إلى العدد الزائد لأن الوعد بإمداد الثلاثة الآلاف لا شرط فيه، والوعد بإمداد خمسة الآلاف مشروط بالصبر والتقوى ومجيء الكفار من فورهم فهما متغايران وعلى هذا إن حملنا الآية على قصة بدر وقد ورد فيها ذكر الألف في موضع آخر فيكون المجموع تسعة آلاف، وإن حملناها على قصة أحد كان الجميع ثمانية آلاف. ومنهم من أدخل الناقص في الزائد فقال: وعدوا بألف ثم زيد ألفان فصح أن يقال: وعدوا بثلاثة آلاف. ثم زيد ألفان آخران فوعدوا بخمسة آلاف. وأجمع أهل التفسير وأرباب السير أنه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر وأنهم قاتلوا الكفار. وعن ابن عباس أنه لم تقاتل الملائكة سوى يوم بدر، وفيما سواه كانوا عددا ومددا لا يقاتلون ولا يضربون. ومنهم من قال: إن نصر الملائكة بإلقاء الرعب في قلوب الكفار وبإشعار المؤمنين بأن النصرة لهم. وأما أبوبكر الأصم فقد أنكر إمداد الملائكة وقال: إن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط، فإذا حضر هو يوم بدر فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار، وبتقدير حضوره فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟ وأيضا فإن أكابر الكفار كانوا مشهورين وقاتل كل منهم من الصحابة معلوم. وأيضا لو قاتلوا فإما أن يكون بحيث يراهم الناس أولا، وعلى الأول كان المشاهد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف وأكثر ولم يقل أحد بذلك، ولأنه خلاف قوله وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ [الأنفال: 44] ولو كانوا في غير صورة الناس لزم وقوع الرعب الشديد في قلوب الخلق ولم ينقل ذلك البتة. وعلى الثاني كان يلزم جز الرؤوس وتمزيق البطون وإسقاط الكفار عن الأفراس من غير مشاهدة فاعل لهذه الأفعال ومثل هذا يكون من أعظم المعجزات فكان يجب أن يتواتر ويشتهر بين الكافر والمسلم والموافق والمخالف. وأيضا إنهم لو كانوا أجساما كثيفة وجب أن يراهم الكل، وإن كانوا أجساما لطيفة هوائية فكيف ثبتوا على الخبول؟
واعلم أن هذه الشبه لا يليق إيرادها بقوانين الشريعة وبمن يدعي التمسك بها ويعترف بأنه تعالى قادر على ما يشاء فاعل لما يريد، فما كان يليق بالأصم إيرادها مع أن نص القرآن ناطق بها وورودها في الإخبار قريب من التواتر. روى عبيد بن عمير قال: لما رجعت قريش من أحد جعلوا يتحدثون في أنديتهم بما ظفروا ويقولون: لم نر الخيل البلق ولا الرجال(2/251)
البيض الذين كنا نراهم يوم بدر. والتحقيق في هذا المقام أن التكليف ينافي الإلجاء، وأنه تعالى قادر على إهلاك جميع الكفار في لحظة واحدة بملك واحد بل بأدنى من ذلك أو بلا سبب، وكذا على أن يجبرهم على الإسلام ويقسرهم عليه، لكنه لما أراد إشادة هذا الدين على مهل وتدريج بواسطة الدعوة بطريق الابتلاء والتكليف، فلا جرم أجرى الأمور على ما أجرى فله الحمد على ما أولى، وله الحكم في الآخرة والأولى. والحاصل أن إهلاك قوم لوط كان بعد انقضاء تكليفهم وهو حين نزول البأس، فلا جرم أظهر القدرة وجعل عاليها سافلها. وفي حرب أحد كان الزمان زمان تكليف، فلا جرم أظهر الحكمة ليتميز الموافق من المنافق والثابت من المضطرب، فإنه لو جرى الأمر في أحد كما جرى في بدر أشبه أن يفضي الأمر إلى حد الإلجاء ونافى التكليف ونوط الثواب والعقاب به، ولمثل ذلك أمد بالملائكة حين أمد على عادة الإمداد بالعساكر وإلا فملك واحد يكفي في إهلاك كثير من الناس فاعلم. ولنعد إلى تفسير الألفاظ. قال صاحب الكشاف: إنما قدم لهم الوعد بنزول الملائكة ليقوي قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله. ومعنى أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ إنكار أن لا يكفيهم الإمداد بثلاثة آلاف من الملائكة وإنما جيء ب «لن» الذي هو تأكيد النقي للإشعار بأنهم كانوا لقلتهم وضعفهم وكثرة عدوهم كالآيسين من النصر. ومعنى الكفاية سد الخلة والقيام بما يجب، ومعنى الإمداد إعطاء الشيء حالا بعد حال. قال بعضهم: ما كان على جهة القوة والإعانة. قيل فيه: أمده يمده. وما كان على جهة الزيادة قيل فيه: مده يمده. وقرىء مُنْزَلِينَ بكسر الزاي بمعنى منزلين النصر. بَلى إيجاب لما بعد «لن» أي بلى يكفيكم الإمداد بهم فأوجب الكفاية. ثم قال: إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ يعني المشركين مِنْ فَوْرِهِمْ هذا أي من ساعتهم هذه. والفور مصدر من فارت القدر إذا غلت، ثم استعمل في معنى السرعة. يقال: جاء فلان ورجع من فوره. ومنه قول الأصوليين الأمر للفور أو للتراخي. ثم سميت به الحالة التي لا توقف فيها على صاحبها فقيل: خرج من فوره كما يقال من ساعته لم يلبث. جعل مجيء خمسة آلاف مشروطا بثلاثة أشياء: الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور. فلما لم توجد هذه الشرائط بكلها أو بجلها فلا جرم لم يوجد المشروط. ويحتمل أن يعلق قوله: مِنْ فَوْرِهِمْ هذا بما بعده أي يمددكم ربكم بالملائكة في حال إتيانهم لا يتأخر النزول عن الإتيان. وفيه بشارة بتعجيل النصر والفتح إن صبروا عن الغنائم واتقوا مخالفة الرسول. وقوله: مُسَوِّمِينَ من السومة العلامة، وقد يعلم الفارس يوم اللقاء بعلامة ليعرف بها. فمن قرأ بكسر الواو فمعناه معلمين أنفسهم أو خيلهم بعلامات مخصوصة، ومن قرأ بالفتح فالمعنى أن الله سوّمهم. قال(2/252)
الكلبي: معلمين بعمائم صفر مرخاة على أكتافهم. وعن الضحاك: معلمين بالصوف الأبيض في نواصي الخيول وأذنابها. وعن مجاهد: مجزوزة أذناب خيلهم. وعن قتادة: كانوا على خيل بلق. وعن عروة بن الزبير: كانت عمامة الزبير يوم بدر صفراء فنزلت الملائكة كذلك.
وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوم بدر: تسوموا فإن الملائكة قد تسوّمت.
وقيل:
مسومين مرسلين من أسمت الإبل وسوّمتها أرسلتها للرعي. فالمعنى أن الملائكة أرسلت خيولهم على الكفار لقتلهم وأسرهم، أو أن الله تعالى أرسلهم على المشركين ليهلكوهم كما تهلك الماشية النبات في المراعي. وَما جَعَلَهُ اللَّهُ الضمير عائد إلى المدد أو الإمداد الدال عليه الفعل. وقال الزجاج: وما جعل الله ذكر المدد إلا بشرى وهي اسم من البشارة أي إلا لتبشروا بأنكم تنصرون وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ كما كانت السكينة لبني إسرائيل بشارة بالنصر وطمأنينة لقلوبهم. وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا من المقاتلة إذا تكاثروا، ولا من عند الملائكة والسكينة. ولكن ذلك مما يقوي به الله رجاء النصرة ويربط به على قلوب المجاهدين. وفيه تنبيه على أن إيمان العبد لا يكمل إلا عند الإعراض عن الأسباب والإقبال بالكلية على مسببها. وقوله: الْعَزِيزِ إشارة إلى كمال قدرته والْحَكِيمِ إشارة إلى كمال علمه فلا يخفى عليه حاجات العباد ولا يعجز عن إنجاحها لِيَقْطَعَ طَرَفاً أي طائفة وقطعة من الذين كفروا. وإنما حسن في هذا الموضع ذكر الطرف دون الوسط لأنه لا وصول إلى الوسط إلا بعد الأخذ من الطرف كما قال: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها [الرعد: 41] قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ [التوبة: 123] أَوْ يَكْبِتَهُمْ الكبت في اللغة صرع الشيء على وجهه. وفسره الأئمة هاهنا بالإخزاء والإهلاك واللعن والهزيمة والغيظ والإذلال والكل متقارب فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ غير ظافرين بمبتغاهم قيل: الخيبة لا تكون إلا بعد التوقع ونقيضه الظفر. وأما اليأس فقد يكون قبل التوقع وبعده. ونقيضه الرجاء، واللام في لِيَقْطَعَ يحتمل أن يتعلق بقوله: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ أو بقوله وَمَا النَّصْرُ ويحتمل أن يكون من تمام قوله: وَلِتَطْمَئِنَّ ولكنه ذكر بغير العاطف لأنه إذا كان البعض قريبا من البعض جاز حذف العاطف كما يقول السيد لعبده: اشتريتك لتخدمني لتعينني لتقوم بخدمتي.
قوله عز من قائل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ فيه قولان: أحدهما وهو الأشهر أنه
نزل في قصة أحد عن أنس بن مالك قال: كسرت رباعية رسول الله صلى الله عليه وسلم ويوم أحد ودمي وجهه فجعل يسيل الدم على وجهه ويقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم؟
وفي رواية: شج رأسه صلى الله عليه وسلم عتبة بن أبي وقاص يوم أحد وكسر رباعيته(2/253)
فجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول الحديث فنزلت.
وفي رواية عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن أقواما فقال: اللهم العن أبا سفيان، اللهم العن الحرث بن هشام، اللهم العن صفوان بن أمية فنزلت هذه الآية.
وفيها أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ فتاب الله على هؤلاء فحسن إسلامهم. وقيل نزلت في حمزة بن عبد المطلب.
وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رآه ورأى ما فعلوا به من المثلة قال: لأمثلن منهم بثلاثين فنزلت،
وقيل: أراد يلعن المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا فمنعه الله عن ذلك. مروى عن ابن عباس، وقيل: أراد أن يستغفر للمسلمين الذين عصوا أمره فنزلت. وقال القفال: كل هذه الأمور وقعت يوم أحد فلا يمتنع حمل نزول الآية في الكل.
القول الثاني:
وإليه ذهب مقاتل أنها نزلت في واقعة أخرى وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جمعا من خيار الصحابة زهاء سبعين إلى بني عامر ليعلموهم القرآن. فلما وصلوا إلى موضع يقال له بئر معونة، ذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره وأخذهم وقتلهم. فجزع من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم شديدا ودعا على الكفار في القنوت أربعين يوما يقول بعد ما يرفع رأسه من الركعة الثانية في الصبح: اللهم العن بني لحيان والعن رعلا وذكوان. اللهم انج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين بمكة. اللهم أشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف حتى أنزل الله عز وجل لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ
ولا يخفى أن ظاهر الآية يدل على أنه صلى الله عليه وسلم كان يفعل فعلا فمنع منه، وحينئذ يتوجه الإشكال بأن فعل ذلك الفعل إن كان من الله تعالى فكيف منعه منه وإلا فهو قدح في عصمته ومناف لقوله: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] والجواب أن المنع من الفعل لا يدل على أن الممنوع مشتغل به كقوله: وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ [الأحزاب: 48] مع أنه ما أطاعهم وقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر: 65] مع أنه ما أشرك قط. ولعله عليه السلام شاهد من قتل حمزة وغيره ما أورثه حزنا شديدا، وكان من الممكن أن يحمله على ما لا ينبغي من الفعل والقول، فنص الله تعالى على المنع تقوية لعصمته صلى الله عليه وسلم وتأكيدا لطهارته. ولئن سلمنا أنه كان مشغولا بذلك الفعل والقول فإنه محمول على ترك الأولى، والنهي إرشاد إلى اختيار الأفضل وأيضا إن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون بمجرد التشهي وإنما هو بطلب الأصلح فالذي يظن به أنه خلاف مسؤوله صلى الله عليه وسلم وقد وقع فهو بالحقيقة سؤاله صلى الله عليه وسلم، ولهذا سأل الله تعالى أن يجعل لعنه على من لا يستحقه طهرا وزكاة ورحمة والله أعلم. وقوله:
لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ معناه ليس لك من قصة هذه الواقعة ومن شأن هذه الحادثة شيء، فإني أعلم بمصالح عبادي. أو المراد الأمر الذي هو خلاف النهي أي ليس لك من(2/254)
أمر خلقي شيء إلا ما يكون أمري وحكمي. وقوله: أَوْ يَتُوبَ منصوب بإضمار «أن» .
و «أن يتوب» في حكم اسم معطوف بأو على الأمر أي ليس لك من أمرهم شيء، أو من التوبة عليهم، أو من تعذيبهم. ويجوز أن يكون معطوفا على شَيْءٌ والحاصل منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل فعل أو قول إلا ما كان بإذنه وأمره. وفيه إرشاد إلى كمال درجات العبودية وأن لا يخوض العبد في أسرار ملكه تعالى وملكوته. وعن الفراء والزجاج أن قوله:
أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ عطف على لِيَقْطَعَ وما بعده. وقوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ كالكلام الأجنبي الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه كما تقول: ضربت زيدا فاعلم ذاك وعمرا. فيكون المعنى أن الله مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يهزمهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا على الكفر. وقيل: «أو» بمعنى «إلا أن» كقولك: لألزمنك أو تعطيني حقي. والمعنى ليس لك من أمرهم شيء إلا أن يتوب الله عليهم فتفرح بحالهم أو يعذبهم فتتشفى منهم. ثم التوبة عليهم مفسرة عند أهل السنة بخلق الندم فيه على ما مضى، وخلق العزم فيهم على أن لا يفعلوا مثل ذلك في المستقبل. وأكدوا هذا الظاهر ببرهان عقلي وهو أن الندم كراهة تحصل في القلب عما سلف منه، والعزم إرادة تتعلق بترك ذلك الفعل فيما يستقبل. فلو كانت هذه الإرادة فعل العبد لافتقر في فعلها إلى إرادة أخرى وتسلسل، فهو إذن بخلق الله تعالى. وأما المعتزلة ففسروا التوبة عليهم إما بفعل الألطاف أو بقبول التوبة منهم. وقوله: فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ تعليل حسن التعذيب بسبب شركهم أو عصيانهم. ثم أكد ما ذكر من قوله: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ بقوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي هما والحقائق والماهيات التي فيهما لله، فليس الحكم فيهما إلا له. ثم ذكر لازم الملك والحكم فقال: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ بعميم فضله وإن كان من الأبالسة والفراعنة وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ بحكم الإلهية والقدرة وإن كان من الملائكة المقربين والصديقين. وكل ذلك يحسن منه شرعا وعقلا وإلا لم يحصل كمال الملك والحكم إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب، ولهذا ختم الكلام بقوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ هذا قول الأشاعرة ويؤكده ما يروى عن ابن عباس في تفسير الآية: يهب الذنب الكبير لمن يشاء، ويعذب من يشاء على الذنب الصغير. وأيدوا هذا النقل بدليل عقلي يشبه ما مر آنفا، وهو أن الإرادات كلها تستند إلى الله تعالى دفعا للتسلسل. فإذا خلق الله إرادة الطاعة أطاع، وإذا خلق إرادة المعصية عصى. فطاعة العبد أو معصيته تنتهي إلى الله، وفعل الله لا يوجب على الله شيئا. أما المعتزلة فناقشوا في ذلك ورووا عن الحسن: يغفر لمن يشاء بالتوبة ولا يشاء أن يغفر إلا للتائبين، ويعذب من يشاء ولا يشاء أن يعذب إلا المستوجبين للعذاب. والحق(2/255)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)
أن العذاب لازم ملكة العصيان، وكذا القرب منه تعالى لازم ملكة الطاعة. فإن أريد بالوجوب هذا فلا نزاع، وإن أريد غير ذلك فممنوع والله أعلم.
التأويل:
أخبر عن النصر بعد الصبر بقوله: وَإِذْ غَدَوْتَ وهو إشارة إلى جوهر السالك الصادق والسائر العاشق، وذلك أن يغدو في طلب الحق والرجوع إلى المبدأ من أصله أي صفات نفسه الحيوانية والبهيمية تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ أي صفاتك الروحانية مقاعد لقتال النفس والشيطان والدنيا وَاللَّهُ سَمِيعٌ لدعائكم بالإخلاص للخلاص عن ورطة تيه الهوى عَلِيمٌ بصدق نياتكم في طلب الحق. إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا يعني القلب وأوصافه والروح وأخلاقه وَاللَّهُ وَلِيُّهُما ليخرجهما من ظلمات البشرية إلى نور الربوبية وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ الدينا وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ من غلبات شهوات النفس إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ فيه إشارة إلى أن نور النبي صلى الله عليه وسلم يلهم أرواح المؤمنين على الدوام عند مقاتلة الشياطين ومجاهدة النفس ومكابدة الهوى في الركون إلى زخارف الدنيا. وثلاثة آلاف من الملائكة إشارة إلى الجنود الروحانية الملكوتية التي لا تدركها الحواس كقوله: وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها [التوبة: 26] بَلى إِنْ تَصْبِرُوا على مخالفة النفس وتثقوا بالله عما سواه يزدكم في الإمداد بالجنود لِيَقْطَعَ طَرَفاً ليقهر بعضا من الصفات النفسانية التي هي منشأ الكفر بنصر الروح وصفاته أَوْ يَكْبِتَهُمْ أو يغلبهم ويظفر بهم وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعز بحكمته من يشاء على ما يشاء والله المستعان على ما تصفون.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 141]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139)
إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)(2/256)
القراآت:
سارِعُوا بغير واو العطف: أبو جعفر ونافع وابن عامر. قَرْحٌ بالضم حيث كان: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وجبلة. الباقون بالفتح.
الوقوف:
مُضاعَفَةً ص لعطف المتفقتين تُفْلِحُونَ هـ ج للعطف لِلْكافِرِينَ هـ تُرْحَمُونَ هـ ومن قرأ سارِعُوا بغير واو فوقفه مطلق وَالْأَرْضُ ص لأن ما بعده صفة لجنة أيضا أي جنة واسعة معدّة. لِلْمُتَّقِينَ لا لأن الذين صفتهم. عَنِ النَّاسِ ط الْمُحْسِنِينَ ج 5 لأن والذين يصلح مبتدأ وخبره أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ فلا وقف على يَعْلَمُونَ ويصلح معطوفا لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له فيوقف على يَعْلَمُونَ لينصرف عموم أولئك إلى المتقين السابقين منهم بعصمة الله واللاحقين بهم برحمة الله.
والوقف لطول الكلام على لِذُنُوبِهِمْ للابتداء بالاستفهام وعلى إِلَّا اللَّهُ لاعتراض الاستفهام ولزوم الجواب بأن يقول الروح: لا أحد يغفر الذنوب إلا أنت خالِدِينَ فِيها ط الْعامِلِينَ هـ سُنَنٌ لا لتعقب الأمر بالاعتبار بعد الإخبار بالتبار. الْمُكَذِّبِينَ هـ لِلْمُتَّقِينَ هـ مُؤْمِنِينَ هـ مِثْلُهُ ط بَيْنَ النَّاسِ ج لأن الواو مقحمة أو عاطفة على محذوف أي ليعتبروا وَلِيَعْلَمَ شُهَداءَ ط الظَّالِمِينَ لا للعطف على لِيَعْلَمَ الْكافِرِينَ هـ.
التفسير:
قال القفال: يحتمل أن يكون هذا الكلام متصلا بما قبله من جهة أن أكثر أموال المشركين كانت قد اجتمعت من الربا، وكانوا ينفقون تلك الأموال على العساكر، وكان من الممكن أن يصير ذلك داعيا للمسلمين إلى الإقدام على الربا كي يجمعوا الأموال وينفقوها على العساكر ويتمكنوا من الانتقام منهم، فورد النهي عن ذلك نظرا لهم ورحمة عليهم. وقيل: إن هذه الآيات ابتداء أمر ونهي وترغيب وترهيب تتميما لما سلف من الإرشاد إلى الأصلح في أمر الدين وفي باب الجهاد. وليس المراد النهي عن الربا في حال كونه أضعافا لما علم أنه منهي عنه مطلقا، وإنما هو نهي عنه مع توبيخ بما كانوا عليه في الغالب والمعتاد من تضعيفه. كان الرجل منهم إذا بلغ الدين محله زاد في الأجل، وهكذا مرة بعد أخرى حتى استغرق بالشيء الطفيف مال المديون. وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فيه أن اتقاء الله في هذا النهي واجب، وأن الفلاح يقف عليه. فلو أكل ولم يتق زال الفلاح.
ويعلم منه أن الربا من الكبائر لا من الصغائر ويؤكد قوله: وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ كان أبو حنيفة يقول: هي أخوف آية في القرآن حيث أوعد الله المؤمنين بالنار(2/257)
المعدّة للكافرين إن لم يتقوه في اجتناب محارمه. وكون النار معدّة للكافرين لا يمنع دخول الفساق وهم مسلمون فيها لأن أكثر أهل النار الكفار فغلب جانبهم كما لو قلت: أعددت هذه الدابة للقاء المشركين. لم يمتنع من أن تركبها لبعض حوائجك. ومثله قوله في صفة الجنة: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ فإنه لا يدل على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين وغيرهم كالملائكة والحور.
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ فيه أن رجاء الرحمة موقوف على طاعة الله وطاعة الرسول فلهذا يتمسك به أصحاب الوعيد في أن من عصى الله ورسوله في شيء من الأشياء فهو ليس أهلا للرحمة. وغيرهم يحمل الآية على الزجر والتخويف وَسارِعُوا معطوف على ما قبله. ومن قرأ بغير الواو فلأنه جعل قوله: سارِعُوا وقوله: أَطِيعُوا اللَّهَ كالشيء الواحد لأنهما متلازمان. وتمسك كثير من الأصوليين به في أن ظاهر الأمر يوجب الفور قالوا: في الكلام محذوف والتقدير: سارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم.
ونكر المغفرة ليفيد المغفرة العظيمة المتناهية في العظم وليس ذلك إلا المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام والإتيان بجميع الطاعات والاجتناب عن كل المنهيات وهذا قول عكرمة.
وعن علي بن أبي طالب: هو أداء الفرائض.
وعن عثمان بن عفان أنه الإخلاص لأنه المقصود من جميع العبادات. وعن أبي العالية أنه الهجرة. وقال الضحاك ومحمد بن إسحق: إنه الجهاد لأنه من تمام قصة أحد. وقال الأصم: بادروا إلى التوبة من الربا لأنه ورد عقيب النهي عن الربا. ثم عطف عليه المسارعة إلى الجنة لأن الغفران ظاهره إزالة العقاب. والجنة معناها حصول الثواب، ولا بد للمكلف من تحصيل الأمرين. ثم وصف الجنة بأن عرضها السموات، ومن البيّن أن نفس السموات لا تكون عرضا للجنة، فالمراد كعرض السموات لقوله في موضع آخر عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ [الحديد: 21] والمراد المبالغة في وصف سعة الجنة فشبهت بأوسع ما علمه الناس من خلقه وأبسطه ونظيره خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ [هود: 107] لأنها أطول الأشياء بقاء عندنا.
وقيل: المراد أنه لو جعلت السموات والأرضون طبقا طبقا بحيث يكون كل واحد من تلك الطبقات سطحا مؤلفا من أجزاء لا تتجزأ، ثم وصل البعض بالبعض طبقا واحدا لكان ذلك مثل عرض الجنة، وهذه غاية من السعة لا يعلمها إلا الله تعالى. وقيل: إن الجنة التي عرضها عرض السموات والأرض إنما تكون للرجل الواحد لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملكا له، فلا بد أن تكون الجنة المملوكة لكل أحد مقدارها هكذا. وقال أبو مسلم:
معنى العرض القيمة، ومنه عارضت الثوب بكذا. معناه لو عرضت السموات والأرض على(2/258)
سبيل البيع لكانتا ثمنا للجنة. والأكثرون على أن المراد بالعرض هاهنا خلاف الطول. وخص بالذكر لأنه في العادة أدنى من الطول، وإذا كان العرض هكذا فما ظنك بالطول. ونظيره بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ [الرحمن: 54] لأن البطائن في العادة تكون أدون حالا من الظهائر وإذا كانت البطانة كذلك فكيف الظهارة؟ وقال القفال: العرض عبارة عن السعة. تقول العرب: بلاد عريضة أي واسعة. والأصل فيه أن ما اتسع عرضه لم يضق ولم يدق، وما ضاق عرضه دق. فجعل العرض كناية عن السعة. وسئل هاهنا إنكم تقولون الجنة في السماء فكيف يكون عرضها كعرض السماء؟ وأجيب بعد تسليم كونها الآن مخلوقة أنها فوق السموات وتحت العرش.
قال صلى الله عليه وسلم في صفة الفردوس «سقفها عرش الرحمن» «1»
وروي أن رسول هرقل سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنك تدعو إلى جنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار؟
والمعنى- والله ورسوله أعلم- أنه إذا دار الفلك حصل النهار في جانب من العالم والليل في ضد ذلك الجانب، فكذا الجنة في جهة العلو والنار في جهة السفل.
وسئل أنس بن مالك عن الجنة أفي الأرض أم في السماء؟ فقال: وأي أرض وسماء تسع الجنة؟ قيل: فأين هي؟ قال: فوق السموات السبع تحت العرش.
ثم ذكر صفات المتقين حتى يتمكن الإنسان من الجنة بواسطة اكتساب تلك الصفات. منها قوله: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ في حال الغنى والفقر لا يخلون بأن ينفقوا ما قدروا عليه. عن بعض السلف أنه ربما تصدق ببصلة.
وعن عائشة أنها تصدقت بحبة عنب فكان الفقير أنكر عليها فقالت: احسب كم هي من مثقال ذرة. وقيل: في عرس أو حبس. والمراد في جميع الأحوال لأنها لا تخلو من حال مسرة ومضرة، فهم لا يدعون الإحسان إلى الناس في حالتي فرح وحزن. وقيل: إن ذلك الإحسان والإنفاق سواء سرهم بأن كان على وفق طبعهم، أو ساءهم بأن كان مخالفا له، فإنهم لا يتركونه. وفي افتتاحه بذكر الإنفاق دليل على عظم وقعه عند الله لأنه طاعة شاقة، أو لأنه كان أهم في ذلك الوقت لأجل الحاجة إليه في الجهاد ومواساة فقراء المسلمين.
ومنها قوله وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ كظم القربة إذا ملأها وشد فاها. ويقال: كظم غيظه إذا سكت عليه ولم يظهره لا بقول ولا بفعل كأنه كتمه على امتلائه، ورد غيظه في جوفه، وكف غضبه عن الإمضاء، وهو من أقسام الصبر والحلم.
قال صلى الله عليه وسلم «من كظم غيظا وهو يقدر على
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (2/ 335) .(2/259)
إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا» «1»
وقال أيضا: «ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» «2»
ومنها قوله: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قيل: يحتمل أن يراد العفو عن المعسرين لأنه ورد عقيب قصة الربا كما قال في البقرة: وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة: 280] ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم غضب على المشركين حين مثلوا بحمزة فقال: لأمثلن بهم. فندب إلى كظم هذا الغيظ والصبر عليه والعفو عنهم.
والظاهر أنه عام لجميع المكلفين في الأحوال إذا جنى عليهم أحد لم يؤاخذوه.
قال صلى الله عليه وسلم «لا يكون العبد ذا فضل حتى يصل من قطعه ويعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه»
وعن عيسى ابن مريم عليه السلام: ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ذاك مكافأة، إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك. وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يجوز أن يكون اللام للجنس فيتناول كل محسن ويدخل فيه هؤلاء المذكورون، وأن يكون للعهد فيكون إشارة إلى هؤلاء. وذلك أن من أنواع الإحسان إيصال النفع إلى الغير وهو المعنى بالإنفاق في السراء والضراء في وجوه الخيرات. ويدخل فيه الإنفاق بالعلم وبالنفس، والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
ومنها دفع الضرر عن الغير إما في الدنيا بأن لا يشتغل بمقابلة الإساءة بإساءة أخرى وهو المعبر عنه بكظم الغيظ، وإما في الآخرة بأن يبرىء ذمته عن التبعات والمطالبات الأخروية وهو المقصود بالعفو. فإذن الآية دالة على جميع جهات الإحسان إلى الغير. فذكر ثواب المجموع بقوله: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فإن محبة الله للعبد أعظم درجات الثواب.
قال ابن عباس في رواية عطاء: إن منهالا التمار أتته امرأة حسناء تبتاع منه تمرا فضمها إلى نفسه وقبلها ثم ندم على ذلك، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وذكر ذلك له فنزلت وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً الآية.
وقال في رواية الكلبي: إن رجلين أنصاريا وثقيفا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، فكانا لا يفترقان في أحوالهما. فخرج الثقفي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرعة في السفر وخلف الأنصاري في أهله وحاجته. فأقبل ذات يوم فأبصر امرأة صاحبه قد اغتسلت وهي ناشرة شعرها، فوقعت في نفسه فدخل ولم يستأذن حتى انتهى إليها. فذهب ليلثمها فوضعت كفها على وجهها فقبل ظاهر كفها ثم ندم واستحى فأدبر راجعا فقال: سبحان الله خنت أمانتك وعصيت ربك ولم تصب حاجتك. قال: وندم على صنيعه فخرج يسيح في الجبال ويتوب
__________
(1) رواه ابو داود في كتاب الأدب باب 3. الترمذي في كتاب البر باب 74. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 18. أحمد في مسنده (3/ 438، 440) .
(2) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 102. مسلم في كتاب البر حديث 106. الموطأ في كتاب حسن الخلق حديث 12. أحمد في مسنده (1/ 382) .(2/260)
الى الله من ذنبه حتى وافى الثقفي فأخبرته أهله بفعله، فخرج يطلبه حتى دل عليه فوافقه ساجدا وهو يقول: رب ذنبي ذنبي. قد خنت أخي فقال له: يا فلان قم فانطلق الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسأله عن ذنبك لعل الله أن يجعل لك فرجا وتوبة. فأقبل معه حتى رجع إلى المدينة، وكان ذات يوم عند صلاة العصر فنزل جبريل عليه السلام بتوبته فتلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً إلى قوله: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ فقال عمر: يا رسول الله أخاص هذا لهذا أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة في التوبة.
وعن ابن مسعود أن المسلمين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أبنو إسرائيل كانوا أكرم على الله منا؟ كانوا إذا أذنب أحدهم أصبحت كفارة ذنبه مكتوبة في عتبة بابه اجدع أذنك اجدع أنفك افعل كذا. فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أخبركم بخير من ذلك فقرأها عليهم، وبيّن أنهم أكرم على الله منهم حيث جعل كفارة ذنبهم الاستغفار.
والفاحشة نعت محذوف أي فعلوا فعلة فاحشة متزايدة القبح أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أذنبوا أي ذنب كان مما يؤاخذ الإنسان به.
وقيل: الفاحشة هي الزنا لقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً [الإسراء: 32] وظلم النفس ما دونه من القبلة واللمسة. وهذا القول أنسب بسبب النزول الذي رويناه.
وقيل: الفاحشة هي الكبيرة وظلم النفس هي الصغيرة والصغيرة يجب الاستغفار منها لأنه صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بالاستغفار وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد: 19] وما كان استغفاره إلا عن الصغائر بل ترك الأولى ذَكَرُوا اللَّهَ أي وعيده أو عقابه وأنه سائلهم أو نهيه، أو جلاله الموجب للخشية والحياء منه، أو ذكروا العرض الأكبر على الله. وعلى جميع التقادير فلا بد من مضاف محذوف. ويكون الذكر بمعنى ضد النسيان وإليه ذهب الضحاك ومقاتل والواقدي. ونظيره إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201] وقيل: المراد ذكروا الله بالثناء والتعظيم والإجلال، فإن من آداب المسألة والدعاء تقديم التعظيم والثناء. فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ يقال: استغفر الله لذنبه ومن ذنبه بمعنى. والمراد بالاستغفار الإتيان بالتوبة على الوجه الصحيح، وهو الندم على فعل ما مضى مع العزم على ترك مثله في المستقبل. فأما الاستغفار بمجرد اللسان فذاك لا أثر له في إزالة الذنب وإنما يجب إظهار هذا الاستغفار لإزالة التهمة ولإظهار كونه منقطعا إلى الله تعالى وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ لأن كمال قدرته وغناه كما أنه يقتضي إيقاع العبد في العقاب، فكمال رحمته وعفوه يقتضي إزالة ذلك العقاب عنه، لكن صدور الرحمة عنه بالذات
«سبقت رحمتي غضبي» «1»
فجانب العفو والمغفرة أرجح ولا سيما إذا اقترن الذنب
__________
(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 15، 22. مسلم في كتاب التوبة حديث 14- 16. الترمذي في-(2/261)
بالتوبة والاعتذار والتنصل بأقصى ما يمكن للعبد.
وفي كتاب مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» «1»
وعن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «قال الله يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرضين خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة» «2»
وعن علي رضي الله عنه قال: حدثني أبو بكر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل يذنب ذنبا ثم يقوم فيتطهر فيصلي ثم يستغفر الله إلا غفر له» «3» ثم قرأ وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً إلى قوله: وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ
وهذه الجملة معترضة والتقدير: فاستغفروا لذنوبهم وَلَمْ يُصِرُّوا لم يقيموا على قبيح فعلهم غير مستغفرين. والتركيب يدل على الشدة، ومنه صررت الصرة شددتها، وصر الفرس أذنيه ضمهما إلى رأسه. وأصر أيضا
عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة» «4»
وروي «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار»
وَهُمْ يَعْلَمُونَ حال من فاعل يصروا، وحرف النفي منصب عليها معا كما لو قلت: ما جاءني زيد وهو راكب. وأردت نفي المجيء والركوب معا. وذلك أن المقام مقام مدح لهم بعدم الإصرار.
والمعنى ليسوا ممن يصرون على الذنوب وهم عالمون بقبحها وبالنهي عنها والوعيد عليها لأنه قد يعذر الجاهل ولا يعذر العالم، ويحتمل أن يراد بالعلم العقل والتمييز والتمكن من الاحتراز عن الفواحش فيجري مجرى
قوله صلى الله عليه وسلم «رفع القلم عن ثلاث» «5»
وعلى هذا يجوز أن يراد نفي الإصرار في حالة العلم لا نفيه مطلقا كما لو أردت في المثال المذكور نفي المجيء
__________
- كتاب الدعوات باب 99. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. أحمد في مسنده (2/ 242، 258) .
(1) رواه مسلم في كتاب التوبة حديث 11. الترمذي في كتاب الجنّة باب 2. أحمد في مسنده (1/ 289) ، (2/ 305) .
(2) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 98.
(3) رواه أبو داود في كتاب الوتر باب 26. الترمذي في كتاب الصلاة باب 181. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 193. أحمد في مسنده (1/ 2، 9) .
(4) رواه البخاري في كتاب الدعوات باب 3. الترمذي في كتاب تفسير سورة 47 باب 1. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 57. أحمد في مسنده (2/ 282، 341) .
(5) رواه البخاري في كتاب الطلاق باب 11. أبو داود في كتاب الحدود باب 17. الترمذي في كتاب الحدود باب 1. النسائي في كتاب الطلاق باب 21. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 15. الدارمي في كتاب الحدود باب 1. أحمد في مسنده (1/ 116، 118) .(2/262)
في حال الركوب لا نفي المجيء على الإطلاق أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وهي إشارة إلى إزالة العقاب وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وهذه إشارة إلى إيصال الثواب وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ ذلك الجزاء. قال القاضي: وهذا يبطل قول من قال:
إن الثواب تفضل من الله وليس جزاء على عملهم، وذلك أنه سمى الجزاء أجرا والأجر واجب مستحق فكذلك الجزاء. ولقائل أن يقول: إنه على وجه التشبيه لا التحقيق.
واستدلوا أيضا بالآية على أن أهل الجنة هم المتقون والتائبون دون المصرين لقوله: وَلَمْ يُصِرُّوا والجواب ما مر أن كون الجنة معدة للمتقين الموصوفين لا يوجب أن لا يدخلها غيرهم بفضل الله وبرحمته. ثم ذكر ما يحمل المكلفين على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية وهو تأمل أحوال القرون الخالية فقال: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ وأصل الخلو الانفراد، والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه، وكل ما انقرض ومضى فقد انفرد عن الوجود، والسنة الطريقة المستقيمة. والمثال المتبع وهي «فعلة» بمعنى «مفعولة» من سن الماء يسنه إذا والى صبه فكأنه أجراه على نهج واحد، أو من سننت؟؟؟ النصل أحددته، أو من سن الإبل إذا أحسن الرعي. والمراد قد مضت من قبلكم سنن الله تعالى في الأمم السالفة يعني سنن الهلاك والاستئصال بدليل قوله: فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ فإنهم خالفوا رسلهم للحرص على الدنيا وطلب لذاتها، ثم انقرضوا ولم؟؟؟؟ أثر وبقي عليهم اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة هذا قول أكثر المفسرين. قال مجاهد: المراد سنن الله في الكافرين والمؤمنين فإن الدنيا ما بقيت لا مع المؤمن ولا مع الكافر، ولكن المؤمن بقي له الثناء الجميل والثواب الجزيل والكافر له اللعن والعقاب. ثم قال فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لأن التأمل في حال أحد القسمين يكفي في معرفة حال القسم الآخر، أو لأن الغرض زجر الكفار عن كفرهم وذلك إنما يحصل بتأمل أحوال أمثالهم.
وليس المراد من قوله فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ الأمر بالسير بل المقصود تعرّف أحوالهم. فإن حصلت هذه المعرفة بغير المسير في الأرض كان المقصود حاصلا. ولا يبعد أن يقال: ندب إلى السير لأن لمشاهدة آثار الأقدمين أثرا أقوى من أثر السماع كما قيل:
إن آثارنا تدل علينا ... فانظروا بعدنا إلى الآثار
هذا بَيانٌ المشار إليه بهذا إما أن يكون جميع ما تقدم من الأمر والنهي والوعد والوعيد للمتقين والتائبين والمصرين ويكون قوله: قَدْ خَلَتْ جملة معترضة للبعث على الإيمان وما يستحق من الأجر، وإما أن يكون ما حثهم عليه من النظر في سوء عواقب المكذبين ومن الاعتبار بما يعاينون من آثار هلاكهم. أما البيان والهدى والموعظة فلا بد من(2/263)
الفرق بينها لأن العطف يقتضي المغايرة. فقيل: البيان كالجنس وهو إزالة الشبهات وتحته نوعان: أحدهما الكلام الذي يهدي المكلف إلى ما ينبغي في الدين وهو الهدى، وثانيهما الكلام الزاجر عما لا ينبغي في طريق الدين وهو الموعظة. وخص الهدى والموعظة بالمتقين لأنهم هم المنتفعون به. وقيل: البيان عام للناس والهدى والموعظة خاصان بالمتقين، لأن الهدى اسم للدلالة بشرط كونها موصلة إلى البغية. وأقول: يشبه أن يكون البيان عاما لجميع المكلفين وبأي طريق كان من طرق الدلالة. والهدى يراد به الكلام البرهاني والجدلي، والموعظة يراد بها الكلام الإقناعي الخطابي كقوله: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125] وخص المتقون بالذكر لأن البيان في حق غيرهم غير مثمر. ثم لما بيّن هذه المقدمات ومهدها ذكر المقصود وهو قوله: وَلا تَهِنُوا. كأنه قال: إذا بحثتم عن أحوال القرون الخالية علمتم أن صولة الباطل تضحمل، وأن العاقبة والغلبة لأرباب الحق. والوهن الضعف أي لا تضعفوا عن الجهاد ولا يورثنكم ما أصابكم يوم أحد وهنا وجبنا وَلا تَحْزَنُوا على من قتل منكم وجرح وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وحالكم أنكم أعلى منهم وأغلب لأنكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا عنكم؟؟؟؟ أحد أو أنتم الأعلون شأنا لأن قتالكم لله وقتالهم للشيطان وقتلاكم في الجنة؟؟؟؟، أو أنتم الأعلون بالحجة والعاقبة الحميدة كقوله: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: 128] وفي هذا تسلية لهم وبشارة. وقوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إما أن يكون قيدا لقوله: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ أي إن كنتم مصدقين بما يعدكم الله ويبشركم به من الغلبة، وإما أن يكون قيدا لقوله: وَلا تَهِنُوا أي إن صح إيمانكم بالله وبحقية هذا الدين فلا تضعفوا لثقتكم بأن الله سيتم هذا الأمر.
قال ابن عباس: انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد. فبينما هم كذلك إذ أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم لا يعلون علينا، اللهم لا قوة لنا إلا بك، اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر. فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتى هزموهم فذلك قوله وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ
وقال راشد بن سعد: لما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد كئيبا حزينا جعلت المرأة تجيء بزوجها وأبيها وابنها مقتولين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أهكذا تفعل برسولك؟ فنزلت إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ
بفتح القاف وبضمها وهما لغتان كالضعف والضعف، والجهد والجهد. وقيل بالفتح لغة تهامة والحجاز. وقيل بالفتح مصدر، وبالضم اسم. وقال الفراء: إنه بالفتح الجراحة بعينها، وبالضم ألم الجراحة. وقال ابن مقسم: هما لغتان إلا أن المفتوحة توهم أنها جمع(2/264)
قرحة. ومعنى الآية إن نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم قبل ذلك في يوم بدر. ثم لم يثبطهم ذلك عن معاودة القتال فأنتم أولى بأن لا تفرقوا ولا تجبنوا ونظيره فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ [النساء: 104] وقيل: القرحان في يوم أحد وذلك أنه قتل يومئذ خلق من الكفار نيف وعشرون رجلا، وقتل صاحب لوائهم، وكثرت الجراحات فيهم، وعقرت عامة خيلهم بالنبل، وقد كانت الهزيمة عليهم في أول النهار كما يجيء من قوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ [آل عمران: 152] والمماثلة في عدد القتلى والجرحى غير لازمة وإنما تكفي المثلية في نفس القتل والجراحة. وَتِلْكَ الْأَيَّامُ موصوفا وصفته مبتدأ خبره نُداوِلُها وتلك مبتدأ أو الأيام خبره كقولك: «هي الأيام تبلي كل جديد» فإن الضمير لا يوصف ويكون تِلْكَ إشارة إلى الوقائع والأحوال العجيبة التي يعرفها أهل التجارب من أبناء الزمان. والمراد بالأيام ما في تلك الأوقات من الظفر والغلبة والحالات الغريبة. وقوله نُداوِلُها كالتفسير لما تقدمه. والمداولة نقل الشيء من واحد إلى آخر. ويقال: تداولته الأيدي أي تناقلته. والدنيا دول أي تنتقل من قوم إلى آخرين لا تدوم مسارّها ومغامها، فيوم يحصل فيه السرور له والغم لعدوّه، ويوم آخر بالعكس فلا يبقى شيء من أحوالها ولا يستقر أثر من آثارها ونظيره قولهم: «الحرب سجال» . شبهت بالدلاء لكونها تارة مملوءة وأخرى فارغة. وليس المراد من هذه المداولة أنه تعالى تارة ينصر المؤمنين وأخرى ينصر الكافرين، فإن نصرة الله منصب شريف لا يناله الكافرون. بل المراد أنه تارة يشدد المحنة على الكافرين وأخرى على المؤمنين وذلك أنه لو شدد المحنة على الكفار في جميع الأوقات وأزالها عن المؤمنين في جميعها لحصل العلم الاضطراري بأن الإيمان حق وما سواه باطل، ولو كان كذلك لبطل التكليف والثواب والعقاب. فالحكمة في المداولة أن تكون الشبهات باقية والمكلف يدفعها بواسطة النظر في الدلائل الدالة على صحة الإسلام، فيعظم ثوابه عند الله وإلى هذا يشير قوله سبحانه: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وحذف المعطوف عليه ليذهب الوهم كل مذهب ويقرر الفوائد. والتقدير نداولها بين الناس ليكون كيت وكيت وليعلم.
وفيه إيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة ولكن في ضمنها مصالح جمة لو عرفوها انقلبت مساءتهم مسرة منها أن يعلم الله. وقد احتج هشام بن الحكم بظاهر هذه الآية ونحوها كقوله: وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا [آل عمران: 142] على أنه تعالى لا يعلم الحوادث إلا عند وقوعها وقد سبق الأجوبة عنها في تفسير قوله تعالى: وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [البقرة: 124] وتأويل الآية أن إطلاق لفظ العلم على المعلوم والقدرة على(2/265)
المقدور مجاز مشهور. يقال: هذا علم فلان أو قدرته والمراد معلومه أو مقدوره. فكل آية يشعر ظاهرها بتجدد العلم فالمراد تجدد المعلوم لأن التغير في علم الله تعالى محال. فمعنى الآية ليظهر معلومنا وهو المخلص من المنافق والمؤمن من الكفار. وقيل: معناه ليحكم بالامتياز، فوضع العلم مقام الحكم. وقيل: ليعلمهم علما يتعلق به الجزاء وهو أن يعلمهم موجودا منهم الثبات، لأن المجازاة تقع على الواقع دون المعلوم الذي لم يوجد. وقيل:
ليعلم أولياء الله فأضاف إلى نفسه تفخيما لهم. وعلى الأقوال العلم بمعنى العرفان ولهذا تعدى إلى مفعول واحد. وقيل: إنه بمعنى فعل القلب الذي يتعدى الى مفعولين والتقدير:
وليعلمهم مميزين عن غيرهم. ويحتمل على جميع التقادير أن يضمر متعلق وليعلم بعده ومعناه: وليتميز الثابتون على الإيمان من المضطربين فعلنا ما فعلنا. ومن حكم المداولة قوله: وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ من يصلح للشهادة على الأمم يوم القيامة كقوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] فإن كونهم كذلك منصب شريف لا يناله إلا هذه الأمة، ولن يكونوا من الأمة إلا بالصبر على ما ابتلوا به من الشدائد. أو المراد ليكرم ناسا منكم بالشهادة. والشهداء جمع شهيد كالكرماء والظرفاء. والمقتول من المسلمين بسيف الكفار يسمى شهيدا. قال النضر بن شميل: لأنهم أحياء حضروا دار السلام كما ماتوا بخلاف غيرهم. وقال ابن الأنباري: لأن الله وملائكته شهدوا له بالجنة وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي المشركين إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] قال ابن عباس: وقيل: لا يحب من ليس من هؤلاء الثابتين على الإيمان الصابرين على البلوى، وهو اعتراض بين بعض المعللات وبعض. وفيه أن دولة الكافرين على المؤمنين للفوائد المذكورة لا لأنه يحبهم.
ومن الحكم قوله: وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ والمحص في اللغة التنقية والمحق النقصان. وقال المفضل: هو أن يذهب الشيء كله حتى لا يرى منه شيء. وقال الزجاج: معنى الآية أنه إن حصلت الغلبة للكافرين على المؤمنين كان المراد تمحيص ذنوب المؤمنين أي تطهيرهم وتصفيتهم، وإن كان بالعكس فالمراد محو آثار الكفار. وهذه مقابلة لطيفة لأن تمحيص هؤلاء بإهلاك ذنوبهم نظير محق أولئك بإهلاك أنفسهم لا بالكلية، فإن ذلك غير واقع بل بتدريج ومهل ليقطع طرفا ننقصها من أطرافها.
التأويل:
لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا ما يؤدي إلى الحرص على طلب الدنيا أَضْعافاً مُضاعَفَةً إلى ما لا يتناهى فلا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وَاتَّقُوا اللَّهَ خطاب للخواص أي اتقوا بالله عن غير الله في طلب الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ عن حجب ما سوى الله، وتظفرون بالوصول إلى الله. ثم خاطب العوام الذين هم أرباب الوسائط بقوله: وَاتَّقُوا أي بالقناعة النَّارَ(2/266)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)
أي نار الحرص التي توري عنها نار القطيعة، وجوزوا بقدمي طاعة الله وطاعة رسوله. ثم أخبر عن المسارعة إلى الجنان بمصارعة النفس والجنان عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أي المسافة بين العبد وبينها هذا القدر لأن الوصول إليها بعد العبور عما في السموات والأرض وهو عالم المحسوسات كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عيسى أنه قال: لن يلج ملكوت السموات والأرض من لم يولد مرتين.
فالولادة الثانية هي الخروج عن الصفات الحيوانية بتزكية النفس عنها. وولوج الملكوت هو التحلية بالصفات الروحانية يُنْفِقُونَ أموالهم فِي السَّرَّاءِ وأرواحهم في الضراء بل من سوى الله في طلب الله فَعَلُوا فاحِشَةً هي رؤية غير الله أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتعلق بما سوى الله وَذَكَرُوا اللَّهَ بالنظر إليه وبرؤيته وَمَنْ يَغْفِرُ ومن يستر بكنف عواطفه ذنوب وجود الأغيار إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا من رؤية الوسائط والتعلق بها وَهُمْ يَعْلَمُونَ أن كل شيء ما خلا الله باطل أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ أي هم مستحقون لمقامات القرب مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ من أصناف ألطافه تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ العناية وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ لأن نيل المقصود في بذل المجهود قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ أمم لهم سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ نفوسكم الحيوانية بالعبور على أوصافها الدنية لتبلغوا سماء قلوبكم الروحانية فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ بهذه المقامات الروحانية والمكاشفات الربانية وَلا تَهِنُوا أيها السائرون في السير إلى الله وَلا تَحْزَنُوا على ما فاتكم من اللذات الفانية وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ من أهل الدنيا والآخرة لأنكم من أهل الله إِنْ يَمْسَسْكُمْ في أثناء المجاهدات قَرْحٌ ابتلاء وامتحان فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ من الأنبياء والأولياء قَرْحٌ محن مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ السائرين يوما نعمة ويوما نقمة، ويوما منحة ويوما محنة. وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أرباب المشاهدات والمكاشفات وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ فيه إشارة إلى أن كل ألم ونصب يصيب المؤمن فهو تطهير لقلبه وتكفير لسره، وما يصيب الكافر من نعمة ودولة وغنى ومنى فهو سبب لكفرانه ومزيد لطغيانه. وبوجه آخر البلاء لأهل الولاء تمحيص للقلوب عن ظلمات العيوب وتنويرها بأنوار الغيوب ومحق صفات نفوسهم الكافرة ومحو سمات أخلاقهم الفاجرة ليتخلصوا عن قفص الأشباح إلى حظائر الأرواح.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 150]
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)
وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150)(2/267)
القراآت:
رَأَيْتُمُوهُ بغير همزة يعني بالتليين ونحوه رَأَوْكَ [الفرقان: 41] ورَأَوْهُ [الملك: 27] روى هبة الله بن جعفر عن الأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف. يُرِدْ ثَوابَ وبابه مدغما: أبو عمرو وشان بن عامر وسهل وحمزة وعلي وخلف نُؤْتِهِ مثل يُؤَدِّهِ [آل عمران: 75] وَكَأَيِّنْ بالمد والهمز مثل «كاعن» حيث كان:
ابن كثير. وقرأ يزيد وَكَأَيِّنْ بالمد بغير همزة. وقرأ أبو عمرو وسهل ويعقوب وعلي بغير نون في الوقف وكأي الباقون: وَكَأَيِّنْ في الحالين قتل أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ونافع وقتيبة والمفضل الباقون. قاتَلَ.
الوقوف:
الصَّابِرِينَ هـ تَلْقَوْهُ ص لطول الكلام رَسُولٌ ج لأن ما بعده يصلح صفة واستئنافا الرُّسُلُ ط أَعْقابِكُمْ ط لتناهي الاستفهام شَيْئاً ط الشَّاكِرِينَ هـ مُؤَجَّلًا ج لابتداء الشرط مِنْها ج للعطف مِنْها ط الشَّاكِرِينَ هـ قتل ط ليكون قتل النبي صلى الله عليه وسلم إلزاما للحجة على من اعتذر في الانهزام بما سمع من نداء إبليس ألا إن محمدا قد قتل. والتقدير ومعه ربيون كثير. ولو وصل كان الربيون مقتولين. ومن قرأ قاتَلَ فله أن لا يقف كَثِيرٌ ج لابتداء النفي مع فاء التعقيب وَمَا اسْتَكانُوا ط الصَّابِرِينَ هـ الْكافِرِينَ هـ الْآخِرَةِ ط الْمُحْسِنِينَ هـ خاسِرِينَ هـ مَوْلاكُمْ ج النَّاصِرِينَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما ذكر فوائد مداولة الأيام وحكمها، أتبعها ما هو السبب الأصلي في ذلك فقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بدون تحمل المشاق. و «أم» منقطعة ومعنى الهمزة فيها الإنكار و «لما» بمعنى «لم» مع زيادة التوقع. وليس المراد نفي العلم بالمجاهدين ولكن المراد نفي المعلوم. وإنما حسن إقامة ذلك مقام هذا لأن العلم متعلق بالمعلوم كما هو عليه، فلما حصلت بينهما هذه المطابقة حسن إقامة أحدهما مقام الآخر.
تقول: ما علم الله في فلان خيرا أي ما فيه خير حتى يعلمه. فحاصل الكلام لا تحسبوا أن(2/268)
تدخلوا الجنة ولم تجاهدوا بعد. وإنما أنكر هذا الحسبان لأنه تعالى أوجب الجهاد قبل هذه الواقعة، وأوجب الصبر على تحمل متاعبها، وبين وجوه المصالح المنوطة بها في الدين والدنيا. وإذا كان كذلك فمن البعيد أن يصل الإنسان إلى السعادة والجنة مع إهمال مثل هذه الطاعة. والواو في قوله: وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ واو الجمع في قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. كأنه قيل: إن دخول الجنة وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان فليس كل من أقر بدين الله كان صادقا، ولكن الفيصل فيه تسليط المكروهات ومخالفات النفس فإن الحب هو الذي لا ينقص بالجفاء ولا يزداد بالوفاء. وقيل: التقدير أظننتم أن تدخلوا الجنة قبل أن يعلم الله المجاهدين وأن يعلم الصابرين؟ ووجه آخر وهو أن يكون مجزوما أيضا لكن الميم لما حركت للساكنين حركت بالفتحة اتباعا للفتحة قبلها. وهذا كما قرىء وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ بفتح الميم إلا أن يراد ولما يعلمن بالنون الخفيفة ثم حذفت. وقرأ الحسن وَيَعْلَمَ بالجزم على العطف. وروي عن أبي عمرو وَيَعْلَمَ بالرفع على الحال كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ الخطاب فيه للذين ألحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخروج إلى المشركين وكان رأيه في الإقامة بالمدينة. ويراد بالموت سببه وهو الجهاد والقتل. قال المحققون: إنه لم يكن تمنيهم للموت تمنيا لأن يقتلوا لأن قتل المشركين لهم كفر. ولا يجوز للمؤمن أن يتمنى الكفر أو يريده أو يرضى به، بل إنما تمنوا لفوز بدرجات الشهداء والوصول إلى كراماتهم. وشبهوا ذلك بمن شرب دواء الطبيب النصراني فإن غرضه حصول الشفاء. ولا يخطر بباله جر منفعة وإحسان إلى عدو الله وتنفيق صناعته. قالت الأشاعرة هاهنا: من أراد شيئا أراد ما هو من لوازمه، وثواب الشهداء لا يحصل إلا بالشهادة، ولا ريب أنه تعالى أراد إيصال ثواب الشهداء إلى المؤمنين، ولهذا ورد من الترغيبات ما ورد فأراد صيرورتهم شهداء، ولن يصيروا شهداء إلا إذا قتلهم الكفار فلا بد أن يريد أن يقتلهم الكفار وذلك القتل كفر ومعصية، فثبت أنه تعالى مريد للكفر والإيمان والطاعة والعصيان. مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ من قبل أن تشاهدوه وتعرفوا شدته وصعوبة مقاساته. فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ قال الزجاج: أي وأنتم بصراء كقولهم: رأيته بعيني أي رأيتموه معاينين حين قتل بين أيديكم من قتل من إخوانكم وشارفتم أن تقتلوا. ويحتمل أن يراد رأيتم إقدام القوم وشدة حرصهم على قتلكم وعلى قتل الرسول، ثم بقيتم أنتم تنظرون إليهم من غير جد في دفعهم ولا اجتهاد في مقاتلتهم، وفيه توبيخ لهم على تمنيهم الجهاد وعلى إلحاحهم في الخروج إليه، ثم انهزامهم وقلة ثباتهم عنده.
قال ابن عباس ومجاهد والضحاك: لما نزل النبي صلى الله عليه وسلم بالشعب أمر الرماة أن يلزموا أصل الجبل ولا ينتقلوا سواء كان الأمر لهم أو عليهم. فلما وقفوا وحملوا على الكفار هزموهم وقتل علي عليه(2/269)
السلام طلحة بن أبي طلحة صاحب لوائهم، والزبير والمقداد شدا على المشركين، ثم حمل الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه فهزموا أبا سفيان. ثم إن بعض القوم لما رأوا انهزام الكفار بادر قوم من الرماة الى الغنيمة، وكان خالد بن الوليد صاحب ميمنة الكفار، فلما رأى تفرق الرماة حمل على المسلمين فهزمهم وفرق جمعهم، وكثر القتل في المسلمين، ورمى عبد الله بن قميئة الحارثي رسول الله صلى الله عليه وسلم بحجر وكسر رباعيته وشج وجهه وأقبل يريد قتله، فذب عنه مصعب بن عمير وهو صاحب الراية يوم بدر ويوم أحد حتى قتله ابن قميئة. واحتمل طلحة بن عبيد الله رسول الله ودافع عنه أبوبكر وعلي عليه السلام. وظن ابن قميئة أنه قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد قتلت محمدا، وصرخ صارخ ألا إن محمدا قد قتل. قيل: وكان الصارخ الشيطان ففشا في الناس خبر قتله صلى الله عليه وسلم فانكفؤا، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو: إليّ عباد الله، حتى انحازت إليه طائفة من أصحابه فلامهم على هربهم فقالوا: يا رسول الله فديناك بآبائنا وأمهاتنا، أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فنزلت وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ
أي مرسل. قال أبو علي: وقد يكون الرسول في غير هذا الموضع بمعنى الرسالة أي حاله مقصور على الرسالة لا يتخطاها إلى البقاء والدوام قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فسيخلو كما خلوا. وكما أن أتباعهم بقوا متمسكين بدينهم بعد خلوهم فكونوا أنتم كذلك لأن الغرض من إرسال الرسل التبليغ وإلزام الحجة لا وجودهم بين أممهم أبدا أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ الفاء لتسبيب الجملة الشرطية عن الجملة التي قبلها، والهمزة لإنكار الجزاء لأنه في الحقيقة كأنه دخل عليه. والمعنى: أفتنقلبون على أعقابكم إن مات محمدا أو قتل؟
وسبب الإنكار ما تقدم من الدليلين: أحدهما أن الحاجة الى الرسول هي التبليغ وبعد ذلك لا حاجة إليه، فلا يلزم من قتله أو موته الإدبار عما كان هو عليه من الدين وما يلزم كالجهاد. وثانيهما القياس على موت سائر الأنبياء وقتلهم، فإن موسى عليه السلام مات ولم ترجع أمته عن ذلك الدين. والنصارى زعموا أن عيسى عليه السلام قتل وهم لم يرجعوا عن دينه وإنما ذكر القتل. وقد علم أنه لا يقتل لكونه مجوّزا عند المخاطبين. وقوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] لو سلم أنه متقدم في النزول فإنه مما كان يختص بمعرفته العلماء منهم على أنه ليس نصا في العصمة عن القتل، بل يحتمل العصمة من فتنة الناس وإضلالهم. وقوله: إِنَّكَ مَيِّتٌ [الزمر: 30] يراد به المفارقة إلى الآخرة بأي طريق كان بدليل وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] وكثير منهم قد قتلوا. ويمكن أن يقال: صدق القضية الشرطية لا يتوقف على صدق جزأيها لصدق قولنا إن كانت الخمسة زوجا فهي تنقسم بمتساويين مع كذب جزأيها. ومعنى «أو» هو الترديد والتشكيك أي سواء فرض(2/270)
وقوع الموت أو القتل فلا تأثير له في ضعف الدين ووجوب الإدبار أو الارتداد وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً بل لا يضر إلا نفسه، وهذا كما يقول الوالد لولده عند العتاب إن هذا الذي تأتي به من الأفعال لا يضر السماء والأرض. يريد أنه يعود ضرره عليه.
وما ارتد أحد من المسلمين ذلك اليوم إلا ما كان من قول المنافقين. ويجوز أن يكون على وجه التغليظ عليهم فيما كان منهم من الفرار والانكشاف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. روي أنه لما صرخ الصارخ قال بعض المسلمين: ليت عبد الله بن أبيّ يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وقال ناس من المنافقين: لو كان نبيا لما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم وإلى دينكم. فقال أنس بن النضر عم أنس بن مالك: يا قوم إن كان قتل محمد فإن رب محمد حي لا يموت. وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء، ثم شد بسيفه فقاتل حتى قتل. وعن بعض المهاجرين أنه مر بأنصاري يتشحط في دمه فقال: يا فلان، أشعرت أن محمدا قد قتل؟ فقال: إن كان قتل فقد بلغ قاتلوا على دينكم. ففي أمثالهم قال تعالى: وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ لأنهم شكروا نعمة الإسلام فيما فعلوا من الصبر والثبات. ثم قال: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ ووجه النظم أن المنافقين أرجفوا أن محمدا قتل فارجعوا إلى ما كنتم عليه من الأديان، فأبطل قولهم بأن القتل مثل الموت في أنه لا يحصل إلا في الوقت المقدر. وكما أنه لو مات في بلده لم يدل ذلك على فساد دينه فكذا لو قتل. وفيه تحريض المؤمنين على الجهاد بإعلامهم أن الحذر لا يغنى عن القدر، وأن أحدا لا يموت قبل الأجل وإن خوّض المهالك واقتحم المعارك. أو الغرض بيان حفظة وكلاءته لنبيه فإنه ما بقي في تلك الواقعة سبب من أسباب الهلاك والشر إلا وقد حصل إلا أنه تعالى لما كان حافظا لنبيه ولم يقدّر في ذلك الوقت أجله لم يضره ذلك. وفيه تقريع لأصحابه أنهم قد قصروا في الذب عنه صلى الله عليه وسلم، وجواب عما قاله المنافقون للصحابة لما رجعوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. قال الأخفش والزجاج: تقدير الكلام وما كانت نفس لتموت إلا بإذن الله. وقال ابن عباس: الإذن هو قضاء الله وقدره فإنه لا يحدث شيء إلا بمشيئة الله وإرادته، فأورد الكلام على سبيل التمثيل كأنه فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلا أن يأذن الله فيه، وذلك أن إسناد الموت إلى النفس نسبة الفعل إلى القابل لا إلى الفاعل، فأقيم القابل مقام الفاعل. وقال أبو مسلم: الإذن هو الأمر. والمعنى أن الله تعالى يأمر ملك الموت بقبض الأرواح فلا يموت أحد إلا بهذا الأمر. وقيل: المراد التكوين والتخليق لأنه لا يقدر على خلق الموت والحياة أحد إلا الله. وقيل: التخلية والإطلاق وترك المنع بالقهر والإجبار.(2/271)
والمعنى ما كان لنفس أن تموت بالقتل إلا بأن يخلي الله بين القاتل والمقتول. وفيه أنه تعالى لا يخلي بين نبيه وبين أحد ليقتله صلى الله عليه وسلم، ولكنه جعل من بين يديه صلى الله عليه وسلم ومن خلفه رصدا ليتم على يديه بلاغ ما أرسله به فلا تهنوا في غزواتكم بعد ذلك بإرجاف مرجف. وقيل:
الإذن العلم أي لن تموت نفس إلا في الوقت الذي علم الله موتها فيه. وفي الآية دليل على أن المقتول ميت بأجله، وأن تغيير الآجال ممتنع ولذا أكد هذا المعنى بقوله: كِتاباً مُؤَجَّلًا وهو مصدر مؤكد لنفسه لدلالة ما قبله عليه أي كتب الموت كتابا مؤجلا مؤقتا له أجل معلوم لا يتقدم ولا يتأخر. وقيل: الكتاب المؤجل هو المشتمل على الآجال. وقيل:
هو اللوح المحفوظ الذي كتب فيه جميع الحوادث من الخلق والرزق والأجل والسعادة والشقاوة. قال القاضي: الأجل والرزق مضافان إلى الله تعالى، وأما الكفر والفسق والإيمان والطاعة فكل ذلك مضاف إلى العبد. فإذا كتب تعالى ذلك فإنما يكتب ما يعلمه من اختيار العبد وذلك لا يخرج فيه العبد من أن يكون مذموما أو ممدوحا. والحق أن هذا تعكيس للقضية فإن الله تعالى إذا علم من العبد الكفر استحال أن يأتي هو بالإيمان وإلا انقلب علم الله جهلا، وإذا كان هو غير قادر على الإيمان حينئذ فما معنى اختياره؟ ثم إنه كان في الذين حضروا يوم أحد من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة كما أخبر الله تعالى في هذه السورة فقوله:
وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها أي من ثوابها تعريض بالفريق الدنيوي وهم الذين شغلتهم الغنائم، وباقي الآية مدح للفريق الآخر الأخروي، وإن فضله تعالى وعطيته شامل لكلا الفريقين، لكن ثواب الفريق الثاني هو المعتمد به في الحقيقة ولهذا ختم الكلام بقوله: وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ فأبهم الجزاء وأضافه إلى نفسه تنبيها على أن جزاء الذين شكروا نعمة الإسلام فلم يشغلهم عن الجهاد شيء لا يكتنه كنهه وتقصر عنه العبارة، وأنه كما يليق بعميم فضله وجسيم طوله. وهذه الآية وإن وردت في الجهاد لكنها عامة في جميع الأعمال كما
قال صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» «1»
وذلك لأن المؤثر في جانب الثواب والعقاب القصود والدواعي. فمن وضع الجبهة على الأرض والوقت ظهر والشمس أمامه، فإن قصد بذلك السجود عبادة الله تعالى كان من الإيمان، وإن قصد تعظيم الشمس كان من الكفر.
وَكَأَيِّنْ الأكثرون على أنها في الأصل مركبة من كاف التشبيه و «أي» التي هي في غاية الإبهام إذا قطعت عن الإضافة. كما أن «كذا» مركبة من «الكاف» و «ذا» المقصود به
__________
(1) رواه البخاري في كتاب بدء الوحي باب 1، كتاب الإيمان باب 41. مسلم في كتاب الإمارة حديث 155. أبو داود في كتاب الطلاق باب 11. الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب 16. النسائي في كتاب الطهارة باب 59. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 26. أحمد في مسنده (1/ 25) .(2/272)
الإشارة. «فكأين» مثل «كذا» في كون المجروحين مبهمين عند السامع إلا أن في «ذا» إشارة فى الأصل إلى ما في ذهن المتكلم بخلاف «أي» فإنه للعدد المبهم ومميزها منصوب ومفرد على الأصل. والأكثر إدخال «من» في مميز «كأين» وبه ورد القرآن، والتمييز بعد «كذا» و «كأين» في الأصل عن الكاف لا عن «ذا» و «أي» كما في «مثلك رجلا» لأنك تبين في كذا رجلا وكأين رجلا أن مثل العدد المبهم في أي جنس هو ولم تبين العدد المبهم. فأي في الأصل كان معربا لكنه انمحى عن الجزأين معناهما الإفرادي وصار المجموع كاسم مفرد بمعنى «كم» الخبرية فصار كأنه اسم مبني على السكون آخره نون ساكنة كما في «من» لا تنوين تمكن فلهذا يكتب بعد الياء نون، مع أن التنوين لا صورة له خطا ولأجل التركيب تصرف فيه فقيل: كائن مثل كاعن. وربما ظن بعضهم أنه اسم فاعل من كان، ولكنه بني لكثرة الاستعمال وهاتان اللغتان فيه مشهورتان ولهذا قرىء بهما. وفيه لغات أخر غير مشهورة تركنا ذكرها لأنه لم يقرأ بها ولعلك تجدها في كتبنا الأدبية. ومحل كَأَيِّنْ هاهنا رفع على الابتداء، وقوله قتل أو قاتَلَ خبره والضمير يعود إلى لفظ كَأَيِّنْ فإنه مفرد اللفظ. وإن كان مجموع المعنى. والربيون معناه الألوف أو الجماعات الكثيرة. الواحد ربى عن الفراء والزجاج. قال ابن قتيبة: أصله من الربة الجماعة، فحذفت الهاء في النسبة، ويقال: ترببوا أي تجمعوا. وقال ابن زيد: الربانيون الأئمة والولاة، والربيون الرعية.
والكسر فيه من تغييرات النسب كالضم في دهري، والقياس الفتح، ثم من قرأ قتل فمعنى الآية إن كثيرا من الأنبياء قتلوا والذين بقوا بعده ما وهنوا في دينهم بل استمروا على جهاد عدوّهم ونصرة دينهم وكان ينبغي أن يكون لكم فيهم أسوة حسنة. فيكون المقصود من الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياء لتقتدي هذه الأمة بهم. ومن قرأ قاتَلَ فالمعنى:
وكم من نبي قاتل معه العدد الكثير من أصحابه فأصابهم من عدوّهم قروح فما وهنوا. فعلى هذا يكون الغرض من الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في القتال. وربما تؤيد هذه القراءة بما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: ما سمعنا بنبي في القتال. ويحتمل أن تنزل القراءة الأولى على هذه الرواية أيضا بأن يقال: المعنى وكأين من نبي قتل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثير، فما ضعف الباقون وما استكانوا لقتل من قتل من إخوانهم، بل مضوا على جهاد عدوّهم. ثم إنه تعالى مدح هؤلاء الربيين بصفات وذلك قوله فَما وَهَنُوا إلخ ولا بد من تغايرها فقيل فَما وَهَنُوا عند قتل النبي وَما ضَعُفُوا عن الجهاد بعده وَمَا اسْتَكانُوا للعدو أي لم يخضعوا له، وفيه تعريض بما أصاب المسلمين من الوهن والانكسار عن الإرجاف بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبضعفهم عند ذلك عن جهاد الكفار(2/273)
واستكانتهم لهم حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد الله بن أبي في طلب الأمان من أبي سفيان. وقيل: الوهن استيلاء الخوف عليهم، والضعف ضعف الإيمان واختلاج الشبهات في صدورهم، والاستكانة الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم. وقيل: الوهن ضعف يلحق القلب، والضعف مطلقا اختلال القوة الجسمية، والاستكانة إظهار ذلك العجز والضعف.
واستكان قيل «افتعل» من السكون كأنه سكن لصاحبه ليفعل به ما يريد. وعلى هذا فالمد شاذ كقولهم «هو منه بمنتزاح» أي ببعد يراد بمنتزح. والأصح أنه استفعل من «كان» والمد قياسي كأن صاحبه تغير من كون إلى كون أي من حال إلى حال. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ بأن يريد إكرامهم والحكم بالثواب والجنة لهم. ثم أخبر أنهم كانوا مستعينين عند ذلك التصبر والتجلد بالدعاء والتضرع وطلب الإمداد والنصر من الله، والغرض أن تقتدي هذه الأمة بهم. فإن من عول في تحصيل مهماته على نفسه وعدده وعدده ذل، ومن اعتصم بالله والتجأ إليه فاز بالظفر. وفي إضافتهم الذنوب والإسراف إلى أنفسهم وهم ربانيون هضم للنفس واستصغار لها. قال المحققون: إنما قدموا الاستغفار لعلمهم بأنه تعالى ضمن نصر المؤمنين، فإذا لم يحصل النصرة وظهرت أمارات استيلاء الأعداء دل ذلك على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين، فيلزم تقديم التوبة والاستغفار على طلب النصرة ليكون طلبهم إلى ربهم عن زكاة وطهارة أقرب إلى الاستجابة. إنهم عمموا الذنوب أوّلا الصغائر والكبائر بقولهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا ثم خصصوا الذنوب الكبائر بقولهم وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه. والمراد بتثبيت الأقدام وإزالة الخوف عن قلوبهم وإماطة الخواطر الفاسدة عن صدورهم. والمراد بالنصر الأمور الزائدة على القوة والعدة والشدة كإلقاء الرعب في قلوب الأعداء، وكإحداث أحوال سماوية أو أرضية توجب انهزامهم كهبوب ريح تثير الغبار في وجوههم، وإجراء سيل في مواضع وقوفهم. وفي الآية تأديب وإرشاد من الله تعالى في كيفية الطلب عند النوائب جهادا كان أو غيره فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا من النصرة والغنيمة والعز وطيب الذكر وانشراح الصدر وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وهو الجنة وما فيها من المنافع واللذات وذلك غير حاصل في الحال. والمراد أنه حكم لهم بحصولها في الآخرة، وحكم الله بالحصول كنفس الحصول. أو المراد أنه سيؤتيهم مثل أتى أمر الله أي سيأتي، قال القاضي: ولا يمتنع أن تكون الآية مختصة بالشهداء وأنهم في الجنة عند ربهم كما ماتوا أحياء. وثواب الآخرة كله حسن، فما ظنك بحسن ثوابها؟ وإنما لم يصف ثواب الدنيا بالحسن لقلتها وامتزاجها بالمضار وكدر صفوها بالانقطاع والزوال. قال القفال: يحتمل أن يكون الحسن هو الحسن كقوله وَقُولُوا لِلنَّاسِ(2/274)
حُسْناً
[البقرة: 83] والغرض منه المبالغة كما يقال: فلان جود وعدل إذا كان غاية في الجود ونهاية في العدل. وهاهنا نكتة وهي أنه أدخل «من» التبعيضية في الآية المتقدمة في قوله: نُؤْتِهِ مِنْها في الموضعين، ولم يذكر في هذه الآية. لأن أولئك اشتغلوا بالثواب عن العبودية فلم ينالوا إلا البعض، بخلاف هؤلاء فإنهم لم يذكروا أنفسهم إلا بالعيب والقصور ولم يسألوا ربهم إلا ما يوجب إعلاء كلمته، فلا جرم فازوا بالكل. وفيه تنبيه على أن من أقبل على خدمة الله أقبل على خدمته كل ما سوى الله. ثم قال وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه. وهاهنا سر وهو أنه تعالى وفقهم للطاعة ثم أثابهم عليها ثم مدحهم على ذلك فسماهم محسنين، ليعلم العبد أن الكل بعنايته وفضله.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا عن السدي: المراد بالذين كفروا هو أبو سفيان وأصحابه فإنه كان كبير القوم في ذلك اليوم. والمعنى إن تستكينوا لهم وتستأمنوهم.
وعن علي عليه السلام: هم المنافقون عبد الله بن أبيّ وأشياعه قالوا للمؤمنين عند الهزيمة:
ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم.
وعن الحسن: هم اليهود والنصارى يستغوونهم ويوقعون لهم الشبهة في الدين ولا سيما عند هذه الواقعة كانوا يقولون: لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوم له ويوم عليه. والأقرب أنه عام في جميع الكفار فإن خصوص السبب لا ينافي إرادة العموم، فعلى المؤمنين أن لا يطيعوهم في شيء ولا ينزلوا على حكمهم وعلى مشورتهم حتى لا يستجرّوهم إلى موافقتهم وهو المراد بقوله: يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ أي إلى الكفر بعد الإيمان فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ في الدنيا باستبدال ذلة الكفر بعزة الإسلام والانقياد للأعداء الذي هو أشق الأشياء لدى العقلاء، وفي الآخرة بالحرمان عن الثواب المؤبد والوقوع في العقاب المخلد. بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ناصركم وهو إضراب عما كانوا بصدده من طاعة الكفار. والمعنى أنكم إنما تطيعون الكفار لينصروكم ويعينوكم على مطالبكم وهذا خطأ وجهالة لأنهم عاجزون مثلكم متحيرون، وبغير إذن الله لا ينفعون ولا يضرون. وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ لو فرض أن لأحد سواه قدرة على النصر لأنه خبير بمواقع الحاجات، قدير على إنجاز الطلبات، ينصر في الدنيا والآخرة بلا شائبة علة من العلات، ونصرة غيره لو فرض فإنه مخصوص بالدنيا وببعض الأمور وفي بعض الأوقات ولغرض من الأغراض الفاسدات، كيف ولا ناصر بالحقيقة سواه.
التأويل:
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ أن تلجوا عالم الملكوت ولم تظهر منكم مجاهدات تورث المشاهدات ولا الصبر على تزكية النفوس وتصفية القلوب على وفق(2/275)
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
الشريعة وقانون الطريقة لتتحلى الأرواح بأنوار الحقيقة وَلَقَدْ كُنْتُمْ يا أرباب الصدق وأصحاب الطلب تَمَنَّوْنَ موت النفوس عن صفاتها تزكية لها مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ بالمجاهدات والرياضات في خلاف النفس وقهرها عند لقاء العدو في الجهاد الأصغر ظاهرا وفي الجهاد الأكبر باطنا فَقَدْ رأيتم هذه الأسباب التي كنتم تمنونها عيانا وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ لا تفدون أرواحكم ولا تجاهدون حق الجهاد في الله بأرواحكم وأشباحكم أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فيه أن الإيمان التقليدي لا اعتبار له فينقلب المقلد عن إيمانه عند إعدام المقلد من الوالدين أو الأستاذ، وكذا عند موت المقلد فيعجز عند سؤال الملكين في قولهما له من ربك؟ فيقول: هاه لا أدري. فيقولون: ما تقول في هذا الرجل؟ فيقول: هاه لا أدري كنت أقول فيه ما قال الناس. فيقولان له: لا دريت ولا تليت. وَسَيَجْزِي اللَّهُ بالإيمان الحقيقي الشَّاكِرِينَ الذين شكروا نعمة الإيمان التقليدي بأداء حقوقه وهو الائتمار بأوامر الشرع والانتهاء عن نواهيه. وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ عن أوصافها الدنية وأخلاقها الردية وتتخلص عنها بطبعها إلا بتوفيق الله وجذبه وإشراق نوره كما أن ظلمة الليل لا تنتهي إلا بإشراق طلوع الشمس. ثم أثبت للعبد كسبا في طلب الهداية واستجلاب العناية بقوله: وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وهذه رتبة الخواص أي من عمل شوقا إلى الحق فقد رأى نعمة وجود المنعم، فثوابه نقد في الدنيا لأنه حاضر لا غيبة له وهو معنى قولهم «الصوفي ابن الوقت» وفيه أنشد:
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من مولى تمشى إلى عبد
أتى زائرا من غير وعد وقال لي ... أصونك عن تعذيب قلبك بالوعد
ومن عمل شوقا إلى الجنة فنظره على النعمة فثوابه في الآخرة وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ أي كلا الفريقين على قدر شكرهما. وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ أعدى العدو الذي بين جنبيه ومَعَهُ رِبِّيُّونَ متخلقون بأخلاق الرب فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ من تعب المجاهدات وَما ضَعُفُوا في طلب الحق وَمَا اسْتَكانُوا باحتمال الذلة والالتفات إلى غير الله. إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا أي النفوس الكافرة وصفاتها يَرُدُّوكُمْ إلى أسفل سافلين بشريتكم وبهيميتكم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 151 الى 160]
سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)(2/276)
القراآت:
الرُّعْبَ بضمتين حيث كان: ابن عامر وعلي ويزيد وسهل ويعقوب.
الباقون: بسكون العين- وَمَأْواهُمُ وبابه بغير همز: أبو عمرو غير شجاع ويزيد والأعشى والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ وبابه بإدغام الدال في الصاد:
حمزة وعلي وخلف وأبو عمرو وهشام وسهل. وتغشى بتاء فوقانية وبالإمالة: حمزة وعلي وخلف. الباقون: بياء الغيبة. كُلَّهُ بالرفع: أبو عمرو وسهل ويعقوب. الباقون:
بالنصب. يعملون بصير بياء الغيبة: ابن كثير وعباس وعلي وخلف وحمزة. الباقون:
بالخطاب. مُتُّمْ ومتنا بكسر الميم من مات يمات حيث كان: نافع وعلي وحمزة وخلف وافق حفصا إلا هاهنا لجوار قُتِلْتُمْ الباقون: بضم الميم من مات يموت.
يَجْمَعُونَ بياء الغيبة: حفص والمفضل وسائر القراء بتاء الخطاب.(2/277)
الوقوف:
سُلْطاناً ج لعطف المختلفتين النَّارُ ط الظَّالِمِينَ هـ بِإِذْنِهِ ج لأن «حتى» تحتمل انتهاء الحس، ووجه الابتداء أظهر لاقتران «إذا» مع حذف الجواب أي إذا فعلتم وفعلتم انقلب الأمر ويمنعكم نصره. والوقف على تُحِبُّونَ ظاهر في الوجهين.
الْآخِرَةَ ج لأن «ثم» لترتيب الإخبار وقيل لعطف صَرَفَكُمْ على الجواب المحذوف.
لِيَبْتَلِيَكُمْ ج عَفا عَنْكُمْ ط الْمُؤْمِنِينَ هـ أَصابَكُمْ ط تَعْمَلُونَ هـ طائِفَةً مِنْكُمْ (لا) لأن الواو للحال. الْجاهِلِيَّةِ ط مِنْ شَيْءٍ ط لِلَّهِ ط يُبْدُونَ لَكَ ط هاهُنا ط مَضاجِعِهِمْ ج لأن الواو مقحمة أو عاطفة على محذوف أي لينفذ الحكم فيكم. وَلِيَبْتَلِيَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ط الصُّدُورِ هـ الْجَمْعانِ (لا) لأن إنما خبر إن كَسَبُوا ج لاحتمال الواو حالا واستئنافا عَنْهُمْ ط حَلِيمٌ هـ وَما قُتِلُوا ج لأن لام لِيَجْعَلَ قد يتعلق بقوله: وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ أو بمحذوف أي ذلك ليجعل فِي قُلُوبِهِمْ ط وَيُمِيتُ ط بَصِيرٌ هـ يَجْمَعُونَ هـ تُحْشَرُونَ هـ لِنْتَ لَهُمْ ج لأن الواو للعطف و «لو» للشرط مِنْ حَوْلِكَ ص والوصل أولى ليعطف الأمر بالرحمة على النهي عن الغلظة تعريضا الْأَمْرِ ج لفاء التعقيب مع «إذا» الشرطية عَلَى اللَّهِ ط الْمُتَوَكِّلِينَ هـ لَكُمْ ج لابتداء شرط آخر مع الواو. مِنْ بَعْدِهِ ط الْمُؤْمِنُونَ هـ.
التفسير:
إنه تعالى يذكر في هذه الآيات وجوها كثيرة في باب الترغيب في الجهاد وعدم المبالاة بالكفار. من جملتها الوعد بإلقاء الرعب في قلوب الكفرة، ولا شك أن هذا من معاظم أسباب الاستيلاء، ثم إن هذا الوعد مخصوص بيوم أحد أو هو عام في جميع الأوقات. الأظهر الثاني كأنه قيل: إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أحد إلا أنا سنلقي الرعب في قلوب الكفار بعد ذلك حتى يظهر هذا الدين على سائر الأديان، ويؤيده
قوله صلى الله عليه وسلم «نصرت بالرعب مسيرة شهر» «1»
وذهب كثير من المفسرين إلى أنه مختص بيوم أحد لوروده في مساق تلك القصة. قال السدي: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق. ثم إنهم ندموا وقالوا بئسما صنعنا. قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم. فلما عزموا على ذلك ألقى الله الرعب في قلوبهم حتى رجعوا عما هموا به ففي ذلك نزلت الآية. وقيل: إن الكفار لما استولوا على المسلمين وهزموهم أوقع الله الرعب في قلوبهم فتركوهم وفروا منهم من غير
__________
(1) رواه الدارمي في كتاب السير باب 28. البخاري في كتاب التيمم باب 1. مسلم في كتاب المساجد حديث 3، 5. الترمذي في كتاب السير باب 5. النسائي في كتاب الغسل باب 26. أحمد في مسنده (1/ 301) . [.....](2/278)
سبب حتى روي أن أبا سفيان صعد الجبل من الخوف وقال: أين ابن أبي كبشة- يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ - أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فأجابه عمر وجرى بينهم من الكلمات ما جرى. والرعب الخوف الذي يملأ القلب فزعا ومنه سيل راعب إذا ملأ الأودية والأنهار. وإلقاء الرعب في قلوبهم لا يقتضي إلقاء جميع أنواعه فيها وإنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة فيها من بعض الوجوه. ولكن ظاهر قوله: فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا يقتضي وقوع الرعب في قلوب جميع الكفرة وهكذا هو في الواقع لأنه لا أحد يخالف دين الإسلام إلا وفي قلبه خوف المسلمين وهيبتهم. إما في الحرب وإما في المحاجة. وقيل: إنه مخصوص بأولئك الكفار. بِما أَشْرَكُوا أي بسبب إشراكهم بالله. وفيه وجه معقول وهو أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار كما قال: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النمل: 62] ومن اعتقد أن لله شريكا لم يحصل له الاضطرار لأنه يقول: إن كان هذا المعبود لا ينصرني فذاك الآخر ينصرني فلا يحصل له الإجابة. فيلزمهم الرعب والخوف هذا على تقدير أن معبوديهم يصح منهم الإجابة. كيف وإنهم لا يملكون نفعا ولا ضرا؟ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً الهة لم ينزل الله بإشراكها حجة. والتركيب يدل على القدرة والشدة والحدة ومنه يقال للوالي سلطان، ومنه سلاطة اللسان، والسليط الزيت كأنه استخراج بالقهر. قال الجوهري: السلطان بمعنى الحجة والبرهان لا يجمع لأن مجراه مجرى المصدر. وليس المراد أن هناك حجة إلا أنها لم تنزل لأن الشرك لن يقوم عليه حجة، ولكن المراد نفي الحجة ونزولها جميعا كقوله:
ولا ترى الضب بها ينجحر قال المتكلمون: التقليد باطل لأن كل ما لا دليل عليه لم يجز إثباته. ومنهم من يبالغ فيقول: ما لا دليل عليه فيجب نفيه. ومنهم من احتج بهذا الحرف على وحدانية الصانع فقال: لا سبيل إلى إثبات الصانع إلا باحتياج المحدثات إليه. ويكفي في رفع هذه الحاجة إثبات الصانع الواحد فما زاد لا سبيل إلى إثباته فلم يجز إثباته. أقول: هذا إذا استدللنا بعدم الدليل على وجود الشريك على نفيه، أما إذا استدللنا بوجود الدليل على نفيه فلا شريك لأجل الدليل، ولا دليل على الاشتراك لوجود الدليل على نفي الشريك. ولما ذكر حال الكفرة في الدنيا وهو استيلاء الرعب عليهم أتبعه حالهم في الآخرة فقال: وَمَأْواهُمُ أي والمكان الذي يأوون إليه النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ مقام المشركين من ثوى بالمكان يثوي إذا أقام به ثم أكد وعد إلقاء الرعب بقوله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ(2/279)
تستأصلونهم قتلا. قال أصحاب الاشتقاق: حسّه أي قتله لأنه أبطل حسه بالقتل كما يقال:
بطنه إذا أصاب بطنه، ورأسه إذا أصاب رأسه. بِإِذْنِهِ بعلمه. وقيل: المراد بهذا الوعد أنه صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يذبح كبشا فصدق الله رؤياه بقتل طلحة صاحب لواء المشركين يوم أحد، وقتل تسعة نفر بعده على اللواء. وقيل: هو ما ذكره من قوله إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ [آل عمران: 125] إلا أن هذا كان مشروطا بشرط هو الصبر والتقوى.
وقيل: المراد هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للرماة: لا تبرحوا هذا المكان فإنا لا نزال غالبين ما دمتم فيه.
فلما أقبل المشركون جعل الرماة يرشقون خيلهم والباقون يضربونهم بالسيوف حتى انهزموا والمسلمون على آثارهم يقتلونهم. وقيل: لما رجعوا الى المدينة قال ناس من المؤمنين: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر فنزلت حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ قال بعض العلماء: هذا ليس بشرط فلهذا لم يقتض الجواب. والمعنى قد نصركم الله إلى حين كان منكم الفشل لأن وعدهم بالنصر كان مشروطا بالصبر. وقال آخرون: إنه للمجازاة. ثم اختلفوا في الجزاء على وجوه: أحدها قال البصريون: إنه محذوف كما مر في الوقوف وذلك لدلالة سياق الكلام عليه. وثانيها قال الكوفيون: جوابه وعصيتم، والواو زائدة. والمراد بالعصيان خروجهم من ذلك المكان فإن الفشل والتنازع أخرجهم من المكان الذي وقفهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وثالثها قال أبو مسلم:
جوابه ثم صرفكم. و «ثم» هاهنا كالساقطة. وقيل: جوابه ما يدل عليه قوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ والتقدير: حتى إذا فشلتم صرتم فريقين. والمراد بالفشل الجبن والخور، وبالتنازع أن الرماة لما هزم المشركون ونساؤهم يصعدن الجبل وكشفن عن سوقهن بحيث بدت خلاخلهن قالوا: الغنيمة.
فقال عبد الله بن جبير أمير الرماة: عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نبرح هذا المكان. فأبوا عليه وذهبوا إلى طلب الغنيمة، وبقي عبد الله مع طائفة دون العشرة إلى أن قتلهم المشركون.
وقوله: فِي الْأَمْرِ إما أن يكون بمعنى الشأن والقصة أي تنازعتم فيما كنتم فيه من الشأن، أو بمعنى الأمر الذي يضاد النهي أي تنازعتم فيما أمركم الرسول به وعصيتم بترك ملازمة ذلك المكان. وإنما قدم ذكر الفشل على التنازع والمعصية كأنهم فشلوا في أنفسهم عن الثبات طمعا في الغنيمة، ثم تنازعوا من طريق القول في أنا هل نذهب في طلب الغنيمة أم لا، ثم اشتغل بعضهم بطلب الغنيمة.
وإنما ورد الخطاب عاما وإن كانت المعصية بمفارقة ذلك الموضع خاصة بالبعض اعتمادا على المخصص بعده وهو قوله وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وفائدة قوله: مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ التنبيه على عظم شأن المعصية لأنهم لما شاهدوا أن الله أكرمهم بإنجاز الوعد كان(2/280)
من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية، فلما أقدموا عليها سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم. قوله: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ قالت الأشاعرة: معنى هذا الصرف أنه تعالى رد المسلمين عن الكفار وحالت الريح دبورا وكانت صبا حتى وقعت الهزيمة على المسلمين وقتل منهم من قتل واستولى الكفرة. ولا يتوجه عليهم إشكال لأن من مذهبهم أن الخير والشر بإرادة الله وتخليقه. وأما المعتزلة فلم يرضوا بهذا التفسير وقالوا: كيف يضيف الصرف بهذا المعنى إلى نفسه والصرف عن الكفار معصية وقد أضافها إلى الشيطان في قوله إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وأيضا إنه تعالى عاتبهم على ذلك الانصراف، ولو كان بفعل الله لم يجز معاتبة القوم عليه كما لا يجوز المعاتبة على طولهم وقصرهم وصحتهم ومرضهم؟ فعند ذلك ذكروا في تأويل الآية وجوها. قال الجبائي: إن الرماة كانوا فريقين: بعضهم فارقوا المكان أوّلا لطلب الغنائم، وبعضهم بقوا هناك إلى أن أحاط بهم العدو، وعلموا أنهم لو استمروا على المكث هناك لقتلهم العدو من غير فائدة أصلا، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك الموضع إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه فتحصنوا به، فلما كان ذلك الانصراف جائزا أضافه الله إلى نفسه بمعنى أنه كان يأمره وبإذنه. ثم قال لِيَبْتَلِيَكُمْ والمراد أنه تعالى لما صرفهم إلى ذلك المكان وتحصنوا فيه أمرهم هناك بالجهاد والذب عن بقية المسلمين. ولا شك أن الإقدام على الجهاد بعد الانهزام وبعد أن شاهدوا في تلك المعركة قتل أقاربهم وأحبائهم، من أعظم أنواع الابتلاء، فإذن الآية مشتلمة على المعذورين في الانصراف وعلى غير المعذورين. فقوله: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ يرجع إلى المعذورين، وقوله وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ يرجع إلى غير المعذورين. وسبب العفو ما علم من ندمهم على ما فرط منهم من عصيان أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الكعبي: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ بأن لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم لِيَبْتَلِيَكُمْ بكثرة الأنعام عليكم والتخفيف عنكم. وقال أبو مسلم الأصفهاني: المعنى من الصرف أنه تعالى أزال ما كان في قلوب الكفار من الرعب من المسلمين عقوبة لهم على عصيانهم وفشلهم. ومعنى الابتلاء أنه جعل ذلك الصرف محنة عليهم ليتوبوا عما خالفوا فيه أمره، ثم أعلمهم أنه قد عفا عنهم. قال القاضي: ظاهر قوله:
وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ يقتضي تقدم ذنب منهم. فإن كان ذلك الذنب من الصغائر صح أن يصف نفسه بالعفو عنهم من غير توبة، وإن كان من باب الكبائر فلا بد من إضمار توبتهم لقيام الدلالة على أن صاحب الكبيرة إذا لم يتب لم يكن من أهل العفو. وقالت الأشاعرة: لا شك أن ذلك الذنب كان من الكبائر لأنهم خالفوا صريح نص الرسول، وصارت تلك(2/281)
المخالفة سببا لانهزام عسكر الإسلام ولقتل جم غفير من الصحابة. ثم إن ظاهر الآية دل على أنه تعالى قد عفا عنهم من غير توبة لأنها غير مذكورة فصارت الآية دليلا على أنه قد يعفو عن أصحاب الكبائر. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يتفضل عليهم بالعفو أو هو متفضل عليهم في جميع الأحوال، سواء كانت الدولة لهم أو عليهم، لأن الابتلاء رحمة كما أن النصرة رحمة. وقد يستدل بالآية على أن صاحب الكبيرة مؤمن لأنه سماهم مؤمنين خلاف ما يقوله المعتزلة من أنه لا مؤمن ولا كافر.
قوله سبحانه: إِذْ تُصْعِدُونَ إما مستأنف بإضمار «واذكر» ، وإما أن يتعلق بما قبله أي عفا عنكم إذ تصعدون، لأن ما صدر عنهم من مفارقة ذلك المكان والأخذ في الوادي كالمنهزمين ذنب اقترفوه. أو المعنى ليبتليكم إذ تصعدون، أو ثم صرفكم حين إصعادكم، والإصعاد الذهاب في الأرض والإبعاد فيها. قال أبو معاذ النحوي: كل شيء له أسفل وأعلى كالوادي والنهر والأزقة فيقال فيه أصعد إذا أخذ من أسفله إلى أعلاه، وأما ما ارتفع كالسلم والجبل فإنه يقال صعد. وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ لا تلتفتون إليه. وأصله أن المعرّج على الشيء يلوي إليه عنقه أو عنان دابته. وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ كان يقول: إليّ عباد الله، أنا رسول الله من كرّ فله الجنة. فيحتمل أنه كان يدعوهم إلى نفسه حتى يجتمعوا عنده ولا يتفرقوا، ويحتمل أنه كان يدعوهم إلى محاربة العدو. فِي أُخْراكُمْ في ساقتكم وجماعتكم الأخرى، لأن القوم بسبب الهزيمة قد تقدموه صلى الله عليه وسلم وبقي هو في الجماعة المتأخرة. يقال:
جئت في آخر الناس وأخراهم كما تقول في أوّلهم وأولاهم بتأويل مقدمتهم وجماعتهم الأولى. فَأَثابَكُمْ قال في الكشاف: إنه عطف على صرفكم. وأقول: لا يبعد أن يعطف على تُصْعِدُونَ لأنه بمعنى أصعدتم بدليل أن يقال: ثاب إليه أي رجع. والمرأة تسمى ثيبا لأن واطئها عائدا إليها. فأصل الثواب كل ما يعود إلى الفاعل من جزاء فعله خيرا كان أو شرا إلا أن العرف خصه بالخير. فإن حملنا لفظ الآية على أصل اللغة استقام بلا تأويل، وإن حملناه على مقتضى العرف كان واردا على سبيل التهكم كقولهم: عتابك السيف وتحيتك الضرب. أي جعل مكان ما يرجون من الثواب الغم وهو في الأصل التغطية ومنه الغمام، فكأن الغم يستر وجه اللذة والسرور. والباء في بِغَمٍّ يحتمل أن تكون بمعنى المعاوضة نحو: بعت هذا بذاك، ويحتمل أن تكون بمعنى المصاحبة. أما الاحتمال الأول ففيه وجوه:
قال الزجاج: إنكم لما أذقتم الرسول غما بسبب عصيان أمره، أذاقكم الله غم الانهزام.
وقيل: المجازاة والمعنى جازاكم من ذلك الغم بهذا الغم. وقال الحسن: يريد غم يوم أحد للمسلمين بغم يوم بدر للمشركين. وفي الكشاف: يجوز أن يكون الضمير في فَأَثابَكُمْ(2/282)
للرسول أي فآساكم في الاغتنام. فكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته وشج وجهه وقتل عمه وغيره، غمه ما نزل بكم من قتل الأعزة ومن الانضمام في سلك العصاة لطلب الغنيمة ثم الحرمان عنها. وأما الاحتمال الثاني ففيه وجهان: أحدهما أن يكون هناك غمان: الأوّل ما أصابهم عند الفشل والتنازع، والثاني ما حصل عند الهزيمة. أو الأول غم فوت الغنائم، والثاني أن أبا سفيان وخالد بن الوليد اطلعا على المسلمين فحملوا عليهم وقتلوا منهم جمعا عظيما. أو الأول هذا والثاني خوفهم من رجوع المشركين واستئصال المسلمين. أو الأول ما أصابهم في أنفسهم وأموالهم، والثاني غم الإرجاف بقتل الرسول صلى الله عليه وسلم. أو الأول خوف عقاب المعصية، والثاني غم التوبة فإنها لا تتم إلا بالعود إلى المحاربة، وإذا أمر بالمعاودة بعد القلة والذلة فإن فعل غلب على ظنه القتل، وإن لم يفعل خاف الكفر وعقوبة الآخرة.
وثانيهما أن يراد بغم مع مواصلة الغموم وتتابعها وكثرتها، فيشمل جميع الغموم المعدودة وما ينخرط في سلكها. ثم اللام في قوله: لِكَيْلا تَحْزَنُوا يحتمل أن يتعلق بقوله: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ لأن في عفوه تعالى ما يزيل كل هم وحزن، وإما أن يتعلق بقوله: فَأَثابَكُمْ فيكون المعنى على قول الزجاج: إنه عاقبهم بغم الهزيمة ليتمرنوا على تجرع الغموم واحتمال الشدائد فلا يحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار، وليصير ذلك زاجرا لهم عن الإقدام على المعصية والاشتغال بما يخالف أمر الله. وعلى قول الحسن: جعلكم مغمومين يوم أحد في مقابلة ما جعلهم مغمومين يوم بدر لكيلا تحزنوا بإدبار الدنيا ومصائبها، ولا تفرحوا بإقبالها وعوائدها. قالت الأشاعرة: معنى إثابة الغم من الله تعالى خلق الغم فيهم ولا يقبح منه شيء. وأما المعتزلة فإنهم يقولون: الغم فعل العبد لكنه أسند إليه تعالى لأنه طبع العباد طبعا يغتمون بالمصائب وهم لا يحمدون على ذلك ولا يذمون. وإن سلم أنه بخلق الله فلرعاية المصالح، وليس الغرض تسليط الكفار على المسلمين فإن ذلك كفر ومعصية، ولكن الغرض أن لا يبقى في قلوب المؤمنين اشتغال بغير الله، ولا يحزنوا بالإدبار ولا يفرحوا بالإقبال. وإن جعل الإثابة مسندا إلى الرسول فإنما فعل ذلك ليسليهم وينفس عنهم لئلا يحزنوا على ما فاتهم من نصر الله ولا على ما أصابهم من غلبة العدوّ. وإن جعلت الباء بمعنى «مع» فالمعنى كما في قول الزجاج: أو المراد أنكم قلتم لو بقينا في هذا المكان وامتثلنا وقعنا في غم فوت الغنيمة، فاعلموا أنكم لما خالفتم أمر الرسول وطلبتم الغنيمة وقعتم في غموم أخر كل واحد منها أعظم من ذلك، فيصير هذا مانعا لهم من أن يحزنوا على فوات الغنيمة في وقعة أخرى. ثم كما زجرهم على تلك المعصية بزاجر دنيوي زجرهم بزاجر أخروي فقال: وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ عالم بجميع(2/283)
أعمالكم وقصودكم ودواعيكم فيجازيكم بحسب ذلك. ثم أخبر أن الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فريقان: أحدهما الجازمون بحقية هذا الدين وأن هذه الواقعة لا تؤدي الى الاستئصال لإخبار الصادق أن هذا الدين سيظهر على سائر الأديان، فخاطب الجماعة بقوله:
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً وأراد هؤلاء بقول: يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ والأمنة مصدر كالأمن ومثله من المصادر العظمة والغلبة. والنعاس فتور في أوائل النوم. وانتصاب أَمَنَةً على أنها حال متقدمة من نُعاساً مثل: رأيت راكبا رجلا، أو مفعول له بمعنى نعستم أمنة، أو على أنه حال من المخاطبين بمعنى ذوي أمنة، أو على جمع آمن كبارّ وبررة، أو على أنه مفعول أَنْزَلَ ونُعاساً بدل منه. قال أبو طلحة: غشانا النعاس ونحن في مصافنا، فكان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثم يسقط فيأخذه وما أحد إلّا ويميل تحت حجفته. وعن الزبير: كنت مع الرسول صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف فأرسل الله علينا النوم. والله إني لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني يقول: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا وعن ابن مسعود: النعاس في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشيطان. وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من غاية الوثوق بالله والفراغ عن الدنيا، ولا يكون في الصلاة إلا من غاية البعد عن الله. وكان في ذلك النعاس فوائد منها: أن شموله للمؤمنين كلهم لا في الوقت المعتاد معجزة ظاهرة جديدة له صلى الله عليه وسلم موجبة لزيادة وثوقهم بأن الله ينجز وعده وينصرهم، فيزداد جدهم واجتهادهم في الجهاد. ومنها أن الأرق والسهر يوجبان الفتور والكلال، والنعاس يجدد القوة والنشاط. ومنها شغلهم عن مشاهدة قتل الأعزة والأحبة. ومنها أن الأعداء كانوا حراصا متهالكين في قتلهم. فبقاؤهم سالمين في تلك المعركة وهم في النوم من أدل الدلائل على أن حفظ الله وكلاءته معهم. ومن الناس من زعم أن ذكر النعاس هاهنا كناية عن غاية الأمن وهذا صرف للفظ عن ظاهره من غير ضرورة مع أن فيه إبطال الفوائد والحكم المذكورة. واعلم أن من قرأ تَغْشى بالتاء فللعود إلى الأمنة ويؤيده أن الأمنة مقصودة بالذات، والنعاس مقصود بالعرض، ولأنها متبوع وأنه تابع.
ومن قرأ بالياء فللعود إلى النعاس، وينصره كونه أقرب، وكون المبدل منه في حكم النحي، وموافقته لقوله في قصة بدر إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ [الأنفال: 11] ولأن العرب تقول: غشية النعاس، وقلما يقولون غشيه الأمن، ولأن النعاس والأمنة لما كانا شيئا واحدا كان التذكير أولى. وأما الفريق الثاني فهم المنافقون الذين كانوا في شك من نبوته صلى الله عليه وسلم وما حضروا إلا لطلب الغنيمة كعبد الله بن أبي ومعتب بن قشير ونظرائهم، فأخبر عنهم بقوله: وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ ما بهم إلا همّ أنفسهم لا همّ أنفسهم لا همّ الدين ولا همّ النبي ولا المسلمين. والهمّ(2/284)
الأمر الشديد. ويقال: أهمه ذلك الأمر أي أقلقه وأحزنه. فالمعنى أوقعتهم أنفسهم وما حل بهم في الهموم والأشجان منهم بسبب التشكك وعدم الثبات. والتحقيق فيه أن الإنسان إذا اشتد اشتغاله بالشيء واستغراقه فيه صار غافلا عما سواه، فلما كان أحب الأشياء عندهم هو النفس، وكانت أسباب الخوف على النفس هناك موجودة والدافع لذلك وهو الوثوق بنصر الله ووعده غير حاصل لهم فلم يكن لهم هناك إلا همّ أنفسهم. يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وهو في حكم المصدر أي غير الظن الحق الذي يجب أن يظن به. وظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بدل منه.
والفائدة في هذا الترتيب أن غير الحق أديان كثيرة، وأرداها مقالات أهل الجاهلية فذكر أولا أنهم يظنون بالله ظنا باطلا، ثم بين أنهم اختاروا من الأديان أرذلها كما يقال: فلان دينه ليس بحق دينه دين الملاحدة. أو ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ مصدر وغَيْرَ الْحَقِّ تأكيد ل يَظُنُّونَ كقولك: هذا القول غير ما تقول. وظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ كقولك: حاتم الجود ورجل صدق.
مما أضيف للملابسة أي الظن المختص بالملة الجاهلية وهي زمان الفترة قبل الإسلام. أو أريد ظن أهل الجاهلية وهم أهل الشرك الجاهلون بالله. فالجاهلية مصدر كالعالمية والقادرية. قيل: إن ذلك الظن هو أنهم كانوا ينكرون الإله العالم بكل المعلومات القادر على كل المقدورات، وينكرون النبوة والمعاد، فلا جرم ما وثقوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الله يقوّيهم وينصرهم. وقيل: الظن هو أنهم كانوا يقولون: لو كان محمد نبيا حقا لم يسلط الله الكفار عليه، وهذا ظن فاسد. أما عند أهل السنة فلأنه تعالى فاعل لما يشاء ولا اعتراض لأحد عليه، وإذا شرف المولى عبده بخلعة لم يجب أن يشرفه بأخرى. وأما عند من يعتبر المصالح في أفعاله وأحكامه فلا يبعد أن يكون في التخلية بين الكافر والمسلم وغير ذلك من المصائب حكم خفية. ولو كان كون المؤمن محقا يوجب زوال المصائب عنه اضطر الناس الى معرفة الحق، وكان ينافي التكاليف واستحقاق الثواب والعقاب. وإنما يعرف كون الإنسان محقا بالدلائل والبينات، ولا يجوز الاستدلال بالدولة والشوكة ووفور القوة والمال والجاه على حقية صاحبها والله أعلم. يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ حكاية شبهة تمسك بها أهل النفاق فاستفهموا عنها على سبيل الإنكار. وإنما يحتمل وجوها: أحدها هل لنا من التدبير من شيء يعنون رأي عبد الله بن أبي وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقبل قوله حين أمره أن يسكن في المدينة ولا يخرج منها. ونظيره ما حكى عنه لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا [آل عمران:
168] وثانيها من عادة العرب أنه إذا كانت الدولة لأحد قالوا له الأمر، وإذا كانت لعدوّه قالوا عليه الأمر. أي هل لنا من الأمر الذي كان يعدنا به محمد وهو النصر والقدرة شيء؟
وثالثها أنطمع أن يكون لنا الغلبة على هؤلاء؟ والغرض منه تعيير المسلمين على التسديد في(2/285)
الجهاد، فأمره الله تعالى أن يجيب عنها بقوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ والحوادث بأسرها مستندة الى قضائه وقدره. فإذا كان قدر الخروج إلى الكفار واختصاص جمع من الصحابة بالشهادة فلا مفر من ذلك، وإذا أراد إعلاء كلمة الإسلام وإظهار هذا الدين على الأديان وقع لا محالة. يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ في ضمائرهم أو فيما بينهم ما لا يُبْدُونَ لَكَ وذلك المخفي قولهم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا أي لو كان هذا الدين حقا لما سلط الله الكفار على من يذب عنه، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة، فأمر الله تعالى نبيه أن يجيبهم بقوله: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وهي مصارعهم التي قتلوا فيها، لأن ما كتب الله في اللوح لم يكن بد من وجوده. فلو قعدتم في بيوتكم لخرج منكم من كتب الله عليهم أن يقتلوا في المصارع المعلومة حتى يوجد ما علم الله وجوده. وقيل: معناه لو تخلفتم أيها المنافقون عن الجهاد، لخرج المؤمنون الذين كتب الله عليهم قتال الكفار إلى مصارعهم ولم يتخلفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلفكم، على أن البروز إلى هذه المصارع لا يخلو عن الفوائد وذلك قوله:
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ خص الابتلاء بما في الصدور والتمحيص بما في القلوب إما لاختلاف العبارة، وإما لأن الابتلاء محله القلب الذي في الصدر. والتمحيص مورده الهيئات والعقائد التي في القلب. واعلم أن نسق هذه الآية أنيق ونظمه عجيب. أما نسقه فقوله: وَطائِفَةٌ مبتدأ وأَهَمَّتْهُمْ صفته ويَظُنُّونَ خبره.
ويحتمل أن يكون خبره محذوفا أي وثمة، أو ومنهم طائفة أهمتهم، ويَظُنُّونَ صفة أخرى، أو حال بمعنى أهمتهم أنفسهم ظانين، أو استئناف على وجه البيان للجملة قبلها، ويَقُولُونَ بدل من يَظُنُّونَ أو بيان له. وإنما صح وقوع القول الذي مقوله إنشاء بدلا من الإخبار بالظن لأن سؤالهم كان صادرا عن الظن. ويُخْفُونَ حال من يَقُولُونَ وقُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ اعتراض بين الحال وذي الحال، فمن قرأ كُلَّهُ بالرفع فلأنه مبتدأ ولِلَّهِ خبره، والجملة خبر «إن» . ومن قرأ بالنصب فلكونه تأكيدا للأمر ولِلَّهِ خبر «إن» كما لو قلت: إن الأمر أجمع لله. وقوله: يَقُولُونَ استئناف، وقوله: وَلِيَبْتَلِيَ تقدم ذكره في الوقوف. وأما نظمه فإنه لما أخبر عن هذه الطائفة بأنهم يظنون ظن الجاهلية، فسر ذلك الظن بأنهم يقولون هل لنا من الأمر من شيء، لأن هذا القول لا يصدر إلا عمن كان ظانا بل شاكا في حقية هذا الدين وفي المبدأ والمعاد وفي القضاء والقدر، فأزال ذلك الظن بقوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ بيده الإماتة والإحياء والفقر والإغناء والسراء والضراء. ثم لما كان سؤالهم ذلك مظنة أن يكون سؤال المؤمنين المسترشدين لا المعاندين المنكرين، أراد أن يكشف عن حالهم ويبين مقالهم كيلا يغتربه المؤمنون فقال: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا(2/286)
يُبْدُونَ لَكَ
أي ذلك القول إنما صدر عنهم في هذه الحالة، فكان لسائل أن يسأل ما الذي يخفونه في أنفسهم؟ فقيل يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا وقد مر تفسيره. ويحتمل أن يراد: لو كان لنا رأي مطاع لم نخرج من المدينة فلم نقتل هاهنا؟ فيكون كالطعن في قوله: قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ قال في التفسير الكبير: هذا بعينه هو المناظرة الدائرة بين السني والمعتزلي. فذاك يقول: الطاعة والعصيان والكفر والإيمان من الله. وهذا يقول: الإنسان مختار مستقل إن شاء آمن وإن شاء كفر. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجيب عن هذا الاعتقاد بأن ما قضى الله فهو كائن، والحذر لا يرد القدر، والتدبير لا يبطل التقدير. وإن شئتم المصالح ففائدته الابتلاء وهو أن يتميز الموافق عن المنافق كما في المثل: لا تكرهوا الفتن فإنها حصاد المنافقين وتطهير القلوب عن وساوس الشبهات وتبعات المعاصي والسيئات. ثم قال: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ صاحبتها وهي الأسرار والضمائر ليعلم أن ابتلاءه ليس لأنه لا يخفى عليه شيء، وإنما ذلك لمحض الإلهية أو للاستصلاح.
قوله عز من قائل: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يعني يوم أحد. وذكر محمد بن إسحق أن ثلث الناس كانوا مجروحين، وثلثهم انهزموا، وثلثهم ثبتوا. ومن المنهزمين من ورد المدينة وكان أولهم سعد بن عثمان أخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل. ثم بعده رجال ودخلوا على نسائهم وجعل النساء يقلن: أعن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرون؟ وكن يحثين التراب في وجوههم ويقلن: هاك المغزل اغزل. وقال بعض الرواة: إن المسلمين لم يعدوا الجبل. قال القفال: الذي تدل عليه الأخبار في الجملة أن نفرا قليلا تولوا وأبعدوا، فمنهم من دخل المدينة، ومنهم من ذهب إلى سائر الجوانب. وأما الأكثرون فإنهم نزلوا عند الجبل واجتمعوا هنالك- ومن المنهزمين عمر- إلا أنه لم يكن في أوائل المنهزمين. ولم يبعد، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبي صلى الله عليه وسلم. ومنهم أيضا عثمان انهزم هو مع رجلين من الأنصار- يقال لهما سعد وعقبة- انهزموا حتى بلغوا موضعا بعيدا، ثم رجعوا بعد ثلاثة أيام
فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: لقد ذهبتم فيها عريضة.
وأما الذين ثبتوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم فكانوا أربعة عشر رجلا. سبعة من المهاجرين: أبو بكر، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، والزبير بن العوّام.
وسبعة من الأنصار: الحباب بن المنذر، وأبو دجانة، وعاصم بن ثابت، والحرث بن الصمة، وسهل بن حنيف، وأسيد بن حضير، وسعد بن معاذ. وذكر أن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذ على الموت ثلاثة من المهاجرين: علي وطلحة والزبير. وخمسة من الأنصار: أبو دجانة، والحرث بن الصمة، وحباب بن المنذر، وعاصم بن ثابت، وسهل بن(2/287)
حنيف. ثم لم يقتل منهم أحد. وروى ابن عيينة أنه أصيب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو من ثلاثين كلهم يجيء ويجثو بين يديه ويقول: وجهي لوجهك الفداء وعليك السلام غير مودع إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ تقول: زللت يا فلان تزل زليلا إذا زل في طين أو منطق. والاسم الزلة، واستزله غيره كأنه طلب منه الزلة ودعاه إليها. والباء في بِبَعْضِ ما كَسَبُوا للاستعانة مثلها في: كتبت بالقلم. والمعنى أنه كان قد صدر عنهم جنايات، فبواسطة تلك الجنايات قدر الشيطان على استزلالهم في التولي. وعلى هذا التقدير ففيه وجوه: قال الزجاج: إنهم لم يتولوا على جهة المعاندة ولا على جهة الفرار من الزحف رغبة منهم في الدنيا، وإنما ذكرهم الشيطان ذنوبا كانت لهم فكرهوا لقاء الله إلا على حال يرضونها وإلا بعد الإخلاص في التوبة. فهذا خاطر خطر ببالهم وكانوا مخطئين فيه. وقيل: إنهم لما أذنبوا بسبب مفارقة المركز، أوقعهم الشيطان بشؤم تلك المعصية في الهزيمة. وقيل: كانت لهم ذنوب قد تقدمت، فبشؤمها قدر الشيطان على دعائهم إلى التولي لأن الذنب يجر إلى الذنب كما أن الطاعة تجر إلى الطاعة وتكون لطفا فيها. وإنما قال: بِبَعْضِ ما كَسَبُوا لأن الكسب قد يكون خيرا كقوله: لَها ما كَسَبَتْ [البقرة: 134، 141، 286] أو لأن جميع الذنوب لا يؤاخذ بها الله تعالى كقوله: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] وقال الحسن: استزلهم بقبول ما زين لهم من الهزيمة. ويحتمل أن تكون الباء بمعنى «في» أي السبب في توليهم أنهم كانوا أطاعوا الشيطان في بعض الأعمال. إما قبل هذه الغزوة وإما فيها كالفشل والتنازع والتحول عن المركز وطلب الغنيمة، فاقترفوا ذنوبا فلذلك منعتهم التأييد وتقوية القلوب حتى تولوا. وعلى هذا التقدير لا يكون الفعل المسند إلى استزلال الشيطان فيه هو التولي، وإنما يكون أعمالا أخر إما في هذه الغزوة أو قبلها. وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ فيه بيان أنهم ما كفروا وما تركوا دينهم لأن العفو عن الكفر لا يجوز. بقي البحث في أنه أي ذنب هو؟ والظاهر أنه التولي لأن التوبيخ وقع عليه والآية سيقت لأجله. ثم إنه من الصغائر أو من الكبائر؟ قالت المعتزلة: كلاهما محتمل. لكنه إن كان من الصغائر فلا حاجة إلى إضمار التوبة، وإن كان من الكبائر فلا بد من إضمار توبتهم وإن كانت غير مذكورة في الآية. قال القاضي: الأقرب أنه من الصغائر لأنه لا يكاد يقال في الكبائر إنها زلة، ولأنهم ظنوا أن الهزيمة لما وقعت على المشركين لم يبق في ثباتهم حاجة، فلا جرم تحولوا لطلب الغنيمة، والخطأ في الاجتهاد ليس من الكبائر. وقالت الأشاعرة: إنه من الكبائر لأنهم خالفوا النص. وحيث عفا عنه من غير ذكر التوبة- والأصل عدم الإضمار- غلب على الظن أن العفو عن الكبائر واقع من غير شرط.(2/288)
ثم ندب الى المؤمنين ما يزيد رغبتهم في الجهاد فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا قيل: إنه عام. وقيل: يعني المنافقين. وقيل: منافقي يوم أحد كعبد الله بن أبيّ وأصحابه. وفيه دليل على أن الإيمان ليس عبارة عن مجرد الإقرار باللسان كما يقوله الكرامية وإلا لم يسم المنافق كافرا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي لأجل إخوانهم مثل وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف: 11] وذلك أنهم قالوا: لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا والميت والمقتول لا يكلم. وعلى تقدير فرض التكلم كان المناسب أن لو قيل: لو كنتم عندنا ما متم وما قتلتم. ومعنى الأخوة اشتراك النسب. فلعل المقتولين كانوا أقارب المنافقين وإن كانوا مسلمين. أو اتفاق الجنس فلعل بعض المنافقين صار مقتولا في بعض الغزوات. والضرب في الأرض الإبعاد فيها للتجارة وغيرها. والغزو قصد محاربة العدو قريبا كان أو بعيدا. والفاعل غاز والجمع غزّى مثل: سابق وسبق، وراكع
وركع. وإنما قال: إِذا ضَرَبُوا دون «إذ ضربوا» أو «حين ضربوا» ليشاكل في المعنى قوله: وَقالُوا لأنه أراد حكاية الحال الماضية. والمعنى أن إخوانهم إذا ضربوا في الأرض. فالكافرون يقولون: لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. فمن أخبر عنهم بعد ذلك لا بد أن يقول: «قالوا» . ويجوز أن يكون قالُوا في تقدير «يقولون» لكنه وقع التعبير عنه بلفظ الماضي لأنه لازم الحصول في المستقبل مثل أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: 1] وفيه دلالة على أن جدهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة قد بلغ الغاية، فكأن هذا المستقبل كالكائن الواقع. ويمكن أن يقال: عبر عن المستقبل بلفظ الماضي ليعلم أن المقصود الإخبار عن جدّهم واجتهادهم في تقرير هذه الشبهة. وقال قطرب: كلمه «إذ» و «إذا» يجوز إقامة كل منهما مقام الأخرى، وهذا وإن لم يوجد له في كلام العرب نظير، لكن القرآن أولى ما يستشهد به وهو حجة على غيره وليس غيره حجة عليه. قال الواحدي: في الكلام محذوف والتقدير: إذا ضربوا في الأرض فماتوا أو كانوا غزى فقتلوا لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا. وأما اللام في قوله: لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ ففي متعلقه وجهان: الأول أنه قالُوا أي قالوا ذلك الكلام واعتقدوه ليجعل الله ذلك الكلام حسرة فتكون لام العاقبة كقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً [القصص: 8] وكيف استعقب ذلك القول حصول الحسرة؟ فيه وجوه: فقيل: لأن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام تخيلوا أنهم لو بالغوا في منعه عن ذلك السفر أو الغزو لم يمت أو لم يقتل فازدادت حسرتهم وتلهفهم بسبب أنهم قصروا في منعه، بخلاف المسلم المعتقد في أن الحياة والموت لا يكونان إلا بتقدير الله فإنه لا يحصل له شيء من هذا النوع من الأسف. وقيل:(2/289)
لأنهم إذا ألقوا هذه الشبهة إلى إخوانهم تثبطوا عن الجهاد، فإذا نال المسلمون في الجهاد غنيمة بقي أولئك المتخلفون في الخيبة والندامة. وقيل: المراد حسرتهم يوم القيامة إذا رأوا ثواب المجاهدين. وقيل: المقصود خيبتهم عن ترويج شبهتهم بعد ما أعلم الله المؤمنين بطلانها. وقيل: الغرض أن جدهم واجتهادهم في تكثير الشبهات يقسي قلوبهم ويضيق صدورهم فيقعون لذلك في الحيرة والحسرة. الوجه الثاني: أن متعلق اللام قوله: لا تَكُونُوا وذلك إشارة إلى ما دل عليه النهي أي لا تكونوا مثلهم ليجعل الله ذلك الانتفاء انتفاء كونكم مثلهم حسرة، لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمهم ويغيظهم وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ رد لجهالتهم وجواب عن مقالتهم أي الأمر بيده والخلق له. فقد يحيي المسافر والغازي، ويميت المقيم والقاعد. فعلى المكلف أن يتلقى أوامره بالامتثال، فالله أعلم بحقيقة الأحوال ولا يجري الأمور إلا على وفق إمضائه وأحكامه ونقضه وإبرامه وكل ميسر لما خلق له. عن خالد بن الوليد أنه قال عند موته: ما فيّ موضع شبر إلا وفيه ضربة أو طعنة وها أنا ذا أموت كما يموت الغير فلا نامت أعين الجبناء. وفي أمثالهم «الشجاع موقى والجبان ملقى» . وكان عليّ يقول: إن لم تقتلوا تموتوا والذي نفسي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موت على فراش، ويجوز أن يكون المراد: والله يحيي قلوب أوليائه بنور اليقين والعرفان، ويميت قلوب أعدائه بظلمة الشك والخذلان وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا تكونوا مثلهم. ومن قرأ على الغيبة فالضمير للذين كفروا ويكون وعيدا لهم. ثم إنه لما كذب الكافرين في قولهم: لإخوانهم لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا ونهى المؤمنين عن كونهم مثلهم لأنه يسبب التقاعد عن الجهاد وينفر الطبع عنه رغبهم فيه بقوله: وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ شيء من مغفرته ورحمته خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ فاللام الأولى هي الموطئة، والثانية لام جواب القسم المقدر، وكذا في الآية الأخرى.
والمعنى أن القتل والموت في السفر غير لازم الحصول لأن ذلك منوط بالقدر لا بالسفر.
ولئن سلم أنه لازم فإنه يستعقب المغفرة ويستجلب الرحمة من الله، وإن ذلك خير مما تجمعون من الدنيا وما فيها لو لم تموتوا. وعن ابن عباس: خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء. ومن قرأ بالياء فالضمير للكفار لأن الذي يجمعونه في الدنيا قد يكون من باب الحلال الذي يعد خيرا، أو ورد على حسب معتقدهم أن أموالهم خيرات لهم. وإنما كانت المغفرة والرحمة خيرا من المال لأن المال الذي يجمع لأجل الغد قد يموت صاحبه قبل الغد، وإن لم يمت فلعل المال لا يبقى في الغد، فكم من أمير أصبح أسيرا. وعلى تقدير بقاء المال وبقاء صاحبه إلى الغد فلعل مانعا من مرض أو خوف يمنعه عن الانتفاع به،(2/290)
وبتقدير عدم المانع فلذات الدنيا مشوبة بالآلام ومنافعها مخلوطة بالمضار، وبتقدير صفائها عن الشوائب فلا بد لها من الزوال والانقطاع، ومنافع الآخرة أصفى وأضفى وأبقى وأنقى ولا سيما منافعها العقلية، وأي نسبة لانتفاع الحمار بلذة قبقبه؟ فذبذبه إلى ابتهاج الملائكة المقربين بشروق أنوار العزة عليهم، ثم رغبهم بنوع آخر فقال: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ كأنه قيل: إن تركتم الجهاد وتم لكم الاحتراز عن الموت أو القتل بقيتم أياما قلائل في الدنيا مع اللذات الخسيسة الحسية والخيالية فتركتموها لا محالة فتكون لذاتها لغيركم وتبعاتها عليكم، ولو أعرضتم عن اللذات الفانية وبذلتم النفس والمال في دين الله وصلتم إلى أعلى الدرجات وهي مقام العندية. وإنما قدم القتل على الموت في الآية الأولى وعكس في الثانية ليقع الابتداء والختم على ما هو أفضل، أو لأن الآية الأولى سيقت لبيان فضل الجهاد والقتل في سبيله، فقدم ما هو الأغلب من حال المجاهدين الذين يفارقون الدنيا وهو القتل، والثانية سيقت لبيان أن حشر الخلائق كلهم إليه بأي وجه يفارقون الدنيا. ولا شك أن الغالب على أحوال الخلق كلهم الموت، ولهذا السر أطلق القتل إطلاقا ليعم أنواع القتل كلها. وفي قوله: لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ لطائف منها: تقديم الجار على الفعل لإفادة الحصر، وأنهم لا يحشرون إلى غيره، وأنه لا حكم لأحد في ذلك اليوم إلا له، ومنها تخصيص اسم الله بالذكر ليدل على كمال اللطف والقهر، فهو لدلالته على كمال اللطف أعظم أنواع الوعد، ولدلالته على كمال القهر أشد أنواع الوعيد. ومنها إدخال لام التوكيد القسمي في الحرف المتصل باسم الله تنبيها على أن الإلهية تقتضي هذا الحشر لحكمة المجازاة. ومنها بناء تُحْشَرُونَ على المفعول تعويلا على ما هو مركوز في العقول من أنه هو الذي يبدىء ويعيد، لا قدرة على الإعادة لأحد غيره. ومنها أنه أضاف حشره إلى غيرهم ليعلم أنهم أحياء كانوا أو أمواتا لا يخرجون عن قبضته. ومنها أنه خاطب الكل ليعلم أن القاتل والمقتول والظالم والمظلوم والقاعد والمجاهد كلهم في بساط العدل وفضاء القضاء موقوفون. واعلم أنه تعالى ذكر في الآيتين المغفرة والرحمة والحشر إليه. فالأول إشارة إلى من يعبده خوفا من عقابه، والثاني إشارة إلى من يعبده طمعا في ثوابه، والثالث إشارة إلى من يعبده لأنه يستحق العبادة. فهم أهل الحشر إلى الله لا إلى ثوابه ولا إلى إزالة عقابه، وما أحسن هذا النسق!
يروى أن عيسى عليه السلام مر بأقوام نحفت أبدانهم واصفرت وجوههم، ورأى عليهم سيما الطاعة فقال: ماذا تطلبون؟ فقالوا: نخشى عذاب الله. فقال: هو أكرم من أن لا يخلصكم من عذابه. ثم مر بآخرين فرأى عليهم تلك الآثار فسألهم فقالوا: نطلب الجنة والرحمة. فقال: هو أكرم من أن يمنعكم رحمته. ثم مر بقوم ثالث ورأى عليهم سمات(2/291)
العبودية أكثر فسألهم فقالوا: نعبده لأنه إلهنا ونحن عبيده لا لرهبة ولا لرغبة. فقال: أنتم العبيد المخلصون والمتعبدون المحققون.
قال القاضي: في الآية دليل على أن المقتول ليس بميت وإلا كان قوله: وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ عطفا للشيء على نفسه. قلت: لا، ولكنه عطف الأخص على الأعم. ثم إنه سبحانه لما أرشدهم في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم، زاد في الفضل والإحسان بأن مدح الرسول صلى الله عليه وسلم حين عفا عنهم وترك التغليظ عليهم في انهزامهم.
روي أن امرأة عثمان دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم- وكان النبي صلى الله عليه وسلم وعلي يغسلان السلاح- فقالت: ما فعل عثمان؟ أما والله لا تجدونه أمام القوم. فقال لها علي: ألا إن عثمان فضح الذمار اليوم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه.
وروي أنه قال حينئذ: أعياني أزواج الأخوات أن يتحابوا. ولما دخل عثمان مع صاحبيه ما زاد على أن قال: لقد ذهبتم فيها عريضة.
وعنه أنه قال: «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده، فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها» «1»
وقال صلى الله عليه وسلم: «لا حلم أحب إلى الله من حلم إمام ورفقه، ولا جهل أبغض إلى الله من جهل إمام وخرقه»
فلما كان صلى الله عليه وسلم إمام العالمين وجب أن يكون أكثرهم حلما وأحسنهم خلقا لأن الغرض من البعثة- وهو التزام التكاليف- لا يتم إلا إذا مالت قلوب الأمة إليه، وسكنت نفوسهم لديه، ورأوا فيه آثار الشفقة وأمارات النصيحة. وعن بعض الصحابة أنه قال: لقد أحسن الله إلينا كل الإحسان. كنا مشركين فلو جاءنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الدين جملة وبالقرآن دفعة لثقلت هذه التكاليف علينا فما كنا ندخل في الإسلام، ولكنه دعانا إلى كلمة واحدة، فلما قبلناها وعرفنا حلاوة الإيمان قبلنا ما وراءها، كلمة بعد كلمة على سبيل الرفق إلى أن تم هذا الدين وكملت هذه الشريعة.
واعلم أن من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب، فإنه يعلم أن الحوادث الأرضية كلها مستندة إلى الأسباب الإلهية، فيعلم أن الحذر لا يدفع القدر، فلا جرم إذا فاته مطلوب له لم يغضب، وإذا حصل له مطلوب لم يأنس به لأنه مطلع على الروحانيات التي هي أشرف من هذه الجسمانيات، فلا ينازع أحدا في هذا العالم في طلب شيء من لذاتها وطيباتها، ولا يغضب على شيء بسبب فوات شيء من مطالبها، فيكون حسن الخلق طيب العشرة مع الخلق. ولما كان صلى الله عليه وسلم أكمل البشر في القوتين النظرية والعملية وقد بعث ليتمم مكارم الأخلاق، وجب أن يكون أكمل الناس خلقا وذلك من فضل الله ورحمته على الناس
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 4. النسائي في كتاب الطهارة باب 35. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 16. أحمد في مسنده (2/ 247، 250) .(2/292)
كما قال: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ و «ما» مزيدة للتوكيد. أما الحكم بزيادتها فللنظر إلى أصل المعنى. وعمل حرف الجر فيما بعدها فكأنه قال: فبرحمة. وأما إفادتها التوكيد فلاستحالة زيادة حرف لا فائدة فيه أصلا. وجوز بعضهم أن تكون استفهامية للتعجب والتقدير: فبأي رحمة. وإنما كان لينه ورفقه رحمة من الله لأن الدواعي والقصود والإرادات كلها بفعل الله تعالى. فلا رحمة بالحقيقة الإله، ولا رحيم إلا هو، لأن كل رحيم سواه فإنه يستفيد برحمته عوضا كالخوف من العقاب، أو الطمع في الثواب، أو الثناء، أو يحمله على ذلك رقة طبع أو حمية أو عصبية إلى غير ذلك من الأغراض. وأيضا رحمة المخلوق على غيره لن تتم ولن ينتفع بها المرحوم إلا بعد مواتاة سائر الأسباب السماوية من سلامة الأعضاء وغيرها. فلا رحمة إلا بإعانة الله وتوفيقه بربطه على جأش الراحم وضبطه حال المرحوم. ثم بيّن أن الحكمة في لين جانبه ما هي فقال: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا سيىء الخلق وأصله فظظ كحذر. فظظت يا رجل بالكسر فظاظة غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسيه بحيث لا يتأثر عن شيء يوجب الرقة والعطف لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لتفرقوا عنك حتى لا يبقى حولك أحد والتركيب يدل على التفريق ومنه «فض الختام» . ويقال: لا يفضض الله فاك أي أسنانك.
ومنهم من حمل الآية على واقعة أحد فقال: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يوم أحد حين عادوا إليك بعد الانهزام وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ تشافههم بالملامة على ذلك لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ هيبة منك وحياء بسبب ما كان منهم فكان ذلك مما يطمع العدو فيك وفيهم. وهاهنا دقيقة هي أن اللين والرفق إنما يجوز إذا لم يفض إلى إهمال حق من حقوق الله ولهذا أمر بالغلظة في قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم: 9] وقال في إقامة حد الزنا: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [النور: 2] ومثله أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ [المائدة:
54] أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ [الفتح: 29] فيعلم من المدح على اللين في موضع ومن الأمر بالغلظة في موضع آخر أن الفضيلة في الوسط وهو استعمال كل شيء في موضعه، وأن طرفي الإفراط والتفريط مذمومان، ومنه المثل «لا تكن حلوا فتسترط ولا مرا فتعقى» . واحتجت الأشاعرة بالآية في مسألة القضاء والقدر. وذلك أن حسن خلقه مع الخلق إنما كان بسبب رحمة الله، وهي عند المعتزلة عامة في حق جميع المكلفين. فكل ما فعله مع محمد صلى الله عليه وسلم من الهداية والدعوة والبيان والإرشاد فقد فعل مثل ذلك مع فرعون وهامان وأبي جهل وأبي لهب. فلطف الله ورحمته مشترك بين أصفى الأصفياء وبين أشقى الأشقياء، فلا يكون اختصاص بعضهم بحسن الخلق وكمال الطريقة مستفادا من رحمة الله،(2/293)
وهذا خلاف نص الآية، فإذن جميع أفعال العباد بقضاء الله وقدره. والمعتزلة يحملون هذا على زيادة الألطاف، واستبعده الأشاعرة لأن كل ما كان ممكنا من الألطاف فقد فعله في حق كل المكلفين، والذي يستحقه المكلف بناء على طاعته من مزيد الألطاف فذاك بالحقيقة كسب نفسه، ويجب عندهم إيصاله إليه فلا يكون برحمة من الله. ثم قال: فَاعْفُ عَنْهُمْ فيما يختص بك وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ فيما يختص بحق الله إتماما للشفقة عليهم. قيل: في فاء التعقيب دلالة على أنه أوجب عليه أن يعفو عنهم في الحال كما أنه تعالى قد عفا عنهم كأنه قيل: اعف عنهم فإني قد عفوت عنهم قبل عفوك عنهم، واستغفر لهم فإني قد غفرت لهم قبل أن تستغفر لهم، وهذا من كمال رحمة الله بهذه الأمة. ثم قال: وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ والمشاورة مأخوذة من قولهم: شرت العسل أي اجتنيتها واستخرجتها من موضعها. وقيل:
من شرت الدابة شورا عرضتها على البيع، أقبلت بها وأدبرت. والمكان الذي تعرض فيه الدواب يسمى مشوارا. يقال: إياك والخطب فإنها مشوار كثير العثار. وتركيبه يدل على الإظهار والكشف، فبالمشاورة يظهر خير الأمور وحسن الآراء. وقد ذكر العلماء لأمر الرسول بالمشاورة مع أنه أعلم الناس وأعقلهم فوائد منها: أنها توجب علو شأنهم ورفعة قدرهم وزيادة إخلاصهم ومحبتهم، وفي ترك ذلك نوع من الإهانة والفظاظة، وكان سادات العرب إذا لم يشاوروا في الأمر شق ذلك عليهم. ومنها أن علوم الإنسان متناهية فلا يبعد أن يخطر ببال أحد ما لم يخطر بباله ولا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا. ومنها قال الحسن وسفيان بن عيينة: قد علم الله أنه ما به إليهم حاجة ولكنه أراد أن يستن به من بعده، ومنها أنه شاورهم في وقعة أحد فأخطؤا فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان مظنة أنه قد بقي في قلبه أثر من تلك الواقعة. ومنها أن يظهر له مقادير عقولهم فينزلهم على قدر منازلهم. ومنها أن تصير النفوس الطاهرة متطابقة على تحصيل أصلح الوجوه فيكون أعون على الظفر بالمقصود ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم»
وهذا هو السر في الجماعات والجمعات. ومنها أنه تعالى ما أمر رسوله بالمشاورة قبل تلك الواقعة وأمره بها بعدها مع صدور المعصية عنهم ليعلم أنهم الآن أعظم حالا مما كانوا، وأن عفوه أعظم من كل ذنب، وأن الاعتماد على فضله وكرمه لا على العمل والطاعة. ثم إن العلماء اتفقوا على أن كل ما نزل به وحي لم يجز للرسول أن يشاور الأمة فيه، لأنه إذا جاء النص بطل الرأي والقياس كما قيل: إذا جاء نهر الله بطل نهر عيسى. وفيما وراء ذلك هل تجوز المشاورة في كلها أم لا؟ قال الكلبي وكثير من العلماء: إن الأمر بها مخصوص بالحرب لأن اللام في لفظ الْأَمْرِ ليس للاستغراق لخروج ما نزل فيه الوحي بالاتفاق، فهو إذن لمعهود سابق وليس(2/294)
ذلك إلا ما جرى من أمر الحرب في قصة أحد. وقد أشار الحباب بن المنذر يوم بدر على النبي صلى الله عليه وسلم بالنزول على الماء فقبل منه، وأشار عليه السعدان- سعد بن معاذ وسعد بن عبادة- يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا فقبل منهما وخرق الصحيفة. ومنهم من قال: اللفظ عام خص منه ما نزل فيه وحي فيبقى حجة في الباقي، وكيف لا وإنه كان مأمورا بالاجتهاد فيما لم ينزل فيه وحي لعموم فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر: 2] والاجتهاد يتقوى بالمناظرة والمباحثة. وقد شاورهم يوم بدر في الأسارى وكان من أمور الدين، وقد عد المشاورة من جملة ما خص النبي صلى الله عليه وسلم بالوجوب عليه لأن ظاهر الأمر للوجوب. وقد يروى عن الشافعي أنه حمله على الندب قال: وهذا
كقوله صلى الله عليه وسلم «البكر تستأمر في نفسها» «1»
ولو أكرهها الأب على النكاح جاز لكن الأولى ذلك تطييبا لنفسها فكذا هاهنا. فَإِذا عَزَمْتَ أي قطعت الرأي على شيء بعد الشورى فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ لأن الاعتماد في جميع الأمور عليه لا على الفكر والتدبير والرأي الحسن. عن جابر بن زيد أنه قرأ فَإِذا عَزَمْتَ بالضم إذا أرشدتك إلى شيء وألزمته إياك فتوكل علي ولا تشاور بعد ذلك أحدا. إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ عن ابن عباس: إن ينصركم كما نصركم يوم بدر فلا يغلبكم أحد وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ كما خذلكم يوم أحد فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد خذلانه لدلالة الفعل عليه، أو هو من قولك «ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان» تريد إذا جاوزته. وقيل: إن ينصركم بجذبات العناية فلا غالب لكم من الصفات البشرية، وإن يخذلكم بترك الجذبات فمن ينصركم بعده من الأنبياء والأولياء؟ فإنه القادر على الإخراج عن هذا الوجود كما أنه هو القادر على الإدخال فيه. وَعَلَى اللَّهِ وليخص المؤمنون إياه بالتوكل لما علم أن الأمر كله له ولا رادّ لقضائه ولا دافع لبلائه، ولأن الإيمان يوجب ذلك ويقتضيه. وليس المراد بالتوكل أن يهمل الإنسان حال نفسه بالكلية ويرفض الوسائط والأسباب كما يتصور الجهال وإلا كان الأمر بالمشاورة منافيا للأمر بالتوكل، وإنما التوكل هو أن يراعي الأسباب الظاهرة ولكن لا يعول بقلبه عليها بل يعوّل على عصمة الحق وتأييده وتوفيقه وتسديده.
التأويل:
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ أيها الطلاب وَعْدَهُ ألا من طلبني وجدني إذ تقتلون جنود الصفات البشرية بأمره لا على وفق الطبع حتى إذا تركتم قتال النفس وخالفتم في أمر
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الحيل باب 11. كتاب الإكراه باب 3. أبو داود في كتاب النكاح باب 23- 25. الترمذي في كتاب النكاح باب 18. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 11. الدارمي في كتاب النكاح باب 13.
أحمد في مسنده (1/ 219) بلفظ «لا تنكح البكر.... ولا الثيب حتى تستأمر» .(2/295)
الطلب وعصيتم الدليل المربي مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ الدليل بالتربية ما تُحِبُّونَ من دلالة الطريق، وإنما عصيتم الدليل إذ دلكم على الله لأن منكم من كان همته زخارف الدنيا، ومنكم من كان همته طلب نعيم الآخرة. قرئت هذه الآية عند الشبلي فصاح صيحة وقال:
ما كان من أحد يقال له ومنكم من يريد الله ثم صرفكم عن جهاد النفس وقتل صفاتها باستيلائها عليكم ليمتحنكم بالستر بعد ما تجلى لكم أنوار المشاهدات، وبالصحو بعد ما أسكركم بأقداح الواردات، وبالفطام بعد ما أرضعكم بألبان الملاطفات وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ يعني بعد ابتلائكم عفا عن التفاتاتكم إلى الدنيا والآخرة بالعناية الأزلية وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ في الأزل إذ تصعدون في طريق الحق طالبين بعد ما كنتم هاربين ولا تلتفتون إلى أحد من الأمرين الدنيا والآخرة، ورسول الوارد من الحق يدعوكم إليّ عبادي إليّ عبادي، فجازاكم بدل غم الدنيا والآخرة غم طلب الحق لكيلا تحزنوا على ما فاتكم من زخارف الدنيا ولا لما أصابكم من نعيم الآخرة وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ من ترك نعيم الدنيا والآخرة في طلب وجدانه فلا يخيب رجاءكم ويوفي جزاءكم. ثم أخبر عن إنزال حقائق أصناف ألطافه على عباده في صور مختلفة. فأنزل الأمن في صورة النعاس على الصحابة، وأخرج جواهر الوقائع السنية لأرباب القلوب والمكاشفات من معدن النعاس فإن أكثرها يقع بين النوم واليقظة. وطائفة من أرباب النفوس ومدعي الإسلام لا هم لهم إلا هم أنفسهم من استيفاء حظوظها واستيفاء لذاتها ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ وهو أن الأمور إلى الخلق لا إلى الله ولا بقضائه وقدره. هل لنا من أمر النصرة والظفر من شيء؟ ما قُتِلْنا هاهُنا بالباطل على أيدي حزب الشيطان وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ أنها المنافقون لأن الصدور معدن النفاق والغل ووسوسة الشيطان وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الأعراف: 43] يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس: 5] وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ أيها المؤمنون لأن القلوب محل الإيمان والاطمئنان كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ [المجادلة: 22] أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] ونسبة الإسلام باللسان إلى الإيمان بالجنان كنسبة الصدر إلى القلب إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا الشيطان خلق من نار فلهذا استخرج من معدن الإنسان حديد ما كسبوا من التولي ليجعله مرآة ظهور صفاته العفو والمغفرة والحلم. وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ليعلم أن لله تعالى في كل شيء من الخير والشر أسرارا لا يعلمها إلا هو. ومن هنا
قال: «لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم» «1»
إذا
__________
(1) رواه مسلم في كتاب التوبة حديث 11. الترمذي في كتاب الجنّة باب 2. أحمد في مسنده (1/ 286) ، (2/ 305) .(2/296)
وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168) وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
ضربوا في الأرض سافروا في البلاد مستفيدين من العباد، أو سلكوا في أرض نفوسهم سبيل الرشاد، أو كانوا غزى مجاهدين مع كفار النفس والهوى والشيطان. لو كانوا موافقين معنا ما ماتوا بمقاساة الرياضة، وما قتلوا بسيف المجاهدة، ليجعل الله ذلك القول حسرة في قلوب الصديقين، والله يحيي قلوب أهل المجاهدة بأنوار المشاهدة فلا يحسرون على ما يقاسون، ويميت قلوب المنكرين بظلمة الإنكار وغلبة صفات النفس فيحسبون أنهم يحسنون. وباقي الحقائق قد مرت في التفسير. وقد سنح عند تحرير هذا الموضع أن قوله:
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ يمكن أن يفهم منه الخطاب مع الروح الإنساني أنه لان برحمة الله لصفات النفس وقواها الشهوية والغضبية حتى يستوفي كل منها حظها ويرتبط بذلك بقاء النسل وصلاح المعاش، ولولا ذلك لاضمحلت تلك القوى وانفضت من الجوانب وتلاشت، واختلت حكمة التمدن وفقدت الكمالات التي خلق الإنسان لأجلها. ثم الكلام في أن هذا اللين لا بد له من الغلظة حتى لا يتجاوز عن الوسط ولا يخرج عن قانون الشرع والعقل كما تقدم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 161 الى 175]
وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165)
وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170)
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)(2/297)
القراآت:
يَغُلَّ بفتح الياء وضم الغين: ابن كثير وأبو عمرو وعاصم غير المفضل ويعقوب غير رويس. الباقون: بالضم والفتح على البناء للمفعول. ولا يحسبن بياء الغيبة: الحلواني عن هشام. الباقون: بتاء الخطاب. قُتِلُوا بالتشديد: ابن عامر.
الباقون: بالتخفيف. وَأَنَّ اللَّهَ بالكسر على الابتداء: عليّ. الباقون: بالفتح.
وخافوني بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن شنبوذ عن قنبل، وافق أبو عمرو ويزيد وإسماعيل في الوصل. الباقون بالحذف.
الوقوف:
أَنْ يَغُلَّ ط لابتداء الشرط يَوْمَ الْقِيامَةِ ج لانتهاء جزاء الشرط مع العطف لا يُظْلَمُونَ هـ جَهَنَّمُ ط الْمَصِيرُ هـ عِنْدَ اللَّهِ ط بِما يَعْمَلُونَ هـ وَالْحِكْمَةَ ج لمكان العطف مُبِينٍ هـ مِثْلَيْها (لا) لأن استفهام الإنكار دخل على قُلْتُمْ هذا ط أَنْفُسِكُمْ ط قَدِيرٌ هـ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ هـ لا نافَقُوا ج لاحتمال العطف والاستئناف والوصل أولى على تقدير وقد قيل لهم. أَوِ ادْفَعُوا ط لَاتَّبَعْناكُمْ ط لِلْإِيمانِ ج لاحتمال الحال والاستئناف. فِي قُلُوبِهِمْ ط يَكْتُمُونَ ج لاحتمال كون «الذين» بدلا عن ضمير يَكْتُمُونَ أو خبر مبتدأ محذوف. ما قُتِلُوا ط صادِقِينَ هـ أَمْواتاً ط عِنْدَ رَبِّهِمْ ص يُرْزَقُونَ هـ لا لأن فَرِحِينَ حالهم.
مِنْ فَضْلِهِ (لا) للعطف. مِنْ خَلْفِهِمْ (لا) لتعلق «أن» . يَحْزَنُونَ هـ م للآية واستئناف الفعل إذ يستحيل أن يكون الاستبشار حالا للذين يحزنون. وَفَضْلٍ (لا) لأن التقدير وبأن ومن كسر وقف والجملة حينئذ اعتراضية. الْمُؤْمِنِينَ هـ ج لأن «الذين» يصلح صفة للمؤمنين ومبتدأ خبره للذين أحسنوا، أو نصبا على المدح والأول أوجه لاتحاد الصفة. الْقَرْحُ ط لمن لم يقف على الْمُؤْمِنِينَ. عَظِيمٌ ج لاحتمال البدل وكونه خبر مبتدأ محذوف. إِيماناً ق والوصل أولى للعطف واتصال توكل اللسان بيقين القلب.
الْوَكِيلُ هـ سُوءٌ لا للعطف رِضْوانَ اللَّهِ ط عَظِيمٍ هـ أَوْلِياءَهُ ص لوصل النهي عن الخوف بعد ذكر التخويف مُؤْمِنِينَ هـ.
التفسير:
هذا حكم من أحكام الجهاد. وأصل الغلول أخذ الشيء في خفية. يقال:
أغل الجازر والسالخ إذا أبقى في الجلد شيئا من اللحم ليسرقه. والغل الحقد الكامن في الصدر. والغلالة الثوب الذي يلبس تحت الدرع والثياب، والغلل الماء الذي يجري في(2/298)
أصول الشجر لأنه مستتر بالأشجار.
وقال صلى الله عليه وسلم: «من بعثناه على عمل فغل شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه» «1»
وقال أيضا: «هدايا الولاة غلول» «2» .
وقال الجوهري: غل يغل غلولا أي خان. وأغل مثله إلا أن العرف جعله في الغالب مخصوصا بالخيانة في الغنيمة حتى قال أبو عبيدة: الغلول في المغنم خاصة، وقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر.
عن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من فارق روحه جسده وهو بريء من ثلاثة دخل الجنة الكبر والغلول والدين» «3»
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره حتى قال: «لا ألفينّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له زعاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفس لها صياح فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رقاع تخفق فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك. لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت فيقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك شيئا قد أبلغتك» «4»
ومعنى الآية فيمن قرأ بفتح الياء وضم الغين: ما كان لنبي أن يخون أي ما صح وما ينبغي له ذلك لأن النبوة تنافي الغلول لأنها أعلى المراتب الإنسانية، فلا يليق بصاحبها ما هو عار في الدنيا ونار في الآخرة، كيف وإنه أمين على الوحي النازل عليه من فوق سبع سموات، أفلا يكون أمينا في الأرض؟ هيهات. وقيل: اللام منقولة والتقدير: وما كان نبي ليغل كقوله ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ [مريم: 35] أي ما كان الله ليتخذ ولدا. ومن قرأ بضم الياء وفتح الغين ففيه وجهان: أحدهما يخان أي يؤخذ من غنيمته. وفي تخصيصه بهذه الحرمة والخيانة محرمة على الإطلاق فوائد منها: أن المجني عليه كلما كان أجل منصبا كانت الخيانة في حقه أفحش. ومنها أنه لا يكاد يخفى عليه من
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 14. أحمد في مسنده (3/ 498) .
(2)
رواه أحمد في مسنده (5/ 424) بلفظ «هدايا العمال غلول» .
(3) رواه الترمذي في كتاب السير باب 21. ابن ماجه في كتاب الصدقات باب 12. الدارمي في كتاب البيوع باب 52. أحمد في مسنده (5/ 276) .
(4) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 24. أبو داود في كتاب الإمارة باب 12. أحمد في مسنده (2/ 426) .(2/299)
قبل الوحي فكان فيه مع عذاب الآخرة فضيحة الدنيا. ومنها أن المسلمين في ذلك الوقت كانوا في غاية الفقر، فكانت تلك الخيانة وقتئذ أقبح. وثانيهما يخوّن أي ينسب إلى الخيانة فيكون من الإغلال. قال المبرد: تقول العرب: أكفرت الرجل جعلته كافرا أو نسبته الى الكفرة. قال القتيبي: لو كان هذا هو المراد لقيل «يغلل» كما يقال: «يفسق ويكفر» والأولى أن يقال: هو من أغللته أي وجدته غالا كما يقال: أبخلته أي وجدته كذلك. ومن هنا قال في الكشاف: معناه راجع إلى القراءة الأولى إذ معناه ما صح له أن يوجد غالا ولا يوجد غالا إلا إذا كان غالا. وكان ابن عباس ينكر على هذه القراءة ويقول: كيف لا ينسب إلى الخيانة وقد كان يقتل؟ وقال خصيف: قلت لسعيد بن جبير: ما كان لنبي أن يغل. فقال:
بل يغل ويقتل. ولا يخفى أن الإنكار لا يتوجه إذا كان أغل بمعنى وجده غالا، وإنما يتوجه إذا كان الإغلال بمعنى النسبة إلى الخيانة كما
روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر فقال بعض المنافقين: لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها.
وقد طعن بعضهم في هذه القراءة وقال: إن أكثر ما جاء من هذا القبيل في التنزيل أسند الفعل فيه إلى الفاعل ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ [يوسف: 38] ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ [يوسف: 76] ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ [آل عمران: 145] ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً [التوبة: 115] وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ [آل عمران: 179] وحكى أبو عبيدة عن يونس أنه قال: ليس في الكلام «ما كان لك أن تضرب» بضم التاء. والحق أن القرآن حجة على غيره لا بالعكس. ويوافق هذه القراءة ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم لما وقعت غنائم هوازن في يده غله رجل بمخيط فنزلت.
وعلى هذا يغل بمعنى يخان.
وإن جعل يغل بمعنى يوجد غالا فالقراءتان متعاضدتان ويوافقهما أسباب النزول، أكثرها يروى أنه تأخرت قسمة الغنيمة في بعض الغزوات لمانع فجاءه قوم وقالوا: ألا تقسم غنائمنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لو كان لكم مثل أحد ذهبا ما حبست منكم درهما، أترون أني أغلكم مغنمكم؟ فنزلت. وعن ابن عباس أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم بشيء زائد فنزلت.
وقال الكلبي ومقاتل: نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز طلبا للغنيمة وقالوا: يخشى أن يقول رسول الله من أخذ شيئا فهو له وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر. فقال لهم صلى الله عليه وسلم: ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟ فقالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا فقال صلى الله عليه وسلم: بل ظننتم أنا نغل ولا نقسم لكم.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث طلائع فغنم بعدهم غنائم فقسمها ولم يقسم للطلائع فنزلت
مبالغة في النهي لرسوله يعني وما كان لنبي أن يعطي قوما ويمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بالسوية. وسمى حرمان بعض الغزاة غلولا تغليظا وتقبيحا لصورة الأمر. وقيل: نزلت في أداء الوحي. كان يقرأ القرآن- وفيه عيب دينهم وسب آلهتهم- فسألوه أن يترك ذلك فقيل:(2/300)
ما كان لنبي أن يكتم الناس ما بعثه الله به إليهم رغبة في الناس أو رهبة منهم وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ أكثر المفسرين أجروه على ظاهره ونظيره في مانع الزكاة يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ [التوبة: 35] ويدل عليه الحديث الذي رويناه وعن ابن عباس أنه قال: يمثل له ذلك الشيء في قعر جهنم ثم يقال له: انزل إليه فخذه فيهبط إليه فإذا انتهى إليه حمله على ظهره فلا يقبل منه. وعن بعض جفاة الأعراب أنه سرق نافجة مسك فتليت عليه هذه الآية فقال: إذن أحملها طيبة الريح خفيفة المحمل. قلت: ذلك الشقي قاس الأمور الأخروية على الأمور الدنيوية، ولم يعلم أن ذلك المسك وقتئذ يكون أنتن من الجيفة وأثقل من الجبل وذلك ليذوق وبال أمره ويرى نقيض مقصوده. قال المحققون: والفائدة فيه أنه إذا جاء يوم القيامة وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحته. ومثله
قوله صلى الله عليه وسلم: «لكل غادر لواء يوم القيامة» «1»
وقال أبو مسلم: هذا على سبيل التمثيل والتصوير لوباله وتبعته.
والمراد أنه تعالى يحفظ عليه هذا الغلول ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه لأنه لا يخفى عليه خافية. وقيل: المراد أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء، وفيه صرف اللفظ عن ظاهره من غير دليل ولا ضرورة. ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إثبات للجزاء لكل كاسب على سبيل العموم ليعلم صاحب الغلول أنه غير متخلص من بينهم مع عظم ما اكتسب وهذا أبلغ مما لو خص الغال بتوفية الجزاء فقيل: ثم يوفى ما كسب.
ثم فصل ما أجمل فقال: أَفَمَنِ اتَّبَعَ والهمزة للإنكار والفاء للعطف على محذوف تقديره «أمن اتقى فاتبع» . قال الكلبي والضحاك: أفمن اتبع رضوان الله في ترك الغلول كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ رجع منه بشدّة إرادة انتقام لأجل الغلول؟ وقال الزجاج: أفمن اتبع رضوان الله بامتثال أمر النبي صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى دفع المشركين يوم أحد، كمن باء بسخط من الله وهم الذين لم يمتثلوا؟ وقيل: الأولون المهاجرون والآخرون المنافقون.
وقيل: أفمن اتبع رضوان الله بالإيمان والعمل بطاعته كمن باء بسخط من الله بالكفر به والاشتغال بمعصيته؟ وهذا القول أقرب لتكون الآية مجراة على العموم وإن كان سبب النزول خاصا. وقوله: وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ من تمام صلة من «باء» . وقوله: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ اعتراض. قال القفال: لا يجوز في الحكمة أن يسوى بين المسيء والمحسن وإلا كان إغراء بالمعاصي وإباحة لها وإهمالا للطاعات وتنفيرا عنها. هُمْ دَرَجاتٌ قيل: أي لهم
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجزية باب 22. مسلم في كتاب الجهاد حديث 8، 10- 17. أبو داود في كتاب الجهاد باب 150. الترمذي في كتاب السير باب 28. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 42.
الدارمي في كتاب البيوع باب 11. أحمد في مسنده (1/ 411، 417) .(2/301)
درجات. وحسن هذا الحذف لأن اختلاف أعمالهم كأنه قد صيرهم بمنزلة الأشياء المختلفة في ذواتها. وقالت الحكماء: النفوس الإنسانية مختلفة بالماهية يدل عليها اختلاف صفاتها بالإشراق والإظلام، ومن هنا
قال صلى الله عليه وسلم: «الناس معادن كمعادن الذهب والفضة» «1»
فهم في أنفسهم درجات لا أن لهم درجات. وقيل: المراد ذوو درجات. ثم الضمير إلى أي شيء يعود؟ قيل: إلى من اتبع رضوان الله لأن الغالب في العرف استعمال الدرجات في أهل الثواب، والدركات في أهل العقاب. ولأنه قد ذكر وصف من باء بسخط من الله وهو أن مأواه جهنم فيكون هذا وصفا لمن اتبع الرضوان ويؤيده قوله: عِنْدَ اللَّهِ وهذا وإن كان معناه في علمه وحكمه كما يقال: «هذه المسألة عند الشافعي كذا» ولا يراد به عندية المكان لتنزهه تعالى عن ذلك إلا أنه يفيد في الجملة تشريفا وأنه يليق بأهل الثواب. وقال الحسن:
يعود إلى من باء بسخط لأنه أقرب لأنهم متفاوتون في العذاب.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن منها ضحضاحا وغمرا» «2»
وقال: «إن أهون أهل النار عذابا رجل يحذى له نعلان من نار يغلي من حرهما دماغه ينادي يا رب وهل يعذب أحد عذابي» «3»
والأوجه أن يكون عائدا إلى الكل، لأن درجات أهل الثواب متفاوتة، وكذا دركات أهل العقاب حسب تفاوت أعمال الخلق.
وقد تستعمل الدرجات في مراتب أهل النار كقوله: وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام:
132] وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم بمقدارها.
قوله عز من قائل: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ في النظم وجوه منها: أن هذا الرسول نشأ فيما بينهم ولم يظهر منه طول عمره إلا الصدق والأمانة، فكيف يليق بمن هذا حاله الخيانة؟ ومنها كأنه تعالى قال: لا أكتفي في وصفه بأن أنزهه عن الخيانة ولكني أقول: إن وجوده فيكم من أعظم نعمي عليكم. ومنها أنكم كنتم خاملين جاهلين وإنما حصل لكم الشرف والعلم بسبب هذا الرسول، فالطعن فيه طعن فيكم. ومنها أن مثل هذا الرجل يجب على كل عاقل أن يعينه بأقصى ما يقدر عليه ويكون معه باليد واللسان والسيف والسنان، فيكون المقصود العود إلى ترغيب المسلمين في الجهاد. ومعنى المنّ هاهنا الإنعام على من لا يطلب الجزاء منه. والوجه في المنة إما أن يعود إلى أصل البعثة، وإما أن يعود إلى بعثة هذا الرسول. فمن الأول أن الخلق مجبولون على النقصان والجهالة، والنبي يورد عليهم
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (2/ 539) .
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 358.
(3) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 1، مسلم في كتاب الإيمان حديث 362. الترمذي في كتاب جهنم باب 12. الدارمي في كتاب الرقاق باب 121. أحمد في مسنده (2/ 432) .(2/302)
وجوه دلائل الكمال ويزيح عللهم في كل حال. وأيضا إنهم وإن شهدت فطرتهم بوجوب خدمة مولاهم لكن لا يعرفون كيفية تلك الخدمة إلى أن يشرحها النبي صلى الله عليه وسلم لهم. وأيضا إنهم جبلوا على الكسل والملل فهو يورد عليهم أنواع الترغيبات والترهيبات فيزول فتورهم ويتجدد نشاطهم. وبالجملة فعقول البشر بمنزلة أنوار البصر، وعقل النبي بمنزلة نور الشمس. فكما لا يتم الانتفاع بنور البصر إلا عند سطوع نور الشمس، فكذلك لا يحصل الاهتداء بمجرد العقل ما لم ينضم إليه إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم. ومن الثاني أن هذا الرسول بعث مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي من جنسهم عربيا مثلهم، أو من ولد إسماعيل كما أنهم من ولده. فعلى هذا يكون المراد بالمؤمنين من آمن مع الرسول من قومه. وخص المؤمنين منهم لأنهم هم المنتفعون به، ووجه المنة أنه إذا كان اللسان واحدا سهل عليهم أخذ ما يجب أخذه عنه، وإذا كانوا واقفين على أحواله في الصدق والأمانة كان ذلك أقرب لهم إلى تصديقه والوثوق به. وفيه أيضا شرف لهم وفخر كما قال: وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ [الزخرف: 44] وذلك أن الافتخار بإبراهيم صلى الله عليه وسلم كان مشتركا فيه بين اليهود والنصارى والعرب. ثم اليهود والنصارى كانوا يفتخرون بموسى وعيسى وبالتوراة والإنجيل، وما كان للعرب ما يقابل ذلك. فلما بعث الله محمدا وأنزل القرآن صار شرف العرب بذلك زائدا على شرف جميع الأمم. وقيل:
مِنْ أَنْفُسِهِمْ أي من جنس الإنس لا من الملك لأن الجنس إلى الجنس أميل. ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن فاطمة أنهما قرآ مِنْ أَنْفُسِهِمْ بفتح الفاء أي أشرفهم، وعلى هذا يكون المؤمنون عاما. ويحتمل أن يراد بهم العرب ويصح لأن عدنان ذروة ولد إسماعيل، ومضر ذروة نزار بن معد بن عدنان، وخندف ذروة مضر، ومدركة ذروة خندف، وقريش ذروة مدركة، وذروة قريش محمد صلى الله عليه وسلم. وأما سائر أوصافه من قوله: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ فقد مر تفسيرها في البقرة عند قوله: رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا [البقرة: 129] وإعراب قوله: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ كما سلف في قوله: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً [البقرة: 143] ومعنى المنة فيه أن النعمة إذا وردت بعد المحنة كان موقعها أعظم. فبعثة هذا الرسول عقيب الجهل والذهاب عن الدين تكون أعم نفعا وأتم وقعا. ثم لما أجاب عن نسبة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغلول، حكى عنهم شبهة أخرى وهي قولهم لو كان رسولا من عند الله ما انهزم عسكره وهو المراد بقوله: أَنَّى هذا وأجاب عنها بقوله:
قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ والواو في قوله أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ لعطف هذه الجملة الاستفهامية على ما قبلها من قصة أحد إلا أن حرف الاستفهام قدم على واو العطف لأن له صدر الكلام ولَمَّا ظرف قُلْتُمْ ومقول القول أَنَّى هذا. وأَصابَتْكُمْ في محل(2/303)
الجر بإضافة لَمَّا إليه. والتقدير: أقلتم حين أصابتكم؟ ويجوز أن تكون الجملة معطوفة على محذوف كأنه قيل: أفعلتم كذا، وقلتم حينئذ من أين أصابنا هذا، وكيف نصروا علينا، ونحن على الحق ومعنا الرسول وهم على الباطل ولا نبي معهم؟ والمراد بالمصيبة واقعة أحد، وبمثلها وقعة بدر. وذلك أن المشركين قتلوا من المسلمين يوم أحد سبعين، وقتل المسلمون منهم يوم بدر سبعين وأسروا سبعين، وقيل: أراد نسبة الضعف في الهزيمة لا في عدد القتلى والأسرى. فالمسلمون هزموا الكفار يوم بدر وهزموهم أيضا في الأولى يوم أحد، ثم لما عصوا الله هزمهم المشركون فانهزام المشركين حصل مرتين، وانهزام المسلمين حصل مرة واحدة فخرج عن قوله: قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها جواب ضمني يعني أن أحوال الدنيا لا تدوم على حالة واحدة، فإذا أصبتم منهم مثلي ما نالوا منكم فما وجه الاستبعاد؟ لكنه صرح بجواب آخر فقال: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ وفي تقريره وجهان: الأول أن هذه المصيبة بشؤم معصيتكم. وذلك أنهم عصوا الرسول في أمور في الخروج عن المدينة وكان رأيه في الإقامة، ثم في الفشل وفي التنازع وفي مفارقة المركز وفي الاشتغال بطلب الغنيمة. الثاني ما
روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فقال: يا محمد إن الله قد كره ما صنع قومك في أخذهم الفداء من الأسارى، وأمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى فيضربوا أعناقهم وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عدتهم. فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لقومه فقالوا: يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ الفداء منهم فنتقوى به على قتال العدو ونرضى أن يستشهد منا بعددهم. فقتل يوم أحد سبعون رجلا بعدد أسارى بدر.
فمعنى هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ هو بأخذكم الفداء واختياركم القتل.
وتمسك المعتزلة بالآية على أن للعبد اختيارا في الفعل والترك، وأنه من عند نفسه.
وعارضهم الأشاعرة بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فإن فعل العبد من جملة الأشياء فيكون الله قادرا عليه. فلو وجد بإيجاد العبد امتنع من الله أن يقدر عليه إذ لا قدرة على إيجاد الموجود والحق أن وجود الواسطة لا ينافي انتهاء الكل إلى مسبب الأسباب ويؤيده قوله: وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ قال ابن عباس: أي وقع بقضائه وحكمه وفيه تسلية للمؤمنين لأن الرضا بالقضاء لازم. وقيل: بتخليته لأن الإذن مخل بين المأذون له ومراده، فاستعير الإذن للتخلية، وإن اعتبرتم المصالح فذاك قد وقع لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ أي ليتميزوا عن أهل النفاق. وإنما لم يقل «وليعلم المنافقين» ليناسب المؤمنين لفظا لأن الغرض تصوير أنهم شرعوا في الأعمال اللائقة بالنفاق في ذلك الوقت وأحدثوها، ولأنه عطف على الصلة. وَقِيلَ لَهُمْ قال الأصم: هذا القائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يدعوهم إلى(2/304)
القتال. وقيل: هو أبو جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري، لما انخزل عبد الله بن أبي بثلث الناس تبعهم وقال: أنشدكم الله في نبيكم وأنفسكم تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ إن كان في قلبكم حب هذا الدين أَوِ ادْفَعُوا عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم إن لم يكن بكم هم الآخرة وطلب مرضاة الله أي كونوا من رجال الدين أو من رجال الدنيا. وقال السدي وابن جريج: ادفعوا العدو بتكثير سوادنا إن لم تقاتلوا معنا لأن الكثرة أحد أسباب الهيبة والرعب. ثم إنه كأن سائلا سأل فما أجاب المنافقون عند دعاء المؤمنين إياهم إلى القتال؟ فقيل: قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ كأنهم جحدوا أن يكون بين الفريقين قتال البتة. أو المراد لو نعلم ما يصح أن يسمى قتالا لوافقناكم عليه، ولكنكم تلقون بأيديكم إلى التهلكة، وذلك أن رأي عبد الله كان في الإقامة وما كان يستصوب الخروج من المدينة، وكلا المعنيين منهم في الجواب فاسد. أما الأول فلأن ظهور أمارات الحرب كاف في وجوب القتال والدفع عن النفس والمال. والظن في أمور الدنيا قائم مقام العلم، ولا أمارة أقوى من قرب الأعداء من المدينة عند جبل أحد. وأما الثاني فلأنه تعالى لما وعدهم النصر والغلبة إن صبروا واتقوا لم يكن الخروج إلى ذلك القتال إلقاء النفس إلى التهلكة. ولركاكة جوابهم قال: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ لأنهم تباعدوا بهذا الجواب المنبئ عن الدغل والنفاق عن الإيمان المظنون بهم قبل اليوم. والمراد أنهم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، لأن تقليلهم سواد المسلمين بالانخذال تقوية لجانب المشركين وعلى الأول قال أكثر العلماء: إنه تنصيص من الله تعالى على أنهم كفار لأن القرب من الكفر حصول الكفر. قال الحسن: إذا قال الله أقرب فهو اليقين بأنهم مشركون كقوله:
مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 117] فهذه الزيادة لا شك فيها. وقال الواحدي: فيه دليل على أن الآتي بكلمة التوحيد لا يكفر لأنه تعالى لم يظهر القول بتكفيرهم يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي لا يتجاوز الإيمان حناجرهم ومخارج الحروف منهم خلاف صفة المؤمنين في مواطأة قلوبهم ما نطقوا به من التوحيد وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ من بغض الإسلام والمسلمين وسائر مجاري أحوالهم فيما بينهم. وذلك أن المؤمنين قد علموا بعض ذلك بالقرائن والأمارات، وهو تعالى عالم بتفاصيل ذلك لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ [سبأ: 3] .
الَّذِينَ قالُوا منصوب على الذم أو على البدل من الَّذِينَ نافَقُوا أو مرفوع على الذم أي هم الذين، أو على البدل من ضمير يَكْتُمُونَ وقيل: يجوز أن يكون مجرورا بدلا من الضمير في بِأَفْواهِهِمْ أو قُلُوبِهِمْ لِإِخْوانِهِمْ لأجل إخوانهم المقتولين يوم أحد(2/305)
إخوة في النسب أو في سكنى الدار أو في الجنسية في النفاق. والقائلون- عند جمهور المفسرين- عبد الله بن أبيّ وأصحابه. واعترض الأصم بأنه قد خرج يوم أحد فكيف وصف بالقعود في قوله: وَقَعَدُوا أي والحال أنهم قد قعدوا عن القتال. والجواب أن القعود عن القتال وهو الجبن عنه وتركه لا ينافي الخروج. لَوْ أَطاعُونا في أمرنا إياهم بالقعود ما قُتِلُوا كأنهم قعدوا وما اكتفوا بذلك بل أرادوا تثبيط غيرهم وذلك لما في الطباع من محبة الحياة وكراهة الموت. «ومن يسمع يخل» فلعل بعض ضعفة المسلمين إذا سمع ذلك رغب في القعود ونفر طبعه عن الجهاد فأجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن الحذر يغني عن القدر، وأن سلامتكم كانت بسبب قيودكم لا بغيره من أسباب النجاة. وفيه استهزاء بهم أي إن كنتم رجالا دفاعين لأسباب الموت فادفعوا جميع أسبابه حتى لا تموتوا.
وروي أنه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا.
جميع ذلك بناء على أن القتل أمر مكروه يجب على العاقل أن يتحرز منه لو أمكنه، لكنا لا نسلم ذلك وهو المراد بقوله: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً والخطاب للرسول أو لكل أحد. ومن قرأ على الغيبة فالضمير للرسول. أو المراد لا يحسبن حاسب أو لا يحسبنهم أمواتا. وضمير المفعول للذين قتلوا أي لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا. فحذف المفعول الأوّل لدلالة الكلام عليه، فكأنه مذكور كما حذف المبتدأ في قوله: بَلْ أَحْياءٌ أي هم أحياء للدلالة.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا من يبلغ إخواننا عنا أنا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد ولا ينكلوا عن الحرب فقال الله عز وجل أنا أبلغهم عنكم فأنزل هذه الآية» «1»
وعن جابر بن عبد الله قال: نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما لي أراك مهتما؟ قلت: يا رسول الله قتل أبي وترك دينا وعيالا. «فقال: ألا أخبرك ما كلم الله أحدا قط إلا من وراء حجاب وإنه كلم أباك كفاحا. فقال: يا عبدي سلني أعطك. فقال: أسألك أن تردّني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية. فقال: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون. فقال: يا رب فأبلغ من ورائي» «2» فنزلت.
وقال جماعة من أهل التفسير: نزلت
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 121. أبو داود في كتاب الجهاد باب 25. الترمذي في كتاب تفسير سورة آل عمران باب 19. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 4. الدارمي في كتاب الجهاد باب 18. أحمد في مسنده (6/ 386) .
(2) رواه الترمذي في كتاب تفسير سورة آل عمران باب 18. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 13. كتاب الجهاد باب 16.(2/306)
الآية في شهداء بئر معونة. وقال بعضهم: إن أولياء الشهداء كانوا إذا أصابتهم نعمة أو سرور تحسروا وقالوا: نحن في النعمة والسرور وآباؤنا وأبناؤنا وإخواننا في القبور، فنزلت الآية تنفيسا عنهم وإخبارا عن حال قتلاهم أنهم أحياء متنعمون. واختلف العلماء في معنى هذه الحياة. فعن طائفة أنها على سبيل المجاز. وقال الأصم والبلخي: أريد بها الذكر الجميل في الدنيا والثواب الجزيل في العقبى. وروي أن عبد الملك بن مروان لما رأى الزهري وعلم فقهه وتحقيقه قال: ما مات من خلف مثلك. ومن هذه الطائفة من قال: مجاز هذه الحياة أن أجسادهم باقية في قبورهم وأنها لا تبلى تحت الأرض البتة.
روي أنه لما أراد معاوية أن يجري العين إلى قبور الشهداء أمر بأن ينادي: من كان له قتيل فليخرجه من هذا الموضع. قال جابر: فخرجنا إليهم فأخرجناهم رطاب الأبدان فأصاب المسحاة أصبع رجل منهم فقطرت دما.
ومن هؤلاء من قال: المراد أنهم لا يغسلون كما لا يغسل الأحياء.
وذهبت طائفة من متكلمي المعتزلة إلى أن المراد أنهم سيصيرون أحياء والغرض تعذيب منكري المعاد، وزيف بأنه عدول عن الظاهر، وبأن عذاب القبر ثابت. فالثواب أولى. وبأنه نهى عن حسبانهم أمواتا والذي يزيل هذا الحسبان هو اعتقاد أنهم أحياء في الحال لا اعتقاد أنهم أحياء في يوم القيامة، فإن ذلك مما لا يشك النبي والمؤمنون فيه. وبما رويناه عن ابن عباس أن أرواحهم في أجواف طير. وبقوله: وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ والاستبشار بمن يكون في الدنيا لا بد أن يكون قبل يوم القيامة. وذهب كثير من المحققين إلى أنهم أحياء في الحال لكن بحياة روحانية، وأن أرواحهم تركع وتسجد كل ليلة تحت العرش إلى يوم القيامة. وذلك أن الإنسان ليس عبارة عن مجموع هذه البنية، لأن أجزاء البدن في الذوبان والانحلال ويعرض لها السمن والهزال والقوّة والكلال، وكلنا يجد من نفسه أنه شيء واحد من أول عمره إلى آخره والباقي مغاير للمتبدل. ولأن الإنسان يكون عالما بنفسه حالما يكون غافلا عن جميع أعضائه وأجزائه، والمعلوم مغاير لما ليس بمعلوم. ثم ذلك الشيء المغاير لهذا البدن المحسوس سواء كان جسما مخصوصا ساريا أو جوهرا مجردا لا يبعد أن ينفصل بعد موت البدن حيا أو أماته الله فيعيده حيا، وبهذا يثبت عذاب القبر وثوابه وتزول الشبهات. ومن تأمل في الأمور الواردة عليه وجد أحوال النفس مضادة لأحوال البدن، ووجد قوة أحدهما مقتضية لضعف الآخر، كما أن البدن يضعف وقت النوم وتقوى النفس على مشاهدة المغيبات ونقوش عالم الأرواح. وإذا أعرضت النفس عن الطعام والشراب وأقبلت على مطالعة العالم العلوي زادت سرورا وابتهاجا وفرحا وارتياحا، وانطبعت فيها الجلايا القدسية، وانكشفت لها المعارف الإلهية. وأكثر أرباب(2/307)
الشرع على أنهم أحياء في الحال بحياة جسمانية. ثم منهم من قال: إنه تعالى يصعد أجسادهم إلى السموات وإلى قناديل تحت العرش ويوصل أنواع السعادات والكرامات إليها، ومنهم من قال: بل يتركها في الأرض ويحييها ويوصل هذه السعادات إليها. ومن الناس من طعن في هذا القول وقال: إن تجويز كون البدن الميت الملقى في التراب حيا متنعما عاقلا عارفا نوع من السفسطة. والحق في هذه المسألة عندي خلاف ما يقوله أهل التناسخ من أن النفس بعد موت بدنها تقبل على بدن آخر وتعرض عن الأوّل بالكلية، وخلاف ما يقوله الفلاسفة من أن النفس تنقطع علاقتها عن البدن مطلقا وإنما تلتذ أو تتألم هي بما اكتسبت من المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة أو بالعقائد الباطلة والملكات الذميمة. والذي أقوله:
إن النفس تبقى لها علاقة مع بدنها لا بالتحريك واكتساب الأعمال، ولكن بالتلذذ والتألم والتعقل ونحوها. وليس ببدع أن يتغير التعلق بحسب تغير الأطوار كما كان يتغير في مدّة العمر بحسب الأسنان والأمزجة. والتحقيق فيه أن النفس في هذا العالم جعلت متصرفة في البدن لأجل اكتساب الأعمال والملكات، وأنه يفتقر إلى تحريك الأعضاء وأعمال الجوارح والآلات، وبعد الموت تجعل متصرفة فيه من جهة الجزاء والحساب، فكيف ينبغي أن يقاس أحدهما على الآخر؟ فلعله يكفي بعد الموت أن يكون له علاقة التلذذ والتألم والإدراك فقط إلى أن تقوم القيامة الكبرى. وهذا القدر لا ينافي كون البدن مشاهدا في القبر من غير تحرك ولا إحساس ونطق، ويؤيده ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر وقال: يا فلان ابن فلان ويا فلان ابن فلان هل وجدتم ما وعدكم الله ورسوله حقا؟ فإني وجدت ما وعدني الله حقا. فقال عمر: يا رسول الله كيف تكلم أجسادا لا أرواح فيها؟ فقال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم غير أنهم لا يستطيعون أن يردّوا عليّ شيئا.
وفي حديث عذاب القبر «إنه ليسمع قرع نعالهم» «1»
ولعل السر في أنه اكتفى بهذا القدر من التصرف أنه إن كان أكثر من ذلك كما سيكون في القيامة الكبرى نافى تكليف سائر الأحياء وأفضى الأمر إلى الإلجاء وهو السر في آخر حديث عذاب القبر
«فيصيح صيحة يسمعها من يليه غير الثقلين» «2»
وأما الشهداء فلا يبعد أن يجازيهم الله تعالى بمزيد التلذذ بنعيم الآخرة كما قتلوا تعجيلا للثواب. وكما عجلوا الانقطاع عن طيبات الدنيا ومشتهياتها فإن جزاء كل طائفة ينبغي أن يناسب عملهم. فافهم
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 68، 87. النسائي في كتاب الجنة باب 70. أبو داود في كتاب الجنائز باب 74. أحمد في مسنده (3/ 126) . [.....]
(2) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 67، 86. أبو داود في كتاب السنّة باب 24. النسائي في كتاب الجنائز باب 110. أحمد في مسنده (2/ 272، 457) ، (3/ 126) .(2/308)
هذه الأسرار فإنها علق مضنة وبه ثبت جميع ما ورد في الشريعة الحقة والله أعلم. ومعنى عِنْدَ رَبِّهِمْ أنهم مقربون ذوو كرامة كقوله: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [فصلت: 38] أو المراد بحيث لا يملك أحد جزاءهم سوى ربهم، أو المراد في علمه وحكمه كما يقال: «هذه المسألة عند الشافعي كذا» . يرزقون كما يرزق سائر الأحياء يأكلون ويشربون وهو تأكيد لكونهم أحياء ووصف لحالهم التي هم عليها من التنعم برزق الله كما ورد في الحديث.
فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وهو توفيق الشهادة وما خصصهم به من التفضيل على غيرهم من قبل تعجيل رزق الجنة ونعيمها. وقال المتكلمون: الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم. فقوله: يُرْزَقُونَ إشارة إلى المنفعة وقوله: فَرِحِينَ إشارة إلى الابتهاج الحاصل بسبب التعظيم. وبلسان الحكماء يُرْزَقُونَ إشارة إلى كون ذواتهم مشرقة بالمعارف الإلهية وفَرِحِينَ رمز إلى ابتهاجها بالنظر إلى ينبوع النور ومصدر الكمال، ويَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ بإخوانهم من المجاهدين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم. والاستبشار السرور الحاصل بالبشارة. ومعنى مِنْ خَلْفِهِمْ أنهم بقوا بعدهم. وقيل لم يلحقوا بهم أي لم يدركوا فضلهم ومنزلتهم أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ بدل الاشتمال من «الذين» . وذلك أن الله يبشرهم بأن من تركوا خلفهم من المؤمنين يبعثون امنين يوم القيامة، فهم مستبشرون بأنه لا خوف عليهم. وإنما بشرهم الله بذلك لأنهم لما فارقوا الدنيا بغتة كان ذلك مظنة أن يكون لهم نوع تعلق بأحوال إخوانهم وهو شبه تألم، فأكرمهم الله تعالى بإزالة ذلك التعلق بأن أعلمهم أمن إخوانهم من عذاب الله فحصل لهم سروران: من قبل حالهم في أنفسهم وذلك قوله: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ومن قبل حال إخوانهم وأعزتهم وذلك قوله وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ ثم كرر هذا المعنى لمزيد التأكيد فقال:
يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهي الثواب. وفضل وهو التفضل الزائد وهذا هو سرورهم بسعادة أنفسهم. وَأَنَّ اللَّهَ أي وبأن الله لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ وهذا سرورهم بسعادة إخوانهم المؤمنين. ثم إنه تعالى مدح المؤمنين بغزوتين متصلتين بغزوة أحد تعرف أولاهما بغزوة حمراء الأسد، والثانية بغزوة بدر الصغرى. أما الأولى فما
روي أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا وقالوا: إنا قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلّا القليل. فلم تركناهم؟ فهموا بالرجوع فبلغ ذلك رسول الله، فأراد أن يرهب الكفار ويريهم من نفسه ومن أصحابه قوّتهم فندب أصحابه إلى الخروج في طلب أبي سفيان وقال:
لا أريد الآن أن يخرج معي إلا من حضر يومنا بالأمس. فخرج في سبعين من الصحابة حتى بلغوا حمراء الأسد- وهي من المدينة على ثمانية أميال- فألقى الله الرعب في قلوب(2/309)
المشركين وانهزموا. فنزلت الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا
بإتيان جميع المأمورات وَاتَّقَوْا بالانتهاء عن المحظورات وأَحْسَنُوا في طاعة الرسول واتقوا مخالفته وإن بلغ الأمر بهم إلى الجراحات. روي أنه كان فيهم من يحمل صاحبه على عنقه ساعة. ثم كان المحمول يحمل الحامل ساعة أخرى، وكان فيهم من يتوكأ على صاحبه ساعة ويتوكأ عليه صاحبه ساعة. و «من» في قوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ للتبيين لأن الذين استجابوا لله والرسول قد أحسنوا كلهم واتقوا لا بعضهم.
وقال أبو بكر الأصم: نزلت في يوم أحد لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم بالناس بعد الهزيمة فشد بهم على المشركين حتى كشفهم، وكانوا قد هموا بالمثلة فدفعهم عنهم بعد أن مثلوا بحمزة، فصلى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ودفنهم بدمائهم. وذكروا أن صفية جاءت لتنظر إلى أخيها حمزة فقال صلى الله عليه وسلم للزبير:
ردّها لئلا تجزع من مثلة أخيها. فقالت: قد بلغني ما فعل به وذلك يسير في جنب طاعة الله تعالى. فقال للزبير: فدعها تنظر إليه، فقالت خيرا واستغفرت له. وجاءت امرأة أخرى قد قتل زوجها وأبوها وأخوها وابنها، فلما رأت الرسول صلى الله عليه وسلم وهو حي قالت: إن كل مصيبة بعدك هدر.
وأما الثانية
فروى ابن عباس أن أبا سفيان لما عزم أن ينصرف من المدينة إلى مكة نادى: يا محمد موعدنا موسم بدر الصغرى القابل فنقتتل بها إن شئت. فقال صلى الله عليه وسلم لعمر:
قل بيننا وبينك ذاك إن شاء الله. فلما حضر الأجل خرج أبو سفيان مع قومه حتى نزل مرّ الظهران، فألقى الله الرعب في قلبه فبدا له أن يرجع، فلقي نعيم بن مسعود الأشجعي وقد قدم معتمرا فقال: يا نعيم إني واعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر، وإن هذا عام جدب ولا يصلحنا إلا عام نرعى فيه الشجر ونشرب فيه اللبن، وقد بدا لي أن أرجع. ولكن إن خرج محمد ولم أخرج زاده ذلك جرأة فألحق بالمدينة وثبطهم ولك عندي عشر من الإبل. فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهزون فقال لهم: ما هذا بالرأي أتوكم في دياركم وقراركم فقتلوا أكثركم، فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد، فوقع هذا الكلام في قلوب قوم منهم.
فقال صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لأخرجنّ إليهم وحدي. فخرج في سبعين راكبا وهم يقولون:
حسبنا الله ونعم الوكيل، إلى أن وصلوا إلى بدر الصغرى وهي ماء لبني كنانة وكانت موضع سوق لهم يجتمعون فيها كل عام ثمانية أيام. فلم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحدا من المشركين. وكانت معهم تجارت ونفقات فوافوا السوق وباعوا ما معهم واشتروا بها أدما وزبيبا وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. ورجع أبو سفيان إلى مكة فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق وقالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق وأنزل الله في المؤمنين الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ
يعني نعيم بن مسعود كما ذكرناه. وإنما عبر(2/310)
عن الإنسان الواحد بالناس لأنه من جنس الناس كما يقال: فلان يركب الخيل وما له إلا فرس واحد. ولأن الواحد إذا قال قولا وله أتباع يقولون مثل قوله ويرضون به، حسن إضافة ذلك الفعل إلى الكل كقوله تعالى: وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [البقرة: 72] وحين قال نعيم ذلك القول لم يخل من ناس من أهل المدينة يضامّونه ويصلون جناح كلامه، وقال ابن عباس ومحمد بن إسحق: مر ركب من عبد القيس بأبي سفيان فدسهم إلى المسلمين ليخوفوهم وضمن لهم عليه جعلا- حمل بعير من زبيب-. وقال السدي: هم منافقوا المدينة كانوا يثبطون المسلمين عند الخروج ويقولون: إن الناس قد جمعوا لكم يعني أبا سفيان وأصحابه. والمفعول محذوف أي جمعوا لكم الجموع. والعرب تسمي الجيش جمعا.
فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ قول نعيم أو قول المثبطين إِيماناً لأنهم لم يسمعوا قولهم وأخلصوا عنده النية والعزم على الجهاد، وأظهروا حمية الإسلام فكان ذلك أثبت ليقينهم وأقوى لاعتقادهم. واستدل بالآية من قال: إن الطاعات داخلة في مسمى الإيمان وأنه يزيد وينقص بحسب زيادتها ونقصانها. وأما من قال: الإيمان عبارة عن نفس التصديق فتأويله أن الزيادة وقعت في ثمرات الإيمان، ولكنها جعلت في الإيمان مجازا. وقد مر تحقيق الكلام لنا في هذا المعنى في أوائل الكتاب. وكما أنهم أضمروا ذلك بحسب الاعتقاد وافقوا الخليل عليه السلام حين ألقي في النار فأظهروه باللسان وقالوا: حسبنا الله. وقد مر إعراب مثله في البقرة في قوله: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ [البقرة: 206] . وَنِعْمَ الْوَكِيلُ الكافي أو الكافل أو الموكول إليه هو. ثم عملوا بما اعتقدوه وقالوه فخرجوا فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وهي العافية وَفَضْلٍ وهو الربح بالتجارة، أو النعمة منافع الدنيا والفضل ثواب الآخرة. لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ لم يصبهم قتل ولا جراح. وصفهم بأنه حصل لهم الملائم ولم يحصل لهم المنافي وهذه غاية المطلب ونهاية الأماني، وإن ذلك ثمرة الإخلاص والتوكل على الله سبحانه وتعالى. ثم روي أنهم قالوا: هل يكون هذا غزوا؟ فقال تعالى: وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ ليعلموا أن لهم ثواب المجاهدين حيث قضوا ما عليهم. ثم قال: وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ تنبيها على أن السبب الكلي في ثواب المطيعين هو فضل ربهم ورحمته عليهم ولم ينج أحدا عمله إلا أن يتغمده الله برحمته، فعلى المؤمن أن لا يثق إلا بالله ولا يخاف أحدا إلا إياه وذلك قوله: إِنَّما ذلِكُمُ المثبط هو الشَّيْطانُ لعتوّه وتمرده وإغوائه. ثم بين شيطنته بقوله: يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ أو الشيطان صفة اسم الإشارة، وهذه الجملة خبر والمفعول الأوّل محذوف أي يخوّفكم أولياءه فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان يقتضي أن تؤثروا خوف الله على خوف الناس الذين هم أولياء المثبطين. والأولياء هم أبو سفيان وأصحابه. وقيل: الشيطان هو إبليس. وقيل: المضاف محذوف والتقدير إنما(2/311)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
ذلكم قول الشيطان. وقيل: يخوّف أولياءه القاعدين عن الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا فالضمير في فَلا تَخافُوهُمْ للناس في قوله: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ وقيل:
التقدير يخوّفكم بأوليائه كقوله: وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر: 36] فحذف حرف الجر قاله الفراء والزجاج وأبو علي، وزيفه ابن الأنباري بأن التخويف قد يتعدى بنفسه إلى مفعولين فلا ضرورة إلى إضمار حرف الجر. الله حسبي.
التأويل:
قد ذكرنا أن النفس يبقى لها نوع تعلق ببدنها. فالآن نقول: إن روح الشهيد مخصوص بمزيد تعلق ببدنه جزاء له على تعجيب إذاقة مرارة الفراق عن الدنيا، ولهذا لا تبلى أجساد كثير منهم وتبقى غضة طرية وكأنهم هم الشهداء في الحقيقة، وهكذا أجساد الكاملين من النبيين والصديقين الذين قتلوا أنفسهم بسيوف الرياضات، ومطارف الأذكار، وأسنة ألسنة الطاعنين، وتجرع سموم مخالفات النفس، ومكايدة الشيطان حتى ماتوا بالإرادة وحيوا بالطبيعة. وليس كل تعلق بهذا العالم سببا للتألم بل بعضه سبب اللذة والابتهاج يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس: 26- 27] وكما
ورد في حديث الشهداء «من يبلغ إخواننا عنا إنا في الجنة» والذي جاء فيه «إن أرواحهم في أجواف طير خضر» «1»
فلعل ذلك جزاء لهم على خروج الدم والأبخرة اللطيفة منهم ظلما. فمن الممكن أن يخلق الله تعالى من ذلك جسما لطيفا شبه طائر، ويكون لروح الشهيد به مزيد تعلق حتى تحركه ويطير حيث شاء من السماء والأرض وإلى الجنة بإذن الله تعالى. وأما كون الطير خضرا فإما لأن بدن الميت يميل إلى الخضرة، وإما أن يكون عبارة عن النضرة تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين: 24] وإما لأن حالهم بالنسبة إلى ما سيؤل إليه أهل الجنة والنار يوم القيامة كالمتوسط بين الحالين الذين يعبر عنهما بالبياض والسواد في قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران: 106] وهذه المعاني ما وجدتها في كتب التفسير والتأويل، وأرجو أن أكون مصيبا فيها الغرض والله تعالى ورسوله أعلم بمرادهما.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 189]
وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 121. أبو داود في كتاب الجهاد باب 25. الترمذي في كتاب تفسير سورة آل عمران باب 19. ابن ماجه في كتاب الجنائز باب 4. الدارمي في كتاب الجهاد باب 18. أحمد في مسنده (6/ 386) .(2/312)
القراآت:
وَلا يَحْزُنْكَ من الأفعال حيث كان إلا قوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ [الأنبياء: 103] نافع ومثله لَيَحْزُنُنِي [يوسف: 13] ولِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:
10] وقرأ يزيد على ضده. الباقون: بفتح الياء وضم الراء. ولا خلاف في مثل يَحْزَنُونَ [البقرة: 38] ولا تَحْزَنْ [الحجر: 88] مما هو لازم. وَلا يَحْسَبَنَّ وثلاثة بعدها بالياء التحتانية مع ضم الباء في تَحْسَبَنَّهُمْ أبو عمرو وابن كثير، وقرأ حمزة كلها بتاء الخطاب، وقرأ أبو جعفر ونافع وابن عامر ويعقوب كلها بالتحتانية إلا قوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ فإنها بالتاء وفتح الباء. الباقون: الأوليان على الغيبة والأخريان بالخطاب.(2/313)
يَمِيزَ بالتشديد حيث كان: حمزة وعلي وخلف وسهل ويعقوب عياش مخير. الباقون:
خفيف بفتح الياء وكسر الميم. يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ بياء الغيبة: ابن كثير ويعقوب وأبو عمرو لَقَدْ سَمِعَ وبابه مدغما: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام. سيكتب بضم الياء وفتح التاء وَقَتْلَهُمُ برفع اللام ويقول على الغيبة: حمزة الباقون: بالنون فيهما على التكلم. ونصب اللام في وَقَتْلَهُمُ وَبِالزُّبُرِ ابن عامر وَبِالْكِتابِ الحلواني عن هشام. الباقون: بغير إعادة الخافض فيهما. زُحْزِحَ عَنِ مدغما: شجاع وأبو شعيب من طريق العطار وابن مهران ليبيننه ولا يكتمونه بالياء فيهما لأنهم غيب: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب غير رويس وأبو بكر وحماد. الباقون: بتاء الخطاب فيهما على حكاية مخاطبتهم.
الوقوف:
فِي الْكُفْرِ ج للابتداء بأن ولاحتمال إضمار اللام أو الفاء شَيْئاً ط فِي الْآخِرَةِ ج لعطف المختلفتين مع اتحاد مقصود الكلام عَظِيمٌ هـ شَيْئاً ج لما ذكر فِي الْآخِرَةِ ط أَلِيمٌ هـ لِأَنْفُسِهِمْ ط إِثْماً ج لما ذكر أيضا مُهِينٌ هـ مِنَ الطَّيِّبِ ط وَرُسُلِهِ ط عَظِيمٌ هـ خَيْراً لَهُمْ ط شَرٌّ لَهُمْ ط الْقِيامَةِ ط وَالْأَرْضِ ط خَبِيرٌ هـ أَغْنِياءُ م لئلا يصير ما بعده من مقولهم، ومن قرأ بضم الياء فوقفه مطلق. بِغَيْرِ حَقٍّ ج لمن قرأ ويقول بالياء لأن التقدير: ويقول الله أو يقول الزبانية فلا ينعطف على قوله: سَنَكْتُبُ مع اتساق المعنى. الْحَرِيقِ هـ لِلْعَبِيدِ ج هـ لاحتمال الصفة وأن يكون المراد هم الذين، والوقف أولى لأنه لا يظلم العبيد مطلقا لا العبيد الموصوفة. نعم لو كان بدلا من الذين قالوا إن الله فقير صح تَأْكُلُهُ النَّارُ ط صادِقِينَ هـ الْمُنِيرِ هـ الْمَوْتِ ط يَوْمَ الْقِيامَةِ ط لابتداء شرط في أمر معظم.
فَقَدْ فازَ ط الْغُرُورِ هـ كَثِيراً ط الْأُمُورِ هـ وَلا تَكْتُمُونَهُ ز لأن الجملتين وان اتفقتا لم يكن النبذ متصلا بأخذ الميثاق فلم يضف إلى ظرف «إذ» . قَلِيلًا ط يَشْتَرُونَ هـ مِنَ الْعَذابِ ج لما ذكر. أَلِيمٌ هـ وَالْأَرْضِ ط قَدِيرٌ هـ.
التفسير:
نزلت في كفار قريش وإنه تعالى جعل رسوله آمنا من شرهم وأتاح العاقبة له وإن جمعوا الجموع وجهزوا الجيوش حتى يظهر هذا الدين على الأديان كلها. وقيل في المنافقين ومسارعتهم هي أنهم كانوا يخوّفون المؤمنين بسبب واقعة أحد، ويؤيسونهم من النصر والظفر، وربما يقولون: إن محمدا لطالب ملك فتارة يكون الأمر له وتارة يكون عليه، ولو كان رسولا ما غلبه أحد.
وقيل: إن قوما من الكفار أسلموا ثم ارتدوا خوفا من قريش، فاغتم النبي صلى الله عليه وسلم لذلك فبيّن الله تعالى أن ردتهم لا تؤثر في لحوق ضرر بك.
ونصر بعضهم هذا القول بأن المسارعة وهي شدة الرغبة في الكفر إنما تناسب من كفر بعد الإيمان(2/314)
المستمر على الكفر، وبأن إرادته أن لا يجعل لهم حظا في الآخرة إنما تليق بمن آمن فاستوجب الحظ ثم أحبط، وبأن الحزن إنما يكون على فوات أمر مقصود وذلك هو ما قدر النبي صلى الله عليه وسلم من الانتفاع بإيمانهم أو انتفاعهم بالإيمان فبيّن الله تعالى أنه لا يحلق بسبب فوات ذلك ضرر بالدين، وأن وبال ذلك يعود عليهم كما دل عليه بقية الآية. فإن قيل: الحزن على كفر الكافر وعلى معصية العاصي طاعة، فكيف نهى نبي الله عن ذلك؟ فالجواب أنه نهي عن الإسراف في الحزن بحيث يأتي عليه ونظيره لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء: 3] أو المراد لا يحزنوك لخوف أن يضروك ويعينوا عليك إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ أي دينه شَيْئاً من الضرر. يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ فيه دليل على أن إرادة الله تتعلق بالعدم، وتنصيص على أن الخير والشر والنفع والضر بإرادة الله، ومعنى قوله: وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ أنه كما لا حظ لهم من منافع الآخرة فلهم حظ عظيم من مضارها. وفي الإخبار عن إرادة عدم الجعل دون الإخبار عن عدم الجعل إشعار بأن استحقاقهم للحرمان بلغ إلى حد أراد أرحم الراحمين أن لا يرحمهم وأن الداعي إلى تعذيبهم خلص خلوصا لم يبق معه صارف البتة. ثم أنزل في اليهود خاصة وهو الأشبه أو في الكفار عامة إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الآية. والغرض تأكيد تقوية قلب الرسول كأنه قيل: إن أكثرهم ينازعونك في الدين لا لأجل شبهة لهم بل بناء على الحسد والمنازعة في منصب الدنيا.
ومن كان عقله هذا القدر- وهو أن يبيع بالقليل من الدنيا السعادة الكثيرة في الآخرة- كان في غاية الحماقة، ومثله لا يقدر على إلحاق الضرر بالغير. ولو قيل: إن الآية في المرتدين فالمعنى أن اختيار دين بعد دين ثم الارتداد على العقبين يدل على الاضطراب وضعف الرأي، والإنسان المضطرب الحال لا قدرة له على إيصال الضرر إلى الغير. ثم بين أن بقاء المنافقين المتخلفين عن الجهاد والكفار الذين بقوا بعد شهداء أحد لا خير فيه فقال: وَلا يَحْسَبَنَّ من قرأ بالياء فقوله: الَّذِينَ كَفَرُوا فاعل، و «أن» مع ما في حيزه ساد مسد مفعوليه. ومن قرأ بتاء الخطاب ف الَّذِينَ كَفَرُوا مفعول أول و «أن» مع ما في حيزه بدل منه. وصح الإبدال وإن لم يمض إلا أحد المفعولين لأن المبدل في حكم المنحي. ألا تراك تقول: جعلت متاعك بعضه فوق بعض. مع امتناع السكوت على متاعك؟ والتقدير: ولا تحسبن الذين كفروا أن إملائي خير لهم على أن «ما» مصدرية. ويجوز أن يقدر مضاف محذوف أي لا تحسبنهم أصحاب أن الإملاء خير لهم، أو لا تحسبن حال الذين كفروا أن الإملاء خير لأنفسهم. قال الأصمعي: يقال أملى عليه الزمان أي طال. وأملى له أي طوّل له وأمهله. قال أبو عبيدة: ومنه الملا للأرض الواسعة الطويلة، والملوان الليل والنهار.
ويقال: أقمت عنده ملاوة من الدهر أي حينا وبرهة. وإِثْماً نصب على التمييز. وفي(2/315)
وصف العذاب أوّلا بالعظم ثم بالألم ثم بالإهانة تدرج من الأهون إلى الأشق، وفيه من الوعيد والسخط ما لا يخفى. قالت الأشاعرة هاهنا: إن إطالة المدة من فعل الله لا محالة.
والآية دلت على أنها ليست بخير ففيه دلالة على أنه سبحانه فاعل الخير والشر. وأيضا إنه نص على أن الغرض من هذا الإملاء، أن يزدادوا إثما، فإذن الكفر والمعاصي بإرادة الله.
وأيضا أخبر عنهم أنه لا خير لهم فيه وأنهم لا يحصلون منه إلا على ازدياد الغي والإثم، والإتيان بخلاف خبر الله تعالى محال، فعلمنا أنهم مجبورون على ذلك في صورة مختارين.
أجابت المعتزلة بأن المراد أن هذا الإملاء ليس خيرا من موت الشهداء إذ الآية من تتمة قصة أحد، لا أنه ليس بخير مطلقا. وزيف بأن بناء المبالغة لا يجوز ذكره إلا مع المفضل عليه، لكنه لم يذكر فعلمنا أنه لنفي الخيرية لا لنفي كونه خيرا من شيء آخر، وعن الثاني أن ازدياد الإثم علة للإملاء وليس كل علة بغرض كقولك: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة. ومثله وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا [إبراهيم: 30] وهم ما فعلوا ذلك إلا ضلال. ويقال: ما كانت موعظتي لك إلا للزيادة في تماديك في الغي إذا كانت عاقبة الموعظة ذلك. ورد بأن حمل اللام على لام العاقبة عدول عن الظاهر، على أنا نعلم بالبرهان أن علمه تعالى بأنهم مزدادون إثما على تقدير الإمهال علة فاعلية لازديادهم إثما فكان تعالى فاعلا للازدياد ومريدا له. قالوا: في الكلام تقديم وتأخير وترتيبه: لا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم ليزدادوا إثما إنما نملي لهم خير لأنفسهم. ويعضده قراءة يحيى بن وثاب بكسر «إن» الأولى وفتح الثانية. وردّ بأن التقديم والتأخير خلاف الأصل، والقراءة الشاذة لا اعتداد بها مع أن الواحدي أنكرها. ثم إنه تعالى أخبر أنه لا يجوز في حكمته أن يترك المؤمنين على ما هم عليه من اختلاط المخلص بالمنافق، ولكنه يعزل أحد الجنسين عن الآخر بإلقاء الحوادث وإبداء الوقائع كما في قصة أحد.
لله در النائبات فإنها ... صدأ اللئام وصيقل الأحرار
فقال: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ اللام لتأكيد النفي والخطاب في أَنْتُمْ للمصدقين جميعا من أهل الإخلاص والنفاق. خوطبوا بأنه ما كان في حكمة الله أن يترك المخلصين منكم على الحال التي أنتم عليها من اختلاط بعضكم ببعض. وماز وميّز لغتان. مزت الشيء بعضه من بعض أميزه ميزا، وميّزته تمييزا.
وفي الحديث «من ماز أذى عن الطريق فهو له صدقة وحجة» «1»
ولفظ الطيب والخبيث وإن كان مفردا إلا أنه للجنس والمراد جميع
__________
(1)
رواه أحمد في مسنده (4/ 422، 423) بلفظ «أمز الأذى عن الطريق» عند ما طلب منه أبو برزة أن يحدثه بشيء ينفعه الله به.(2/316)
المنافقين من المؤمنين، وإنما قدم الخبيث على الطيب ليقع فعل الميز عليه ليعلم أنه المطرح من الشيئين الملقى لرداءته، فإن الميز يقع على الأدون والأهون. وبم يحصل هذا الميز؟ قيل: بالمحن والمصائب كالقتل والهزيمة وكما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخروج مع ما بهم من القروح، فبمثل ذلك يظهر الثابت من المتزلزل والساكن من المتقلقل. وقيل:
بإعلاء كلمة الدين وقلة شوكة المخالفين ليظهره على الدين كله. وقيل: بالوحي إلى نبيه ولهذا أردفه بقوله: وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي أي يصطفي ويختار مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ وبناء الكلام على ثلاث مراتب: الأولى أن هذا المنصب الذي استأثر الله تعالى بعلمه لا يليق بكل أحد منكم، وإنما هو مخصوص بالمصطفين من عبيده. الثانية أن الرسول أيضا لا يعلم المغيبات بأن يطلع عليها من تلقاء نفسه وبخاصية فيه، ولكنه إنما يعلم ذلك من طريق الوحي وإطلاع الله تعالى إياه عليه أن هذا مؤمن وذاك منافق. الثالثة أن هذا أيضا مختص ببعض الرسل وفي بعض الأوقات حسب مشيئته وإرادته. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ومن جملة الإيمان بالله أن تعتقدوه وحده علاما للغيوب، ومن جملة الإيمان بالرسل أن تنزلوهم منازلهم بأن تعلموهم عبيدا مصطفين لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى. ووجه النظم على القول الأول: لا تظنوا أن هذا التمييز يحصل بأن يطلعكم الله على غيبه ويقول إن فلانا مؤمن وفلانا منافق، فإن سنة الله جارية بأنه لا يطلع العوام على غيبه ولا يكون لهم سبيل إلى معرفة الأمور إلا بالامتحان والقرائن المفيدة للظن الغالب، ولكنه يصطفي من رسله من يشاء، فيعلمهم أن هذا مؤمن وذاك منافق ويختارهم للرسالة ووضع التكاليف الشاقة التي بمثلها يتميز الفريقان ويخلص أهل الوفاء من أهل الجفاء. أو المراد ما كان الله ليطلعكم كلكم عالمين بالغيب من حيث يعلم الرسول حتى تصيروا مستغنين عن الرسول، ولكنه يخص من يشاء بالرسالة ثم يكلف الباقين طاعة هؤلاء الرسل، فآمنوا بالله ورسله كلهم، لأن طريق ثبوت نبوّتهم واحد، فمن أقر بنبوّة واحد منهم لزمه الإقرار بنبوّة كلهم. ثم اتبعه الوعد بالثواب فقال: وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ
قال السدي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عرضت عليّ أمتي في صورها كما عرضت على آدم وأعلمت من يؤمن بي ومن يكفر» فبلغ ذلك المنافقين فاستهزؤا فقالوا: زعم محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ونحن معه ولا يعرفنا فأنزل الله ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ.
وقال الكلبي: قالت قريش: تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار والله عليه غضبان، وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض، فأخبرنا بمن يؤمن بك وبمن لا يؤمن بك فنزلت.
وقال أبو العالية: نزلت حين سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرقون بها بين المؤمن والمنافق.(2/317)
ثم إنه عز من قائل لما بالغ في التحريض على بذل النفس في الجهاد، حرض على بذل المال في سبيل الله فقال: ولا تحسبن الذين يبخلون من قرأ بتاء الخطاب قدر مضافا أي لا تحسبن بخل الذين يبخلون هو خيرا لهم، وكذا من قرأ بالياء وجعل فاعله ضمير النبي أو أحد. ومن جعل الموصول فاعلا فالمفعول الأول محذوف للدلالة. التقدير: ولا تحسبن هؤلاء بخلهم هو خيرا وهو صيغة الفصل. قال الواحدي: جمهور المفسرين على أن هذه الآية نزلت في مانعي الزكاة لترتب الوعيد عليه وسوق الكلام في معرض الذم، ولأن تارك التفضل لو عدّ بخيلا لم يتخلص الإنسان من البخل إلا بإخراج جميع المال. وفي حكم الزكاة سائر المصارف الواجبة كالإنفاق على النفس وعلى الأقربين الذين يلزمه مؤنتهم، وعلى المضطر، وفي الذب عن المسلمين إذا قصدهم عدوّ وتعين دفعهم بالمال. وروى عطية عن ابن عباس أنها نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته. وأراد بالبخل كتمان العلم الذي آتاهم الله، وعلى هذا يكون عودا إلى ما انجرّ منه الكلام إلى قصة أحد، وذلك هو شرح أحوال أهل الكتاب ويعضده أن كثيرا من آيات بقية السورة فيهم.
وعلى هذا التفسير فمعنى سَيُطَوَّقُونَ أن الله تعالى يجعل في رقابهم طوقا من النار
كقوله صلى الله عليه وسلم: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم بلجام من نار» «1»
والسر فيه أنهم لم ينطقوا بأفواههم وألسنتهم بما يدل على الحق. وعلى التفسير الأول فإما أن يكون محمولا على ظاهره وهو أن يجعل ما بخل به من الزكاة حية يطوّقها في عنقه تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه ويقول: أنا مالك.
عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم «ما من رجل له مال لا يؤدي حق ماله إلا جعل طوقا في عنقه شجاعا أقرع يفر منه وهو يتبعه» «2» . ثم قرأ مصداقه من كتاب الله عز وجل ولا تحسبن الذين يبخلون الآية.
وعن ابن عمر قال: قال صلى الله عليه وسلم: «إن الذين لا يؤدي زكاة ماله يخيل إليه ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان فيلزمه أي يطوّقه يقول: أنا كنزك» «3»
وأما أن يكون على طريق التمثيل لا على أن ثمة أطواقا أي سيلزمون إثمه في الآخرة إلزام الطوق. وفي أمثالهم «يقلدها طوق الحمامة» . إذا جاء بهنة يسب بها ويذم. وقال مجاهد: معناه سيكلفون أن يأتوا بما بخلوا به يوم القيامة. ونظيره ما روي عن
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب العلم باب 9. الترمذي في كتاب العلم باب 3. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 24. أحمد في مسنده (2/ 263، 305) .
(2) رواه النسائي في كتاب الزكاة باب 2.
(3) رواه البخاري في كتاب الزكاة باب 3. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 2. أحمد في مسنده (1/ 377) .(2/318)
ابن عباس أنه كان يقرأ وعلى الذين يطوّقونه فدية [البقرة: 184] قال المفسرون:
يكلفونه ولا يطيقونه أي يؤمرون بأداء ما منعوه حتى لا يمكنهم الإتيان به فيكون ذلك توبيخا على معنى هلا فعلتم ذلك حين كان ممكنا؟ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وله ما فيهما مما يتوارثه أهلهما من مال وغيره. فمالهم يبخلون عليه بملكه ولا ينفقونه في سبيله؟ ونظيره قوله: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد: 7] وقال كثير من المفسرين:
المقصود أنه يبطل ملك جميع المالكين إلا ملك الله فيصير كالميراث. قال ابن الأنباري:
يقال ورث فلان علم فلان إذا تفرد به بعد أن كان مشاركا له فيه. ومثله وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل: 16] أي انفرد بذلك الأمر بعد أن كان داود مشاركا له فيه أو غالبا عليه وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ من قرأ على الغيبة فظاهر، أي يجازيهم على منعهم الحقوق. ومن قرأ على الخطاب فللالتفات وهي أبلغ في الوعيد لأن الغضب كأنه تناهى إلى حد أقبل على الخطاب وشافه بالعتاب. ثم شرع في حكاية شبه الطاعنين في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. وذلك أنه لما أمر بالإنفاق في سبيل الله قالوا: لو كان محمد صادقا في أن الله تعالى يطلب منا المال فهو إذن فقير ونحن أغنياء، لكن الفقر على الله محال فمحمد غير صادق. وأيضا لو كان نبيا لكان إنما يطلب المال لأجل أن تجيء نار من السماء فتحرقه كما كان في الأزمنة السالفة، فلما لم يفعل ذلك عرفنا أنه ليس بنبي. فهذا بيان النظم وليس في الآية تعيين القائلين إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود لعنهم الله لقولهم في موضع آخر يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة: 64] عنوا أنه بخيل. وذلك الجهل يناسب هذا الجهل، ولأن التشبيه غالب عليهم، والقائل بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه تعالى قادرا على كل المقدورات، وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني، ولما
روى عكرمة ومحمد بن إسحق والسدي ومقاتل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وأن يقرضوا الله قرضا حسنا. فقال فنحاص بن عازوراء- وهو من علمائهم- أتزعم أن ربنا يستقرضنا أموالنا فهو إذن فقير ونحن أغنياء، فغضب أبوبكر ولطمه في وجهه وقال: لولا الذي بيننا وبينكم من العهد لضربت عنقك. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد انظر ما صنع بي صاحبك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ما الذي حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله إن عدوّ الله قال هكذا. فجحد ذلك فنحاص فنزلت هذه الآية تصديقا لأبي بكر.
وأيضا إن موسى لما طلب منهم الجهاد ببذل النفوس قالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا. فلا يبعد أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما طلب منهم الأموال قالوا له: لو كان الإله غنيا فأي حاجة إلى أموالنا. ثم إن القائل لو كان فنحاصا وحده فإنما(2/319)
يستقيم قوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا لأن أتباع الرجل والمقتدين به حكمهم حكمه.
ثم إنه تعالى لم يجبهم عن شبهتهم. أما على قواعد أهل السنة فبأن يقول يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد، فلا يبعد أن يأمر عبيده ببذل الأموال مع كونه أغنى الأغنياء. وأما على قوانين المعتزلة فبأن في هذا التكليف فوائد منها: إزالة حب المال عن القلب، ومنها التوسل إلى الثواب المخلد، ومنها تسخير البعض للبعض فبذلك ترتبط أمور التمدن وتنتظم أحوال صلاح المعاش والمعاد وإنما لم يجب لكثرة ورودها في القرآن لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة: 245] وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ [البقرة: 272] ولأن وجوب الوجود عبارة عن الغنى المطلق حتى لا يحتاج في ذاته ولا في شيء من صفاته ولا بجهة من جهاته إلى ما سوى ذاته. فمن اعترف بوجوب وجوده ثم شك في كمال غناه في وجوده فقد عاد بالنقض على موضوعه فلا يستحق الجواب عند أولي الألباب، وإنما يستأهل صنوفا من العتاب وضروبا من العذاب. فلهذا قال على جهة الوعيد سَنَكْتُبُ ما قالُوا في صحائف الحفظة، أو نستحفظه ونثبته في علمنا لا ننساه كما يثبت المكتوب فلا ينسى. وفي التفسير الكبير: سنكتب عنهم هذا الجهل في القرآن حتى يبقى على لسان الأمة إلى يوم القيامة. ثم عطف عليه قتلهم الأنبياء ليدل على أنهم كما لو يقدروا الله حق قدره حتى نسبوا إليه ما نسبوه، فكذلك لم يقضوا حقوق الأنبياء ففعلوا بهم ما فعلوا. وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ وهو من أسماء جهنم. «فعيل» بمعنى «مفعول» كالأليم بمعنى المؤلم. أو سميت باسم صاحبها أي ذات حرقة. والمعنى: ينتقم منهم فيقول لهم ذوقوا عذاب النار كما أذقتم المسلمين جرع الغصص. وهذا القول يحتمل أن يقال عند الموت، أو عند الحشر، أو عند قراءة الكتب. ويحتمل أن يكون كناية عن الوعيد وإن لم يكن ثمة قول. ذلِكَ العذاب أو الوعيد بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من السب والقتل. وذكر الأيدي لأن أكثر الأعمال يباشر باليد، فجعل كل عمل كالواقع بالأيدي على سبيل التغليب وإن كان بعضه باللسان أو بسائر الجوارح والآلات. وإنما جمع لأن المخاطب جمع ولو كان مفردا. قيل: بما قدمت يداك مثنى كما في سورة الحج. قال الجبائي: قوله: وَأَنَّ اللَّهَ أي وبأن الله ليس بظلام للعبيد، فيه دلالة على أن فعل العقاب بهم كان يكون ظلما بتقدير أن لا يقع منهم الذنوب. وفيه بطلان قول المجبرة أن الله يعذب الأطفال بغير جرم ويجوز أن يعذب البالغين بغير ذنب، ويدل على كون العبد فاعلا وإلا لكان الظلم حاصلا. والجواب أنه لم ينف الظلم عن نفسه بمعنى أن الجزاء إنما كان مرتبا على الذنب الصادر بكسب العبد وفعله فلا ظلم، بل بمعنى(2/320)
أنه مالك الملك، والمالك إذا تصرف في ملكه كيف شاء لم يكن ذلك ظلما. فخلق ذلك الفعل فيهم وترتيب العذاب عليه لا يكون ظلما. قيل: إنه نفى الظلم الكثير عن نفسه وذلك يوهم ثبوت أصل الظلم له، أجاب القاضي بأن العذاب الذي توعد بأن يفعل بهم لو كان ظلما لكان عظيما، فنفاه على حد عظمه لو كان ثابتا. وهذا يؤكد ما ذكر أن إيصال العقاب إليهم كان يكون ظلما عظيما لو لم يكونوا مذنبين. أقول: إنه تعالى نفى حقيقة الظلم عنه في قوله: وَما ظَلَمْناهُمْ [هود: 101] وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة: 281] وبحقيقة ما ذكرناه أنه مالك الكل له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء، ولكنه نفى هاهنا كثرة الشر والظلم أن يصدر عنه كأنه قال: إن خيّل إليكم أن في الوجود شرا بناء على ما في ظنكم من أن الحكيم قد يصدر عنه الشر القليل بتبعية الخير الكثير، فاعلموا أني منزه عن صدور الشر الكثير مني، وأن هذا من الشر القليل الذي في ضمنه خير كثير. ونقول: أراد نفي الشر القليل وأصل الظلم عنه، ولكن القليل من الظلم بالنسبة إلى رحمته الذاتية كثير، فلهذا عبر عنه بلفظ الكثرة والمبالغة. ثم قرر الشبهة الأخرى لهم فقال: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا
قال الكلبي: نزلت في كعب بن الأشرف ومالك بن الصيف ووهب بن يهودا وزيد بن التابوت وفنحاص بن عازوراء وحيي بن أخطب، أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: تزعم أن الله بعثك إلينا رسولا، وأنزل عليك الكتاب، وإن الله قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن جئتنا به صدقناك فنزلت.
قال عطاء: كانت بنو إسرائيل يذبحون لله فيأخذون الثروب وأطايب اللحم فيضعونها في وسط بيت والسقف مكشوف، فيقوم النبي في البيت ويناجي ربه وبنو إسرائيل خارجون واقفون حول البيت، فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف ولا دخان لها فتأكل ذلك القربان وهو البر الذي يتقرب به إلى الله. وأصله مصدر كالكفران والرجحان. ثم سمي به نفس المتقرب به إلى الله ومنه
قوله عليه السلام لكعب بن عجرة: «يا كعب، الصوم جنة والصلاة قربان» «1»
أي بها يتقرب إلى الله ويستشفع في الحاجة لديه. وللعلماء فيما ادعاه اليهود قولان: قال السدي: إن هذا الشرط جاء في التوراة مع الاستثناء. قال: من جاءكم يزعم أنه رسول الله فلا تصدقوه حتى يأتيكم بقربان تأكله النار إلا المسيح ومحمدا. فكانت هذه العادة جارية إلى مبعث المسيح ثم زالت. وقيل: إنه افتراء لأن المعجزات كلها في كونها خارقة للعادة وآية لصحة النبوة سواء، فأي فائدة في تخصيصها؟ ولأنه إما أن يكون في التوراة أن مدعي
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (3/ 321، 399) .(2/321)
النبوّة وإن جاء بجميع الآيات لا تقبلوا قوله إلا أن يجيء بهذه الآية المعينة، وحينئذ لا تكون سائر المعجزات دالة على الصدق، وإذا جاز الطعن فيها جاز في هذه. وإما أن يكون فيها أن مدعي النبوة يطالب بالمعجزة أية كانت. وحينئذ يكون طلب هذا المعجز المعين عبثا فلهذا نسبهم الله تعالى إلى الجحود والعناد فقال: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ أي بمدلوله ومؤدّاه فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنما الإيمان يجب عند الإتيان بالقربان. وإنما ذكر مجيء الرسل بالبينات ولم يقتصر على مجيء القربان ليتم الإلزام.
وذلك أن القوم يحتمل أن يقولوا إن الإتيان بهذا القربان شرط للنبوة لا موجب لها، والشرط يلزم من عدمه عدم المشروط لكن لا يلزم من وجوده وجود المشروط. فلو اكتفى بذكر القربان لم يتم الإلزام، وحيث أضاف إليه البينات ثبت أنهم أتوا بالموجب وبالشرط جميعا، فكان الإقرار بالنبوة واجبا. ثم سلى رسوله بقوله: فَإِنْ كَذَّبُوكَ في أصل الشريعة والنبوة أو في قولك إن الأنبياء الأقدمين جاؤهم بالبينات وبالقربان فقتلوهم. فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وأي رسل والمصيبة إذا عمت طابت جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وهي الحجج الواضحات والمعجزات الباهرات. والزبر هي الصحف جمع زبور بمعنى مزبور أي مكتوب. وقال الزجاج: الزبور كل كتاب ذي حكمة فيشبه أن يكون من الزبر بمعنى الزجر عن خلاف الحق وبه سمي زبور داود لما فيه من الزواجر والمواعظ والكتاب المنير الموضح أو الواضح المستنير. ويعلم من عطف الزبور والكتاب على البينات، أن معجزاتهم كانت مغايرة لكتبهم، وأنها لم تكن معجزة لهم والإعجاز من خواص القرآن. وعطف الكتاب المنير على الزبر لأن الكتاب بوصفه بالإثارة أو الاستنارة أشرف من مطلق الزبر فخص بعد العموم لشرفه مثل وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: 98] وقيل: المراد بالزبر الصحف، وبالكتاب المنير التوراة والإنجيل والزبور.
ثم أكد التسلية بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ لأن تذكر الموت واستحضاره مما يزيل الغموم والأشجان الدنيوية، وكذا العلم بأن وراء هذه الدار دارا يتميز فيها المحسن عن المسيء، ويرى كل منهما جزاء عمله. والمراد بكل نفس ذائقة الموت كل ذات. فالقضية لا يمكن إجراؤها على عمومها لاستثناء الله تعالى منها تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ [المائدة: 116] وكذا كل الجمادات لأن لها ذوات. ولقوله: فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [الزمر: 68] ولأنه لا موت ولا لأهل الجنة ولأهل النار. فالمراد المكلفون الحاضرون في دار التكليف، والملائكة عند من يجوّز الموت عليهم. روي عن ابن عباس: لما نزل قوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن:(2/322)
26] قالت الملائكة: مات أهل الأرض. فلما نزل كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ قالت الملائكة: متنا. وفي الآية دليل على أن المقتول ميت وعلى أن النفس باقية بعد البدن، لأن الذائق لا بد أن يكون باقيا حال حصول الذوق. قالت الحكماء: الموت واجب الحصول عند هذه الحياة الجسمانية لأنها لا تحصل إلا بالرطوبة الغريزية والحرارة الغريزية، ثم إن الحرارة الغريزية تؤثر في تقليل الرطوبة الغريزية. وإذا قلت: الرطوبة الغريزية ضعفت الحرارة الغريزية، ولا يزال تستمر هذه الحالة إلى أن تفنى الرطوبة الأصلية فتنطفىء الحرارة الغريزية ويحصل الموت، فبهذا الطريق كان الموت ضروريا في هذه الحياة. قالوا:
والأرواح المجردة لا موت لها، وناقشهم المسلمون فيه. وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ في ذكر التوفية إشارة إلى أن بعض الأجور يعطى قبل ذلك اليوم كما
قال صلى الله عليه وسلم: «القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار» .
فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ الزح التنحية والإبعاد والزحزحة تكريره فَقَدْ فازَ لم يقيد الفوز بشيء لأنه لا فوز وراء هذين الأمرين:
الخلاص من العذاب والوصول إلى الثواب. فمن حصل له هذان فقد فاز الفوز المطلق المتناول لكل ما يفاز به.
قال صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» «1»
فالأول رعاية حقوق الله، والثاني محافظة حقوق العباد. ثم شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ويغرّ حتى يشتريه ثم يتبين له فساده ورداءته، وذلك أن لذاتها تفنى وتبعاتها تبقى. والغرور بالضم مصدر، والغار المدلس هو الشيطان.
عن علي بن أبي طالب: لين مسها قاتل سمها.
وعن بعضهم: الدنيا ظاهرها مظنة السرور وباطنها مطية الشرور. وعن سعيد بن جبير: إنما هذا المن آثرها على الآخرة. فأما من طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ. لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ
اللام جواب القسم المقدر، والنون دخلت مؤكدة، وضمت الواو للساكنين ولما كان يجب لما قبلها من الضم. والمراد ما نالهم من الفقر والضر والقتل والجرح، والتكاليف الشاقة البدنية والمالية من الصلاة والزكاة والصوم والجهاد، والذي كانوا يسمعونه من الكفرة كالطعن في الدين الحنيف وأهليه، وإغراء المخالفين وتحريضهم عليهم وإغواء المنافقين وتنفيرهم عنهم وَإِنْ تَصْبِرُوا على ما ابتلاكم الله به وَتَتَّقُوا المخالفة أو تصبروا على أداء الواجبات وتتقوا ارتكاب المحظورات فَإِنَّ ذلِكَ الصبر والتقوى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ من معزوماتها الذي لا يترخص العاقل في تركه لكونه حميد العاقبة بين الصواب، أو هو من
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب 9. مسلم في كتاب الإمارة حديث 46. النسائي في كتاب البيعة باب 25. أحمد في مسنده (2/ 161، 191) .(2/323)
عزائم الله ومما ألزمكم الأخذ به. قال الواحدي: كان هذا قبل نزول آية القتال. وقال القفال: الظاهر أنها نزلت بعد قصة أحد فلا تكون منسوخة بآية السيف. والمراد الصبر على ما يؤذون به الرسول على طريق الأقوال الجارية فيما بينهم واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوال. والأمر بالقتال لا ينافي الأمر بالمصابرة على هذا الوجه. عن كعب بن مالك أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش في شعره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وأهلها أخلاط- المسلمون والمشركون واليهود- فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يستصلحهم كلهم. فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشد الأذى، فأمر الله نبيه بالصبر على ذلك فنزلت الآية.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن خزرج قبل وقعة بدر حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي وذلك قبل أن يسلم عبد الله. فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين واليهود، وفي المجلس عبد الله بن رواحة. فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمر عبد الله بن أبي أنفه بردائه وقال: لا تغبروا علينا. فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف. فنزل ودعاهم إلى الله وقرأ عليهم القرآن. فقال عبد الله بن أبي: أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا. ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد الله بن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك.
فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون. فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكنوا. ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على سعد بن عبادة فقال له: يا سعد ألم تسمع ما قال أبو حباب- يريد عبد لله بن أبي؟ قال: كذا وكذا. فقال سعد بن عبادة: يا رسول الله اعف عنه واصفح، فو الذي أنزل عليك الكتاب لقد جاء الله بالحق الذي نزل عليك، وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوّجوه ويعصبوه بالعصابة، فلما ردّ الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله هذه الآية.
ثم إنه تعالى عجب من حال اليهود أنه كيف يليق بحالهم إيراد الطعن في نبوته مع أن كتبهم ناطقة به- وأيضا من جملة إيذائهم الرسول أنهم كانوا يكتمون نعته وصفته فلهذا قال: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ بإضمار «اذكر» والضمير في لَتُبَيِّنُنَّهُ قيل لمحمد لأنه معلوم وإن كان غير مذكور أي لتبينن حاله وهذا قول سعيد بن جبير والسدي. وقال الحسن وقتادة: يعود إلى الكتاب كأنه أكد عليهم إيجاب بيان الكتاب واجتناب كتمانه كما يؤكد على الرجل إذا عزم عليه. وقيل له الله لتفعلن وَلا تَكْتُمُونَهُ قيل: الواو للحال أي غير كاتمين. ويحتمل أن تكون للعطف وإن لم يكن مؤكدا بالنون. والأمر بالبيان يتضمن النهي عن الكتمان، لكنه صرح به للتأكيد فَنَبَذُوهُ(2/324)
وَراءَ ظُهُورِهِمْ جعلوه كالشيء المطروح المتروك.
وعن علي رضي الله عنه: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا.
وقال قتادة: مثل علم لا يقال به كمثل كنز لا ينفق منه، ومثل حكمة لا تخرج كمثل صنم قائم لا يأكل ولا يشرب. طوبى لعالم ناطق ولمستمع واع، هذا علم علما فبذله، وهذا سمع خيرا فوعاه.
ومعنى قوله: وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا أنهم كتموا الحق ليتوسلوا به إلى وجدان حظ يسير من الدنيا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ هو ويدخل في الوعيد كل من كتم شيئا من أمر الدين لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة وتطييب لنفوسهم واستجلاب لمسارّهم واستجذاب لمبارّهم، أو لتقية من غير ضرورة، أو لبخل بالعلم وغيرة أن ينسب إلى غيره. ثم ذكر نوعا آخر من إيذاء اليهود وأوعدهم عليه وسلى رسوله بذلك فقال: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ من قرأ بتاء الخطاب وفتح الباء فالخطاب للرسول أو لكل أحد، وأحد المفعولين الَّذِينَ يَفْرَحُونَ والثاني بِمَفازَةٍ. وقوله: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ إعادة للعامل لطول الكلام وإفادة التأكيد. ومن ضم الباء في الثاني مع تاء فالخطاب للمؤمنين، ومن ضمها مع ياء الغيبة فالضمير للذين يفرحون، والمفعول الأول محذوف أي لا يحسبن أنفسهم الذين يفرحون فائزين، والثاني للتأكيد. ومعنى بِما أَتَوْا بما فعلوا. وأتى وجاء يستعملان بمعنى فعل. قال تعالى: إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا [مريم: 61] لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا [مريم: 27] . ومعنى بمفازة من العذاب بمنجاة منه أي بمكان الفوز. وقال الفراء: أي ببعد منه لأن الفوز التباعد عن المكروه. في الصحيحين أن مروان قال لرافع أبوابه: اذهب إلى ابن عباس وقل له: لئن كان كل امرئ منا فرح بما أتى وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذبا لنعذبن أجمعون. فقال ابن عباس: ما لكم ولهذه إنما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يهودا فسألهم عن شيء فكتموه إياه وأخبروه بغيره، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم إياه، ثم قرأ ابن عباس وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآيتين. وقال الضحاك: كتب يهود المدينة إلى يهود العراق واليمن ومن بلغهم كتاب من اليهود في الأرض كلها أن محمدا ليس نبي الله فأثبتوا على دينكم واجمعوا كلمتكم على ذلك. فاجتمعت كلمتكم على الكفر بمحمد والقرآن، ففرحوا بذلك وقالوا: الحمد لله الذي جمع كلمتنا ولم نتفرق ولم نترك ديننا ونحن أهل الصوم والصلاة، نحن أولياء الله. فذلك قول الله يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا
بما فعلوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فأنزل الله هذه الآية. يعني بما ذكروا من الصوم والصلاة والعبادة. وعن أبي سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه، فإذا قدم اعتذروا عنده وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا فأنزل الله هذه الآية. وهذه الوجوه كلها مشتركة في الإتيان بما لا ينبغي ومحبة(2/325)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195) لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
الحمد عليه ووصفه بسداد السيرة وحسن السريرة. ونحن إذا أنصفنا من أنفسنا وجدنا أكثر مجاري أمورنا على هذه الحالة، فنسأله العصمة والهداية. ثم ختم الكلام بقوله: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والغرض أنه كيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا القادر الغالب؟
التأويل:
هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ كل واحد من صفتي البخل والسخاء بمنزلة الإكسير حتى يجعل الخير شرا وبالعكس. سَيُطَوَّقُونَ شبه بالطوق لأنه يحيط بالقلب ومنه ينشأ معظم الصفات الذميمة كالحرص والحسد والحقد والعداوة والكبر والغضب والبخل
«حب الدنيا رأس كل خطيئة» .
وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الإنسان وارث الدنيا والآخرة أولئك هم الوارثون. والوارث إذا مات من غير وارث فميراثه لبيت المال. فالإشارة فيه أن من غلب عليه هذه الصفات ومات قلبه فقد بطل استعداد وراثته فميراثه لله إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ فيه أن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، فيعكس القضايا فيصف الرب بصفات العبد والعبد بصفات الرب وذلك لغلبة الصفات الذميمة واستيلاء سلطان الهوى والشيطان، فيقول تارة: أنا ربكم الأعلى، وتارة إن الله فقير ونحن أغنياء. بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قالت يهود صفات النفس البهيمية والسبعية والشيطانية لا ننقاد لرسول أي لخاطر رحماني أو إلهام رباني حتى يأتينا بقربان هو الدنيا وما فيها يجعلها نسيكة لله عز وجل، تأكله نار الله الموقدة التي تقدح من زناد محبتهم، فإن كثيرا من الطالبين الصادقين يجعلون الدنيا وما فيها قربانا لله فلا تأكله نار الله. قل يا وارد الحق قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي أي واردات الحق بالبينات بالحجج الباهرة وَبِالَّذِي قُلْتُمْ أي بجعل الدنيا قربانا فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ غلبتموهم ومحوتموهم حتى لم يبق أثر الواردات. كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ كلهم مستعدون للفناء في الله، ولا بد لها من موت. فمن كان موته بالأسباب تكون حياته بالأسباب، ومن كان فناؤه في الله يكون بقاؤه بالله. لَتُبْلَوُنَّ بالجهاد الأكبر وَلَتَسْمَعُنَّ من أهل العلم الظاهر ومن أهل الرياء أَذىً كَثِيراً بالغيبة والملامة والإنكار والاعتراض وَإِنْ تَصْبِرُوا على جهاد النفس وَتَتَّقُوا بالله عما سواه فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ أي من أمور أولي العزم فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف: 35] والله أعلم.
[سورة آل عمران (3) : الآيات 190 الى 200]
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)
فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)(2/326)
القراآت:
الْأَبْرارِ بالإمالة: أبو عمرو وحمزة غير خلاد ورجاء. والكسائي والنجاري عن ورش، وخلف وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. وكذلك كل ما تكرر فيه الراء غير ابن مجاهد والنقاش في جميع القرآن. وقتلوا وقاتلوا حمزة وعلي وخلف، وقرأ ابن كثير وابن عامر وَقُتِلُوا مشددا. الباقون: وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا مخففا. لا يَغُرَّنَّكَ بالنون الخفيفة: رويس. الباقون بالتشديد نُزُلًا حيث كان بالاختلاس عباس.
الوقوف:
الْأَلْبابِ ج لاحتمال الذين صفة أو مستأنفا نصبا أو رفعا على المدح بتقدير أعني الذين أو هم الذين والوصل أشهر. وَالْأَرْضِ ج لحق المحذوف أي يقولون ربنا. باطِلًا ج للابتداء بسبحانك تعظيما وإلا فالقول متحد وفاء التعقيب متعقب.
النَّارَ هـ أَخْزَيْتَهُ ط أَنْصارٍ هـ فَآمَنَّا قف قتيل: والوصل أولى لأن كلمة رَبَّنا تكرار لمزيد الابتهال، وقوله: فَاغْفِرْ لَنا معطوف على فَآمَنَّا أي إذا آمنا فاغفر.
الْأَبْرارِ هـ ج للآية وللعطف. يَوْمَ الْقِيامَةِ ط الْمِيعادَ هـ أُنْثى ج لاتحاد الكلام وإلا فبعضكم مبتدأ مِنْ بَعْضٍ ج الْأَنْهارُ ز لأن ثَواباً مفعول له أو مصدر. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ط الثَّوابِ هـ الْبِلادِ
هـ ط لأن التقدير لهم متاع أو ذلك متاع. جَهَنَّمُ ط الْمِهادُ هـ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ط لِلْأَبْرارِ هـ لِلَّهِ لا لأن ما بعده حال آخر. قَلِيلًا ط عِنْدَ رَبِّهِمْ ط الْحِسابِ هـ تُفْلِحُونَ هـ.
التفسير:
إنه لما طال الكلام في تقرير القصص والأحكام عاد إلى ما هو الغرض(2/327)
الأصلي من هذا الكتاب الكريم وهو جذب القلوب والإسرار بذكر ما يدل على التوحيد والكبرياء،
عن ابن عمر قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبكت وأطالت ثم قالت: كل أمره عجب. أتاني في ليلتي فدخل في لحافي، حتى ألصق جلده بجلدي ثم قال: يا عائشة، هل لك أن تأذني لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت: يا رسول الله إني لأحب قربك وأحب هواك قد أذنت لك. فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر من صب الماء، ثم قام يصلي فقرأ من القرآن وجعل يبكي حتى بلغ الدموع حقويه، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه وجعل يبكي ثم رفع يديه فجعل يبكي حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض. فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة فرآه يبكي فقال له: يا رسول الله أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال، أفلا أكون عبدا شكورا؟. ثم قال: وما لي لا أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها.
وعن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.
واعلم أنه ذكر في سورة البقرة أن في خلق السموات والأرض إلى أن عد ثمانية دلائل، وهاهنا اقتصر منها على الثلاثة الأول تنبيها على أن العارف بعد استكمال المعرفة لا بد له من تقليل الدلائل ليكمل له الاستغراق في معرفة المدلول، فإن البصيرة إذا التفتت إلى معقول عسر عليها الالتفات إلى آخر كالبصر إذا حدّق إلى مرئي امتنع تحديقه نحو آخر، وإليه الإشارة بقوله: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ [طه: 12] يعني المقدمتين اللتين وصلت بهما الى النتيجة وهو وادي قدس الوحدانية. وإنما وقع الاقتصار على الدلائل السماوية لأنها أقهر وأبهر، والعجائب فيها أكثر، وانتقال النفس منها إلى عظمة الله أيسر. وإنما قال في تلك السورة لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة: 164] وفي هذه السورة لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ لأن العقل له ظاهر ولب، ففي أول الأمر يكون عقلا وفي كمال الحال يكون لبا. وباقي التفسير قد مر هناك. ثم بعد دلائل الإلهية ذكر وظائف العبودية وهي أن يكون باللسان وسائر الأركان وبالجنان مع الرحمن. فقوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إشارة إلى عبودية اللسان. وقوله: قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وهو في موضع حال آخر أي معتمدين على الجنب إشارة إلى عبودية سائر الجوارح والأركان.
والمراد أنهم ذاكرون في أغلب أحوالهم كما
قال صلى الله عليه وسلم «من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله» «1» .
وقيل: المراد بالذكر هاهنا الصلاة أي يصلون في حال القيام فإن عجزوا
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 82.(2/328)
ففي حال القعود، فإن عجزوا ففي حال الاعتماد. وهذا موافق لمذهب الشافعي في ترتيب صلاة المريض العاجز ويوافق بحثا طبيا، وهو أن الاستلقاء يمنع من استكمال الفكر والتدبر بخلاف الاضطجاع على الجنب. والصلاة إذا كانت عن فكر وتدبر كانت أولى، ولأن الاستغراق في النوم يكون في هيئة الاستلقاء أكثر فذاك وضع الغافلين. وقال أبو حنيفة:
بل يصلي مستلقيا إن عجز عن القعود حتى لو وجد خفة قعد. وقوله: وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إشارة إلى عمل الجنان. وقد عرفت معنى الفكر في البحث الخامس من تفسير قوله: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ [البقرة: 31] وإنما لم يقل و «يتفكرون في الله» كما قال: يَذْكُرُونَ اللَّهَ
لقوله صلى الله عليه وسلم: «تفكروا في الخلق ولا تتفكروا في الخالق»
والسبب فيه أن الاستدلال بالخلق على الخالق لا يمكن وقوعه على نعت المماثلة وإنما يمكن على نعت المخالفة، فإنا نستدل بحدوث هذه المحسوسات على قدم خالقها، وبإمكانها على وجوبه، وبافتقارها على غناه. فالفكر في المخلوقات ممكن وفي الخالق غير ممكن، كيف وإن الفكر ترتيب المقدمات على وجه منتج، والمقدمة لها موضوع ومحمول لا بد من تصورهما، وتصوره سبحانه محال لأن تصور الشيء عبارة عن حصول صورته في النفس، فتكون الصورة محاطة والنفس محيطة بها، ولا يحيط بالواجب شيء ألا إنه بكل شيء محيط، لكنه إذا تفكر في مخلوقاته ولا سيما السموات مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم، وإلى الأرض مع ما عليها من البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان، عرف أوّلا أن لها ربا وصانعا فيقول: رَبَّنا. ثم يعترف بأن في كل من ذلك حكما ومقاصد وفوائد لا يحيط بتفاصيلها إلا موجدها فيقول: ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ثم إذا قاس أحوال هذه المصنوعات إلى صانعها علم أن ذاته تعالى منزه عن مشابهة شيء من هذه المصنوعات فيعلم أنه ليس بجوهر ولا عرض ولا مركب ولا مؤلف ولا في حيز وجهة فيقول: سُبْحانَكَ أي أنزهك عما لا يليق بك من مناسبة الجواهر والأعراض. ثم إذا بلغ من الاستغراق في بحار العظمة والجلال هذا المبلغ وجد نفسه ذرة من ذرات الكائنات واقعة في حضيض عالم البشرية محاطة بالطبائع والأركان، فيتضرع إلى خالق السموات والأرض أن يخلصه من قيد العناصر ويعرج به من الأرض ويقيه عذاب كرة النار ويوصله إلى معارج السموات وذلك قوله فَقِنا عَذابَ النَّارِ، ثم ذكر سبب الاستعاذة من النار بقوله: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي أبلغت في إخزائه نظيره قوله: فَقَدْ فازَ [آل عمران: 185] وفي كلامهم: من أدرك مرعى الصمان فقد أدرك. ثم توسل إلى ما سأل بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وذلك قوله:
رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً الآية. فهذا بيان وجه النظم في هذه الكلمات والآيات على وجه(2/329)
«ألقى في روعي» «1»
والله أعلم بأسرار كلامه.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى النجوم وإلى السماء فقال: أشهد أن لك ربا وخالقا اللهم اغفر لي فنظر الله إليه فغفر له» .
وعنه صلى الله عليه وسلم: «لا تفضلوني على يونس بن متى فإنه كان يرفع له في كل يوم مثل عمل أهل الأرض»
قالوا: وإنما كان ذلك التفكر في أمر الله الذي هو عمل القلب لأن أحدا لا يقدر على أن يعمل بجوارحه في اليوم مثل عمل أهل الأرض.
وعنه صلى الله عليه وسلم: «لا عبادة كالتفكر» .
وهذا إشارة إلى لفظ الخلق على أنه بمعنى المخلوق أو إلى السموات والأرض بتأويل المخلوق. وفي كلمة هذا ضرب من التعظيم كأنه لعظم شأنه معقود به الهمم حتى صار حاضرا في خزانه الخيال. وباطِلًا نصب على المصدر أي خلقا باطلا أو على الحال، وقيل. بنزع الخافص أي بالباطل أو للباطل. قالت المعتزلة: فيه دليل على أن كل ما يفعله الله تعالى فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبد ولأجل حكمة وغاية. وقوله:
سُبْحانَكَ جملة معترضة تنزيها له من العبث وأن يخلق شيئا بغير حكمة. فوجه النظم في قوله: فَقِنا عَذابَ النَّارِ أن الحكمة في خلق الأرض والسموات أن يجعلها مساكن للمكلفين وأدلة لهم على معرفته ووجوب طاعته واجتناب معصيته، والنار جزاء من عصى ولم يطع. وقالت الأشاعرة: الدليل الدال على أن أحد طرفي الممكن لا يترجح إلا بمرجح عام، وذلك المرجح لا بد أن ينتهي إلى الله تعالى، فإذن الخير والشر والأفعال كلها بقضاء الله وقدره، فلا يمكن أن تعلل أفعال الله بمصالح العباد بل له أن يتصرف في ملكه كيف يشاء. والباطل في اللغة الذاهب الزائل الذي لا يكون له قوّة ولا صلابة فيكون بصدد التلاشي والاضمحلال. والمراد أن خلقهما خلق محكم متقن كقوله: وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً [النبأ: 12] هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ [الملك: 3] . ومعنى سُبْحانَكَ أنك وإن خلقتهما في غاية شدة التركيب وبصدد البقاء إلا أنك غني عن الاحتياج إليهما، منزه عن الانتفاع بهما. ثم لما وصف ذاته تعالى بالغنى أقر لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة فقال فَقِنا عَذابَ النَّارِ واحتج حكماء الإسلام بالآية على أنه سبحانه خلق الأفلاك والكواكب وأودع في كل واحد منها قوى مخصوصة، وجعلها بحيث يحصل من حركتها واتصال بعضها ببعض مصالح هذا العالم ومنافع قطان العالم السفلي. قالوا: لأنها لو لم تكن كذلك لكانت باطلة، ولا يمكن أن تقصر منافعها على الاستدلال بها على الصانع لأن كل ذرة من ذرات الهواء والماء يشاركها في ذلك، فلا تبقى لخصوصياتها فائدة وهو خلاف النص. وناقشهم المتكلمون في ذلك وقالوا: إن الفلكيات أسباب للأرضيات على مجرى
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث 64. أحمد في مسنده (3/ 50) .(2/330)
العادة لا على سبيل الحقيقة. والإنصاف في هذا المقام أن وجود الوسائط لا ينافي استناد الكل إلى مسبب الأسباب، وأن كون أفعال الله تعالى مستتبعة لمصالح العباد لا ينافي جريان الأمور كلها بقضائه وقدره. ثم إنهم لما سألوا ربهم أن يقيهم عذاب النار أتبعوا ذلك ما يدل على عظم ذلك العقاب وهو الإخزاء ليدل على شدة إخلاصهم وجدهم في الهرب من ذلك فيكون أقرب إلى الاستجابة، كما أنهم قدموا الثناء على الله بقولهم: سُبْحانَكَ على الطلب ليكون أقرب إلى الأدب وأحرى بالإجابة، وكل ذلك تعليم من الله تعالى عباده في حسن الطلب. قال الواحدي: الإخزاء جاء لمعان متقاربة. عن الزجاج: أخزى الله العدوّ أي أبعده. وقيل: أهانه. وقيل: فضحه. وقيل: أهلكه. وقال ابن الأنباري: الخزي في اللغة الهلاك بتلف أو انقطاع حجة أو بوقوع في بلاء. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن صاحب الكبيرة من أهل الصلاة ليس بمؤمن لأنه إذا دخل النار فقد أخزاه الله والمؤمن لا يخزى لقوله: يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ [التحريم: 8] وأجيب بأنه لا يلزم من أن لا يكون من أمن وهو مع النبي صلى الله عليه وسلم مخزي أن لا يكون غيره وهو مؤمن مخزي.
وأيضا الآية ليست على عمومها لقوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا [مريم: 71] فثبت أن كل من دخل النار فإنه ليس بمخزي. وعن سعيد بن المسيب والثوري أن هذا في حق الكفار الذين أدخلوا النار للخلود. وأيضا إنه مخزي حال دخوله وإن كانت عاقبته الخروج. وقوله: يَوْمَ لا يُخْزِي [التحريم: 8] نفى الخزي على الإطلاق والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة وهي نفي الخزي المخلد.
ويحتمل أن يقال: الإخزاء مشترك بين التخجيل وبين الإهلاك، وإذا كان المثبت هو الأول والمنفي هو الثاني لم يلزم التنافي. واحتجت المرجئة بالآية على أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار لأنه مؤمن لقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [البقرة: 178] ولقوله: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] والمؤمن لا يخزى لقوله:
يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ [التحريم: 8] والمدخل في النار مخزي بهذه الآية، والمقدمات بأسرها يدخلها المنع. أما الأولى فباحتمال أن لا يسمى بعد القتل مؤمنا وإن كان قبله مؤمنا، وأما الأخريان فبخصوص المحمول وجزئية الموضوع كما تقرر آنفا. وقد يتمسك حكماء الإسلام بهذا في أن العذاب الروحاني أشد لأنه بين سبب الاستعاذة بالإخزاء الذي هو التخجيل وهو أمر نفساني. وقد يتمسك المعتزلة بقوله: وَما لِلظَّالِمِينَ أي الداخلين في النار مِنْ أَنْصارٍ أي في نفي الشفاعة للفساق لأنها نوع نصرة، ونفي الجنس يقتضي نفي النوع. والجواب أن الظالم على الإطلاق هو الكافر لقوله: وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ في(2/331)
[البقرة: 254] وأيضا لا تأثير للشفاعة إلا بإذن الله فيؤل معنى الآية إلى أن الأمر يومئذ لله.
وعلى هذا ففائدة تخصيص الظالمين بهذا الحكم أنه وعد المتقين الفوز فلهم هذه الحجة بخلاف الفساق. وأيضا أدلة الشفاعة مخصصة لعموم الآية. قالوا: الفاسق لا يخرج من النار وإلا كان مخرجه ناصرا له. وعورض بالآيات الدالة على العفو رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي تقول: سمعت رجلا يتكلم بكذا فتوقع الفعل على الرجل وتحذف المسموع اكتفاء بما وصفته به، أو جعلته حالا عنه. والمنادي عند الأكثرين هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ [النحل: 125] أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ [يوسف: 108] وَداعِياً إِلَى اللَّهِ [الأحزاب: 46] وقيل: القرآن كما نسب إليه الهداية في قوله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي [الإسراء: 9] كأنه يدعو إلى نفسه وينادي بما فيه من الدلائل كما قيل في جهنم تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى [المعارج: 17] والفصحاء يصفون الدهر بأنه ينادي ويعظ لدلالة تصاريفه قال:
يا واضع الميت في قبره ... خاطبك الدهر فلم تسمع
ويقال: ينادي إلى كذا ولكذا ودعاه إليه وله وهداه للطريق وإليه فيقام كل من اللام و «إلى» مقام الأخرى نظرا إلى وقوع معنى الانتهاء والاختصاص معا. وقال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير أي سمعنا مناديا للإيمان ينادي كما يقال: جاء مناد للأمير فنادى بكذا. وقيل: معناه لأجل الإيمان. ولهذا الغرض فسر بقوله: أَنْ آمِنُوا و «أن» مفسرة أو مخففة معناه أي آمنوا أو بأن آمنوا. والفائدة في الجمع بين المنادى وينادي للإيمان هي فائدة الإطلاق ثم التقييد والإجمال ثم التفصيل من رفع شأن المطلق والمجمل، وكونه حينئذ أوقع في النفس وأعز. فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا أصل الغفر والتكفير كلاهما الستر والتغطية. وأما الذنوب والسيئات فقيل: هما واحد والتكرار للتأكيد والإلحاح، إن الله يحب الملحين في الدعاء. وقيل: الأوّل الكبائر والثاني الصغائر. وقيل: الأوّل أريد به ما تقدم منهم، والثاني المستأنف. وقيل: الأول ما أتى به الإنسان مع العلم بكونه معصية وذنبا، والثاني ما أتى به مع الجهل بكونه ذنبا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ أي معدودين منهم ومن أتباعهم أو مشاركين لهم في الثواب أو على مثل أعمالهم ودرجاتهم كقول الرجل: أنا مع الشافعي في هذه المسألة أي مساو له في ذلك الاعتقاد. احتجت الأشاعرة بالآية على أن العفو غير مشروط بالتوبة لأنهم طلبوا المغفرة بدون ذكر التوبة بل بدون التوبة بدلالة فاء التعقيب في فَاغْفِرْ بعد قولهم: فَآمَنَّا. ثم إنه تعالى أجابهم إلى ذلك بقوله: فَاسْتَجابَ لَهُمْ ويعلم منه ثبوت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكبائر بالطريق الأولى. رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا(2/332)
عَلى رُسُلِكَ أي على تصديق رسلك لأنها مذكورة عقيب ذكر المنادي للإيمان وهو الرسول، وعقيب قوله: فَآمَنَّا وهو التصديق، فتكون على صلة للوعد كقولك: وعد الله الجنة على الطاعة. ويحتمل أن يتعلق بمحذوف أي ما وعدتنا منزلا على رسلك أو محمولا على رسلك لأن الرسل يحملون ذلك فإنما عليه ما حمل. وقيل: على ألسنة رسلك والمتعلق كما ذكر والموعود هو الثواب. وقيل: النصر على الأعداء. وإنما دعوا الله بإنجاز ما وعد مع علمهم بأنه لا يخلف الميعاد كما صرحوا به في آخر الأدعية، لأن معظم الغرض من الدعاء إظهار سيما العبودية. أو المراد وفقنا للأعمال التي بها نصير أهلا لوعدك، واعصمنا عما بها نكون أهلا لإخزائك، أو طلبوا تعجيل النصرة على الأعداء. أو المراد احفظ علينا أسباب إنجاز الميعاد. وقيل: فيه دليل على أنهم طلبوا منافع الآخرة بحكم الوعد لا بحكم الاستحقاق. ثم إن الثواب منفعة مقرونة بالتعظيم فلهذا ختموا الأدعية بقولهم وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ لأن التخجيل والتفضيح يكدّر صفو كل منّ وعطاء.
والحاصل من هذه الآيات أنهم نظروا في المصنوع فعرفوا منه الصانع فقالوا: رَبَّنا ثم تفكروا في عجيب خلقه وبديع شكله فعرفوا أن صانعه حكيم والحكيم لا تخلو أفعاله من الفوائد والغايات وإن لم يكن مستكملا بها فقالوا: ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ثم تأملوا في غاية الغايات ونهاية الحركات فوجدوها الإنسان المكلف على ألسنة الرسل، ووجدوا عاقبة التكليف الجنة أو النار فتضرعوا إلى معبودهم في توفيق الوصول إلى الجنة والخلاص من النار، ولأن دفع الضرر أهم من جلب المنفعة فجعلوا أول دعائهم وآخره الاستعاذة من العذاب، ولأن العذاب الروحاني عند العقلاء أشد من العذاب الجسماني فلا جرم وقع الختم على الاستعاذة من الإخزاء، اللهم شاركنا في هذا الدعاء واجعلنا من السعداء المتفكرين في ملكوت الأرض والسماء إنك واهب العطاء وكاشف الغطاء. عن جعفر الصادق: من حزبه أمر فقال خمس مرات «ربنا» أنجاه الله مما يخاف، وأعطاه ما أراد لأن الله تعالى حكى عنهم في هذه الآيات أنهم قالوا خمس مرات «ربنا» ثم قال: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أي أجابهم أَنِّي أي بأني لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى «من» في مِنْكُمْ للتبعيض.
لأن كل عامل فرد من أفراد المخاطبين وفي «من» ذكر للتبيين لأن العامل إما ذكر وإما أنثى.
وإضاعة العمل عبارة عن إضاعة ثوابه بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي يجمع ذكوركم وإناثكم أصل واحد، فكل واحد منكم من الآخر أي من أصله. أو المراد بعضكم كأنه من البعض الآخر لفرط اتصالكم واتحادكم كما يقال: فلان مني أي على خلقي وسيرتي.
قال صلى الله عليه وسلم: «من غشنا فليس منا» .
وقيل: المراد وصلة الإسلام. وهذه جملة معترضة بيّن بها شركة النساء مع(2/333)
الرجال فيما يرجع إلى استحقاق الثواب على العمل.
روي أن أم سلمة قالت: يا رسول الله إني أسمع الله يذكر الرجال في الهجرة ولا يذكر النساء فنزلت.
ثم فصل عمل العامل منهم تفخيما لشأن العمل وتنويها بذكره فقال: فَالَّذِينَ هاجَرُوا أوطانهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم أو بعده باختيارهم وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ألجأهم الكفار إلى الخروج وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي يريد طريق الدين وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا من قرأ بالتشديد فللتكثير وتكرر القتل فيهم. وقيل: أي قطعوا. ومن قرأ قتلوا وقاتلوا فإما لأن الواو لا تفيد الترتيب والترتيب الطبيعي: قاتلوا حتى قتلوا. وإما من قولهم: قتلنا ورب الكعبة إذا ظهرت أمارات القتل وإذا قتل قومه وعشيرته. وإما بإضمار «قد» أي قتلوا وقد قاتلوا لَأُكَفِّرَنَّ جواب للقسم المقدر عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وهو الذي طلبوه بقولهم: رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهو الذي طلبوه بقولهم رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وهو الذي طلبوه من الثواب المقرون بالتعظيم بقولهم: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي ثوابا يختص به وبقدرته وبفضله لا يثيبه غيره ولا يقدر عليه. يقول الرجل: عندي ما تريد أنا مختص به وبملكه وإن لم يكن بحضرته. وثَواباً نصب على المصدر المؤكد أي إثابة أو تثويبا من عنده لأن قوله: لَأُكَفِّرَنَّ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ في معنى لأثيبنهم. وقال الكسائي: هو منصوب على القطع أي على الحال. وقال الفراء: نصب على التفسير كقولك: هو لك هبة أو بيعا أو صدقة. ثم ختم بقوله: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ لأنه القادر على كل المقدورات، العالم بكل المعلومات، القاضي جميع الحاجات. وفي تعليقه حسن الإثابة على احتمال المشاق في دينه والصبر على صعوبة تكاليفه دليل على أن حكمة الله تعالى اقتضت نوط الثواب والجنة بالعمل حتى لا يتكل الناس على فضله بالكلية، ولا يهملوا جانب العمل رأسا. عن الحسن: أخبر الله تعالى أنه استجاب لهم إلا أنه أتبع ذلك رافع الدعاء وما يستجاب به، فلا بد له من تقديمه بين يدي الدعاء يعني قوله:
وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10] ثم إنه تعالى لما وعد المؤمنين الثواب العظيم وكانوا في الدنيا في غاية الفقر والشدة، والكفار كانوا في التنعم، أراد أن يسليهم ويصبرهم فقال:
لا يَغُرَّنَّكَ والخطاب لكل مكلف يسمعه أي لا يغرنك أيها السامع أو للرسول والمراد الأمة. قال قتادة: والله ما غرّوا نبي الله حتى قبضه الله أوله. والمراد هو فلعل السبب في عدم اغتراره هو تواتر أمثال هذه الآيات عليه. قيل: إن مشركي مكة كانوا يتجرون ويتنعمون، فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما نرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد فنزلت. وقيل: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال فنزلت. والمراد بتقلبهم(2/334)
تبسطهم وتصرفهم في المكاسب والمزارع والمتاجر ذلك التقلب أو الكسب والربح مَتاعٌ قَلِيلٌ في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة، أو في جنب ما وعد الله المؤمنين من الثواب، أو هو قليل في نفسه إذ لا نسبة لمدته إلى ما بين أمدي الأزل والأبد، ومع قلته سبب للوقوع في نار جهنم أبد الآبدين. والنعمة القليلة إذا كانت سببا للمضرة العظيمة لم تكن في الحقيقة نعمة ولهذا استدرك وقال لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا الآية، ويدخل في التقوى الأوامر والنواهي.
والنزل ما يعدّ للضيف ويعجل، ومن هنا تمسك به بعض الأصحاب في الرؤية لأنه لما كانت الجنة بكليتها نزلا فلا بد من شيء آخر يكون أصلا بالنسبة إليها. قلت: ويحتمل أن يكون قوله: وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ [النحل: 96] إشارة إليه وهو مقام العندية والقرب الذي لا يوازيه شيء من نعيم الجنة. وقيل: المعنى وما عند الله من الكثير الدائم خير للأبرار مما يتقلب فيه الفجار من القليل الزائل، وانتصاب نُزُلًا على الحال من جَنَّاتٌ لتخصيصها بالوصف، والعامل معنى الاستقرار في لهم، أو هو مصدر مؤكد كأنه قيل: رزقا أو عطاء، أو نصب على التفسير كما قلنا في ثَواباً. ثم إنه تعالى لما ذكر حال المؤمنين وكان قد ذكر حال الكفار بين حال مؤمني أهل الكتاب كلهم فقال: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وهذا قول مجاهد. وقال ابن جريج وابن زيد: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه. وقيل: في أربعين من أهل نجران واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى عليه السلام فأسلموا.
وعن جابر بن عبد الله وأنس وابن عباس وقتادة: نزلت في النجاشي لما مات نعاه جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأصحاب:
اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم. قالوا: ومن هو؟. قال: النجاشي. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له، وقال لأصحابه: استغفروا له. فقال المنافقون:
انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله هذه الآية.
واللام في لَمَنْ يُؤْمِنُ لام الابتداء الذي يدخل على خبر «إن» أو على اسمه عند الفصل كما في الآية. والمراد ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ القرآن وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ الكتابان وخاشِعِينَ لِلَّهِ حال من فاعل يؤمن لأن «من» في معنى الجمع فحمل على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا كما يفعله من لم يسلم من أحبارهم ورؤسائهم أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا يخفى فخامة شأن هذا الوعد حسبما أشار إليه بقوله: إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لأنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل المقدورات فيعلم ويعطي ما لكل أحد من جزاء الحسنات والسيئات. أو المراد سرعة موعد حسابه(2/335)
فتكون فيه بشارة بسرعة حصول الأجر. ثم ختم السورة بآية جامعة لأسباب سعادة الدارين، وذلك أن أحوال الإنسان قسمان: الأول ما يتعلق به وحده فأمر فيه بالصبر ويندرج فيه الصبر على مشقة النظر والاستدلال في معرفة التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، والصبر على أداء الواجبات والمندوبات والاحتراز عن المنهيات، والصبر على شدائد الدنيا وآفاتها ومخاوفها. الثاني ما يتعلق بالمشاركة مع أهل المنزل أو المدينة فأمر فيه بالمصابرة، ويدخل فيه تحمل الأخلاق الرديئة من الأقارب والأجانب، وترك الانتقام منهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد مع أعداء الدين بالحجة وبالسيف وباللسان أو بالسنان. ثم إنه لا بد للإنسان في تكلف أقسام الصبر والمصابرة من قهر القوى النفسانية البهيمية والسبعية الباعثة على أضداد ذلك، فأمر بالمرابطة من الربط الشدّ. فكل من صبر على أمر فقد ربط قلبه عليه وألزم نفسه إياه. ثم لا بد في جميع الأعمال والأقوال من ملاحظة جانب الحق حتى يكون معتدا بها، فلهذا أمر بتقوى الله. ثم لما تمت وظائف العبودية ختم الكلام على وظيفة الربوبية وهو رجاء الفلاح منه، فظهر أن هذه الآية مشتملة على كنوز الحكم والمعارف وجامعة لآداب الدين والدنيا. ثم إنها على اختصارها كالإعادة لما تقدم في هذه السورة من الأصول وهي: تقرير التوحيد والعدل والنبوّة والمعاد. ومن الفروع كأحكام الحج والزكاة والجهاد. وعن الحسن اصْبِرُوا على دينكم فلا تتركوه بسبب الفقر والجوع وَصابِرُوا عدوّكم فلا تفشلوا بسبب ما أصابكم يوم أحد. وقال الفراء: اصبروا مع نبيكم وصابروا عدوكم، فلا ينبغي أن يكونوا أصبر منكم. وقال الأصم: لما كثرت تكاليف الله تعالى في هذه السورة أمرهم بالصبر عليها. ولما كثر ترغيب الله تعالى في الجهاد فيها أمرهم بالمصابرة مع الأعداء. أما المرابطة ففيها قولان: أحدهما أن يربط هؤلاء خيولهم في الثغور ويربط أولئك أيضا خيولهم بحيث يكون كل واحد من الخصمين مستعدا لقتال الآخر قال تعالى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ [الأنفال: 60]
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «من رابط يوما وليلة في سبيل الله كان كعدل صيام شهر وقيامه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إلا لحاجة» «1»
وثانيهما أنها انتظار الصلاة بعد الصلاة لما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أنه قال: لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، ولكن انتظار الصلاة خلف الصلاة. وفي حديث أبي هريرة ذكر انتظار الصلاة بعد الصلاة ثم قال:
فذلك الرباط ثلاث مرات والله أعلم.
__________
(1) رواه النسائي في كتاب الجهاد باب 39. الترمذي في كتاب فضائل الجهاد باب 25. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 7. أحمد في مسنده (5/ 440، 441) .(2/336)
التأويل:
إن في خلق سموات القلوب وأطوارها، وخلق أرض النفوس وقرارها، واختلاف ليل البشرية وصفاتها، ونهار الروحانية وأنوارها، لآيات لأولي الألباب. الذين عبروا بقدمي الذكر والفكر عن قشر الوجود الجسماني، ووصلوا إلى لب الوجود الروحاني، فشاهدوا بعيون البصائر ونواظر الضمائر أن لهم وللعالم إلها قادرا حيا عليما سميعا بصيرا متكلما مريدا باقيا. وإنما نالوا هذه المراتب لأنهم يذكرون الله في جميع الأحوال بالظاهر والباطن، ويتفكرون في خلق المصنوعات من البسائط والمركبات، ويقولون ما خلقت هذا باطلا أي خلقته إظهارا للحق على الخلق، ووسيلة للخلق إلى الحق. سبحانك تنزيها للحق عن الشبه بالخلق، فَقِنا باعد عنا عذاب نار قهرك والبعد عنك، ففيها كل الخزي والندامة والغواية والضلالة. ثم أخبر عن شرط العبودية في استجلاب فضل الربوبية بقوله: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا من هاتف الحق في الغيب بالسمع الحقيقي مناديا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا أي كما أسمعتنا النداء بالإرادة القديمة لا بسعي منا قبل أن تخلقنا. فاغفر لنا بفضلك ورحمتك.
لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ بالظاهر والباطن مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى على قدر همتكم ورجوليتكم فَالَّذِينَ هاجَرُوا عن الأوطان والأوطار والأعمال السيئة والأخلاق الذميمة وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ من معاملات الطبيعة وديارها الى عالم الحقيقة بسطوات تجلي صفات الربوبية وَأُوذُوا فِي طلبي بأنواع البلاء وَقاتَلُوا مع النفس وَقُتِلُوا بسيف الصدق لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سيئات وجودهم وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ الوصول فيها أشجار التوكل واليقين والزهد والورع والتقوى والصدق والإخلاص والهدى والقناعة والعفة والمروءة والفتوّة والمجاهدة والشوق والذوق والرغبة والرهبة والوفاء والطلب والمحبة والحياء والكرم والشجاعة والعلم والحلم والعزة والقدرة والهمة وغيرها من المقامات والأخلاق تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أنهار العناية ثَواباً من مقام العندية وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ لا يكون عند الجنة وغيرها. وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ من علماء الظاهر علماء متقين يكون إيمانه من نتيجة نور الله الذي دخل قلبه، ويؤمن بما أنزل إليكم من الواردات والإلهامات والكشوف وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من الخواطر الرحمانية خاشِعِينَ لِلَّهِ كما
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا تجلى الله لشيء خضع له»
لا يَشْتَرُونَ بما أوتوا من العلم والحكمة عرض الدنيا إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ يوصلهم إلى مقام العندية قبل وفاتهم اصْبِرُوا على جهاد النفس بالرياضات وَصابِرُوا في مراقبة القلب عند الابتلاءات وَرابِطُوا الأرواح للوصل بالله وَاتَّقُوا اللَّهَ في الالتفات إلى ما سواه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ فتفوزوا بالبقاء بالله وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين.(2/337)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4) وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6) لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
(سورة النساء
مدنية حروفها 14535 كلماتها 3745 آياتها مائة وست وسبعون
[سورة النساء (4) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)
وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)
القراآت:
تَسائَلُونَ خفيفا بحذف التاء: عاصم وحمزة وعلي وخلف وعباس مخير. الباقون بالتشديد أي بإدغام تاء التفاعل في السين. وَالْأَرْحامَ بالجر حمزة.
الباقون بالنصب. ما طابَ بالإمالة: حمزة. فَواحِدَةً بالرفع: يزيد. الباقون بالنصب.
هنيّا مريّا بالتشديد فيهما: يزيد وحمزة في الوقف على أيهما وقف، وإذا انفرد هَنِيئاً(2/338)
همزها كل القرآن: يزيد. قيما ابن عامر ونافع. الباقون قِياماً ضِعافاً بالإمالة:
خلف عن حمزة وابن سعدان والعجلي وخلف لنفسه وقتيبة على أصله. وَسَيَصْلَوْنَ بضم الياء: ابن عامر وأبو بكر وحماد والمفضل. الباقون بفتحها.
الوقوف:
وَنِساءً ج. لأن الجملتين وإن اتفقتا إلا أنه اعترضت المعطوفات وَالْأَرْحامَ ط رَقِيباً هـ بِالطَّيِّبِ ص إِلى أَمْوالِكُمْ ط كَبِيراً هـ وَرُباعَ ج أَيْمانُكُمْ ط أَلَّا تَعُولُوا ط لابتداء حكم آخر نِحْلَةً ط لأن المشروط خارج عن أصل الشرط الموجب. مَرِيئاً هـ مَعْرُوفاً هـ النِّكاحَ ج بناء على أنه ابتداء شرط بعد بلوغ النكاح، أو مجموع الشرط والجواب جواب «إذا» و «حتى» تكون داخلة على جملة شرطيه مقدمها حملية، وثالثها شرطية أخرى. أَمْوالَهُمْ ج أَنْ يَكْبَرُوا ط لابتداء جملتين متضادتين فَلْيَسْتَعْفِفْ ج بِالْمَعْرُوفِ ط للعود إلى أصل الموجب بعد وقوع العارض. عَلَيْهِمْ ط حَسِيباً هـ وَالْأَقْرَبُونَ الأول ص أَوْ كَثُرَ ط بتقدير جعلناه نصيبا مفروضا مَعْرُوفاً هـ خافُوا عَلَيْهِمْ ص سَدِيداً هـ ناراً ط سَعِيراً هـ.
التفسير:
لما كانت هذه السورة مشتملة على تكاليف كثيرة من التعطيف على الأولاد والنساء والأيتام وإيصال حقوقهم إليهم وحفظ أموالهم عليهم، ومن الأمر بالطهارة والصلاة، والجهاد والدية، ومن تحريم المحارم وتحليل غيرهن إلى غير ذلك من السياسات ومكارم الأخلاق التي يناط بها صلاح المعاش والمعاد، افتتح السورة ببعث المكلفين على التقوى. ومن غرائب القرآن أن فيه سورتين صدرهما يا أَيُّهَا النَّاسُ إحداهما في النصف الأول وهي الرابعة من سوره، والأخرى في النصف الثاني وهي أيضا في الرابعة من سوره.
ثم التي في النصف الأول مصدرة بذكر المبدأ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ والتي في النصف الثاني مصدرة بذكر المعاد اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج: 1] ثم إنه تعالى علل الأمر بالتقوى بأنه خلقنا من نفس واحدة. أما القيد الأوّل وهو أنه خلقنا فلا شك أنه علة لوجوب الانقياد لتكاليفه والخشوع لأوامره ونواهيه، لأن المخلوقية هي العبودية ومن شأن العبد امتثال أمر مولاه في كل ما يأمره وينهاه. وأيضا الإيجاد غاية الإحسان فيجب مقابلتها بغاية الإذعان، على أن مقابلة نعمته بالخدمة محال لأن توفيق تلك الخدمة نعمة أخرى منه. وأما القيد الثاني وهو خصوص أنه خلقنا من نفس واحدة، فإنما يوجب علينا الطاعة لأن خلق أشخاص غير محصورة من إنسان واحد مع تغاير أشكالهم وتباين أمزجتهم واختلاف أخلاقهم دليل ظاهر وبرهان باهر على وجود مدبر مختار وحكيم قدير، ولو كان ذلك بالطبيعة أو لعلة موجبة كان كلهم على حد واحد ونسبة واحدة. ثم في(2/339)
هذا القيد فوائد أخر منها: أنه يأمر عقبه بالإحسان إلى اليتامى والنسوان، وكونهم متفرعين من أصل واحد وأرومة واحدة أعون على هذا المعنى ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم «فاطمة بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها» «1» .
ومنها أنهم إذا عرفوا ذلك تركوا المفاخرة وأظهروا التواضع وحسن الخلق. ومنها أن تصوّر ذلك يذكر أمر المعاد فليس الإعادة بأصعب من الإبداء. ومنها أنه إخبار عن الغيب فيكون معجزا للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يقرأ كتابا. وأجمع المفسرون على أن المراد بالنفس الواحدة هاهنا هو آدم عليه السلام، والتأنيث في الوصف نظرا إلى لفظة النفس. وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها حواء من ضلع من أضلاعها. وقال أبو مسلم: المراد وخلق من جنسها زوجها لقوله جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً [النحل: 72] ولأنه تعالى قادر على خلق حواء من التراب فأي فائدة في خلقها من ضلع من أضلاع آدم؟ والجواب أن الأمر لو كان كما ذكره أبو مسلم لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة وهو خلاف النص وخلاف ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أن المرأة خلقت من ضلع أعوج فإن ذهبت تقيمها كسرتها» «2»
احتج جمع من الطبائعيين بالآية على أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة، وإن خلق الشيء عن العدم المحض والنفي الصرف محال. والجواب أنه لا يلزم من إحداث شيء في صورة واحدة من المادة لحكمة أن يتوقف الإحداث على المادة في جميع الصور. قال في الكشاف: قوله: وَخَلَقَ مِنْها معطوف على محذوف أي أنشأها وخلق منها، أو معطوف على خَلَقَكُمْ والخطاب للذين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي خلقكم من نفس آدم لأنهم من جنس المفرع منه، وخلق منها أمكم حواء وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً غيركم من الأمم الفائتة للحصر. أقول: وإنما التزم الإضمار في الأول والتخصيص في الثاني دفعا للتكرار، ولا تكرار بالحقيقة إذ لا يفهم من خلق بني آدم من نفس خلق زوجها منه ولا خلق الرجال والنساء من الأصلين جميعا. نعم لو كان المراد بقوله: وَخَلَقَ مِنْها إلى آخره بيان الخلق الأول وتفصيله، لكان الأولى عدم دخول الواو إلا أن المراد وصف ذاته تعالى بالأوصاف الثلاثة جميعا من غير ترتيب يستفاد من النسق وإلا كان الأنسب أن يقال: «فبث» بالفاء. فدل العطف بالواو في الجميع على أن المراد هو ما ذكرنا، وأن
__________
(1) رواه البخاري في كتاب فضائل الصحابة باب 12، 16. مسلم في كتاب فضائل الصحابة حديث 93، 94. أبو داود في كتاب النكاح باب 12. الترمذي في كتاب المناقب باب 60. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 56. أحمد في مسنده (4/ 5، 326) .
(2) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 1. مسلم في كتاب الرضاع حديث 61، 62. الدارمي في كتاب النكاح باب 35. أحمد في مسنده (5/ 8) .(2/340)
التفصيل والترتيب موكول إلى قضية العقل فافهم والله تعالى أعلم. ومعنى بث فرق ونشر.
وإنما خص وصف الكثرة بالرجال اعتمادا على الفهم، ولأن شهرة الرجال أتم فكانت كثرتهم أظهر. وفيه تنبيه على أن اللائق بحال الرجال الاشتهار والخروج، واللائق بحال النسوان الاختفاء والخمول. وإنما يقل الرجال والنساء معرفتين لئلا يلزم كونهما مبثوثين من نفسهما، ثم إن هذا البث معناه محمول على ظاهره عند من يرى أن جميع الأشخاص البشرية كانوا كالذر مجتمعين في صلب آدم، وأما عند من ينكر ذلك فالمراد أنه بث منهما أولادهما، ومن أولادهما جمعا آخرين وهلم جرا، فأضيف الكل إليهما على سبيل المجاز. وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ من قرأ بالنصب فللعطف على اسم الله أي واتقوا حق الأرحام فلا تقطعوها وهو اختيار أكثر الأئمة كمجاهد وقتادة والسدي والضحاك وابن زيد والفراء والزجاج. وأما للعطف على محل الجار والمجرور كقوله:
فلسنا بالجبال ولا الحديدا وهو اختيار أبى علي الفارسي وعلي بن عيسى. وقيل: منصوب بالإغراء أي والأرحام فاحفظوها وصلوها. ومن قرأ بالجر فلأجل العطف على الضمير المجرور في بِهِ وهذا وإن كان مستنكرا عند النحاة بدون إعادة الخافض لأن الضمير المتصل من تتمة ما قبله ولا سيما المجرور فأشبه العطف على بعض الكلمة، إلا أن قراءة حمزة مما ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز الطعن فيها لقياسات نحوية واهية كبيت العنكبوت. وقد طعن الزجاج فيها من جهة أخرى وهي أنها تقتضي جواز الحلف بالأرحام
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «لا تحلفوا بآبائكم» «1» .
والجواب أن المنهي عنه هو الحلف بالآباء وهاهنا حلف أولا بالله ثم قرن به الرحم فأين أحدهما من الآخر؟ ولئن سلمنا أن الحلف بالرحم أيضا منهي عنه لكن لا نسلم أنه منهي عنه مطلقا، وإنما المنهي عنه ما حلف به على سبيل التعظيم، وأما الحلف بطريق التأكيد فلا بأس بها، ولهذا
جاء في الحديث «أفلح وأبيه إن صدق» «2» .
سلمنا أنها منهي عنها مطلقا لكن المراد هاهنا حكاية ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من قولهم في الاستعطاف والتساؤل وهو سؤال البعض البعض: أسألك بالله وبالرحم، وأنشدك الله
__________
(1) رواه البخاري في كتاب مناقب الأنصار باب 26. مسلم في كتاب الأيمان حديث 3. الترمذي في كتاب النذور باب 8، 9. النسائي في كتاب الأيمان باب 4، 5، 6. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 2. الموطأ في كتاب النذور حديث 14. أحمد في مسنده (2/ 7، 8، 20، 76) . [.....]
(2)
رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 9. بلفظ «دخل الجنة وأبيه إن صدق» .(2/341)
والرحم. وقرئ وَالْأَرْحامَ بالرفع على أنه مبتدأ خبره محذوف أي والأرحام كذلك أي أنها مما يتقى ويتساءل به. فإن قيل: لم قال أولا اتَّقُوا رَبَّكُمُ ثم قال بعده وَاتَّقُوا اللَّهَ؟
قلنا: أما تكرار الأمر فللتأكيد كقولك للرجل: عجل عجل. وأما تخصيص الرب بالأول والله بالثاني فلأن الغرض في الأول الترغيب بتذكير النعمة والإحسان والتربية، وفي الثاني الترهيب. ولفظ الله يدل على كمال القدرة والقهر فكأنه قيل: إنه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته وإلا فإنه شديد العقاب فاتق سخطه. قال العلماء: في الآية دليل على جواز المسألة بالله.
روى مجاهد عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سألكم بالله فأعطوه» «1» .
وعن البراء بن عازب قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع منها إبرار القسم.
ولا يخفى ما في الآية من تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها حيث قرن الأرحام باسمه، وقال في سورة القرة:
لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى [البقرة: 83] .
وعن عبد الرحمن بن عوف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله عز وجل: «أنا الله وأنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته» «2»
وفي الصحيحين عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرحم معلقة بالعرش تقول من وصلني وصله الله ومن قطعني قطعه الله» «3» .
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ليس الواصل بالمكافىء الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها» «4»
عن سلمان بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة» «5» .
فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها، فلهذا بنى أصحاب أبي حنيفة على هذا الأصل مسألتين: إحداهما أن الرجل إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه مثل الأخ والأخت والعم والخال لأنه لو بقي الملك حل الاستخدام بالإجماع، لكن الاستخدام إيحاش وقطيعة رحم. والثانية أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يجوز الرجوع فيها حذرا من
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 108. النسائي في كتاب الزكاة باب 72. أحمد في مسنده (2/ 68، 96) .
(2) رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب 45. الترمذي في كتاب البر باب 9. أحمد في مسنده (1/ 191، 194) .
(3) رواه مسلم في كتاب البر حديث 17. أحمد في مسنده (2/ 163) .
(4) رواه البخاري في كتاب الأدب باب 15. أبو داود في كتاب الزكاة باب 45. الترمذي في كتاب البر باب 10. أحمد في مسنده (2/ 163، 190) .
(5) رواه الترمذي في كتاب الزكاة باب 26. النسائي في كتاب الزكاة باب 22. ابن ماجه في كتاب الزكاة باب 28. الدارمي في كتاب الزكاة باب 38. أحمد في مسنده (4/ 17، 18) .(2/342)
الإيحاش والقطيعة. ثم إنه ختم الآية بما يتضمن الوعد والوعيد فقال: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً مراقبا يحفظ عليكم جميع أعمالكم فيجازيكم بحسبها.
ثم إنه سبحانه بعد تقديم موجبات الشفقة على الضعفة ومن له رحم ماسة قال وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وأصل اليتم الانفراد ومنه الرملة اليتيمة والدرة اليتيمة. فاليتامى هم الذين مات آباؤهم فانفردوا عنهم. فاليتيم لغة يتناول الصغير والكبير إلا أنه في عرف الشرع اختص بالذي لم يبلغ الحلم.
قال صلى الله عليه وسلم: «لا يتم بعد الحلم» «1» .
والمراد أنه إذا احتلم لا تجري عليه أحكام الصغار لأنه في تحصيل مصالحه يستغني بنفسه عن كافل يكفله وقيم يقوم بأمره. فإن قيل: إذا كان اسم اليتيم في الشرع مختصا بالصغير فما دام يتيما لا يجوز دفع أمواله إليه، وإذا صار كبيرا بحيث يجوز دفع ماله إليه لم يبق يتيما فكيف قال: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ؟
ففي الجواب طريقان: أحدهما أن المراد باليتامى الكبار البالغون، سماهم بذلك على مقتضى اللغة أو لقرب عهدهم باليتم كقوله: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ [الشعراء: 46] أي الذين كانوا سحرة قبل السجود. ويؤكد هذا الطريق قوله فيما بعد فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ والإشهاد لا يصح قبل البلوغ بل إنما يصح بعد البلوغ.
وقال صلى الله عليه وسلم: «تستأمر اليتيمة في نفسها» «2»
ولا تستأمر إلا وهي بالغة. وعلى هذا يكون في الآية إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عند حد البلوغ ولا يمطلوا إن أونس منهم الرشد، وأن لا يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار، ويوافقه ما
رواه مقاتل والكلبي أنها نزلت في رجل من غطفان كان معه مال كثير لأبن أخ يتيم. فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية. فلما سمعها العم قال: أطعنا الله وأطعنا الرسول، نعوذ بالله من الحوب الكبير فدفع إليه ماله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يوق شح نفسه ويطع ربه هكذا فإنه يحل داره يعني جنته. فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ثبت الأجر وبقي الوزر. فقالوا: يا رسول الله قد عرفنا أنه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر وهو ينفق في سبيل الله؟ فقال: ثبت الأجر للغلام وبقي الوزر على والده.
قيل: لأنه كان مشركا. الطريق الثاني أن المراد بهم الصغار أي الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتيم أموالهم، وآتوهم من أموالهم ما يحتاجون إليه لنفقتهم وكسوتهم، والخطاب للأولياء والأوصياء.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الوصايا باب 9.
(2) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 23. الترمذي في كتاب النكاح باب 19. الدارمي في كتاب النكاح باب 12. أحمد في مسنده (4/ 394، 408) .(2/343)
وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ قال الفراء والزجاج: أي لا تستبدلوا الحرام- وهو مال اليتامى- بالحلال وهو مالكم وما أبيح لكم من المكاسب ورزق الله المبثوث في الأرض فتأكلوه مكانه. والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز كالتعجل بمعنى الاستعجال والتأخر بمعنى الاستئخار، أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث- وهو اختزال أموال اليتامى والاعتزال عنها حتى تتلف- بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها. وقال كثير من المفسرين: هذا التبدل هو أن يأخذ الجيد من مال اليتيم ويجعل مكانه الرديء. قال صاحب الكشاف: هذا ليس بتبدل وإنما هو تبديل. يريد أن الباء في بدل تدخل على المأخوذ، وفي تبدل على المعطى. ولما كان المأخوذ الطيب كان تبديلا. ثم وجهه بأنه لعله يكارم صديقا له فيأخذ منه عجفاء مكان سمينة من مال الصبي فيكون الباء في موضعه. وقيل: معنى الآية أن يأكل مال اليتيم سلفا مع التزام بدله بعد ذلك فيكون متبدلا الخبيث بالطيب. وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ منضمة إِلى أَمْوالِكُمْ وفي الانفاق تسوية بين المالين في الحل إِنَّهُ أي الأكل كانَ حُوباً كَبِيراً ذنبا عظيما. والحاب مثله، والتركيب يدور على الضعف، والمراد بالأكل مطلق التصرف إلا أنه خص بالذكر لأنه معظم ما يقع لأجله التصرف. وقيل: «إلى» هاهنا بمعنى «مع» والفائدة في زيادة قوله: إِلى أَمْوالِكُمْ أكل أموال اليتامى محرم على الإطلاق زيادة التقبيح والتوبيخ لأنهم إذا كانوا مستغنين عنها بما لهم من المال الحلال ومع ذلك طمعوا في مال اليتيم كانوا بالذم أحرى، ولأنهم كانوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم وسمع بهم ليكون أزجر لهم. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا أقسط الرجل عدل وقسط جار. وقال الزجاج: أصلهما جميعا من القسط وهو النصيب. فإذا قالوا قسط فمعناه ظلم صاحبه في قسطه من قولهم:
قاسطته فقسطته أي غلبته على قسطه. وإذا قالوا أقسط بالهمز فمعناه صار ذا قسط مثل أنصف إذا أتى بالنصف فيلزمه العدالة والتسوية. واعلم أن قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ شرط وقوله: فَانْكِحُوا جواب له. ولا بد من بيان أن هذا الجزاء كيف يتعلق بهذا الشرط وللمفسرين فيه وجوه: الأول ما روي عن عروة أنه قال: قلت لعائشة: ما معنى قول الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فقالت: يا ابن أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب الرجل في مالها وجمالها إلا أنه يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها. ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة ردية لعلمه بأنه ليس لها من يذب عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها.
فقال تعالى وإن خفتم أن تظلموا اليتامى عند نكاحهن فانكحوا غيرهن ما طاب لكم من العدد.
قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله تعالى يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ [النساء: 127] الآية.
فقوله فيها: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ(2/344)
فِي يَتامَى النِّساءِ
[النساء: 127] المراد منه هذه الآية وهي قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا. وعبر في الكشاف عن هذه الرواية بعبارة أخرى وهي: كان الرجل يجد اليتيمة لها مال وجمال أو يكون وليها فيتزوجها ضنا بها عن غيره، فربما اجتمعت عنده عشر منهن فيخاف لضعفهن وفقد من يغضب لهن أن يظلمهن حقوقهن ويفرط فيما يجب لهن فقيل لهم: إن خفتم أن لا تقسطوا في يتامى النساء فانكحوا من غيرهن ما طابَ لَكُمْ. الثاني وهو قول سعيد بن جبير وقتادة والربيع والضحاك والسدي منقولا عن ابن عباس: لما نزلت الآية المتقدمة وما في أكل أموال اليتامى من الحوب الكبير، خاف الأولياء لحوق الحوب فتحرجوا من ولاية اليتامى. وكان الرجل منهم ربما كانت تحته العشر من الأزواج وأكثر فلا يقوم بحقوقهن ولا يعدل بينهن فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فكونوا خائفين من ترك العدل بين النساء لأنهن كاليتامى في العجز والضعف، فقللوا عدد المنكوحات لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله فكأنه غير متحرج.
الثالث: كانوا لا يتحرجون من الزنا ويتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم ذلك فكونوا خائفين من الزنا أيضا وانكحوا ما حل لكم من النساء. الرابع روي عن عكرمة كان الرجل عنده النسوة ويكون عنده الأيتام فإذا أنفق مال نفسه على النسوة أخذ في إنفاق أموال اليتامى عليهن. فقيل: إن خفتم أن تظلموا اليتامى بأكل أموالهم عند كثرة الزوجات فقد حظرت لكم أن تنكحوا أكثر من أربع ليزول هذا الخوف، فإن خفتم في الأربع أيضا فواحدة، فذكر الطرف الزائد وهو الأربع والناقص وهو الواحدة، ونبه بذلك على ما بينهما فكأنه قيل: إن خفتم الأربع فثلاثا وإن خفتم فاثنتين وإن خفتم فواحدة. قال الظاهريون:
النكاح واجب لقوله: فَانْكِحُوا وظاهر الأمر للوجوب. وعورض بقوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [النساء: 25] ولو سلم فالوجوب بحالة الخوف فلا يلزم منه الوجوب على الإطلاق وأيضا الآية سيقت لبيان وجوب تقليل الأزواج لا لأصل الوجوب وإنما قال: ما طابَ ولم يقل من طاب لأنه أراد به الجنس. تقول: ما عندك؟
فيقال: رجل أو امرأة. تريد ما ذلك الشيء الذي عندك أو ما تلك الحقيقة. ولأن الإناث من العقلاء تنزل منزلة غير العقلاء ومنه قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ولأن «ما» و «من» يتعاقبان. قال تعالى وَالسَّماءِ وَما بَناها [الشمس: 5] فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ [النور: 45] . قال المفسرون: معنى ما طابَ لَكُمْ أي ما حل لكم من النساء لأن فيهن من يحرم نكاحها كما سيجيء. واعترض عليه الإمام بأن قوله: فَانْكِحُوا أمر إباحة فيؤل المعنى إلى قوله: أبحت لكم نكاح من هي مباحة لكم وهذا كلام مستدرك سلمناه، لكن الآية تصير مجملة لأن أسباب الحل والإباحة غير مذكورة في هذه الآية. وإذا حملنا الطيب(2/345)
عن استطابة النفس وميل القلب كانت الآية عامة دخلها التخصيص وأنه أولى من الإجمال عند التعارض لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص، والمجمل لا يكون حجة أصلا، والجواب عن الأول أن ذكر الشيء ضمنا ثم صريحا لا يعد تكرارا بدليل قوله:
كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [البقرة: 57] وعن الثاني أن قوله: ما طابَ لَكُمْ بمعنى ما حل لكم إذا كان إشارة إلى ما بقي بعد ما أخرجته آية التحريم فلا إجمال. وأما قوله:
مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ ولم يوجد في كلام الفصحاء إلا هذه، وأحاد وموحد وجوّزوا إلى عشار ومعشر قياسا على قول الكميت:
ولم يستر يثوك حتى رميت ... فوق الرجال خصالا عشارا
فاتفق النحويون على أن فيها عدلا محققا. وذلك أن فائدتها تقسيم أمر ذي أجزاء على عدد معين، ولفظ المقسوم عليه في غير العدد مكرر على الإطراد في كلام العرب نحو:
قرأت الكتاب جزءا جزءا، وجاءني القوم رجلا رجلا وجماعة جماعة. وكان القياس في باب العدد أيضا التكرير عملا بالاستقراء وإلحاقا للفرد المتنازع فيه بالأعم الأغلب، فلما وجد ثلاث مثلا غير مكرر لفظا حكم بأن أصله لفظ مكرر وليس إلا ثلاثة ثلاثة. فعند سيبويه منع صرف مثل هذا للعدل والوصف الأصلي، فإن هذا التركيب لم يستعمل إلا وصفا بخلاف المعدول عنه. وقيل: إن فيه عدلا مكررا من حيث اللفظ لأن أصله كان ثلاثة ثلاثة مرتين فعدل إلى واحد ثم إلى لفظ ثلاث أو مثلث. وقيل: إن فيه العدل والتعريف إذ لا يدخله اللام خلافا لما في الكشاف. وإذا جرى على النكرة فمحمول على البدل، وضعف بعدم جريانه على المعارف ولوقوعه حالا. فمعنى الآية فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا، فإن خفتم أن لا تعدلوا بين هذه الأعداد فواحدة. فمن قرأ بالنصب أراد: فاختاروا أو انكحوا أو الزموا واحدة، ومن قرأ بالرفع أراد: فكفت واحدة أو فحسبكم واحدة وذروا الجمع رأسا فإن الأمر كله يدور مع العدل فأينما وجدتموه فعليكم به. ثم قال: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فسوّى في السهولة بين الحرة الواحدة وبين ما شاء من الإماء لأنهن أقل تبعة وأخف مؤنة من المهائر لا على المرء أكثر منهن أو أقل، عدل بينهن في القسم أم لم يعدل، عزل عنهن أم لم يعزل. ولما كانت التسوية بينها وبينهن احتج بها الشافعي في بيان أن نوافل العبادات أفضل من النكاح وذلك للإجماع على أن الاشتغال بالنوافل أفضل من التسري، فوجب أن يكون أفضل من النكاح لأن الزائد على أحد المتساويين يكون زائدا على المساوي الآخر. ولمانع أن يمنع التسوية فإن قول الطبيب مثلا(2/346)
للمريض: كل التفاح أو الرمان يحتمل أن يكون للتسوية بينهما وقد يكون للمقاربة أي إن لم تجد التفاح فكل الرمان فإنه قريب منه في دفع الحاجة للضرورة، ومع وجود هذا الاحتمال لا يتم الاستدلال على أن فضل الحرة على الأمة معلوم شرعا وعقلا. وهاهنا مسألتان:
الأولى أكثر الفقهاء على أن نكاح الأربع مشروع للأحرار دون العبيد، لأن هذا الخطاب إنما يتناول إنسانا متى طابت له امرأة قدر على نكاحها والعبد ليس كذلك لأنه لا يمكن من النكاح إلا بإذن مولاه. وأيضا إنه قال بعد ذلك فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وهذا لا يكون إلا للأحرار، فكذا الخطاب الأوّل لأن هذه الخطابات وردت متتالية على نسق واحد فيبعد أن يدخل التقييد في اللاحق دون السابق. وكذا قوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً والعبد لا يأكل فيكون لسيده. وقال مالك: يحل للعبد أن يتزوج بالأربع تمسكا بظاهر الآية. ومن الفقهاء من سلم أن ظاهر الآية يتناول العبيد إلا أنهم خصصوا هذا العموم بالقياس. قالوا: أجمعنا على أن الرق له تأثير في نقصان حقوق النكاح كالطلاق والعدة، ولما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن يحصل للعبد نصف ما للحر. الثانية ذهب جماعة إلى أنه يجوز التزوج بأي عدد أريد لأن قوله: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ إطلاق في جميع الأعداد لصحة استثناء كل عدد منه، وقوله: مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ لا يصلح مخصصا لذلك العموم لأن تخصيص بعض الأعداد بالذكر لا ينافي ثبوت الحكم في الباقي، بل نقول: ذكرها يدل على نفي الحرج والحجر مطلقا. فإن من قال لولده افعل ما شئت اذهب إلى السوق وإلى المدرسة وإلى البستان كان تصريحا في أن زمام الاختيار بيده ولا يكون تخصيصا. وأيضا ذكر جميع الأعداد متعذر، فذكر بعضها تنبيه على حصول الإذن في جميعها. ولئن سلمنا لكن الواو للجمع المطلق فيفيد الإذن في جمع تسعة بل ثمانية عشر لتضعيف كل منها. وأما السنة فلما ثبت بالتواتر أنه صلى الله عليه وسلم مات عن تسع وقد أمرنا باتباعه في قوله: فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] وأقل مراتب الأمر الإباحة.
وقد قال صلى الله عليه وسلم «فمن رغب عن سنتي فليس مني» «1»
والمعتمد عند الجمهور في جوابهم أمران: أحدهما الخبر كنحو ما
روي أن نوفل بن معاوية أسلم وتحته خمس نسوة فقال صلى الله عليه وسلم: «أمسك أربعا وفارق واحدة» .
وزيف بأن القرآن دل على عدم الحصر، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز، وبأن الأمر بمفارقة الزائدة قد يكون لمانع النسب أو الرضاع. وأقول: إن القرآن لم
__________
(1) رواه البخاري في كتاب النكاح باب 1. مسلم في كتاب النكاح حديث 5. النسائي في كتاب النكاح باب 4. الدارمي في كتاب النكاح باب 3. أحمد في مسنده (2/ 158) ، (3/ 241) .(2/347)
يدل على عدم الحصر، غايته أنه لم يدل على الحصر فيكون مجملا. وبيان المجمل بخبر الواحد جائز. وأيضا قوله «أمسك أربعا» على الإطلاق وكذا «فارق واحدة» دليل على أن المانع هو الزيادة على الأربع لا غيرها، وكذا في نظائر هذا الحديث. وثانيهما إجماع فقهاء الأمصار. وضعف بأن الإجماع مع وجود المخالف لا ينعقد، وبتقدير التسليم فإن الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به. والجواب أن المخالف إذا كان شاذا فلا يعبأ به، والقرآن لم يدل على عدم الحصر حتى يلزم نسخ الإجماع إياه ولكن الإجماع دل على وجود مبين في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم. ولئن سلم أن القرآن دل على عدم الحصر فالإجماع يكشف عن وجود ناسخ في عهده وذلك جائز بالاتفاق. لا يقال: فعلى تقدير الحصر كان ينبغي أن يقال مثنى أو ثلاث أو رباع بأو الفاصلة، لأنا نقول: يلزم حينئذ أن لا يجوز النكاح إلا على أحد هذه الأقسام، فلا يجوز لبعضهم أن يأتي بالتثنية، ولفريق ثان بالتثليث، والآخرين بالتربيع، فيذهب معنى تجويز الجمع بين أنواع القسمة الذي دلت عليه الواو. ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا أي اختيار الواحدة أو التسري أقرب من أن لا تميلوا أو لا تجوروا. وكلا اللفظين مروي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولهم: عال الميزان عولا إذا مال. وعال الحاكم في حكمه إذا جار. ومنه عالت الفريضة إذا زادت سهامها. وفيه الميل عن الاعتدال. وقيل:
معناه أن لا تفتقروا. ورجل عائل أي فقير وذلك أنه إذا قل عياله قلت نفقاته فلم يفتقر.
ونقل عن الشافعي أنه قال: معناه أن لا تكثر عيالكم. وطعن فيه بعض القاصرين بأن هذا في اللغة معنى «تعيلوا» لا معنى «تعولوا» . يقال: أعال الرجل إذا كثر عياله. ومنه قراءة طاوس أن لا تعيلوا وأيضا إنه لا يناسب أول الآية. وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا وأيضا هب أنه يقل العيال في اختيار الحرة الواحدة، فكيف يقل عند اختيار التسري ولا حصر لهن؟
والجواب عن الأوّل أن الشافعي لم يذهب إلى تفسير اللغة وإنما زعم أنه تعالى أشار إلى الشيء بذكر لازمه أي جعل الميل والجور كناية عن كثرة العيال، لأن كثرة العيال لا تنفك عن الميل والجور. وقرر الكناية في الكشاف على وجه آخر، وهو أنه جعل قوله تعالى:
أَلَّا تَعُولُوا من عال الرجل عياله يعولهم كقولك: مانهم يمونهم إذا أنفق عليهم. ولا شك أن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما تصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال. فالحاصل أنه ذكر اللازم وهو الإنفاق وأراد الملزوم وهو كثرة العيال.
والحاصل على ما قلنا أنه ذكر اللازم وهو الميل والجور وأراد الملزوم وهو كثرة العيال.
والجواب عن الثاني أن حمل الكلام على ما لا يلزم منه تكرار أولي وبتقدير التسليم فتفسير الشافعي أيضا يؤل إلى تفسير الجمهور لكن بطريق الكناية كما قررنا. وعن الثالث أن(2/348)
الجواري إذا كثرن فله أن يكلفهن الكسب فينفقن على أنفسهن وعلى مولاهن أيضا فكأنه لا عيال. وأيضا إذا عجز المولى باعهن وتخلّص منهن بخلاف المهائر فإن الخلاص عنهن يفتقر إلى تسليم المهر إليهن. وقال في الكشاف: العزل عن السراري جائز بغير إذنهن فكن مظان قلة الولد بالإضافة إلى التزوج. وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ أي مهورهن. والخطاب للأزواج وهو قول علقمة وقتادة والنخعي واختيار الزجاج لأن ما قبله خطاب للناكحين.
وقيل: خطاب للأولياء لأن العرب كانت في الجاهلية لا تعطي البنات من مهورهن شيئا، ولذلك كانوا يقولون لمن ولدت له ابنة: هينئا لك النافجة- يعنون أنك تأخذ مهرها إبلا فتضمها إلى إبلك فتنفج مالك أي تعظمه. وقال ابن الأعرابي: النافجة ما يأخذه الرجل من الحلوان إذا زوج ابنته. فنهى الله عن ذلك وأمر بدفع الحق إلى أهله، وهذا قول الكلبي وأبي صالح واختيار الفراء وابن قتيبة. قال القفال: يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة فيكونوا قد أمروا بدفع المهور التي سموها لهن، ويحتمل أن يراد الالتزام كقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ [التوبة: 29] أي حتى يضمنوها ويلتزموها. فيكون المعنى أن الفروج لا تستباح إلا بعوض يلتزم سواء سمي ذلك أو لم يسم إلا ما خص به الرسول صلى الله عليه وسلم من الموهوبة. قال: ويجوز أن يراد الوجهان جميعا. أما قوله نحلة فقد قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد: أي شريعة وديانة. فيكون مفعولا له، أو حالا من الصدقات أي دينا من الله شرعه وفرضه. وقال الكلبي: أي عطية وهبة فيكون نصبا على المصدر لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء، أو على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء من غير مطالبة منهن، لأن ما يؤخذ بالمطالبة لا يسمى نحلة، أو من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيب نفس. وإنما سميت عطية من الزوج لأن الزوج لا يملك بدله شيئا، لأن البضع في ملك المرأة بعد النكاح كهو قبله. وإنما الذي استحقه الزوج هو الاستباحة لا الملك. والنحلة العطية من غير بدل. وقال قوم: إن الله تعالى جعل منافع النكاح من قضاء الشهوة والتوالد مشتركا بين الزوجين، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر وكان ذلك عطية من الله تعالى ابتداء. ثم لما أمرهم بإيتاء الصدقات أباح لهم جواز قبول إبرائها وهبتها. وانتصب نَفْساً على التمييز وإنما وحد لأنه لا يلبس أن النفس لهن لأنهن أنفس ولو جمعت لجاز. والضمير في مِنْهُ للصداق أو للمذكور في قوله: طِبْنَ وبناء الكلام على الإبهام ثم التمييز دون أن يقول سمحن أو وهبن. وفي قوله: عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ دون أن يقول عنه تنبيه على أن قبول ذلك إنما يحل إذا طابت نفوسهن بالهبة من غير اضطرار وسوء معاشرة من الزوج يحملهن على ذلك وبعث لهن على تقليل الموهوب،(2/349)
ولهذا ذكر الضمير في مِنْهُ لينصرف إلى الصداق الواحد فيكون متناولا بعضه، ولو أنث لتناول ظاهره هبة الصداق كله لأن بعض الصدقات واحدة منها أو أكثر. ومن هذا التقرير يظهر أن «من» في قوله: مِنْهُ للتبعيض إخراجا للكلام مخرج الغالب مع فائدة البعث المذكور لأنه لا يجوز هبة كل الصداق إذا طابت نفسها عن المهر بالكلية، ومن غفل عن هذه الدقيقة زعم أن «من» للتبيين والمعنى عن شيء هو هذا الجنس يعني الصداق. فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغا لا تنغيص فيه. وقيل: الهنيء ما يستلذه الآكل، والمريء ما تحمد عاقبته. وقيل: هو ما ينساغ في مجراه ومنه يقال: المريء لمجرى الطعام من الحلقوم إلى فم المعدة. وقيل: أصله من الهناء وهو معالجة الجرب بالقطران. فالهنيء شفاء من الجرب. وبالجملة فهو عبارة عن التحلل أو المبالغة في إزالة التبعة في الدنيا والآخرة. وهما صفتان للمصدر أي أكلا هنيئا مريئا، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء. وقد يوقف على قوله: فَكُلُوهُ ويبتدأ هَنِيئاً مَرِيئاً على الدعاء أو على أنهما قاما مقام مصدريهما أي هنأ مرأ. والمراد بالأكل التصرف الشامل للعين والدين. قال بعض العلماء: إن وهبت ثم طلبت علم أنها لم تطب عنه نفسا. وعن عمر أنه كتب إلى قضاته أن النساء يعطين رغبة ورهبة فأيما امرأة أعطت ثم أرادت أن ترجع فذلك لها.
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: إذا جادت لزوجها بالعطية طائعة غير مكرهة لا يقضي به عليكم سلطان ولا يؤاخكم الله به في الآخرة.
ثم إنه تعالى لما أمر بإيتاء اليتامى أموالهم ويدفع صدقات النساء إليهن، استثنى منهم خفاف الأحلام وإن بلغوا أوان التكليف فقال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ أكثر العلماء على أن هذا الخطاب للأولياء. فورد أن الأنسب أن لو قيل أموالهم. وأجيب بأنه إنما حسنت إضافة الأموال إلى المخاطبين إجراء للوحدة النوعية مجرى الوحدة الشخصية كقوله:
ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 85] ومعلوم أن الرجل منهم ما كان يقتل نفسه ولكن كان بعضهم يقتل بعضا فقيل: «أنفسكم» لأن الكل من نوع واحد فكذا هنا المال شيء ينتفع به الإنسان ويحتاج إليه، فلهذه الوحدة النوعية حسنت إضافة أموال السفهاء إلى أوليائهم. ويحتمل أن يضاف المال إليهم لا لأنهم ملكوه بل لأنهم ملكوا التصرف فيه، ويكفي في حسن الإضافة أدنى سبب. وقيل: خطاب للآباء نهاهم الله تعالى إذا كان أولادهم سفهاء أن يدفعوا أموالهم أو بعضها إليهم. فعلى هذا تكون إضافة الأموال إليهم حقيقة.
والغرض الحث على حفظ المال وأنه إذا قرب أجله يجب عليه أن يوصي بماله إلى أمين يحفظه على ورثته. وقد يرجح القول الأول بأن ظاهر النهي للتحريم، وأجمعت الأمة على(2/350)
أنه لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصغار ومن النسوان ما شاء من ماله. وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع إلى السفهاء أموالهم، وأيضا قوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً هذه الأوامر تناسب حال الأولياء لا الآباء. وأقول: لا يبعد حمل الآية على كلا القولين، لأن الإضافة في أموالكم لا تفيد إلا الاختصاص سواء كان اختصاص الملكية أو اختصاص التصرف. واختلفوا في السفهاء فعن مجاهد والضحاك أنها النساء أزواجا كن أو أمهات أو بنات، وهو مذهب ابن عمرو يدل عليه ما
روى أبو أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم «ألا إنما خلقت النار للسفهاء» يقولها ثلاثا.
وإن السفهاء النساء إلا امرأة أطاعت قيمها. وقد جمع فعلية على فعلاء كفقيرة وفقراء. وقال الزهري وابن زيد: هم الأولاد الخفاف العقول. وعن ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد بن جبير: إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة وأن ولده سفيه مفسد فلا ينبغي له أن يسلط واحدا منهما على ماله. والصحيح أن المراد بالسفهاء كل من ليس له عقل يفي بحفظ المال ولا يد له بإصلاحه وتثميره والتصرف فيه، ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام والفساق وغيرهم مما لا وزن لهم عند أهل الدين والعلم بمصالح الدارين، فيضع المال فيما لا ينبغي ويفسده. ومعنى جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً أنه لا يحصل قيامكم وانتعاشكم إلا به. سماه بالقيام إطلاقا لاسم المسبب على السبب. ومن قرأ قيما فعلى حذف الألف من قِياماً وهو مصدر قام وأصله قوام قلبت الواو ياء لإعلال فعله. فإن لم يكن مصدرا لم يعل كقوام لما يقام به. وكان السلف يقولون:
المال سلاح المؤمن، ولأن أترك ما لا يحاسبني الله عليه خير من أحتاج إلى الناس. وقال عبد الله بن عباس: الدراهم والدنانير خواتيم الله في الأرض لا تؤكل ولا تشرب حيث قصدت بها قضيت حاجتك. وقال قيس بن سعد: اللهم ارزقني حمدا ومجدا فإنه لا حمد إلا بفعال، ولا مجد إلا بمال. وقيل لأبي الزناد: لم تحب الدراهم وهي تدنيك من الدنيا؟
قال: هي وإن أدنتني فقد صانتني عنها. وكانوا يقولون: اتجروا واكتسبوا فإنكم في زمان إذا احتاج أحدكم كان أول ما يأكل دينه. وربما رأوا رجلا في تشييع جنازة فقالوا له: اذهب إلى مكانك. وقال بعض الحكماء: من أضاع ماله فقد ضارّ الأكرمين: الدين والعرض. وفي منثور الحكم: من استغنى كرم على أهله. وفيه: الفقر مخذلة، والغنى مجدلة، والبؤس مرذلة، والسؤال مبذلة. وكان يقال: الدراهم مراهم لأنها تداوي كل جرح ويطيب بها كل صلح. وقال أبو العتاهية:
أجلك قوم حين صرت إلى الغنى ... وكل غني في العيون جليل
إذا مالت الدنيا على المرء رغبت ... إليه ومال الناس حيث تميل(2/351)
وليس الغنى إلا غنى زين الفتى ... عشية يقرى أو غداة ينيل
وقد اختلف أقوال الناس في تفضيل الغنى والفقر مع اتفاقهم أن ما أحوج من الفقر مكروه، وما أبطر من الغنى مذموم. فذهب قوم إلى تفضيل الغنى على الفقر، لأن الغني مقتدر والفقير عاجز والقدرة أفضل من العجز. وهذا مذهب من غلب عليه حب النباهة.
وذهب آخرون إلى تفضيل الفقر على الغنى، لأن الفقير تارك والغنى ملابس، وترك الدنيا أفضل من ملابستها وهذا قول من غلب عليه حب السلامة. وقال الباقون: خير الأمر أوساطها، والفضل للاعتدال بين الفقر والغنى ليصل إلى فضيلة الأمرين، ويسلم من مذمة الحالين.
ومن كلفته النفس فوق كفافها ... فما ينقضي حتى الممات عناؤه
والحاصل أن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بمصالح الدارين، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال، فبذلك يتمكن من جلب المنافع ودفع المضار ولهذا رغب الله تعالى في حفظه هاهنا. وفي آية المداينة حيث أمر بالكتاب والشهادة والرهان المقبوضة، فمن أراد الدنيا لهذا الغرض فنعمت المعونة هي، ومن أرادها لعينها فيا لها من حسرة وندامة. ثم إنه سبحانه أمر بعد ذلك بثلاثة أشياء وذلك قوله: وَارْزُقُوهُمْ فِيها وإنما لم يقل «منها» كيلا يكون أمرا بجعل بعض أموالهم رزقا لهم فيأكلها الإنفاق، بل أمر بأن يجعلوها مكانا لرزقهم بأن يتجروا فيها ويربحوها حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من أصول الأموال وصلبها وَاكْسُوهُمْ كل من الرزق والكسوة بحسب المصلحة وكما يليق بحال أمثالهم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً قال ابن جريج ومجاهد: هو عدة جميلة من البر والصلة. وقال ابن عباس: هو مثل أن يقول: إذا ربحت في سفري هذا فعلت بك ما أنت أهله، وإن غنمت في غزاتي جعلت لك حظا. وقال ابن زيد: إن لم يكن ممن وجبت نفقته عليك فقل: عافانا الله وإياك وبارك الله فيك. وقال الزجاج: علموهم مع إطعامكم وكسوتكم إياهم أمر دينهم بما يتعلق بالعلم والعمل. وقال القفال: إن كان صبيا فالولي يعرّفه أن المال ماله وأنه إذا زال صباه فإن يرّد المال إليه كقوله: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [الضحى: 9] أي لا تعاشره بالتسلط عليه كما تعاشر العبيد وإن كان سفيها، وعظه ونصحه وحثه على الصلاة وعرفه أن عاقبة الإسراف فقر واحتياج. وبالجملة فكل ما سكنت إليه النفس وأحبته لحسنه عقلا أو شرعا من قول أو عمل فهو معروف، وما نفرت منه لقبحه فمنكر. ثم بيّن أن السفهاء متى يؤتون أموالهم فشرط في ذلك شرطين: أحدهما بلوغ النكاح والثاني إيناس(2/352)
الرشد منهم. فبلوغ النكاح أن يحتلم لأنه يصلح للنكاح عنده، ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد ومناط الاحتلام خروج المني، ويدخل وقت إمكانه باستكمال تسع سنين قمرية أو يبلغ خمس عشرة سنة تامة قمرية عند الشافعي، وثماني عشرة عند أبي حنيفة. وهذان مشتركان بين الغلام والجارية ولها أمارتان أخريان: الحيض أو الحبل، ولطفل الكفار أمارة زائدة هي إنبات الشعر الخشن على العانة. وأما الإيناس ففي اللغة الإبصار. والمراد في الآية التبين والعرفان. والرشد خلاف الغيّ. ومعنى قوله: وَابْتَلُوا الْيَتامى اختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف قبل البلوغ، ومن هنا قال أبو حنيفة: تصرفات الصبي العاقل المميز بإذن الولي صحيحة لأن الابتلاء المأمور به قبل بلوغهم إنما يحصل إذا أذن له في البيع والشراء. وقال الشافعي: الابتلاء قبل البلوغ لا يقتضي الإذن في التصرف لأن الإذن يتوقف على دفع المال إليهم، ولكن لا يصح دفع المال إليهم لأنه موقوف على الشرطين. بل المراد بالابتلاء اختبار عقله واستبراء حاله حسبما يليق بكل طائفة. فولد التاجر يختبر في البيع والشراء بحضوره، ثم باستكشاف ذلك البيع والشراء منه وما فيهما من المصالح والمفاسد. وقد يدفع إليه شيئا ليبيع أو يشتري فيعرف بذلك مقدار فهمه وعقله، ثم الولي بعد ذلك يتم العقد لو أراد. وولد الزارع يختبر في أمر المزارعة والإنفاق على القوّام بها، وولد المحترف فيما يتعلق بحرفته، والمرأة في أمر القطن والغزل وحفظ الأقمشة وصون الأطعمة عن الهرة والفأرة وما أشبهها. ولا يكفي المرة الواحدة في الاختبار بل لا بد من مرتين وأكثر على ما يليق بالحال ويفيد غلبة الظن أنه رشد نوعا من الرشد يختص بحاله، لا الرشد من جميع الوجوه وعلى أكمل ما يمكن ولهذا ورد منكرا. وقد ظهر مما ذكرنا أنه لا بد بعد البلوغ من الرشد فيما يتعلق بصلاح ماله بحيث لا يقدر الغير على خديعته. ثم إن أبا حنيفة قال: إذا بلغ مهتديا إلى وجوه مصالح الدنيا فهو رشيد يدفع إليه ماله. وقال الشافعي:
لا بد مع ذلك من الاهتداء لمصالح الدين، فإن الفاسق لا يخلو من إتلاف المال في الوجوه الفاسدة المحرمة، وقد نفى الله تعالى الرشد عن فرعون في قوله وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: 97] مع أنه كان يراعي مصالح الدنيا. ويتفرع على القولين أن الشافعي يرى الحجر على الفاسق وأبا حنيفة لا يراه. ثم إنه إذا بلغ غير رشيد واستمر على ذلك لم يدفع إليه ماله بالاتفاق إلى خمس وعشرين سنة، وفيما وراء ذلك خلاف. فعند أصحاب أبي حنيفة وعند الشافعي لا يدفع إليه أبدا إلا بإيناس الرشد كما هو مقتضى الآية. وعند أبي حنيفة يدفع لأن مدة بلوغ الذكر عنده بالسن ثماني عشرة سنة، فإذا زادت عليها سبع سنين وهي مدة معتبرة(2/353)
في تغير أحوال الإنسان
لقوله صلى الله عليه وسلم: «مروهم بالصلاة لسبع» «1»
دفع إليه ماله، أونس منه رشد أو لم يؤنس. ثم قال: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا مصدران في موضع الحال أي مسرفين ومبادرين كبرهم، أو مفعول لهما أي لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم. والإسراف التبذير ضد القصد والإمساك. والكبر في السن وقد كبر الرجل بالكسر يكبر بالفتح كبرا أي أسن، وكبر بالضم يكبر كبرا وكبارة أي عظم. نهاهم عن الإفراط في الإنفاق كما يشتهون قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيديهم وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ فليمتنع منه وليتركه. وفي السين زيادة مبالغة كأنه طلب مزيد العفة وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ وللعلماء خلاف في أن الوصي هل له أن ينتفع بمال اليتيم؟ قال الشافعي: له أن يأخذ قدر ما يحتاج إليه وبقدر أجرة عمله، لأن النهي في الآية عن الإسراف مشعر بأن له أن يأكل بقدر الحاجة، ولا سيما إذا كان فقيرا، ولما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له: إن في حجري يتيما أفآكل من ماله؟ قال: بالمعروف غير متأثل مالا ولا واق مالك بماله. قال: أفأضربه؟ قال: مما كنت ضاربا منه ولدك.
وروي أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمار وابن مسعود وعثمان بن حنيف: سلام عليكم. أما بعد فإني قد رزقتكم كل يوم شاة شطرها لعمار، وربعها لعبد الله بن مسعود، وربعها لعثمان ألا وإني قد أنزلت نفسي وإياكم من مال الله منزلة والي مال اليتيم، مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ. وأيضا قياسا على الساعي في أخذ الصدقات وجمعها فإنه يضرب له في تلك الصدقات بسهم، فكذا هنا. وعن سعيد بن جبير ومجاهد وأبي العالية أن له أن يأخذ بقدر ما يحتاج إليه قرضا، ثم إذا أيسر قضاه، وإن مات ولم يقدر على القضاء فلا شيء عليه. وأكثر العلماء على أن هذا الاقتراض إنما جاء في أصول الأموال من الذهب والفضة وغيرهما. وأما التناول من ألبان المواشي واستخدام العبيد وركوب الدواب فمباح له إذا كان غير مضر بالمال. وقال أبوبكر الرازي:
الذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذه لا على سبيل القرض ولا على سبيل الابتداء، سواء كان غنيا أو فقيرا، واحتج بقوله تعالى وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وأجيب بأنها عامة.
وقوله: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ خاص والخاص مقدم على العام. قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً وأجيب بأن محل النزاع هو أن أكل الوصي مال اليتيم ظلم أو لا؟ قال:
وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وهو أيضا عين النزاع. ثم اعلم أن الأئمة اتفقوا على أن الوصي إذا دفع المال إلى اليتيم بعد بلوغه رشيدا فالأولى والأحوط أن يشهد عليه إظهارا
__________
(1)
رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 182. بلفظ «علموا الصبي الصلاة ابن سبع» .(2/354)
للأمانة وبراءة من التهمة. ولكن اختلفوا في أن الوصي إذا ادعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه فهل هو مصدق؟ فقال أبو حنيفة وأصحابه: يصدق بيمينه كسائر الأمناء. وقال مالك والشافعي: لا يصدق إلا بالبينة لأنه تعالى نص على الإشهاد فقال: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وظاهر الأمر للوجوب، ولأنه أمين من جهة الشرع لا من جهة اليتيم، وليس له نيابة عامة كالقاضي، ولا كمال الشفقة كالأب. نعم يصدق في قدر النفقة وفي عدم التقتير والإسراف لعسر إقامة البينة على ذلك وتنفيره الناس عن قبول الوصاية وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً أي كافيا في الشهادة عليكم بالدفع والقبض، أو محاسبا كالشريب بمعنى المشارب، وفيه تهديد للولي ولليتيم أن يتصادقوا ولا يتكاذبوا. والباء في بِاللَّهِ زائدة نظرا إلى أصل المعنى وهي كفى الله. وحَسِيباً نصب على التمييز، ويحتمل الحال. ثم من هاهنا شرع في بيان المواريث والفرائض.
قال ابن عباس: إن أوس بن ثابت الأنصاري توفي وترك امرأة يقال لها أم كحة وثلاث بنات له منها. فقام رجلان- هما ابنا عم الميت ووصياه سويد وعرفجة- فأخذا ماله ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئا، وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا الصغير وإن كان ذكرا، إنما يورثون الرجال الكبار وكانوا يقولون لا يعطى إلا من قاتل على ظهور الخيل وذاد عن الحوزة وحاز الغنيمة. قال:
فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أوس بن ثابت مات وترك لي بنات وأنا امرأته وليس عندي ما أنفق عليهن، وقد ترك أبوهن مالا حسنا وهو عند سويد وعرفجة ولم يعطياني ولا بناته من المال شيئا. فدعاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا، ولا يحمل كلا، ولا ينكي عدوّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله لي فيهن. فانصرفوا فأنزل الله لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ الآية. فبعث إليهما لا تقربا من مال أوس شيئا فإن الله قد جعل لهن نصيبا، ولم يبين حتى يتبين فنزلت يُوصِيكُمُ اللَّهُ فأعطى أم كحة الثمن، والبنات الثلثين، والباقي ابني العم.
وسبب الإجمال في الآية ثم التفصيل فيما بعد، هو أن الفطام من المألوف شديد، والتدرج في الأمور دأب الحكيم، وهكذا قد نزل الأحكام والتكاليف شيئا بعد شيء إلى أن كملت الشريعة الحقة وتم الدين الحنيفي مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل مِمَّا تَرَكَ بتكرير العامل ونَصِيباً مَفْرُوضاً نصب على الاختصاص تقديره أعني نصيبا ومقطوعا مقدرا لا بد لهم أن يحوزوه، أو على المصدر المؤكد كأنه قيل: قسمة مفروضة. احتج بعض أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية على توريث ذوي الأرحام كالعمات والخالات والأخوال وأولاد البنات، لأن الكل من الأقربين. غاية ما في الباب أن مقدار أنصبائهم غير مذكور هاهنا إلا أنا(2/355)
نثبت بالآية استحقاقهم لأصل النصيب، ونستفيد المقادير من سائر الدلائل. وأجيب بأنه تعالى قال: نَصِيباً مَفْرُوضاً وبالإجمال ليس لذوي الأرحام نصيب مقدر. وأيضا الواجب عندهم ما علم ثبوته بدليل مظنون، والمفروض ما علم بدليل قاطع، وتوريث ذوي الأرحام ليس من هذا القبيل بالاتفاق، فعرفنا أنه غير مراد من الآية. وأيضا ليس المراد بالأقربين من له قرابة ما وإن كانت بعيدة وإلا دخل جميع أولاد آدم فيه. فالمراد إذن أقرب الناس إلى الوارث، وما ذاك إلا الوالدين والأولاد. ودخول الوالدين في الأقربين يكون كدخول النوع في الجنس، فلا يلزم تكرار والله تعالى أعلم. قال المفسرون: إنه تعالى لما ذكر في الآية للنساء أسوة بالرجال في أن لهن حظا من الميراث، وعلم أن في الأقارب من يرث وفيهم من لا يرث وربما حضروا القسمة فلا يحسن حرمانهم قال: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى الآية. ثم منهم من قال بوجوبه ومنهم من قال باستحبابه. وعلى الوجوب فعن سعيد بن المسيب والضحاك أنها منسوخة بآية المواريث، وعن أبي موسى الأشعري وإبراهيم النخعي والشعبي والزهري ومجاهد والحسن وسعيد بن جبير أنها محكمة لكنها مما تهاون به الناس، قال الحسن: أدركنا الناس وهم يقسمون على القرابات واليتامى والمساكين من الورق والذهب، فإذا آل الأمر إلى قسمة الأرضين والرقيق وما أشبه ذلك قالوا لهم قولا معروفا. كانوا يقولون لهم: ارجعوا بورك فيكم. وعلى الاستحباب وهو مذهب فقهاء الأمصار اليوم قالوا: إن هذا الرضخ يستحب إذا كانت الورثة كبارا، أما إذا كانوا صغارا فليس إلا القول المعروف كأن يقول الولي: إني لا أملك هذا المال إنما هو لهؤلاء الضعفاء الذين لا يعرفون ما عليهم من الحق، وإن يكبروا فسيعرفون حقكم. والضمير في مِنْهُ إما أن يعود إلى ما ترك، وإما إلى الميراث بدليل ذكر القسمة. وقيل: المراد قسمة الوصية.
وإذا حضرها من لا يرث من الأقرباء واليتامى والمساكين، أمر الله الموصي أن يجعل لهم نصيبا من تلك الوصية ويقول لهم مع ذلك قولا معروفا. وقيل: أولو القربى الوارثون واليتامى والمساكين الذين لا يرثون. وقوله: وَقُولُوا لَهُمْ راجع إلى هؤلاء الذين لا يرثون. ويحكى هذا القول عن سعيد بن جبير. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا الجملة الشرطية وهي «لو» مع ما في حيزه صلة الذين. والمعنى ليخشى الذين من صفتهم وحالهم أنهم لو تركوا ذرية ضعافا خافوا عليهم. وأما المخشى فغير منصوص عليه. قال بعض المفسرين:
هم الأوصياء أمروا بأن يخشوا الله فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافا، أو أمروا بأن يخشوا على اليتامى من الضياع كما يخشون على أولادهم لو تركوهم، وعلى هذا فيكون القول السديد أي الصواب. القصد هو أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالقول الجميل ويدعوهم بيا بني ويا ولدي، وهذا(2/356)
القول أليق بما تقدم وتأخر من الآيات الواردة في باب الأيتام. نبههم الله على حال أنفسهم وذريتهم إذا تصوروها ليكون ذلك أجدر ما يدعوهم إلى حفظ مال اليتيم كما قال القائل:
لقد زاد الحياة إليّ حبا ... بناتي إنهن من الضعاف
أحاذر أن يرين البؤس بعدي ... وأن يشربن رنقا بعد صافي
وقيل: هم الذين يجلسون إلى المريض فيقولون: إن ذريتك لا يغنون عنك من الله شيئا. فقدّم مالك، ولا يزالون يأمرونه بالوصية إلى الأجانب إلى أن يستغرق المال بالوصايا. فأمروا بأن يخشوا ربهم ويخشوا على أولاد المريض خوفهم على أولاد أنفسهم لو كانوا. وعلى هذا تكون الآية نهيا للحاضرين عن الترغيب في الوصية. والقول السديد أن يقولوا للمريض لا تسرف في الوصية فتجحف بأولادك مثل
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: الثلث كثير.
وكان الصحابة رضي الله عنهم يستحبون أن لا تبلغ الوصية الثلث وإن الخمس أفضل من الربع والربع من الثلث. وقيل: يجوز أن تتصل الآية بما قبلها فيكون أمرا للورثة بالشفقة على الذين يحضرون القسمة من الضعفاء، وأن يتصوروا أنهم لو كانوا أولادهم خافوا عليهم الحرمان. وعن حبيب بن ثابت سألت مقسما عن الآية. فقال: هو الرجل الذي يحضره الموت ويريد الوصية للأجانب فيقول له من كان عنده: اتق الله وأمسك على ولدك مالك.
مع أن ذلك الإنسان يحب أن يوصي له. وعلى هذا يكون نهيا عن الوصية ولا يساعده قوله:
لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً ثم أكد الوعيد في باب إهمال مال اليتيم فقال إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً أي ظالمين أو على وجه الظلم من ولاة السوء وقضاته لا بالمعروف إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ أي ملء بطونهم نارا أي ما يجر إلى النار وكأنه نار في الحقيقة. وقال السدي: يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه وعينيه، فيعرف الناس أنه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا.
وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «رأيت ليلة أسري بي قوما لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من النار يخرج من أسافلهم فقال جبريل:
هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما» .
وَسَيَصْلَوْنَ من قرأ بفتح الياء فهو من صلى فلان النار بالكسر يصلى صليا احترق. ومن قرأ بالضم فمعناه الإلقاء في النار لأجل الإحراق من الإصلاء. وقد يشدد من التصلية والمعنى واحد. والسعير النار، وسعرت النار والحرب هيجتها وألهبتها فهي سعير أي مسعورة. والتنكير للتعظيم أي نارا مبهمة الوصف لا يعلم شدتها إلا خالقها. قالت المعتزلة: لا يجوز أن يدخل تحت هذا الوعيد آكل اليسير من(2/357)
ماله، بل لا بد أن يكون مقدار خمسة دراهم لأنه القدر الذي وقع عليه الوعيد في آية الكنز في منع الزكاة ولا بد مع ذلك من عدم التوبة. فقيل لهم: إنكم خالفتم هذا العموم من وجهين: من جهة شرط عدم التوبة، ومن جهة شرط عدم كونه صغيرة، فلم لا يجوز لنا أن نزيد فيه شرط عدم العفو؟ وهاهنا نكتة وهي أنه أوعد مانع الزكاة بالكي، وآكل مال اليتيم بامتلاء البطن من النار. ولا شك أن هذا الوعيد أشد، والسبب فيه أن الفقير غير مالك لجزء من النصاب حتى يملكه المالك، واليتيم مالك لماله فكان مع اليتيم أشنع. وأيضا الفقير يقدر على الاكتساب من وجه آخر أو على السؤال، واليتيم عاجز عنهما فكان ضعفه أظهر وهذا من كمال عنايته تعالى بالضعفاء فنرجو أن يرحم ذلنا وضعفنا بعزته وقوته.
التأويل:
ذكر الناسين بدء خلقهم بالأشباح والأرواح فخلقوا بالأشباح من آدم، وبالأرواح من روح محمد صلى الله عليه وسلم.
قال: أول ما خلق الله روحي فهو أبو الأرواح.
وخلق من الروح زوجه وهي النفس، خلقها من أدنى شعاع من أشعة أنوار روح محمد صلى الله عليه وسلم وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً أرواحا كاملين وَنِساءً أرواحا ناقصات وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ أي اتقوه أن تساءلوا به غيره وَالْأَرْحامَ ولا تقطعوا رحم رحمتي بصلة غيري وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ تزكية عن آفة الحرص والحسد والدناءة والخسة والطمع وتحلية بالقناعة والمروءة وعلو الهمة والعافية وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ تزكية عن آفة الخيانة والخديعة وتحلية بالأمانة وسلامة الصدر وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ تزكية عن الجور وتحلية بالعدل، فإن اجتماع هذه الرذائل كان حوبا كبيرا حجابا عظيما فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ تزكية عن الفاحشة وتحلية بالعفة ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا تزكية عن الحدة والغضب، وتحلية بالسكون والحلم وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ تزكية عن البخل والغدر وتحلية بالوفاء والكرم فَكُلُوهُ هَنِيئاً تزكية عن الكبر والأنفة وتحلية بالتواضع والشفقة. فهذه كلها إشارات إلى تربية يتامى القلوب والنفوس بإيتاء حقوق تزكيتهم عن هذه الأوصاف وتحليتهم بهذه الأخلاق. ثم نهى عن إيتاء النفوس الأمارة حظوظها فقال: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ وإنما قال: أَمْوالَكُمُ لأن الخطاب مع العقلاء والصلحاء وقد خلق الله الدنيا لأجلهم أن الأرض يرثها عبادي الصالحون. وَارْزُقُوهُمْ فِيها قدر ما يسد الجوعة وَاكْسُوهُمْ ما يستر العورة وما زاد فإسراف في حق النفس. وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً كنحو: أكلت رزق الله فأدّي شكر نعمته بامتثال أوامره ونواهيه وإلا أذيبي طعامك بذكر الله كما
قال صلى الله عليه وسلم «أذيبوا طعامكم بذكر الله» .
وَابْتَلُوا الْيَتامى أي قلوب السائرين بأدنى توسع في المعيشة بعد أن كانوا محجورين عن التصرف حَتَّى إِذا بَلَغُوا مبلغ الرجال البالغين فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ(2/358)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
رُشْداً
بأن استمروا بذلك التوسع على السير وزادوا في اجتهادهم وجدهم كما قال الجنيد:
أشبع الزنجي وكدّه فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فالعبد في هذا المقام يكون جائز التصرف في مماليك سيده كالعبد المأذون، ولهذا قال هاهنا أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً أي فإن آنستم يا أولياء الطريقة من المريدين البالغين رشد التصرف في أصحاب الإرادة فادفعوا إليهم عنان التصرف بإجازة الشيخوخية، ولا تجعلوا الشيخوخية مأكلة لكم غيرة وغبطة عليهم أن يكبروا بالشيخوخية. وَمَنْ كانَ غَنِيًّا بالله من قوة الولاية مستظهرا بالعناية فَلْيَسْتَعْفِفْ عن الانتفاع بصحبتهم، وَمَنْ كانَ فَقِيراً مفتقرا إلى ولاية المريد فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فلينتفع بإعانته وليجزله بالشيخوخية مع الإمداد في الظاهر والباطن. فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ سلمتم إليهم مقام الشيخوخية فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ الله ورسوله وأرواح المشايخ وأوصوهم برعاية حقوقها مع الله والخلق. ثم أخبر عن نصيب كل نسيب فقال: لِلرِّجالِ وهم الأقوياء من الطلبة وَلِلنِّساءِ وهم الضعفاء نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وهم المشايخ والإخوان في الله وتركتهم بركتهم وأنوارهم نَصِيباً مَفْرُوضاً على قدر استعدادهم وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أي في محافل صحبتهم ومجالس ذكرهم أُولُوا الْقُرْبى المنتمون إليهم المقتبسون من أنوارهم والمقتفون لآثارهم فَارْزُقُوهُمْ من مواهب بركاتهم وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً في التشويق وإرشاد الطريق وتقرير هوان الدنيا عند الله، وعزة أهل الله في الدارين. وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً من متوسطي المريدين أو المبتدئين خافُوا عَلَيْهِمْ آفات المفارقة بسفر أو موت فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ أي يوصونهم بالتقوى وأن يقولوا قولا سديدا هو لا إله إلا الله. فإن التقوى ومداومة الذكر خطوتان يوصلان العبد إلى الله إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ يضيعون أطفال الطريقة بعدم التربية ورعاية وظائف النصيحة إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نار الحسرة والغرامة يوم لا تنفع الندامة.
[سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 22]
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15)
وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20)
وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22)(2/359)
القراآت:
واحِدَةً بالرفع: أبو جعفر ونافع. الباقون: بالنصب. فَلِأُمِّهِ وما بعده(2/360)
بكسر الهمزة لأجل كسرة ما قبلها: حمزة وعلي. الباقون بالضم يُوصِي وما بعد مبنيا للمفعول: ابن كثير وابن عامر ويحيى وحماد والمفضل وافق الأعشى في الأولى وحفص في الثانية. الباقون: مبنيا للفاعل. ندخله بالنون في الحرفين: نافع وابن عامر وأبو جعفر.
الباقون بالياء. وكذلك في سورة الفتح والتغابن والطلاق. وَالَّذانِ بتشديد النون: ابن كثير، وكذلك قوله: هذانِ [طه: 63] وهاتان وأَرِنَا الَّذَيْنِ [فصلت: 29] وأشباه ذلك. وأما قوله فَذانِكَ فابن كثير وأبو عمرو ويعقوب وعباس مخير. الباقون:
بالتخفيف كَرْهاً بالضم وكذلك في التوبة، حمزة وعلي وخلف. الباقون بالفتح مُبَيِّنَةٍ مبينات بفتح الياء: ابن كثير وأبوبكر وحماد. وقرأ أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب مُبَيِّنَةٍ بالكسر مبينات بالفتح. الباقون كلها بالكسر.
الوقوف:
الْأُنْثَيَيْنِ ج ما تَرَكَ ج فَلَهَا النِّصْفُ ط لانتهاء حكم الأولاد إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ ج فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ج أَوْ دَيْنٍ ط وَأَبْناؤُكُمْ ج لتقديرهم أبناؤكم، ولاحتمال كون آباؤكم مبتدأ وخبره. لا تَدْرُونَ نَفْعاً ج مِنَ اللَّهِ ط حَكِيماً هـ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ ج دَيْنٍ ط مِنْهُمَا السُّدُسُ ج دَيْنٍ ط لأن غير حال عامله يُوصى مُضَارٍّ ج لاحتمال نصب وصية به كما يجيء. مِنَ اللَّهِ ط حَلِيمٌ هـ ط لأن تِلْكَ مبتدأ حُدُودُ اللَّهِ ط خالِدِينَ فِيها ط لأن ما بعده اعتراض مقرر للجزاء.
الْعَظِيمُ هـ خالِداً فِيها ص لأن ما بعده من تتمة الجزاء. مُهِينٌ هـ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ ج لابتداء الشرط مع الفاء. سَبِيلًا هـ فَآذُوهُما ج عَنْهُما ط رَحِيماً هـ عَلَيْهِمْ ط حَكِيماً هـ السَّيِّئاتِ ط لأن حتى إذا تصلح للابتداء وجوابه قالَ إِنِّي تُبْتُ [النساء:
18] وتصلح انتهاء لعمل السيئات وَهُمْ كُفَّارٌ ط أَلِيماً هـ كَرْهاً ط للعدول عن الإخبار إلى النهي. مُبَيِّنَةٍ ج للعارض بين المتفقين بِالْمَعْرُوفِ ج كَثِيراً هـ شَيْئاً ط مُبِيناً هـ غَلِيظاً ط وَمَقْتاً ط سَبِيلًا هـ.
التفسير:
إنه تعالى لما بين حكم مال الأيتام وما على الأولياء فيه، بيّن أن اليتيم كيف يملك المال إرثا ولم يكن ذلك إلا بيان جملة أحكام الميراث. أو نقول: أجمل حكم الميراث في قوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ ولِلنِّساءِ نَصِيبٌ ثم فصل ذلك بقوله يُوصِيكُمُ اللَّهُ أي يعهد إليكم ويأمركم في أولادكم في شأن ميراثهم. واعلم أن أهل الجاهلية كانوا يتوارثون بشيئين: النسب والعهد. أما النسب فكانوا يورثون الكبار به ولا يورثون الصغار والإناث كما مر، وأما العهد فالحلف أو التبني كما سيجيء في تفسير قوله: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء: 23] وكان التوريث بالعهد مقرر في أول الإسلام مع زيادة سببين آخرين: أحدهما الهجرة. فكان المهاجر يرث من المهاجر وإن كان أجنبيا عنه(2/361)
إذا كان بينهما مزيد مخالطة ومخالصة، ولا يرثه غيره وإن كان من أقاربه. والثاني المؤاخاة.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين كل اثنين منهم فيكون سببا للتوارث. والذي تقرر عليه الأمر في الإسلام أن أسباب التوريث ثلاثة: قرابة ونكاح وولاء. والمراد من الولاء أن المعتق يرث بالعصوبة من المعتق.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورث بنت حمزة من مولى لها.
ووراء هذه الأسباب سبب عام وهو الإسلام، فمن مات ولم يخلف من يرثه بالأسباب الثلاثة فماله لبيت المال يرثه المسلمون بالعصوبة كما يحملون عنه الدية.
قال صلى الله عليه وسلم: «أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه» «1»
وعن أبي حنيفة وأحمد أنه يوضع ماله في بيت المال على سبيل المصلحة لا إرثا، لأنه لا يخلو عن ابن عم وإن بعد فألحق بالمال الضائع الذي لا يرجى ظهور مالكه. وإنما بدأ سبحانه بذكر ميراث الأولاد لأن تعلق الإنسان بولده أشد التعلقات، ثم للأولاد حال انفراد وحال اجتماع مع أبوي الميت. أما حال الانفراد فثلاث ذكور وإناث معا، أو إناث فقط، أو ذكور فقط. أما الحالة الأولى فبيانها قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أي للذكر منهم، فحذف الراجع للعلم به وفيه أحكام ثلاثة: أحدها: خلف ذكرا واحدا وأنثى واحدة فله سهمان ولها واحد. وثانيها: خلف ذكورا وإناثا لكل ذكر سهمان ولكل أنثى سهم. وثالثها: خلف مع الأولاد جمعا آخرين كالزوجين، فهم يأخذون سهامهم والباقي بين الأولاد لكل ذكر مثل نصيب أنثيين. وإنما لم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر إشعارا بفضيلته كما ضوعف حظه لذلك، ولأن الابتداء بما ينبىء عن فضل أحد أدخل في الأدب من الابتداء بما ينبىء عن النقص، ولأنهم كانوا يورّثون الذكور دون الإناث فكأنه قيل لهم: كفى الذكور تضعيف من النصيب، فليقطعوا الطمع عن الزيادة. وأما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيب النساء من المال أقل من نصيب الرجال، فلنقصان عقلهن ودينهن كما جاء في الحديث، ولأن احتياجهن إلى المال أقل لأن أزواجهن ينفقون عليهن، أو لكثرة الشهوة فيهن فقد يصير المال سببا لزيادة فجورهن كما قيل:
إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أي مفسده.
فكيف حال المرأة؟ وعن جعفر الصادق رضي الله عنه أن حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها، وأخذت حفنة أخرى وخبأتها، ثم أخذت حفنة أخرى ورفعتها إلى آدم.
فلما جعلت نصيب نفسها ضعف نصيب الرجل قلب الله الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصف نصيب الرجل. وأما الحالة الثانية فهن أكثر من اثنتين أو اثنتان أو واحدة. وحكم
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الفرائض باب 8. ابن ماجه في كتاب الديات باب 7. أحمد في مسنده (4/ 131) .(2/362)
القسم الأول مبين في قوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وحكم القسم الثالث في قوله: وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فمن قرأ بالرفع على «كان» التامة فظاهر، ومن قرأ بالنصب فالضمير في كانت إما أن يعود إلى النساء وجاز لعدم الإلباس بدليل واحدة، وإما أن يعود إلى غائب حكمي أي إن كانت البنت أو المولودة. وقراءة النصب أوفق لقوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً وقراءة الرفع أيضا حسنة لئلا يحتاج إلى التكلف في عود الضمير. وجوّز صاحب الكشاف أن يكون الضمير في كُنَّ وكانَتْ مبهمة وتكون نِساءً وواحِدَةً تفسيرا لهما على أن «كان» تامة. وأما القسم الثاني وهو حكم البنتين فغير مذكور في الآية صريحا فلهذا اختلف العلماء فيه. فعن ابن عباس أن فرضهما النصف كما في الواحدة، لأن الثلثين فرض البنات بشرط كونهن فوق اثنتين، فإذا لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط. وعورض بأن النصف أيضا مشروط بالوحدة. أقول: ولعله نظر إلى أن الاثنتين أقرب إلى الواحد من الأعداد الغير المحصورة التي فوق الإثنتين سوى الثلاثة، والحمل على الأقرب أولى. وقال الأكثرون من الصحابة وغيرهم: إن فرضهما الثلثان لأن من مات وخلف ابنا وبنتا فللبنت الثلث بالآية، فيلزم أن يكون للبنتين الثلثان. وأيضا نصيب البنت مع الولد الذكر الثلث، فلأن يكون نصيبها مع ولد آخر أنثى هو الثلث أولى لأن الذكر أقوى من الأنثى. وعلى هذا فكان قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ دالا على أنثيين، فذكر بعد ذلك أنهن وإن بلغن ما بلغن من العدد لم يتجاوز الثلثين. وقيل: إن البنتين أمس رحما بالميت من الأختين، لكنه تعالى يقول في آخر السورة فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ فالبنتان أولى وهذا قياس جلي، ومما يؤيده أنه تعالى لم يذكر ميراث الأخوات الكثيرة ليقاس ميراثهن على ميراث البنات الكثيرة كما يقاس ميراث البنتين على الأختين. وقيل:
لفظ فَوْقَ وهو صفة نساء أو خبر بعد خبر للتأكيد، أو ليخرج أقل الجمع وهو اثنان زائد كقوله: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الأنفال: 12] وقيل: فيه تقديم وتأخير والمراد: فإن كن نساء اثنتين فما فوقهما.
وعن جابر بن عبد الله قال: جاءت امرأة بابنتين لها فقالت: يا رسول الله، هاتان بنتا ثابت بن قيس، أو قالت: سعد بن الربيع. قتل معك يوم أحد وقد استفاء عمهما مالهما وميراثهما. فقال: يقضي الله في ذلك ونزلت هذه الآية. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع لي المرأة وصاحبها. فقال لعمهما: أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك.
وأما الحالة الثالثة وهو ما إذا كان الأولاد ذكورا فقط فلم يذكر في الآية، لأنه لما علم أن للذكر مثل حظ الأنثيين وقد تبين أن للبنت الواحدة النصف، علم منه أن للابن الواحد الكل، وإذا كان للواحد الكل، فإذا كانوا أكثر من واحد لم يحسن حرمان بعضهم ولا(2/363)
ترجيح بعضهم فيكون المال مشتركا بينهم بالسوية. وأيضا
قال صلى الله عليه وسلم: «وما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر»
ولا نزاع في أن الابن عصبة ذكر، فإذا لم يكن معه صاحب فرض فله كل المال لا محالة. والنص: سألت عن ولد الولد فقيل: اسم الولد يقع على ولد الابن أيضا لقوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ [الأعراف: 31] يا بَنِي إِسْرائِيلَ [البقرة: 40، 47، 122 وغيرها من الآيات] . وقيل: قيس ولد الولد على الولد لما أنه كولد الصلب في الإرث والتعصيب، ولكنه لا يستحق شيئا مع أولاد الصلب على وجه الشركة، وإنما يستحق إذا لم يوجد ولد الصلب رأسا، أو لا يأخذ كما في مسألة بنت واحدة وبنت ابن فإنهما يأخذان الثلثين. واعلم أن عموم قوله تعالى يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ مخصوص بصور منها: أن العبد والحر لا يتوارثان. ومنها أن القاتل لا يرث. ومنها أن لا يتوارث أهل ملتين والمرتد ماله فيء لبيت المال سواء اكتسب في الإسلام أو في الردة. وعند أبي حنيفة: ما اكتسب في الإسلام يرثه أقاربه المسلمون. ومنها أن الأنبياء لا يورثون خلافا للشيعة.
روي أن فاطمة رضي الله عنها لما طلبت الميراث احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» «1»
واحتجت بقوله تعالى حكاية عن زكريا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ [مريم: 6] وبقوله: وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ [النمل: 16] ، والأصل في التوريث للمال، ووراثة العلم أو الدين مجاز. وبعموم قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ ولأن المحتاج إلى هذه المسألة ما كان إلا عليا وفاطمة والعباس وهؤلاء كانوا من أكابر الزهاد والعلماء في الدين. وأما أبو بكر فإنه ما كان محتاجا إلى معرفة هذه المسألة البتة لأنه ما كان يخطر بباله أنه يرث الرسول عليه الصلاة والسلام، فكيف يليق بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ هذه المسألة إلى من لا حاجة به إليها ولا يبلغها إلى من له إلى معرفتها أشد الحاجة؟ وأيضا يحتمل أن يكون
قوله: «ما تركناه صدقة»
صلة
لقوله: «لا نورث»
والمراد أن الشيء الذي تركناه صدقة فذلك الشيء لا يورث ولعل فائدة تخصيص الأنبياء بذلك أنهم إذا عزموا على التصدق بشيء فمجرد العزم يخرج ذلك عن ملكهم فلا يرثه وارثهم عنهم. أجابوا بأن فاطمة رضي الله عنها رضيت بقول أبي بكر بعد هذه المناظرة وانعقد الإجماع على ما ذهب إليه أبوبكر. واعلم أن جميع ما ذكرنا إنما هو في حالة انفراد الأولاد، أما حالة اجتماعهم بالأبوين فذلك قوله: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ والمراد بالأبوين الأب والأم. فغلب جانب الأب لشرفه، ومثله من التغليب في التثنية «القمران» و «العمران» و «الخافقان» .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الخمس باب 1. مسلم في كتاب الجهاد حديث 49- 52. أبو داود في كتاب الإمارة باب 19. الترمذي في كتاب السير باب 44. النسائي في كتاب الفيء باب 9، 16. الموطأ في كتاب الكلام حديث 27. أحمد في مسنده (1/ 4، 6، 47، 179) .(2/364)
والضمير في لِأَبَوَيْهِ يعود إلى الميت المعلوم من سياق الكلام في الميراث ولِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بدل من لِأَبَوَيْهِ بتكرير العامل. وفائدة هذا البدل أنه لو قيل: ولأبويه السدس لأوهم اشتراكهما فيه. ولو قيل: ولأبويه السدسان لأوهم قسمة السدسين عليهما بالتساوي أو بالتفاوت. ولو قيل: ولكل واحد من أبويه السدس لفاتت فائدة الإجمال والتفصيل والإبهام والتفسير. فقوله: السُّدُسُ مبتدأ وخبره لِأَبَوَيْهِ وقد توسط البدل بينهما للبيان. واعلم أن للأبوين ثلاث أحوال: الأولى أن يحصل معهما ولد ولا نزاع أن اسم الولد يقع على الذكر وعلى الأنثى فههنا ثلاثة أوجه: أحدها أن يحصل معهما ولد ذكر واحد أو أكثر فللأبوين لكل واحد منهما السدس. والباقي للأولاد بالسوية. وثانيها أن يحصل معهما بنتان أو أكثر، فالحكم كما ذكر. وثالثها أن يكون معهما بنت واحدة فههنا للبنت النصف وللأم السدس وللأب السدس بحكم الآية، والباقي للأب بحكم التعصيب. فإن قيل: إن حق الوالدين على الولد مما لا يخفى فما الحكمة في أنه تعالى جعل نصيب الأولاد أكثر ونصيب الوالدين أقل؟ فالجواب- والله أعلم- أن الوالدين ما بقي من عمرهما إلا القليل غالبا، أما الأولاد فهم في زمان الصبا فاحتياجهم إلى المال أكثر وأيضا كأنهما قالا بلسان الحال للأطفال: إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا. وأيضا ولد الولد ولد، وترفيه حال الولد أهم عند الوالدين من ترفيه حالهما. الحالة الثانية أن لا يكون معهما أحد من الأولاد ولا وارث سواهما وهو المراد بقوله: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ أي فقط فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ويعلم منه أن الباقي يكون للأب فيكون المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، ويحصل للأب السدس بالفرضية، والنصف بالعصوبة، ولأنه تعالى قيد فرضية الثلث للأم بأن يكون الوارث منحصرا في الأبوين اختلف العلماء في أنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين فكيف يكون فرض الأم؟ فقال ابن عباس: يدفع إلى الزوج نصيبه أو إلى الزوجة نصيبها، وللأم الثلث بحاله والباقي وذهب الأكثرون إلى أن الزوج أو الزوجة لهما نصيبهما، وثم يدفع ثلث ما بقي إلى الأم والباقي للأب ليكون للذكر مثل حظ الأنثيين كما هو قاعدة الميراث عند اجتماع الذكر والأنثى، فيكون الأبوان كشريكين بينهما مال، فإذا صار شيء منه مستحقا بقي الباقي بينهما على قدر الاستحقاق الأوّل. وأيضا الزوج إنما يأخذ سهمه بحكم عقد النكاح لا بحكم القرابة فأشبه الوصية في قسمة الباقي. وعن ابن سيرين أنه وافق ابن عباس في الزوجة والأبوين. فإنا إذا دفعنا الربع إلى الزوجة، والثلث إلى الأم بقي للأب الثلث ونصف السدس أكثر ما للأم، وخالفه في الزوج والأبوين لأنه إذا دفع إلى الزوج النصف وإلى الأم الثلث يبقى للأب السدس فيكون للأنثى مثل حظ الذكرين. هذا عكس قوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ الحالة الثالثة أن يوجد معها الإخوة(2/365)
والأخوات وذلك قوله: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ واتفقوا على أن واحدا من الإخوة أو الأخوات لا يحجب الأم من الثلث إلى السدس، واتفقوا على أن ثلاثة منهم يحجبون لكن الاثنين مختلف فيهما. فالأكثرون من الصحابة ذهبوا إلى إثبات الحجب بهما كما في الثلاثة بناء على أن الاثنين جمع لوجود التعدد في التثنية فما فوقها، فصح أن يتناول الإخوة للأخوين واستقراء باب الميراث يؤيد ذلك، فإنه جعل نصيب البنتين الثلثين مثل نصيب البنات وكذلك للأختين والأخوات. وذكر الشيخ الكامل محيي الدين بن العربي في الفتوحات أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فسأله عن خلاف الأئمة في أن أقل الجمع اثنان أو ثلاثة، فعلمه أن أقل الجمع في الشفع اثنان وفي الوتر ثلاثة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «الاثنان فما فوقهما جماعة» «1»
وقد احتج ابن عباس بذلك على عثمان فقال: كيف تردّها إلى السدس بالأخوين وليسا بإخوة؟ فقال عثمان: لا أستطيع رد شيء كان قبلي ومضى في البلدان.
فأشار إلى إجماعهم قبل أن يظهر ابن عباس الخلاف. ثم إن الاثنين أو الثلاثة إذا حجبوا الأم عن السدس، فذلك السدس يكون لهم حتى يبقى للأب الثلثان، أو لا يكون لهم شيء من الميراث ويكون خمسة الأسداس للأب. ذهب ابن عباس إلى الأوّل، وذهب الجمهور إلى الثاني إذ لا يلزم من كون الشخص حاجبا كونه وارثا ولم يرد لهم ذكر إلا بالحجب فوجب أن يبقى المال بعد حصول هذا الحجب على ملك الأبوين. ثم ذكر أن هذه الأنصباء إنما تدفع إلى هؤلاء من بعد وصية يوصى بها أو دين. حتى لو استغرق الدين كل مال الميت لم يكن للورثة فيه حق. وإذا لم يكن أو كان لكنه قضى وفضل بعده شيء. فإن أوصى الميت وصية أخرجت من ثلث ما فضل ثم قسم الباقي ميراثا على فرائض الله تعالى.
عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: إنكم لتقرؤن الوصية قبل الدين وإن الرسول صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية.
والمراد أنه لا عبرة بالتقديم في الذكر لأن كلمة أولا تفيد الترتيب البتة، وإنما استفيد الترتيب من السنة عكس الترتيب في اللفظ. وفائدة هذا العكس أن الوصية تشبه الميراث في كونها مأخوذة من غير عوض، فكان أداؤها مظنة التفريط بخلاف الدين، فإن نفوس الورثة مطمئنة إلى أدائه فكان في تقديمها ترغيب لهم في أدائها، ولهذا جيء بكلمة أو دلالة على التسوية بينهما في الوجوب، ولأن كل مال ليس يحصل فيه الأمران فجيء بأو الفاصلة ليدل على أنه إن كان أحدهما فالميراث بعده، وكذلك إن كان كلاهما فالوصية تشبه الدين من جهة أن سهام أهل المواريث معتبرة بعد كل منهما. ولكنها تفارق الدين من جهة
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأذان باب 35. النسائي في كتاب الإمامة باب 43- 45. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 44. أحمد في مسنده (5/ 254، 269) .(2/366)
أنه متى هلك من المال شيء دخل النقصان في أنصباء أصحاب الوصية كما في الإرث بخلاف الدين فإنه يبقى بحاله.
ثم قال: آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً قال أبو البقاء أَيُّهُمْ مبتدأ وأَقْرَبُ خبره، والجملة في موضع نصب ب تَدْرُونَ وهي معلقة عن العمل لفظا لأنها من أفعال القلوب. وأقول: من الجائز أن لا تكون من أفعال القلوب بل تكون بمعنى المعرفة، وكان أَيُّهُمْ مفعوله مبنيا لحذف صدر الصلة نحو لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ [مريم: 69] . قال المفسرون: هذا كلام معترض بين ذكر الوارثين وأنصبائهم، وبين قوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ومن حق الاعتراض أن يناسب ما اعترض بينه ويؤكده. فقيل: هذا من تمام الوصية أي لا تدرون من أنفع لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يموتون، أم أوصى منهم أم من لم يوص. يعني أن من أوصى ببعض ماله فعرّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعا وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفر عليكم عرض الدنيا وجعل ثواب الآخرة أقرب وأحضر من عرض الدنيا ذهابا إلى حقيقة الأمر، لأن عرض الدنيا وإن كان عاجلا قريبا في الصورة إلا أنه فان فهو في الحقيقة الأبعد الأقصى، وثواب الآخرة وإن كان آجلا إلا أنه باق فهو في الحقيقة الأقرب الأدنى. وقيل: عن ابن عباس أن الابن إن كان أرفع درجة من أبيه في الجنة سأل أن يرفع أبوه إليه فيرفع. وكذلك الأب إن كان أرفع درجة من ابنه سأل أن يرفع ابنه إليه. فأنتم لا تدرون في الدنيا أيهم أقرب لكم نفعا لأن أحدهما لا يعرف ان انتفاعه في الجنة بهذا أكثر أم بذلك. وقيل: قد فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة، والعقول لا تهتدي إلى كمية تلك التقديرات. فلو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم لكم أنفع فوضعتم أنتم الأموال في غير موضعها. وقيل: المراد كيفية انتفاع بعضهم ببعض في الدنيا من جهة الإنفاق والذب عنه، فلا يدري أن الابن سيحتاج إلى أن ينفق الأب عليه أو الأب سيفتقر إلى الابن. وقيل: المقصود جواز أن يموت هذا قبل: ذلك فيرنه وبالضد، والقول هو الأوّل. فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ نصبت على أنها صفة تقوم مقام المصدر المؤكد أي فرض الله ذلك فرضا إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بكل المعلومات فيكون عالما بما في قسمة المواريث من المصالح والمفاسد حَكِيماً لا يأمر إلا بما هو الأحسن الأصلح. قال الخليل: «كان» هاهنا منخلع عن اعتبار الاقتران بالزمان، لأنه تعالى منزه عن الدخول تحت الزمان ولكنه من الأزل إلى الأبد عليم حكيم. وقال سيبويه: إن القوم لما شاهدوا علما وحكمة تعجبوا فقيل لهم: إن الله كان كذلك أي لم يزل موصوفا بهذه الصفات. هذا واعلم أن الوارث إما أن يكون متصلا بالميت بغير واسطة أو بواسطة. وعلى الأول فسبب الاتصال(2/367)
إما أن يكون هو النسب أو الزوجية. فهذه ثلاثة أقسام: الأوّل قرابة التوالد الفروع والأصول وهو أشرف الاتصالات لعدم الواسطة ولكثرة المخالطة ولغاية الألفة والشفقة، ولهذا قدّم في الذكر. ويتلوه في الشرف القسم الثاني لمثل ما قلنا ولهذا أردفه بالقسم الأول وذلك قوله:
وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إلى قوله تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ ثم بيّن أحوال القسم الثالث وهو الكلالة في قوله: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً فما أحسن هذا النسق. ولما جعل في الموجب النسبيّ حظ الرجل مثل حظ الأنثيين، فكذلك جعل في الموجب السببي وهو الزوجية حظ الزوج ضعف حظ الزوجة. وقد نبه في الآية على فضل الرجال حيث ذكرهم على سبيل المخاطبة ثمان مرات، وذكرهن على الغيبة أقل من ذلك. ثم الواحدة والجماعة سواء في الربع والثمن، ولا فرق في الولد بين الذكر والأنثى، ولا بين الابن وابن الابن، ولا بين البنت وبنت الابن، ويخرج منه ولد البنت لأنه لا يرث. وهاهنا مسألة.
قال الشافعي: يجوز للزوج غسل زوجته لأنها بعد الموت زوجته بدليل قوله تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأنها ليست زوجته، ولو كانت زوجته لحل له وطؤها لقوله: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ [المؤمنون: 6] وأجيب بأنه لو لم تكن زوجة له لكان قوله ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ مجازا. ولو كانت زوجة مع أنه لا يحل له وطؤها لزم التخصيص وإذا تعارض المجاز والتخصيص فالتخصيص أولى كما بين في أصول الفقه.
وكيف لا وقد علم في صور كثيرة حصول الزوجية مع حرمة الوطء كزمان الحيض والنفاس ونهار رمضان وعند اشتغالها بالصلاة المفروضة والحج المفروض وعند كونها في العدّة عن الوطء بالشبهة. وأيضا حل الوطء ثابت على خلاف الأصل لما فيه من المصالح، وعند الموت لم يبق شيء من تلك المصالح فعاد إلى أصل الحرمة. أما حل الغسل ففيه مصالح فوجب القول ببقائه. واختلفوا في تفسير الكلالة فعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه سئل عن الكلالة فقال: أقول فيه برأيي فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه. الكلالة ما خلا الوالد والولد. وعن عمر رضي الله عنه: الكلالة من لا ولد له فقط. وعنه في رواية أخرى التوقف. وكان يقول: ثلاثة لأن يكون بينهن الرسول صلى الله عليه وسلم لنا أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها: الكلالة والخلافة والربا. وقيل: الكلالة القرابة من غير جهة الولد والوالد. ومنه قولهم: ما ورث المجد عن كلالة كما تقول: ما صمت عن عيّ. قال الفرزدق:
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة ... عن ابني مناف عبد شمس وهاشم(2/368)
والمختار الصحيح من الأقوال قول أبي بكر لأن الكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوّة من الإعياء. قال الأعشى:
فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من وجى حتى تلاقي محمدا
فاستعيرت للقرابة من غير جهة الوالد والولد لأنها بالإضافة إلى قرابة الأصول والفروع كلالة ضعيفة. ويحتمل أن يقال: هي من الإكليل لأنهم يحيطون بالإنسان إحاطة الإكليل بالرأس بخلاف قرابة الولادة فإنها تذهب على الاستقامة كما قال:
نسب تتابع كابرا عن كابر ... كالرمح أنبوبا على أنبوب
وأيضا فإنه تعالى قال في آخر السورة قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [الآية: 176] فاحتج عمر بذلك. والجواب أنه تعالى حكم في تلك الآية بتوريث الإخوة والأخوات حال كون الميت كلالة. ولا شك أن الإخوة والأخوات لا يرثون حال وجود الأبوين، فيلزم أن لا يكون الميت كلالة حال وجود الأبوين. وأيضا إنه تعالى ذكر حكم الولد والوالدين في الآيات المتقدمة، ثم أتبعها ذكر الكلالة. وهذا الترتيب يقتضي أن يكون الكلالة من عدا الوالدين والولد، ثم الكلالة قد يجعل وصفا للمورث. والمراد الذي يرثه من سوى الوالدين والأولاد، ويمكن أن يحمل عليه بيت الفرزدق أي ما ورثتم الملك عن الأعمام بل عن الآباء، فسمى العم كلالة وهو هاهنا مورث لا وارث. وقد يجعل وصفا للوارث ومنه قول جابر: مرضت مرضا أشفيت منه على الموت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إني رجل لا يرثني إلا كلالة وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد. ويقال: رجل كلالة وامرأة كلالة وقوم كلالة لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر كالدلالة والجلالة، وإذا جعلت صفة للوارث أو المورث كانت بمعنى ذي كلالة كما يقال: فلان من قرابتي أي من ذوي قرابتي.
ويجوز أن يكون صفة كالهجاجة والفقاقة يقال: رجل هجاجة وفقاقة كلاهما بالتخفيف أي أحمق. وقوله تعالى: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ فيه احتمالان: الأول وهو قول عطاء والضحاك: أن يكون مأخوذا من ورث الرجل يرث فيكون الرجل هو الموروث منه، وينتصب كلالة على الحال أو على أنه خبر «كان» ويُورَثُ صفة رجل. ويجوز أن يكون مفعولا له أي يورث لأجل كونه كلالة. والثاني وهو قول سعيد بن جبير أن يكون مبنيا للمفعول من أورث فالرجل حينئذ هو الوارث، وينتصب كلالة على الوجوه المذكورة. قيل:
ما السبب في أنه قال: وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ثم قال: وَلَهُ أَخٌ فكنى عن الرجل ولم يكن عن المرأة؟ والجواب أنه إذا جاء حرفان في معنى واحد جاز إسناد التفسير(2/369)
إلى أيهما أريد، وجاز إسناده إليهما أيضا. تقول: من كان له أخ أو أخت فليصله أو فليصلها. والترجيح بالتذكير للشرف معارض بالتأنيث للقرب. وإن قلت: فليصلهما جاز أيضا. ولعل التوحيد والتذكير في الآية أولى إما لأن الرجال في الأحكام أصل والنساء تبع لهم، وإما بتأويل أحد المذكورين. ثم إن المفسرين أجمعوا على أن المراد من الأخ والأخت هاهنا الأخ والأخت من الأم، ويدل عليه ما نسب إلى أبيّ وسعد بن أبي وقاص:
وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما أي من الأخ والأخت السُّدُسُ من غير مفاضلة الذكر على الأنثى. هذا على الاحتمال الأوّل وهو أن الرجل مورث منه. وأما على الاحتمال الثاني وهو أن الرجل وارث فالضمير عائد إلى الرجل وإلى واحد من أخيه أو أخته. والمعنى مثل الأوّل، لأنك إذا قلت السدس له أو لواحد من الأخ أو الأخت على التخيير فقد سوّيت بين الذكر والأنثى. ثم قال فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ فبيّن أن نصيبهم كيفما كانوا لا يزداد على الثلث. وقد يسند الإجماع إلى هذا بيانه أنه قال في آخر السورة قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ [النساء: 176] وأثبت للأختين الثلثين وللإخوة كل المال، وهاهنا أثبت للإخوة، والأخوات السدس عند الانفراد، والثلث عند الاجتماع، فعلم أن المراد من الإخوة والأخوات هاهنا غير المراد من الإخوة والأخوات في تلك الآية. فالمراد هاهنا الإخوة والأخوات من الأم وهم الأخياف، وهناك الإخوة والأخوات من الأب والأم وهم الأعيان، أو من الأب وهم أولاد العلات. فالكلالة وإن كانت عامة لمن عدا الوالد والولد إلا أنها في الآية خاصة كما بيننا. غَيْرَ مُضَارٍّ حال أي يوصي بها وهو غير مضارّ لورثته. ومن قرأ يُوصِي مبنيا للمفعول فعامل الحال محذوف يدل عليه المذكور أي يوصى إذا علم أن ثمة موصيا والضمير فيه وهو ذو الحال يعود إلى رجل على تقدير أنه المورث، أو إلى الميت الدال عليه سياق الكلام أي إن كان الرجل وارثا وضرار الورثة بأن يوصي بأزيد من الثلث أو بالثلث فما دونه ونيته مضارة الورثة ومغاضبتهم وقطع الميراث عنهم لا وجه الله. وقد يقر بأن الدين الذي كان له على غيره قد استوفاه، أو يبيع شيئا بثمن بخس، أو يشتري شيئا بثمن غال، كل ذلك لئلا يصل المال إلى الورثة. قال العلماء: الأولى بالإنسان أن ينظر في قدر ما يخلف ومن يخلف، ثم يجعل وصيته بحسب ذلك فإن كان في المال قلة وفي الورثة كثرة لم يوص، وإن كان بالعكس أوصى على قانون العدالة. وقد روي عن عكرمة عن ابن عباس: أن الإضرار في الوصية من الكبائر.
ويروى مرفوعا وعن شهر بن حوشب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة فإذا أوصى وحاف في وصيته ختم له بشر عمله فيدخل النار. وإن الرجل(2/370)
ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة» «1»
وعنه «من قطع ميراثا فرضه الله قطع الله ميراثه من الجنة» . وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ نصب على المصدر المؤكد أو على أنه مفعول مُضَارٍّ أي لا يضار وصية من الله وهو الثلث فما دونه بزيادته على الثلث، أو وصية من الله بالأولاد لا يدعهم عالة بإسرافه في الوصية وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمن جار في وصيته أو عدل حَلِيمٌ عن الجائر لا يعاجله بالعقوبة، وفيه من الوعيد ما لا يخفى.
ثم أكد الوعيد بالترغيب والترهيب فقال: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وهو إشارة إلى جميع ما ذكر في السورة من أحكام اليتامى والوصايا والمواريث وغيرها، وهي الشرائع التي لا يجوز للمكلف أن يتجاوزها ويتخطاها إلى ما ليس له بحق. وقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ عام في هذه التكاليف وفي غيرها، كما أن الوالد يقبل على ولده ويؤدبه في أمر مخصوص، ثم يقول احذر مخالفتي ويكون مقصوده منعه من معصيته في جميع الأمور.
وإنما قيل: يُدْخِلْهُ وخالِدِينَ حملا على لفظ «من» ومعناه. وانتصب خالِدِينَ وخالِداً على الحال. ولا يجوز أن يكونا صفتين ل جَنَّاتٍ وناراً لأنهم جريا على غير من هماله، فكان يلزم حينئذ أن يقال: خالدين هم فيها وخالدا هو فيها. قالت المعتزلة: الآية تدل على القطع بوعيد الفساق وخلودهم وذلك أن التعدي في جميع حدود الله محال، لأن من حدوده ترك اليهودية والنصرانية والمجوسية، والتعدي فيها هو الإتيان بجميعها وذلك محال. فإن المراد تعدّي أي حدّ كان، ولأن الآية مذكورة عقيب قسمة المواريث فيكون المراد التعدي في هذه الحدود. وأجيب بما مر من أن ذلك مشروط عندكم بعدم التوبة، فأي مانع لنا من أن نزيد فيه شرطا آخر وهو عدم العفو. وبأن الآية لعلها مخصوصة بالكافر لأن جميع المعاصي يصح استثناؤها من هذا اللفظ أي: ومن يعص الله في كذا وفي كذا. وذلك لا يتحقق إلا في حق الكافر. نعم يخرج منه ما يخصصه دليل عقلي كما ذكرتم من استحالة الجمع بين اليهودية والنصرانية، ومما يؤكد كون الآية مخصوصة بالكافر أن قوله: وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يفيد كونه فاعلا للمعاصي. فلو كان المراد من قوله: وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ أيضا ذلك لزم التكرار فوجب حمله على الكفر. وإن سلم أن المراد هو التعدي في حدود المواريث فلعل المراد من التعدي هو اعتقاد كونها لا على وجه الحكمة والصواب ويلزم منه الكفر والله أعلم بمراده. قوله عم طوله: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ الآية.
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الوصايا باب 3. أحمد في مسنده (2/ 278) . [.....](2/371)
وجه النظم فيه أن التغليظ عليهم في باب الفاحشة من جملة الإحسان إليهن المأمور به في الآيات المتقدمة. وفيه أن مدار الشرع على العدل والإنصاف والاحتراز في كل باب من طرفي التفريط والإفراط، فلا ينبغي أن يصير الإحسان إليهن سببا لترك إقامة الحدود عليهن. واللاتي جمع التي وفيه لغات: اللائي بالهمزة، واللواتي واللوائي فكأنهما جمعا الجمع. وقد تحذف الياءات من الأربعة، وقد تسهل همزة اللائي بين الهمزة والياء لكونها مكسورة لقراءة ورش واللاء يئسن من المحيض [الطلاق: 4] وقد يقال: اللاي بياء ساكنة بعد الألف من غير همز، وقد يقال: اللوا بحذف التاء والياء معا. وقد يقال: اللاآت كاللامات. قال ابن الأنباري: العرب تقول في الجمع من غير الحيوان التي، ومن الحيوان اللاتي كقوله: أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء: 5] وقال في هذه الآية وَاللَّاتِي لأن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد بخلاف جمع الحيوان فإن كل واحد منهما متميز عن غيره بخواص وصفات. ومن العرب من يلغي هذا الفرق.
والفاحشة الفعلة المتزايدة في القبح مصدر كالعافية. وأجمعوا على أنها الزنا هاهنا. قال المحققون: خصص هذا العمل بالفاحشة لأن القوى البدنية نطقية وغضبية وشهوية، وفساد الأولى الكفر والبدعة وأمثالها، وفساد الثانية القتل بغير حق ونحوه، وفساد الثالثة الزنا واللواط والسحق وما أشبهها وهذه أخص الجميع. ومعنى مِنْ نِسائِكُمْ من زوجاتكم أو من الحرائر أو من نسائكم المؤمنات والثيبات أقوال. فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ احتياطا لأمر الزنا. والمراد بقوله: مِنْكُمْ أي من رجالكم. قال الزهري: مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود فإن شهدوا مفصلا مفسرا كقولهم: رأيناه أدخل فرجه في فرجها كالمرود في المكحلة، أو كالرشاء في البئر. ولا بد مع ذلك من الوصف بالتحريم لا بمعنى عرضي كالحيض، ولا مع تحليل عالم كالمتعة، ولا بشبهة فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ خلدوهن محبوسات في بيوتكم حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أي ملائكة الموت أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بالنكاح أو بالحد. وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ يعني الزاني والزانية أو اللائط والملوط فَآذُوهُما فوبخوهما وقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما الله أما لكما في النكاح مندوحة عن هذه؟ فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا وغيرا الحال فَأَعْرِضُوا عَنْهُما فاقطعوا التوبيخ والذم، أو خوطب الشهود الذين عثروا على سرهما أن يهددوهما بالرفع إلى الإمام والحد فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فأعرضوا عن العرض على الإمام. واعلم أن للعلماء خلافا في الآيتين. فعن الحسن أن الثانية مقدمة في النزول. أمروا بإيذاء الزانيين أولا ثم أمروا بإمساك النساء في(2/372)
البيوت إلى أن يتبين أحوالهن. وقال السدي: المراد بهذه الآية البكر من الرجال والنساء، وبالآية الأولى الثيب. وعن أبي مسلم أن الآية الأولى في السحاقات وحدّها الحبس إلى الموت إلا أن يخلصهن الله، والثاني في اللائطين وحدّهما الأذى بالقول والفعل. والدليل على ذلك تذكير اللذان ولفظ منكم أي من رجالكم كما في قوله: أَرْبَعَةً مِنْكُمْ وأما الزنا من الرجل والمرأة فذلك في سورة النور وحدّه في البكر الجلد وفي المحصن الرجم، وعلى هذا لا يلزم نسخ شيء من الآيات ولا تكرار الشيء الواحد في الموضع الواحد مرتين.
وزيف قول أبي مسلم بأنه قول لم يقل به أحد، وبأن الصحابة اختلفوا في أحكام اللواطة ولم يتمسك أحد منهم بهذه الآية. وعدم تمسكهم بها مع شدة احتياجهم إلى نص يدل على هذا الحكم دليل على أن الآية ليست في اللواطة. وأجاب أبو مسلم بأنه قول مجاهد- وهو من أكابر المفسرين- على أنه بيّن في الأصول أن استنباط تأويل جديد جائز، وأيضا كان مطلوب الصحابة معرفة حدّ اللوطيّ وكمية ذلك وليس في الآية دلالة عليه بالنفي والإثبات، ومطلق الإيذاء لا يصلح للحد. وجمهور المفسرين على أن الآيتين في الزنا وأنهما منسوختان لما
روى مسلم في كتابه عن عبادة بن الصامت كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه كرب لذلك وتربد له وجهه فأنزل عليه ذات يوم فلقي كذلك، فلما سري عنه قال: خذوا عني فقد جعل الله لهن سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. ثم استقر الأمر آخرا على أن البكر يجلد ويغرّب والثيب يرجم فقط.
وقيل: إن هذه الآية صارت منسوخة بآية الجلد. وعن أصحاب أبي حنيفة أن آية الحبس نسخت بالحديث، والحديث منسوخ بآية الجلد، وآية الجلد نسخت بدلائل الرجم. وقال في الكشاف: من الجائز أن لا تكون الآية منسوخة بأن يترك ذكر الحد لكونه معلوما بالكتاب والسنة ويوصي بإمساكهن في البيوت بعد أن يحددن صيانة لهن عن مثل ما جرى عليهن بسبب الخروج من البيوت والتعرض للرجال.
وقال الشيخ أبو سليمان الخطابي في معالم السنن: إنه لم يحصل النسخ في الآية ولا في الحديث. وذلك أن الآية تدل على أن إمساكهن في البيوت ممدود إلى غاية أن يجعل الله لهن سبيلا. ثم إن ذلك السبيل كان مجملا، فلما
قال صلى الله عليه وسلم: خذوا عني الثيب يرجم والبكر يجلد وينفى.
صار هذا الحديث بيانا لتلك الآية لا ناسخا لها، وصار أيضا مخصصا لعموم آية الجلد والله تعالى عليم. ثم أخبر عن المستحقين لقبول التوبة وعن المستحقين لعدم القبول فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ واجبة وجوب الوعد والكرم لا وجوبا يستحق بتركه الدم لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ قال أكثر المفسرين: كل من عصى فهو جاهل وفعله جهالة. ولهذا قال موسى: أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ [البقرة: 67] لأنه حيث لم(2/373)
يستعمل ما معه من العلم بالعقاب والثواب فكأنه لا علم له. وبهذا التفسير تكون المعصية مع العلم بأنها معصية جهالة. وقيل: المراد أنه جاهل بعقاب المعصية. وقيل: المراد أن يكون جاهلا بكونها معصية لكنه يكون متمكنا من تحصيل العلم بكونها معصية، ولهذا أجمعنا على أن اليهودي يستحق على يهوديته العقاب وإن كان لا يعلم كون اليهودية معصية لأنه متمكن من تحصيل العلم بكون اليهودية ذنبا ومعصية، وأن النائم أو الساهي لا يستحق العقاب لأنه أتى بالقبيح غير متمكن من العلم بكونه قبيحا. أما المتعمد فإنه لا يكون داخلا تحت الآية وإنما يعرف حاله بطريق القياس، وإنه لما كانت التوبة على هذا الجاهل واجبة فلأن تكون واجبة على العامد أولى لأنه عالم بقبح تلك المعصية. أما قوله: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب قبل حضور زمان الموت ونزول سلطانه ومعاينة أهواله. وإنما كان ذلك الزمان قريبا لأن الأجل آت وكل ما هو آت قريب، ولأن مدة عمر الإنسان وإن طالت إذا قيست إلى طرفي الأزل والأبد كانت كالعدم، ولأن الإنسان يتوقع في كل لحظة نزول الموت به، وما هذا حاله فإنه يوصف بالقرب. و «من» في مِنْ قَرِيبٍ إما لابتداء الغاية أي يجعل مبتدأ توبته من زمان قريب من المعصية، أو للتبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زمانا قريبا لما قلنا ففي أي جزء تاب من أجزاء هذا الزمان فهو تائب من قريب وإلا فهو تائب من بعيد ألا ترى إلى قوله: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة، فبقي ما وراء ذلك في حكم القرب.
ومثله
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» «1»
والفائدة في قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بعد قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أن الأوّل إعلام بأنه يجب على الله قبولها لزوم الكرم والفضل والإحسان، والثاني إخبار بأنه سيفعل ذلك. أو المراد بالأوّل توفيق التوبة والإعانة عليها، وبالثاني قبولها. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأنه إنما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشهوة والغضب والجهالة عليه حَكِيماً يجب في كرمه قبول توبة العبد إذا تاب من قريب. قال المحققون: قرب الموت وهو وقوعه في الشدائد بحيث يغلب على ظنه نزول الموت كما في القولنج، وفي حالة الطلق، وعند تلاطم الأمواج مع انكسار السفينة لا يمنع من قبول التوبة، بل التوبة حينئذ أولى بالقبول لقوله: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ [النمل: 62] وإنما المانع من قبوله معاينة سلطان الموت ومشاهدة أحواله وأهواله بحيث
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الدعوات باب 98. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 30. أحمد في مسنده (2/ 132، 153) .(2/374)
تصير معرفته بالله ضرورية كما لأهل الآخرة، وحينئذ يسقط التكليف عنه إذ لم يبق في يده زمام الاختيار، وأفضى الأمر إلى حد الإلجاء والإجبار. وهاهنا بحث للأشاعرة وهو أن أهل القيامة لا يشاهدون إلا أنهم صاروا أحياء بعد أن كانوا أمواتا، ويشاهدون أيضا أهوال القيامة فيستدلون بها على وجود الفاعل، فكيف يكون ذلك العلم ضروريا؟ وبتقدير كونه ضروريا فلم يمنع ذلك صحة التكليف؟ وذلك أن العبد مع علمه الضروري بوجود الإله المثيب المعاقب قد يقدم على المعصية لعلمه بأنه كريم وأنه لا تنفعه طاعة العبد ولا يضره ذنبه.
وأيضا العلم النظري هو الذي لا يكون معه تجويز نقيضه، وعلى هذا فلا فرق بينه وبين الضروري البتة، وعلى هذا فكيف يصير النظري موجبا للتكليف، والضروري مانعا من التكليف؟ فثبت ضعف هذا الفرق، وأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فهو بفضله وعد وقبل التوبة في بعض الأوقات، وبعد له أخبر عن عدم قبول التوبة في وقت آخر، وله أن يقلب الأمر فيجعل المقبول مردودا والمردود مقبولا لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ [الأنبياء: 23] وأقول: التحقيق فيه أنه مالك الملك يتصرف في ملكه كيف يشاء، وقوله صدق وأمره حق، وقد عين لعبيده حالين: دنيا وعقبى. وقد أخبر أنه جعل الدنيا دار العمل، والعقبى دار الجزاء، وليس لأحد عليه اعتراض أنه لم لم يعكس الأمر. ثم إن لليقين مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين. وليس ببعيد أن لا يكون علم اليقين منافيا للتكليف، ويكون عين اليقين منافيا له. ثم عطف قوله: وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ على الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ تسوية بين الذين سوّفوا توبتهم إلى حضرة الموت، وبين الذين ماتوا على الكفر في أنه لا توبة لهم لأن حضرة الموت أوّل أحوال الآخرة. فكما إن المائت على الكفر قد فاتته التوبة على اليقين، فكذلك المسوّف إلى حضرة الموت لمجاوزة كل منهما الحد المضروب للتوبة. أو المعنى أنه كما أن التوبة عن المعاصي لا تقبل عند القرب من الموت، كذلك الإيمان لا يقبل عند القرب من الموت، أو المراد أن الكفار إذا ماتوا على الكفر فلو تابوا في الآخرة لا تقبل توبتهم. أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ أي أعددنا الوعيد نظير قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في الوعد ليتبين أن الأمرين كائنان لا محالة. قالت الوعيدية: المعطوف مغاير للمعطوف عليه. لكن الطائفة الثانية كفار فالأوّلون فساق لكنهما مشتركان في العذاب الأليم، فثبت أن حكمهما واحد. وأجيب بأن أُولئِكَ إشارة إلى أقرب المذكورين، ويعضده أن الكفار أشنع قولا من الفساق، أو الطائفة الأولى هم الذين عاشوا على الكفر ثم تابوا في حضرة الموت كفرعون، والثانية هم الذين عاشوا على الكفر وماتوا عليه كنمروذ مثلا.(2/375)
قوله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً من هاهنا شروع في النهي عما كانوا عليه في الجاهلية من إيذاء النساء بصنوف من العذاب وضروب من البلاء وذلك أنواع: الأول قوله: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا وفيه قولان: أحدهما الوراثة تعود إلى المال أي لا يحل لكم أن تمسكوهن حتى ترثوهن أموالهن وهن كارهات لإمساككم، وثانيهما أنها ترجع إلى أعيانهن. وكانوا إذا مات الرجل وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو بعض أقاربه فألقى ثوبه عليها وقال: ورثت امرأته كما ورثت ماله. فصار أحق بها من نفسها ومن غيره، فإن شاء تزوّجها بغير صداق إلا الصداق الأوّل الذي أصدقها الميت، وإن شاء زوّجها من إنسان آخر وأخذ صداقها ولم يعطها منه شيئا فنزلت. النوع الثاني: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ قال أكثر المفسرين: كان الرجل منهم يكره زوجته ويريد مفارقتها فيسيىء العشرة معها ويضيق الأمر عليها حتى تفتدي منه بمالها وتختلع فنهوا عن ذلك. وقيل: إنه خطاب للوارث بأن يترك منعها من التزوّج بمن شاءت وأرادت لتبذل امرأة الميت ما أخذت من الميراث كما كان يفعله أهل الجاهلية. وقيل: إنه نهي للأولياء عن عضل المرأة، أو للأزواج كما مر في سورة البقرة. قال في الكشاف: إعراب تَعْضُلُوهُنَّ النصب عطفا على أَنْ تَرِثُوا ولا لتأكيد النفي. قلت: الظاهر أنه النهي لعطف الأمر وهو قوله: وَعاشِرُوهُنَّ عليه وصاحب الكشاف نظر إلى لما قبله وذهل عما بعده إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ من قرأ بالفتح فلأن الفاحشة لا فعل لها في الحقيقة وإنما الله تعالى هو الذي بينها، أو الشهود الأربعة هم بينوها. ومن قرأ بالكسر فلأنها إذا تبينت وظهرت صارت أسبابا للبيان كقوله: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: 36] لما صرن أسبابا للضلال. ثم إنه استثناء مماذا؟ قيل: من أخذ المال أي لا يحل له أن يحبسها ضرارا لتفتدي إلا إذا زنت فحينئذ حل لزوجها أن يسألها الخلع. وكان الرجل إذا أصابت امرأته فاحشة أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها. وقيل: استثناء من العضل نهوا عن حبسهن في بيوت الأولياء والأزواج إلا بعد وجود الفاحشة. ومن هؤلاء القائلين من زعم أن هذا الحكم منسوخ
بآية الجلد.
وقيل: الفاحشة هي النشوز وشكاسة الخلق أي إلا أن يكون سوء العشرة من جهتهن فإنهم معذورون حينئذ في طلب الخلع. النوع الثالث من التكاليف المتعلقة بأحوال النساء وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وهو الإجمال في القول والإنصاف في المبيت والنفقة فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ ورغبتم في فراقهن فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً فههنا قد يميل طبعكم إلى المفارقة ويكون الخير في الاستمرار على المواصلة، منه الثناء في الدينا بحسن الوفاء وكرم الخلق، ومنه الثواب في العقبى بالصبر على خلاف الهوى، ومنه حصول(2/376)
ولد نجيب ومال كثير لليمن في صحبتها.
قال صلى الله عليه وسلم: «الشؤم في المرأة والفرس والدار» «1»
وقيل: المعنى إن رغبتم في مفارقتهن فربما جعل الله تعالى في تلك المفارقة لهن خيرا كثيرا بأن تتخلص من زوج سيىء العشرة وتجد زوجا آخر أوفق منه. النوع الرابع من التكليف وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وذلك أنه لما أذن في مضارتهن إذا أتين بفاحشة بين تحريم الضرار في غير حالة الفاحشة.
يروى أن الرجل منهم كان إذا مال إلى التزوج بامرأة أخرى رمى زوجته الأولى بالفاحشة حتى يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها ليصرفه إلى تزوّج المرأة
روي يريدها فنهوا عنه.
والقنطار المال العظيم، وفيه دليل على جواز المغالاة في المهر. روي أن عمر قال على المنبر: ألا لا تغالوا في مهور نسائكم. فقامت امرأة وقالت: يا ابن الخطاب، الله يعطينا وأنت تمنع وتلت هذه الآية. فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر ورجع عن ذلك. ويحتمل أن يقال: ذكر إيتاء القنطار وارد على سبيل المبالغة والفرض لا الرخصة. وهو في موضع الحال أي وقد آتيتم. ومعنى الإيتاء الالتزام ووقوع العقد عليه سواء أدّى المال إليها أم لا. واعلم أن النشوز إن كان من قبل الزوجة حل أخذ مال الخلع، وإن كان من قبل الزوج لم يحل إلا أنه يفيد الملك لو خالع، كما أن البيع وقت النداء منهي عنه، ثم إنه يفيد الملك. أَتَأْخُذُونَهُ استفهام بطريق الإنكار بُهْتاناً وهو أن يستقبل الرجل بأمر قبيح يقذفه به وهو بريء منه لأنه يبهت عند ذلك أي يتحير.
وفي الحديث «إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بهته» «2»
وهو مصدر في موضع الحال أي باهتين وآثمين، أو على أنه مفعول له مثل: قعدت جبنا. وقيل: بنزع الخافض أي ببهتان. وقيل:
بمضمر أي تصيبون بهتانا. وسبب تسيمة هذا الأخذ بهتانا أنه تعالى فرض لها ذلك المهر فمن استردّه فكأنه يقول ليس ذلك بفرض فيكون بهتانا، أو أنه عند العقد تكفل بتسليم ذلك المهر إليها وأن لا يأخذه منها فإذا أخذه منها صار القول الأوّل بهتانا أي باطلا، أو كان من عادتهم أنهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة حتى تفتدي، فلما كان هذا الأمر واقعا على هذا الوجه في الأغلب سيق الكلام على ذلك. وبالحقيقة أن أخذ هذا المال طعن في
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 47. مسلم في كتاب السلام حديث 115- 120. أبو داود في كتاب الطب باب 24. الترمذي في كتاب الأدب باب 58. النسائي في كتاب الخيل باب 5. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 55. الموطأ في كتاب الاستئذان حديث 22. أحمد في مسنده (2/ 8، 36، 115) .
(2)
رواه أحمد في مسنده (2/ 230، 284) . مسلم في كتاب البر حديث 70. أبو داود في كتاب الأدب باب 35. الترمذي في كتاب البر باب 23. الدارمي في كتاب الرقاق باب 6. بلفظ « ... وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهّته» .(2/377)
ذاتها من حيث إنه مشعر بأنها قد أتت بفاحشة وقبض على مالها فهو بهتان من وجه وظلم من وجه آخر. وقيل: المراد عقاب البهتان والإثم كقوله: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً [النساء: 10] ثم عجب من الأخذ مستفهما فقال: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ عن ابن عباس ومجاهد والسدي واختاره الزجاج وابن قتيبه وإليه ذهب الشافعي أن المراد بالإفضاء الجماع إذ الفضاء الساحة ويقال: أفضيت إذا خرجت إلى الفضاء. وهذا المعنى إنما يحصل في الحقيقة عند الجماع. وقيل: الإفضاء أن يخلو بها وإن لم يجامعها وهو قول الكلبي واختاره الفراء، ويوافقه مذهب أبي حنيفة أن الخلوة الصحيحة تقرر المهر.
ورجح مذهب الشافعي بأن الكلام ورد في معرض التعجب وهو إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قريبا في حصول الألفة والمودّة وذلك هو الجماع لا مجرد الخلوة، وأيضا الإفضاء لا بد أن يكون مفسرا بفعل ينتهي منه إليها لأن كلمة «إلى» لانتهاء الغاية، ومجرد الخلوة ليس كذلك إذا لم يحصل فعل من أفعال أحدهما إلى الآخرة. فإن قيل: على هذا يجب أن يكون التلامس والاضطجاع في لحاف واحد كافيا في تحقيق الإفضاء، وأنتم لا تقولون به؟
فالجواب أنه باطل بالإجماع إذ القائل قائلان: قائل بتفسير الإفضاء بالجماع، وقائل بتفسيره بمجرد الخلوة. وأيضا الشرع قد علق تقرر المهر بتحقيق الإفضاء، وقد اشتبه معناه أنه الخلوة أو الجماع فوجب الرجوع إلى ما قبل زمان الخلوة. ومقتضى ذلك عدم تقرر المهر.
ثم أكد المنع من استرداد المهر بقوله: وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً قال السدي وعكرمة والفراء: هو قولكم زوّجتك هذه المرأة على ما أخذ الله للنساء على الرجال من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. ومعلوم أنه إذا ألجأها إلى أن بذلت المهر فقد سرحها بالإساءة. وقال ابن عباس ومجاهد: الميثاق الغليظ كلمة النكاح المعقودة على الصداق وإليها أشار
في الحديث «واستحللتم فروجهن بكلمة الله» «1»
وقال آخرون: أخذن منكم بسبب إفضاء بعضكم إلى بعض ميثاقا غليظا وصفه بالغلظ لقوّته فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟ النوع الخامس من التكاليف المتعلقة بأمور النساء قوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ قال ابن عباس وجمهور المفسرين: كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا عن ذلك. وهاهنا مسألة خلافية قال أبو حنيفة: يحرم على الرجل أن يتزوج بمزنية أبيه. وقال الشافعي: لا يحرم. حجة أبي حنيفة أن النكاح عبارة عن الوطء لقوله: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] وبالاتفاق
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الحج حديث 147. أبو داود في كتاب المناسك باب 56. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 84. الدارمي في كتاب المناسك باب 34. أحمد في مسنده (5/ 73) .(2/378)
لا يحصل التحليل بمجرد العقد. ولقوله: وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ [النساء:
6] أي الوطء لأن أهلية العقد حاصلة أبدا. ولقوله: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً [النور: 3]
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «ناكح اليد ملعون»
فيدخل في الآية المزنية لأنها منكوحة أي موطوأة. وعورض بالآيات الدالة على أن النكاح هو العقد كقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النور: 32] فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ [النساء: 3]
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «النكاح سنتي» «1»
ولا شك أن الوطء من حيث إنه وطء ليس سنة له.
وبقوله: «ولدت من نكاح لا من سفاح»
وبأن من حلف في أولاد الزنا إنهم ليسوا من أولاد النكاح لم يحنث. سلمنا أن الوطء سمي بالنكاح لكن العقد أيضا مسمى به، فلم كان حمل الآية على ما ذكره أولى من حملها على ما ذكرنا مع إجماع المفسرين على أن سبب نزول الآية هو العقد لا الوطء؟ قالوا: حقيقة في الوطء مجاز في العقد لأنه في اللغة الضم، وهذا المعنى حاصل في الوطء لا في العقد. وإنما أطلق النكاح على العقد إطلاقا لاسم المسبب على السبب، والحمل على الحقيقة أولى أو مشترك بينهما. ويجوز استعماله في مفهوميه معا، فتكون الآية نهيا عن الوطء وعن العقد معا، أو لا يجوز استعماله في المفهومين فيكون نهيا عن القدر المشترك بينهما وهو الضم.
والنهي عن المشترك يكون نهيا عن القسمين، فإن النهي عن التلوين يكون نهيا عن التسويد والتبييض لا محالة. وأجيب بأنه خلاف إجماع المفسرين، وبأن استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه غير جائز، وبأن معنى الضم لا يتصورّ في العقد. سلمنا أن النكاح بمعنى الوطء ولكن ما في قوله: ما نَكَحَ لا نسلم أنها موصولة لأنها حقيقة في غير العقلاء وإنما هي مصدرية والتقدير: ولا تنكحوا نكاح آبائكم فإن أنكحتهم كانت بغير ولي وشهود وكانت مرفية ومهرية فنهوا عن مثل هذه الأنكحة. قاله محمد بن جرير الطبري. سلمنا أن المراد لا تنكحوا من نكح آباؤكم ولكنا لا نسلم أن «من» تفيد العموم وإذا لم تفد العموم لم تتناول محل النزاع. لكن لم قلتم إن النهي للتحريم لا للتنزيه؟ سلمنا أن النهي للتحريم لكن لا نسلم أنه غير صحيح لأن النهي عندكم لا يدل على الفاسد كما في البيع الفاسد وفي صوم يوم النحر. وإذا كان منعقدا كان صحيحا. ثم إنا نستدل على جواز نكاح مزنية الأب بقوله تعالى: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: 221] نهى عن نكاحهن إلى غاية نفي إيمانهن، وهذا يقتضي جواز نكاحهن بعد تلك الغاية على الإطلاق مزنية كانت أو غيرها، إلا ما أخرجه الدليل، وهكذا سائر العمومات كقوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [النساء:
24]
وكقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءكم من ترضون دينه فزوّجوه» «2»
وقوله: «زوّجوا أبناءكم
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب النكاح باب 1.
(2) رواه الترمذي في كتاب النكاح باب 3. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 46.(2/379)
الأكفاء»
وبقوله صلى الله عليه وسلم: «الحرام لا يحرّم الحلال» «1» .
ودخول التخصيص فيه بما لو وقع قطرة من الخمر في إناء من الماء فتحرمه لا يمنع من الاستدلال به في غيره، وقد ناظر الشافعي محمد بن الحسن في هذه المسألة فوقع ختم الكلام على قول الشافعي وطء حدت به ووطء رجمت به فكيف يشتبهان؟ أما قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فللمفسرين فيه وجوه: أحسنها ما ذكره السيد صاحب حل العقد أنه على طريق المعنى. فإن النهي يدل على المؤاخذة بارتكاب المنهي عنه فكأنه قيل: أنتم مؤاخذون بنكاح ما نكح آباؤكم إلا ما قد سلف قبل نزول آية التحريم فإنه معفوّ عنه. وقال في الكشاف: هذا كما استثنى «غير أن سيوفهم» من قوله: «ولا عيب فيهم» يعني إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه فإنه لا يحل لكم غيره وذلك غير ممكن. والغرض المبالغة في تحريمه كقوله: حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: 40] وقولهم: حتى يبيض القار. وقيل: استثناء منقطع لأنه لا يجوز استثناء الماضي من المستقبل. والمعنى لكن ما قد سلف فإن الله قد تجاوز عنه.
وقيل: «إلا» بمعنى «بعد» كقوله: لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى [الدخان:
56] أي بعد موتتهم الأولى. وقيل: إلا ما قد سلف فإنكم مقرّون عليه. قالوا: إنه صلى الله عليه وسلم أقرهم عليهن مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنما فعل ذلك ليكون صرفهم عن هذه العادة على سبيل التدريج. وزيف؟؟؟ بعضهم هذا القول وقال ما أقرّ أحدا على نكاح امرأة أبيه وإن كان في الجاهلية.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم بعث أبا بردة إلى رجل عرّس بامرأة أبيه ليقتله ويأخذ ماله إنه أي إن هذا النكاح كان قبل النهي فاحشة،
أعلم الله تعالى أن هذا الفعل كان أبدا ممقوتا عند العرب، وهذا النكاح بعد النهي فاحشة في الإسلام لأنه كان في علم الله وحكمه موصوفا بهذا الوصف، والمقت عبارة عن بغض مقرون باستحقار. حصل ذلك بسبب أمر قبيح ارتكبه صاحبه، وهو من الله تعالى في حق العبد يدل على غاية الخزي والخسار. قال بعضهم: مراتب القبح ثلاث: في العقول وفي الشرع وفي العادة. فالفاحشة إشارة إلى القبح العقلي لأن زوجة الأب تشبه الأم، والمقت إشارة إلى القبح الشرعي. وَساءَ سَبِيلًا إشارة إلى القبح العادي وساء فعل ذم وفاعله ضمير مبهم يفسره المنصوب بعده والله تعالى أعلم.
التأويل:
الوراثة الدينية أيضا سبب ونسب. فالسبب هو الإرادة بلبس خرقة المشايخ والتشبه بهم، والنسب هو الصحبة معهم بالتسليم لتصرفات ولايتهم ظاهرا وباطنا مستسلما لأحكام التسليل والتربية ليتولد السالك بالنشأة الثانية من صلب ولايتهم. ومن هنا
قال صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب النكاح باب 63.(2/380)
«الأنبياء إخوة من علات أمهاتهم شتى ودينهم واحد» «1»
وإنما يتوارث أهل الدين على قدر تعلقاتهم السببية والنسبية والذكورة والأنوثة في الجدّ والاجتهاد وحسن الاستعداد وبتوارثهم العلوم الدينية واللدنية
كقوله صلى الله عليه وسلم: «العلماء ورثة الأنبياء» «2»
وقول موسى للخضر هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف: 66] . وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ هي النفوس الأمارات بالسوء فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ أي من خواص العناصر الأربعة التي أنتم منها مركبون وهي التراب ومن خواصه الخسة والذلة، والماء ومن خواصه اللين والأنوثة والشره، والهواء ومن خواصه الحرص والحسد والبخل والشهوة، والنار ومن خواصها الكبر والغضب وحب الرياسة فَإِنْ شَهِدُوا بأن يظهر بعض هذه الصفات من النفوس فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ في سجن الدينا وأغلقوا عليهن أبواب الحواس الخمس حتى تموت النفس بالانقطاع عن حظوظها دون حقوقها أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا بانفتاح روزنة القلوب إلى عالم الغيب وَالَّذانِ يَأْتِيانِها أي النفس والقالب يأتيان من الفواحش ظاهرا في الأعمال وباطنا في الأحوال والأخلاق فَآذُوهُما ظاهرا بالحدود وباطنا بالرياضات وترك الحظوظ فَأَعْرِضُوا عَنْهُما باللطف بعد العنف، وباليسر بعد العسر. بِجَهالَةٍ أي بصفة الجهولية وهي داخلة في الظلومية لأن الظلومية تقتضي المعصية والإصرار عليها، والجهولية تقتضي المعصية فحسب. فالعمل السوء إذا كان مصدره الجهولية فحسب يكون على عقيبه التوبة كما قال: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ أي عقيب المعصية.
قال عليه السلام: «أتبع السيئة الحسنة تمحها» «3»
والحسنة التوبة. ويحتمل أن يقال: من قريب أي قبل أن يموت القلب بالإصرار فإن الله لا يقبل التوبة من قلب ميت لأنها تكون اضطرارية باللسان لا اختيارية بالجنان وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ فيه إشارة إلى النهي عن التصرف في السفليات التي هي الأمهات المتصرف فيها آباؤكم العلوية إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ من التدبير الإلهي في ازدواج الأرواح لضرورة اكتساب الكمالات، فإن الركون إلى العالم السفلي يوجب مقت الحق والله أعلم.
تم الجزء الرابع، ويليه الجزء الخامس أوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ..
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 48. مسلم في كتاب الفضائل حديث 143، 144. أبو داود في كتاب السنّة باب 13.
(2) رواه البخاري في كتاب العلم باب 10. أبو داود في كتاب العلم باب 1. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 17. الدارمي في كتاب المقدمة باب 32. أحمد في مسنده (5/ 196) .
(3) رواه الترمذي في كتاب البر باب 55. الدارمي في كتاب الرقاق باب 74. أحمد في مسنده (5/ 153، 228) .(2/381)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
(بسم الله الرحمن الرحيم) الجزء الخامس من أجزاء القرآن الكريم
[سورة النساء (4) : الآيات 23 الى 30]
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)
القراآت:
وَالْمُحْصَناتُ في كل القرآن بكسر الصاد إلّا قوله: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ على الباقون بالفتح. وَأُحِلَّ مبنيا للمفعول: يزيد وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون: مبنيا للفاعل. أُحْصِنَّ بفتح الهمزة والصاد: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. الباقون: أُحْصِنَّ بضم الهمزة وكسر الصاد. تِجارَةً بالنصب:
حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص. الباقون: بالرفع.
الوقوف:
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ الأولى (ز) لابتداء الشرط مع اتحاد المقصود فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ (ز) لذلك فإن جملة الشرط معترضة أَصْلابِكُمْ (لا) للعطف سَلَفَ (ط)(2/382)
رَحِيماً (هـ) لا للعطف أَيْمانُكُمْ (ج) لأن كِتابَ اللَّهِ يحتمل أن يكون مصدر التحريم لأنه في معنى الكتابة، ويحتمل أن يكون مصدر محذوف أي كتب الله كتابا، والأحسن أن يكون مفعولا له أي حرمت لكتاب الله. من قرأ وَأُحِلَّ بالفتح لم يحسن الوقف له على عَلَيْكُمْ للعطف على «كتب» ، ومن قرأ وَأُحِلَّ بالضم عطفا على حُرِّمَتْ جاز له الوقف لطول الكلام. مُسافِحِينَ (ط) لابتداء حكم المتعة. فَرِيضَةً (ط) الْفَرِيضَةِ (هـ) حَكِيماً (هـ) فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ (ط) بِإِيمانِكُمْ (ط) مِنْ بَعْضٍ (ج) لعطف المختلفين أَخْدانٍ (ج) لذلك مِنَ الْعَذابِ (ط) الْعَنَتَ مِنْكُمْ (ط) خَيْرٌ لَكُمْ (ط) رَحِيمٌ (هـ) وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ (ط) حَكِيمٌ (هـ) عَظِيماً (هـ) يُخَفِّفَ عَنْكُمْ (ج) لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى أي يخفف لضعفكم ضَعِيفاً (هـ) أَنْفُسَكُمْ (ط) رَحِيماً (هـ) ناراً (ط) يَسِيراً (هـ) .
التفسير:
إنه سبحانه نص على تحريم أربعة عشر صنفا من النسوان، سبعة من جهة النسب: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، وسبعة أخرى لا من جهة النسب: الأمهات من الرضاعة، والأخوات من الرضاعة، وأمهات النساء، وبنات النساء بشرط الدخول بالنساء، وأزواج الأبناء والآباء- وهذه في الآية المتقدمة- والجمع بين الأختين، والمحصنات من النساء. وذهب الكرخي إلى أن هذه الآية مجملة لأنه أضيف التحريم فيها إلى الأمهات والبنات، والتحريم لا يمكن إضافته إلى الأعيان وإنما يمكن إضافته إلى الأفعال وذلك غير مذكور في الآية، فليست إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفعال التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات أولى من بعض وهذا معنى الإجمال. والجواب من المعلوم بالضرورة من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن المراد منه تحريم نكاحهن لا سيما وقد تقدم قوله: وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ ومثله
قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل دم امرئ مسلم إلّا لإحدى خصال ثلاث» «1»
فإنه لا يشتبه أن المراد لا يحل إراقة دمه.
ثم إنّ قوله: حُرِّمَتْ إنشاء للتحريم كقول القائل «بعت» أو «طلقت» لا إخبار عن التحريم في الزمان الماضي ولا يشتبه أن المحرم هو الله تعالى كقوله: بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ [العاديات: 9، 10] والخطاب لأولئك الحاضرين بالذات ولمن عداهم من الأمة بالتبعية. والأصل في كل حكم هو الاستمرار والتأبيد ما لم ينسخه ناسخ، والقرينة
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الديات باب مسلم في كتاب القسامة حديث 25، 26. أبو داود في كتاب الحدود باب 1. الترمذي في كتاب الحدود باب 15. النسائي في كتاب التحريم باب 5، 11. الدارمي في كتاب السير باب 11. أحمد في مسنده (1/ 61، 70) .(2/383)
تدل على أن المراد أنه تعالى حرم على كل أحد أمه خاصة وبنته خاصة. واعلم أنّ حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمان آدم إلى هذا الزمان، ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأديان، بل إن زرادشت نبي المجوس بزعمهم قال بحله إلّا أن أكثر المسلمين اتفقوا على أنه كان كذابا. أما نكاح الأخوات فقد نقل أن ذلك كان مباحا في زمان آدم عليه السلام وذلك للضرورة، وبعض المسلمين ينكره ويقول: إنه تعالى بعث الحور من الجنة حتى تزوج بهن أبناء آدم، ويرد عليه أنّ هذا النسل حينئذ لا يكون محض أولاد آدم وذلك بالإجماع باطل. قال العلماء: السبب في تحريم الأمهات والبنات أن الوطء إذلال وإهانة فلا يليق بالأصل والجزء. والأمهات جمع الأم والهاء زائدة. ووزن أم «فعل» أو أصلية ووزنه «فع» . وقد يجيء جمعه على «أمات» وقد يقال الأمهات للإنسان، والأمات لغيره. وكل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك بدرجة أو درجات بإناث رجعت إليها أو بذكور فهي أمك. ولا شك أن لفظ الأم حقيقة في التي ولدتك، أما في الجدة فيحتمل أن يكون حقيقة أيضا وحينئذ يكون اللفظ متواطئا فيها إن كان موضوعا بإزاء قدر مشترك بينهما، وتكون الآية نصا في تحريمها أو يكون مشتركا بينهما. وحينئذ إن جوز استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه فالآية نص في تحريمها أيضا وإلّا فطريقان:
أحدهما أن تحريم الجدات مستفاد من الإجماع، والثاني أنه تعالى تكلم بهذه الآية مرتين لكل من المفهومين. وكذا الكلام إن قلنا إنّ الأم حقيقة في الوالدة مجاز في الجدات. قال الشافعي: إذا تزوج الرجل بأمه ودخل بها يلزمه الحد. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه. حجة الشافعي أن وجود هذا النكاح وعدمه بمثابة واحدة لكونه محرّما قطعا في حكم الشرع فيكون وطؤها زنا محضا.
الصنف الثاني من المحرمات البنات ويراد بهن كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث أو بذكور. والكلام في أن إطلاق لفظ البنت على بنت الابن وبنت البنت حقيقة أو مجاز كما مر في الأمهات. قال أبو حنيفة: البنت المخلوقة من ماء الزنا تحرم على الزاني. وقال الشافعي: لا تحرم لأنها ليست بنتا له شرعا
لقوله صلى الله عليه وسلم: «الولد للفراش»
وهذا يقتضي حصر النسب في الفراش، ولأنها لو كانت بنتا له لأخذت الميراث ولثبت له ولاية الإجبار عليها، ولوجب عليه نفقتها وحضانتها، ولحل الخلوة بها، لكن التوالي باطلة بالاتفاق فكذا المقدم. وأيضا إنّ أبا حنيفة إما أن يثبت كونها بنتا له على الحقيقة وهي كونها مخلوقة من مائه، أو بناء على حكم الشرع والأول باطل على مذهبه طردا وعكسا. أما الطرد فهو أنه إذا اشترى جارية بكرا وافتضها وحبسها في داره إلى أن تلد(2/384)
فهذا الولد معلوم أنه مخلوق من مائه قطعا مع أنه لا يثبت نسبه إلّا عند الاستلحاق، وأما العكس فهو أن المشرقي إذا تزوج بالمغربية وحصل هناك ولد فإنه يثبت النسب مع القطع بأنه غير مخلوق من مائه. والثاني أيضا باطل بإجماع المسلمين على أنه لا نسب لولد الزاني من الزاني، ولو انتسب إليه وجب على القاضي منعه. الصنف الثالث: الأخوات ويشمل الأخوات من الأب والأم، ومن الأب فقط، ومن الأم فقط. الصنف الرابع والخامس العمات والخالات. قال الواحدي: كل ذكر رجع نسبك إليه فأخته عمتك. وقد تكون العمة من جهة الأم وهي أخت أبي أمك، وكل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة فأختها خالتك. وقد تكون الخالة من جهة الأب وهي أخت أم أبيك، ولا تحرم أولاد العمات وأولاد الخالات.
الصنف السادس والسابع: بنات الأخ وبنات الأخت، والقول فيهما كالقول في بنت الصلب. الثامن والتاسع: قوله: وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ سمى المرضعات أمهات تفخيما لشأنهن كما سمى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمهات لحرمتهن. وليس قوله:
وَأُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ كقول القائل: وأمهاتكم اللاتي كسونكم أو أطعمنكم. وإلّا كان تكرارا لقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ بل المراد أن الرضاع هو الذي تستحق هي بسببه الأمومة ويعلم من تسمية المرضعة. أما والراضعة أختا إنه أجرى الرضاع مجرى النسب لأن المحرمات بسبب النسب سبع: اثنتان بالولادة وهما الأمهات والبنات، والباقية بطريق الإخوة وهن الأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت، فذكر من كل واحد من القسمين صورة واحدة تنبيها بها على الباقي منهما. فذكر من قسم الولادة الأمهات، ومن قسم الإخوة الأخوات. ثم إنه صلى الله عليه وسلم أكد هذا البيان بصريح
قوله: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «1»
فصار صريح الحديث مطابقا لمفهوم الآية. وهذا بيان لطيف فأمك من الرضاع كل أنثى أرضعتك، أو أرضعت من أرضعتك، أو أرضعت من ولدك من الآباء والأمهات، أو ولدت المرضعة، أو الفحل الذي منه اللبن بواسطة أو بغير واسطة.
وبنتك من الرضاع كل أنثى أرضعت بلبنك، أو أرضعت بلبن من ولدت من الأبناء أو البنات. وأختك من الرضاع كل أنثى أرضعتها أمك أو أرضعت بلبن أبيك، أو ولدتها المرضعة أو الفحل الذي در لبنه على المرضعة. وعمتك كل أنثى من الرضاع من جهة الأب، وكل أنثى أرضعت بلبن واحد من أجدادك، أو كانت أخت الفحل الذي أرضعت
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الشهادات باب 7. مسلم في كتاب الرضاع حديث 1، 2. أبو داود في كتاب النكاح باب 6. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 34. الدارمي في كتاب النكاح باب 48. الموطأ في كتاب الرضاع حديث 1، 2، 16. أحمد في مسنده (1/ 275، 290) .(2/385)
بلبنه. ومن جهة الأم كل أنثى هي أخت ذكر أرضعت أمك بلبنه بواسطة أو بغير واسطة.
وخالتك من الرضاع من جهة الأم كل أنثى هي أخت أمك من الرضاع، أو أخت من أرضعتك من النسب أو الرضاع. ومن جهة الأب كل أنثى هي أخت أنثى أرضعت أباك من الرضاع أو النسب. وبنات الإخوة والأخوات من الرضاع كل أنثى ولدها ابن مرضعتك أو بنتها أو ولدها ابن الفحل الذي منه اللبن، أو بنته من الرضاع أو النسب، أو أرضعتها أختك أو أرضعت بلبن أخيك. وكذلك حكم بنات أولاد من أرضعته أختك أو أرضعت بلبن أخيك من الرضاع أو النسب، وكذلك بنات من أرضعته أمك أو أرضع بلبن أبيك وبنات أولادهما من الرضاع أو النسب. والرضاع المحرّم قد يسبق النكاح فيمنع انعقاده، وقد يطرأ عليه فيقطعه. وللرضاع أركان: أحدها المرضع ويجب أن تكون امرأة. فلبن البهيمة لا يثبت تحريما بين الذكر والأنثى للذين شربا منه وكذا لبن الرجل، وأن تكون حية. وعند أبي حنيفة ومالك وأحمد يتعلق بلبن الميتة التحريم، وأن تكون محتملة للولادة بأن بلغت تسع سنين. وثانيها اللبن ويتعلق به التحريم ولو تغيّر بحموضة أو انعقاد أو إغلاء أو اتخذ منه جبن أو زبد أو مخيض أو أقط أو ثرد فيه طعام أو عجن به دقيق وخبز أو خلط بمائع حلال أو حرام. وثالثها المحل وهو معدة الصبي الحي فلا أثر للحقنة، ولا بعد الحولين الهلاليين، ولا للوصول إلى معدة الصبي الميت. ولا بد مع ذلك من خمس رضعات
لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحرم المصة والمصتان ولا الرضعة والرضعتان» «1»
، ولما
روت عائشة «خمس رضعات يحرّمن» «2»
وعند أبي حنيفة: الرضعة الواحدة كافية. الصنف العاشر قوله:
وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ويدخل فيه الجدات من قبل الأب والأم. الحادي عشر وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ والربائب جمع ربيبة وهي بنت امرأة الرجل من غيره، ومعناها مربوبة لأنّ الرجل يربها. والحجور جمع حجر بالفتح والكسر. وكونها في حجره عبارة عن تربيته وهو بناء للكلام على الغالب ومثله هو في حضانة فلان وأصله من الحضن الذي هو الإبط.
وقال أبو عبيد: في حجوركم أي في بيوتكم.
وعن علي عليه السلام أنه جعل كونها ربيبة له وكونها في حجره شرطا في التحريم
وهو استدلال حسن. وأما سائر العلماء فذهبوا إلى
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الرضاع حديث 17، 20، 23. أبو داود في كتاب النكاح باب 10. الترمذي في كتاب الرضاع باب 3. النسائي في كتاب النكاح باب 51. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 35.
الدارمي في كتاب النكاح باب 49. أحمد في مسنده (4/ 4، 5، 31) .
(2)
رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 9، 10. الموطأ في كتاب الرضاع حديث 13. أحمد في مسنده (6/ 1، 20، 255) . بلفظ «.. فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة» .
[.....](2/386)
أنّ الكلام أخرج مخرج الأعم الأغلب، وأنه إذا دخل بالمرأة حرمت ابنتها عليه سواء كانت في تربيته أو لم تكن. أما اشتراط الدخول بأمها فلقوله: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وهو متعلق بربائبكم كما تقول: بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم من خديجة. وأما عدم اشتراط التربية فلقوله: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ علق رفع الجناح بمجرد عدم الدخول، وهذا يقتضي أن السبب لحصول الجناح هو مجرد الدخول. وذهب جمع من الصحابة أن أم المرأة إنما تحرم بالدخول بالبنت كما أن الربيبة إنما تحرم بالدخول بأمها وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر وأظهر الروايات عن ابن عباس. وحجتهم أنه تعالى ذكر جملتين وهو قوله: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ثم ذكر شرطا وهو قوله: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فوجب أن يكون ذلك الشرط معتبرا في الجملتين معا. وأما الأكثرون من الصحابة والتابعين فعلى أن قوله: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ جملة مستقلة بنفسها ولم يدل دليل على عود ذلك الشرط إليه إذ الظاهر تعلق الشرط بالثانية، وإذا تعلق الشرط بالثانية أو تعلق بإحدى الجملتين فلا حاجة إلى تعليقه بأخرى.
وأيضا عود الشرط إلى الجملة الأولى وحدها باطل بالإجماع وكذا عوده إليهما معا، لأنّ معنى «من» مع الأولى البيان، ومعناها مع الثانية ابتداء الغاية، واستعمال اللفظ المشترك في مفهوميه معا غير جائز. نعم لو جعل «من» للاتصال كقوله: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة: 71] أمكن اعتبار الاتصال في النساء والربائب معا، فأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهن أمهاتهن، كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن لأنهن بناتهن. إلّا أن هذا التفسير فيه خلل من جهة اللفظ ومن جهة المعنى. أما اللفظ فلأن قوله: وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وكذا ربائبكم يكون حينئذ مبتدأ وقوله مِنْ نِسائِكُمُ خبرا ويقع بين المعطوفات فاصلة لأن قوله: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ وما بعده معطوف على فاعل حُرِّمَتْ. وأما من جهة المعنى فلأن الحكم بالاتصال والاتحاد يقتضي التحليل لا التحريم ظاهرا. ومما يدل على أن الجملة الأولى مرسلة ما
روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا نكح الرجل امرأة فلا يحل له أن يتزوج أمها دخل بالبنت أو لم يدخل، وإذا تزوج بالأم فلم يدخل بها ثم طلّقها فإن شاء تزوّج البنت» «1»
وكان عبد الله بن مسعود يفتي بنكاح أم المرأة إذا طلق بنتها قبل المسيس وهو يومئذ بالكوفة. فاتفق أن ذهب إلى المدينة فصادفهم مجمعين على خلاف فتواه، فلما رجع إلى الكوفة لم يدخل داره حتى ذهب إلى ذلك الرجل وقرع عليه الباب وأمره بالنزول عن تلك المرأة. وعن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب النكاح باب 25.(2/387)
قال: إنّ الرجل إذا طلق امرأته قبل الدخول وأراد أن يتزوج أمها فله ذلك، وإن ماتت عنده لم يتزوّج أمها أقام الموت مقام الدخول في التحريم كما قام مقامه في باب المهر. والدخول بهن كناية عن الجماع كقولهم: بنى عليها أو ضرب عليها الحجاب. يعني أدخلتموهن الستر، والباء للتعدية. وقد تقدم أن الخلوة الصحيحة عند أبي حنيفة تقوم مقام الدخول في التحريم. وقد تمسك أبوبكر الرازي بالآية في إثبات أن الزنى يوجب حرمة المصاهرة.
قال: لأنّ الدخول بها اسم لمطلق الوطء من نكاح كان أو سفاح. ورد بأنّ تقديم قوله: مِنْ نِسائِكُمُ يوجب تخصيص الوطء بالحلال.
الصنف الثاني عشر وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ فيخرج المتبنى وكان في صدر الإسلام بمنزلة الابن إلى أن نزل: وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ [الأحزاب: 37] وحكم الابن من الرضاع حكم الابن من النسب في تحريم حليلته على أبيه
لقوله صلى الله عليه وسلم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب» «1»
وإن كان ظاهر قوله: وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وظاهر قوله: وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ يقتضي الحل فههنا قد تخصص عموم القرآن بخبر الواحد. واتفقوا على أنّ حرمة التزوّج بحليلة الابن تحصل بنفس العقد ولا تتوقف الحرمة على الدخول. وما روي عن ابن عباس أنه قال: أبهموا ما أبهم الله أراد به التأبيد. ألا ترى أنه قال في السبع المحرّمات من جهة النسب إنها من المبهمات أي من اللواتي تثبت حرمتهن على التأبيد؟
واتفقوا أيضا على تحريم حليلة ولد الولد على الجد. أما جارية الابن فقد قال أبو حنيفة:
يجوز للأب أن يتزوّج بها. وقال الشافعي: لا يجوز لأنّ الحليلة فعيلة إما بمعنى المفعول من الحل أي المحللة، أو من الحلول بمعنى أن السيد يحل فيها، وإما بمعنى الفاعل لأنهما يحلّان في لحاف واحد، أو يحل كل واحد منهما في قلب صاحبه لما بينهما من الإلفة والمودّة. وعلى التقادير يصدق على جارية الابن أنها حليلته كما يصدق على زوجته أنها حليلته فتناولها الحرمة بالآية. الصنف الثالث عشر وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ أي حرمت عليكم الجمع بينهما والتأنيث للتغليب أو للاكتساب أو بتأويل الخصلة. ويمكن أن يقال:
الواو نائب عن الفعل المطلق من غير اعتبار تذكيره أو تأنيثه، والجمع يكون إما بالنكاح أو بالملك أو بهما. أما النكاح فلو عقد عليهما معا فنكاحهما باطل، وعلى الترتيب بطل الثاني
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الشهادات باب 7. مسلم في كتاب الرضاع حديث 1، 2. أبو داود في كتاب النكاح باب 6. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 34. الدارمي في كتاب النكاح باب 48. الموطأ في كتاب الرضاع حديث 1، 2، 16. أحمد في مسنده (1/ 275، 290) .(2/388)
لأنّ الدفع أسهل من الرفع، وأما الجمع بينهما بملك اليمين أو بأن ينكح إحداهما ويشتري الأخرى فقد اختلف الصحابة فيه فقال علي وعمرو بن مسعود وزيد بن ثابت وابن عمر: لا يجوز الجمع بينهما لإطلاق الآية، ولأنه لو لجاز الجمع بينهما في الملك لجاز وطؤهما معا لقوله تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: 6] ولأن الأصل في الإبضاع الحرمة، فلو سلم أن الآية تدل على الجواز فالأحوط جانب الترك. وأما سائر الصحابة والفقهاء فقد قالوا: النهي وارد عن نكاحهما، فلو جمع بينهما في الملك جاز إلّا أنه إذا وطئ إحداهما حرّم وطء الثانية عليه، ولا تزول هذه الحرمة ما لم يزل ملكه عن الأولى ببيع أو هبة أو عتق أو كتابة أو تزويج. قال أبو حنيفة هاهنا: لا يجوز نكاح الأخت في عدّة الأخت البائن لأنّ النكاح الأول كأنه باق بدليل وجوب العدة ولزوم النفقة. وقال الشافعي: يجوز لأن نكاح المطلّقة زائل بدليل لزوم الحد بوطئها. وأما وجوب العدة ولزوم النفقة فنقول: متى حصل النكاح حصلت القدرة على حبسها، ولا يلزم من حصول القدرة على حبسها حصول النكاح لأنّ استثناء عين التالي لا ينتج. وإذا أسلم الكافر وتحته أختان فقد قال الشافعي: اختار أيتهما شاء وفارق الأخرى سواء تزوّج بهما معا أو على الترتيب، لأنّ الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الشرائع في أحكام الدنيا إذا لا يتصوّر تكليفه بالفروع ما دام كافرا. نعم يعاقب بترك الفروع في الآخرة كما يعاقب على ترك الإسلام. ومما يؤيّد قول الشافعي ما روي أن فيروزا الديلي أسلم على ثمان نسوة
فقال صلى الله عليه وسلم: اختر منهن أربعا وفارق سائرهن أطلق ولم يتفحص عن الترتيب.
وقال أبو حنيفة: إن تزوّج بهما معا تركهما أو على الترتيب فارق الثانية، لأنّ الخطاب في قوله: وَأَنْ تَجْمَعُوا عام فيتناول المؤمن والكافر فخالف أصليه حيث جعل النهي دالا على الفساد، والكافر مخاطبا بالفروع. ومما يدل على أن الخطاب بالفروع لا يظهر أثر في حق الكافر في الأحكام الدنيوية الإجماع على أنه لو تزوج بغير وليّ وشهود أو على سبيل القهر والغصب فبعد الإسلام يقرّر ذلك النكاح، أما قوله تعالى: إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ فمعناه أن ما مضى مغفور بدليل قوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وقد مرّ نظيره.
واعلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق بالأختين جميع المحارم حيث
قال: «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها» «1»
وضبط العلماء ذلك بأنّ كل شخصين بينهما قرابة أو رضاع
__________
(1) رواه البخاري في كتاب النكاح باب 27. مسلم في كتاب النكاح حديث 37- 39. أبو داود في كتاب النكاح باب 12. الترمذي في كتاب النكاح باب 3. النسائي في كتاب النكاح باب 31.
الدارمي في كتاب النكاح باب 8. أحمد في مسنده (1/ 78، 373) .(2/389)
لو كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى حرّم النكاح بينهما فلا يجوز الجمع بينهما. فيحرم الجمع بين المرأة وبنت أخيها وبنات أولاد أخيها، وكذلك بين المرأة وبنت أختها وبنات أولاد أختها سواء كانت العمومة والخئولة من النسب أو الرضاع. ولا يحرم نكاح المرأة وأم زوجها، ولا نكاح المرأة وبنت زوجها لأنه لا توجد الحرمة على تقدير ذكورة كل واحدة منهما، وإنما توجد على تقدير ذكورة أم الزوج أو بنته فقط لمكان المصاهرة حينئذ بخلاف ما لو فرضت المرأة ذكرا فإنه لا يكون بينهما قرابة ولا رضاع. وقد يضبط تحريم الجمع بعبارتين أخريين: إحداهما يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما قرابة أو رضاع يقتضي المحرمية، والثانية يحرم الجمع بين كل امرأتين بينهما وصلة قرابة أو رضاع لو كانت تلك الوصلة بينك وبين امرأة لحرمت عليك. الصنف الرابع عشر وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ وقد ورد الإحصان في القرآن بمعان: أحدها الحرية وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ [النور: 4] وثانيها العفة مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ أحصنت فرجها. وثالثها الإسلام فَإِذا أُحْصِنَّ قيل في تفسيره إذا أسلمن. ورابعها كونها ذات زوج وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ أي ذوات الأزواج منهن. والوجوه كلها مشتركة في أصل المعنى اللغوي وهو المنع. يقال: مدينة حصينة ودرع حصينة مانعة صاحبها من الآفات والجراحات. والحرية سبب لمنع الإنسان من نفاذ حكم الغير فيه، والعفة مانعة من ارتكاب المناهي، وكذا الإسلام والزوج مانع لزوجته من كثير من الأمور، والزوجة مانعة للزوج من الوقوع في الزنا. قرىء بكسر الصاد لأنهن أحصن فروجهن بالتزوج. ومعنى قوله: إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أن اللاتي سبين ولهن أزواج في دار الكفر فهن حلال لغزاة المسلمين وهكذا إذا سبى الزوجان معا خلافا لأبي حنيفة قياسا على شراء الأمة واتهابها وارثها فإن كلا منها لا يوجب الفرقة. وأجيب بأنّ الحاصل عند السبي إحداث الملك فيها، وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص، والأول أقوى فظهر الفرق. وقيل: المعنى أن ذوات الأزواج حرام عليكم إلّا إذا ملكتموهن بنكاح جديد بعد وقوع الفراق بينهن وبين أزواجهنّ. وقيل:
المحصنات الحرائر. والمعنى حرمت عليكم الحرائر إلّا العدد الذي جعله الله ملكا لكم وهو الأربع، أو إلّا ما أثبت الله لكم ملكا عليهن لحصول الشرائط المعتبرة من حضور الولي والشهود وغير ذلك، والقول هو الأول لما
روي عن أبي سعيد الخدري قال: أصبنا سبايا يوم أوطاس لهن أزواج، فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت: وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فاستحللناهن.
ثم أكد تحريم المذكورات بقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ قال الزجاج: يحتمل أن يكون منصوبا باسم فعل ويكون عَلَيْكُمْ مفسرا له أي الزموا كتاب الله. وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أي ما وراء هذه المذكورات سواء كن(2/390)
مذكورات بالقول الصريح أو بدلالة جلية أو خفية أو ببيان النبي صلى الله عليه وسلم كما قلنا في تحريم الجمع بين الأختين وغيرهما. وقد دخل بعد هذه العناية في الآية تخصيصات أخر منها: أنّ المطلقة ثلاثا لا تحل ودليل ذلك قوله: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: 230] ومنها الحربية والمرتدة بدليل قوله: وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: 221] ومنها المعتدة بدليل قوله وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ [البقرة: 228] ومنها أن من في نكاحه حرة لم يجز له أن ينكح أمة بالاتفاق. وعند الشافعي القادر على طول الحرة لا يجوز له نكاح الأمة بدليل وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا ومنها الخامسة بدليل مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ [النساء: 3] ومنها الملاعنة
لقوله صلى الله عليه وسلم: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا» .
وقوله: أَنْ تَبْتَغُوا مفعول له أي بين لكم ما يحل مما يحرم إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم في حال كونكم محصنين لا في حال كونكم مسافحين، لئلّا تضيّعوا أموالكم التي جعل الله لكم قياما فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم. ويجوز أن يكون تَبْتَغُوا بدلا من ما وَراءَ ذلِكُمْ ومفعول تَبْتَغُوا مقدر وهو النساء. والأجود أن لا يقدر لأنّه مفهوم من سوق الكلام وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم. ومعنى محصنين متعففين عن الزنا وسمي الزنا سفاحا لأنّه لا غرض للزاني إلّا سفح النطفة أي صبّها. قال أبو حنيفة: لا يجوز المهر بأقل من عشرة دراهم لأنّه تعالى قيد التحليل بالابتغاء بالأموال والدرهم والدرهمان لا يسمى أموالا. وقال الشافعي: يجوز بالقليل والكثير لأنّ قوله: بِأَمْوالِكُمْ مقابلة الجمع بالجمع فيقتضي توزع الفرد على الفرد، فيتمكن كل واحد من ابتغاء النكاح بما يسمى مالا، والقليل والكثير في هذه الحقيقة سواء.
وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أعطى امرأة في نكاح كف دقيق أو سويق فقد استحل»
وقال أبو حنيفة: لو تزوّج بها على تعليم سورة من القرآن لم يكن ذلك مهرا ولها مهر مثلها، لأنّ الابتغاء بالمال شرط والمال اسم للأعيان لا للمنافع، وكذا قوله وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ [النساء: 4] والإيتاء والأكل من صفة الأعيان. ولو تزوّج امرأة على خدمة سنة وإن كان حرا فلها مهر مثلها، وإن كان عبدا فلها خدمة سنة. وقال الشافعي: الآية تدل على أن الابتغاء بالمال جائز وليس فيه أن الابتغاء بغيره جائز أو لا. وأيضا قد خرج الخطاب مخرج الأعم الأغلب فلا يدل على نفي ما سواه. ومما يدل على جواز جعل المنفعة صداقا قوله تعالى في قصة شعيب عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ [القصص: 27] والأصل في شرع من قبلنا البقاء إلى أن يظهر الناسخ. وأيضا التي وهبت نفسها لما لم يجد الرجل الذي أراد التزوّج بها شيئا
قال صلى الله عليه وسلم: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم، سورة كذا وكذا. فقال: زوّجتكها(2/391)
بما معك من القرآن.
ومنه يعلم جواز عتق الأمة صداقا لها لا سيما
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أعتق صفية وجعل عتقها صداقها وكونه من خواصه ممنوع.
فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ أي فما استمتعتم به من المنكوحات من جماع أو عقد عليهن أو خلوة صحيحة عند أبي حنيفة فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي عليه فأسقط الراجع للعلم به. ويجوز أن يراد بما النساء «ومن» للتبعيض أو البيان لا لابتداء الاستمتاع، ويكون رجوع الضمير إليه في بِهِ على اللفظ وفي فَآتُوهُنَّ على المعنى. والأجور المهور لأنّ المهر ثواب على البضع كما يسمى بدل منافع الدار والدابة أجرا. وفَرِيضَةً حال من الأجور بمعنى مفروضة، أو أقيمت مقام إيتاء لأنّ الإيتاء مفروض، أو مصدر مؤكد أي فرض ذلك فريضة. ولا يخفى أنه إن استمتع بها بدخول بها يجب تمام المهر، وإن استمتع بعقد النكاح فقط فالأجر نصف المهر. قال أكثر علماء الأمة: إنّ الآية في النكاح المؤبد. وقيل: المراد بها حكم المتعة وهي أن يستأجر الرجل المرأة بمال معلوم إلى أجل معلوم ليجامعها، سميت متعة لاستمتاعه بها أو لتمتيعه لها بما يعطيها. واتفقوا على أنها كانت مباحة في أول الإسلام، ثم السواد الأعظم من الأمة على أنها صارت منسوخة. وذهب الباقون ومنهم الشيعة إلى أنها ثابتة كما كانت، ويروى هذا عن ابن عباس وعمران بن الحصين. قال عمارة: سألت ابن عباس عن المتعة أسفاح هي أم نكاح؟ قال: لا سفاح ولا نكاح. قلت:
فما هي؟ قال: هي متعة كما يقال. قال: قلت هل لها عدة؟ قال: نعم، عدّتها حيضة.
قلت: هل يتوارثان؟ قال: لا. وفي رواية أخرى عنه أن الناس لما ذكروا الأشعار في فتيا ابن عباس في المتعة قال: قاتلهم الله إني ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق لكني قلت: إنها تحل للمضطر كما تحل الميتة والدم ولحم الخنزير له، ويروى أنه رجع عن ذلك عند موته وقال:
اللهم إني أتوب إليك من قولي في الصرف والمتعة. وأما
عمران بن الحصين فإنه قال: نزلت آية المتعة في كتاب الله ولم ينزل بعدها آية تنسخها وأمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمتعنا معه ومات ولم ينهنا عنها، ثم قال رجل برأيه ما شاء- يريد أن عمر نهى عنها-
وروى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن علي أنه قال: لولا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شقي.
حجة الجمهور على حرمة المتعة أنّ الوطء لا يحل إلّا في الزوجة أو المملوكة لقوله تعالى: إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ [المؤمنون: 6] وهذه المرأة ليست بمملوكة ولا بزوجة وإلّا لحصل التوارث ولثبت النسب ولوجبت العدة عليها بالأشهر والتوالي باطلة بأسرها بالاتفاق. وروي عن عمر أنه نهى عن المتعة على المنبر بمحضر من الصحابة ولم ينكر عليه أحد منهم، فلو سكتوا لعلمهم بحرمتها فذاك، ولو سكتوا لجهلهم(2/392)
بحلها وحرمتها فمحال عادة لشدة احتياجهم إلى البحث عن أمور النكاح، ولو سكتوا مع علمهم بحلها فإخفاء الحق مداهنة وكفر وبدعة وذلك محال منهم. وما روي عن عمر أنه قال: لا أوتى برجل نكح امرأة إلى أجل إلّا رجمته. ثم إنّ الصحابة لم ينكروا عليه مع أنّ الرجم لا يجوز في المتعة فلعله ذكر ذلك على سبيل التهديد والسياسة ومثل ذلك جائز للإمام عند المصلحة. ألا ترى أنه
قال صلى الله عليه وسلم: «من منع منا الزكاة فإنا آخذوها منه وشطر ماله» «1»
مع أن أخذ شطر المال من مانعي الزكاة غير جائز إلّا للسياسة. وروى الواحدي في البسيط عن مالك عن الزهري عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي عن أبيهما عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء وعن أكل لحوم الحمر الإنسية. قال: وروى الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه قال: غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو قائم بين الركن والمقام مسند ظهره إلى الكعبة يقول: يا أيها الناس إني أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء، ألا وإن الله قد حرمه عليكم إلى يوم القيامة، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. القائلون بإباحة المتعة قالوا: الابتغاء بالأموال يتناول الاستمتاع بالمرأة على سبيل التأبيد وعلى سبيل التوقيت، بل الآية مقصورة على نكاح المتعة لما روي أن أبي بن كعب كان يقرأ فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فآتوهن أجورهن وبه قرأ ابن عباس أيضا، والصحابة ما أنكروا عليهما فكان إجماعا. وأيضا أمر بإيتاء الأجور لمجرد الاستمتاع أي التلذذ وهذا في المتعة، وأما في النكاح المطلق فيلزم الأجر بالعقد. وأيضا قال في أول السورة: فَانْكِحُوا [النساء: 3] فناسب أن تحمل هذه الآية على نكاح المتعة لئلا يلزم التكرار في سورة واحدة، والحمل على حكم جديد أولى. ومما يدل على ثبوت المتعة ما
جاء في الروايات أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر.
وأكثر الروايات أنه صلى الله عليه وسلم أباح المتعة في حجة الوداع وفي يوم الفتح. وذلك أنّ أصحابه شكوا إليه يومئذ طول العزوبة فقال: استمتعوا من هذه النساء. وقول من قال إنه حصل التحليل مرارا والنسخ مرارا ضعيف لم يقل به أحد من المعتبرين إلّا الذين أرادوا إزالة التناقض عن هذه الروايات. ونهي عمر يدل على أنه كان ثابتا في عهد الرسول، وما كان ثابتا في عهده لم يمكن نسخه بقول عمر كما أشار إليه عمران بن الحصين. وأجيب بأنّ المراد من قول عمر «وأنا أنهي عنها» أنه قد ثبت عندي نسخها في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم وقد سلموا له ذلك فكان إجماعا.
وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ الذين حملوا الآية على بيان
__________
(1) رواه النسائي في كتاب الزكاة باب 7. أحمد في مسنده (5/ 2، 4) .(2/393)
حكم النكاح قالوا: المراد أنه إذا كان المهر مقدّرا بمقدار معين فلا حرج في أن تحط عنه شيئا أو تبرّئه عنه بالكلية كقوله: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ [النساء: 4] وقال الزجاج: لا إثم عليكم في أن تهب المرأة للزوج مهرها أو يهب الزوج للمرأة تمام المهر، إذا طلّقها قبل الدخول. قال أبو حنيفة: إلحاق الزيادة بالصداق جائز لأنّ التراضي قد يقع على الزيادة وقد يقع على النقصان وهي ثابتة إن دخل بها أو مات عنها، أما إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نصف المسمى في العقد. وقال الشافعي: الزيادة بمنزلة الهبة. فإن أقبضها ملكته بالقبض وإن لم يقبضها بطلت، والدليل على بطلان هذه الزيادة أنها لو التحقت بالأصل فإما أن ترفع العقد الأول وتحدث عقدا ثانيا وهو باطل بالإجماع، وإما أن تحصل عقدا مع بقاء العقد الأول وهو تحصيل الحاصل. والذين حملوا الآية على حكم المتعة قالوا: المراد أنه ليس للرجل سبيل على المرأة من بعد الفريضة وهي المقدار المفروض من الأجر والأجل، فإن قال لها زيدي في الأيام وأزيد في الأجر فهي بالخيار. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً لا يشرع الأحكام إلّا على وفق الحكمة والصواب.
ثم وسع الأمر على عبادة فقال: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا فضلا في المال وسعة ومنه الطول في الجسم لأنه زيادة فيه كما أن القصر قصور فيه ونقصان. وأَنْ يَنْكِحَ متعلق ب طَوْلًا يقال: طال على الأمر إذا غلبه فتمكن من فعله. والمحصنات هاهنا الحرائر، والمعنى ومن لم يقدر على نكاح الحرة فلينكح من الإماء التي ملكتها أيمانكم. قال ابن عباس: يريد جارية أخيك فإنّ الإنسان لا يجوز له أن يتزوّج بجارية نفسه والفتيات المملوكات. تقول العرب للأمة فتاة وللعبد فتى.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم عبدي ولكن ليقل فتاي وفتاتي» «1»
وقال الشافعي: إنّ الله تعالى شرط في نكاح الإماء ثلاث شرائط: اثنتان في الناكح الأولى فقد طول الحرة وهو عبارة عن عدم ما ينكح به الحرة كما يقول الرجل: لا أستطيع أن أحج إذا كان لا يجد ما يحج به. فإذا كان كذلك جاز له التزوّج بالأمة لأنّ العادة في الإماء تخفيف مهورهن ونفقتهن لاشتغالهن بخدمة ساداتهن. والثانية خشية العنت كما يجيء في آخر الآية. والثالثة في المنكوحة وهي أن تكون الأمة لمسلم ومع ذلك تكون مؤمنة لا كافرة لقوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ فالقيد الأول مستفاد من قوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ أي من فتيات المسلمين لا من فتيات غيركم وهم المخالفون في الدين، والقيد الثاني من وصف الفتيات بالمؤمنات. أما فائدة القيد الأول فهي أن الولد تابع
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الألفاظ حديث 14. أحمد في مسنده (2/ 444) .(2/394)
للأم في الحرية والرق، وحينئذ يعلق الولد رقيقا على ملك الكافر. إلّا أن هذا القيد ألغاه أكثر الأئمة لأنّ الولد إذا رق للكافر بيع عليه في الحال. وأما فائدة القيد الثاني فالحذر من اجتماع النقصانين الكفر والرق. وهذا قول مجاهد وسعيد والحسن ومذهب مالك والشافعي. أما أبو حنيفة فإنه يقول: الغني والفقير سواء في جواز نكاح الأمة. وذلك أنه يحمل النكاح في الآية على الوطء ويقول: المراد أن من لم يملك فراش الحرة فله أن ينكح أمة. ثم الأمة لو كانت كتابية جاز له نكاحها ولكن نكاح الأمة المؤمنة أفضل فحمل التقييد في الآية على الفضل لا على الوجوب قياسا على جواز نكاح الحرة الكتابية بالإجماع مع وصف الجرائر أيضا بالمؤمنات. وأجيب بالفرق وهو اجتماع النقصانين. ومن الناس من قال: لا يجوز التزوّج بالكتابيات البتة ولا شك أن في الآية دلالة على الحذر عن نكاح الإماء وأن الإقدام عليه لا يجوز إلّا عند الضرورة وذلك لتباعة الولد الأم في الرق، ولأنها ممتهنة مبتذلة خراجة ولاجة فربما تعوّدت بسبب ذلك فجورا وقحة، ولما للمولى عليها من حق الاستخدام فلا تخلص لخدمة الزوج، ولأنّ السيد قد يبيعها فتصير مطلقة عند من يقول بذلك، ولأنّ مهرها ملك لمولاها فلا تقدر على هبة مهرها من زوجها ولا على إبرائه.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ قال الزجاج: أي اعملوا على الظاهر في الإيمان فإنكم مكلفون بظواهر الأمور والله أعلم بما في الصدور. بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ كلكم أولاد آدم فلا يتداخلكم أنفة من التزوّج بالإماء عند الضرورة، أو كلكم مشتركون في الإيمان وهو أعظم المقاصد فإذا حصل الاشتراك فيه فما وراءه غير ملتفت إليه. وفيه توهين ما كانوا عليه في الجاهلية من الفخر بالأنساب والأحساب وتأنيس بنكاح الإماء إذا كن مؤمنات. ثم شرح كيفية هذا النكاح فقال: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ فلذلك اتفقوا على أنّ نكاح الأمة بدون إذن سيدها باطل لأنّ نكاحهن غير واجب فيتوجه الأمر إلى اشتراط الإذن، ولأنّ التزوّج بها يعطل على السيد أكثر منافعها فوجب أن لا يجوز إلّا بإذنه. ولفظ القرآن مقتصر على الأمة.
وأما العبد فقد ثبت ذلك في حقه بالحديث.
روى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا تزوّج العبد بغير إذن سيده فهو عاهر» «1»
واستدل الشافعي بالآية على أنّ المرأة البالغة العاقلة لا يصح نكاحها إلّا بإذن الولي لأنّ قوله: فَانْكِحُوهُنَّ الضمير فيه يعود إلى الإماء. والأمة ذات موصوفة بصفة الرق، وصفة الرق صفة زائلة، والإشارة إلى ذات موصوفة بصفة عرضية زائلة تبقى بعد زوال تلك الصفة بدليل أنه لو حلف لا يتكلم مع هذا الشاب فصار شيخا ثم تكلم معه
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 16. الترمذي في كتاب النكاح باب 21. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 43. الدارمي في كتاب النكاح باب 40. أحمد في مسنده (3/ 301، 377) .(2/395)
يحنث في يمينه. فعند زوال الرق عنها وهي حرة عاقلة بالغة يتوقف جواز نكاحها على إذن وليها، وإذا ثبت الحكم في هذه الصورة ثبت في سائر الصور ضرورة أنه لا قائل بالفرق.
واعترض على قول الشافعي بأنّ ظاهر الآية يدل على الاكتفاء بحصول إذن أهلها وعنده لا يجوز للمرأة أن تزوّج أمتها. وأجيب بأن المراد بالإذن الرضا، وعندنا أن رضا المولى لا بد منه. فإما أنه كاف فليس في الآية دليل عليه، وأيضا إن أهلهن عبارة عمن يقدر على إنكاحهن وهو المولى إن كان رجلا أو ولي المولى إن كان امرأة. سلمنا أن الأهل هو المولى لكنه عام يخصصه
قوله صلى الله عليه وسلم: «العاهر هي التي تنكح نفسها» «1»
إذ يلزمه أن لا يكون لها عبارة في نكاح مملوكها ضرورة أنه لا قائل بالفرق. قلت: الإنصاف أن استدلال الشافعي لا يتم. فلقائل أن يقول: لا نسلم أن صفة الرق للأمة عرضية من حيث إنها أمة، وإن سلمنا ذلك فلا نسلم أن الإشارة إلى ذات الأمة في الآية تبقى بعد زوال صفة الرق.
فكونها مثل قول القائل لا أتكلم مع هذا الشاب ممنوع. فمن المعلوم عرفا أن المراد به ذات الشاب من حيث هو ولكنه كقول الحالف: لا أكلم شابا. فحينئذ لو كلّم زيدا وزيد شاب حنث فإذا صار شيخا ثم كلمه لم يحنث. وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ أي مهورهن وفيه دلالة على وجوب مهرها إذا نكحها- سمى لها المهر أو لم يسم- وفي قوله: بِالْمَعْرُوفِ دلالة على أنه مبني على الاجتهاد وغالب الظن في المعتاد المتعارف وهو مهر المثل، أو المراد بغير مطل وضرار وإحواج إلى الاقتضاء. وقيل: الأجور النفقة عليهن لأن المهر مقدر فلا معنى لاشتراط المعروف فيه فكأنه تعالى بيّن أن كونها أمة لا يقدح في وجوب نفقتها وكفايتها كما في حق الحرة إذا حصلت التخلية من المولى بينه وبينها على العادة. وعن بعض أصحاب مالك أنّ الأمة هي المستحقة لقبض مهرها، وأنّ المولى إذا آجرها للخدمة كان هو المستحق للأجرة دونها واحتجوا في المهر بظاهر قوله: وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وأما الجمهور فعلى أن مهرها لمولاها لقوله تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ [النحل: 75] وهذا ينفي كون المملوكة مالكة لشيء أصلا، ولأنّ منافعها كانت مملوكة للسيد وقد أباحها للزوج بعقد النكاح فوجب أن يستحق بدلها. أما ظاهر الآية فلو حملنا لفظ الأجور على النفقة فلا إشكال، ولو حملناه على المهور فالجواب أنها ثمن أبضاعهن فلذلك أضيف الأجور إليهن. وليس في قوله: وَآتُوهُنَّ ما يوجب كون المهر ملكا لهن. وهب أن المهر ملك لهن
ولكنه صلى الله عليه وسلم قال: «العبد وما يملكه لمولاه»
أو المراد وآتوا مواليهن فحذف المضاف مُحْصَناتٍ قال ابن عباس: أي عفائف وهو حال من قوله:
__________
(1)
رواه الترمذي في كتاب النكاح باب 15. بلفظ «البغايا اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بيّنة» .(2/396)
فَانْكِحُوهُنَّ وظاهره يقتضي حرمة نكاح الزواني لكن الأكثرون على أنه يجوز فالآية محمولة على الندب والاستحباب. غَيْرَ مُسافِحاتٍ قال أكثر المفسرين: المسافحة هي التي تؤاجر نفسها أي رجل أرادها، ومتخذة الخدن هي التي لها صديق معيّن. وكان أهل الجاهلية يفصلون بين القسمين وما كانوا يحكمون على ذات الخدن بكونها زانية، فلما كان هذا الفرق معتبرا عندهم فلا جرم أفردهما الله تعالى بالذكر تنصيصا على حرمتهما معا.
والأخدان جمع خدن كالأتراب جمع ترب. والخدن الذي يخادنك أي يكون معك في كل أمر ظاهر وباطن، يقع على الذكر والأنثى. فَإِذا أُحْصِنَّ بالتزوّج وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد، أو بالإسلام وهو قول عمر وابن مسعود والشعبي والنخعي والسدي. وكأنه تعالى ذكر حال إيمانهن في النكاح في قوله: مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ ثم كرر ذلك في حكم ما يجب عليهن عند إقدامهن على الفاحشة. وهاهنا إشكال وهو أن المحصنات في قوله: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ أريد بها الحرائر المتزوجات أو الحرائر الأبكار. وعلى الأول يجب عليهن نصف الرجم وتنصيف الرجم محال، وعلى الثاني يجب عليهن خمسون جلدة وهذا القدر واجب في زنا الأمة محصنة كانت أو لم تكن، وقد علق ذلك في الآية بمجموع الأمرين: الإحصان والزنا.
والجواب أنا نختار القسم الأول ويسقط الرجم عنهن بالدليل العقلي لأن الرجم لا ينتصف، أو الثاني والمراد بيان تخفيف عذابهن. وذلك أن حد الزنا يغلظ عند التزوج فهذه إذا زنت وقد تزوّجت فحدها خمسون جلدة لا يزيد عليها، فلأن يكون قبل التزوّج هذا القدر أولى.
واعلم أن الخوارج اتفقوا على إنكار الرجم واحتجوا بأنّ الآية تدل على أنّ عذاب الأمة نصف عذاب الحرة المحصنة، فلو كان على الحرة الرجم لزم تنصيف الرجم في حق الأمة وهو محال. والجواب ما مرّ أن المخصص في حق الأمة دليل عقلي، والفقهاء جعلوا الآية أصلا في نقصان حكم العبد عن حكم الحرة في غير الحد وإن كان من الأمور ما لا يجب ذلك فيه كالصلاة والصوم وغيرهما. ذلِكَ إشارة إلى نكاح الإماء بالاتفاق لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وقد عرفت فيما مرّ أن معناه الوقوع في أمر شاق. وللمفسرين هاهنا قولان: أحدهما أن الشبق الشديد والغلمة العظيمة ربما تدعو إلى الزنا فيقع في الحد في الدنيا وفي العذاب الأليم في الآخرة، والثاني أن الشبق قد يفضي إلى الأمراض الشديدة كأوجاع الوركين والظهر والوسواس وكاختناق الرحم للنساء، والأول أليق ببيان القرآن وعليه أكثر العلماء. وَأَنْ تَصْبِرُوا أي صبركم عن نكاح الإماء بعد شروطه المبيحة متعففين خير لكم لما فيه من المفاسد المذكورة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «الحرائر صلاح البيت(2/397)
والإماء هلاك البيت» .
وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ تأكيد لما ذكره من أن الأولى ترك النكاح إلّا أنه أباحه لاحتياج المكلفين فهو من باب المغفرة والرحمة يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ أقيمت اللام مقام «أن» في قولك أريد أن يقوم. وقيل: زيدت اللام وقدر «أن» وذلك لتأكيد إرادة التبيين كما زيدت في «لا أبالك» لتأكيد إضافة الأب. وقيل: في الآية إضمار والأصل يريد الله إنزال هذه الأحكام ليبين لكم دينكم وشرعكم وما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم ويهديكم مناهج من كان قبلكم. قيل: المراد أن كل ما بيّن لنا من التحريم والتحليل في شأن النساء فقد كان الحكم كذلك في جميع الشرائع والملل. وقيل: بل المراد أن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها إلّا أنها متفقة في باب المصالح، وقيل: المعنى سنن من كان قبلكم من أهل الحق لتقتدوا بهم ويتوب عليكم. قال القاضي: معناه كما أراد منا نفس الطاعة فلا جرم بينها وأزاح الشبه عنها، كذلك يريد أن يتوب علينا إن وقع تقصير وتفريط. وفي الآية إشعار بأنه تعالى هو الذي يخلق التوبة فينا، فيرد عليه أنه إذا أراد التوبة منا وجب أن تحصل التوبة لكنا وليس كذلك. وأجيب بأنّ المراد التوبة في باب نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات وقد حصلت هذه التوبة، وكذا الكلام في قوله: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وقالت المعتزلة: يريد أن تفعلوا ما تستوجبون به أن يتوب عليكم. وَيُرِيدُ الفجرة الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا عن الحق والقصد مَيْلًا عَظِيماً وقيل: هم اليهود، وقيل: المجوس كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرمهن الله قالوا: فإنكم تحلّون بنت الخالة والعمة والخالة والعمة حرام عليكم فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت. يقول:
يريدون أن تكونوا زناة مثلهم. يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ بإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً فلضعفه خفف تكليفه ولم يثقل. أما ضعف خلقته بالنسبة إلى كثير من المخلوقات بل الحيوانات فظاهر ولهذا اشتد احتياجه إلى التعاون والتمدن والأغذية والأدوية والمساكن والملابس والذخائر والمعاملات إلى غير ذلك من الضرورات، وأما ضعف عزائمه ودواعيه فأظهر ولهذا لا يصبر على مشاق الطاعات ولا عن الشهوات ولا سيما عن النساء. عن سعيد بن المسيب: ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلّا أتاهم من قبل النساء، لقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وإن أخوف ما أخاف علي النساء. عن ابن عباس: ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت. يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء: 31] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: 40] مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً(2/398)
أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
[النساء: 110] ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ [النساء: 147] اللهم لا تحرمنا مواعيدك إنك لا تخلف الميعاد.
ثم إنه لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإيفاء المهر والنفقات بيّن عقيب ذلك أنه كيف يتصرف في الأموال فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ بما لا يبيحه الشرع بوجه وقد مر تفسيره في البقرة في قوله: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [البقرة: 188] إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وقد سبق مثله في آخر البقرة. وخص التجارة بالذكر وإن كان غير ذلك من الأموال المستفادة بنحو الهبة والإرث وأخذ الصدقات والمهور وأروش الجنايات حلالا، لأنّ أكثر أسباب الرزق يتعلق بالتجارة. ويدخل تحت هذا النهي أكل مال الغير بالباطل، وأكل مال نفسه بالباطل كما أن قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ يدل على النهي عن قتل غيره وعن قتل نفسه. قال أبو حنيفة: النهي في المعاملات لا يدل على البطلان. وقال الشافعي: يدل لأن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول المالك فذلك غير منعقد بالإجماع فالتصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي وهو الله سبحانه أولى أن يكون باطلا. وأي فرق بين قوله: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين» وبين قوله: «لا تبيعوا الحر» وإذا كان الثاني غير منعقد بالاتفاق فكذا الأول. وقال أبو حنيفة: خيار المجلس غير ثابت في عقود المعاوضات المحضة لأن التراضي المذكور في الآية قد حصل. وقال الشافعي: لا شك أن هذا التراضي يقتضي الحل إلّا أنا نثبت بعد ذلك للمتبايعين الخيار
بقوله صلى الله عليه وسلم: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» «1» .
وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ من كان من جنسكم من المؤمنين لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة حينما يعرضه غم أو خوف أو مرض شديد يرى قتل نفسه أسهل عليه.
عن الحسن البصري قال: حدثنا جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان رجل جرح فقتل نفسه فقال الله: بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة» «2» .
وعن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: هذا من أهل النار. فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالا شديدا فأصابته جراح. فقيل له: يا رسول الله الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا وقد مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى
__________
(1) رواه البخاري في كتاب البيوع باب 42، 44، 47. مسلم في كتاب البيوع حديث 45. أبو داود في كتاب البيوع باب 51. النسائي في كتاب البيوع باب 9. الموطأ في كتاب البيوع حديث 79. أحمد في مسنده (1/ 56) .
(2) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 83.(2/399)
النار. فكاد بعض المسلمين أن يرتاب. فبيناهم على ذلك إذ قيل له: إنه لم يمت ولكن به جراحات شديدة، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا» «1» .
وعن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزاة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صلّيت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو صلّيت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله تعالى يقول: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا.
وقيل: معنى الآية لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردة والزنا بعد الإحصان إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ولأجل رحمته نهاكم عما يضركم عاجلا وآجلا. وقيل من رحمته أنه لم يأمركم بقتل أنفسكم كما أمر بني إسرائيل بذلك توبة لهم وتمحيصا لخطاياهم. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ القتل عُدْواناً وَظُلْماً لا خطأ ولا قصاصا. هذا قول عطاء. وقال الزجاج: ذلك إشارة إلى القتل والأكل بالباطل. وعن ابن عباس أنه عائد إلى كل ما نهى الله تعالى عنه من أول السورة. وتنكير النار للتعظيم أو للنوع. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً مثل على وفق المتعارف كقوله: وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم: 27] وإلّا فلا مانع له عن حكمه ولا منازع له في ملكه.
التأويل:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ الآية كلها إشارات إلى نهي التعلق ومنع التصرف في الأمهات السفليات والمتوالدات من أوصاف الإنسان وصفات الحيوان. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً بأنواع غفرانه ظلمات الصفات الإنسانية التي تتولد من تصرفات الحواس في المحسوسات عند الضرورات بالأمر لا بالطبع رَحِيماً بالمؤمنين فيما اضطرهم إليه من التصرفات بقدر الحاجة الضرورية. وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ هي الدنيا التي تصرف فيها العلويات إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ بإذن الله تعالى حيث قال: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف: 31] مُحْصِنِينَ حرائر من الدنيا وما فيها غَيْرَ مُسافِحِينَ في الطلب مياه وجوهكم. فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ من الضروريات فأعطوا حقوق تلك الحظوظ بالطاعة والشكر والذكر. ثم إنّ الله تعالى أحب نزاهة قلب المؤمن عن دنس حب الدنيا كما أحب
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 175. الترمذي في كتاب الطب باب 7. النسائي في كتاب الجنائز باب 68. الدارمي في كتاب الديات باب 10. أحمد في مسنده (2/ 254، 478) .(2/400)
نزاهة فراشه فقال: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي من لم يقدر أن يسخر عجوز الدنيا الصالحة بأسرها ويجعلها منكوحة له ويحصنها بتصرّف شرائع الإسلام بحيث لا يكون لها تصرف في قلبه بوجه ما، فليتصرف في القدر الذي ملكت يمين قلبه من الدنيا ولم تملك قلبه لأنها مأمورة بخدمته وهي مؤمنة له بالخدمة كما قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله تعالى: «يا دنيا اخدمي من خدمني واستخدمي من خدمك» . مُحْصَناتٍ بالصدق والإخلاص غَيْرَ مُسافِحاتٍ بالتبذير والإسراف وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ من النفس والهوى فَإِذا أُحْصِنَّ بالإخلاص في العطاء والمنع والأخذ والدفع فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ هي غلبات شهواتها على القلب فليبذل نصف ما ملكت يمينه من الدنيا في الله جناية وغرامة فهو حدها كما أن حدّ عجوز الدنيا إذا أحصنها ذوو الطول من الرجال فأتت بفاحشة إهلاكها بالكلية بالبذل في الله كما كان حال سليمان عليه السلام إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد لما شغلته عن الصلاة وأتت بفاحشة حب الخيل فطفق مسبحا بالسوق والأعناق ذلِكَ التصرف في قدر من الدنيا لِمَنْ خَشِيَ ضعف النفس وقلة صبرها على ترك الدنيا وامتناعها عن قبول الأوامر والنواهي وَأَنْ تَصْبِرُوا عن التصرّف في الدنيا بالكلية خَيْرٌ لَكُمْ كما
قال صلى الله عليه وسلم: «يا طالب الدنيا لتبر فتركها خير وأبر» .
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ فلكم المعونة ولغيركم المئونة.
قال إبراهيم: إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي [الصافات: 99] وأخبر عن حال موسى بقوله: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الأعراف: 143] وعن حال نبينا بقوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] وعن حال هذه الأمة بقوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا [فصلت: 53] والمعونة هي الجذبة التي توازي عمل الثقلين، فلا جرم كان لغير نبيّنا الوصول إلى السموات فقط، وكان لنبيّنا الوصول إلى مقام قاب قوسين أو أدنى، ولأمته التقرّب:
«لا يزال العبد يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه» «1»
. والفرق بين النبي والولي، أنّ النبي مستقل بنفسه والولي لا يمكنه السير إلّا في متابعة النبي وتسليكه. وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً ولهذا أعين بالخدمة حتى يتصل بقوّة ذلك إلى مقام لا يصل إليه الثقلان بسعيهم إلى الأبد، وضعفه بالنسبة إلى جلال الله وكماله وإلّا فهو أقوى في حمل الأمانة من سائر المخلوقات. وأيضا من ضعفه أنه لا يصبر عن الله لحظة فإنه يحبهم ويحبونه.
الصبر يحمد في المواطن كلها ... إلّا عليك فإنه لا يحمد
وكان أبو الحسن الخرقاني يقول: لو لم ألق نفسا لم أبق. وغير الإنسان يصبر عن الله
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 38. أحمد في مسنده (6/ 256) .(2/401)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31) وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33) الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
لعدم المحبة. ومن ضعفه أنه لا يصبر مع الله عند غلبات سطوات التجلي كما أنه صلى الله عليه وسلم كان يغان على قلبه وكان يقول حينئذ: كلميني يا حميراء. وكان الشبلي يقول: لا معك قرار ولا منك فرار، المستغاث بك منك إليك. ضعف الإنسان سبب كماله وسعادته، فساعة يتصف بصفات البهيمة، وساعة يتسم بسمات الملك. وليس لغيره هذا الاستعداد فلهذا
جاء في الحديث الرباني: «أنا ملك حي لا أموت أبدا فأطعني عبدي لعلك تكون ملكا حيا لا تموت أبدا» .
إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً أي تجارة تنجيكم من عذاب أليم. وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بصرف أموالكم في شهواتها فإن ذلك سمها القاتل إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً إذ بيّن لكم هذه الآفات ودلكم على هذه التجارات. وَمَنْ يَفْعَلْ صرف المال إلى الهوى تعديا عن أمر الله وظلما على نفسه.
[سورة النساء (4) : الآيات 31 الى 40]
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33) الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)(2/402)
القراآت:
يكفر ويدخلكم بياء الغيبة: المفضل. الباقون بالنون. مُدْخَلًا بفتح الميم وكذلك في الحج: أبو جعفر ونافع. الباقون بالضم. وَسْئَلُوا وبابه مما دخل عليه واو العطف أو فاؤه بغير همزة: ابن كثير وعلي وخلف وسهل وحمزة في الوقف.
عَقَدَتْ من العقد: عاصم وحمزة وعلي وخلف. الباقون عاقدت من المعاقدة. بِما حَفِظَ اللَّهُ بالنصب: يزيد. الباقون بالرفع. وَالْجارِ بالإمالة: إبراهيم بن حماد وقتيبة ونصير وأبو عمرو وحمزة في رواية ابن سعدان وأبي عمرو والنجاري عن ورش وَالْجارِ الْجُنُبِ بفتح الجيم وسكون النون: المفضل. الباقون بضمتين. بِالْبُخْلِ بفتحتين حيث كان: حمزة وعلي وخلف والمفضل عباس مخير. الباقون: بضم الباء وسكون الخاء.
حَسَنَةً بالرفع: ابن كثير وأبو جعفر ونافع. الباقون بالنصب. يُضاعِفْها بالتشديد:
ابن كثير وابن عامر ويزيد ويعقوب. الباقون يُضاعِفْها بالألف.
الوقوف:
كَرِيماً هـ عَلى بَعْضٍ ط مِمَّا اكْتَسَبْنَ ط مِنْ فَضْلِهِ ط عَلِيماً هـ وَالْأَقْرَبُونَ ط بناء على أن ما بعده مبتدأ نَصِيبَهُمْ ط شَهِيداً هـ مِنْ أَمْوالِهِمْ ج لأن ما يتلو مبتدأ بِما حَفِظَ اللَّهُ ط وَاضْرِبُوهُنَّ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب سَبِيلًا ط كَبِيراً هـ مِنْ أَهْلِها ج لأن «أن» للشرط مع اتحاد الكلام بَيْنِهِما ط خَبِيراً هـ وَابْنِ السَّبِيلِ ط للعطف أَيْمانُكُمْ ط فَخُوراً هـ لا بناء على أن الذين بدل مِنْ فَضْلِهِ ط مُهِيناً هـ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والعطف بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ط وإن جعل «الذين» مبتدأ لأن خبره محذوف أي فأولئك قرينهم الشيطان قَرِيناً هـ رَزَقَهُمُ اللَّهُ ط عَلِيماً هـ ذَرَّةٍ ط لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى أي لا يظلم بنقص الثواب ومع ذلك يضاعفه عَظِيماً هـ.
التفسير:
هذا كالتفصيل للوعيد المتقدم. ومن الناس من قال: جميع الذنوب والمعاصي كبائر. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس: كل شيء عصي الله فيه فهو كبيرة، فمن عمل شيئا منها فليستغفر الله فإنّ الله لا يخلد في النار من هذه الأمة إلّا راجعا عن الإسلام أو جاحدا فريضة أو منكرا لقدر. وضعف بأن الذنوب لو كانت كلها كبائر لم يبق فرق بين ما يكفر باجتناب الكبائر وبين الكبائر وبقوله تعالى: وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ [القمر: 53] لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: 49] وبأنه صلى الله عليه وسلم نص على ذنوب بأعيانها أنها كبائر، وبقوله تعالى: وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ [الحجرات: 7] ولا بد من فرق بين الفسوق والعصيان. فالكبائر هي الفسوق، والصغائر العصيان. حجة المانع ما روي عن ابن عباس: أنّ الذنب إنما يكبر لوجهين: لكثرة نعم من(2/403)
عصى فيه ولجلالته، ولا شك أن نعمه تعالى غير متناهية وأنه أجل الموجودات فيكون عصيانه كبيرا. وعورض بأنه أرحم الراحمين وأغنى الأغنياء عن طاعات المطيعين، وكل ذلك يوجب خفة الذنب وإن سلم أن الذنوب كلها كبائر من حيث إنها ذنوب ولكن بعضها أكبر من بعض وذلك يوجب التفاوت. وإذ قد عرفت أن الذنوب بعضها صغائر وبعضها كبائر فالكبيرة تتميز عن الصغيرة بذاتها أو باعتبار فاعلها. ذهب إلى كل واحد طائفة. فمن الأولين من قال: ويروى عن ابن عباس كل ما جاء في القرآن مقرونا بذكر الوعيد فهو كبيرة كالقتل المحرم والزنا وأكل مال اليتيم وغيرها. وزيف بأنه لا ذنب إلّا وهو متعلق الذم عاجلا والعقاب آجلا فيكون كل ذنب كبيرا وهو خلاف المفروض. وعن ابن مسعود أن الكبائر هي ما نهى الله تعالى في الآيات المتقدمة، وضعف بأنه تعالى ذكر الكبائر في سائر السور أيضا فلا وجه للتخصيص. وقيل: كل عمد فهو كبير. وردّ بأنه إن أراد بالعمد أنه ليس بساه فما هذا حاله فهو الذي نهى الله عنه فيكون كل ذنب كبيرا وقد أبطلناه، وإن أراد بالعمد أن يفعل المعصية مع العلم بأنها معصية فلا يكون كفر اليهود والنصارى كبيرا وهو باطل بالاتفاق. وأما الذين يقولون الكبائر تمتاز عن الصغائر باعتبار فاعلها، فوجهه أنّ لكل طاعة قدرا من الثواب، ولكل معصية قدرا من العقاب. فإذا وجد للإنسان طاعة ومعصية فالتعادل بين الاستحقاقين وإن كان ممكنا بحسب العقل إلّا أنه غير ممكن بحسب السمع وإلّا لم يكن مثل ذلك المكلف لا في الجنة ولا في النار وقد قال تعالى: فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] فلا بد من ترجيح أحدهما، ويلزم حينئذ الإحباط والتكفير. والحق في هذه المسألة وعليه الأكثرون بعد ما مرّ من إثبات قسمة الذنب إلى الكبير والصغير أنه تعالى لم يميّز جملة الكبائر عن جملة الصغائر لما بين في هذه الآية أن الاجتناب عن الكبائر يوجب تكفير الصغائر. فلو عرف المكلف جميع الكبائر اجتنبها فقط واجترأ على الإقدام على الصغائر، أما إذا عرف أنه لا ذنب إلّا ويجوز كونه كبيرا صار هذا المعنى زاجرا له عن الذنوب كلها، ونظير هذا في الشرع إخفاء ليلة القدر في ليالي رمضان، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة، ووقت الموت في جملة الأوقات. هذا ولا مانع من أن يبيّن الشارع في بعض الذنوب أنه كبيرة كما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اجتنبوا السبع الموبقات الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلّا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات» «1» .
وذكر عند ابن عباس أنها سبعة
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الوصايا باب 23. مسلم في كتاب الإيمان حديث 144. أبو داود في كتاب الوصايا باب 10. النسائي في كتاب الوصايا باب 12.(2/404)
فقال: هي إلى السبعين أقرب. وفي رواية إلى السبعمائة. وعن ابن عمر أنه عدّ منها:
استحلال آمّين البيت الحرام وشرب الخمر. وعن ابن مسعود: زيادة القنوط من رحمة الله والأمن من مكره.
وفي بعض الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم زيادة قول الزور وعقوق الوالدين والسرقة.
وأما قول العلماء في الكبيرة فمنهم من قال: هي التي توجب الحد. وقيل: هي التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص أو كتاب أو سنة. وقيل: كل جريرة تؤذن بقلة اكتراث صاحبها بالدين. وقيل: لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار. ويراد بالإصرار المداومة على نوع واحد من الصغائر، أو الإكثار منها وإن لم تكن من نوع واحد.
احتج أبو القاسم الكعبي بالآية على القطع بوعيد أهل الكبائر لأنها تدل على أنه إذا لم يجتنب الكبائر فلا تكفر عنه. والجواب عنه أن استثناء نقيض المقدم لا ينتج ويؤيده قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ [البقرة: 283] وأداء الأمانة واجب أمنه أو لم يأمنه. سلمنا أنّ الآية رجعت إلى قوله من لم يجتنب الكبائر لم يكفر عنه سيّئاته، فغايته أنه يكون عاما في باب الوعيد. والجواب عنه هو الجواب عن سائر العمومات، وهو أنه مشروط بعدم العفو عندنا كما أنه مشروط عندكم بعدم التوبة. ثم قالت المعتزلة: إنّ عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر، وعندنا لا يجب على الله شيء بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان. ويدخل في الاجتناب عن الكبائر الإتيان بالطاعات لأن ترك الواجب أيضا كبيرة. وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا فمن فتح الميم أراد مكان الدخول، ومن ضمها أراد الإدخال. ووصفه بالكرم إشعار بأنه على وجه التعظيم خلاف إدخال أهل النار الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم، أو هو وصف باعتبار صاحبه.
ثم إنه سبحانه لما أمرهم بتهذيب أعمال الجوارح وهو أن لا يقدموا على أكل الأموال بالباطل وعلى قتل الأنفس، حثهم على تهذيب الأخلاق في الباطن. أو نقول: لما نهاهم عن الأكل والقتل ولن يتم ذلك إلّا بالرضا بالقضاء وتطييب القلب بالمقسوم المقدّر، فلا جرم قال: وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ قالت المعتزلة: التمني قول القائل: «ليته كذا» . وقال أهل السنة: هو عبارة عن إرادة ما يعلم أو يظن أنه لا يكون ولهذا قالوا: إنه تعالى لو أراد من الكافر أن يؤمن مع علمه بأنه لا يؤمن كان متمنيا. ثم مراتب السعادات إما نفسانية نظرية كالذكاء والحدس وحصول المعارف والحقائق، أو عملية كالأخلاق الفاضلة، وإما بدنية كالصحة والجمال والعمر، وإما خارجية كحصول الأولاد النجباء وكثرة العشائر والأصدقاء والرياسة التامة ونفاذ القول وكونه محبوبا للخلق حسن الذكر مطاع الأمر، فهذه مجامع السعادات. وبعضها محض عطاء الله تعالى، وبعضها مما(2/405)
يظن أنها كسبية. وبالحقيقة كلها عطاء منه تعالى فإنه لولا ترجيح الدواعي وإزالة العوائق وتحصيل الموجبات وتوفيق الأسباب فلأي سبب يكون السعي والجد مشتركا فيه، والفوز بالبغية والظفر بالمطلوب غير مشترك فيه؟ وإذا كان كذلك فما الفائدة في الحسد غير الاعتراض على مدبر الأمور وكافل مصالح الجمهور؟ فعلى كل أحد أن يرضى بما قسم له علما بأن ما قسم له هو خير له، ولو كان خلافه لكان وبالا عليه كما قال: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى: 27] .
وفي الكلمات القدسية: «من استسلم لقضائي وصبر على بلائي وشكر نعمائي كتبته صديقا وبعثته يوم القيامة مع الصديقين. ومن لم يرض بقضائي ولم يصبر على بلائي ولم يشكر نعمائي فليخرج من أرضي وسمائي وليطلب ربا سوائي» .
قال المحققون: لا يجوز للإنسان أن يقول: اللهم أعطني دارا مثل دار فلان، وزوجة مثل زوجة فلان، وإن كان هذا غبطة لا حسدا، بل ينبغي أن يقول: اللهم أعطني ما يكون صلاحا لي في ديني ودنياي ومعادي ومعاشي. وعن الحسن: لا يتمن أحد المال فلعل هلاكه في ذلك المال.
أما سبب النزول
فعن مجاهد قالت أم سلمة: يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو، ولهم من الميراث ضعف ما لنا فنزلت.
وعن قتادة والسدي: لما نزل قوله: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: 11] قال الرجال: نرجو أن نفضل على النساء في الآخرة كما فضلنا في الميراث. وقال النساء: نرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال.
وفي رواية قلن: نحن أحوج لأن ضعفاءهم أقدر على طلب المعاش فنزلت.
وقيل: أتت وافدة النساء إلى الرسول وقالت: رب الرجال والنساء واحد، وأنت الرسول إلينا وإليهم، وأبونا آدم وأمنا حواء فما السبب في أن الله يذكر الرجال ولا يذكرنا؟ فنزلت الآية. فقالت: وقد سبقنا الرجال بالجهاد فما لنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن للحامل منكم أجر الصائم القائم، وإذا ضربها الطلق لم يدر أحد ما لها من الأجر، فإن أرضعت كان لها بكل مصة أجر إحياء نفس.
لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا من نعيم الدنيا وثواب الآخرة فينبغي أن يرضوا بما قسم لهم، وكذا للنساء، أو لكل فريق جزاء ما اكتسب من الطاعات فلا ينبغي أن يضيعه بسبب الحسد المذموم. وتلخيصه لا تضيع ما لك بتمني ما لغيرك. أو لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا بسبب قيامهم بالنفقة على النساء وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ بحفظ فروجهن وطاعة أزواجهن والقيام بمصالح البيت وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فعنده من ذخائر الإنعام ما لا ينفده مطالب الأنام. و «من» للتبعيض أي شيئا من خزائن كرمه وطوله إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ(2/406)
عَلِيماً
فهو العالم بما يكون صلاحا للسائلين، فليقتصر السائل على المجمل وليفوّض التفصيل إليه فإن ذلك أقرب إلى الأدب وأوفق للطلب.
قوله سبحانه وتعالى: وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ يمكن تفسيره.
بحيث يكون الوالدان والأقربون وارثين وبحيث يكونان موروثا منهما. والمعنى على الأول:
لكل أحد جعلنا ورثة في تركته. ثم إنه كأنه قيل: ومن هؤلاء الورثة؟ فقيل: هم الوالدان والأقربون فيحسن الوقف على قوله: مِمَّا تَرَكَ وفيه ضمير كل. وأما على الثاني، فإما أن يكون في الكلام تقديم وتأخير أي ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا موالي أي ورثة، وإما أن يكون جَعَلْنا مَوالِيَ صفة لِكُلٍّ بل محذوف والعائد محذوف وكذا المبتدأ والتقدير: ولكل قوم جعلناهم موالي نصيب مما ترك الوالدان والأقربون كما تقول:
لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله. أي حظ من رزق الله، والمولى لفظ مشترك بين معان:
منها المعتق لأنه ولي نعمته في عتقه، ومنها العبد المعتق لاتصال ولاية مولاه في إنعامه عليه، وهذا كما يسمى الطالب غريما لأن له اللزوم والمطالبة بحقه، ويسمى المطلوب غريما لكون الدين لازما له. ومنها الحليف لأن الحالف يلي أمره بعقد اليمين، ومنها ابن العم لأنه يليه بالنصرة ومنه المولى للناصر قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا [محمد: 11] ومنها العصبة وهو المراد في الآية إذ هو الأليق بها
كقوله صلى الله عليه وسلم: «أنا أولى بالمؤمنين من مات وترك مالا فماله للموالي العصبة، ومن ترك كلا فأنا وليّه» «1» .
وأما قوله:
وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فإما أن يكون مبتدأ ضمن معنى الشرط، فوقع قوله: فَآتُوهُمْ خبره. وإما أن يكون منصوبا على قولك: «زيدا فاضربه» مما توسط الفاء بين الفعل ومفعول مفسره إيذانا بتلازمهما وإما أن يكون معطوفا على الْوالِدانِ والإيمان جمع اليمين اليد أو الحلف. من الناس من قال: الآية منسوخة. وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك وهدمي هدمك أي ما يهدر، وثأري ثأرك، وحربي حربك، وسلمي سلمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك، وتعقل عني وأعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف فنسخ بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال: 75] وبقوله:
يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النساء: 11] وأيضا: إن الواحد منهم كان يتخذ إنسانا أجنبيا ابنا له وهم الأدعياء، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤاخي بين كل رجلين منهم، فكانوا يرثون بالتبني والمؤاخاة فنسخ. ومن المفسرين من زعم أنها غير منسوخة. وقوله: وَالَّذِينَ معطوف على ما
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الفرائض باب 15. مسلم في كتاب الفرائض حديث 16. أحمد في مسنده (2/ 356) .(2/407)
قبله. والمعنى: أن ما ترك الذين عقدت أيمانكم فله وارث هو أولى به فلا تدفعوا المال إلى الحليف بل إلى الوارث، فيكون الضمير في فَآتُوهُمْ للموالي قاله أبو علي الجبائي. أو المراد بالذين عاقدت الزوج والزوجة، والنكاح يسمى عقدا بين ميراث الزوج والزوجة بعد ميراث الولد والوالدين كما في قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ [النساء: 11] قاله أبو مسلم. وقيل:
المراد الميراث الحاصل بسبب الولاء. وقيل: هم الحلفاء. والمراد بإيتاء نصيبهم النصرة والنصيحة والمصافاة. وقال الأصم: المراد التحفة بالشيء القليل كقوله: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ [النساء: 8] وذهب جمهور الفقهاء إلى أنه لا يرث المولى الأسفل من الأعلى.
وحكى الطحاوي عن الحسن بن زياد أنه قال: يرث، لما روى ابن عباس أن رجلا أعتق عبدا له فمات المعتق ولم يترك إلّا العتيق فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه للغلام.
والحديث عند الجمهور محمول على أن المال صار لبيت المال ثم دفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الغلام لفقره. وقال أبو حنيفة: لو أسلم رجل على يد رجل وتعاقدا على أن يتعاقلا ويتوارثا صح وورث بحق الموالاة، وخالفه الشافعي فيه. وحكى الأقطع أن هذه الموالاة لا تصح عند أبي حنيفة أيضا إلا بين العرب دون العجم لرخاوة عقدهم في أمورهم. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً لأنه عالم بجميع الجزئيات والكليات فشهد على الخلق يوم القيامة بكل ما عملوه، وفيه وعيد للعاصين، ووعد للمطيعين.
هذا وقد مر أن النساء تكلمن في تفضيل الله الرجال عليهن في الميراث ونحوه، فذكر في هذه الآية ما يشتمل على بعض أسباب التفضيل فقال: الرِّجالُ قَوَّامُونَ يقال: هذا قيم المرأة وقوّامها بناء مبالغة للذي يقوم بأمرها ويهتم بحفظها كما يقوم الوالي على الرعية ومنه سمي الرجال قوّاما. والضمير في بعضهم للرجال والنساء جميعا أي إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل الله بعضهم- وهم الرجال- على بعض- وهم النساء. وقيل: وفيه دليل على أن الولاية إنما تستحق بالفضل لا بالتغلب والاستطالة والقهر. وذكروا في فضل الرجال العقل والحزم والعزم والقوة والكتابة في الغالب والفروسية والرمي، وأن منهم الأنبياء والعلماء والحكماء، وفيهم الإمامة الكبرى وهي الخلافة، والصغرى وهو الاقتداء بهم في الصلاة، وأنهم أهل الجهاد والأذان والخطبة والاعتكاف والشهادة في الحدود والقصاص بالاتفاق وفي الأنكحة عند الشافعي، وزيادة السهم في الميراث والتعصيب فيه، والحمالة تحمل الدية في القتل الخطأ، والقسامة والولاية في النكاح والطلاق والرجعة وعدد الأزواج وإليهم الانتساب، وكل ذلك يدل على فضلهم، وحاصلها يرجع إلى العلم والقدرة. ومنها سبب خارجيّ وذلك أنهم فضلوا عليهن بما أنفقوا أي أخرجوا في نكاحهن من أموالهم مهرا(2/408)
ونفقة.
عن مقاتل أن سعد بن الربيع، وكان من نقباء الأنصار، نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، فلطمها. فانطلق بها أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أفرشته كريمتي فلطمها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لتقتص منه، وكانت قد نزلت آية القصاص، فانصرفت مع أبيها لتقتص منه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ارجعوا هذا جبريل أتاني وأنزل الله هذه الآية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أردنا أمرا وأراد الله أمرا والذي أراد الله خير ورفع القصاص.
فلهذا قال العلماء:
لا قصاص بين الرجل وامرأته فيما دون النفس ولو شجها ولكن يجب العقل، وقيل: لا قصاص إلّا في الجرح والقتل، وأما في اللطمة ونحوها فلا. ثم قسم النساء قسمين، فوصف الصالحات منهن بأنهن قانتات مطيعات لله وللزوج حافظات للغيب قائمات بحقوق الزوج في غيبته، والغيب خلاف الشهادة. ومواجب حفظ غيبة الزوج أن تحفظ نفسها عن الزنا لئلا يلحق الزوج العار بسبب زناها، ولئلّا يلحق به الولد الحاصل من نطفة غيره، وأن تحفظ أسراره عن الإفشاء وماله عن الضياع ومنزلها عما لا ينبغي شرعا وعرفا.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرتك وإن أمرتها أطاعتك وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها وتلا الآية» «1» .
و «ما» في قوله: بِما حَفِظَ اللَّهُ موصولة والعائد محذوف أي بالذي حفظه الله لهن أي عليهن أن يحفظن حقوق الزوج في مقابلة ما حفظ الله حقوقهن على أزواجهن حيث أمرهم بالعدل فيهن في قوله: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ [البقرة: 229] فقوله: بِما حَفِظَ اللَّهُ يجري مجرى قولهم «هذا بذاك» أي هذا في مقابلة ذاك، أو مصدرية والمعنى: أنهن حافظات للغيب بحفظ الله إياهن فإنهن لا يتيسر لهن حفظ الغيب إلّا بتوفيق الله، أو بما حفظهن حين وعدهن الثواب العظيم على الأمانة، وأوعدهن العذاب الشديد على الخيانة. ومن قرأ بِما حَفِظَ اللَّهُ بالنصب ف «ما» أيضا موصولة أي بالأمر الذي يحفظ حق الله وأمانته وهو التعفف والتحصن والشفقة على الرجال والنصيحة لهم، أو مصدرية أي بسبب حفظهن حدود الله وأوامره فإن المرأة لولا أنها تحاول رعاية تكليف الله وتجتهد في حفظ أوامره وإلا لما أطاعت زوجها. ثم ذكر غير الصالحات منهن فقال: وَاللَّاتِي تَخافُونَ تعرفون بالقرائن والأمارات نُشُوزَهُنَّ عصيانهن والترفع عليكم بالخلاف من نشز الشيء ارتفع، ومنه نشز للأرض المرتفعة فَعِظُوهُنَّ وهو أن يقول:
اتقي الله فإن لي عليك حقا، وارجعي عما أنت عليه، واعلمي أن طاعتي عليك فرض ونحو ذلك. وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ أي في المراقد أي لا تداخلوهن تحت اللحف. وقيل:
هو أن يوليها ظهره في المضجع. وقيل: في المضاجع أي ببيوتهن التي يبتن فيها أي لا
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الزكاة باب 32. ابن ماجه في كتاب النكاح باب 5. [.....](2/409)
تبايتوهن. وفي ضمن الهجران الامتناع من كلامها. ولكن ينبغي أن لا يزيد في هجره الكلام على ثلاث، فإذا هجرها في المضجع فإن كانت تحب الزوج شق ذلك عليها فتركت النشوز، وإن كانت تبغضه وافقها ذلك الهجران فكان ذلك دليلا على كمال نشوزها فيباح الضرب وذلك قوله: وَاضْرِبُوهُنَّ والأولى ترك الضرب لما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تضربوا إماء الله» «1» فجاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ذئرت النساء على أزواجهن أي اجترأن فرخص في ضربهن. فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشكون أزواجهن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد طاف بآل محمد نساء كثير يشكون أزواجهن ليس أولئك بخياركم» .
ومعناه أن الذين ضربوا أزواجهم ليسوا خيرا ممن لم يضربوا. وإذا ضربها وجب أن لا يكون مفضيا إلى الهلاك البتة، وأن يكون مفرقا على بدنها لا يوالي به في موضع واحد، ويتقي الوجه لأنه مجمع المحاسن، وأن يكون دون الأربعين. وقيل: دون عشرين لأنه حد كامل في شرب العبد، ومنهم من لا يرى الضرب بالسياط ولا بالعصا. وبالجملة فالتخفيف مرعي في هذا الباب ولهذا
قال علي بن أبي طالب: يعظها بلسانه فإن انتهت فلا سبيل له عليها، فإن أبت هجر مضجعها، فإن أبت ضربها، فإن لم تتعظ بالضرب بعث الحكمين.
وقال آخرون: هذا الترتيب مرعي عند خوف النشوز، فأما عند تحقق النشوز فلا بأس بالجمع بين الكل.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم «علق سوطك حيث يراه أهلك» .
فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا بالأذى والتوبيخ، واجعلوا ما كان منهن كأن لم يكن إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا لا بالجهة كَبِيراً لا بالجثة فَاحْذَرُوا واعلموا أن قدرته عليكم أعظم من قدرتكم على أزواجكم وأرقائكم.
روي أن أبا مسعود الأنصاري رفع سوطه ليضرب غلاما له فبصر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فصاح به: أبا مسعود، الله أقدر منك عليه. فرمى بالسوط وأعتق الغلام.
وفيه أنه مع علوه وكبرياء سلطانه تعصونه فيتوب عليكم فأنتم أحق بالعفو إذا رجع الجاني عليكم، أو أنه مع علوه وكبريائه لا يكلفكم إلا ما تطيقون فكذلك لا تكلفوهن محبتكم فلعلهن لا يقدرن على ذلك، أو أنه مع علو شأنه وكبريائه يكتفي من العبيد بالظواهر ولا يهتك السرائر فأنتم أجدر بأن لا تفتشوا عما في قلبها من الحب والبغض إذا صلح حالها في الظاهر، أو أنهن إن ضعفن عن دفع ظلمكم وعجزن عن الانتصاف منكم فالله تعالى قادر قاهر ينتصف لهن منكم.
ثم بيّن أنه ليس بعد الضرب إلا المحاكمة فقال: وَإِنْ خِفْتُمْ قال ابن عباس: أي علمتم وذلك لإصرارها على النشوز حيث لم يؤثر فيها الوعظ والهجران والضرب. واعترض
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب النكاح باب 51. الدارمي في كتاب النكاح باب 34(2/410)
عليه الزجاج بأنه إذا علم الشقاق قطعا فلا حاجة إلى الحكمين. وأجيب بأن الشقاق معلوم إلّا أنا لا نعلم أن سبب الشقاق منه أو منها، فالحاجة إلى الحكمين لهذا المعنى. أو نقول:
المراد إزالة الشقاق في الاستقبال. ومعنى شِقاقَ بَيْنِهِما شقاقا بينهما، فأضيف الشقاق إلى الظرف على سبيل الاتساع وهو إجراء الظرف مجرى المفعول به، أو على جعل البين مشاقا مثل «نهاره صائم» والضمير للزوجين يدل عليهما مساق الكلام، أو ذكر الرجال والنساء فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ رجلا مقنعا رضا يصلح لحكومة الإصلاح بينهما ويهتدي إلى المقصود من البعث. ولا بد فيه من العقل والبلوغ والحرية والإسلام، ويستحب أن يكون الحكمان من أهلهما لأن الأقارب أعرف ببواطن أحوالهما وتسكن إليهما نفوس الزوجين، فيبرزان لهما ما في ضمائرهما من الحب والبغض وإرادة الصحبة والفرقة، وموجبات كل من الأمرين. وينبغي أن يخلو حكم الرجل بالرجل وحكم المرأة بالمرأة فيعرفان ما عندهما وما فيه رغبتهما، وإذا اجتمعا لم يخف أحدهما عن الآخر ما علم. ثم المبعوثان وكيلان من جهة الزوجين أو موليان من جهة الحكام المخاطبين بقوله: فَابْعَثُوا فيه للشافعي قولان: - أصحهما وبه قال أبو حنيفة وأحمد- أنهما وكيلان لأن البضع حق الزوج والمال حق الزوجة وهما رشيدان. والخطاب في قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ وفي فَابْعَثُوا لصالحي الأمة لأنه يجري مجرى دفع الضرر، فلكل أحد أن يقوم به. وثانيهما- وبه قال مالك- أنهما موليان لأنه تعالى سماهما الحكمين. ولما
روي أن عليا عليه السلام بعث حكمين من زوجين فقال: أتدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا فاجمعا وإن رأيتما أن تفرّقا ففرقا. وعلى الأول يوكل الرجل الذي هو من أهله بالطلاق وبقبول العوض في الخلع، والمرأة الآخر ببذل العوض وقبول الطلاق. ولا يجوز بعثهما إلا برضاهما فإن لم يرضيا ولم يتفقا على شيء أدب القاضي الظالم واستوفى حق المظلوم. وعلى الثاني لا يشترط رضا الزوجين في بعث الحكمين.
إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما فيه أربعة أوجه: الأول: إن يرد الحكمان خيرا يوفق الله بين الحكمين حتى يتفقا على ما هو خير.
الثاني: إن يرد الزوجان إصلاحا أبدل الله الزوجين بالشقاق وفاقا. الثالث: إن يرد الحكمان إصلاحا يؤلف الله بين الزوجين. الرابع: إن يرد الزوجان خيرا يوفق الله بين الحكمين حتى تتفق كلمتاهما ويحصل الغرض، والتوفيق جعل الأسباب موافقة للغرض ولا يستعمل إلا في الخير والطاعة. وفيه أنه لا يتم شيء من الأغراض إلّا بتوفيق الله تعالى وتيسيره إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً فيوفق بين المختلفين ويجمع بين المفترقين بمقتضى علمه وإرادته. وفيه وعيد للزوجين والحكمين في سلوك ما يخالف طريق الحق ووعد على الجد في حسم مادة الخصومة والخشونة.(2/411)
ثم أرشد إلى مجامع الأخلاق الحسنة بقوله: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً فإن من عبد الله وأشرك به شيئا آخر فقد حبط عمله وضل سعيه وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً تقديره وأحسنوا بهما إحسانا. يقال: أحسن بفلان وإلى فلان. وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وقد مر تفاسيرها في البقرة. قال أبوبكر الرازي: إن اضطر إلى قتل أبيه بأن يخاف أن يقتله إن ترك قتله جاز له أن يقتله وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى الذي قرب جواره وَالْجارِ الْجُنُبِ الذي بعد جواره.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه، ألا وإن الجوار أربعون دارا» «1» .
وعن الزهري أنه أراد أربعين من كل جانب. وقيل: الجار ذي القربى الجار القريب النسب، والجار الجنب الأجنبي. والتركيب يدل على البعد، ومنه الجانبان للناحيتين، والجنبان لبعد كل منهما عن الآخر، ومنه الجنابة لبعده عن الطهارة وعن حضور الجماعة والمسجد ما لم يغتسل. ومن قرأ الْجُنُبِ فمعناه المجنوب مثل «خلق» بمعنى مخلوق، أو المراد ذي الجنب فحذف المضاف وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وهو الذي حصل بجنبك إما رفيقا في سفر، وإما جارا ملاصقا، وإما شريكا في تعلم أو حرفة، وإما قاعدا إلى جنبك في مجلس، أو في مسجد أو غير ذلك من أدنى صحبة اتفقت بينك وبينه، فعليك أن تراعي ذلك الحق ولا تنساه وتجعله ذريعة إلى الإحسان. وقيل: الصاحب بالجنب المرأة فإنها تكون معك وتضطجع إلى جنبك وَابْنِ السَّبِيلِ المسافر الذي انقطع عن بلده، أو الضيف وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
عن علي بن أبي طالب أنه كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ
وذكر اليمين تأكيد كما يقال: مشيت برجلي. والإحسان إليهم أن لا يكلفهم فوق طاقتهم ولا يؤذيهم بالكلام الخشن، بل يعاشرهم معاشرة جميلة ويعطيهم من الطعام والكسوة ما يليق بحالهم في كل وقت. وكانوا في الجاهلية يسيئون إلى المملوك فيكلفون الإماء البغاء وهو الكسب بفروجهن، ويضعون على العبيد الخراج الثقيل. وقيل:
كل حيوان فهو مملوك. والإحسان إلى كل نوع بما يليق بحاله طاعة عظيمة إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا فَخُوراً تياها جهولا يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه وممالكيه، وعن الالتفات إلى حالهم والتفقد لهم والتحفي بهم، ويأنف من أقاربه إذا كانوا فقراء ومن جيرانه إذا كانوا ضعفاء. وأصله من الخيلاء الكبر، والفخور المتطاول الذي يعد مناقبه. وعن ابن عباس هو الذي يفخر على عباد الله تعالى بما أعطاه من أنواع نعمه، ولعل هذا يجوز على سبيل التحدث بالنعم فقط. الَّذِينَ يَبْخَلُونَ البخل في اللغة منع الإحسان، وفي الشرع منع
__________
(1)
رواه البخاري في كتاب الأدب باب 29. مسلم في كتاب الإيمان حديث 73. الترمذي في كتاب القيامة باب 60. أحمد في مسنده (1/ 387) . بدون لفظ «ألا وإن الجوار أربعون دارا» .(2/412)
الواجب. وفيه أربع لغات: البخل مثل الفقر، والبخل بضم الباء وسكون الخاء، وبضمهما، وبفتحهما. وسبب النظم أن الإحسان إلى الأصناف المذكورين إنما يكون في الأغلب بالمال فذم المعرضين عن ذلك الإحسان لحب المال، ويحتمل أن يشمل البخل بالعلم أيضا، أي يبخلون بذات أيديهم وبما في أيدي غيرهم مقتا للسخاء وهذه نهاية البخل. وفي أمثالهم «أبخل من الضنين بنائل غيره» وقد عابهم بكتمان نعمة الله وما آتاهم من فضل الغنى حتى أوهموا الفقر مع الغنى، والإعسار مع اليسار، والعجز مع الإمكان فخالفوا سنة نبي الله صلى الله عليه وسلم حيث
قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله تعالى يحب أن يرى على عبده أثر نعمته» «1»
وبنى عامل للرشيد قصرا حذاء قصره فنم به عنده. فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الكريم يسره أن يرى أثر نعمته فأحببت أن أسرك بالنظر إلى آثار نعمتك فأعجبه كلامه. ثم إن هذا الكتمان قد يقع على وجه يوجب الكفر مثل أن يظهر الشكاية من الله تعالى ولا يرضى بقضائه فلذلك قال: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ويحتمل أن يراد كافر النعمة لا كافر الإيمان. وقال ابن عباس: إنّ الآية في اليهود، كانوا يأتون رجالا من الأنصار يخالطونهم وينتصحون لهم يقولون: لا تنفقوا أموالكم فإنا نخشى عليكم الفقر ولا تدرون ما يكون. وأيضا إنهم كتموا صفة محمد ولم يبينوها للناس. ثم لما ذمّ الذين لا ينفقون أموالهم عطف عليهم الذين ينفقون أموالهم ولكن رياء وفخارا وليقال ما أسخاهم وما أجودهم لا ابتغاء وجه الله، ومثل هذا الإنفاق دليل على أنه لا يؤمن بالله واليوم الآخر وإلّا أنفق لله أو للآخرة وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً في الدنيا آمرا بالبخل والفحشاء فَساءَ قَرِيناً في الآخرة يقرن به في النار. ثم استفهم على سبيل الإنكار فقال: وَماذا عَلَيْهِمْ أي أيّ تبعة ووبال عليهم؟ أو ما الذي عليهم في باب الإيمان والإنفاق في سبيل الله؟ والمراد التوبيخ وإلّا فكل منفعة في ذلك كما يقال للمنتقم:
ما ضرك لو عفوت؟ وللعاق: ما كان يرزؤك لو كنت بارا؟. وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً بعث على إصلاح أفعال القلوب التي يطلع عليها علام الغيوب، وردع عن دواعي النفاق والرياء والسمعة والفخار. احتج القائلون بأن الإيمان يصح على سبيل التقليد بأن قوله: وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا مشعر بأن الإتيان بالإيمان في غاية السهولة والاستدلال في غاية الصعوبة.
وأجيب بأن الصعوبة في الإيمان الاستدلالي التفصيلي لا الإجمالي. وقال جمهور المعتزلة:
لو كانوا غير قادرين لم يقل: وَماذا عَلَيْهِمْ كما لا يقال للمرأة ماذا عليها لو كانت رجلا، وللقبيح ماذا عليه لو كان جميلا. وأجيب بعدم التحسين والتقبيح العقليين وأنه لا يسأل عما يفعل.
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الأدب باب 54. أحمد في مسنده (2/ 311) .(2/413)
ثم رغب في الإيمان والطاعة قائلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ والمثقال مفعال من الثقل كالميزان من الوزن. والذرة النملة الصغيرة. وعن ابن عباس أنه أدخل يده في التراب ثم رفعها ثم نفخ فيها ثم قال: كل واحد من هذه الأشياء ذرة. وقيل: كل جزء من أجزاء الهباء في الكوّة ذرة. وانتصاب مِثْقالَ على أنه مفعول ثان أي لا ينقص الناس مثقال ذرة، أو على المصدر أي ظلما قدر مقدارها، وأراد نفي الظلم رأسا إلا أنه أخرج الكلام على أصغر المتعارف. وهذه الآية مما يتمسك به المعتزلة في أنه تعالى غير خالق لأعمال العباد وإلا كان ظلمهم منسوبا إليه، وفي أن العبد يستحق الثواب على طاعته وإلا كان منعه عنه ظلما. وأجيب بأنه إذا كان متصرفا في ملكه كيف شاء فلا يتصور منه ظلم أصلا. وقد يحتج الأصحاب هاهنا على صحة مذهبهم في عدم الإحباط بأن عقاب شرب قطرة من الخمر لو كان مزيلا لطاعات سبعين سنة كان ظلما، وفي عدم وعيد الفساق بأن عقاب شرب جرعة من الخمر لو كان دائما مخلدا لزوم إبطال ثواب إيمان سبعين سنة وهو ظلم. ثم قال: وَإِنْ تَكُ حذفت النون من هذه الكلمة بعد سقوط الواو بالتقاء الساكنين لأجل التخفيف وكثرة الاستعمال. من قرأ حَسَنَةً بالرفع فعلى «كان» التامة، ومن قرأ بالنصب فالتأنيث في ضمير المثقال لكونه مضافا إلى مؤنث. والمراد بالمضاعفة ليس هو المضاعفة بالمدة لأن مدة الثواب غير متناهية وتضعيف غير المتناهي محال، بل المراد المضاعفة بحسب المقدار، كأن يستحق عشرة أجزاء من الثواب فيجعله عشرين أو ثلاثين. عن ابن مسعود أنه قال:
يؤتى بالعبد يوم القيامة وينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين: هذا فلان ابن فلان، من كان له عليه حق فليأت إلى حقه، ثم يقال له: أعط هؤلاء حقوقهم، فيقول: يا رب ومن أين وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول الله لملائكته: انظروا في أعماله الصالحة فأعطوهم منها، فإن بقي مثقال ذرة من حسنة ضعفها الله تعالى لعبده وأدخله الجنة بفضل رحمته ومصداق ذلك في كتاب الله وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها. قال الحسن: الوعد بالمضاعفة أحب عند العلماء مما لو قال في الحسنة الواحدة مائة ألف حسنة، لأن هذا يكون مقداره معلوما، أما على هذه العبارة فلا يعلم كميته إلّا الله تعالى.
وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ الله لا يظلم مؤمنا حسنة يعطى بها في الدنيا ويجزى بها في الآخرة. وأما الكافر فبطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يجزى بها» «1»
أما قوله: وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً فإن لَدُنْهُ بمعنى عند إلا أن لدن أكثر تمكنا. يقول الرجل: عندي مال وإن كان المال ببلد آخر. ولا يقول: لديّ مال إلّا إذا كان بحضرته. والمعتزلة حملوا
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث 56. أحمد في مسنده (3/ 123) .(2/414)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
المضاعفة على القدر المستحق وهذا الثاني على الفضل التابع للأجر. ويمكن أن يقال:
الأول إشارة إلى السعادات الجسمانية، والثاني إشارة إلى اللذات الروحانية والله أعلم.
التأويل:
جملة الكبائر مندرجة تحت ثلاث: إحداها اتباع الهوى وينشأ منه البدع والضلالات وطلب الشهوات وحظوظ النفس بترك الطاعات، وثانيتها حب الدنيا وينشعب منه القتل والظلم وأكل الحرام، وثالثتها رؤية غير الله وهو الشرك والرياء والنفاق وغيرها.
ثم أخبر أن الذين ليس بالتمني فقال: وَلا تَتَمَنَّوْا فإنه لا يحصل بالتمني ولكن لِلرِّجالِ المجتهدين في الله نَصِيبٌ مما جدّوا في طلبه وَلِلنِّساءِ وهم الذين يطلبون من الله غير الله نَصِيبٌ على قدر همتهم في الطلب وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ فيه معنيان:
سلوه من فضله الخاص وهو العلم اللدني وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
، [النساء: 113] أو سلوه منه ولا تسألوه من غيره وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ لكل طالب صادق جعلنا استعدادا في الأزل للوراثة مما ترك والداه وأقرباؤه، طلبه لعدم الاستعداد والمشيئة. والذين جرى بينكم وبينهم عقد الأخوة في الله فَآتُوهُمْ بالنصح وحسن التربية والتسليك نَصِيبَهُمْ الذي قدّر لهم الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بمصالح دينهن ودنياهن بتفضيل الله وهو استعداد الخلافة والوراثة وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ أي تجريدهم عن الدنيا وتفريدهم للمولى. فَالصَّالِحاتُ اللاتي يصلحن للكمال قانِتاتٌ مطيعات لله لهن قلوب حافِظاتٌ لواردات الغيب بِما حَفِظَ اللَّهُ عليهن حقائق الغيب وأسراره. وَاللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ إذا دارت عليهن كؤوس الواردات كما قيل:
فأسكر القوم دور كاس ... وكان سكري من المدير
فَعِظُوهُنَّ باللسان وخوّفوهن بالهجران ليتأدب السكران وَاضْرِبُوهُنَّ بسوط الانفصال وفراق الإخوان كما كان حال الخضر مع موسى حيث قال: هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الكهف: 78] هذا قانون أرباب الكمال إذا رأوا من أهل الإرادة أمارات الملال أو عربدة من غلبات الأحوال. وَإِنْ خِفْتُمْ شقاقا بين الشيخ الواصل والمريد المتكامل فَابْعَثُوا متوسطين من المشايخ الكاملين ومن السالكين المعتبرين إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً بينهما بما رأيا فيه صلاحهما يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما بالإرادة وحسن التربية وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً من الدنيا والعقبى لتتخلقوا بأخلاق الله وتحسنوا إلى الوالدين وغيرهما إِحْساناً بلا شرك ورياء وفخر وخيلاء والله ولي والتوفيق.
[سورة النساء (4) : الآيات 41 الى 57]
فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45)
مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)(2/415)
القراآت:
تُسَوَّى بإدغام تاء التفعل في السين: أبو جعفر ونافع وابن عامر تُسَوَّى بالإمالة وحذف التاء الأولى: حمزة وعلي وخلف. الباقون تُسَوَّى مبنيا للمفعول من التسوية لمستم من اللمس وكذلك في المائدة: حمزة وعلي وخلف والمفضل. الباقون: لامَسْتُمُ من الملامسة فَتِيلًا انْظُرْ بكسر التنوين: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم وابن ذكوان. الباقون: بالضم. وفرق بعضهم بين موضع الخفض فلم يجوز الضم كراهة الانتقال من الكسرة إلى الضمة نحو مُتَشابِهٍ انْظُرُوا [الأنعام: 99] وبِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا [الأعراف: 49] وخَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ [إبراهيم: 26] وعَذابٍ(2/416)
ارْكُضْ
[ص: 41] وأشباه ذلك. نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ وبابه مدغما: حمزة وعلي وخلف وهشام وأبو عمرو.
الوقوف:
شَهِيداً ط الْأَرْضُ ط حَدِيثاً هـ تَغْتَسِلُوا ط وَأَيْدِيكُمْ ط غَفُوراً هـ السَّبِيلَ هـ ط بِأَعْدائِكُمْ ط نَصِيراً هـ فِي الدِّينِ ط وَأَقْوَمَ لا لاتصال لكن قَلِيلًا هـ السَّبْتِ ط مَفْعُولًا هـ لِمَنْ يَشاءُ ج عَظِيماً هـ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ط فَتِيلًا هـ الْكَذِبَ ط مُبِيناً هـ ط سَبِيلًا هـ لَعَنَهُمُ اللَّهُ ط نَصِيراً هـ ط لأن «أم» بمعنى همزة الاستفهام للإنكار نَقِيراً هـ لا للعطف مِنْ فَضْلِهِ ج لتناهي الاستفهام مع تعقب الفاء عَظِيماً هـ صَدَّ عَنْهُ ط سَعِيراً هـ ناراً ط الْعَذابَ ط حَكِيماً هـ أَبَداً ط مُطَهَّرَةٌ ز لاستئناف الفعل على أنه من تمام المقصود ظَلِيلًا هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما أوعد الظالمين بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: 40] ووعد المطيعين بقوله: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها [النساء: 40] أراد أن يبين أن ذلك يجري بشهادة الرسل الذين جعلهم الله حجة على الخلق ليكون الإلزام أتم والتبكيت أعظم.
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: اقرأ القرآن عليّ. قال: فقلت: يا رسول الله أنت الذي علّمتنيه! فقال: أحب أن أسمعه من غيري. قال ابن مسعود: فافتتحت سورة النساء، فلما انتهيت إلى هذه الآية قال: حسبك الآن، فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان.
قال العلماء: إنه بكاء فرح لما شرفه الله تعالى بكرامة قبول الشهادة على الخلائق. والمعنى كيف يصنع هؤلاء الذين شاهدتهم وعرفت أحوالهم من مردة الكفرة كاليهود وغيرهم إذا جئنا من كل أمة بشهيد يشهد عليهم بما فعلوا وهو نبيهم، وجئنا بك على هؤلاء المكذبين شهيدا؟ ثم وصف ذلك اليوم فقال: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ قيل: هذه الجملة معترضة والمراد وقد عصوا. والظاهر أن الواو للعطف وحينئذ تقتضي كون عصيان الرسول مغايرا للكفر لأنّ عطف الشيء على نفسه غير جائز. فإما أن يخص الكفر بنوع منه وهو الكفر بالله، أو يقال: إنه عام وأفرد ذكر قسم منه إظهارا لشرف الرسول وتفظيعا لشأن الجحود به، أو يحمل عصيان الرسول على المعاصي المغايرة للكفر فيكون في الآية دلالة على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع. ومعنى لَوْ تُسَوَّى لو يدفنون فتسوى بهم الأرض كما تسوى بالموتى، أو يودون أنهم لم يبعثوا أو أنهم كانوا والأرض سواء، أو تصير البهائم ترابا فيودون حالها كقوله: يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
[النبأ: 40] أما قوله: وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً فإما أن يتصل بما قبله والواو للعطف أي يودون لو انطبقت عليهم(2/417)
الأرض ولم يكونوا كتموا أمر محمد ولا كفروا به ولا نافقوا، أو للحال والمراد أن المشركين لما رأوا يوم القيامة أن الله يغفر لأهل الإسلام دون أهل الشرك قالوا تعالوا فلنجحد فيقولون: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام: 23] رجاء أن يغفر الله لهم، فحينئذ يختم على أفواههم وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، هناك يودون أنهم كانوا ترابا ولم يكتموا الله حديثا. وإما أن يكون كلاما مستأنفا فإن ما عملوه ظاهر عند الله فكيف يقدرون على كتمانه وإن قصدوه أو توهموه؟ ثم أتبع وصف اليوم كيفية الصلاة التي هي سنام الطاعات وأعظم المنجيات فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى وقد مر سبب نزوله في البقرة. وفي لفظ الصلاة هاهنا قولان: أحدهما أن المراد منه المسجد وهو قول ابن عباس وابن مسعود والحسن وإليه يذهب الشافعي، وليس فيه إلا حذف المضاف أي لا تقربوا موضع الصلاة. وثانيهما وعليه الأكثرون أن المراد نفس الصلاة أي لا تصلوا إذا كنتم سكارى. ومعنى الآية على القول الأولى لا تقربوا المسجد في حالتين: إحداهما حالة السكر، وذلك أن جمعا من أكابر الصحابة قبل تحريم الخمر كانوا يشربونها ثم يأتون المسجد للصلاة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فنهوا عن ذلك لأن الظاهر أن الإنسان إذا أتى المسجد فإنما يأتيه للصلاة، ولا شك أن الصلاة فيها أقوال مخصوصة يمنع السكر منها. وثانيهما حالة الجنابة، واستثنى من هذه الحالة حالة العبور أي الاجتياز في المسجد بأن كان الطريق إلى الماء فيه، أو كان الماء فيه ووقع الاحتلام فيه. والمعنى على القول الثاني النهي عن الصلاة في حالتين: الأولى حالة السكر أيضا إلّا إذا علموا ما يقولون، ومعنى قربان الصلاة غشيانها والقيام إليها. والثانية حالة الجنابة ويستثنى منها حالة عبور السبيل ويراد به في هذا القول السفر. أي لا تقربوا الصلاة في حالة الجنابة، إلّا ومعكم حال أخرى تعذرون فيها وهي حال السفر. ويجوز أن يكون إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ صفة لقوله: جُنُباً أي لا تقربوها جنبا غير عابري سبيل أي جنبا مقيمين. وإنما استثنى حالة المسافر لما يجيء من تفصيل فيها، وهو أن المسافر إذا أجنب ثم لم يجد الماء تيمم وصلى مع الجنابة. ويرد عليه بعد أن الجنب المقيم أيضا إذا عجز عن استعمال الماء لمرض أو برد يجوز له التيمم والصلاة على الجنابة، اللهم إلّا أن يقال: إن عذر السفر أعم وأغلب فلهذا تخصص بالذكر أولا. وسكارى جمع سكران. وقوله: وَأَنْتُمْ سُكارى في محل النصب على الحال ولهذا عطف عليه قوله: وَلا جُنُباً والجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الاجتناب، وخالف الضحاك جمهور الصحابة والتابعين فقال: إن السكر هاهنا يراد به غلبة النوم ويوافقه الاشتقاق، فإن السكر عبارة عن سد الطريق، ومنه سكر السبيل سد(2/418)
طريقه. والسكر في الشراب هو أن ينقطع عما عليه من المضار في حال الصحو، فعند النوم تمتلىء مجاري الروح من الأبخرة الغليظة فتنسد تلك المجاري بها ولا
ينفذ الروح السامع والباصر إلى ظاهر البدن. والجواب أن لفظ السكر حقيقة في السكر من الخمر والأصل في الإطلاق الحقيقة، ومتى استعمل مجازا فإنما استعمل مقيدا كقوله تعالى: وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ [ق: 19] وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
[الحج: 2] وأيضا أجمع المفسرون على أنها نزلت في شرب الخمر، وسبب النزول يمتنع أن لا يكون مرادا من الآية. ثم على قول الجمهور يمكن ادعاء النسخ في الآية بأنه إنما نهى عن قربان الصلاة حال السكر ممدودا إلى غاية أن يصير بحيث يعلم ما يقول، والحكم الممدود إلى غاية يقتضي انتهاء ذلك الحكم عند تلك الغاية فهذا يقتضي جواز الصلاة مع السكر إذا كان بحيث يعلم ما يقول. وجواز الصلاة مع هذا السكر توهم جواز هذا السكر، لكنه تعالى حرم الخمر في آية سورة المائدة على الإطلاق فتكون ناسخة لبعض مدلولات هذه الآية. ومن قال: إن مدلول الكلام يرجع إلى النهي عن الشرب المخل بالفهم عند القرب من الصلاة، وتخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه فلا يكون منسوخا، يكذبه أن الصحابة لم يفهموا منها التحريم المطلق فكانوا لا يشربون في أوقات الصلاة، فإذا صلوا العشاء شربوها فلا يصبحون إلّا وقد ذهب عنهم السكر وعلموا ما يقولون إلى أن نزلت آية المائدة فقالوا: انتهينا يا رب. والتحقيق فيه أن النهي عن مباح الأصل في وقت ما وبوجه ما وإن كان لا يدل على تحريمه ولا على إباحته في غير ذلك الوقت وبغير ذلك الوجه إلّا أن جانب الإباحة راجح بحكم الأصل فيغلب على الظن ذلك كما فهمه الصحابة. ثم إنه تعالى ذكر حكم المعذورين في حال الحدث فخص أولا من بينهم مرضاهم وسفرهم لأنهم المتقدمون في استحقاق بيان الرخصة لهم لكثرة المرض والسفر وغلبتهما على سائر الأسباب الموجبة للرخصة. والمعنى أن المرضى إذا عدموا الماء لضعف حركتهم وعجزهم عن الوصول إليه فلهم أن يتمموا، وكذلك الذين هم على حالة السفر إذا عدموه لبعده. ويحتمل أن يقال: قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً ليس قيدا في حكم المرضى لأنهم في الرخصة وإن وجدوا ماء. ثم عمم كل من وجب عليه التطهر وأعوزه الماء لخوف سبع أو عدو أو عدم آلة استقاء أو انحصار في مكان لا ماء فيه أو غير ذلك من الأسباب التي لا تكثر كثرة المرض والسفر. ويراد بالمرض ما يخاف معه محذور كبطء برء وشين فاحش ظاهر بقول طبيب مقبول الرواية لا أن يتألم ولا يخاف.
روي أن بعض الصحابة أصابته جنابة وكان به جراحة عظيمة، فسأل بعضهم فلم يفته بالتيمم، فاغتسل فمات. فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قتلوه قتلهم الله.
وقال مالك وداود: يجوز(2/419)
له التيمم بجميع أنواع المرض. وفي معنى المرض البرد المؤدي إلى المرض لو استعمل الماء كما مر من حديث عمرو بن العاص في تفسير قوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: 29] والسفر يعم الطويل والقصير أعني مسافة القصر وما دونها لإطلاق قوله: أَوْ عَلى سَفَرٍ والغائط المكان المطمئن من الأرض وجمعه الغيطان. كان الرجل إذا أراد قضاء الحاجة طلب غائطا من الأرض يغيب فيه عن أعين الناس، فكنى به عن ذلك. وأكثر العلماء ألحقوا بالغائط كل ما يخرج من السبيلين من معتاد أو نادر. أما اللمس أو الملامسة ففيه قولان: أحدهما أن المراد به التقاء البشرتين بجماع أو بغيره كما هو مقتضى اللغة وهو قول ابن مسعود وابن عمرو الشعبي والنخعي وإليه ذهب الشافعي. وثانيهما المراد به الجماع وهو قول ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة ومذهب أبي حنيفة والشيعة لما ورد في القرآن بطريق الكناية: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [البقرة: 237] فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا. [المجادلة: 3] عن ابن عباس: إنّ الله حيّ كريم يعف ويكني، فعبر عن المباشرة بالملامسة. وأيضا لتشمل الآية الحدثين الأصغر والأكبر. ثم على مذهب الشافعي قال بعض أهل الظاهر: إنما ينتقض وضوء اللامس دون الملموس لقوله: أَوْ لامَسْتُمُ والصحيح أنه ينتقض وضوأهما معا لاشتراك اللامس والملموس في ابتغاء اللذة. قوله:
فَلَمْ تَجِدُوا ماءً قال الشافعي: إذا دخل وقت الصلاة فطلب الماء ولم يجده فتيمم وصلى ثم دخل وقت الصلاة الثانية وجب عليه الطلب مرة أخرى، لأن عدم الوجدان مشعر بسبق الطلب فلا بد في كل مرة من سبق الطلب. وقال أبو حنيفة: لا يجب بدليل قوله: وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: 115] وسبق الطلب في حقه تعالى محال. وأجيب بأنه بنى الكلام على المجاز للمبالغة كأنه طلب شيئا ثم لم يجد. وأجمعوا على أنه لو وجد الماء لكنه احتاج إليه لعطشه أو لعطش حيوان محترم معه جاز له التيمم، ولو وجد من الماء ما لا يكفيه فالأصح عند الأئمة أنه يستعمله أو يصبه ثم يتيمم ليكون عاملا بظاهر الآية. والتيمم في اللغة القصد. والصعيد التراب، «فعيل» بمعنى «فاعل» . وقال ثعلب والزجاج: إنه وجه الأرض ترابا كان أو غيره. ومن هنا قال أبو حنيفة: إذا كان صخر لا تراب عليه وضرب المتيمم يده عليه ومسح كان ذلك كافيا. وقال الشافعي: لا بد من تراب لتحقق مفهوم التصاعد فيه وليلتصق بيده فيمكنه المسح ببعضه كما جاء في المائدة فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة: 6] ولا يفهم من قول القائل: مسحت برأسي من الدهن إلّا معنى التبعيض، ولأن الصعيد وصف بالطيب والطيب هو الذي يحتمل الإثبات لقوله: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: 58] ولأنه صلى الله عليه وسلم خصص التراب بهذا المعنى
فقال: «جعلت لي(2/420)
الأرض مسجدا وترابها طهورا» «1» .
أما مسح الوجه واليد فعن علي وابن عباس: اختصاص المسح بالجبهة وظاهر الكفين وقريب منه مذهب مالك لأن المسح مكتفى فيه بأقل ما يطلق عليه اسم المسح. وقال الشافعي وأبو حنيفة: يستوعب الوجه واليدين إلى المرفقين كما في الوضوء. وعن الزهري إلى الآباط، لأن اليد حقيقة لهذا العضو إلى الإبط، ثم ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً وهو كناية عن الترخيص والتيسير لأن من كان عادته العفو عن المذنبين كان أولى بالترخيص للعاجزين.
عن عائشة قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء. فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام فقال: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء؟ قالت: فعاتبني أبوبكر وقال ما شاء الله أن يقول، فجعل يطعن بيده في خاصرتي، فلا يمنعني من التحرك إلا مكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي. فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم فتيمموا. فقال أسيد بن الحضير وهو أحد النقباء: ما هو بأول بركتكم يا آل أبي بكر. قالت عائشة: فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته.
ثم إنه سبحانه لما ذكر من أول السورة إلى هاهنا أحكاما كثيرة عدل إلى ذكر طرف من آثار المتقدمين وأحوالهم، لأنّ الانتقال من أسلوب إلى أسلوب مما يزيد السامع هزة وجدة فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أي ألم ينته علمك؟ أو ألم تنظر إلى من أوتوا حظا من علم التوراة وهم أحبار اليهود؟ وإنما أدخل «من» التبعيضية لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى ولم يعرفوا منها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. فأما الذين أسلموا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه فقد وصفهم بأن معهم علم الكتاب في قوله: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرعد: 43] لأنهم عرفوا الأمرين جميعا يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يختارونها لأن من اشترى شيئا فقد آثره واختاره قاله الزجاج. والمراد تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم لأغراضهم الفاسدة من أخذ الرشا وحب الرياسة. وقيل: المراد يستبدلون الضلالة- وهو البقاء على اليهودية- بالهدى- وهو الإسلام- بعد وضوح الآيات لهم على صحته. وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أنتم أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوه، ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين، الضلال والإضلال. عن ابن عباس أن الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود كانا يأتيان رأس
__________
(1) رواه أحمد في مسنده (2/ 222) .(2/421)
المنافقين عبد الله بن أبي ورهطه فيثبطانهم عن الإسلام. وقيل: المراد عوام اليهود كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم لينصروا اليهودية فكأنهم اشتروا بمالهم الشبهة والضلالة وَاللَّهُ أَعْلَمُ منكم بِأَعْدائِكُمْ لأنه عالم بكنه ما في صدورهم من الحنق والغيظ، فإذا أطلعكم على أحوالهم فلا تستنصحوهم في أموركم واحذروهم وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا متوليا لأمور العبد وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً فثقوا بولايته ونصرته دونهم. وكرر «كفى» ليكون أشد تأثيرا في القلب وأكثر مبالغة، وزيدت الباء في الفاعل إيذانا بأن الكفاية من الله ليست كالكفاية من غيره فكان الباء للسببية. وقال ابن السراج: التقدير كفى اكتفاؤك بالله. وقيل:
فائدة الباء وهي للإلصاق أن يعلم أن هذه الكفاية صدرت من الله تعالى بغير واسطة.
وقوله: مِنَ الَّذِينَ هادُوا إما بيان للذين أوتوا نصيبا من الكتاب وقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ إلى آخر الآية معترض بين البيان والمبين، وإما بيان لأعدائكم والجملتان بينهما معترضتان، وإما صلة نَصِيراً كقوله: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا [الأنبياء: 77] وإما كلام مستأنف على أن يُحَرِّفُونَ صفة مبتدأ محذوف تقديره: من الذين هادوا قوم يحرفون الكلم عن مواضعه. قال الواحدي: الكلم جمع حروفه أقل من حروف واحده، وكل جمع يكون كذلك فإنه يجوز تذكيره. ومعنى هذا التحريف استبدال لفظ مكان لفظ كوضعهم «آدم طوالا» مكان «أسمر ربعة» وجعلهم الحد بدل الرجم. واختير «عن» للدلالة على الإمالة والإزالة. وأما في المائدة فقيل: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [المائدة: 41] نظرا إلى أن الكلم كانت له مواضع هو قمن بأن يكون فيها، فحين حرفوه تركوه كالغريب الذي لا موضع له. وقيل: المراد بالتحريف إلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة كما يفعله في زماننا أهل البدعة. وجعل بعض العلماء هذا القول أصح لاستبعاد تحريف المشهور المتواتر، لكن دعوى التواتر بشروطه في التوراة ممنوعة.
وقيل: كانوا يدخلون على النبي صلى الله عليه وسلم فيسألونه عن أمر فيخبرهم به فإذا خرجوا من عنده حرفوا كلامه.
ومن جملة جهالاتهم أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أمرهم بشيء قالوا في الظاهر سمعنا وفي الباطن عصينا، أو كانوا يقولون كلا اللفظين ظاهرا إظهارا للعناد والمرود والكفر والجحود، ومنها قولهم للنبي صلى الله عليه وسلم اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وهو كلام ذو وجهين: أما احتماله المدح فلقول العرب: أسمع فلان فلانا إذا سبه. وإذا كان المراد: اسمع غير مسمع مكروها كان مدحا وتوقيرا ونصحا. وأما احتمال الذم فبأن يكون معناه اسمع منا مدعوا عليك بلا سمعت، لأن من كان أصم فإنه لا يسمع فلا يسمع، أو بأن يراد اسمع غير مجاب إلى ما تدعو إليه أي غير مسمع جوابا يوافقك، أو بأن يراد اسمع غير مسمع كلاما ما ترتضيه، وعلى هذا يجوز أن يكون غَيْرَ مُسْمَعٍ(2/422)
مفعول اسْمَعْ لا حالا من ضميره أي اسمع كلاما غير مسمع إياك لنبوّ سمعك عنه. ومنها قولهم له صلى الله عليه وسلم راعِنا وقد عرفت احتمالاته في البقرة. وإنما جاؤوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد تصريحهم بالعصيان على وجه لأن المواجهة بالعصيان أهون خطبا في العرف من المواجهة بالسب ودعاء السوء ولهذا كانت الكفرة يواجهونه بالأول دون الثاني. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ مفعول لأجله، أو مصدر لمحذوف، أو ل يَقُولُونَ لأنه في معنى اللي أيضا وعينه «واو» بدليل لويت فقلبت وأدغمت. والمعنى: يفتلون بألسنتهم الحق إلى الباطل حيث يضعون راعِنا موضع انْظُرْنا وغَيْرَ مُسْمَعٍ موضع لا سمعت مكروها، أو يفتلون بألسنتهم ما يضمرونه من الشتم إلى ما يظهرونه من التوقير نفاقا، أو لعلهم كانوا يفتلون أشداقهم وألسنتهم عند ذكر هذا الكلام سخرية وطعنا على عادة المستهزئين، فبين الله تعالى أنهم إنما يقدمون على هذه الأشياء طعنا في الدين ونبه بذلك على ما كانوا يقولونه فيما بينهم إنا نشتمه ولا يعرفه ولو كان نبيا لعرف بإظهار ذلك عليه فانقلب ما جعلوه طعنا في الدين دلالة قاطعة على صحته لأن الإخبار عن الغيب معجز. وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا بدل قولهم: سَمِعْنا وَعَصَيْنا إذ وضح لهم الآيات وثبت لهم البينات كرات بعد مرات واسْمَعْ دون أن يقال معه غَيْرَ مُسْمَعٍ وَانْظُرْنا مكان راعِنا لَكانَ قولهم ذلك خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ أعدل لا أشد من قولهم: «رمح قويم» أي مستقيم وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي بسببه فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إيمانا قَلِيلًا وهو إيمانهم بالله وبالتوراة وببعض الأنبياء دون سائر رسله. أو إلّا قليلا منهم آمنوا لأن «فعيلا» قد يراد به الجمع كقوله: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] أو أراد بالقلة العدم.
ثم زجرهم عن كفر الجحود والعناد بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ الآية.
والطمس المحو. يقال: طريق طامس ومطموس، ومفازة طامسة الأعلام، وطمست الكتاب محوته. وهو في الآية حقيقة أو مجاز قولان. والمعنى على الأول محو تخطيط صورها وأشكالها من عين وحاجب وأنف وفم. والفاء في فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها إما للتسبيب أي فنجعل الوجوه بسبب هذا الطمس على هيئة أقفائها مطموسة مثلها، لأن الوجه إنما يتميز عن سائر الأعضاء بما فيه من الحواس والتخاطيط، فإذا أزيلت ومحيت لم يبق فرق بينها وبين القفا. وإما للتعقيب على أن العقوبة شيئان: إحداهما عقيب الأخرى الطمس، ثم نكس الوجه إلى خلف والأقفاء إلى قدام. وإنما يكون هذا عقوبة لما فيه من تشويه الخلقة والمثلة والفضيحة كما قال في حق أهل النار وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ [الانشقاق: 10] على أن وجوههم مردودة إلى أقفائهم فتدرك الكتابة وتقرأ من هناك. وأما المعنى على القول(2/423)
الثاني فعن الحسن: نطمسها عن الهدى ونردها بالخذلان على أدبارها أي على ضلالاتها وشبهاتها. وذلك أن المتوجه إلى عالم الحس معرض عن عالم العقل، وبقدر الإقبال على ذاك يحصل الإدبار عن هذا. وقال عبد الرحمن بن زيد: نردهم إلى حيث جاؤوا منه وهي أذرعات الشام. يريد إجلاء بني قريظة والنضير. والطمس على هذا إما تقبيح الوجوه وإما إزالة آثارهم عن ديار العرب. وقيل: الطمس القلب والتغيير. والمراد بالوجوه رؤساؤهم ووجهاؤهم أي من قبل أن نغير أحوال وجهائهم فنسلبهم إقبالهم ووجاهتهم ونكسوهم صغارهم وأدبارهم. والضمير في قوله: أَوْ نَلْعَنَهُمْ إما للوجوه إن أريد بها الوجهاء، وإما لأصحاب الوجوه لأن المعنى من قبل أن نطمس وجوه قوم، أو يرجع إلى الذين أوتوا الكتاب على طريقة الالتفات. فإن قيل: فأين وقوع الوعيد؟ فالجواب أنه مشروط بعدم إيمان جميعهم ولكنه قد آمن ناس من علمائهم كعبد الله بن سلام وأصحابه. حكي أنه لما نزلت هذه الآية أتى عبد الله بن سلام رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله وأسلم وقال: يا رسول الله، ما كنت أرى أن أصل إليك حتى يتحول وجهي في قفاي. وأيضا إنه ما جعل الوعيد هو الطمس بعينه بل إياه أو اللعن. فإن كان الطمس تبديل أحوال رؤسائهم أو إجلاءهم إلى الشام فقد كان أحد الأمرين، وإن كان غيره فقد حصل اللعن فإنهم ملعونون بكل لسان. واللعن الموعود ظاهره اللعن المتعارف لا المسخ. وقيل: هو منتظر ولهذا قيل: وُجُوهاً منكرة دون «وجوهكم» ليشمل وجوها غير المخاطبين من أبناء جنسهم، ولا بد من مسخ وطمس لليهود قبل يوم القيامة. وقيل: إنّ قوله: آمِنُوا تكليف متوجه عليهم في جميع مدة حياتهم فلزم أن يكون قوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً واقعا في الآخرة. فالتقدير: آمنوا من قبل أن يجيء الوقت الذي نطمس فيه وجوهكم وهو ما بعد الموت وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا لأنه لا راد لحكمه ولا يتعذر عليه شيء يريد أن يفعله، وهذا كما يقال في الشيء الذي لا يشك في حصوله هذا الأمر مفعول وإن لم يفعل بعد، فإذا حكم بإنزال العذاب على قوم فعل ذلك البتة. والمراد بالأمر الشأن والفعل الذي تعلق إرادته به لا الأمر الذي هو أحد أقسام الكلام، فلا يصح استدلال الجبائي بالآية على أن كلامه تعالى مفعول أي مخلوق.
ثم بين أن مثل هذا التهديد من خواص الشرك والكفر فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ الآية.
وفي الآية دلالة على أن اليهودي يسمى مشركا في عرف الشرع لاتصالها بقصتهم، ولأنها دلت على أن ما سوى الشرك مغفور واليهودية غير مغفورة بالإجماع. ومن هنا قال الشافعي: المسلم لا يقتل بالذمي لأن الذمي مشرك، والمشرك المباح الدم هو الذي لا يجب القصاص على قاتله، ولا يتوجه النهي عن قتله ترك العمل بهذا الدليل في النهي فيبقى(2/424)
معمولا به في سقوط القصاص عن قاتله. واستدلت الأشاعرة بالآية على غفران صاحب الكبيرة قبل التوبة لأن ما دون الشرك يشمله. والمعتزلة خصصوا الثاني بمن تاب كما أن الأول مخصص بالإجماع بمن لم يتب. قالوا: ونظيره قولك: «إن الأمير لا يبذل الدينار ويبذل القنطار لمن يشاء» . المعنى لا يبذل الدينار لمن لا يستأهله، ويبذل القنطار لمن يستأهله. والمشيئة تكون قصدا في الفعلين: المنفي والمثبت جميعا، لأنه إن شاء لم يتب المشرك فلا يترتب عليه الغفران، وإن شاء تاب صاحب الكبيرة فيستوجب الغفران. وروى الواحدي في البسيط بإسناده عن ابن عمر قال: كنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مات الرجل منا على كبيرة شهدنا أنه من أهل النار حتى نزلت هذه الآية فأمسكنا عن الشهادة. وقال ابن عباس بمحضر عمر: إني لأرجو كما لا ينفع مع الشرك عمل كذلك لا يضر مع التوحيد ذنب فسكت عمر. وعن ابن عباس: لما قتل وحشي حمزة يوم أحد وكانوا قد وعدوه الإعتاق إن هو فعل ذلك. ثم إنهم ما وفوا بذلك ندم هو وأصحابه فكتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ندمهم، وأنه لا يمنعهم من الدخول في الإسلام إلّا قوله تعالى: وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الفرقان: 68] فقالوا: قد ارتكبنا كل ما في الآية فنزل قوله: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [الفرقان: 70] فقالوا: هذا شرط شديد نخاف أن لا نقوم به فنزل إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ فقالوا: نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته فنزل قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: 52] فدخلوا عند ذلك في الإسلام. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى اختلق وافتعل إِثْماً عَظِيماً لأنه ادعى ما لا يصح كونه.
عن ابن عباس في رواية الكلبي أن قوما من اليهود أتوا بأطفالهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا محمد هل على هؤلاء ذنب؟
فقال: لا. فقالوا: والله ما نحن إلّا كهيئتهم. ما عملنا بالليل يكفر عنا بالنهار، وما عملنا بالنهار يكفر عنا بالليل. وكانوا يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111] فنزل فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ
ويدخل فيه كل من زكى نفسه ووصفها بزكاء العمل أو قبول الطاعة والزلفى عند الله بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وإن تزكيته هي التي يعتد بها كما
أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض»
وكفى بإظهار المعجزات على يده تزكية له وتصديقا لقوله: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا هو ما فتلت بين أصبعيك من الوسخ «فعيل» بمعنى «مفعول» . ابن السكيت: هو ما كان في شق النواة. والضمير للذين يزكون أي يعاقبون على تزكيتهم أنفسهم حق جزائهم، أو لمن يشاء أي يثابون على زكاتهم من غير نقص شيء من ثوابهم. ثم عجب النبي صلى الله عليه وسلم من فريتهم وادعاء زكاتهم ومكانتهم عند الله فقال: انْظُرْ كَيْفَ(2/425)
يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ
أي بزعمهم هذا إِثْماً مُبِيناً من بين سائر آثامهم.
قال المفسرون: خرج كعب بن الأشرف وحيي بن الأخطب في سبعين راكبا من اليهود إلى مكة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزل كعب على أبي سفيان والآخرون في دور قريش. فقال لهم أهل مكة:
إنكم أهل كتاب ومحمد صلى الله عليه وسلم صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم. فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين وآمنوا بهما فذلك قوله: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ثم قال كعب لأهل مكة: ليجيء منكم ثلاثون ومنا ثلاثون فنلزق أكبادنا بالكعبة فنعاهد رب البيت لنجهدن على قتال محمد صلى الله عليه وسلم ففعلوا ذلك، فلما فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أميون لا نعلم، فأينا أهدى طريقا وأقرب إلى الحق، أنحن أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقال كعب: اعرضوا علي دينكم. فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء ونسقهم الماء ونقري الضعيف ونفك العاني ونصل الرحم ونعمر بيت ربنا ونطوف به ونحن أهل الحرم، ومحمد فارق دين آبائه وقطع الرحم وفارق الحرم، وديننا القديم ودين محمد صلى الله عليه وسلم الحديث. فقال كعب: أنتم والله أهدى سبيلا مما هو عليه فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني كعبا وأصحابه. فلما رجعا إلى قومهما قال لهما قومهما: إن محمدا يزعم أنه قد نزل فيكما كذا وكذا. قالا: صدق والله ما حملنا على ذلك إلا بغضه وحسده.
وقد مر معنى الطاغوت في تفسير آية الكرسي. وأما الجبت ففي الصحاح أنه كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك وليس من محض العربية لاجتماع الجيم والتاء في كلمة واحدة من غير حرف ذو لقي. وحكى القفال عن بعضهم أن أصله جبس فأبدلت السين تاء والجبس هو الخبيث الرديء. وقال الكلبي:
الجبت في الآية هو حيي بن أخطب، والطاغوت كعب بن الأشرف. وكانت اليهود يرجعون إليهما فسميا بهذين الاسمين لسعيهما في إغواء الناس وإضلالهم فلا جرم جزاهم الله بقوله:
أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وبالحري إذ جعلوا من هو أضل من النعام وأقل من الأنعام حيث رضوا بمعبودية الأصنام أهدى سبيلا وأفضل حالا من الذين هم أشرف الأنام باختيارهم دين الإسلام الذي هو عبادة ذي الجلال والإكرام. وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً وعيد لهم بلزوم الإبعاد والطرد ولصوق العار والصغار، ووعد لنبيه والمؤمنين بالاستيلاء والاستعلاء عليهم إلى يوم القيامة. والخطاب في فَلَنْ تَجِدَ للنبي أو لكل طالب يفرض: ثم لما وصفهم بالضلال والإضلال وصفهم بالبخل والحسد اللذين هما شر الخصال، لأن البخيل يمنع ما أوتي من النعمة، والحاسد يتمنى أن يزول عن الغير ما أوتي من الفضيلة. و «أم»(2/426)
قيل: إنها متصلة وقد سبقها استفهام في المعنى كأنه لما حكى قولهم للمشركين أنهم أهدى سبيلا من المؤمنين قال: أمن ذلك يتعجب أم من قولهم لهم نصيب من الملك مع أنهم لو كان لهم ملك لبخلوا بأقل القليل؟ وقيل: الميم زائدة والتقدير ألهم نصيب؟ والأصح أنها منقطعة كأنه لما تم الكلام الأول قال: بل ألهم نصيب من الملك؟ ومعنى الآية أنهم كانوا يقولون نحن أولى بالملك والنبوة فكيف نتبع العرب؟ فأبطل الله عليهم قولهم. وقيل: كانوا يزعمون أن الملك يعود إليهم في آخر الزمان ويخرج من اليهود من يجدد ملكهم ودينهم فكذبهم الله. وقيل: المراد بالملك التمليك يعني أنهم إنما يقدرون على دفع نبوتك لو كان التمليك إليهم، ولو كان التمليك إليهم لبخلوا بالنقير والقطمير فكيف يقدرون على النفي والإثبات؟ وقال أبوبكر الأصم: كانوا أصحاب بساتين وأموال وكانوا في عزة ومنعة كما تكون أحوال الملوك، ثم كانوا يبخلون على الفقراء بأقل القليل فنزلت الآية فيهم. وعلى هذا فإنما يتوجه الإنكار على أنهم لا يؤتون أحدا مما يملكون شيئا. وعلى الأقوال المتقدمة يتوجه الإنكار على أن لهم نصيبا من الملك فكأنه تعالى جعل بخلهم كالمانع من حصول الملك لهم فإن البخل والملك لا يجتمعان كما قيل: بالبر يستعبد الحر والإنسان عبد الإحسان. والبخيل تنفر الطباع عن الانقياد له فلا يتيسر له أسباب المملكة، وإن اجتمعت بالندرة فسوف تضمحل. وإنما لم يعمل «إذن» لدخول الفاء عليه. وذلك أن ما بعد العاطف من تمام ما قبله بسبب ربط العاطف بعض الكلام ببعض فينخرم تصدره فكأنه معتمد فترجح إلغاؤه وارتفاع الفعل بعده. وجاء في قراءة ابن مسعود فإذن لا يؤتوا بالأعمال وليس بقوي. والنقير نقرة في ظهر النواة «فعيل» بمعنى «مفعول» ومنها «نبتت النخلة» وهو مثل في القلة كالفتيل. فإن قيل: كيف يعقل أنهم لا يبذلون نقيرا وكثيرا ما يشاهد منهم بذل الأموال؟ قلنا: المدعى عدم إيتاء النقير على تقدير حصول الملك ويراد به الملك الظاهر كما لملوك الدنيا، أو الباطن كما للعلماء الربانيين، أو كلاهما كما للأنبياء. وحصول شيء من هذه الأقسام لهم ممنوع لما ضربت عليهم الذلة والمسكنة. ولئن فرض حصول شيء منها فما يدريك لعل الشح يغلب عليهم حتى لا يشاهد منهم بذل نقير كما أخبر عنه علام الغيوب. وأما على تفسير الأصم فلعل المراد لأنهم لا يبذلون شيئا نسبته إلى ما يملكونه كنسبة النقير إلى النواة، أو أنهم لا يطيبون بذلك نفسا لغلبة الشح عليهم والله تعالى أعلم بمراده. هذا بيان بخلهم، أما بيان حسدهم فذلك قوله: أَمْ يَحْسُدُونَ وهي منقطعة والتقدير: بل أيحسدون الناس يعني النبي والمؤمنين. فإن كان اللام للعهد فظاهر وإن كان للجنس فلأنهم هم الناس والباقون هم النسناس. ومعنى الهمزة إنكار الحسد واستقباحه.(2/427)
والمراد بالفضل ما آتاهم الله من أشرف المناصب وهو النبوة والخاتمية وما كان ينضم إليها كل يوم من النصرة والعزة والاستيلاء والاستعلاء، والفاضل محسود بكل أوان، والحاسد مذموم بكل لسان. ثم نبّه على ما يزيل التعجب من شأن محمد صلى الله عليه وسلم فقال: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الذين هم أسلاف محمد الْكِتابَ الذي هو بيان الشرائع وَالْحِكْمَةَ التي هي الوقوف على الأسرار والحقائق والعمل بما يتضمن صلاح الدارين وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً عن ابن عباس: الملك في آل إبراهيم ملك يوسف وداود وسليمان، فليس ببدع أن يؤتى إنسان ما أوتي أسلافه. وقيل: من جملة حسدهم أنهم استكثروا نساء النبي صلى الله عليه وسلم فقيل لهم:
كيف استكثرتم له التسع وكان لداود مائة ولسليمان ثلاثمائة مهيرة وسبعمائة سرية؟
فَمِنْهُمْ أي من اليهود مَنْ آمَنَ بِهِ أي بما ذكر من حديث آل إبراهيم وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وأنكره مع علمه بصحته، أو من اليهود من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من أنكر نبوته، أو من آل إبراهيم من آمن بإبراهيم ومنهم من كفر. والمعنى أن أولئك الأنبياء جرت عادة أممهم فيهم أن بعضهم آمن بهم وبعضهم بقوا على كفرهم، فأنت يا محمد لا تتعجب مما عليه هؤلاء والغرض تثبيت النبي صلى الله عليه وسلم وتسليته وَكَفى بِجَهَنَّمَ لعذاب هؤلاء الكفار المتقدمين والمتأخرين سَعِيراً.
ثم أكد وعيد الكفار بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا ويدخل فيها كل ما يدل على ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه وملائكته والكتب والرسل. وكفرهم بها أن ينكروا كونها آيات أو يغفلوا عنها ولا ينظروا فيها، أو يلقوا الشكوك والشبهات فيها، أو ينكروها مع العلم بها عنادا وحسدا وبغيا ولددا. وهاهنا سؤال وهو أنه تعالى قادر على إبقائهم في النار أحياء معذبين من غير أن تحترق جلودهم، فما الحكمة في إنضاج جلودهم؟ والجواب لا يسأل عما يفعل كما أنه قادر على إيصال الآلام إليهم من غير إدخالهم النار مع أنه لا يمكن أن يقال لم عذبهم بإدخالهم النار. وسؤال آخر وهو أنه كيف يعذب مكان الجلود العاصية جلودا لم تعص؟ والجواب يجعل النضيج غير نضيج، فالذات واحدة والمتبدل هو الصفة ويؤيده قول أهل اللغة: تبديل الشيء تغييره وإن لم يأت ببدله، وأبدلت الشيء غيرته، فالتبديل تغيير الصفة أو الذات. والإبدال تغيير الذات. وصاحب الكشاف جزم بأن المراد من هذا التبديل هو تغيير الذات فلهذا فسر التبديل بالإبدال، ولعله إنما حمله على ذلك وصف الجلود بقوله: غَيْرَها ولقائل أن يقول: المغايرة أعم من أن تكون في الذات أو في الصفات، فما أدراك أنها في الآية مغايرة الذات لا الصفات اللهم إلا أن يعضده نقل صحيح فيكون الجواب عن السؤال أن المعذب هو الإنسان، والجلد ليس حزءا من ماهيته(2/428)
وإنما هو سبب لوصول العذاب إليه. أو يقال: المراد الدوام وعدم الانقطاع، ولا نضج ولا احتراق أي كلما ظنوا أنهم احترقوا وأشرفوا على الهلاك أعطيناهم قوة جديدة بحيث ظنوا أنهم الآن حدثوا ووجدوا. وقال السدي: يخرج من لحم الكافر جلد آخر وفي هذا التأويل بعد لأن لحمه متناه فعند نفاده لا بد من طريق آخر في تبديل الجلد فيعود أول السؤال.
وقيل: المراد بالجلود السرابيل سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: 50] وضعف بأنه ترك للظاهر وأن السرابيل لا توصف بالنضج لِيَذُوقُوا الْعَذابَ ليدوم لهم ذوقه ولا ينقطع كقولك للعزيز: أعزك الله أي أدامك على عزك وزادك فيه، أو ليذوقوا بهذه الحالة الجديدة العذاب. والمراد بالذوق أن إحساسهم بذلك العذاب في كل حال يكون كإحساس الذائق بالمذوق إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً لا يمتنع عليه شيء مما يريده بالمجرمين حَكِيماً لا يفعل إلّا الصواب ثم قرن الوعد بالوعيد على عادته فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية. قال الواحدي:
الظليل ليس بمبني على الفعيل حتى يقال إنه بمعنى فاعل أو مفعول، بل هو مبالغة في نعت الظل مشتق من لفظه كقولهم: «ليل أليل» . قيل: إذا لم يكن في الجنة شمس تؤذي بحرها فما فائدة وصفها بالظل؟ وأيضا المواضع التي لا يصل نور الشمس إليها في الدنيا يكون هواؤها عفنا فاسدا فما معنى وصف هواء الجنة بذلك؟ والجواب المنع من أنه لا شمس هنالك حتى يوجد ضوء ثان هو الظل، والمراد بالظل الظليل ما كان فينانا، أي منبسطا لا جوب فيه أي لا فرج لالتفاف الأغصان، ودائما لا تنسخه الشمس، وسجساجا لا حر فيه ولا برد. وعند الحكماء: المراد بالظل الراحة لأنه من أسبابها ولا سيما في البلاد الحارة كبلاد العرب. فلما كان هذا مطلوبا عندهم صار موعودا لهم.
التأويل:
لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي يتمنون أن يخلوا في عالم الطبيعة ولم ينكشف لهم عالم الحقيقة كيلا يروا ما يرون من عذاب القطيعة، كما أن السكران ممنوع من الصلاة.
فسكران الغفلة والهوى محجوب عن المواصلات لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى من غلبات الأحوال فإن التكاليف حينئذ زائلة وَلا جُنُباً بالالتفات إلى غير الله فإن الصلاة إذ ذاك باطلة. وتستثنى من الحالة الأولى حالة الشعور، ومن الثانية حالة العبور
«كن في الدنيا كأنك غريب أو كعابر سبيل» «1»
فهذا القدر من الالتفات من المحظورات التي أباحها الضرورات. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى بحب الدنيا أَوْ عَلى سَفَرٍ في متابعة الهوى
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 3. الترمذي في كتاب الزهد باب 25. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 3. أحمد في مسنده (2/ 24، 41) .(2/429)
أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ في قضاء شهوة من الشهوات أَوْ لامَسْتُمُ عجوز الدنيا في تحصيل لذة من اللذات فَلَمْ تَجِدُوا ماءً التوبة والاستغفار فَتَيَمَّمُوا فتمعكوا في تراب أقدام الكرام فإنه طهور الذنوب العظام. مِنَ الَّذِينَ هادُوا يعني دأب علماء السوء قريب من دأب الذين هادوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يؤولونها على حسب إرادتهم وَيَقُولُونَ سَمِعْنا ما في القرآن بالمقال وَعَصَيْنا بالفعال وينكرون على أرباب المقامات والأحوال ويقولون اسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا يخاطبونهم بكلام ذي وجهين لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً في أهل الدين. يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ظاهرا ولم يؤتوا علم باطن الكتاب آمِنُوا بِما نَزَّلْنا على الأولياء من علم باطن القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من العلم الظاهر لأن أهل العلم اللدني يصدقون أهل العلم الظاهر، ولكن أهل العلم الظاهر يصعب عليهم تصديق علوم الأولياء لأنه لا يناسب عقولهم مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وجوه القلوب بالعمى والصمم فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها ناظرين إلى الدنيا وزخارفها بعد أن كانوا ناظرين في الميثاق إلى يومها أَوْ نَلْعَنَهُمْ نمسخ صفاتهم الإنسانية بالسبعية والشيطانية كما مسخنا أصحاب السبت بالصورة، ومسخ المعنى أصعب من مسخ الصورة لأن فضوح الدنيا أهون من فضوح الآخرة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ للشرك ثلاث مراتب وكذا للمغفرة. فشرك جلي بالأعيان وهو للعوام من عبدة الكواكب والأصنام فلا يغفر إلا بالتوحيد وهو إظهار العبودية في إثبات الربوبية مصدقا بالسر والعلانية. وشرك خفي بالأوصاف للخواص وهو شوب العبودية بالالتفات إلى غير الربوبية، فلا يغفر إلّا بالوحدانية وهو إفراد الواحد للواحد. وشرك أخفى للأخص وهو رؤية الأغيار والأنانية فلا يغفر إلا بالوحدة وهو فناء الناسوتية في بقاء اللاهوتية. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ من أهل العلوم الظاهرة تعلموا العلم ليباهوا به العلماء أو ليماروا به السفهاء فحصل له صفات ذميمة أخرى مثل المباهاة والمماراة والكبر والعجب والحسد والرياء وحب الجاه والرياسة وغلبة الأقران والأنداد بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ بتسليم نفوسهم إلى أرباب التزكية من العلماء الراسخين والمشايخ المحققين كما يسلم الجلد إلى الدباغ ليجعله أديما، فإذا سلموا أنفسهم إليهم وصبروا على تصرفاتهم رأوا أثر الزكاة فيهم ولن يضيع سعيهم يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ بجبت النفس الأمّارة وطاغوت الهوى وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من أهل الأهواء والمبتدعة والمتفلسفة هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا بكل ما أمر الله به ورسوله. ثم وصفهم بالبخل والحسد ثم قال: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ يعني أهل الخلة والمحبة الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ العلم الظاهر والعلم الباطن وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً هو معرفة الله تعالى فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ لأن من(2/430)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
العلماء مقبلين ومنهم مدبرين وَكَفى بِجَهَنَّمَ نفسهم الحاسدة سَعِيراً تحرق حسناتهم فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا بأوليائنا الذين هم مظاهر آيات الحق وحجج الله على الخلق سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نار الحسد والغضب والكبر والعجب كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ أي انقطعت بعض أماني نفوسهم الأمّارة ومقتضيات هواها. ولا يخفى حسن استعارة الجلود لآثار الشيء من حيث الظهور والاشتمال بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ فإن دواعي الحرص والغضب والشهوة لا تتناهى البتة ما دامت النفس على صفة الأمرية، فلن تزال أسيرة في يد الشهوات ذائقة لعذاب التعلقات وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ أي نجذبهم بجذبات العناية إلى جَنَّاتٍ من الوصلة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من ماء الحكمة ولبن الفطرة وخمر الشهود وعسل الكشوف لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ من تجلي صفات الجمال والجلال مُطَهَّرَةٌ من لوث الوهم والخيال وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا هو ظل شمس عالم الوجود يوم لا ظل إلّا ظله.
[سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 70]
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62)
أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67)
وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)(2/431)
القراآت:
أَنِ اقْتُلُوا بكسر النون لالتقاء الساكنين: أبو عمرو وعاصم وحمزة وسهل ويعقوب. الباقون: بالضم نقلا لحركة همزة الوصل إلى ما قبلها أَوِ اخْرُجُوا بكسر الواو للساكنين: عاصم وسهل وحمزة. الباقون: بالضم. إلا قليلا بالنصب: ابن عامر على أصل الاستثناء أو بمعنى إلّا فعلا أو أبوا إلّا قليلا. الباقون: بالرفع على البدل وهو أكثر.
الوقوف:
إِلى أَهْلِها لا لأن التقدير يأمركم أن تؤدوا وأن تحكموا بالعدل إذا حكمتم بين الناس. بِالْعَدْلِ ط يَعِظُكُمْ بِهِ ط بَصِيراً هـ مِنْكُمْ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ط تَأْوِيلًا هـ أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ ج بَعِيداً هـ صُدُوداً هـ ج للآية مع فاء التعقيب يَحْلِفُونَ قد قيل على أن ما بعده ابتداء القسم والأولى تعليق الباء بيحلفون. وَتَوْفِيقاً هـ بَلِيغاً هـ بِإِذْنِ اللَّهِ ط رَحِيماً هـ تَسْلِيماً هـ قَلِيلٌ مِنْهُمْ ط تَثْبِيتاً هـ لا عَظِيماً هـ لا لأن ما بعده من تتمة جواب «لو» . مُسْتَقِيماً هـ وَالصَّالِحِينَ ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى. رَفِيقاً هـ مِنَ اللَّهِ ط عَلِيماً هـ.
التفسير:
لما شرح بعض أحوال الكفار عاد إلى ذكر التكاليف. وأيضا لما حكى عن أهل الكتاب أنهم كتموا الحق وقالوا للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا، أمر المؤمنين في هذه الآية بأداء الأمانات في جميع الأمور، سواء كانت من باب المذاهب والديانات أو من باب الدنيا والمعاملات. وأيضا قد وعد في الآية السابقة الثواب العظيم على الأعمال الصالحات وكان من أجلها الأمانة فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها
روي أن عثمان بن طلحة الحجبي من بني عبد الدار كان سادن الكعبة، فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح أغلق عثمان باب البيت وصعد السطح، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم المفتاح فقيل له: إنه مع عثمان. فطلب منه فأبى فقال: لو علمت أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أمنعه. فلوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه يده وأخذ منه المفتاح وفتح الباب، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت وصلى ركعتين. فلما خرج سأله العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له مع السقاية السدانة، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى العباس ثم قال: يا عثمان خذ المفتاح على أن للعباس معك نصيبا فأنزل الله هذه الآية. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه أن يرد المفتاح إلى عثمان ويعتذر إليه، ففعل ذلك علي رضي الله عنه فقال له عثمان: يا علي أكرهت وآذيت ثم جئت ترفق فقال: لقد أنزل الله في شأنك فقرأ عليه هذه الآية. فقال عثمان: أشهد(2/432)
أن لا إله إلّا الله وأن محمدا رسول الله وأسلم. فجاء جبريل عليه السلام وقال: ما دام هذا البيت كان المفتاح والسدانة في أولاد عثمان وقال: خذوها يا بني طلحة بأمانة الله لا ينزعها منكم إلّا ظالم. ثم إنّ عثمان هاجر ودفع المفتاح إلى أخيه شيبة وهو اليوم في أيديهم.
ثم نزول الآية عند هذه القصة لا يوجب خصوصها بها ولكنها تعم جميع أنواع الأمانات. فأولها الأمانة مع الرب تعالى في كل ما أمر به ونهى عنه. قال ابن مسعود: الأمانة في الكل لازمة، في الوضوء والجنابة والصلاة والزكاة والصوم. وعن ابن عمر أنه تعالى خلق فرج الإنسان وقال هذا أمانة خبأتها عندك فاحفظها إلّا بحقها وهذا باب واسع. فأمانة اللسان أن لا يستعمله في الكذب والغيبة والنميمة والكفر والبدعة والفحش وغيرها، وأمانة العين أن لا يستعمله في النظر إلى الحرام، وأمانة السمع أن لا يستعمله في سماع الملاهي والمناهي والفحش والأكاذيب، وكذا القول في سائر الأعضاء. ثم الأمانة مع سائر الخلق ويدخل فيه رد الودائع وترك التطفيف ونشر عيوب الناس وإفشاء أسرارهم، ويدخل فيه عدل الأمراء مع الرعية والعلماء مع العوام بأن يرشدوهم إلى ما ينفعهم في دنياهم ودينهم ويمنعوهم عن العقائد الباطلة والأخلاق غير الفاضلة، وتشمل أمانة الزوجة للزوج في ماله وفي بضعها، وأمانة الزوج للزوجة في إيفاء حقوقها وحظوظها، وأمانة السيد للمملوك وبالعكس، وأمانة الجار للجار والصاحب للصاحب، ويدخل فيه نهي اليهود عن كتمان أمر محمد والأمانة مع نفسه بأن لا يختار لها إلا ما هو أنفع وأصلح في الدين وفي الدنيا، وأن لا يوقعها بسبب اللذات الفانية، في التبعات الدائمة. وقد عظم الله تعالى أمر الأمانة في مواضع من كتابه إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ [الأحزاب: 72] وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المؤمنون: 8]
وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا لا إيمان لمن لا أمانة له»
والأمانة مصدر سمي به المفعول ولذلك جمع. ثم لما أمر بأداء ما وجب لغيرك عليك أمر باستيفاء حقوق الناس بعضهم من بعض إذا كنت بصدد الحكم فقال: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وفي قوله:
وَإِذا حَكَمْتُمْ تصريح بأنه ليس لجميع الناس أن يشرعوا في الحكم والقضاء. وقد عدّ العلماء من شروط النيابة العامة: الإسلام والعقل والبلوغ والذكورة والحرية والعدالة والكفاية وأهلية الاجتهاد بأن يعرف ما يتعلق بالأحكام من كتاب الله وسنة رسوله. ويعرف منهما العام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ، ومن السنة المتواتر والآحاد والمسند والمرسل وحال الرواة، ويعرف أقاويل الصحابة ومن بعدهم إجماعا وخلافا، وجلي القياس وخفيه وصحيحه وفاسده، ويعرف لسان العرب لغة وإعرابا خصوصا وعموما إلى غير ذلك مما له مدخل في استنباط الأحكام الشرعية من مداركها ومظانها. وكفى بما في هذا المنصب من الخطر أنه منصب رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين(2/433)
من بعده، فعلى المتصدي لذلك أن يتأدب بآدابهم ويتخلق بأخلاقهم وإلا فالويل له.
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يجاء بالقاضي العادل يوم القيامة فيلقى من شدة الحساب ما يتمنى أنه لم يقض بين اثنين قط»
وإذا كان حال العادل هكذا فما ظنك بالجائر؟ وعنه «ينادي مناد يوم القيامة أين الظلمة وأين أعوان الظلمة؟ فيجتمعون كلهم حتى من برى لهم قلما أو لاق لهم دواة، فيجمعون ويلقون في النار» . إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ المخصوص بالمدح محذوف و «ما» موصولة أو مبهمة موصوفة والتقدير: نعم الذي أو نعم شيئا يعظكم به ذلك المأمور من أداء الأمانات والحكم بالعدل إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً يسمع كيف تحكمون ويبصر كيف تؤدون، وفيه أعظم أسباب الوعد للمطيع وأشد أصناف الوعيد للعاصي.
ثم إنه سبحانه أمر الرعاة بطاعة الولاة كما أمر الولاة في الآية المتقدمة بالشفقة على الرعاة فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ الآية.
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويطيعوا.
قالت المعتزلة: الطاعة موافقة الإرادة. وقالت الأشاعرة: الطاعة موافقة الأمر. ولا نزاع أن موافقة الأمر طاعة إنما النزاع في أن المأمور به كإيمان أبي لهب هل يكون مرادا أم لا. فعند الأشاعرة الأمر قد يوجد بدون الإرادة لئلا يلزم الجمع بين الضدين في تكليف أبي لهب مثلا بالإيمان. وعند المعتزلة لا يأمر إلا بما يريد والخلاف بين الفريقين مشهور. قال في التفسير الكبير: هذه آية مشتملة على أكثر علم أصول الفقه لأن أصول الشريعة أربعة: الكتاب والسنة وأشار إليهما بقوله: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وليس العطف للمغايرة الكلية، ولكن الكتاب يدل على أمر الله، ثم يعلم منه أمر الرسول لا محالة. والسنة تدل على أمر الرسول ثم يعلم منه أمر الله. والإجماع والقياس. وأشير إلى الإجماع بقوله: وَأُولِي الْأَمْرِ لأنه تعالى أمر بطاعتهم على سبيل الجزم. ووجب أن يكون معصوما لأن لو احتمل إقدامه على الخطا والخطأ منهي عنه لزم اعتبار اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد وإنه محال. ثم ذلك المعصوم إما مجموع الأمة أو بعضها على ما يقوله الشيعة من أن المراد بهم الأئمة المعصومون، أو على ما زعم بعضهم أنهم الخلفاء الراشدون، أو على ما
روي عن سعيد بن جبير وابن عباس أنهم أمراء السرايا كعبد الله بن حذافة السهمي أو كخالد بن الوليد إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية وكان معه عمار بن ياسر فوقع بينهما خلاف فنزلت الآية.
أو على ما روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك أنهم العلماء الذين يفتون بالأحكام الشرعية ويعلمون الناس دينهم لكنه لا سبيل إلى الثاني.
أما ما زعمه الشيعة فلأنا نعلم بالضرورة أنا في زماننا هذا عاجزون عن معرفة الإمام(2/434)
المعصوم والاستفادة منه، فلو وجب علينا طاعته على الإطلاق لزم تكليف ما لا يطاق ولو وجب علينا طاعته إذا صرنا عارفين به وبمذهبه صار هذا الإيجاب مشروطا، وظاهر الآية يقتضي الإطلاق على أن طاعة الله وطاعة رسوله مطلقة. فلو كانت هذه الطاعة مشروطة لزم أن تكون اللفظة الواحدة مطلقة ومشروطة معا وهو باطل. وأيضا الإمام المعصوم عندهم في كل زمان واحد، ولفظ أولي الأمر جمع. وأيضا إنه قال: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ وعلى هذا ينبغي أن يقال: فردوه إلى الإمام. وأما سائر الأقوال فلا نزاع في وجوب طاعتهم، لكنه إذا علم بالدليل أن طاعتهم حق وصواب. وذلك الدليل ليس الكتاب والسنة فلا يكون هذا قسما منفصلا كما أن وجوب طاعة الزوجة للزوج والتلميذ للأستاذ داخل في طاعة الله وطاعة الرسول. أما إذا حملناه على إجماع أهل الحل والعقد لم يكن هذا داخلا فيما تقدم إذ الإجماع قد يدل على حكم لا يوجد في الكتاب والسنة. وأيضا قوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ مشعر بإجماع تقدم يخالف حكمه حكم التنازع. وأيضا طاعة الأمراء والخلفاء مشروطة بما إذا كانوا على الحق، وظاهر الآية يقتضي الإطلاق. وإذا ثبت أن حمل الآية على هذه الوجوه غير مناسب تعين أن يكون ذلك المعصوم كل الأمة أي أهل الحل والعقد وأصحاب الاعتبار والآراء. فالمراد بقوله: وَأُولِي الْأَمْرِ ما اجتمعت الأمة عليه وهو المدعى. وأما القياس فذلك قوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إذ ليس المراد من رده إلى الله والرسول رده إلى الكتاب والسنة والإجماع وإلا كان تكرارا لما تقدم، ولا تفويض علمه إلى الله ورسوله والسكوت عنه لأن الواقعة ربما كانت لا تحتمل الإهمال وتفتقر إلى قطع مادة الشغب والخصومة فيها بنفي أو إثبات، ولا الإحالة على البراءة الأصلية فإنها معلومة بحكم العقل، فالرد إليها لا يكون ردا إلى الله والرسول فإذا المراد ردها إلى الأحكام المنصوصة في الوقائع المشابهة لها وهذا معنى القياس، فحاصل الآية الخطاب لجميع المكلفين بطاعة الله، ثم لمن عدا الرسول بطاعة الرسول، ثم لما سوى أهل الحل والعقد بطاعتهم، ثم أمر أهل استنباط الأحكام من مداركها إن وقع اختلاف واشتباه بين الناس في حكم واقعة ما أن يستخرجوا لها وجها من نظائرها وأشباهها فما أحسن هذا الترتيب. ثم في إطلاق الآية دلالة على أن الكتاب والسنة متقدمان على القياس مطلقا سواء كان القياس جليا أو خفيا، وأنه لا يجوز معارضة النص ولا تخصيصه بالقياس. وقد اعتبر هذا الترتيب أيضا في قصة معاذ واستحسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف لا والقرآن مقطوع في متنه والقياس مظنون والقرآن كلام لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والقياس نتيجة عقل الإنسان الذي هو عرضة الخطأ والنسيان. وقد أجمع العلماء على أن إبليس خصص عموم الخطاب في قوله: إِذْ قُلْنا(2/435)
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا
[البقرة: 34] بقياس هو قوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص: 76] فاستحق اللعن إلى يوم الدين. والسر فيه أن تخصيص النص بالقياس يقدم القياس على النص وفيه ما فيه. ثم إن كان الأمر للوجوب فقوله: أَطِيعُوا يدل على وجوب الطاعة وإن كان للندب، فههنا يدل على الوجوب ظاهرا لأنه ختم الأوامر بقوله:
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وهو وعيد والظاهر أنه قيد في جميع الأوامر لا في قوله: فَرُدُّوهُ وحده. وأيضا مجرد الندبية وهو أولوية الفعل معلوم من تلك الأوامر فلا بد للآية من فائدة خاصة، فيحمل على المنع من الترك ليحصل من المجموع معنى الوجوب.
ثم هذا الوجوب يكون دائما إن كان الأمر للدوام والتكرار وكذا إن لم يكن غيره كذلك لأن الوقت المخصوص والكيفية المخصوصة غير مذكورة. فلو حملناه على العموم كانت الآية مبينة وإلا كانت مجملة، والمبين أولى من المجمل. وأيضا تخصيص اسم الله بالذكر يدل على أن وجوب الطاعة إنما هو لكونه إلها والإلهية دائمة فالوجوب دائم. وإنما كرر لفظ أَطِيعُوا للفصل بين اسم الله تعالى وبين المخلوقين، ونعلم من إطلاق وجوب طاعة أولي الأمر أن الإجماع الحاصل عقيب الخلاف حجة وأنه لا يشترط انقراض العصر. ومن إطلاق قوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ أن القياس يجوز إجراؤه في الحدود والكفارات أيضا.
والمراد بالتنازع قال الزجاج: هو الاختلاف وقول كل فريق القول قولي كأن كل واحد منهما ينزع الحق إلى جانبه ذلِكَ الرد أو المأمور به في الآية خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبة من آل الشيء إذا رجع. وقيل: الرد إلى الكتاب والسنة خير مما تأولون أنتم.
ثم إنه تعالى لما أوجب على المكلفين طاعته وطاعة رسوله، وذكر أن المنافقين الذين في قلوبهم مرض لا يطيعون ولا يرضون بحكمه فقال: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية.
قال الليث: قولهم زعم فلان معناه لا نعرف أنه صدق أو كذب ومنه زعموا مطية الكذب.
وقال ابن الأعرابي: الزعم قد يستعمل في القول المحقق لكن المراد في الآية الكذب بالاتفاق. قال أبو مسلم: ظاهر الآية يدل على أن الزاعم كان منافقا من أهل الكتاب مثل أن يكون يهوديا أظهر الإسلام على سبيل النفاق، لأن قوله تعالى: يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ إنما يليق بمثل هذا المنافق. أما سبب النزول ففيه وجوه.
والذي عليه أكثر المفسرين ما
رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن رجلا من المنافقين يسمى بشرا خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال المنافق: بيني وبينك كعب بن الأشرف. وذلك أن اليهودي كان محقا وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقضي إلا بالحق لجلالة منصبه عن قبول الرشوة، وكان كعب يبطل الحقوق بالرشا، فما زال اليهودي بالمنافق حتى(2/436)
ذهبا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى لليهودي. فلما خرجا من عنده لزمه المنافق وقال: ننطلق إلى عمر بن الخطاب. فأقبلا إلى عمر فقال اليهودي: اختصمت أنا وهذا إلى محمد فقضى لي عليه فلم يرض بقضائه وزعم أنه يخاصم إليك وتعلق بي فجئت معه. فقال عمر للمنافق: أكذلك؟ قال: نعم. فقال لهما: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب به عنق المنافق حتى برد ثم قال: هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله وهرب اليهودي فنزلت الآية. وقال جبريل: إن عمر فرق بين الحق والباطل فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت الفاروق. وعلى هذا الطاغوت كعب بن الأشرف.
وقال السدي: كان ناس من اليهود أسلموا ونافق بعضهم، وكانت قريظة والنضير في الجاهلية إذا قتل قرظي نضيريا قتل به وأخذ ديته مائة وسق من تمر، وإذا كان بالعكس لم يقتل به وأعصى ديته ستين وسقا من تمر. وكانت النضير حلفاء الأوس وكانوا أكثر وأشرف من قريظة وهم حلفاء الخزرج. فقتل نضيري قرظيا واختصموا في ذلك. فقال بنو النضير: لا قصاص علينا إنما علينا ستون وسقا من تمر على ما اصطلحنا عليه. وقالت الخزرج: هذا حكم الجاهلية ونحن وأنتم اليوم إخوة وديننا واحد ولا فضل بيننا. فقال المنافقون: انطلقوا إلى أبي برزة الكاهن الأسلمي. وقال المسلمون: لا بل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فأبى المنافقون فانطلقوا إلى أبي برزه ليحكم بينهم فقال: أعظموا اللقمة- يعني الرشوة- فقالوا: لك عشرة أوسق. فقال: لا بل مائة وسق ديتي فإني أخاف إن نفرت النضيري قتلتني قريظة، وإن نفرت القرظي قتلتني النضير. فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوسق وأبى أن يحكم بينهم فأنزل الله هذه الآية. فدعا النبي صلى الله عليه وسلم كاهن أسلم إلى الإسلام فأبى وانصرف فقال النبي صلى الله عليه وسلم لابنيه: أدركا أباكما فإنه إن جاز عقبة كذا لم يسلم أبدا فأدركاه فلم يزالا به حتى انصرف وأسلم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى: ألا إن كاهن أسلم قد أسلم.
وعلى هذا القول الطاغوت هو الكاهن.
وقال الحسن: إنّ رجلا من المسلمين كان له على رجل من المنافقين حق، فدعاه المنافق إلى وثن كان أهل الجاهلية يتحاكمون إليه ورجل قائم يترجم الأباطيل عن الوثن، فالطاغوت ذلك الرجل. وقيل: كانوا يتحاكمون إلى الوثن يضربون القداح بحضرته، فما خرج على القداح عملوا به فالطاغوت هو الوثن. ثم إن الطاغوت أي شيء كان من الأشياء المذكورة فإنه تعالى جعل التحاكم إليه مقابلا للكفر به، لكن الكفر به إيمان بالله وبرسوله فيكون نصا في تكفير من لم يرض بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم تشككا أو تمردا ويؤكده قوله بعد ذلك: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ الآية. ومن هنا ذهب كثير من الصحابة إلى الحكم بارتداد مانعي الزكاة وقتلهم وسبى ذراريهم. ثم قال: وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً(2/437)
فاحتجت المعتزلة به على أن كفر الكافر ليس بخلق الله وإلا لم يتوجه الذم على الشيطان ولم يحصل التعجب والتعجيب فإن لقائل أن يقول: إنما فعلوا لأجل أنك خلقت ذلك الفعل فيهم وأردته منهم بل التعجب من هذا التعجب أولى وقد عرفت الجواب مرارا. قوله:
فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فيه وجهان: أحدهما- وهو قول الحسن واختاره الواحدي- أنه جملة معترضة وأصل النظم وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً ثُمَّ جاؤُكَ يعني أنهم في أول الأمر يصدون عنك أشد الصدود ثم بعد ذلك يجيؤنك ويحلفون كذبا على أنهم ما أرادوا بذلك الصد إلا الإحسان والتوفيق. ووجه الاعتراض أنه حكى عنهم التحاكم إلى الطاغوت وأنهم يصدون، ثم أتبعها ما يدل على شدة أحوالهم بسبب أعمالهم القبيحة في الدنيا والآخرة. والثاني أنه متصل بما قبله لا على وجه الاعتراض والمعنى أنه إذا كانت نفرتهم من الحضور عند الرسول في أوقات السلامة هكذا فكيف تكون نفرتهم إذا أتوا بجناية خافوا بسببها منك ثم جاؤك كراها يحلفون بالله على سبيل الكذب ما أردنا بتلك الجناية إلا الخير والمصلحة؟ أما المصيبة فقيل: إنها قتل عمر صاحبهم فإنهم جاؤا وطلبوا بدمه وحلفوا أنهم ما أرادوا بالذهاب إلى غير الرسول إلا الصلاح وهو اختيار الزجاج. وقال الجبائي: هي ما أمر الله رسوله بها من أنه لا يستصحبهم في الغزوات ويخصهم بمزيد الإذلال، والمعنى ثم جاؤك في وقت المصيبة يحلفون ويعتذرون ما أردنا بما كان منا من مواساة الكفار إلا إصلاح الحال. وقال أبو مسلم: إنه تعالى بشر رسوله أن المنافقين سيصيبهم مصائب تلجئهم إليه وإلى أن يظهروا الإيمان. ومن عادة العرب عند التبشير والإنذار أن يقولوا: كيف أنت إذا كان كذا. ومعنى الإحسان والتوفيق ما أردنا بالتحاكم إلى غير الرسول إلا إحسانا بين الخصوم وائتلافا بينهم فإنهم لا يقدرون عند الرسول أن يرفعوا أصواتهم ويبينوا حججهم، أو ما أردنا بالتحاكم إلى عمر إلا أن يحسن إلى صاحبنا بالحكم العدل والتوفيق بينه وبين خصمه، وما خطر ببالنا أنه يحكم له بما حكم به، وعلى هذا لا يبقى للحلف مناسبة ظاهرة.
أو ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك يا رسول الله إلا أنك لا تحكم إلا بالحق المرّ وغيرك يدور على التوسط ويأمر كل واحد من الخصمين بالإحسان إلى الآخر وتقريب مراده من مراد صاحبه حتى تحصل بينهم الموافقة.
ثم أخبر الله سبحانه بما في ضمائرهم من الدغل والنفاق فقال: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ وذلك أن من أراد المبالغة في شيء قال هذا شيء لا يعلمه إلا الله يعني أنه لكثرته وعظم حاله لا يقدر أحد على معرفته إلا هو. ثم علّم نبيه كيف يعاملهم فأمره بثلاثة(2/438)
أشياء: الأول الإعراض عنهم والمراد به أنه لا يقبل منهم ذلك العذر ويستمر على السخط، أو أنه لا يهتك سترهم ولا يظهر لهم أنه عالم بكنه ما في بواطنهم من النفاق لما فيه من حسن العشرة والحذر من آثار الفتنة. الثاني أن يعظهم فيزجرهم عن النفاق بالتخويف من عذاب الدارين. الثالث قوله: وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغاً وفيه وجوه: أحدها أن في الآية تقديما وتأخيرا. والمعنى قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما ويستشعرون منه الخوف. الثاني وقل لهم في معنى أنفسهم الخبيثة وقلوبهم المطوية على النفاق قولا بليغا هو أن الله يعلم ما في قلوبكم فلن يغني عنكم الإخفاء، فطهروا قلوبكم عن دنس النفاق وإلا فسينزل الله بكم ما أنزل بالمجاهرين بالشرك أو شرا من ذلك وأغلظ. الثالث قل لهم في أنفسهم خاليا بهم مسارا لهم بالنصيحة فإن النصح بين الملأ تقريع وفي السر أنفع وأنجع، قولا يؤثر فيهم. وقيل: القول البليغ يتعلق بالوعظ وهو أن يكون كلاما حسنا وجيز المباني غزير المعاني يدخل الأذن بلا إذن، مشتملا على الترغيب والترهيب والإعذار والإنذار. ثم رغب مرة أخرى في طاعة الرسول فقال: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ أكثر النحاة على أن «من» صلة تفيد تأكيد النفي والتقدير: وما أرسلنا رسولا.
وقيل: المفعول محذوف والتقدير: وما أرسلنا من هذا الجنس أحدا. قال الجبائي: هذه الآية من أقوى الدلائل على بطلان مذهب المجبرة لكونها صريحة في أن معصية الناس غير مرادة الله تعالى. والجواب أن إرسال الرسل لأجل الطاعة لا ينافي كون المعصية مرادة لله تعالى، على أن قوله: بِإِذْنِ اللَّهِ أي بتيسيره وتوفيقه وإعانته يدل على أن الكل بقضائه وقدره، وكذا لو كان المراد بسبب إذن الله في طاعة الرسول. قيل: في الآية دلالة على أنه لا رسول إلا ومعه شريعة فإنه لو دعا إلى شرع من قبله لكان المطاع هو ذلك المتقدم، وفيها دلالة على أن الرسل معصومون عن المعاصي وإلا لم يجب اتباعهم في جميع أقوالهم وأفعالهم. وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ تائبين عن النفاق متنصلين عما ارتكبوا فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ من رد قضاء رسوله وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ انتصب شفيعا لهم إلى الله بعد اعتذارهم إليه من إيذائه برد قضائه لَوَجَدُوا اللَّهَ لعلموه تَوَّاباً رَحِيماً ولم يقل: «واستغفرت لهم» لما في الالتفات عن الخطاب إلى ذكر الرسول تنبيه على أن شفاعة من اسمه الرسول من الله بمكان، فالآية على هذا التفسير من تمام ما قبلها.
وقال أبوبكر الأصم: نزلت في قوم من المنافقين اصطلحوا على كيد في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلوا عليه لذلك الغرض فأتاه جبريل فأخبره به فقال صلى الله عليه وسلم: إن قوما دخلوا يريدون أمرا لا ينالونه فليقوموا فليستغفروا الله حتى أستغفر لهم فلم يقوموا. فقال: ألا يقومون فلم يفعلوا فقال صلى الله عليه وسلم: قم يا فلان حتى عدّ اثني عشر رجلا منهم فقاموا وقالوا: كنا عزمنا على ما قلت(2/439)
ونحن نتوب إلى الله من ظلمنا أنفسنا فاستغفر لنا. فقال: الآن اخرجوا أنا كنت في بدء الأمر أقرب إلى الاستغفار وكان الله أقرب إلى الإجابة. اخرجوا عني.
فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ عن عطاء ومجاهد والشعبي أنها من تمام قصة اليهودي والمنافق.
وعن الزهري عن عروة بن الزبير أنها نزلت في شأن الزبير وحاطب بن أبي بلتعة وذلك أنهما اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في شراج من الحرة، والشرج مسيل الماء كانا يسقيان بها النخل فقال: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب حاطب وقال: إن كان ابن عمتك؟ وذلك أن أم الزبير صفية بنت عبد المطلب. فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر يعني الجدار الذي يحيط بالمزرعة وهو أصغر من الجدار واستوف حقك ثم أرسله إلى جارك.
واعلم أن الحكم في هذا أن من كانت أرضه أقرب إلى فم الوادي فهو أولى بأول الماء وحقه تمام السقي. والرسول صلى الله عليه وسلم أذن للزبير في السقي على وجه المسامحة، فلما أساء خصمه الأدب ولم يعرف حق ما أمره به الرسول صلى الله عليه وسلم من المسامحة لأجله أمره باستيفاء حقه وحمل خصمه على مر الحق. وفي قوله: فَلا وَرَبِّكَ قولان: أحدهما أن «لا» صلة لتأكيد معنى القسم والتقدير فو ربك. والثاني أنها مفيدة وعلى هذا ففيه وجهان: الأول أنه يفيد نفي أمر سبق والتقدير ليس الأمر كما يزعمون أنهم آمنوا وهم يخالفون حكمك ثم استأنف القسم بقوله: وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. الثاني أنها لتوكيد النفي الذي جاء في الجواب، وهذا الوجه لا يتمشى فيما إذا كان الجواب مثبتا. ومعنى شجر اختلف واختلط ومنه الشجر لتداخل أغصانه، والتشاجر التنازع لاختلاط كلام بعضهم ببعض، والحرج الضيق أو الشك لأن الشاك في ضيق من أمره حتى يلوح له اليقين وَيُسَلِّمُوا وينقادوا. يقال: سلم لأمر الله أي سلم نفسه له وجعلها خالصة لحكمه ومن التعليمية من تمسك بالآية في أنه لا يحصل الإيمان إلا بإرشاد النبي صلى الله عليه وسلم وهدايته والنزول على حكمه وقضائه في كل أمر ديني، ومنع بأن معرفة النبوة موقوفة على معرفة الإله فلو توقفت معرفة الإله على معرفة النبوة لزم الدور فإذن الحكم غير كلي والتقليد في جميع الأحكام غير مرضي. واعلم أن الرضا بتحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم قد يكون رضا في الظاهر دون القلب فلهذا قال: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وهو الجزم بأن ما حكم به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق والصدق، ثم من عرف بقلبه كون ذلك الحكم حقا وصدقا فقد يتمرد عن قبوله على سبيل العناد أو يتوقف في ذلك القبول فعدم الحرج إشارة إلى الانقياد في الباطن والتسليم إشارة إلى الانقياد في الظاهر. وفي الآية دليل على عصمة الأنبياء عن الخطأ في الفتاوي والأحكام، وعلى أنه لا يجوز تخصيص النص بالقياس وإلّا كان في النفس حرج. قالت المعتزلة: لو كانت المعاصي بقضاء الله تعالى لزم التناقض لأن الرضا بقضائه واجب فالرضا بالمعاصي واجب،(2/440)
لكن الرسول قد نهى عنها فيجب أن يحصل الرضا في تركها ويلزم الرضا بالفعل والترك معا وهو محال. وأجيب بأن المراد من قضاء الله التكوين والإيجاد. فالرضا بقضائه أن يعتقد كون الكل بإيجاده، والمراد من الرضا بقضاء الرسول أن يلتزم ما حكم به ويتلقى بالبشر والقبول فأين ذاك من هذا.
قوله: وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ
روي أن حاطبا لما أحفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستوعب للزبير حقه في صريح الحكم خرجا فمرا على المقداد فقال: لمن كان القضاء؟ فقال حاطب: قضى لابن عمته ولوى شدقه ففطن يهودي كان مع المقداد فقال: قاتل الله هؤلاء يشهدون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يتهمونه في قضاء يقضي بينهم،
وأيم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة في حياة موسى فدعانا إلى التوبة منه وقال: اقتلوا أنفسكم ففعلنا فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا. فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما والله إن الله ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لقتلتها، وكذا قال ابن مسعود وعمار بن ياسر.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إن من أمتي رجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي.
وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: والله لو أمرنا ربنا لفعلنا والحمد الله الذي لم يفعل بنا ذلك ونزلت الآية. فالضمير في قوله: عَلَيْهِمْ يعود إلى الناس والمراد بالقليل المؤمنون منهم.
عن ابن عباس ومجاهد أنه يعود إلى المنافقين والمراد أنا لو كتبنا القتل والخروج عن الوطن على هؤلاء المنافقين ما فعله إلّا قليل منهم رياء وسمعة وحينئذ يصعب الأمر عليهم وينكشف كفرهم، فإن لم نفعل بهم ذلك بل كلفناهم بالأشياء السهلة فليتركوا النفاق وليلزموا الإخلاص وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ من الانقياد والطاعة لله ولرسوله.
وسمى التكليف وعظا لاقترانه بالوعد والوعيد والترغيب والترهيب لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي أنفع وأفضل من غيره أو خير الدنيا والآخرة لأن خَيْراً يستعمل بالوجهين جميعا. وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً أقرب إلى ثباتهم على الإيمان والطاعة لأن الطاعة تدعو إلى أمثالها وتجر إلى المواظبة عليها، ولأنه حق والحق ثابت والباطل زائل. وأيضا الإنسان يطلب الخير أولا فإذا حصل يطلب ثباته ودوامه. ثم بين أن ما يوعظون به كما هو خير في نفسه فهو أيضا مستعقب للخير فقال: وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً وثوابا جزيلا. «وإذا» جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: ما يكون لهم بعد الخير والتثبيت؟ فقيل: هو أن نؤتيهم من لدنا أجرا عظيما. وفي إيراد صيغة التعظيم في لَآتَيْناهُمْ ولَدُنَّا وفي قوله: مِنْ لَدُنَّا وفي وصف الأجر بالعظم وفي تنكير الأجر من المبالغة ما لا يخفى. والصراط المستقيم الدين الحق أو الطريق من عرصة القيامة إلى الجنة وهذا أولى لأنه مذكور بعد استحقاق الأجر. ثم أكد أمر(2/441)
الطاعة بقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ ولا شك أن الآية عامة في جميع المكلفين إلّا أن المفسرين ذكروا في سبب نزولها وجوها.
قال الكلبي: نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان شديد الحب له قليل الصبر عنه فأتاه ذات يوم وقد تغير لونه ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن. فقال له: يا ثوبان ما غيّر لونك؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض ولا وجع غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك واستوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أن لا أراك هناك لأني أعرف أنك ترفع مع النبيين وأني إن أدخلت الجنة كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة فذاك حريّ أن لا أراك أبدا.
وقال مقاتل: نزلت في رجل من الأنصار قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إذا خرجنا من عندك إلى أهالينا اشتقنا إليك فما ينفعنا شيء حتى نرجع إليك، ثم ذكرت درجتك في الجنة فكيف لنا برؤيتك إن دخلنا الجنة فأنزل الله هذه الآية. فلما توفي النبي صلى الله عليه وسلم أتى الأنصاري ولده وهو في حديقة له فأخبره بموت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده فعمي مكانه.
وقال السدي: إن ناسا من الأنصار قالوا: يا رسول الله إنك تسكن الجنة في أعلاها ونحن نشتاق إليك فكيف نصنع فنزلت.
وليس المراد من كون المطيعين مع المذكورين في الآية أن كلهم في درجة واحدة فإن ذلك يقتضي التسوية بين الفاضل والمفضول وإنه محال، ولكن المراد كونهم في الجنة بحيث يتمكن كل واحد منهم من رؤية الآخر وإن بعد المكان لأن الحجاب إذا زال شاهد بعضهم بعضا، أو إذا أرادوا الزيارة والتلاقي قدروا على ذلك. والتحقيق فيه أن عالم الأنوار لا تمانع فيها ولا تدافع بل ينعكس بعضها على بعض ويتقوى بعضها ببعض كالمرايا المجلوة المتقابلة. إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ [الحجر: 47] . ثم إنه تعالى ذكر أصنافا أربعة: النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ولا شك في تغايرها متداخلة كانت أو متباينة.
والمراد بالتداخل أن لا يمتنع كون كل متقدم موصوفا بما يتلوه كأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم صديقا وشهيدا وصالحا، أو الصديق شهيدا وصالحا، وقد مر تفسير النبي صلى الله عليه وسلم في أوائل البقرة. وأما الصديق فمبالغة الصادق وهو من غلب على أقواله الصدق وإنه لخصلة مرضية في جميع الأديان ومحققة للنطق الذي هو من مقومات الإنسان، وكفى به منقبة أن الإيمان ليس إلا التصديق، وكفى بنقيضه مذمة أن الكفر ليس سوى التكذيب. وذكر المفسرون أكثرهم أن الصديقين في الآية كل من صدق بكل الدين لا يتخالجه فيه شك لقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ [الحديد: 19] وقال قوم: هم أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وخصصه بعضهم بمن سبق إلى تصديق الرسول فصار في ذلك قدوة الناس كأبي بكر وعلي وأمثالهما، ولا واسطة بين الصديق والنبي ولذلك قال في هذه الآية: مِنَ النَّبِيِّينَ(2/442)
وَالصِّدِّيقِينَ. وفي صفة إبراهيم إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا [مريم: 41] يعني أنك إن ترقيت من الصديقين وصلت إلى النبوة وإن نزلت من النبوة وصلت إليهم. وأما الشهداء فالمراد بهم هاهنا أعم من المقتولين بسيف الكفار من المسلمين.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول من قتل في سبيل الله. قال: إن شهداء أمتي إذا لقليل. «من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات بالبطن فهو شهيد.»
وفي رواية «ومن مات بجمع فهو شهيد» «1» .
وقيل: هو الذي يشهد لصحة دين الله تارة بالحجة والبيان وأخرى بالسيف والسنان. وأقول: لا يبعد أيضا أن يدخل كل هذه الأمة في الشهداء لقوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] . وأما الصالحون فالصالح هو الذي صلح في اعتقاده وفي عمله وهذه مرتبة لا ينبغي أن تنحط عنها مرتبة المؤمن. ثم قال في معرض التعجب وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً كأنه قيل: وما أحسن أولئك. والرفيق كالصديق والخليط في استواء الواحد والجمع فيه وانتصابه على الحال، ويجوز أن يكون مفردا بيّن به الجنس في باب التمييز.
وقيل: معناه حسن كل واحد منهم رفيقا كما قال يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [الحج: 5] والرفق في اللغة لين الجانب ولطافة الفعل فسمي الصاحب رفيقا لارتفاقك به وتصحيبه، ومن الرفقة في السفر لارتفاق بعضهم ببعض. وقد يكون الإنسان مع غيره ولا يكون رفيقا له فبيّن الله تعالى أن الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين يكونون كالرفقاء للمطيع من شدة محبتهم له وسرورهم برؤيته. ذلِكَ مبتدأ والْفَضْلُ صفته ومِنَ اللَّهِ خبره، أو ذلِكَ مبتدأ والْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ خبره. قالت المعتزلة: ذلك إشارة إلى الأجر العظيم ومرافقة المنعم عليهم من الأنبياء وهذا شيء تفضل الله به عليهم تبعا لثوابهم الواجب على الله. أو أراد أن فضل المنعم عليهم ومزيتهم من الله لأنهم اكتسبوه بتمكينه وتوفيقه ولولا أنه أعطى العقل والقدرة وأزاح الأحذار والموانع لم يتمكن المكلف من فعل الطاعة فصار ذلك بمنزلة من وهب غيره ثوبا لينتفع به فإذا باعه وانتفع بثمنه جاز أن يوصف ذلك الثمن بأنه فضل من الواهب. وقال أهل السنة: ذلك إشارة إلى جميع ما تقدم ولا يجب على الله شيء البتة بل الثواب كله فضل من الله، وكيف يجب عليه شيء وإنه هو الذي خلق القدرة والداعية؟
وأيضا الوجوب عبارة عن استحقاق الذم عند الترك وأنه ينافي الإلهية. وأيضا كل ما فرض من الطاعات فإنه في مقابلة النعم السالفة التي لا تعدّ ولا تحصى فيمتنع كونها موجبة الثواب في المستقبل. معنى الآية أن ذلك الثواب بكمال درجته كأنه هو الفضل وما عداه غير معتمد
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الإمارة حديث 165.(2/443)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
عليه وذلك الثواب المذكور هو من الله لا من غيره. وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بالطاعة وكيفية الثواب عليها، وفيه ترغيب للمكلف على إكمال الطاعة والاحتراز عن التقصير فيه.
التأويل:
الوجود المجازي أمانة من الله تعالى كما أنّ وجود الظل أمانة من الشمس فلا جرم إذا تجلت شمس الربوبية لظلال وجود النفس والقلب والروح يقول بلسان العزة: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها فتلاشت الظلال واضمحلّت الأغيار وانمحت الآثار وبقي الواحد القهار، وهذا أحد أسرار قوله: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الرعد: 15] . وَإِذا حَكَمْتُمْ بعد فناء الوجود المجازي وبقاء الوجود الحقيقي بين الروح والقلب والنفس أن تحكموا بآداب الطريقة فيراقب القلب شواهد اللقاء ويلازم الروح عقبة الفناء والسر وارد سلطان البقاء يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الخطاب مع القلب والروح والسر فإنهم آمنوا على الحقيقة، وطاعة القلب لله أن يحب الله وحده، وطاعة الروح أن لا يلتفت إلى غيره، وطاعة السر أن لا يرى غيره في الوجود. أما الرسول فهو الرسول الوارد من الحق في الباطن كما
قال صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد: استفت قلبك يا وابصة ولو أفتاك المفتون.
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ يعني مشايخكم ومن بيده أمر تربيتكم.
فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ يعني منازعة النفس القلب والروح والسر فردوه إلى الكتاب والسنة أو يريد منازعة القلب فيما يحكم به الكتاب والسنّة نزاعا من قصور الفهم والدراية فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ لمراقبة القلوب بشواهد الغيوب وَإِلَى الرَّسُولِ وارد الحق بصدق النية وصفاء الطوية ذلك الإيمان الإيقاني بشهود النور الرباني خير من تعلم الكتاب والسنة بالتقليد دون التحقيق. ثم يخبر عن حال أهل القال المتحاكمين إلى طاغوت الهوى والخبال من أهل البدع والضلال بقوله: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية. أصابتهم مصيبة ملامة من الخلق أو سياسة من السلطان. فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ فيه أن الإيمان الحقيقي ليس بمجرد التصديق والإقرار ولكنه سيضرب على محك الاعتبار وهو تحكيم الشرع لا الطبع والنبوة لا البنوة والمولى لا الهوى ووارد الحق لا موارد الخلق فيما اختلفت آراؤهم وتحيّرت عقولهم ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي مرآة أَنْفُسِهِمْ صورة كراهة من القضاء الأزلي والأحكام الإلهية.
والصديقين الذين لهم قدم صدق عند ربهم، والشهداء أهل الجهاد الأكبر، والصالحين الذين لهم صلوح الولاية وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً في سلوك طريق الحق والله المستعان.
[سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 81]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80)
وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)(2/444)
القراآت:
لَيُبَطِّئَنَّ ونحوه مثل فَلَنُنَبِّئَنَّ ولَنُبَوِّئَنَّهُمْ بالياء الخالصة: يزيد والشموني وحمزة في الوقف. كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بالتاء الفوقانية: ابن كثير وحفص والمفضل وسهل ويعقوب. الباقون بياء الغيبة يَغْلِبْ فَسَوْفَ وبابه نحو إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ [الرعد: 5] اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ [الإسراء: 63] مدغما: أبوبكر وحمزة غير خلف وعلي وهشام. ولا يظلمون بالياء التحتانية: ابن كثير، وعلي وحمزة وخلف وهشام ويزيد وابن مجاهد عن ابن ذكوان. الباقون بتاء الخطاب بَيَّتَ طائِفَةٌ مدغما: أبوبكر وحمزة.
الوقوف:
جَمِيعاً هـ لَيُبَطِّئَنَّ ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب شَهِيداً هـ عَظِيماً هـ بِالْآخِرَةِ ط عَظِيماً هـ أَهْلُها ج وَلِيًّا كذلك للتفصيل بين الدعوات نَصِيراً هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ج للفصل بين القصتين المتضادتين. أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ ج لاحتمال الابتداء وتقدير الفاء واللام. ضَعِيفاً هـ الزَّكاةَ ط لأنّ جواب «فلما» منتظر ولكن التعجب في قوله: أَلَمْ تَرَ واقع على قوله: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ.
خَشْيَةً ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى. الْقِتالُ ج لأنّ «لولا» أي «هلا» استفهام(2/445)
آخر مع اتحاد المعمول. قَرِيبٍ ط قَلِيلٌ ج للفصل بين وصف الدارين. فَتِيلًا هـ مُشَيَّدَةٍ ط للعدول لفظا ومعنى. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ط للفصل بين النقيضين. مِنْ عِنْدِكَ ج. مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ط. حَدِيثاً هـ. فَمِنَ اللَّهِ ز فصلا بين النقيضين فَمِنْ نَفْسِكَ ط. رَسُولًا هـ. شَهِيداً هـ أَطاعَ اللَّهَ ج لحق العطف مع ابتداء بشرط آخر حَفِيظاً ط لاستئناف الفعل بعدها. طاعَةٌ ز لابتداء بشرط مع أن المقصود من بيان نفاقهم لا يتم بعد. تَقُولُ ط يُبَيِّتُونَ ج لاختلاف الجملتين مع الاتصال أي إذا كتب الله ما يبيتون فأعرض ولا تهتم. عَلَى اللَّهِ ط وَكِيلًا هـ.
التفسير:
إنه سبحانه عاد بعد الترغيب في طاعة الله وطاعة رسوله إلى ذكر الجهاد لأنه أشق الطاعات ولأنه أعظم الأمور التي بها تناط تقوية الدين فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ والحذر والحذر بمعنى كالأثر والإثر والمثل والمثل. يقال: أخذ حذره إذا تيقظ واحترز عن المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه. والمعنى احذروا واحترزوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم. وقيل: المراد بالحذر السلاح لأنه مما يتقي به ويحذر. فإن قيل: أي فائدة في هذا الأمر والحذر لا يغني عن القدر والمقدور كائن والهم فضل؟ قلت: هذا من عالم الأسباب والوسائط المرتبطة ولا ريب أن الكل يقع على نحو ما قدّر، فمن امتثل وترتب عليه الأثر كان بقدر، ومن أهمل حتى فاتته السلامة كان أيضا بقدر، وهكذا شأن جميع التكاليف إذا اعتبر. فَانْفِرُوا إلى قتال عدوّكم انهضوا لذلك
قال صلى الله عليه وسلم: «وإذا استنفرتم فانفروا» «1» .
ثُباتٍ جماعات متفرقة سرية بعد سرية واحدها ثبة محذوفة اللام وأصلها ثبى فعوضت الهاء عن الياء المحذوفة. والتركيب يدل على الاجتماع ومنه الثبة لوسط الحوض الذي يجتمع عنده الماء وصبيت الشيء جمعته. أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مجتمعين كركبة واحدة وهذا قريب مما قاله الشاعر: طاروا إليه زرافات ووحدانا. والغرض النهي عن التخاذل وإلقاء النفس إلى التهلكة. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ اللام الأولى هي الداخلة في خبر «إنّ» والثانية هي الداخلة في جواب القسم، وتقدير الكلام: لمن حلف بالله ليبطئن وهو إما متعد بسبب التشديد فيكون المفعول محذوفا أي ليبطئن غيره وليثبطنه عن الغزو كما هو ديدن المنافق عبد الله بن أبي ثبّط الناس يوم أحد، وإما لازم فقد جاء بطأ بالتشديد بمعنى أبطأكعتم بمعنى أعتم أي ليتثاقلن وليختلفن عن الجهاد، وهذا
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الصيد باب 10. مسلم في كتاب الحج حديث 445. أبو داود في كتاب الجهاد باب 2. الترمذي في كتاب السير باب 32. النسائي في كتاب البيعة باب 15. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 9. الدارمي في كتاب السير باب 69. أحمد في مسنده (1/ 226، 316) .(2/446)
المعنى أوفق بقوله: فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ من قتل أو هزيمة قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ فتح أو غنيمة ليقولن (قوله) كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اعتراض بين الفعل الذي هو لَيَقُولَنَّ وبين مفعوله وهو يا لَيْتَنِي والمنادى محذوف أي يا قوم ليتني. وجوّز أبو علي إدخال حرف النداء في الفعل والحرف من غير إضمار المنادي. كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ منصوب بإضمار أن أي ليت لي كونا معهم فافوز. والخطاب في قوله: وَإِنَّ مِنْكُمْ للمذكورين في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا والأظهر أن هذا المبطئ سواء جعل لازما أو متعديا كان منافقا فلعله جعله من المؤمنين من حيث الجنس أو النسب أو الاختلاط أو لأنه كان حكمه حكم المؤمنين لظاهر الإيمان. والمراد يا أيها المؤمنون في زعمكم ودعواكم كقوله: يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ [الحجر: 6] ومعنى الاعتراض في البين أن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن. وقال جمع من المفسرين: إنّ هؤلاء المبطئين كانوا ضعفة المسلمين. وعلى هذا فالتبطئة بمعنى الإبطاء البتة لأنّ المؤمن لا يثبط غيره ولكنه قد يتثاقل وهم المراد بقوله:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ [التوبة: 38] ثم لما ذم المبطئين رغب في الجهاد بقوله: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ ومعناه يشترون أو يبيعون. وعلى الأول فهم المنافقون المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النفاق ويجاهدوا حق الجهاد ولا يختاروا الدنيا على المعاد. وعلى الثاني فهم المؤمنون الذين تركوا الدنيا لأجل الآخرة. والمراد إن أبطأ أهل النفاق وضعفة الإيمان عن القتال فليقاتل التائبون المخلصون. وقيل: يحتمل أن يراد المؤمنون على التقدير الأول أيضا لأن الإنسان إذا أراد أن يبذل هذه الحياة الدنيا في سبيل الله بخلت نفسه فاشتراها من نفسه بسعادة الآخرة ليقدر على بذلها في سبيل الله، أو لعله أريد اشتغل بالقتال واترك ترجيح الفاني على الباقي، أو المراد أنهم كانوا يرجحون الحياة على الموت لاستيفاء السعادات البدنية فقيل لهم: قاتلوا فإنكم تستولون على الأعداء وتفوزون بالأموال. وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ وعد الأجر العظيم على تقديري المغلوبية والغالبية ليعلم أنه لا عمل أشرف من الجهاد، وليكون المجاهد على بصيرة من حاله على أي تقدير كان فيقدم ولا يحجم، ثم زاد في تحريضهم فقال: وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ ومعناه أنه لا عذر لكم في ترك المقاتلة وقد بلغ الحال إلى ما بلغ. وقوله: وَالْمُسْتَضْعَفِينَ إما مجرور أي في سبيل الله وفي خلاص المستضعفين، وإما منصوب على الاختصاص أي وأخص من سبيل الله الذي هو عام في كل خير خلاص المستضعفين وهم الذين أسلموا بمكة وصدهم المشركون والإعسار والضعف(2/447)
عن الهجرة فبقوا بين أظهرهم أذلاء يلقون منهم أذى شديدا، فكانوا يدعون الله بالخلاص ويستنصرونه فيسر الله لبعضهم الخروج إلى المدينة وبقي بعضهم إلى الفتح. والولدان جمع ولد كخربان في خرب. وقيل: الرجال والنساء الأحرار والحرائر، والولدان العبيد والإماء لأنّ العبد والأمة يقال لهما الوليد والوليدة وجمعهما الولدان والولائد إلّا أنه خص الولدان بالذكر تغليبا كالآباء والإخوة مع إرادة الأمهات والأخوات أيضا. وعن ابن عباس: كنت أنا وأمي من المستضعفين من الولدان والنساء. والظالم صفة للقرية إلّا أنه مسند إلى أهلها فتبع القرية في الإعراب، وهو مذكر لإسناده إلى الأهل. والأهل يذكر ويؤنث، ولو أنّث لا لتأنيث الموصوف بل لجواز تأنيث الأهل جاز. وإنما اشترك الولدان في الدعاء وإن كانوا غير مكلفين لأن المشركين كانوا يؤذونهم إرغاما لآبائهم، أو لأن المستضعفين كانوا يشركون صبيانهم في دعائهم استنزالا لرحمة الله بدعاء صغائرهم الذين لم يذنبوا كما فعل قوم يونس، ووردت السنة بإخراجهم في الاستسقاء. وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا أي كن أنت لنا وليا وناصرا وولّ علينا رجلا يوالينا ويقوم بمصالحنا. فاستجاب الله دعاءهم لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة جعل عتاب بن أسيد أميرا لهم فكان الولي هو الرسول، وكان النصير عتاب بن أسيد كما أرادوا. قال ابن عباس: كان ينصر الضعيف من القوي حتى كانوا أعزّ بها من الظلمة. ثم شجع المؤمنين تشجيعا بأن أخبرهم أنهم يقاتلون في سبيل الله فهو وليّهم وناصرهم وأعداؤهم يقاتلون في سبيل غير الله وهو الطاغوت والشيطان فلا ولي لهم إلّا الشيطان وإن كيده أوهن شيء وأضعفه. والكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال.
وفائدة إدخال «كان» أن يعلم أنه منذ كان كان موصوفا بالضعف والذلة. ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر وإن كانوا مدة حياتهم في غاية الخمول والفقر، وأما الملوك والجبابرة فإذا ماتوا انقرض أثرهم ولا يبقى في الدنيا رسمهم ولا ظلمهم؟
قوله سبحانه: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ فيه قولان: الأول
أنها نزلت في المؤمنين نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص كانوا يلقون من المشركين أذى كثيرا ويقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ائذن لنا في قتال هؤلاء. فيقول لهم: كفوا أيديكم عنهم فإني لم أؤمر بقتالهم. فلما هاجر إلى المدينة وأمرهم الله بقتال المشركين كرهه بعضهم وشق عليهم.
الثاني قال ابن عباس في رواية أبي صالح: لما استشهد الله من المسلمين من استشهد يوم أحد قال المنافقون الذين تخلّفوا عن الجهاد: لو كان إخواننا الذين قتلوا عندنا ما ماتوا وما(2/448)
قتلوا فنزلت. وقد يحتج للقول الأول بأن رغبتهم في القتال أوّلا دليل الإيمان، ويمكن أن يجاب بأن المنافقين أيضا كانوا يظهرون الرغبة في الجهاد إلى أن أمروا بالقتال فأحجموا.
واحتج أصحاب القول الثاني بأنهم كانوا يخشون الناس كخشية الله أو أشد، وكانوا يعترضون على الله تعالى بقولهم: لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ وكانوا يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة فلهذا قيل لهم قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وكل هذه الأمور من نعوت المنافقين وأجيب بأن حب الحياة والنفرة عن القتل من لوازم الطباع وهو المعنى بالخشية والاعتراض محمول على تمني تخفيف التكليف لا على الإنكار وقوله: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ إنما ذكر ليهون على قلبهم أمر هذه الحياة. والأقوى حمل الآية على المنافقين لأن ما بعدها وهو قوله: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ في شأنهم بلا اختلاف. وفي الآية دلالة على أن إيجاب الصلاة والزكاة كان مقدما على الجهاد وهو أيضا ترتيب مطابق لما في المعقول، لأنّ التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله مقدمان على الترهيب والقتل في سبيل الله. وإذا في إِذا فَرِيقٌ للمفاجأة وهو مجرد عن الظرفية والعامل في لما معنى المفاجأة أي فاجأ وقت خشية فريق زمان كتبة القتال عليهم. وقوله: كَخَشْيَةِ اللَّهِ من إضافة المصدر إلى المفعول. ومحل الكاف النصب على الحال لما عطف عليه من قوله: أَوْ أَشَدَّ ثم نصب خَشْيَةً على التمييز فالتقدير: يخشون الناس مشبهين لأهل خشية الله أو أشد خشية من خشية أهل الله. نعم لو قيل: أشد خشية بالإضافة انتصب خشية الله على المصدر ولا يمكن أن يقال أشد خشية بالنصب على إرادة المصدر، اللهم إلّا أن تجعل الخشية خاشية أو ذات خشية مثل جد جده فيكون المعنى: خشية مثل خشية الله أو خشية أشد خشية من خشية الله.
وعلى هذا يجوز أن يكون محل أَشَدَّ مجرورا عطفا على خشية الله أي كخشية الله أو كخشية أشد خشية منها. وكلمة «أو» ليست للشك هاهنا فإن ذلك على علام الغيوب محال ولكنها بمعنى الواو، أو المراد أن كل خوفين فإن أحدهما بالنسبة إلى الآخر إما أن يكون أنقص أو مساويا أو أزيد، فبيّن في الآية أن خوفهم من الناس ليس بأنقص من خوفهم من الله فيبقى إما أن يكون مساويا أو أزيد فهذا لا يوجب كونه تعالى شاكا فيه ولكنه يوجب إبقاء الإبهام في هذين القسمين على المخاطبين. أو هذا نظر قوله وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 117] يعني أن من يراهم يقول هذا الكلام.
وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ [النساء: 77] إن كانت الآية في المؤمنين فهم إنما قالوا ذلك لا اعتراضا على الله ولكن جزعا من الموت وحبا للحياة واستزادة في مدة الكف واستمهالا إلى وقت آخر كقوله: لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى(2/449)
أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ
[المنافقون: 10] وإن كان من كلام المنافقين فلا شك أنهم كانوا منكرين لكتبة القتال عليهم، فهم قالوا ذلك بناء على زعم الرسول ودعواه. ومعنى لَوْلا أَخَّرْتَنا هلا تركتنا حتى نموت بآجالنا، ثم أزال الشبهة وأزاح العلة بقوله: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لا لكل الناس بل لِمَنِ اتَّقى فإن للكافر والفاسق هنالك نيرانا وأهوالا ومن هنا
قال صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر» «1» .
وأما ترجيح الآخرة فلأن نعم الدنيا قليلة ونعم الآخرة كثيرة، ونعم الدنيا منقطعة ونعم الآخرة مؤبّدة، ونعم الدنيا مشوبة بالأقذار ونعم الآخرة صافية عن الأكدار، ونعم الدنيا مشكوكة التمتع بها ونعم الآخرة يقينية الانتفاع منها. ثم بكت الفريق الخائنين بأنهم يدركهم الموت أينما كانوا ولو كانوا في حصون مرتفعة. والبروج في كلام العرب القصور والحصون وأصلها من الظهور ومنه تبرجت المرأة إذا أظهرت محاسنها. والغرض أنه لا خلاص لهم من الموت والجهاد موت مستعقب للسعادة الأبدية، وإذا كان لا بد من الموت فوقوعه على هذا الوجه أولى. قال المفسرون: كانت المدينة مملوءة من النعم وقت مقدم الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين أمسك الله تعالى عنهم بعض الإمساك كما جرت عادته في جميع الأمم قال:
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ [الأعراف: 94] فعند هذا قالت اليهود والمنافقون: ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل نقصت ثمارنا وغلت أسعارنا منذ قدم. فقوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يعني الخصب والرخص وتتابع الأمطار قالوا هذا من عند الله، وإن تصبهم سيئة يعني الجدب وانقطاع الأمطار قالوا هذا من شؤم محمد وهذا كقوله: فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ [الأعراف: 131] . وقال قوم: الحسنة النصر على الأعداء والغنيمة، والسيئة القتل والهزيمة. وقال أهل التحقيق: خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ وكل ما ينتفع به فهو حسنة. فإن كان منتفعا به في الدنيا فهو الخصب والغنيمة وأمثالهما، وإن كان منتفعا به في الآخرة فهو الطاعة. فالحسنة تعم الحسنات، والسيئة تعم السيئات فلا جرم أجابهم الله تعالى بقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وكيف لا وجميع الممكنات من الأفعال والذوات والصفات لا بد من استنادها إلى الواجب بالذات؟ ولهذا تعجب من حالهم وقال: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً فنفى عنهم مقاربة الفقه والفهم فضلا عن الفقه والفهم. قالت المعتزلة: بل هذه الآية حجة لنا لأنه لو كان حصول الفهم والمعرفة بتخليق
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الزهد حديث 1. الترمذي في كتاب الزهد باب 16. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 3. أحمد في مسنده (2/ 197) .(2/450)
الله تعالى لم يبق لهذا التعجب معنى البتة لأنه تعالى ما خلقها. والجواب: أنه تعالى لا يسأل عما يفعل. وأيضا المعارضة بالعلم والداعي. وقالت المعتزلة أيضا: الحديث «فعيل» بمعنى «مفعول» والمراد به الآيات المذكورة في هذه المواضع فيلزم منه كون القرآن محدثا.
والجواب بعد تسليم ما ذكروا أنه لا نزاع في حدوث العبارات إنما النزاع في الكلام النفسي.
قوله عز من قائل: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ قال أبو علي الجبائي: السيئة تارة تقع على البلية والمحنة وتارة تقع على الذنب والمعصية. ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه في الآية الأولى بقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وأضافها في هذه الآية إلى العبد بقوله:
وَما أَصابَكَ أي يا إنسان خطابا عاما مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ فلابد من التوفيق وإزالة التناقض، وما ذاك إلّا بأن يجعل هناك بمعنى البلية وهاهنا بمعنى المعصية. قال: وإنما فصل بين الحسنة والسيئة في هذه الآية فأضاف الحسنة التي هي الطاعة إلى نفسه دون السيئة مع أن كليهما من فعل العبد عندنا، لأنّ الحسنة إنما تصل إلى العبد بتسهيل الله وألطافه فصحت إضافتها إليه، وأما السيئة فلا يصح إضافتها إلى الله تعالى لا بأنه فعلها ولا بأنه أرادها ولا بأنه أمر بها ولا بأنه رغب فيها. وقال في الكشاف: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ أي من نعمة وإحسان فَمِنَ اللَّهِ تفضلا منه وإحسانا وامتنانا وامتحانا وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ أي من بلية ومصيبة فَمِنْ عِنْدِكَ لأنك السبب فيها بما اكتسبت يداك كما
روي عن عائشة «ما من مسلم يصيبه وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها وحتى انقطاع شسع نعله إلّا بذنب وما يعفو الله أكثر منه» «1» .
وقالت الأشاعرة: كل من الحسنة والسيئة بأي معنى فرض فإنها من الله تعالى لوجوب انتهاء جميع الحوادث إليه. لكنه قد يظن بعض الظاهريين أن إضافة السيّئة إلى الله تعالى خروج عن قانون الأدب فبين في الآية أن كل ما يصيب الإنسان من سيّئة حتى الكفر الذي هو أقبح القبائح فإن ذلك بتخليق الله تعالى. والوجه فيه أن يقدر الكلام استفهاما على سبيل الإنكار ليفيد أن شيئا من السيّئات ليست مضافة إلى الإنسان بل كلها بقضائه ومشيئته، ويؤيده ما
يروى أنه قرىء فَمِنْ نَفْسِكَ بصريح الاستفهام.
ومما يدل دلالة ظاهرة على أن المراد من هذه الآيات إسناد جميع الأمور إلى الله تعالى قوله بعد ذلك: وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا أي ليس لك إلّا الرسالة والتبليغ وقد فعلت ذلك وما قصرت وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على جدّك وعدم تقصيرك في أداء الرسالة وتبليغ الوحي، فأما
__________
(1) رواه البخاري في كتاب المرضى باب 1. مسلم في كتاب البر حديث 52. الترمذي في كتاب الجنائز باب 1. أحمد في مسنده (2/ 303) ، (3/ 4، 18) .(2/451)
تحصيل الهداية فليس إليك بل إلى الله. قال علماء المعاني: قوله رَسُولًا حال من الكاف أي حال كونك ذا رسالة ولِلنَّاسِ صفة رَسُولًا متعلق ب أَرْسَلْناكَ وإلّا لقيل إلى الناس. فأصل النظم وأرسلناك رسولا للناس فلابد للتقديم من خاصية هو التخصيص أعني ثبوت الحكم للمقدم ونفيه عما يقابله حقيقة أو عرفا لا عما عداه مطلقا. وبعد تقديم هذه المقدمة فاللام في قوله: لِلنَّاسِ إما أن يكون للعهد الخارجي أو للجنس أو للاستغراق.
والأول باطل لأن المعهود الخارجي حصة معينة من الأفراد فيلزم اختصاص إرساله ببعض الإنس لوقوع بعض الناس في مقابلة كلهم عرفا فيكون مناقضا لما في الآيات الأخر كقوله:
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] ولقوله: «بعثت إلى الخلق كافة» والثاني وهو حمل اللام على تعريف الجنس أيضا باطل لأنه يلزم اختصاص إرساله بالإنس دون الجن، لأنّ ثبوت الحكم لحقيقة الإنس بوساطة التقديم ينفي الحكم عما يقابلها عرفا وهو حقيقة الجن، أو ينفي الحكم عما عداها من الحقائق فيشمل حقيقة الجن ضرورة.
وعلى التقديرين يلزم الخلف لأنه صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين لقوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الأحقاف: 29] الآية. فتعين حمل اللام على الاستغراق ليثبت الحكم لكل فرد من أفراد الإنسان وتحصل موجبة كلية وينفي نقيض هذا الحكم وهو ما كان يزعمه الضالة من سالبة جزئية هي أنه ليس مبعوثا إلى بعض الناس كالعجم وأنه رسول العرب خاصة، وعلى هذا يكون الجن مسكوتا عنهم بالنسبة إلى هذه الآية. فلدلالة دليل آخر على كونه مبعوثا إلى الثقلين لا تكون منافية لدلالة هذه الآية، لأن التقديم قد استوفى حظه من الخاصية من غير تعرض للجن. ثم لما بين أنه لكل فرد من أفراد الناس رسول أوجب طاعته بقوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنّ طاعة الرسول لكونه رسولا فيما هو رسول لا تكون إلّا طاعة لله.
قال مقاتل في هذه الآية: إنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «من أحبني فقد أحب الله ومن أطاعني فقد أطاع الله» فقال المنافقون: لقد قارف الرجل الشرك، هو ينهي أن يعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربا كما اتخذت النصارى عيسى فأنزل الله هذه الآية.
وهي من أقوى الدلائل على أنه معصوم في جميع الأوامر والنواهي وفي تبليغه وفي أفعاله وإلّا لم تكن طاعته فيما أخطأ طاعة لله. وَمَنْ تَوَلَّى قيل: هو التولي بالقلب أي حكمك يا محمد على الظواهر، وأما البواطن فلا تتعرّض لها. وقيل: هو التولي بالظاهر ومعناه فلا ينبغي أن تغتم بسبب ذلك التولّي. فَما أَرْسَلْناكَ لتحفظ الناس عن المعاصي فإن من أضلّه الله لم يقدر أحد على إرشاده. والمعنى فما أرسلناك لتشتغل بزجرهم عند ذلك التولي كقوله: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] ثم نسخ بآية الجهاد. ثم حكى سيرة المنافقين بقوله:(2/452)
وَيَقُولُونَ أي حين ما أمرتهم بشيء طاعَةٌ أي أمرنا وشأننا طاعة، والنصب في مثل هذا جائز بمعنى أطعناك طاعة، ولكن الرفع يدل على ثبات الطاعة واستقرارها فلهذا لم يقرأ بغيره فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي دبرت خلاف ما أمرت به وما ضمنت من الطاعة. قال الزجاج: كل أمر تفكروا فيه كثيرا وتأملوا في مصالحه ومفاسده كثيرا قيل هذا أمر مبيت. وفي اشتقاقه وجهان: الأول أن أصلح الأوقات للفكر أن يجلس في بيته في الليل فهناك يكون الخاطر أصفى والشواغل أقل فلا جرم سمي الفكر المستقصى تبييتا.. الثاني قال الأخفش: إذا أراد العرب قرض الشعر بالقوافي بالغوا في التفكر فيه فسمي الفكر البليغ تبييتا، فاشتقاقه من أبيات الشعر. ثم إنه تعالى خص طائفة من المنافقين بالتبييت، وذكروا في التخصيص وجهين: أحدهما أنه ذكر من علم أنه يبقى على كفره ونفاقه، فأما من علم أنه يرجع عن ذلك فلم يذكرهم. وثانيهما أن هذه الطائفة كانوا قد سهروا ليلهم في التبييت وغيرهم سمعوا وسكتوا ولم يبيتوا فلا جرم لم يذكروا. قلت:
ووجه ثالث وهو أن هذا النوع من الكلام أجلب للقلوب وأدخل في عدم الإنكار. وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ يثبته في صحائف أعمالهم ويجازيهم عليه أو يكتبه في جملة ما يوحى إليك فيطلعك على أسرارهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في شأنهم فإنّ الله ينتقم لك منهم إذا قوي أمر الإسلام وعزت أنصاره. قال بعضهم: الأمر بالإعراض منسوخ بآية الجهاد. والأكثرون على أن الصفح مطلق فلا حاجة إلى التزام النسخ والله تعالى أعلم.
التأويل:
خُذُوا حِذْرَكُمْ وهو ذكر الله فَانْفِرُوا ثُباتٍ جاهدوا بالرياضات من عالم التفرقة وهو عالم الحيوانية أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً من عالم الجمعية وهو عالم الروحانية إلى عالم الوحدة وَإِنَّ مِنْكُمْ أيها الصدّيقون لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ من المدعين المتكاسلين في السير، القانعين بالاسم، النازلين على الرسم مصيبة شدة ومجاهدة فضل من الله مواهب غيبية وعلوم لدنية ومرتبة عند الخواص وقبول عند العوام يشترون الحياة الدنيا يشترون حظوظ النفس بحقوق الرب فيقتل نفسه بسيف الصدق أو يغلب عليها بالظفر فتسلم على مدة. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ أي الأرواح الضعيفة استضعفتها النفوس باستيلائها عليها وَالنِّساءِ أي القلوب فإنّ القلب للروح كالزوجة للزوج لتصرف الروح في القلب كتصرف الزوج في الزوجة. وَالْوِلْدانِ الصفات الحميدة المتولّدة بين الروح والقلب مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ قرية البدن الظَّالِمِ أَهْلُها وهي النفس الأمارة بالسوء نَصِيراً شيخا مربيا أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ من أهل السلامة كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ من الاعتصام بحبل أهل الملامة وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فإنكم لستم أهل الغرام فاقنعوا بدار السلام والسلام لأرباب(2/453)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83) فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
الغرام من أهل الملام إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ ويخافون لومة الناس ولو كان من شرطهم أن لا يخافوا لومة لائم ولا يناموا نومة نائم فنفروا عن فريقهم كالبهائم، وضلوا عن طريقهم كالهائم. لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فنموت بالآجال فإن لنا كل لحظة موتة في ترك حظوة. فيا أيها البطلة في زي الطلبة الذين غلب عليكم حب الدنيا فأقعدكم عن طلب المولى أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ اضطرارا إن لم تموتوا قبل أن تموتوا اختيارا وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ أجسام قوية مجسمة وَإِنْ تُصِبْهُمْ يعني أهل البطالة حَسَنَةٌ من فتوحات غيبية يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا يرون للشيخ فيما عليهم حقا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من الرياضات والمجاهدات يَقُولُوا للشيخ هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ أي بسببك وسعيك قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ القبض والبسط والفرح والترح ما أَصابَكَ من فتح وموهبة فَمِنَ اللَّهِ فضلا وكرما وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ بلاء وعناء فَمِنَ شؤم صفات نَفْسِكَ الأمارة. والتحقيق فيه أن للأعمال أربع مراتب: التقدير والخلق وهاتان من الله تعالى، والكسب والفعل وهاتان من العبد، وإن كان العبد وكسبه وفعله كلها مخلوقة خلقها الله تعالى فافهم. وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا يهتدون بهداك ويتبعون خطاك، ويقولون إذا كانوا حاضرين في صحبتك، وتنعكس أشعة أنوار النبوة عليهم، ويصغون بآذانهم الواعية إلى الحكم والمواعظ الوافية السمع والطاعة. فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ وهبت عليهم رياح الهوى عاد الطبع المشئوم إلى أصله وهكذا حال أكثر مريدي هذا الزمان من مشايخهم والله يكتب بغير عليهم ما يُبَيِّتُونَ لأنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ واصبر معهم وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فلعل الله يصلح بالهم.
[سورة النساء (4) : الآيات 82 الى 91]
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86)
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)(2/454)
القراآت:
وَمَنْ أَصْدَقُ وكل صاد ساكنة بعدها دال بإشمام الصاد الزاي: علي ورويس وحمزة غير العجلي. حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ وبابه مدغما: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. وقرأ سهل ويعقوب والمفضل حصرة صدورهم بالنصب والتنوين.
الوقوف:
الْقُرْآنَ ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط. كَثِيراً هـ أَذاعُوا بِهِ ط مِنْهُمْ ط قَلِيلًا هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ج ط لأن قوله: لا تُكَلَّفُ يحتمل الاستئناف والحال أي قاتل غير مكلف. إِلَّا نَفْسَكَ ط لعطف قوله: وَحَرِّضِ على قوله:
فَقاتِلْ. الْمُؤْمِنِينَ ج لأنّ عَسَى مستأنف لفظا ومتصل معنى لأنه لترجية نجح ما أمر به. كَفَرُوا ط تَنْكِيلًا هـ نَصِيبٌ مِنْها ط لابتداء شرط آخر مع واو العطف.
كِفْلٌ مِنْها ط مُقِيتاً هـ رُدُّوها ط حَسِيباً هـ إِلَّا هُوَ ط لا رَيْبَ فِيهِ ط حَدِيثاً هـ بِما كَسَبُوا ط مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ط لتناهي الاستفهام إلى الشرط. سَبِيلًا هـ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ط وَجَدْتُمُوهُمْ ص نَصِيراً هـ ط أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ ط فَلَقاتَلُوكُمْ ط السَّلَمَ لا لأن ما بعده جواب «فإن» . سَبِيلًا هـ قَوْمَهُمْ ط أُرْكِسُوا فِيها ج ثَقِفْتُمُوهُمْ ط مُبِيناً هـ.
التفسير:
لما حكي عن المنافقين ما حكى وكان السبب فيه اعتقادهم أنه صلى الله عليه وسلم غير محق في ادعاء الرسالة، أمرهم بالتفكر والتدبر وهو النظر في عواقب الأمور وأدبارها، ومنه قول أكثم: لا تدبروا أعجاز أمور قد ولت صدورها. ويقال في فصيح الكلام: لو استقبلت من أمري ما استدبرت. أي لو عرفت في صدره ما عرفت من عاقبته. وظاهرا الآية يدل على أنه احتج بالقرآن على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإلا انقطع النظم. ودلالة القرآن على صدق النبي من ثلاثة أوجه: الفصاحة والاشتمال على الغيوب والسلامة من الاختلاف وهو المقصود من الآية. واختلف المفسرون في المراد من سلامته من الاختلاف. فقال أبو بكر الأصم: معناه(2/455)
أن المنافقين كانوا يتواطئون في السر على أنواع كثيرة من المكايد، والرسول كان يخبرهم عنها حالا فحالا. فقيل لهم: إن ذلك لو لم يحصل بإخبار الله تعالى لم يطرد صدقه ولظهر أنواع الاختلاف والتفاوت. وقال أكثر المتكلمين: المراد تجاوب معانيه وتلاؤم مقاصده مع أنه مشتمل على علوم كثيرة وفنون غزيرة، ولو كان من عند غير الله لم يخل من تناقض واضطراب. والذي تظن به التناقض كقوله: لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [الرحمن:
39] مع قوله: لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: 92] أو كقوله: فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ [الشعراء: 32] مع قوله: كَأَنَّها جَانٌّ [القصص: 31] ليس بذاك عند التدبر وملاحظة شروط التناقض من اتحاد الزمان والمكان وغيرهما وقال أبو مسلم: المراد صحة نظمه وكون كله بل كل جزء من أجزائه وأبعاضه بالغا حد الإعجاز. ومن المعلوم أن الإنسان وإن كان في غاية البلاغة ونهاية الفصاحة إذا كتب كتابا طويلا مشتملا على المعاني الكثيرة فلا بد أن يظهر التفاوت في كلامه بحيث يكون بعضه قويا متينا وبعضه سخيفا نازلا، ولما لم يكن القرآن كذلك علمنا أنه معجز من عند الله تعالى. وفي الآية دلالة على وجوب النظر والاستدلال أعني التدبر فيما إليه سبيل. وقال الجبائي: فيها دلالة على أن أفعال العباد غير مخلوقة لله لأن فعل العبد لا ينفك عن التفاوت والاختلاف. والجواب أنه لا يلزم من كون كلامه غير متفاوت ولا مختلف أن لا تكون أفعاله مختلفة بحسب اختلاف المظاهر والقوابل. سلمنا لكن اختلافه وهو كونه غير مطابق للأغراض والمقاصد الإنسانية قد يكون بحسب نظرنا لا بحسب الأمر نفسه. ثم حكى عن المنافقين- وقيل عن ضعفة المسلمين- أنه إذا جاءهم الخبر بأمر من الأمور سواء كان ذلك الأمر من باب الأمن أو من باب الخوف أذاعوا به وأفشوه. يقال: أذاع السر وأذاع به لغتان. ويجوز أن يكون معنى أذاع به فعل به الإذاعة وهو أبلغ. ولا يخفى ما في ذلك الإفشاء من الضرر من جهة أن الإرجاف لا ينفك عن الكذب، ومن جهة أن تلك الزيادات إن كانت في جانب الأمن ولم تقع أورثت شبهة لضعفة المسلمين في صدق الرسول، لأن المنافقين كانوا يروونها عن الرسول، وإن كانت في جانب الخوف حصل اضطراب في الضعفة ووقعوا في الحيرة. وأيضا البحث عن الإرجاف موجب ظهور الأسرار وذلك لا يوافق مصلحة المدينة فربما وصل الخبر إلى الكفار فاستعدوا للقتال أو تحصنوا. وفي معنى الآية أقوال: الأول: ولو ردوا ذلك الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي الأمر- وهم كبار الصحابة البصراء بالأمور أو الذين كانوا يؤمرون منهم- لَعَلِمَهُ لعلم تدبير ما أخبروا به الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ الذين يستخرجون تدبيره بفطنهم وتجاربهم ومعرفتهم بأمور الحرب ومكايدها، وأصل الاستنباط إخراج النبط وهو الماء يخرج من(2/456)
البئر أول ما تحفر فاستعير لاستخراج المعاني. والتدبير الثاني: كانوا يقفون من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولي الأمر على أمن ووثوق بالظهور على بعض الأعداء، أو على خوف واستشعار فيذيعونه فتعود إذاعتهم مفسدة. فقيل لهم: لو فوضوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر وكانوا كأن لم يسمعوا العلم الذين يستنبطون تدبيره كيف يدبرونه وما يأتون ويذرون فيه. الثالث: كانوا يسمعون من أفواه بعض المنافقين شيئا من خبر السرايا غير معلوم الصحة فيذيعونه فقيل لهم: لو سكتوا حتى سمعوه من الرسول وأولي الأمر لعلموا صحته وهل هو مما يذاع أو لا يذاع فالمستنبطون هم المذيعون. ومعنى يستنبطونه منهم يتلقونه من الرسول وأولي الأمر ويستخرجون علمه من جهنم. قالت العلماء: في الآية دلالة على أن القياس حجة لأنهم أمروا أن يرجعوا في معرفة الوقائع إلى أولي الأمر من المستنبطين. فرواية النص لا تكون استنباطا فهو إذن رد واقعة إلى نظيرها وهو القياس. واعترض بأنا لا نسلم أن المستنبطين هم العلماء وأولو الآراء بل هم المذيعون كما في القول الثالث. سلمنا لكن الآية نزلت في الحروب، ولا يلزم من جواز الاستنباط في الوقائع المتعلقة بها جواز الاستنباط في الوقائع الشرعية. فإن قيس أحد البابين على الآخر كان إثباتا للقياس الشرعي بالقياس الشرعي. سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون المراد استخراج الأحكام الشرعية من النصوص الخفية أو من تركيبات النصوص أو بالبراءة الأصلية أو بحكم العقل كما يقول الأكثرون إن الأصل في المنافع الإباحة وفي المضار الحرمة وكل هذه الأمور ليست من القياس الشرعي في شيء؟ سلمنا أن القياس الشرعي داخل في الآية. لكن بشرط كونه مفيدا «للعلم» بدليل قوله لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ ولا نزاع في مثله إنما النزاع في أن القياس المفيد للظن هل هو حجة أم لا. وأجيب بأن صرف المستنبطين إلى المذيعين ليس بالقوي إذ لو كان المراد ذلك لكان الأليق بنظم الكلام أن يقال: ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر لعلموه من غير إقامة المظهر مقام
المضمر. وعن الثاني بأن الأمن أو الخوف عام في كل ما يتعلق بباب التكليف. ولئن سلم أنه مخصوص بأمور الحرب فإذا عرف أحكام الحروب بالقياس الشرعي لزم جواز التمسك به في سائر الوقائع إذ لا قائل بالفرق. ألا ترى أن من قال القياس حجة في باب البيع لا في باب النكاح لم يلتفت إليه؟ وعن الثالث أن شيئا من ذلك لا يسمى استنباطا. وعن الرابع أن العلم قد يراد به الظن الغالب. سلمنا لكن القياس الشرعي عندنا يفيد العلم لأنه مهما غلب على الظن أن حكم الله في الأصل معلل بكذا ثم غلب على الظن أن ذلك المعنى قائم في الفرع، حصل ظن أن حكم الله في الفرع مساو لحكمه في الأصل، وعند هذا الظن نقطع بأنه مكلف بأن يعمل على وفق هذا الظن وهذا معنى قولهم: «الظن واقع في طريق الحكم» والحكم مقطوع به كأنه تعالى قال: مهما(2/457)
غلب على ظنك كذا في الواقعة الفلانية فاعلم قطعا أن حكمي فيها كذا. أما قوله لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلَّا قَلِيلًا فظاهره يقتضي إشكالا وهو أن قليلا من الناس لا يحتاج في عدم اتباع الشيطان إلى فضل الله ورحمته، لكن الاحتياج بالنسبة إلى كل واحد من الناس ثابت بالاتفاق فهذا تناقض. فذكر المفسرون في إزالة التناقض وجوها الأول: أن الاستثناء راجع إلى قوله: أَذاعُوا بِهِ كأنه تعالى أخرج بعض المنافقين من هذه الإذاعة كما أخرجهم في قوله: بَيَّتَ طائِفَةٌ الثاني: أنه عائد إلى قوله: لَعَلِمَهُ يعني لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلّا قليلا. قال الفراء والمبرد: القول الأول أولى لأن ما يعلم بالاستنباط فالأقل يعلمه والأكثر يجهله. وصرف الاستثناء إلى ما ذكروه يقتضي ضد ذلك، قال الزجاج: هذا غلط لأنه لا يراد بهذا الاستنباط ما يستخرج بنظر دقيق وفكر غامض إنما هو استنباط خبر، وإذا كان كذلك فالأكثرون يعرفونه إلّا البالغ في البلادة. والإنصاف أن الاستنباط لو حمل على مجرد تفرق الأخبار والأراجيف فكلام الزجاج الصحيح وإن كان محمولا على استخراج الأحكام الشرعية كما مر فالحق ما ذكره الفراء والمبرد. الثالث: أن الاستثناء مصروف إلى ما يليه كما هو حق النسق لأن الفضل والرحمة مفسران بشيء خاص وفيه وجهان: أحدهما قول جماعة من المفسرين أن المراد إنزال القرآن وبعثة محمد والتقدير: لولا بعثة محمد وإنزال القرآن لا تبعتم الشيطان ولكفرتم بالله إلّا القليل منكم فإن ذلك القليل بتقدير عدم بعثة محمد ما كان يكفر بالله وهم مثل قس بن ساعدة وورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل، كانوا مؤمنين بالله قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم. وثانيهما قول أبي مسلم أن المراد بالفضل والرحمة هاهنا نصرته تعالى ومعونته اللذان تمناهما المنافقون بقولهم: فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً [النساء:
73] والتقدير: لولا حصول النصر والظفر على سبيل التتابع لتركتم الدين إلّا القليل منكم وهم أهل البصائر والعزائم، ومن أفاضل المؤمنين الذين يعلمون أنه ليس من شرط كونه حقا حصول الدولة في الدنيا، فلا تواتر الفتح والظفر يدل على كونه حقا، ولا انقطاع النصر والغلبة يدل على كونه باطلا، بل الأمر في كونه حقا وباطلا مبني على الدليل وهذا أحسن الوجوه. قوله: فَقاتِلْ قيل: إنه جواب لقوله: وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ [النساء: 74] كأنه تعالى قال: إن أردت الفوز فقاتل. وقيل: إنه متصل بمعنى ما ذكر من قصص المنافقين كذا وكذا فلا تعتد بهم ولا تلتفت إليهم بل قاتل فإنك لا تؤاخذ إلّا بفعلك، فإذا أديت فرضك لم تكلف فرض غيرك، ويعلم من قوله: وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أن الواجب على الرسول إنما هو الجهاد وتحريض الناس على الجهاد أي الحث والإحماء عليه، فإذا أتى بالأمرين فقد خرج عن عهدة التكليف وليس عليه من كون غيره تاركا شيء. واعلم أن الجهاد في حق غير الرسول من فروض الكفايات، فما لم يغلب على الظن أنه مفيد لم يجب(2/458)
بخلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه على ثقة من النصر والظفر بدليل قوله: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67] وبدليل قوله هاهنا: عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وعسى من الله جزم لأن الرجاء عليه محال فهو إطماع وإطماع الكريم إيجاب فلزمه الجهاد وإن كان وحده فلا جرم
أنه صلى الله عليه وسلم قال في بدر الصغرى: «لأخرجن وحدي»
فخرج وتبعه سبعون راكبا، ولو لم يتبعه أحد لخرج وحده، ثم إنه تعالى كف بأس المشركين وألقى الرعب في قلوب أبي سفيان وأصحابه حتى ندموا وترك الحرب في تلك السنة. وفي الآية دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان أشجع الخلق لأنه تعالى لم يأمره بالقتال وحده إلّا أنه كذلك. وقيل: اقتدى به أبو بكر حيث حاول الخروج وحده إلى قتال مانعي الزكاة ومن عرف أن الأمر كله بيد الله وأنه لا يحدث شيء إلّا بقضاء الله سهل عليه الفوت وكان بمعزل عن تقية الموت. وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من قريش وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا لأن عذاب الله دائم وعذاب غيره غير دائم، وعذاب غير الله يخلصه الله عنه وعذاب الله لا يقدر أحد على تخليصه منه، وعذاب غير الله يكون من وجه واحد وعذاب الله يصل إلى جميع الأبعاض والأجزاء ويشمل الروح والجسم فهذا طرف من الفرق والله أعلم بكنه عذابه ونعوذ بالله من عقابه.
قوله سبحانه: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً وجه نظمه يعرف من تفسيره وذلك أنه قيل:
المراد منه تحريض النبي صلى الله عليه وسلم إياهم على الجهاد، لأنه إذا كان يأمرهم بالغزو فقد جعل نفسه شفيعا لهم في تحصيل الأغراض المتعلقة بالجهاد. وأيضا التحريض وهو الحث على سبيل الرفق والتلطف والتهديد جار مجرى الشفاعة. وقيل: كان بعض المنافقين يشفع لمنافق آخر فى أن يأذن له الرسول في التخلف عن الجهاد، وكان بعض المؤمنين يشفع لمؤمن آخر عند مؤمن ثالث أن يحصل له عدّة الجهاد فنزلت. ونقل الواحدي عن ابن عباس أن الشفاعة الحسنة هاهنا هي أن يشفع إيمانه بالله بقتال الكفار، والشفاعة السيئة أن يشفع كفره بالله بمحبة الكفار وترك إيذائهم. وقال مقاتل: الشفاعة إلى الله إنما هي دعوة الله المسلم لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له وقال له الملك ولك مثل ذلك» «1»
فذلك النصيب والدعوة على المسلم بضد ذلك. وقال الحسن ومجاهد والكلبي وابن زيد: هي مطلق الشفاعة والحسنة منها هي التي بها روعي حق مسلم ودفع بها عنه شر أو جلب إليه خير وابتغى بها وجه الله ولم يؤخذ عليها رشوة وكانت في أمر حائز لا في حد من حدود الله ولا في إبطال حق من الحقوق، والسيئة ما كان بخلاف ذلك، وعلى هذا فوجه النظم أن التحريض على الجهاد بعث على الفعل الحسن وأنه نوع شفاعة كما مر في القول
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب البر باب 50. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 5.(2/459)
الأول. وعن مسروق أنه شفع شفاعة فأهدى إليه المشفوع له جارية فغضب وردها وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك ولا أتكلم فيما بقي منها. قال أهل اللغة: الكفل أيضا النصيب فهل لاختلاف اللفظين فائدة؟ فأجيب بأن الكفل اسم للنصيب الذي يكون عليه اعتماد الإنسان ومنه يقال «كفل البعير واكتفله» إذا أدار حول سنامه كساء وركب.
والكفيل الضامن لأن الغريم اعتمد عليه. والتقدير من يشفع شفاعة سيئة يكن له منها نصيب يعتمد عليه ويكون له ذخيرة في معاشه ومعاده والغرض التهكم وحصول ضد ذلك مثل:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [آل عمران: 21] وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً أي مقتدرا وحفيظا. واشتقاقه من القوت لأنه يمسك النفس ويحفظها. والغرض أنه قادر على كل المقدورات حفيظ لجميع المعلومات فيجازي كل شافع بما يليق بحاله، ثم لما أمر المؤمنين بالجهاد أمرهم أيضا بأن الأعداء لو رضوا بالمسالمة أو ألقوا في المبارزة بالسلم فقابلوهم بالإكرام وأيضا السلام دعاء بالسلامة والدعاء نوع من الشفاعة والتحية تفعلة من الحياة ويجيء الناقص من باب التفعيل على «تفعلة» مثل: تسلية وتعزية. لكنه أدغم هاهنا لاجتماع المثلين. وكانت العرب تقول عند التلاقي حياك الله. دعاء له بالحياة فأبدل الله ذلك بالسلام، ولعمري إن هذا أحسن لأن الحياة إن لم تكن مقرونة بالسلامة لم يعتد بها بل لعل الموت خير منها، ولأن السلام اسم من أسماء الله تعالى فالابتداء به أولى، ولأن دفع الضرر أهم من جلب النفع وقد سلم الله عليك يا مؤمن في اثني عشر موضعا في الأزل ولهذا سمى نفسه بالسلام، وعلى لسان نوح: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ [هود: 48] والمراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسلم عليك على لسان جبريل: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ [القدر: 5] قال المفسرون إنه خاف على أمته أن يصيروا مثل أمة موسى وعيسى فقال الله تعالى: لا تهتم بذلك فإني وإن أخرجتك من الدنيا إلّا إني جعلت جبرائيل خليفة لك ينزل إلى أمتك كل ليلة قدر ويبلغهم السلام مني. وسلم عليك على لسان موسى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] وسلم عليك على لسان محمد صلى الله عليه وسلم: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النمل: 59] وأمر محمدا صلى الله عليه وسلم بالسلام عليك: وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الأنعام:
54] وأمر المؤمنين بالسلام عليك: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها وسلم عليك على لسان ملك الموت: الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [النحل:
32] قيل: إن ملك الموت يسلم في أذن المسلم: السلام يقرئك السلام ويقول: أجبني فإني مشتاق إليك واشتاقت الجنات والحور العين إليك، فإذا سمع المؤمن البشارة يقول لملك(2/460)
الموت: لا هدية أعز من روحي فاقبض روحي هدية لك. وسلم عليك من الأرواح الطاهرة:
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة: 91] وسلم عليك على لسان خزنة الجنة: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [الزمر: 73] وسلم عليك على لسان الملائكة في الجنة: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ [الرعد: 24] وسلم عليك على لسان أهل الجنة:
تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب: 44] وسلم عليك إلى الأبد: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: 58] ولما أراد إكرام يحيى عليه السلام وعده بالسلام في مواطن ثلاثة هي أشد الأوقات حاجة إلى السلام فقال: وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا
[مريم: 15] ولما ذكر تعظيم محمد صلى الله عليه وسلم قال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب: 56]
وعن عبد الله بن سلام قال: لما سمعت بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت في غمار الناس فأول ما سمعت عنه: «يا أيها الناس أفشوا السلام وأطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلّوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام» «1»
وكانت تحية النصارى وضع اليد على الفم، وتحية اليهود الإشارة بالأصابع، وتحية المجوس الانحناء، وتحية الجاهلية «حياك الله» ، وتحيتهم للملوك «أنعم صباحا» فشتان ما بين تحياتهم وتحيتنا «السلام عليك ورحمة الله وبركاته» وفي هذا دليل على أن هذا الدين أشرف الأديان وأكملها. ومما يدل على فضيلة السلام عقلا أن الوعد بالنفع قد يقدر الإنسان على الوفاء به وقد لا يقدر، وأما الوعد بترك الضرر فإنه يقدر عليه لا محالة والسلام يدل عليه فهو أفضل أنواع التحية. قال بعض العلماء: فمن دخل بيتا وجب عليه أن يسلم على الحاضرين لقوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [النور: 61]
وقال صلى الله عليه وسلم: «أفشوا السلام»
والأمر للوجوب، ولأن السلام بشارة بالسلامة وإزالة الضرر وهو واجب
لقوله: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» «2»
ولأنه من شعائر الإسلام وإظهار شعائر الإسلام واجب. وعن ابن عباس والنخعي وأكثر العلماء أن السلام سنة. وأما الجواب فواجب بالإجماع لأن ترك الجواب إهانة والإهانة ضرر والضرر حرام ولقوله تعالى: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها وظاهر الأمر الوجوب وعن ابن عباس: ما من
__________
(1) رواه الدارمي في كتاب الصلاة باب 156. أحمد في مسنده (5/ 451) .
(2) رواه البخاري في كتاب الإيمان باب 4، 5. مسلم في كتاب الإيمان حديث 64. أبو داود في كتاب الجهاد باب 2. الترمذي في كتاب القيامة باب 52. النسائي في كتاب الإيمان باب 8، 9. الدارمي في كتاب الرقاق باب 4، 8. أحمد في مسنده (2/ 160، 162) ، (6/ 21) .(2/461)
رجل يمر على قوم مسلمين فيسلم عليهم ولا يردون عليه إلّا نزع عنهم روح القدس وردت عليه الملائكة. قال العلماء: الأحسن أن يزيد في جواب السلام الرحمة، وإن ذكر في الابتداء السلام والرحمة زاد في جوابه البركة، وإن ذكر المجموع أعادها فقط فإن منتهى الأمر في السلام أن يقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لأن هذا القدر هو الوارد في التشهد.
وروي أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: السلام عليك يا رسول الله. فقال: وعليك السلام ورحمة الله، وقال آخر: السلام عليك ورحمة الله. فقال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته. وجاء ثالث وقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته. فقال: وعليك فقال: نقصتني فأين قول الله: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها فقال: إنك لم تترك لي فضلا فرددت عليك مثله.
فقوله تعالى: أَوْ رُدُّوها أي أجيبوها بمثلها، ورد السلام كرّة ورجعة إما إشارة إلى هذه الصورة وإما إلى التخيير بين الزيادة وتركها، ورد الجواب فرض على الكفاية إذا قام به بعض سقط عن الباقين. والأولى أن يقوم به الكل إكثارا للإكرام، والأحسن أن يدخل حرف العطف فيقول: وعليكم السلام. وهو واجب على الفور بقدر ما يعهد بين الإيجاب والقبول في العقود فإن أخر عن ذلك كان ابتداء سلام لا جوابا وإذا ورد عليه سلام في كتاب فجوابه بالكتابة أيضا واجب لقوله: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا ومن قال لآخر أقرئ فلانا عني السلام وجب عليه أن يفعل. قال العلماء: المبتدئ يقول السلام عليكم والمجيب يقول:
وعليكم السلام ليقع الابتداء والاختتام بذكر الله. فإن خالف المبتدئ فليكن الاختتام بحاله. ويجوز «سلام عليكم» بل قالوا إنه أولى من المعرف لأن المنكر في القرآن أكثر، وإن المنكر ورد من الله والملائكة والمؤمنين، والمعرف ورد في تسليم الإنسان على نفسه، قال موسى: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [طه: 47] وقال عيسى: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ [مريم: 33] وأيضا المعرف يدل على أصل الماهية والمنكر على الماهية مع وصف الكمال. ومن السنة أن يسلم الراكب لزيادة هيبته على الماشي، وراكب الفرس على راكب الحمار، والصغير على الكبير، والأقل على الأكثر احتراما للجماعة، والقائم على القاعد لأنه الواصل إليه لأن القائم أهيب ومن السنة الجهر بالسلام لأنه أقوى في إدخال السرور في القلب. ومنها الابتداء به إظهارا للتواضع، ومنها الإفشاء والتعميم لأن التخصيص إيحاش، والمصافحة عند السلام عادة النبي صلى الله عليه وسلم
قال: «إذا تصافح المسلمان تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر» «1»
ومن استقبله رجل واحد فليقل: سلام عليكم وليقصد الرجل والملكين لأنه إذا سلم عليهما ردا السلام عليه، ومن سلم الملك عليه فقد سلم من عذاب
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب 142. [.....](2/462)
الله، ومن دخل بيتا خاليا فليسلم ويكون كأنه سلام من الله على نفسه، أو سلام على من فيه من مؤمني الجن، أو طلب السلامة ببركة اسم السلام ممن في البيت من الشياطين والمؤذيات. ولو قال: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين كان حسنا. ومن السنة أن يكون المبتدئ بالسلام على الطهارة وكذا المجيب.
روي أن واحدا سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قضاء الحاجة فقام وتيمم ثم رد الجواب.
وإذا دخل يوم الجمعة والإمام يخطب فلا ينبغي أن يسلم لاشتغال الناس بالاستماع، فإن سلم ورد بعضهم فلا بأس، ولو اقتصروا على الإشارة كان أحسن. ومن دخل الحمام فرأى الناس متزرين سلم عليهم فإن لم يكونوا متزرين لم يسلم عليهم. والأولى ترك السلام على القارئ كيلا يقطع عليه القراءة باشتغاله بالجواب، وكذا القول فيمن كان مشتغلا برواية الحديث ومذاكرة العلم أو بالأذان أو الإقامة. ولا يسلم على المشغول بالأكل هكذا أطلق وحمله بعضهم على ما إذا كانت اللقمة في فيه. ولا يسلم على قاضي الحاجة قال أبو يوسف: ولا على لاعب النرد ولا على المغني ومطير الحمام وكل من كان مشتغلا بنوع معصية، ولا مانع من السلام على من هو في مساومة أو معاملة. وإذا دخل الرجل بيته سلم على امرأته فإن حضرت أجنبية هناك لم يسلم عليها، وإذا سلمت الأجنبية عليه وكان يخاف في رد الجواب عليها تهمة أو فتنة لم يجب الرد بل الأولى أن لا يفعل. وحيث قلنا لا يسلم فلو سلم لم يجب عليها الرد لأنه أتى بفعل منهي عنه فكان وجوده كعدمه.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يبتدأ اليهودي بالسلام» «1»
وعن أبي حنيفة أنه قال: لا تبتدئه بسلام في كتاب ولا في غيره. وعن أبي يوسف: لا تسلم عليهم ولا تصافحهم وإذا دخلت فقل: السلام على من اتبع الهدى. ولا بأس في الدعاء له بما يصلحه في دنياه، ورخص بعض العلماء في ابتداء السلام عليهم إذا دعت إلى ذلك حاجة، أما إذا سلموا علينا فقال أكثر العلماء ينبغي أن نقول: وعليك لما روي أن اليهود تقول للمسلمين: السام عليكم، وعن الحسن: يجوز أن يقول للكافر وعليك السلام ولا يقل:
ورحمة الله. لأنها استغفار. وعن الشعبي أنه قال لنصراني سلم عليه عليك السلام ورحمة الله فقيل له في ذلك؟ فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ واعلم أن مذهب أبي حنيفة أن من وهب لغير ذي رحم محرم فله الرجوع فيها ما لم يثب منها، فإذا أثيب منها فلا رجوع له فيها. وقال الشافعي: له الرجوع في حق الولد وليس له الرجوع في حق الأجنبي. واحتج لأبي حنيفة بالآية وذلك أن التحية تشمل جميع أنواع الإكرام فتشمل الهبة ومقتضاها وجوب
__________
(1) رواه مسلم في كتاب السلام حديث 14. أبو داود في كتاب الأدب باب 138. الترمذي في كتاب الاستئذان باب 12. ابن ماجه في كتاب الأدب باب 13. أحمد في مسنده (2/ 263، 266) .(2/463)
الرد إذا لم يصر مقابلا بالأحسن، فإذا لم يثبت الوجوب فلا أقل من الجواز، وقال الشافعي: هذا الأمر محمول على الندب بدليل أنه لو أثيب بما هو أقل منه سقطت مكنة الرد بالإجماع مع أن ظاهر الآية يقتضي أن يثاب بالأحسن. ثم احتج الشافعي على قوله بما
روي عن ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لرجل أن يعطي عطية أو يهب هبة فيرجع فيها إلّا الوالد فيما يعطي ولده» «1»
إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً فيحاسبكم على محافظة حقوق التحية وغيرها، فكونوا على حذر من مخالفته. ثم أكد الوعيد بقوله: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ فالأول توحيد والثاني عدل كأنه تعالى يقول: من سلم عليكم وحياكم فاقبلوا سلامه وأكرموه وعاملوه بناء على الظاهر فإن البواطن إنما يعرفها الله الذي لا اله إلّا هو، وإنما تنكشف بواطن الخلق للخلق في يوم القيامة الذي يجمع فيه الأولون والآخرون للجزاء والحساب. وقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إما خبر المبتدأ وإما اعتراض والخبر: لَيَجْمَعَنَّكُمْ والتقدير الله والله ليجمعنكم إلى يوم القيامة أي ليضمنكم إليه ويجمعن بينكم وبينه بأن يبعثكم فيه، والقيامة والقيام كالطلابة والطلاب وهي قيامهم من القبور أو قيامهم للحساب. قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [المطففين: 6] وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً استفهام على سبيل الإنكار، وذلك أن الصدق من صفات الكمال والكمال للواجب أولى وأحق وأقدم وأتم من غيره، والمعتزلة نفوا عنه الكذب بناء على أنه قبيح، ومن كذب لم يكذب إلّا لأنه محتاج إلى أن يكذب لجر منفعة أو دفع مضرة، أو هو غني عنه إلّا أنه يجهل غناه أو هو جاهل بقبحه، أو هو سفيه لا يفرق بين الصدق والكذب في إخباره ولا يبالي بأيهما نطق، وربما كان الكذب أحلى على حنكه من الصدق، وكل هذه الأمور من الحكيم قبيح يجب تنزيهه عنها، واعلم أن المسائل الأصولية قسمان منها ما العلم بصحة النبوة يحتاج إلى العلم بصحته كعلمنا بافتقار العالم إلى صانع عالم بكل المعلومات قادر على كل الممكنات، فهذا القسم يمتنع إثباته بالقرآن والخبر وإلّا وقع الدور. ومنها غير ذلك كإثبات الحشر والنشر فإنه يمكن إثباته بالقرآن والحديث فاعلم.
ثم عاد إلى حكاية أحوال المنافقين فقال: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وهو منصوب على الحال والعامل معنوي مثل: ما لك قائما أي ما تصنع؟ وقيل: نصب على أنه خبر «كان» أي ما لكم كنتم في شأن المنافقين فئتين؟ استفهام على سبيل الإنكار أي لا تختلفوا في كفرهم ولكن اقطعوا بنفاقهم فقد ظهرت دلائل ذلك وانكشفت جلية الحال.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الهبة باب 30. النسائي في كتاب الهبة باب 1. ابن ماجه في كتاب الهبات باب 2. أحمد في مسنده (2/ 182) .(2/464)
وذلك أنها نزلت في قوم من العرب أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأسلموا وأصابوا وباء المدينة وحماها فقالوا: يا رسول الله نريد أن نخرج إلى الصحراء فأذن لنا فيه فأذن لهم. فلما خرجوا لم يزالوا يرحلون مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين. فتكلم المؤمنون فيهم فقال بعضهم: نافقوا. وقال بعضهم: هم مسلمون. فبين الله نفاقهم. وقال مجاهد وقتادة: هم قوم هاجروا من مكة ثم بدا لهم فرجعوا وكتبوا إنا على دينك وما أخرجنا إلا اجتواء المدينة والاشتياق إلى بلدنا. وعن زيد بن ثابت: هم الذين تخلفوا يوم أحد وقالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم. وطعن بعضهم في هذا القول بأن نسق الكلام وهو قوله: حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ يأباه إذ الهجرة تكون من مكة إلى المدينة. وعن عكرمة: هم قوم أخذوا أموال المشركين وانطلقوا بها إلى اليمامة. وقيل: هم العرنيون الذين أغاروا على السرح وقتلوا يسارا مولى النبي صلى الله عليه وسلم. وقال ابن زيد: نزلت في أهل الإفك. قال الحسن: سماهم المنافقين وإن أظهروا الكفر باعتبار حالهم التي كانوا عليها. وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ الركس والإركاس رد الشيء مقلوبا. ويقال للرفث الركس لأنه رد إلى حالة خسيسة وهي حال النجاسة ويسمى رجيعا أيضا لذلك والمراد ردهم إلى أحكام الكفار من الذل والصغار والسبي والقتل بِما كَسَبُوا أي بما أظهروا من الارتداد بعد ما كانوا على النفاق وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا لأن المخلوق لا يقدر على تبديل خلق الخالق وعلى خلاف مقتضى إرادته ومشيئته.
وهذا ظاهر في المقصود. والمعتزلة يقولون: قوله: أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أي بسبب كسبهم وفعلهم ينفي القول بأن ضلالهم حصل بخلق الله فإذن المراد من إضلال الله حكمه بضلالهم كما يقال: فلان يكفر فلانا أي ينسبه إلى الكفر ويحكم عليه بذلك. أو المراد إضلالهم عن طريق الجنة وهو مفسر بمنع الألطاف. ثم ذكر أنهم بالغوا في الكفر إلى أن تمنوا أن تصيروا كفارا فكيف تطمعون في إيمانهم وهو قوله: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً أي في الكفر. والمراد فتكونون أنتم وهم سواء إلّا أنه اكتفى بذكر المخاطبين عن ذكر غيرهم لتقدم ذكرهم. وقوله: فَتَكُونُونَ عطف على تَكْفُرُونَ.
فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا أي حتى يضموا إلى إيمانهم المهاجرة الصحيحة المعتمدة وهي الهجرة في سبيل الله لا لغرض من الأغراض الفانية مثل
قوله صلى الله عليه وسلم: «أنا بريء من كل مسلم قام بين أظهر المشركين وأنا بريء من كل مسلم مع مشرك» «1» .
وكانت الهجرة واجبة إلى أن فتحت مكة.
عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة «لا هجرة
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الجهاد باب 95. النسائي في كتاب القسامة باب 27.(2/465)
بعد الفتح ولكن جهاد ونية» «1» .
وعن الحسن: إن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة إلى دار الإسلام قائما. قال المحققون: الهجرة في سبيل الله تشمل الانتقال من دار الكفر إلى دار الإيمان، والانتقال من أعمال الكفار إلى أعمال المسلمين بل هذا أقدم وأهم
لقوله صلى الله عليه وسلم: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» .
فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان المظاهر بالهجرة الصحيحة فحكمهم حكم سائر المشركين فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في الحل أو في الحرم وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ في هذه الحالة وَلِيًّا يتولى شيئا من مهماتكم وَلا نَصِيراً ينصركم على أعدائكم بل جانبوهم مجانبة كلية. ثم لما أمر بقتل هؤلاء الكفار استثنى عنه موضعين: الأول إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ أي ينتهون ويتصلون إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ والمعنى أن من دخل في عهد من كان داخلا في عهدكم فهم أيضا داخلون في عهدكم. قال القفال: وقد يدخل في الآية أن يقصد قوم حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فيتعذر عليهم ذلك المطلوب فيلتجئوا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد إلى أن يجدوا السبيل إليه. والقوم هم الأسلميون وذلك أنه صلى الله عليه وسلم وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عويمر الأسلمي على أن لا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أن من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله من الجوار مثل الذي لهلال. وقال ابن عباس: هم بنو بكر بن زيد مناة كانوا في الصلح.
وقال مقاتل: هم خزاعة وخزيمة. وهاهنا نكتة وهي أنه تعالى رفع السيف عمن التجأ إلى الكفار المصالحين فلأن يدفع النار عمن التجأ إلى محبة الله ومحبة رسوله كان أولى. وعن أبي عبيدة: المراد بالوصلة الانتساب. يقال: وصلت إلى فلان واتصلت به إذا انتهيت إليه.
واعترض عليه بأن أهل مكة أكثرهم كانوا متصلين بالرسول صلى الله عليه وسلم من جهة النسب مع أنه كان قد أباح دم الكفار منهم. الاستثناء الثاني قوله: أَوْ جاؤُكُمْ وفي العطف وجهان: أحدهما أن يكون معطوفا على صفة قوم والمعنى إلا الذين يصلون إلى قوم معاهدين أو إلى قوم جاؤوكم ممسكين عن القتال لا لكم ولا عليكم. وثانيهما العطف على صلة الذين كأنه قيل:
الذين يتصلون بالمعاهد أو إلى الذين لا يقاتلونكم وهذا أنسب بقوله في صفتهم فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ إلى آخر الآية. إذ بين أن كفهم عن القتال سبب استحقاقهم لنفي التعرض لهم بالاستقلال لا بواسطة الاتصال. ومعنى حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ ضاقت.
والحصر الضيق والانقباض وهو في موضع الحال بإضمار «قد» بدلالة قراءة من قرأ
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الصيد باب 10. مسلم في كتاب الإمارة حديث 86. الترمذي في كتاب السير باب 33. النسائي في كتاب البيعة باب 15. ابن ماجه في كتاب الكفارات باب 12. الدارمي في كتاب السير باب 69. أحمد في مسنده (1/ 226، 355) .(2/466)
حصرة. وجعله المبرد صفة لموصوف محذوف منصوب على الحال أي جاؤوكم قوما حصرت. وقيل: هو بيان لجاؤوكم. وقوله: أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أي عن أن يقاتلوكم. ثم هؤلاء الجاؤون من الكفار أو من المؤمنين قال الجمهور: هم من الكفار بنو مدلج جاؤا رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مقاتلين. وعلى هذا يلزم النسخ لأن الكافر وإن ترك القتال جاز قتله، وقال أبو مسلم: إنه تعالى لما أوجب الهجرة على كل من أسلم استثنى من له عذر وهما طائفتان: إحداهما الذين قصدوا الرسول صلى الله عليه وسلم للهجرة والنصرة إلّا أنه كان في طريفهم كفار غالبون فصاروا إلى قوم بينهم وبين المسلمين عهد وأقاموا عندهم إلى أن يمكنهم الخلاص.
والثانية من صار إلى الرسول ولا يقاتل الرسول ولا أصحابه لأنه يخاف الله فيه، ولا يقاتل الكفار أيضا لأنهم أقاربه أو لأنه بقي أولاده وأزواجه بينهم فيخاف لو قاتلهم أن يقتلوا أولاده وأصحابه. فهذان الفريقان من المشركين لا يحل قتالهم وإن كان لم يوجد منهم الهجرة ومقاتلة الكفار، وعلى هذا فمعنى قوله: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ أي لو شاء لقوّى قلوبهم ليدفعوا عن أنفسهم إن أقدمتم على مقاتلتهم على سبيل الظلم. وعلى الأول معناه أن ضيق صدورهم عن قتالكم لأن الله قذف الرعب في قلوبهم، ولو قوّى قلوبهم لتسلطوا عليكم ولقاتلوكم وهو جواب «لو» على التكرير أو البدل. قال الكعبي: إنه تعالى أخبر أنه لو شاء لفعل وهذا ينبىء عن القدرة على الظلم وهو صحيح عندنا ولا يدل على أنه فعل الظلم وأراده والنزاع فيه فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ أي فإن لم يتعرضوا لكم وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ أي الانقياد والاستسلام فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فما أذن لكم في أخذهم وقتلهم سَتَجِدُونَ آخَرِينَ هم قوم من أسد وغطفان كانوا إذا أتوا المدينة أسلموا وعاهدوا ليأمنوا المسلمين فإذا رجعوا إلى قومهم كفروا ونكثوا عهودهم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ كلما دعاهم قومهم إلى قتال المسلمين أُرْكِسُوا فِيها أي ردوا مقلوبين منكوسين فيها. وهذه استعارة لشدة إصرارهم على الكفر وعداوة المسلمين، لأن من وقع في حفر منكوسا تعذر خروجه فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا أي ولم يلقوا ولم يكفوا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ حيث تمكنتم منهم. قال الأكثرون: وفيه دليل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن إيذائنا لم يجز لنا قتالهم. ولا قتلهم. وهذا مبني على أن المعلق بكلمة «إن» على الشرط يعدم عند الشرط. أما قوله: سُلْطاناً فمعناه حجة واضحة لانكشاف حالهم في الكفر والغدر، أو تسلط ظاهر حيث أذنا لكم في قتلهم.(2/467)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
[سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 101]
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)
القراآت:
فتثبتوا من التثبت وكذلك في الحجرات: حمزة وعلي وخلف. والباقون فَتَبَيَّنُوا من التبين السلم مقصورا: أبو جعفر ونافع وابن عامر وحمزة وخلف والمفضل وسهل. الباقون بالألف. غَيْرُ بالنصب: أبو جعفر ونافع وابن عامر وعلي وخلف. الباقون غَيْرُ بالرفع الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ مشددة التاء: البزي وابن فليح.
الوقوف:
إِلَّا خَطَأً ج يَصَّدَّقُوا ط لابتداء حكم آخر. مُؤْمِنَةٍ ط لذلك مُؤْمِنَةٍ ج مُتَتابِعَيْنِ ز لاحتمال كون تَوْبَةً مصدرا لفعل محذوف والأوجه كونه مفعولا له. مِنَ اللَّهِ ط حَكِيماً هـ عَظِيماً هـ مُؤْمِناً ج لأن ما بعده يصلح حالا واستفهاما الدُّنْيا ز لانقطاع النظم مع اتصال الفاء. كَثِيرَةٌ ط فَتَبَيَّنُوا ط خَبِيراً هـ وَأَنْفُسِهِمْ الأول ط دَرَجَةً ط الْحُسْنى ط عَظِيماً هـ لا لأن ما بعده بدل(2/468)
وَرَحْمَةً ط رَحِيماً هـ فِيمَ كُنْتُمْ ط فِي الْأَرْضِ ط فَتُهاجِرُوا فِيها ط لتناهي الاستفهام بجوابه. جَهَنَّمُ ط مَصِيراً هـ للاستثناء. سَبِيلًا هـ لا عَنْهُمْ ط غَفُوراً هـ وَسَعَةً ط عَلَى اللَّهِ ط رَحِيماً هـ مِنَ الصَّلاةِ ق والأصح أن شرط تغليب في حال المسافر كَفَرُوا ط مُبِيناً هـ.
التفسير:
لما لم يكن بد في مجاهدة الكفار من أنه قد يتفق أن يرى الرجل رجلا يظنه كافرا حربيا فيقتله ثم يتبين أنه كان مسلما، ذكر الله تعالى حكم هذه الواقعة وأمثالها في هذه الآيات. أما سبب النزول
فقد روى عروة بن الزبير أن حذيفة بن اليمان قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فأخطأ المسلمون وظنوا أن أباه اليمان واحد من الكفار فضربوه بأسيافهم وحذيفة يقول: إنه أبي فلم يفهموا قوله إلّا بعد أن قتلوه. فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين. فلما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك زاد وقع حذيفة عنده ونزلت الآية.
وقيل: نزلت في أبي الدرداء وذلك أنه كان في سرية فعدل إلى شعب لحاجة له فوجد رجلا في غنم له فحمل عليه بالسيف، فقال الرجل: لا إله إلّا الله فقتله وساق غنمه. ثم وجد في نفسه شيئا فذكر الواقعة للرسول صلى الله عليه وسلم فقال: هلا شققت عن قلبه؟ وندم أبو الدرداء.
والذي عليه أكثر المفسرين ما
ذكره الكلبي أن عياش بن أبي ربيعة المخزومي أسلم وخاف أن يظهر إسلامه فخرج هاربا إلى المدينة وذلك قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمها، ثم أتى أطما من آطامها فتحصن فيه فجزعت أمه جزعا شديدا وأقسمت لا تأكل ولا تشرب ولا يؤويها سقف حتى يرجع. فخرج أبو جهل ومعه الحرث بن زيد بن أبي أنيسة وكان أبو جهل أخا عياش لأمه، فأتياه وهو في الأطم فقالا: انزل فإن أمك لم يؤوها سقف بيت بعدك، وحلفت لا تأكل طعاما ولا شرابا حتى ترجع إليها، ولم يزل يفتل منه أبو جهل في الذروة والغارب ويقول: أليس محمد يحثك على صلة الرحم؟ انصرف وبرّ بأمك وأنت على دينك حتى نزل فذهب معهما. فلما أخرجاه من المدينة أو ثقاه بنسعة وجلده كل منهما مائة جلدة ثم قدما به على أمه فقالت: والله ما أحلك من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به. ثم تركوه موثقا في الشمس فأعطاهم بعض الذي أرادوا، فأتاه الحرث بن زيد وقال: يا عياش، والله لئن كان الذي كنت عليه هدى لقد تركت الهدى، وإن كان ضلالة فقد دخلت الآن فيه. فغضب عياش من مقالته وقال له: هذا أخي- يعني أبا جهل- فمن أنت يا حارث؟ لله عليّ، إن وجدتك خاليا أن أقتلك. ثم إن عياشا أسلم بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهاجر إلى المدينة وأسلم الحرث بعده وهاجر وليس عياش يومئذ حاضرا ولم يشعر بإسلامه، فبينما هو يسير بظهر قباء إذ لقي الحرث بن زيد، فلما رآه حمل عليه فقتله فقال الناس: أي شيء صنعت؟ إنه قد أسلم. فرجع عياش إلى(2/469)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كان من أمري وأمر الحرث ما علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت
وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أي ما صح له ولا استقام، أو ما كان له فيما أتاه من ربه وعهد إليه، أو ما كان له في شيء من الأزمنة ذلك. والغرض بيان أن حرمة القتل كانت ثابتة من أول زمان التكليف إِلَّا خَطَأً إلّا لهذا العذر وبهذا السبب فيكون مفعولا له، أو إلّا في حال الخطأ أو إلّا قتلا خطأ. قال أبو هاشم- وهو أحد رؤساء المعتزلة-: التقدير، وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا فيبقى مؤمنا إلا أن يقتله خطأ فيبقى حينئذ مؤمنا. وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ فعليه إعتاق رَقَبَةٍ أي نسمة مؤمنة. والحر العتيق الكريم لأنّ الكرم في الأحرار كما أن اللؤم في العبيد ومنه غتاق الخيل والطير لكرامها، وحر الوجه أكرم موضع منه. وعبر عن النسمة بالرقبة كما عبر عنها بالرأس في قولهم: «فلان يملك كذا رأسا من الرقيق» . وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ الدية من الودي كالشية من الوشي. والأصل ودية وهي مخصوصة ببدل النفس دون سائر المتلفات، وقد تستعمل في بدل الأطراف والأعضاء والمراد بالأهل الورثة إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أي يتصدقوا فأدغمت التاء في الصاد. والتصدق الإعطاء والمراد هاهنا العفو ومحله النصب على الظرف أو الحال والعامل. مُسَلَّمَةٌ أو عليه كأنه قيل: يجب عليه الدية أو يسلمها إلّا زمان التصدق أو إلّا متصدقين. وهاهنا مسائل: الأولى القتل على ثلاثة أقسام: عمد وخطأ وشبه عمد. أما العمد فهو أن يقصد قتله بالسبب الذي يعلم إفضاءه إلى الموت سواء كان جارحا أو لم يكن. وأما الخطأ فضربان:
أحدهما أن يقصد رمي مشرك أو طائر فأصاب مسلما، والثاني أن يظنه مشركا بأن كان عليه شعار الكفار. فالأول خطأ في الفعل، والثاني خطأ في القصد. وأما شبه العمد فهو أن يضربه مثلا بعصا خفيفة لا تقتل غالبا فيموت منه فهذا خطأ في القتل وإن كان عمدا في الضرب. الثانية قال أبو حنيفة: القتل بالمثقل ليس بعمد محض بل هو خطأ أو شبه عمد فيكون داخلا تحت الآية فيجب في الآية والكفارة ولا يجب فيه القصاص. وقال الشافعي:
إنه عمد محض يجب فيه القصاص حجة الشافعي أنه قتل عمد عدوان أما إنه قتل فبقوله تعالى لموسى: وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ [طه: 40] يعني القبطي إذ وكزه موسى فقضى عليه. وأما أنه عمد عدوان فظاهر لأن من ضرب رأس الإنسان بحجر الرحى أو صلبه أو غرقه أو خنقه ثم قال ما قصدت قتله عد ما جنا، وإذا ثبت أنه قتل عمد عدوان فهو يوجب القصاص لقوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة: 178] وأن المقصود أن شرع القصاص صون الأرواح عن الإهدار والإهدار في المثقل كهو في المحدد، والعلم الضروري حاصل بأن التفاوت في آلة الإهدار غير معتبر. حجة أبي حنيفة
قوله صلى الله عليه وسلم: «ألا ان قتيل العمد(2/470)
والخطأ قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل» «1»
هذا عام سواء كان السوط أو العصا صغيرا أو كبيرا، وأجيب بأن العصا والسوط يجب حملهما على الخفيف ليتحقق معنى الخطأ، فإن من ضرب رأس إنسان بقطعة جبل ثم قال: ما كنت أقصد قتله لم يعبأ بقوله. الثالثة قال أبو حنيفة: القتل العمد لا يوجب الكفارة لأنه شرط في الآية أن يكون القتل خطأ، وعند انتفاء الشرط لا يحصل المشروط. وقال الشافعي: يوجبها لما
روي أن واثلة بن الأسقع قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا أوجب النار بالقتل فقال: أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه عضوا منه من النار.
وأيضا نص الله تعالى على الكفارة في قتل الصيد عمدا في الحرم وفي الإحرام فأوجبها على الخاطئ بالاتفاق، فههنا نص على الخاطئ فبأن نوجبه على العامد كان أولى لأنه لما أخرج نفسا مؤمنة عن جملة الإحياء عمدا لزمه أن يدخل نفسا مثلها في جملة الأحرار لأن إطلاقها من قبل الرق كاحيائها من قبل أن الرقيق ممنوع من تصرف الأحرار كما أن الميت ممنوع من التصرف مطلقا، ولتحقيق هذا المعنى أوجب أن تكون الرقبة كاملة الرق، وأن تكون سليمة عن عيب مخل بالعمل كهرم وعمى وجنون.
الرابعة قال ابن عباس والحسن والشعبي والنخعي: لا تجزىء الرقبة إلّا إذا صام وصلى لأنه تعالى أوجب تحرير الرقبة المؤمنة. والإيمان إما التصديق وإما العمل وإما المجموع وعلى التقديرات فالكل فائت عن الصبي. وقال الشافعي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي: يجزىء الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما لأن حكمه حكم المؤمن. الخامسة أنه تعالى أوجب الدية في القرآن ولم يبين كيفيتها وإنما عرفت من السنة.
عن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن أن في النفس مائة من الإبل. وهذه المائة إذا كان القتل خطأ مخمسة عشرون منها بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون جذعة وعشرون حقة.
وبه قال مالك لما
روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في دية الخطأ بمائة من الإبل وفصلها كما ذكرنا.
وأبدل أبو حنيفة وأحمد أبناء اللبون بأبناء المخاض، لأن هذا الأقل متفق عليه والزائد منفي بالبراءة الأصلية. وقال غيرهما: أبناء المخاض غير معتبرة في باب الزكاة فيجب أن لا تعتبر في الدية التي سببها أقوى من السبب الموجب للزكاة. واتفقوا على أن الدية في العمد المحض مغلظة من ذلك التثليث في الإبل، وهو أن يكون ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة في بطونها أولادها. ومنه الحلول على قياس أبدال سائر المتلفات خلاف دية الخطأ فإنها مؤجلة الثلث في السنة الأولى، والثلث الآخر في السنة
__________
(1) رواه النسائي في كتاب القسامة باب 32، 33. ابن ماجه في كتاب الديات باب 5. أحمد في مسنده (2/ 64، 166) .(2/471)
الثانية، والباقي في السنة الثالثة، استفاض ذلك عن الخلفاء الراشدين ولم ينكره أحد فكان إجماعا. ومنه ثبوتها في ذمة الجاني لا تحملها العاقلة خلاف دية الخطأ فانها تكون على العاقلة لما
روي أن امرأتين من هذيل اقتتلنا فرمت إحداهما الأخرى بحجر، ويروى بعمود فسطاط. فقتلتها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على عاقلة القاتلة.
وهذه صورة شبه العمد، والتحمل في الخطأ أولى. وجهات التحمل ثلاث: القرابة والولاء وبيت المال، والقرابة يعني بها العصبة الذين هم على حاشية النسب وهم الإخوة وبنوهم. وقال أبو حنيفة ومالك: يتحمل الآباء والبنون كغيرهم ويراعى الترتيب في العصبات فيقدم الأقرب فالأقرب، فإن كان فيهم وفاء إذا وزع عليهم لكثرتهم أو لقلة المال وإلّا شاركهم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم. وقال أبوبكر الأصم وجمهور الخوارج: الدية في الخطأ أيضا تجب على القاتل كما أن تحرير الرقبة أيضا عليه ويؤيده عطف الدية في الآية على التحرير. وأيضا الجناية صدرت عنه فلا يعقل تضمين غيره كما في سائر الاتلافات. وتخصيص عموم القرآن بخبر الواحد غير جائز، وأجيب بإجماع الصحابة على ذلك. السادسة مذهب أكثر الفقهاء أن دية المرأة نصف دية الرجل بإجماع المعتبرين من الصحابة، ولأن المرأة في الميراث وفي الشهادة نصف الرجل فكذلك في الدية. وقال الأصم وابن علية: ديتها مثل دية الرجل لعموم قوله:
وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً. السابعة إذا لم توجد الإبل فالواجب عند الشافعي في الجديد الرجوع إلى قيمة الإبل بالغة ما بلغت وإنما تقوم بغالب نقد البلد لما
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوّم الإبل على أهل القرى، فإذا غلت رفع قيمتها.
وإذا هانت نقص من قيمتها، وقال أبو حنيفة: الواجب حينئذ ألف دينار أو عشرة آلاف درهم وعند مالك الدراهم اثنا عشر ألفا. الثامنة لا فرق بين هذه الدية وبين سائر الأموال في أنه يقضي منها الدين وينفذ منها الوصية ويقسم الباقي بين الورثة على فرائض الله لما
روي أن امرأة جاءت في أيام عمر تطلب نصيبها من دية الزوج فقال عمر:
لا أعلم لك شيئا إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه. فشهد بعض الصحابة بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تورث الزوجة من دية زوجها فقضى عمر بذلك.
وعن ابن مسعود: يرث كل وارث من الدية غير القاتل. وعن شريك: لا يقضى من الدية دين ولا تنفذ وصية. وعن ربيعة: الغرة لأم الجنين وحدها وهذا خلاف الجماعة.
واعلم أنّ الله تعالى ذكر في هذه الآية أن من قتل مؤمنا خطأ فعليه تحرير الرقبة وتسليم الدية ثم قال: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وسكت عن الدية. فالسكوت عن إيجاب الدية في هذه الصورة مع ذكرها فيما قبلها وفيما بعدها وهو قوله: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ(2/472)
يدل على عدم وجوب الدية هاهنا. ثم المعنيّ بقوله: مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ إما أن يكون أن هذا المقتول من سكان دار الحرب أو أنه ذو نسب منهم مع أنه في دار الإسلام، والثاني باطل بالإجماع لأن قتل هذا المسلم يوجب الدية البتة فتعين الأول. وإنما سقطت الدية لأن إيجاب الدية في قتل المسلم الساكن في دار الحرب محوج إلى أن يبحث الغازي عن كل شخص من أشخاص قطان دار الحرب هل هو من المسلمين أم لا، وذلك يوجب المشقة والنفرة عن الجهاد على أنه هو الذي أهدر دم نفسه بسبب اختيار السكنى فيهم. وأما الكفارة فإنها حق الله تعالى لأنه أهلك إنسانا مواظبا على طاعته فيلزمه إقامة آخر مقامه يمكنه المواظبة عليها. أما قوله: وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ففيه قولان: أحدهما أنّ المراد الذمي فعن ابن عباس هم أهل الذمة من أهل الكتاب. وعن الحسن هم المعاهدون منه الذمي فعن ابن عباس هم أهل الذمة من أهل الكتاب. وعن الحسن هم المعاهدون وثانيهما أن المراد منه المسلم لأنه عطف على قوله: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ والضمير فيه عائد إلى ما تقدم وهو المؤمن فكذا هاهنا. واعترض عليه بلزوم عطف الشيء على نفسه لأنّ المؤمن المقتول خطأ سواء كان من أهل الحرب أو من أهل الذمة داخل تحت قوله: مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً إلّا أنه أفرد المؤمن الساكن في دار الحرب لأن من حكمه سقوط ديته وهاهنا لا غرض في الإفراد فيكون تكرارا محضا. وأيضا لو كان المراد ذلك لما كانت الدية مسلمة إلى أهله كفار لا يرثونه ولكان كونه منهم مبهما مجملا لأنه لا يدري أنه منهم في أي أمر من الأمور بخلاف ما لو حمل كونه منهم على الوصف الذي وقع التنصيص عليه وهو حصول الميثاق بينهما. وأجيب بأنه لما أفرد حكم المؤمن المقتول في دار الحرب للغرض الذي ذكر، ثم أعاد ذكر المؤمن المقتول فيما بين المعاهدين تنصيصا على الفرق بينه وبين ما قبله وتنبيها على التسوية بينه وبين المسلم المقتول في دار الإسلام. وأما أهله فهم المسلمون الذين تصرف ديته إليهم، وأما الإبهام فيزول إذا جعل «من» بمعني «في» كما في الآية المتقدمة عليه. وهاهنا مسألة خلافية شرعية هي أن أبا حنيفة قال: دية الذمي مثل دية المسلم لقوله تعالى: وَإِنْ كانَ أي المقتول مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، ودية المجوسي ثلث خمسها هكذا روي من قضاء الصحابة. ولا يخفى أن استدلال أبي حنيفة لا يتم على الثاني من قول المفسرين في الآية، وعلى القول الأول أيضا يجوز أن يكون المراد بالدية الثانية مقدارا مغايرا للأول. وهاهنا سؤال وهو أنه لم قدم تحرير الرقبة على الدية في الآية الأولى وفي الأخيرة عكس الترتيب؟ ويمكن أن يقال: الفائدة فيه أن يعلم أنه لا ترتيب(2/473)
بين التحرير والدية، وأيضا ليقع الافتتاح والاختتام بحق الله تعالى. ويترتب على التحرير قوله: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي رقبة بمعنى لم يملكها ولا ما يتوصل به إليها فعليه صيام شهرين متتابعين. ومتى يعتبر الإعسار ليجوز له العدول إلى الصوم؟ الأصح عند الشافعي وقت الأداء، وعند بعضهم وقت الوجوب. وأما الشهران فهما هلاليان البتة. نعم لو ابتدأ في خلال الشهر تمم المنكسر ثلاثين. والمراد بالتتابع أن لا يفطر يوما منهما، فلو أفطر ولو بالمرض وجب الاستئناف إلّا أن يكون الفطر بحيض أو نفاس. وعن مسروق أن الصوم بدل من مجموع الرقبة والدية. تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ أي شرع لكم ما شرع قبولا من الله ورحمة منه من تاب الله عليه إذا قبل توبته. ومعنى التوبة عن الخطأ أنه لا يخلو من ترك احتياط ومن ندم وأسف على ما فرط منه. ويجوز أن يكون المعنى نقلكم من الرقبة إلى الصوم توبة منه أي تخفيفا منه لأن التخفيف من
لوازم التوبة. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأنه لم يقصد ولم يتعمد حَكِيماً محكم الفعل لا يؤاخذ الإنسان بما لا يختار ولا يتعمد. وعند المعتزلة معنى الحكيم أن أفعاله واقعة على قانون الحكمة وقضية العدالة. ثم لما ذكر حكم القتل الخطأ أردفه ببيان حكم القتل العمد وله أحكام وجوب الدية والكفارة عند غير أبي حنيفة ومالك والقصاص كما مر في البقرة، فلا جرم اقتصر هاهنا على بيان ما فيه من الإثم والوعيد، ولا يخفى ما في الآية من التخويف والتهديد فلا جرم تمسكت الوعيدية بها في القطع بخلود الفاسق في النار. وأجيب بوجهين: الأول إجماع المفسرين على أنها نزلت في كافر قتل مؤمنا.
روى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن مقيس بن ضبابة وجد أخاه قتيلا في بني النجار وكان مسلما، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه رسولا من بني فهر وقال له: ائت بني النجار فاقرأهم السلام وقل لهم: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم إن علمتم قاتل هشام بن ضبابة أن تدفعوه إلى أخيه فيقتص منه، وإن لم تعلموا له قاتلا أن تدفعوا إليه ديته. فأبلغهم الفهري ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: سمعا وطاعة لله ولرسوله، والله ما نعلم له قاتلا ولكنا نؤدي إليه ديته فأعطوه مائة من الإبل ثم انصرفا راجعين إلى المدينة وبينهما وبين المدينة قريب، فأتى الشيطان مقيسا فوسوس إليه فقال: أي شيء صنعت تقبل دية أخيك فيكون عليك مسبة؟ اقتل الذي معك فتكون نفس مكان نفس وفضل الدية. فرمى الفهري بصخرة فشدخ رأسه ثم ركب بعيرا منها وساق بقيتها راجعا إلى مكة كافرا وجعل يقول في شعره:
قتلت به فهرا وحملت عقله سراة بني النجار أرباب فارع وأدركت ثأري واضطجعت موسدا وكنت إلى الأوثان أول راجع(2/474)
فنزلت الآية فيه
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً ثم أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه يوم فتح مكة فأدركه الناس بالسوق فقتلوه. الوجه الثاني أنه يجوز عندنا أن يخلف الله وعيد المؤمنين فإن خلف الوعيد كرم. وضعف الوجه الأول بأنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبأن ما قبل الآية وما بعدها في نهي المؤمن عن قتل المؤمن فكذا هذه الآية، وبأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية فيجب أن يكون الموجب لهذا الوعيد هو مجرد القتل العمد، وبأن الكفر بالاستقلال موجب لهذا الوعيد فأي فائدة في ضم القتل إليه؟ وإذا لا أثر للقتل في هذه الصورة فيكون الكلام جاريا مجرى قول القائل «إنّ من تنفس لجزاؤه جهنم» وزيف الوجه الثاني بأن الوعيد قسم من أقسام الخبر. وإذا جاز الكذب فيه لغرض إظهار الكرم فلم لا يجوز في القصص والأخبار وغير ذلك لغرض المصلحة؟ وفتح هذا الباب يفضي إلى الطعن في الشرائع. قال القفال: الآية تدل على أنّ جزاء القتل العمد هو ما ذكر.
وقد يقول الرجل لغيره: جزاؤك أني أفعل بك كذا إلّا أني لا أفعله. ولا يخفى ضعف هذا الجواب أيضا لدلالة سائر الآيات كقوله: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة: 8] على أنه يوصل الجزاء إلى المستحقين، ولأن قوله:
وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً صريح في أنه تعالى سيفعل به ذلك لا سيما وقد أخبر عنه بلفظ الماضي ليعلم أنه كالواقع. ولتأكد هذه المعاني نقل عن ابن عباس أن توبة من أقدم على القتل العمد العدوان غير مقبولة. وعن سفيان كان أهل العلم إذا سألوا قالوا: لا توبة له. وحمله الجمهور على التغليظ والتشديد وإلّا فكل ذنب ممحوّ بالتوبة حتى الشرك. هذا عند المعتزلة، وعند الأشاعرة كل الذنوب يحتمل العفو إلّا الشرك لقوله تعالى:
وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء: 48] .
ثم بالغ في تحريم قتل المؤمن فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا لتفعل هاهنا بمعنى الاستفعال أي اطلبوا بيان الأمر وثباته ولا تتهوّكوا فيه عن غير روية وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ وهو والسلم بمعنى الاستسلام، وقيل الإسلام، وقيل التحية يعني سلام أهل الإسلام.
قال السدي: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد على سرية، فلقي مرداس بن نهيك رجلا من أهل فدك أسلم ولم يسلم من قومه غيره وكان يقول لا إله إلّا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهرب ثقة بإسلامه، فقتله أسامة واستاق غنما كانت معه. فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره فقال: قتلت رجلا يقول لا إله إلّا الله. فقال: يا رسول الله إنما تعوذ من القتل. فقال: كيف أنت إذا خاصمك يوم القيامة بلا إله إلّا الله؟
قال: فما زال يردّدها عليّ أقتلت رجلا وهو يقول لا إله إلّا الله حتى تمنيت لو أنّ إسلامي(2/475)
كان يومئذ فنزلت الآية. وقد روى الكلبي وقتادة مثل ذلك.
وقال الحسن: إنّ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا يتطرّفون فلقوا المشركين فهزموهم فشذ منهم رجل فتبعه رجل من المسلمين وأراد متاعه، فلما غشيه بالسنان قال: إني مسلم فكذبه ثم أوجره السنان فقتله وأخذ متاعه وكان قليلا، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قتلته بعد ما زعم أنه مسلم. قال:
يا رسول الله إنما قالها متعوّذا. قال: فهلّا شققت عن قلبه؟ قال: لم؟ قال: لتنظر أصادق هو أم كاذب. قال: وكنت أعلم ذلك يا رسول الله؟ قال: ويلك إنك لم تكن لتعلم ذلك إنما يبين عنه لسانه. قال: فما لبث القاتل أن مات فدفن فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره. قال:
ثم عادوا فحفروا له فأمكنوا ودفنوه فأصبح وقد وضع إلى جنب قبره مرتين أو ثلاثا. فلما رأوا أنّ الأرض لا تقبله ألقوا عليه الحجارة.
قال الحسن: إنّ الأرض تجن من هو شر منه ولكن وعظ القوم أن لا يعودوا.
وعن سعيد بن جبير قال: خرج المقداد بن الأسود في سرية فإذا هم برجل في غنيمة له فأرادوا قتله فقال: لا إله إلّا الله. فقتله المقداد. فقيل له: أقتلته وقد قال لا إله إلّا الله؟ فقال: ودّ لو فرّ بأهله وماله. فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا ذلك له فنزلت.
قال القفال: ولا منافاة بين هذه الروايات، فلعلها نزلت عند وقوعها بأسرها فكان كل فريق يظن أنها نزلت في واقعته.
وعن أبي عبيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أشرع أحدكم الرمح إلى الرجل فإن كان سنانه عند نقرة نحره فقال لا إله إلّا الله فليرفع عنه الرمح» .
قال الفقهاء: توبة الزنديق مقبولة لإطلاق هذه الآية. وقال أبو حنيفة: إسلام الصبي يصح لإطلاق الآية. وقال الشافعي: لا يصح وإلّا لوجب عليه لأنه لو لم يجب لكان ذلك إذنا في الكفر وهو غير جائز، لكنه غير واجب عليه
لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ» «1» .
وقال أكثر الفقهاء: لو قال اليهودي أو النصراني أنا مؤمن أو مسلم لا يحكم بإسلامه لأنه يعتقد أن الإيمان والإسلام هو دينه. ولو قال لا إله إلّا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحصل الجزم بإسلامه لأنّ منهم من يقول إنه رسول العرب وحدهم ومنهم من يقول إنّ محمدا الذي هو الرسول الحق المنتظر بعد، فلا بد أن يعترف بأن الدين الذي كان عليه باطل، وأن الدين الذي هو موجود فيما بين المسلمين حق. تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا قال أبو عبيدة: جميع متاع الدنيا عرض بفتح الراء. يقال: إنّ الدنيا عرض حاضر
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الطلاق باب 11. أبو داود في كتاب الحدود باب 17. الترمذي في كتاب الحدود باب 1. النسائي في كتاب الطلاق باب 21. ابن ماجه في كتاب الطلاق باب 15. الدارمي في كتاب الحدود باب 1. أحمد في مسنده (1/ 116) .(2/476)
يأخذ منها البر والفاجر، سمي عرضا لأنه عارض زائل غير باق، ومنه العرض لمقابل الجوهر لقلة ثباته كما قيل: العرض لا يبقى زمانين فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ يغنمكموها تغنيكم عن قتل رجل يظهر الإسلام متعوّذا به لتأخذوا ماله. وقيل: يريد ما أعدّ لعباده من حسن الثواب في الآخرة كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ اختلفوا في وجه الشبه فقال الأكثرون: يريد أنكم أول ما دخلتم في الإسلام سمعت منكم كلمة الشهادة فحقنت دماءكم وأموالكم من غير انتظار الاطلاع على مواطأة قلوبكم لألسنتكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالاستقامة والاشتهار بالإيمان وأن صرتم أعلاما فيه، فعليكم أن تفعلوا بالداخلين في الإسلام ما فعل بكم.
واعترض بأن لهم أن يقولوا ما كان إيماننا مثل إيمان هؤلاء لأنا آمنا بالاختيار وهؤلاء أظهروا الإيمان تحت ظلال السيوف، فكيف يمكن تشبيه أحدهما بالآخر؟ وعن سعيد بن جبير:
المراد أنكم كنتم تخفون إيمانكم عن قومكم كما أخفى إيمانه هذا الراعي عن قومه فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم. وأورد عليه أن إخفاء الإيمان ما كان عاما فيهم.
وفي التفسير الكبير: المراد أنكم في أول الأمر إنما حدث فيكم ميل ضعيف بأسباب ضعيفة إلى الإسلام فمنّ الله عليكم بتقوية ذلك الميل وتزايد نور الإيمان، فكذا هؤلاء قد حدث لهم ميل ضعيف إلى الإسلام بسبب هذا الخوف فاقبلوا منهم إيمانهم إلى أن تتكامل رغبتهم فيه.
وقيل: إنّ قوله: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ منقطع عما تقدمه. وذلك أن القوم لما نهاهم عن قتل منّ تكلّم بلا إله إلّا الله ذكر أن الله من عليكم بأن قبل توبتكم عن ذلك الفعل المنكر، ثم أعاد الأمر بالتبين مبالغة في التحذير، ثم حذر عن الإضمار خلاف الإظهار فقال: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً وفيه من الوعيد ما فيه.
ولما عاتبهم الله تعالى على ما صدر منهم وبدر عنهم كان مظنة أن يقع في قلبهم أن الأولى الاحتراز عن الجهاد فذكر من فضل الجهاد ما يزيح علّتهم ويزيد رغبتهم، أو نقول:
لما نهاهم عما نهاهم أتبعه فضيلة الجهاد ليبلغوا في الاحتراز عما يوجب خللا في هذا المنصب الجليل فقال: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ
عن زيد بن ثابت قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم حين نزلت عليه: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ولم يذكر أُولِي الضَّرَرِ فقال ابن أم مكتوم: فكيف وأنا أعمى لا أبصر؟ قال زيد: فتغشّى النبي صلى الله عليه وسلم في مجلسه الوحي فاتكأ على فخذي فو الذي نفسي بيده لقد ثقل عليّ حتى خشيت أن يرضها ثم سري عنه فقال: اكتب: لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فكتبتها. رواه البخاري.
والمراد بالضرر النقصان سواء كان في البنية كعمى وعرج ومرض أو بسبب عدم الأهبة. من قرأ غَيْرُ بالنصب فعلى الاستثناء من القاعدين أو(2/477)
على الحال عنهم، ومن قرأ بالرفع فعلى أنه صفة للقاعدين ويجوز أن يكون غير صفة للمعرفة كما سبق في تفسير غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: 7] . وقرىء بالجر على أنه صفة المؤمنين. قال الزجاج: ويجوز أن يكون رفعا على جهة الاستثناء والمعنى لا يستوي القاعدون والمجاهدون، إلّا أولي الضرر فإنهم يساوون المجاهدين بدليل
قوله صلى الله عليه وسلم عند انصرافه من بعض غزواته «لقد خلفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم أولئك أقوام حبسهم العذر» «1»
وعنه صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد قال الله تعالى: اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ» «2» .
ويعلم منه أن صحة النية وخلوص الطوية لها مدخل عظيم في قبول الأعمال. وذكروا في معنى
قوله: «نية المؤمن أبلغ من عمله»
أنّ ما ينويه المؤمن أبلغ من عمله إذ ما ينويه المؤمن من دوامه على الإيمان والأعمال الصالحة لو بقي أبدا خير من عمله الذي أدركه في مدة حياته. قيل: إنه قدّم ذكر النفس على المال في قوله: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ [التوبة: 111] وهاهنا أخر لأنّ النفس أشرف من المال. فالمشتري قدم ذكر النفس تنبيها على أنّ الرغبة فيها أشد، والبائع أخر تنبيها على أنّ المماكسة فيها أشد فلا يرضى ببذلها، إلّا في آخر الأمر. وفائدة نفي الاستواء ومعلوم أن القاعد بغير عذر والمجاهد لا يستويان تبيين ما بينهما من التفاوت ليهتم القاعد للجهاد ويترفع بنفسه عن انحطاط مرتبته فيجاهد كقوله: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] تحريكا للجاهل لينهض بنفسه عن صفة الجهل إلى شرف العلم. ثم إن عدم الاستواء يحتمل الزيادة والنقصان فأوضح الحال بقوله: فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ كأنه قيل: مالهم لا يستوون؟ فأجيب بذلك. وانتصب دَرَجَةً على المصدر لأنّ الدرجة بدل على التفضيل. وقيل: حال أي ذوي درجة. وقيل: بنزع الخافض أي بدرجة. وقيل: على الظرف أي في درجة وَكُلًّا وكل فريق من القاعدين والمجاهدين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى أي المثوبة الحسنى وهي الجنة. قال الفقهاء: فيه دليل على أن فرض الجهاد على الكفاية إذ لو كان واجبا على التعيين لم يكن القاعد أهلا للوعد. وانتصب أَجْراً بفضل لأنّ التفضيل يدل على الأجر. وهاهنا سؤال وهو أنه لم ذكر أولا درجة وثانيا درجات؟ وأجيب بأن اللام في قوله أوّلا على القاعدين للعهد والمراد بهم أولو الضرر، وقوله ثانيا على القاعدين للأصحاء الذين أذن لهم في التخلف اكتفاء بغيرهم لأن الغزو
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 35. أبو داود في كتاب الجهاد باب 19. ابن ماجه في كتاب الجهاد باب 6. أحمد في مسنده (3/ 103، 160) .
(2) رواه أحمد في مسنده (2/ 189، 194، 198) .(2/478)
فرض كفاية. وقيل: المراد بالدرجة جنسها الذي يشمل الكثير بالنوع وهي الدرجات الرفيعة والمنازل الشريفة والمغفرة والرحمة. وقيل: المراد بالدرجة الغنيمة في الدنيا، وبالدرجات مراتب الجنة. وقيل: المراد بالمجاهد الأول صاحب الجهاد الأصغر وهو الجهاد بالنفس والمال، وبالمجاهد الثاني صاحب الجهاد الأكبر وهو المجاهد بالرياضة والأعمال.
واستدلت الشيعة هاهنا بأنّ عليا رضي الله عنه أفضل من أبي بكر وغيره من الصحابة لأنه بالنسبة إليهم مجاهد وهم بالإضافة إليه قاعدون بما اشتهر من وقائعه وأيامه وشجاعته وحماسته. أجاب أهل السنة بأنّ جهاد أبي بكر بالدعوة إلى الدين وهو الجهاد الأكبر وحين كان الإسلام ضعيفا والاحتياج إلى المدد شديدا، وأما جهاد علي فإنما ظهر بالمدينة في الغزوات وكان الإسلام في ذلك الوقت قويا. والحق أنه لا تدل الآية إلّا على تفضيل المجاهدين على القاعدين، أما على تفضيل المجاهدين بعضهم على بعض فلا. قالت المعتزلة: هاهنا قد ظهر من الآية أنّ التفاوت في الفضل بحسب التفاوت في العمل، فعلة الثواب هو العمل ولهذا سمي أجرا. وأجيب بأنّ العمل علة الثواب لكن لا لذاته بل يجعل الشارع ذلك العمل موجبا له. قالت الشافعية: الاشتغال بالنوافل أفضل من الاشتغال بالنكاح لأنّ قوله: وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عام يشمل الجهاد الواجب والمندوب وهو الزائد على قدر الكفاية، والمشتغل بالنكاح قاعد، فالاشتغال بالجهاد المندوب أفضل منه بالنكاح.
ثم لما ذكر ثواب المجاهدين أتبعه وعيد القاعدين الراضين بالسكون في دار الكفر فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ وأنه يحتمل أن يكون ماضيا فيكون إخبارا عن حال قوم انقرضوا ومضوا. عن عكرمة عن ابن عباس قال: كانوا قوما من المسلمين بمكة فخرجوا في قوم من المشركين في قتال فقتلوا معهم فنزلت الآية. ويحتمل أن يكون مستقبلا بحذف إحدى التاءين فيكون الوعيد عاما في كل من كان بهذه الصفة. قال الجمهور: معنى تتوفاهم تقبض أرواحهم عند الموت. ولا منافاة بينه وبين قوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: 42] قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ [السجدة: 11] لأنه تعالى هو المتوفى والفاعل لكل الأشياء بالحقيقة إلّا أن الرئيس المفوّض إليه هذا العمل ملك الموت وسائر الملائكة أعوانه. وعن الحسن: تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي يحشرونهم إلى النار. أما قوله: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فمنصوب على الحال عن مفعول توفي والإضافة فيه لفظية ولذا لم تفد تعريفا فصح وقوعه حالا. والظلم قد يراد به الشرك إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان: 13] فالمراد أنهم ظالمون أنفسهم بنفاقهم وكفرهم وتركهم الهجرة. وقد يراد به المعصية فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [فاطر: 32] فالمراد الذين أسلموا في دار الكفر وبقوا هناك غير مهاجرين إلى دار(2/479)
الإسلام حين كانت الهجرة فريضة. وفي خبر «إنّ» وجوه: الأول قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ والعائد محذوف للدلالة أي قالوا لهم. الثاني فَأُولئِكَ فيكون قالُوا حالا من الملائكة بتقدير «قد» . الثالث إنّ الخبر محذوف وهو هلكوا. ثم فسر الهلاك بقوله: قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ أي في أي شيء كنتم من أمر دينكم؟ والمراد التوبيخ على ترك الجهاد والرضا بالسكنى في دار الكفر وهو بالحقيقة النعي عليهم بأنهم ليسوا من الدين في شيء، ولهذا لم يجيبوا بقولهم كنا في كذا أو لم نكن في شيء بل أجابوا بقولهم: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ اعتذارا مما وبخوا به واعتلالا بأنهم ما كانوا قادرين على المهاجرة من أرض مكة حتى يكونوا في شيء. ثم إنّ الملائكة لم يقبلوا منهم هذا العذر فبكتوهم قائلين: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها أرادوا أنكم كنتم قادرين على الخروج من مكة إلى بعض البلاد التي لا تمتنعون فيها من إظهار دينكم كما فعل المهاجرون إلى أرض الحبشة. ثم استثنى من أهل الوعيد المستضعفين من الرجال والنساء والولدان. فسئل لم عدّ الولدان في جملة المستثنين من أهل الوعيد، ومن حق الاستثناء أن يدخل فيه المستثنى لو لم يخرج وليس الولدان من أصحاب الوعيد لأنهم ليسوا من أهل التكليف؟ وأجيب بأنّ المراد بالولدان العبيد والإماء البالغون، أو المراد المراهقون الذين عقلوا ما يعقل الرجال والنساء حتى يتوجه التكليف عليهم فيما بينهم وبين الله. سلمنا أن المراد بهم الأطفال لكن السبب في سقوط الوعيد هو العجز وإنه حاصل في الولدان فحسن استثناؤهم بهذا الوجه. وقوله: لا يَسْتَطِيعُونَ قيل في موضع الحال، والأصح أنه صفة للمستضعفين. وإنما جاز ذلك والجمل نكرات لأنّ المعرف تعريف الجنس قريب من المنكر. والمعنى أنّ العاجزين هم الذين لا يقدرون على حيلة ولا نفقة، أو يكون بهم مرض، أو كانوا تحت قهر قاهر يمنعهم عن المهاجرة. ومعنى لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا لا يعرفون الطريق ولا يجدون من يدلّهم على الطريق. وإنما قال سبحانه: فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ بكلمة الإطماع تنبيها على أن ترك الهجرة أمر مضيق لا توسعة فيه حتى إن المضطر من حقه أن يعفو الله عنه بل يكون من العفو على ظن وحسبان لا على جزم وإيقان، فربما ظن الإنسان بنفسه أنه عاجز ولا يكون في الواقع كذلك لأنّ الفطام عن المألوف شديد والفراق عن الأوطان شاق، فلعل حب الوطن يحمله على تأويل غير سديد. ومع قيام هذا الاحتمال أنى يحصل الجزم بالعفو هذا من جانب العبد.
وأما من الرب فعسى إطماع وإطماع الكريم إيجاب. فالجزم بالعفو حاصل إلا أنّه يرد على لفظ العفو أنه لا يتقرر إلّا مع الذنب ولا ذنب مع العجز وجوابه أيضا يخرج مما قلنا:
وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً قال الزجاج: أي كان في الأزل موصوفا بهذه الصفة، أو أنه مع جميع العباد بهذه الصفة أي أنه عادة أجراها في حق غيره. وأيضا لو قال إنه عفو غفور كان(2/480)
إخبارا عن كونه كذلك وحيث قال كان دل على أنه إخبار وقع مخبره على وفقه فكان أدل على كونه حقا وصدقا. قالت الأشاعرة: أخبر عن العفو والمغفرة مطلقا غير مقيد بحال التوبة فدل على أن العفو مرجو من غير التوبة. قال ابن عباس في رواية عطاء: كان عبد الرحمن بن عوف يخبر أهل مكة بما ينزل فيهم من القرآن، فكتب إليهم: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ الآية. فلما قرأها المسلمون قال ضمرة بن جندب الليثي لبنيه- وكان شيخا كبيرا- احملوني فإني لست من المستضعفين وإني لأهتدي إلى الطريق. فحمله بنوه على سرير متوجها إلى المدينة، فلما بلغ التنعيم أشرف على الموت فصفق بيمينه على شماله وقال: اللهم هذه لك وهذه لرسولك أبايعك على ما بايعك به رسول الله صلى الله عليه وسلم ومات حميدا.
فبلغ خبره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فقالوا: لو وافى المدينة لكان أتم أجرا فأنزل الله تعالى فيه:
وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً أي مذهبا ومهربا ومضطربا قاله الفراء.
وفي الكشاف يقال: راغمت الرجل إذا فارقته وهو يكره مفارقتك لمذلة تلحقه بذلك وأصله من الرغام وهو التراب فإنهم يقولون: رغم أنفه يريدون أنه وصل إليه شيء يكرهه، وذلك لأنّ الأنف عضو في غاية العزة والتراب في غاية الذلة. ويمكن أن يقال: إنّ من فارق أهل بلدته فإذا استقام أمره في بلدة أخرى رغمت أنوف أهل بلدته بسبب سوء معاملتهم معه.
واعلم أنه سبحانه لما رغب في الهجرة ذكر بعده ما لأجله يمتنع الإنسان عن هجرة الوطن، وبين الجواب عنه والمانع أمران: الأوّل أن يكون له في وطنه نوع رفاهية وراحة فيخاف زوال ذلك عنه فأجاب الله تعالى عنه بقوله: وَمَنْ يُهاجِرْ كأنه قيل للمكلف إن كنت تكره الهجرة عن وطنك خوفا من أن تقع في المشقة والمحنة في السفر فلا تخف فإنّ الله تعالى يعطيك من النعم الجليلة والمراتب السنية في مهاجرك ما يكون سببا لرغم أنوف أعدائك، ويصير سببا لسعة عيشك، وإنما قدم في الآية ذكر رغم الأعداء على ذكر سعة العيش لأن ابتهاج المهاجر بدولته من حيث إنها سبب رغم آناف الأعداء أشد من ابتهاجه بها من حيث إنها سبب سعة رزقه وعيشه. المانع الثاني أن الإنسان يقول: إن خرجت من بيتي في طلب العمل والجهاد والمهاجرة إلى الله ورسوله، وفي معناه كل غرض ديني من طلب علم أو حج أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة أو قناعة وزهدا في الدنيا وابتغاء رزق طيب، فربما وصلت إليه وربما لم أصل إليه، فالأولى أن لا أضيع الرفاهية الحاضرة لطلب شيء مظنون، فأجاب الله سبحانه عنه بقوله: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ قال بعضهم: ثبت له أجر قصده وأجر القدر الذي أتى به من ذلك العمل، وأما أجر تمام العمل فمحال. والصحيح أن المراد من قصد طاعة(2/481)
ثم عجز عن إتمامها فإن له ثواب تمام تلك الطاعة كما
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن المريض إذا عجز عما كان يفعله من الطاعة في حال الصحة كتب له ثواب مثل ذلك إلى أن يبرأ» .
وأيضا من المعلوم أن كل من أتى بعمل فإنه يجد الثواب المرتب على ذلك القدر فلا يبقى في الآية فائدة الترغيب. وأيضا لا تكون الآية جوابا عن قول الصحابة في ضمرة لو وافى المدينة لكان أتم أجرا. قالت المعتزلة: في الآية دليل على أن العمل يوجب الثواب على الله لأن الوقوع والوجوب السقوط. قال تعالى: فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها [الحج: 36] أي وقعت وسقطت ولفظ الأجر وكلمة «على» يؤكدان ما قلنا، وأجيب بأنا لا ننازع في أن الثواب يقع البتة لكن بحكم الوعد والعلم والتفضل والكرم. واستدل بعض الفقهاء بالآية على أن الغازي، إذا مات في الطريق وجب سهمه في الغنيمة كما وجب أجره، وردّ بأن قسم الغنيمة يتوقف على حيازتها بخلاف الأجر. وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً يغفر ما كان منه من القعود إلى أن خرج ويرحمه بإكمال أجر المجاهدين. ومما يفتقر المجاهد إليه معرفة كيفية أداء الصلاة في زمان الخوف والاشتغال بمحاربة العدو فلا جرم قال: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ يقال: قصر صلاته وأقصرها وقصرها بمعنى.
ولفظ القصر مشعر بالتخفيف إلّا أنه ليس صريحا في أن التخفيف في كمية الركعات أو كيفية أدائها. والجمهور على أن المراد القصر في العدد وهو أن كل صلاة تكون في الحضر أربع ركعات وهي الظهر والعصر والعشاء فإنها تصير في السفر ركعتين، ويبقى المغرب والصبح بحالهما، وعن ابن عباس: فرض الله صلاة الحضر أربعا، وصلاة السفر ركعتين، وصلاة الخوف ركعة على لسان نبيكم. وعنه أيضا أن المراد التخفيف في كيفية الأداء كما يؤتى به عند شدة التحام القتال من الصلاة مع تلطخ الثوب بالدم ومن الإيماء مقام الركوع والسجود ويؤكد هذا الرأي بقوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فإن خوف فتنة العدو لا يزول فيما يؤتى بركعتين على تمام أوصافهما، وإنما يزول بالتجوز والتخفيف فيهما. حجة الجمهور ما
روي عن يعلى بن أمية أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: كيف نقصر وقد أمنا وقال الله تعالى: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ؟ فقال عمر: عجبت مما عجبت منه فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.
فهذا الخبر يدل على أنهم فهموا من القصر التخفيف في أعداد الركعات ويؤيده
حديث ذي اليدين: «أقصرت الصلاة أم نسيت؟»
وأيضا القصر بمعنى تغيير هيئة الصلاة يجيء بعد ذلك، فجمل الكلام على ما لا يلزم منه التكرار أولى. أما تقييد القصر بحالة الخوف فلأن الآية نزلت على غالب أسفار النبي صلى الله عليه وسلم وأكثرها لم يخل عن خوف قتال الكفار فلا يمكن الاستدلال بمفهومها على عدم جواز القصر في حالة الأمن ولا في حالة الخوف بسبب آخر، على أن(2/482)
كل محنة وبلية وشدة فهي فتنة. ثم إن الشافعي قال: القصر رخصة كسائر رخص السفر فإن شاء أتم وإن شاء قصر لأن قوله: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ مشعر بعدم الوجوب، ولما
روي أن عائشة رضي الله عنها قالت: اعتمرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة، فلما قدمت مكة قلت: يا رسول الله بأبي وأمي قصرت. وأتممت وصمت وأفطرت. فقال: أحسنت يا عائشة وما عاب عليّ.
وكان عثمان يتم ويقصر وما ظهر إنكار من الصحابة عليه. وقال أبو حنيفة: القصر واجب فإنّ صلى المسافر أربعا ولم يقعد في الثنتين فسدت صلاته لما
روي عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسافرا صلى ركعتين، ولقوله صلى الله عليه وسلم: «فاقبلوا صدقته» «1»
وظاهر الأمر للوجوب. وعن عائشة: أول ما فرضت الصلاة فرضت ركعتين فأقرت في السفر وزيدت في الحضر. قال صاحب الكشاف: فإن قلت: فما تصنع بقوله:
فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا قلت: كأنهم ألفوا الإتمام فكانوا مظنة لأن يخطر ببالهم أن عليهم نقصانا في القصر فنفي عنهم الجناح لتطيب أنفسهم بالقصر ويطمئنوا إليه. وأجيب بأن هذا الاحتمال إنما يخطر ببالهم إذا قال الشارع لهم رخصت لكم في هذا القصر، أما إذا قال أوجبت عليكم هذا القصر وحرمت عليكم الإتمام وجعلته مفسدا لصلاتكم فلا يخطر هذا الاحتمال ببال عاقل. وحديث ابن عباس إنما يدل على كون القصر مشروعا لا على أن الإتمام غير جائز، وخبر عائشة لا تعاضده الآية لأن تقرير الصلاة على ركعتين لا يطلق عليه لفظ القصر. ثم إن بعض الظاهريين زعموا أن قليل السفر وكثيره سواء في القصر لإطلاق قوله: وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ وجمهور الفقهاء على أن السفر المرخص مقدر بمقدار مخصوص، فعن الأوزاعي والزهري ويروى عن عمر أن القصر في يوم تام، وعن ابن عباس إذا زاد على يوم وليلة قصر. وقال أنس بن مالك: المعتبر خمسة فراسخ. وقال الحسن: مسيرة ليلتين. وقال الشعبي والنخعي وسعيد بن جبير: من الكوفة إلى المدائن وهو ثلاثة أيام. وهو قول أبي حنيفة قياسا على مدة جواز المسح للمسافر، وأما أصحاب الشافعي فإنهم عوّلوا على ما
روي عن مجاهد وعطاء بن أبي رباح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا أهل مكة لا تقصروا في أدنى من أربعة برد من مكة إلى عسفان.
والمراد بالبريد أربعة فراسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو الذي قدر أميال البادية كل ميل اثنا عشر ألف قدم وهي أربعة
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المسافرين حديث 4. أبو داود في كتاب السفر باب 1. الترمذي في كتاب تفسير سورة النساء باب 20. النسائي في كتاب الخوف باب 1. ابن ماجه في كتاب الإقامة باب 73.
الدارمي في كتاب الصلاة باب 179. أحمد في مسنده (1/ 25، 36) ، (6/ 63) .(2/483)
آلاف خطوة، فإن كل ثلاثة أقدام خطوة. قالت الفقهاء: فاختلاف الناس في هذه الأقوال يدل على انعقاد الإجماع على أن الحكم غير مربوط بمطلق السفر. وقال أهل الظاهر: اضطراب السلف في هذه الأقاويل يدل على أنهم لم يجدوا في المسألة دليلا قويا فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن. إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً يريد أن العداوة الحاصلة بينكم وبينهم قديمة فكونوا على حذر منهم.
التأويل:
ليس لمؤمن الروح أن يقصد قتل مؤمن القلب إلّا أن يكون قتل خطأ وذلك أن الروح إذا خلص عن حجب ظلمات الصفات البشرية يتجلى الروح للقلب فيتنور بأنوار الروحانية، ثم تنعكس أنوار الروح عن مرآة القلب إلى النفس الأمارة فتموت عن صفاتها الذميمة الظلمانية، وتحيا بالصفات الحميدة الروحانية، وتطمئن إلى ذكر الله كاطمئنان القلب به، ففي بعض الأحوال يتأيد الروح بوارد روح قدسي رباني ويتجلى في تلك الحالة الروح للقلب فيخر موسى القلب صعقا ميتا بسطوة تجلي الروح القدسي الرباني ويجعل جبل النفس دكا. وكان قتله خطأ لأنه ما كان مقصودا بالقتل في هذا التجلي وكان القصد تنويره وتصفيته وقتل النفس الكافرة. مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً أي قلبا مؤمنا: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وهي رقبة السر الروحاني فتصير رقبة السر محررة عن رق المخلوقات وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ يعني يسلم العاقلة- وهو الله تعالى- دية القلب إلى أهل القلب وهم الأوصاف الحميدة الروحانية من جمال كمال ألطافه لتصير الأوصاف بها أخلاقا ربانية إلّا أن تتصدق الأوصاف بهذه الدية على مساكين أوصاف النفس الحيوانية والشيطانية فَإِنْ كانَ القتيل بالتجلي مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أي من صفات النفس وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي هذه الصفة قد آمنت بأنوار الروح القدسي دون أخواتها من الصفات: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وهي رقبة القلب تصير محررة عن رق حب الدنيا ولا دية لأهل القتيل. وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وهم صفات النفس وميثاقها قبول أحكام الشرع ظاهرا وترك المحاربة مع القلب وأوصافه فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ على عاقلة الرحمة إلى أهل تلك الصفة المقبولة وهم بقية صفات النفس كما قال تعالى: إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي [يوسف: 53] وتحرير رقبة مؤمنة وهي رقبة الروح يصيرها محررة عن رقة الكونين. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة مؤمنة من الروح والقلب والسر للتحرير بأن تكون رقابهم قد حررت عن رق ما سوى الله: فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ أي فعليه الإمساك عن مشارب العالمين على التتابع والدوام مراقبا قلبه لا يدخله شيئا من الدنيا والآخرة مراعيا وقته. فلو أفطر بأدنى شيء من المشارب كلها يستأنف الصوم ولا يفطر بشيء دون لقاء الله تعالى. قال قائلهم:(2/484)
لقد صام طرفي عن شهود سواكم ... وحق له لما اعتراه نواكم
يعيد قوم حين يبدو هلالهم ... ويبدو هلال الصب حين يراكم
تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ جذبة منه. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً أي النفس الكافرة إذا قتلت قلبا مؤمنا متعمدا للعداوة الأصلية بينهما ففي حياة أحدهما موت الآخر فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ وهي سفل عالم الطبيعة. إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بقدم السلوك حتى صار الإيمان إيقانا والإيقان إحسانا والإحسان عيانا والعيان عينا والعين شهودا والشهود شاهدا والشاهد مشهودا وهذا مقام الشيخوخة فَتَبَيَّنُوا عن حال المريد في الرد والقبول. وَلا تَقُولُوا له لَسْتَ مُؤْمِناً صادقا ولا تنفروه بالتشديدات والتصرف في النفس والمال تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي تهتمون لأجل رزقه فإن الضيف إذا نزل نزل برزقه. كَذلِكَ كُنْتُمْ ضعفاء في الصدق والطلب محتاجين إلى الصحبة في بدو الإرادة فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بصحبة المشايخ وقبولهم إياكم. إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هم العوام الذين ظلموا أنفسهم بتدنيسها فِيمَ كُنْتُمْ في أي غفلة كنتم تضيعون أعماركم وتبطلون استعدادكم الفطري، وفي أي واد من أودية الهوى تهيمون، وفي أي روضة من رياض الدنيا تسرحون؟ أكنتم تؤثرون الفاني على الباقي وتنسون الشراب الطهور والساقي؟ مُسْتَضْعَفِينَ عاجزين لاستيلاء النفس الأمارة وغلبة الهوى أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ أي أرض القلب واسِعَةً فتخرجوا عن مضيق سجن البشرية إلى قضاء هواء الهوية لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً في الخروج عن الدنيا لكثرة العيال وضعف الحال وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا إلى صاحب ولاية وهؤلاء المستضعفون هم الخواص المقتصدون، وأما خواص الخواص وهم السابقون بالخيرات فهم المجاهدون الجهاد الأكبر وقد مر. وَمَنْ يُهاجِرْ عن بلد البشرية في طلب حضرة الربوبية يَجِدْ في أرض الإنسانية مُراغَماً متحوّلا ومنازل مثل القلب والروح والسر وَسَعَةً في تلك العوالم من رحمة الله: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 6] «لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن» فافهم يا قصير النظر كثير الفكر قليل العبر والله أجل وأكبر.(2/485)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
[سورة النساء (4) : الآيات 102 الى 113]
وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)
القراءات:
عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ عباس بالاختلاس. اطْمَأْنَنْتُمْ وبابه بغير همز:
أبو عمرو ويزيد والأعشى والأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف. بريا بالتشديد: يزيد والشموتي وحمزة في الوقف.
الوقوف:
مِنْ وَرائِكُمْ ج. وَأَسْلِحَتَهُمْ ط لانقطاع النظم مع اتصال المعنى.
واحِدَةً ط أَسْلِحَتِكُمْ ج حِذْرَكُمْ ط مُهِيناً هـ وَعَلى جُنُوبِكُمْ ط للابتداء بإذا الشرطية مع الفاء. الصَّلاةَ ج لاحتمال فإن أو لأن. مَوْقُوتاً هـ الْقَوْمِ ط كَما تَأْلَمُونَ لا لاحتمال الواو الاستئناف أو الحال: ما لا يَرْجُونَ ط حَكِيماً هـ أَراكَ اللَّهُ ط لأن ما بعده استئناف. خَصِيماً هـ لا للعطف وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ط رَحِيماً هـ للآية مع العطف. أَنْفُسَهُمْ
ط أَثِيماً
هـ ج لاحتمال ما بعد الوصف. مِنَ الْقَوْلِ
ط مُحِيطاً
هـ ط وَكِيلًا
هـ رَحِيماً
هـ عَلى نَفْسِهِ
ط حَكِيماً
هـ مُبِيناً
هـ يُضِلُّوكَ
ط مِنْ شَيْءٍ
ط تَعْلَمُ
ط عَظِيماً
هـ.
التفسير:
قال أبو يوسف والحسن بن زياد: صلاة الخوف كانت خاصة للرسول صلى الله عليه وسلم(2/486)
ولا تجوز لغيره لقوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ ولأن تغيير هيئة الصلاة أمر على خلاف الدليل إلّا أنا جوّزنا ذلك في حق النبي صلى الله عليه وسلم لفضيلة الصلاة خلفه فينبغي لغيره على المنع.
وجمهور الفقهاء على أنها عامة لأن أئمة الأمة نواب عنه في كل عصر ألا ترى أن قوله:
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103] لم يوجب كون الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوصا به دون أئمة أمته؟ وذهب المزني إلى نسخ صلاة الخوف محتجا بأنه صلى الله عليه وسلم لم يصلها في حرب الخندق، وأجيب بأن ذلك قبل نزول الآية.
عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فلقي المشركين بعسفان، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه قال بعضهم لبعض: كأن هذا فرصة لكم لو أغرتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم. فقال قائل منهم: فإن لهم صلاة أخرى هي أحب إليهم من أهليهم وأموالهم فاستعدّوا حتى تغيروا عليهم فيها فأنزل الله عز وجل على نبيه: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ إلى آخر الآية
أما شرح صلاة الخوف فهو أن الإمام يجعل القوم طائفتين ويصلي بإحداهما ركعة واحدة، ثم إذا فرغوا من الركعة سلموا منها ويذهبون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم الإمام ركعة أخرى ويسلم. وهذا مذهب من يرى صلاة الخوف ركعة فللإمام ركعتان وللقوم ركعة، وهذا مروي عن ابن عباس وجابر بن عبد الله ومجاهد. وقال الحسن البصري: إن الإمام يصلي بتلك الطائفة ركعتين ويسلم، ثم تذهب تلك الطائفة إلى وجه العدوّ وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي الإمام بهم مرة أخرى ركعتين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ببطن نخل. وليس في هذه الصلاة إلّا اقتداء مفترض بمتنفل، فإن الصلاة الثانية نافلة للإمام لا محالة. وفي جواز ذلك اختلاف بين العلماء. وقال الشافعي إن كان العدو في جهة القبلة صلى الإمام بجميع العسكر إلى الاعتدال عن ركوع الركعة الأولى، فإذا حان وقت السجدة حرست فرقة إما صف أو فرقة من صف إلى أن يفرغ الإمام وغير الحارسة من السجدتين، فإذا فرغ الإمام منهما سجدت الفرقة الحارسة ولحقت به حيث أمكنها، وإذا سجد الإمام الركعة الثانية حرست فرقة إما الفرقة الحارسة في الركعة الأولى أو الفرقة الأخرى وهذه أولى. فإذا فرغ الإمام من السجود سجدت الحارسة ولحقت بالإمام في التشهد ليسلم بهم.
وليس في هذه الصلاة إلّا التخلف عن الإمام بأركان السجدتين والجلسة بينهما، واحتمل لحاجة الخوف وظهور العذر وبمثله صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، وأما إن لم يكن العدوّ في وجه القبلة أو كانوا بحيث يمنعهم شيء من أبصار المسلمين صلى الإمام في الثنائية كالصبح أو الرباعية المقصورة بكل فرقة ركعة، وذلك أن ينحاز الإمام بفرقة إلى حيث لا تبلغهم سهام العدو فيصلي بهم ركعة، فإذا قام إلى الثانية انفردوا بها وسلموا وأخذوا مكان، إخوانهم في الصف، وانحاز الصف المقاتل إلى الإمام وهو ينتظر لهم واقتدوا به في(2/487)
الثانية، فإذا جلس للتشهد قاموا وأتموا الثانية ولحقوا به قبل السلام وسلم بهم،
وهذه صلاة ذات الرقاع رواه أبو داود والنسائي عن صالح عن سهل بن أبي حثمة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو حنيفة: ويروى عن ابن عمر وابن مسعود أن الطائفة الأولى يصلي بهم الإمام ركعة ويعودون إلى وجه العدو وتأتي الطائفة الثانية فيصلي بهم بقية الصلاة وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تعود الطائفة الأولى فيقضون بقية صلاتهم بغير قراءة وينصرفون إلى وجه العدو، ثم تعود الطائفة الثانية فيقضون بقية صلاتهم بقراءة. والفرق أن الطائفة الأولى أدركت أول الصلاة فهي في حكم من خلف الإمام، وأما الثانية فلم تدرك أول الصلاة والمسبوق فيما يقضي كالمنفرد في صلاته. ولا خلاف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صلى بهذه الصلاة في أوقات مختلفة بحسب المصالح، وإنما وقع الاختلاف بين الفقهاء في أن الأفضل والأشد موافقة لظاهر الآية أيّ هذه الأقسام. فقال الواحدي: وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا يدل على أن الطائفة الأولى قد صلت عند إتيان الثانية كما هو مذهب الشافعي. وأما عند أبي حنيفة فالطائفة الثانية تأتي والأولى بعد في الصلاة وما فرغوا منها. وأيضا قوله: فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ ظاهره يدل على أن جميع صلاة الطائفة الثانية مع الإمام. قال أصحاب أبي حنيفة: فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ يدل على أن الطائفة الأولى لم يفرغوا من الصلاة ولكنهم يصلون ركعة ثم يكونون من وراء الطائفة الثانية للحراسة. أجاب الواحدي بأن هذا إنما يلزم إذا جعلنا السجود والكون من ورائكم لطائفة واحدة، لكن السجود للأولى والكون من الوراء الذي بمعنى الحراسة للطائفة الثانية، أو معنى سجدوا صلوا وحينئذ لا يبقى إشكال وأيضا الذي اختاره الشافعي أحوط لأمر الحرب فإنها أخف على الطائفتين جميعا والحراسة خارج الصلاة أهون وليس فيها ما في غيرها من زيادة الذهاب والرجوع وكثرة الأفعال والاستدبار، وليس فيها إلّا الانفراد عن الإمام في الركعة الثانية وذلك جائز على الأصح في الأمن أيضا، وإلّا انتظار الإمام بالطائفة الثانية مرتين وإن كانت الصلاة مغربا فيصلي بالأولى ركعتين وبالثانية ركعة ويجوز العكس. وإن كانت رباعية فيصلي بكل طائفة ركعتين، ويجوز أن يفرقهم أربع فرق إن مست الحاجة إليه بأن لا يكفي نصف المسلمين لعدوهم. واعلم أن الصلاة على الوجه المشروع ليست عزيمة بل لو صلى الإمام بطائفة وأمر غيره فيصلي بالآخرين أو صلى بعضهم أو كلهم منفردين جاز، لكن كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يسمحون بترك فضيلة الجماعة ويتنافسون في الاقتداء به فأمره الله تعالى بترتيبهم هكذا لتحوز إحدى الطائفتين فضيلة التكبير معه، والأخرى فضيلة التسليم معه. فالخطاب في قوله: وَإِذا كُنْتَ للنبي صلى الله عليه وسلم أي إذا كنت أيها النبي مع المؤمنين في غزواتهم وخوفهم فَأَقَمْتَ لَهُمُ(2/488)
الصَّلاةَ
فاجعلهم طائفتين: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فصل بهم وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فإن كان الضمير لغير المصلين فلا كلام، وإن كان للمصلين فليأخذوا من السلاح ما لا يشغلهم عن الصلاة كالسيف والخنجر، ويحتمل أن يكون أمرا للفريقين بحمل السلاح لأن ذلك أقرب إلى الاحتياط. ثم قال للطائفة الثانية: وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ فكأنه جعل الحذر والتيقظ آلة يستعملها الغازي. وفيه رحمة للخائف في الصلاة بأن يجعل بعض فكره في غير الصلاة. وإنما أمر هذه الطائفة بأخذ الحذر والأسلحة جميعا لأن العدو قلما يتنبه في أول الصلاة لكون المسلمين في الصلاة بل يظنونهم قياما للمحاربة، وأما في الركعة الثانية فيظهر لهم ذلك من ركوعهم وسجودهم الأولين فربما ينتهزون الفرصة في الهجوم عليهم كما ذكرنا في سبب النزول، فلا جرم خص الله تعالى هذا الموضع بزيادة تحذير مَيْلَةً واحِدَةً شدة واحدة. ثم رخص لهم في وضع السلاح إذا أصابه بلل المطر فيسود وتفسد حدته وجدته أو يثقل على المرء إذا كان محشوا، وحين كان الرجل مريضا فيشق عليه حمل السلاح ولكنه أعاد الأمر بأخذ الحذر لأن الغفلة عن كيد العدو لا تجوز بكل حال. قال بعض العلماء أخذ السلاح في صلاة الخوف سنة مؤكدة والأصح أنه واجب لأن ظاهر الأمر للوجوب، ولأن رفع لجناح عند العذر ينبىء عن وجود الجناح في غير ذلك الوقت لكن الشرط أن لا يحمل سلاحا فحسب أن أمكنه، ولا يحمل الرمح إلّا في طرف الصف. وبالجملة بحيث لا يتأذى به أحد وفي هذا دليل على أنه كان يجوز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي بصلاة الخوف على جهة يكون بها حاذرا غير غافل عن كيد العدو، فلا يكون شيء من الروايات الواردة
فيها على خلاف نص القرآن وكما أن الآية دلت على وجوب الحذر عن العدو كذلك تدل على وجوب الحذر عن جميع المضار المظنون، وبهذا الطريق كان الإقدام على العلاج بالدواء والاحتراز عن الوباء في الجلوس تحت الجدار المائل واجبا. قالت المعتزلة: لو لم يكن العبد قادرا على الفعل والترك، وعلى جميع وجوه الحذر لم يكن للأمر بالحذر فائدة. والجواب أنا لا ننكر الأسباب لكنا ندعي انتهاء الكل إلى مسببها ولهذا ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ليعلموا أنه تعالى رتب على هذا الحذر كون الكفار مخذولين مقهورين وكان كما أخبر. أما قوله: فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ ففيه قولان: الأول فإذا قضيتم صلاة الخوف فواظبوا على ذكر الله في جميع الأحوال فإن ما أنتم عليه من الخوف والحرب جدير بذكر الله وإظهار الخشوع واللجا إليه. الثاني أن المراد بالذكر الصلاة أي صلوا قياما حال اشتغالكم بالمسايفة والمقارعة، وقعودا جاثين على الركب حال اشتغالكم بالرمي، وعلى جنوبكم مثخنين بالجراح. وأورد على هذا القول أن الذكر بمعنى الصلاة مجاز وأن المعنى يصير حينئذ: فإذا قضيتم الصلاة فصلوا وفيه بعد اللهم إلّا أن يقال: المراد فإذا أردتم قضاء الصلاة فصلوا في(2/489)
شدّة التحام القتال.
واعلم أن الآية مسبوقة بحكمين: أحدهما بيان القصر في صلاة المسافر والثاني بيان صلاة الخوف. فقوله: فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ يحتمل أن يراد به فإذا صرتم مقيمين فأقيموا الصلاة تامة من غير قصر البتة، ويحتمل أن يراد فإذا زال الخوف وحصل سكون القلب فأقيموا الصلاة التي كنتم تعرفونها من غير تغيير شيء من هيئاتها إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أي مكتوبة موقوتة محدودة بأوقات لا يجوز إخراجها عنها ولو في شدة الخوف، وفيه دليل للشافعي في إيجابه الصلاة على المحارب في حال المسايفة والاضطراب في المعركة إذا حضر وقتها. وعند أبي حنيفة هو معذور في تركها إلى أن يطمئن. وأوقات الصلاة الخمس مشهورة وقد يستدل عليها بقوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: 238] فإن الوسطى يجب أن تكون مغايرة للصلوات لئلا يلزم التكرار فهي زائدة على الثلاث، ولو كان الواجب أربعا لم يوجد لها وسطى فإذا أقلها خمس وسيجيء آيات أخر دالة على الأوقات الخمس كقوله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هود: 114] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء: 78] وسنشرحها إن شاء الله تعالى في مواضعها. قال المحققون: إن للإنسان خمس مراتب: سن النمو إلى تمام سن الشباب، وسن الوقوف وهو أن يبقى ذلك الشخص على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان، وسن الكهولة ويظهر فيها نقصان خفي في الإنسان، وسن الشيخوخة ويظهر فيها نقصانات جلية فيه إلى أن يموت ويهلك. وأما المرتبة الخامسة فهي أخباره وآثاره إلى أن يندرس وينطمس ويصير كأن لم يكن، وكذا الشمس إذا ظهر سلطانها من المشرق لا يزال يزداد ضياؤها إلى طلوع جرمها، ثم يزداد ارتفاعها شيئا بعد شيء إلى أن يبلغ وسط السماء، ثم يظهر فيها نقصانات خفية من الانحطاط وضعف النور والحر إلى وقت العصر حين يصير ظل كل شيء مثله، ثم تظهر النقصانات الجلية إلى أن يصير في زمان لطيف ظل كل شيء مثليه، ثم أزيد إلى أن تغرب، ثم يبقى أثرها في أفق المغرب وهو الشفق، ثم ينمحي حتى يصير كأن الشمس لم توجد قط. فهذه الأحوال الخمس أمور عجيبة لا يقدر عليها إلّا خالقها وخالق جميع الأشياء، وموافقة لأسنان الإنسان فلهذا تعينت أوقاتها للعبادة والإقبال على المعبود الحق تعالى جده. ثم عاد إلى الحث على الجهاد فقال: وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ لا تضعفوا في طلب الكفار بالقتال والتعرض لهم بما يقلقهم. ثم ألزمهم الحجة بقوله: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ والمعنى أن حصول الألم قدر مشترك بينكم وبينهم ولكم مع ذلك رجاء الثواب على الجهاد دونهم لأنهم ينكرون المعاد فأنتم أولى بالصبر على القتال(2/490)
والحد فيه منهم، ويحتمل أن يراد بهذا الرجاء ما وعدهم الله من النصر والغلبة على سائر الأديان، أو يراد أنكم تعبدون الإله العالم القادر السميع البصير الذي يصح أن يرجى منه، وأنهم يعبدون الأصنام التي لا خيرهن يرجى ولا شرهن يخشى. ويروى أن هذا في بدر الصغرى كان بهم جراح فتواكلوا. وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً لا يكلفكم إلا ما فيه صلاح لكم في دينكم ودنياكم. ثم رجع إلى ما انجر منه الكلام وهو حديث المنافقين، وفيه أن الأحكام المذكورة كلها بإنزال الله تعالى وليس للرسول أن يحيد عن شيء منها طلبا لرضا قومه، وفيه أن كفر الكافر لا يبيح المساهلة في النظر له وإن كان يجوز الجهاد معه بل الواجب أن يحكم له وعليه بما أنزله تعالى على رسوله.
قال أكثر المفسرين: إن رجلا من الأنصار- يقال له طعمة بن أبيرق أحد بني ظفر بن الحرث- سرق درعا من جار له- يقال له قتادة بن النعمان- وجرابا فيه دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق في الجراب حتى انتهى إلى الدار وفيها أثر الدقيق، ثم خبأها عند رجل من اليهود- يقال له زيد بن السمين- فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده وحلف لهم والله ما أخذها وما له بها من علم فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها فقال: دفعها إلى طعمة وشهد له ناس من اليهود. فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلموه في ذلك وسألوه أن يجادل عن صاحبهم وقالوا: إنك إن لم تفعل هلك صاحبنا وافتضح وبرىء اليهودي. فَهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل وكان هواه صلى الله عليه وسلم معهم وأن يعاقب اليهودي.
وقيل: همَّ أن يقطع يده فأنزل الله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ الآيات إلى قوله: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً وفي الآية دليل على أن طعمة وقومه كانوا منافقين وإلا لما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم نصرة الباطل وإلحاق السرقة باليهودي. قال أبو علي: قوله: بِما أَراكَ اللَّهُ ليس منقولا بالهمزة من رؤية البصر لأن حكم الحادثة لا يرى بالبصر ولا من رؤية القلب وإلا لاقتضى ثلاثة مفاعيل وليس في الآية إلا اثنان: أحدهما الكاف والآخر الضمير العائد المحذوف فهو إذن بمعنى الاعتقاد معناه بما علمك الله. وسمى ذلك العلم بالرؤية لأن العلم اليقيني المبرأ عن جهات الريب يكون جاريا مجرى الرؤية في القوة والظهور، وكان عمر يقول: لا يقولن أحدكم قضيت بما أراني الله فإن الله لم يجعل ذلك إلا لنبيه والرأي منا ظن وتكلف. قال بعض العلماء: في الآية دلالة على أنه ما كان يحكم إلا بالوحي والنص، وأن الاجتهاد ما كان جائزا له صلى الله عليه وسلم وحينئذ يجب أن يكون حال الأمة كذلك لقوله: فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام: 153] وأجيب بأن العمل بالقياس عمل بالنص أيضا وكأنه تعالى قال: مهما غلب على ظنك أن حكم الصورة المسكوت عنها مثل حكم الصورة المنصوص عليها بسبب أمر(2/491)
جامع بين الصورتين، فاعلم أن تكليفي في حقك أن تعمل بموجب ذلك الظن. وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ أي لأجلهم يريد بني ظفر وهم قوم طعمة خَصِيماً مخاصما وأصله من الخصم بالضم والسكون وهو ناحية الشيء وطرفه، وكأن كل واحد من الخصمين في ناحية من الحجة والدعوى. قال بعض الطاعنين في عصمة الأنبياء صلى الله عليه وسلم: لولا أن الرسول أراد أن يخاصم لأجل الخائن ويذب عنه لما ورد النهي عنه ولما أمر صلى الله عليه وسلم بالاستغفار. والجواب أن النهي عن الشيء لا يقتضي كون المنهي مرتكبا للمنهي عنه، بل ثبت في الرواية أن قوم طعمة لما التمسوا منه صلى الله عليه وسلم أن يذب عن طعمة ويلحق السرقة باليهودي توقف وانتظر الوحي، ولعله أمر بالاستغفار لأنه مال طبعه إلى نصرة طعمة بسبب أنه كان في الظاهر من المسلمين وحسنات الأبرار سيئات المقربين، أو لعل القوم شهدوا بسرقة اليهودي وبراءة طعمة ولم يظهر للرسول صلى الله عليه وسلم ما يوجب القدح في شهادتهم، فهم بالقضاء على اليهودي فأطلعه الله تعالى على مصدوق الحال، أو لعل المراد واستغفر لأولئك الذين يذبون عن طعمة ثم قال:
وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
يعني طعمة ومن عاونه من قومه ممن علموا كونه سارقا. والاختيان كالخيانة يقال: خانه واختانه، والعاصي خائن نفسه لأنه يحرم نفسه الثواب ويوصلها إلى العقاب. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً
قال المفسرون: إن طعمة خان في الدرع وأثم في نسبة اليهودي إلى تلك السرقة. وإنما ورد البناءان على المبالغة والعموم ليتناول طعمة وكل من خان خيانة فلا تخاصم لخائن قط ولا تجادل عنه لأن الله لا يحبه. وأيضا كان الله عالما من طعمة بالإفراط في الخيانة وركوب الإثم.
وروي أنه هرب إلى مكة وارتد ونقب حائطا بمكة ليسرق أهله فسقط الحائط عليه فقتله، ومن كانت تلك خاتمة أمره لا يشك في حاله.
وقالت العقلاء: إذا عثرت من رجل على سيئة فاعلم أن لها أخوات. وعن عمر أنه أمر بقطع يد سارق فجاءت أمه تبكي وتقول: هذه أول سرقة سرقها فاعف عنه. فقال: كذبت إن الله لا يؤاخذ عبده في أول مرة. وفي الآية دليل على أن من كان قليل الخيانة والإثم لم يكن في معرض السخط من الله. يَسْتَخْفُونَ
يستترون من الناس حياء منهم وخوفا من ضررهم وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
أي لا يستحيون منه لأن الاستخفاء لازم الاستحياء وهو معهم بالعلم والقدرة والرؤية وكفى هذا زاجرا للإنسان عن المعاصي. إِذْ يُبَيِّتُونَ
يدبرون ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ
وهو تدبير طعمة أن يرمي بالدرع في دار زيد ليسرق دونه ويحلف ببراءته وتسمية التدبير وهو معنى في النفس قولا ليس فيها إشكال عند القائلين بالكلام النفسي، وأما عند غيرهم فمجاز، أو لعلهم اجتمعوا في الليل ورتبوا كيفية المكر فسمى الله تعالى كلامهم ذلك بالقول المبيت الذي لا يرضاه الله، أو المراد بالقول الحلف الكاذب الذي حلف به بعد أن بيته ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ
ها للتنبيه في أنتم(2/492)
وأولاء وهما مبتدأ وخبر وقوله: جادَلْتُمْ عَنْهُمْ
جملة موضحة للأولى كما يقال للسخي:
أنت حاتم تجود بمالك. أو المراد أنتم الذين جادلتم والخطاب لقوم مؤمنين كانوا يذبون عن طعمة وقومه لأنهم في الظاهر مسلمون. والمعنى: هبوا أنكم خاصمتم عن طعمة وقومه في الدنيا فمن الذي يخاصم عنهم في الآخرة إذا أخذهم الله بعذابه أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا
حافظا ومحاميا عن عذاب الله. وهذا الاستفهام معطوف على الأول وكلاهما للإنكار والتقريع.
ثم أردف الوعيد بذكر التوبة فقال: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
قبيحا متعديا يسوء به غيره كما فعل طعمة بقتادة واليهودي أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ
بما يجازي به كالحلف الكاذب. وإنما خص ما يتعدى إلى الغير باسم السوء لأن إيصال الضرر إلى الغير سوء حاضر بخلاف الذي يعود وباله إلى فاعله فإن ذلك في الأكثر لا يكون ضررا عاجلا، لأن الإنسان لا يوصل الضرر إلى نفسه. وقد يستدل بإطلاق الآية على أن التوبة مقبولة عن جميع الذنوب وإن كان كفرا أو قتلا عمدا أو غصبا للأموال، بل على أن مجرد الاستغفار كاف. وعن بعضهم أن الاستغفار لا ينفع مع الإصرار فلابد من اقترانه بالتوبة يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
أي له فحذف هذا الرابط لدلالة الكلام عليه لأنه لا معنى للترغيب في الاستغفار إلا إذا كان المراد ذلك. وقيل: ومن يعمل سوءا من ذنب دون الشرك أو يظلم نفسه بالشرك، وهذا بعث لطعمة على الاستغفار والتوبة لتلزمه الحجة مع العلم بما يكون منه، أو بعث لقومه لما فرط منهم من نصرته والذب عنه. وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً
لكسب عبارة عما يفيد جر منفعة أو دفع مضرة ولذلك لم يجز وصف الباري تعالى بذلك. والمقصود منه ترغيب العاصي في الاستغفار وكأنه قال: الذنب الذي أتيت به إنما يعود وباله وضرره إليك لا إليّ فإني منزه عن النفع والضر، ولا تيأس من قبول التوبة.
وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً
تقتضي حكمته أن يتجاوز عن التائب ما علمه منه. وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً
صغيرة وَإِثْماً
كبيرة وقيل: الخطيئة الذنب القاصر على فاعله والإثم هو الذنب المتعدي إلى الغير كالظلم والقتل. وقيل الخطيئة ما لا ينبغي فعله سواء كان بالعمد أو الخطأ، والإثم ما حصل بسبب العمد. ثُمَّ يَرْمِ بِهِ
أي بأحد المذكورين أو بالإثم أو بذلك الذنب لأن الخطيئة في معنى الذنب، أو بذلك الكسب بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً
لأنه بكسب الإثم أثيم وبرمي البريء باهت فهو جامع بين الأمرين، فلا جرم يلحقه الذم في الدارين. وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ
ولولا أن خصك الله الفضل وهو النبوة وبالرحمة وهي العصمة لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ
من بني ظفر أو طائفة من الناس والطائفة بنو ظفر أَنْ يُضِلُّوكَ
عن القضاء الحق والحكم العدل وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ
بسبب تعاونهم على(2/493)
الإثم والعدوان وشهادتهم بالزور والبهتان لأن وباله عليهم وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ
لأنك إنما عملت بظاهر الحال وما أمرت الأنبياء إلا بالأحكام على الظواهر، أو هو وعد بإدامة العصمة له مما يريدون في الاستقبال من إيقاعه في الباطل. ثم أكد الوعيد بقوله:
وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ
أي إنه لما أمرك بتبليغ الشريعة إلى الخلق فكيف يليق بحكمته أن لا يعصمك عن الوقوع في الشبهات والضلالات؟ وعلى الأول يكون المراد أنه أوجب في الكتاب والحكمة بناء أحكام الشرع على الظاهر فكيف يضرك بناء الأمر عليه وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
من أخبار الأولين. فيه معنيان: أحدهما أن يكون كما قال: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [الشورى: 52] أي أنزل الله عليك الكتاب والحكمة وأطلعك على أسرارهما وأوقفك على حقائقهما مع أنك ما كنت قبل ذلك عالما بشيء منهما، فكذلك يفعل بك في مستأنف أيامك حتى لا يقدر أحد من المنافقين على إضلالك.
الثاني أن يكون المراد منها خفيات الأمور وضمائر القلوب أي علمك ما لم تكن تعلم من أخبار الأولين، فكذلك يعلمك من حيل المنافقين ووجوه مكايدهم ما تقدر على الاحتراز منهم وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً
فيه دليل ظاهر على شرف العلم حيث سماه عظيما وسمى متاع الدنيا بأسرها قليلا.
التأويل:
الصلاة صورة جذبة الحق ومعراج العبد فلهذا فرضت في الخوف والأمن وشدة القتال والسفر والحضر والصحة والمرض ليكون العبد مجذوب العناية على الدوام وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ أي أدمتها لهم لأن النظر إليك عبادة كما أن الصلاة عبادة، وكما أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر فإنك تنهاهم عن الفحشاء والمنكر فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ هم الخواص مِنْهُمْ أي من عوامهم مَعَكَ أي مع الله لأنك مع الله كقوله: لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: 40] وَلْيَأْخُذُوا يعني طائفة من بقية القوم أَسْلِحَتَهُمْ من الطاعات والعبادات دفعا لعدو النفس والشيطان فَإِذا سَجَدُوا يعني من معك ونزّلوا مقامات القرب فَلْيَكُونُوا أي هؤلاء القوم مِنْ وَرائِكُمْ في المرتبة والمقام والمتابعة يحفظونكم باشتغالهم بالأمور الدنيوية لحوائجكم الضرورية للإنسان. وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ في الصحبة فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ في الوصلة وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وهو آداب الطريقة وَأَسْلِحَتَهُمْ وهي أركان الشريعة وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا هم عدوّ النفس وصفاتها إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ يعني أشغال الدنيا وضروريات حوائج الإنسان يمطر عليكم في بعض الأوقات أن تضعوا أسلحة الطاعة والأركان ساعة فساعة. وَخُذُوا حِذْرَكُمْ من التوجه إلى الحق ومراقبة الأحوال وحفظ القلب وحضوره مع الله وخلو السر(2/494)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
عن الالتفات لغير الله ورعاية التسليم والتفويض إلى الله والاستمداد من همم أعاظم الدين والالتجاء إلى ولاية النبوة إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ بهذه الأسباب لِلْكافِرِينَ من كفار النفس والشيطان عَذاباً مُهِيناً فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ المكتوبة فَاذْكُرُوا اللَّهَ في جميع حالاتكم إِنَّ الصَّلاةَ كانت في الأزل عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً مؤقتا إلى الأبد كما أشار إليه بقوله: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ [الفتح: 1] أي بابا من القدم إلى الحدوث لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ [الفتح: 2] بما فتح عليك ما تَقَدَّمَ في الأزل مِنْ ذَنْبِكَ [الفتح: 2] بأن لم تكن مصليا وَما تَأَخَّرَ [الفتح: 2] من ذنبك بأن لا تكون مصليا وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [الفتح: 2] بأن يجعل سيئاتك وهي عدم صلاتك في الأزل أو الأبد مبدلة بالحسنات وهي الصلاة المقبولة من الأزل إلى الأبد وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً من الأزل إلى الأبد ومن الأبد إلى الأزل. وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ النفس وصفاتها إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ في الجهاد بعناء الرياضات والعبادات فإنهم يألمون في طلب اللذات والشهوات كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ العواطف الأزلية والعوارف الأبدية ما لا يَرْجُونَ لأنّ همم النفس الدنية لا تجاوز قصورها الدنية المجازية الفانية بِما أَراكَ اللَّهُ حين أوحى إليك بلا واسطة ما أوحى وأراك آياته الكبرى.
[سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 126]
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122) لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)(2/495)
القراآت:
يؤتيه بالياء: أبو عمرو وحمزة وخلف وقتيبة وسهل. الباقون بالنون.
نُوَلِّهِ وَنُصْلِهِ مثل يُؤَدِّهِ [آل عمران: 75] . يَدْخُلُونَ بضم الياء وفتح الخاء وكذلك في «مريم» و «حم المؤمن» : أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ويزيد وأبو بكر وحماد. الآخرون بالعكس. إبراهام وما بعده في هذه السورة: هشام وكذلك روى الموصلي عن الأخفش عن ابن ذكوان.
الوقوف:
بَيْنَ النَّاسِ ط عَظِيماً هـ جَهَنَّمَ ط مَصِيراً هـ لِمَنْ يَشاءُ ط بَعِيداً هـ إِناثاً ج لابتداء النفي مع واو العطف. مَرِيداً لا لأن ما بعده صفة له.
لَعَنَهُ اللَّهُ م لأنّ قوله: وَقالَ غير معطوف على لَعَنَهُ. مَفْرُوضاً هـ لا للعطف خَلْقَ اللَّهِ ط مُبِيناً ط كيلا يصير يَعِدُهُمْ وصفا للخسران. وَيُمَنِّيهِمْ ط غُرُوراً هـ مَحِيصاً هـ أَبَداً ط حَقًّا ط قِيلًا هـ الْكِتابِ ط يجز به لا للعطف. نَصِيراً هـ نَقِيراً هـ حَنِيفاً ط خَلِيلًا هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط مُحِيطاً هـ.
التفسير:
ثم أشار إلى ما كانوا يتناجون به حيث يبيتون ما لا يرضى من القول.
والنجوى سر بين اثنين وكذا النجو يقال: نجوته نجوا أي ساررته وكذلك ناجيته. قال الفراء: قد تكون النجوى اسما ومصدرا، والآية وإن نزلت في مناجاة بعض قوم ذلك السارق بعضا إلّا أنها في المعنى عامة. والمراد أنه لا خير فيما يتناجى به الناس ويخوضون فيه من الحديث. إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ وفي محل «من» وجوه مبنية على معنى النجوى. فإن كان النجوى السر جاز أن يكون «من» في موضع النصب لأنه استثناء الشيء من خلاف جنسه كقوله إلّا أواريّ ومعناه لكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير، أو في موضع الرفع كقوله:
إلّا اليعافير وإلّا العيس. وأبو عبيد جعل هذا من باب حذف المضاف معناه إلّا نجوى من أمر على أنه مجرور بدل من كثير كما تقول: لا خير في قيامهم إلّا قيام زيد أي في قيامه، وعلى هذا يكون الاستثناء من جنسه. وإن كان النجوى بمعنى ذوي نجوى كقوله: وَإِذْ هُمْ نَجْوى [الإسراء: 47] كان محله أيضا مجرورا من كَثِيرٍ أو من نجوى كما لو قلت: لا خير في جماعة من القوم إلّا زيد إن شئت أتبعت زيدا الجماعة وإن شئت أتبعته القوم. وإنما قال: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مع أنه يصدق الحكم كليا بدليل
قوله صلى الله عليه وسلم: «كلام ابن آدم كله عليه(2/496)
لا له إلّا ما كان من أمر بمعروف أو نهى عن منكر» «1»
أو ذكر الله استجلابا للقلوب وليكون أدخل في الاعتراف به، وليخرج عنه الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. واعلم أن قول الخير إما أن يتعلق بإيصال المنفعة أو بدفع المضرة، والأول إن كان من الخيرات الجسمانية فهو الأمر بالصدقة، وإن كان من الخيرات الروحانية بتكميل القوة النظرية أو العملية فهو الأمر بالمعروف. والثاني هو الإصلاح بين الناس فثبت أن الآية مشتملة على جوامع الخيرات ومكارم الأخلاق، وهذه الأوامر وإن كانت مستحسنة في الظاهر إلّا أنها لا تقع في حيّز القبول إلّا إذا عمل صاحبها بما أمر كيلا يكون من زمرة أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [البقرة: 44] لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ [الصف: 1] وإلّا إذا طلب بها وجه الله فلهذا قال: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ويمكن أن يقال:
إنّ معنى وَمَنْ يَفْعَلْ الأمر والمراد أو؟؟؟ من يأمر فعبر عن الأمر بالفعل لأنّ الأمر فعل من الأفعال. والمراد بقوله: مَنْ أَمَرَ من فعل لأنّ الأمر يلزمه الفعل غالبا. ثم قال: وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ قال الزجاج: إنّ طعمة كان قد تبيّن له بما أظهر الله من أمره ما دلّه على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فعادى الرسول وأظهر الخلاف وارتد على عقبيه واتبع دين عبادة الأوثان وهو غير دين الموحدين وسبيلهم. ومعنى نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى نجعله واليا لما اختاره لنفسه ونكله إلى ما توكل عليه. قال بعض الأئمة: هذا منسوخ بآية السيف ولا سيما في حق المرتد. والظاهر أن المراد به الطبع والخذلان وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ نلزمه إياها وَساءَتْ مَصِيراً هي. وانتصب مَصِيراً على التمييز من الضمير المبهم في ساءت لأنه يعود إلى ما في الذهن لا إلى المذكور. يحكى أنّ الشافعي سئل عن آية في كتاب الله دالّة على أن الإجماع حجة، فقرأ القرآن ثلاثمائة مرة حتى وقف على هذه الآية. ووجه الاستدلال أن اتباع غير سبيل المؤمنين حرام لأنه تعالى جمع بين اتباع غير سبيلهم وبين مشاقة الرسول ورتب الوعيد عليهما، واتباع غير سبيل المؤمنين يلزمه عدم اتباع سبيل المؤمنين لاستحالة الجمع بين الضدين أو النقيضين. فعدم اتباع سبيل المؤمنين حرام فاتباع سبيلهم واجب كموالاة الرسول. وفي الآية دلالة على وجوب عصمة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى وجوب الاقتداء بأقواله وأفعاله وإلّا وجب المشاقة في بعض من الأمور وهي منهي عنها في الكل. قيل: في الآية دلالة على أنه لا يمكن تصحيح الدين إلّا بالنظر والاستدلال لأنّ الهدى اسم للدليل لا للعلم إذ لا معنى لتبين العلم لكنه رتب الوعيد على المخالفة بعد تبيين الدليل فيكون تبيين الدليل معتبرا في صحة الدين. وأقول: الموقوف على النظر هو معرفة وجود الواجب لذاته وصحة نبوّة
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب 12.(2/497)
النبي صلى الله عليه وسلم والباقي يكفي في اعتقاده إخبار الصادق على أن إخبار الصادق أيضا دليل فلا حكم إلّا عن دليل. ثم إنه كرّر في السورة قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ للتأكيد. وقيل:
لقصة طعمة وإشراكه بالله. وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً لأنّه لا أجلى من وجود الصانع ووحدته، والمطلوب كلما كان أجلى كان نقيضه أبعد. ثم أوضح هذا المعنى بقوله سبحانه: إِنْ يَدْعُونَ أي ما يعبدون مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً أي أوثانا وكانوا يسمونها بأسماء الإناث كاللات والعزى، فاللات تأنيث الله، والعزى تأنيث الأعز. قال الحسن: لم يكن حي من أحياء العرب إلّا ولهم صنم يعبدونه ويسمونه أنثى بني فلان ويؤيده قراءة عائشة إلّا أوثانا وقراءة ابن عباس إلّا أثنا جمع وثن مثل أسد وأسد إلّا أن الواو أبدلت همزة كأجوه. وقيل: المراد إلّا أمواتا لأنّ الإخبار عن الأموات يكون كالإخبار عن الإناث.
تقول: هذه الأحجار أعجبتني كما تقول هذه المرأة أعجبتني، ولأن الأنثى أخس من الذكر والميت أخس من الحي. وقيل: كانوا يقولون في أصنامهم هنّ بنات الله. وقيل: إنّ بعضهم كان يعبد الملائكة ويقولون الملائكة بنات الله. وَإِنْ يَدْعُونَ ما يعبدون بعبادة الأصنام إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً بالغا في العصيان مجردا عن الطاعة. يقال: شجرة مرداء إذا تناثر ورقها، والأمرد ذلك الذي لم تنبت له لحية. قال المفسرون: كان في كل واحدة من تلك الأوثان شيطان يتراءى للسدنة يكلمهم. وقالت المعتزلة: جعلت طاعتهم للشيطان عبادة له لأنه هو الذي أغراهم على عبادتها فأطاعوه. والظاهر أنّ المراد بالشيطان هاهنا هو إبليس لأنه وصف بقوله: لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ وهو جواب قسم محذوف أي شيطانا جامعا بين لعنة الله إياه وبين هذا القول الشنيع وهو الإخبار عن الاتخاذ مؤكدا بالقسم. ويمكن أن يقال: المراد بلعنة الله ما استحق به اللعن من استكباره عن السجود كقولهم: أبيت اللعن أي لا فعلت ما تستحقه به. ومعنى نَصِيباً مَفْرُوضاً حظا مقطوعا واجبا فرضته لنفسي وأصل الفرض القطع ومنه الفريضة لأنه قاطع الأعذار وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة: 237] جعلتم لهن قطعة من المال. وفرض الجندي رزقه المقطوع المعين. قال الحسن: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون وذلك لما
روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يقول الله تعالى: «يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير بيديك. قال: أخرج بعث النار. قال:
وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون» «1» الحديث.
وهاهنا سؤال وهو أن حزب الشيطان وهم الذين يتبعون خطواته من الكفار والفساق لما كانوا أكثر من حزب الله
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 7. مسلم في كتاب الإيمان حديث 379. الترمذي في كتاب تفسير سورة 22 باب 1، 2. أحمد في مسنده (1/ 388) ، (2/ 166) .(2/498)
فلم أطلق عليهم لفظ النصيب مع أنه لا يتناول إلّا القسم الأقل؟ والجواب أنّ هذا التفاوت إنما يحصل من نوع البشر، أما إذا ضمّ الملائكة إليهم فالغلبة للمحقين لا محالة. وأيضا الغلبة لأهل الحق وإن قلّوا، وغيرهم كالعدم وإن كثروا. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ يعني عن الحق.
قالت المعتزلة: فيه دلالة على أصلين من أصولنا: الأول أنّ المضل هو الشيطان دون الله، والثاني أنّ الإضلال ليس عبارة عن خلق الكفر والضلال فإنّ الشيطان بالاتفاق لا يقدر على ذلك. وأجيب بأنّ هذا كلام إبليس فلا يكون حجة على أنّ كلامه في هذه المسألة مضطرب جدا فتارة يميل إلى القدر المحض وهو قوله: لَأُضِلَّنَّهُمْ لَأُغْوِيَنَّهُمْ [ص: 82] وأخرى إلى الجبر المحض كقوله: رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي [الأعراف: 16] وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال واقتحام الأهوال وانتظام الأحوال فلا يكاد يقدم على التوبة والإقبال على تهيئة زاد الآخرة حتى يصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة.
وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ البتك القطع، وسيف باتك أي صارم، والتبتيك التقطيع شدّد للكثرة. وجمهور المفسرين على أنّ المراد به هاهنا قطع آذان البحائر كانوا يشقون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن إذا جاء الخامس ذكرا وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ويسمونها بحيرة. وقال بعضهم: كانوا يقطعون آذان الأنعام نسكا في عبادة الأوثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق. قوله: فَلَيُبَتِّكُنَّ صيغة غابر للغائبين واللام لجواب قسم آخر أي فو الله ليبتكن وأصله ليبتكون، فلما دخلت النون الثقيلة سقطت نون الرفع ولتوالي الأمثال وواو الجمع لالتقاء الساكنين واكتفى بالضمة، والفاء للتسبيب والإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها والجملة كالتفسير لقوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ ومثله في الإعراب قوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ والمراد من التغيير إما المعنوي وإما الحسي. فمن الأول قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن والضحاك ومجاهد والنخعي وقتادة والسدي أنه تغيير دين الله بتبديل الحرام حلالا وبالعكس، أو بإبطال الاستعداد الفطري فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30]
«كل مولود يولد على الفطرة» .
ومن الثاني قول الحسن المراد ما
روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لعن الله الواشمات والواشرات والمتنمصات» «1»
وذلك أنّ المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا. أما وشم اليد فهو أن
__________
(1) رواه البخاري في كتاب البيوع باب 25، 113. مسلم في كتاب اللباس حديث 119. أبو داود في كتاب الترجل باب 5. الترمذي في كتاب اللباس باب 25. النسائي في كتاب الطلاق باب 13.
ابن ماجه في كتاب النكاح باب 52. الدارمي في كتاب الاستئذان باب 19. أحمد في مسنده (1/ 83، 87) ، (6/ 250) .(2/499)
يغرزها بالإبرة ثم يذر عليها النيل. والوشر تحديد الأسنان، والتنميص نتف شعر الحاجب وغيره. وقال أنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأبو صالح: تغيير خلق الله هو الخصاء وقطع الآذان وفقء العيون. وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفا أعور وأعين فحلها. وخصاء البهائم مباح عند عامة العلماء وأما في بني آدم فمحظور. وعند أبي حنيفة يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم لأنّ الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم. وقال ابن زيد: هو التخنث تشبه الذكر بالأنثى. وعلى هذا فالسحق أيضا داخل في الآية لأنّه تشبه الأنثى بالذكر. وحكى الزجاج عن بعضهم أنّ الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب، وخلق الشمس والقمر مسخرين للناس ينتفعون بهما فعبدوهما فغيروا خلق الله. واعلم أن دخول الضرر في الإنسان إنما يكون على ثلاثة أوجه: التشويش والنقصان والبطلان، فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في ضرر الدين وهو قوله:
لَأُضِلَّنَّهُمْ ثم فصل ذلك بقوله: وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وهو الضرر من جنس التشويش لأن صاحب الأماني يتشوّش فكره في استخراج الحيل الدقيقة والوسائل اللطيفة في تحصيل مطالبه الشهوية والغضبية والشيطانية. وقوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ إشارة إلى الضرر بالنقصان لأنّ الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف العزم في طلب الآخرة. وقوله: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ إشارة إلى البطلان لأن من بقي مواظبا على طلب اللذات العاجلة معرضا عن السعادات الباقية فلا يزال يتزايد ميله وركونه إلى الدنيا حتى يتغير قلبه بالكلية ولا يخطر بباله ذكر الآخرة. وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً إذ فاته أشرف المطالب بسبب الاشتغال بأخسها. والسبب فيه أنّ الشيطان يعدهم ويمنيهم فيقول للشخص إنه سيطول عمره وينال من الدنيا مقصوده ويستولي على أعدائه ويوقع في قلبه أن الدنيا دول فربما تيسرت لي كما تيسرت لغيري وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً لأنه ربما لم يطل عمره، وإن طال فربما لم يجد مطلوبه، وإن طال عمره ونال مأموله على أحسن الوجوه فلا بد أن يكون عند الموت في أشد حسرة وأبلغ حيرة لأنّ المطلوب كلما كان ألذ وأشهى وكان الإلف معه أدوم وأبقى كانت مفارقته آلم وأنكى.
وأيضا لعل الشيطان يعدهم أنه لا قيامة ولا حساب ولا جزاء ولا عقاب فاجتهدوا في استيفاء اللذات العاجلة واغتنموا فرصة الحياة الزائلة فلذلك قيل: أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً مفرا ومعدلا وله معنيان: أحدهما لا بدّ لهم من ورودها، والثاني التخليد بمعنى الدوام للكفار أو طول المكث للفساق.(2/500)
ثم أردف الوعيد بالوعد على سنته المعهودة فقال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قال أهل السنة: لو كان الخلود الدوام لزم التكرار فإذن هو طول المكث المطلق. وقوله: أَبَداً مفيد للتأبيد. وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا مصدران الأول مؤكد لنفسه والثاني مؤكد لغيره لأن قوله: سَنُدْخِلُهُمْ وعد منه تعالى ومضمونه هو مضمون وعد الله، وأما حَقًّا فمضمونه أخص من مضمون الوعد لأن الوعد من حيث هو وعد يحتمل أن يكون حقا وأن لا يكون فمضموناهما متغايران تغاير الجنس والنوع. وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا توكيد ثالث بليغ من قبل الاستفهام المتضمن للإنكار. وفائدة هذه التوكيدات معارضة مواعيد الشيطان الكاذبة وإلقاء أمانيه الفارغة والتنبيه على أن قول أصدق القائلين أولى بالقبول من قول من لا أحد أكذب منه. والقيل. مصدر قال قولا. وعن ابن السكيت أن القيل والقال اسمان لا مصدران. عن أبي صالح قال: جلس أهل الكتب أهل التوراة والإنجيل وأهل القرآن كل صنف يقول لصاحبه نحن خير منكم فنزلت: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ وقال مسروق وقتادة: احتج المسلمون وأهل الكتاب فقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولى بالله منكم. وقال المسلمون: نحن أهدى منكم وأولى بالله نبينا خاتم الأنبياء وكتابنا يقضي على الكتب التي قبله فنزلت. ثم أفلج الله حجة المسلمين على من ناواهم من أهل الأديان بقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وبقوله: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً الآيتان.
وقيل: الخطاب في: بِأَمانِيِّكُمْ لعبدة الأوثان، وأمانيهم أن لا يكون حشر ولا نشر ولا معاد ولا عقاب وإن اعترفوا به لكنهم يصفون أصنامهم بأنها شفعاؤهم عند الله. وقيل: الخطاب للمسلمين وأمانيهم أن يغفر لهم وإن ارتكبوا الكبائر، وأما أماني أهل الكتاب فقولهم:
لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [البقرة: 111] نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] ولَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً [البقرة: 80] واسم «ليس» مضمر فقيل:
أي ليس وضع الدين على أمانيكم. وقيل: ليس الثواب الذي تقدم الوعد به في قوله:
سَنُدْخِلُهُمْ. وعن الحسن ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب أي أثر فيه وصدقه العمل، إن قوما ألهتهم أماني المغفرة حتى خرجوا من الدنيا ولا حسنة لهم وقالوا: نحن نحسن الظن بالله وكذبوا لو أحسنوا الظن به لأحسنوا العمل. ويؤيد هذا المعنى قوله بيانا للمذكور: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً فمن هنا استدلت المعتزلة بالآية على القطع بوعيد الفساق ونفي الشفاعة، وأجيب بأنه مخصوص بالكفار لأنهم مخاطبون بالفروع عندنا. سلمنا أنه يعم المؤمن والكافر إلّا أنه مخصوص في حق(2/501)
المؤمن بقوله: وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ سلمنا لكن لم لا يجوز أن يكون جزاؤهم الآلام والأسقام والهموم والغموم الدنيوية؟
روي أنه لما نزلت الآية قال أبو بكر: كيف الصلاح بعد هذه الآية؟ فقال صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك يا أبابكر ألست تمرض أليس يصيبك اللأواء؟ فهو ما تجزون. عن عائشة أن رجلا قرأ هذه الآية فقال: أنجزي بكل ما نعمل لقد هلكنا. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم كلامه فقال: يجزي المؤمن في الدنيا بمصيبة في جسده وبما يؤذيه.
وعن أبي هريرة لما نزلت الآية بكينا وحزنا وقلنا: يا رسول الله ما أبقت هذه الآية لنا شيئا، فقال صلى الله عليه وسلم: أبشروا فإنه لا يصيب أحدا منكم مصيبة في الدنيا إلّا جعلها الله له كفارة حتى الشوكة التي تقع في قدمه،
سلمنا أن الجزاء إنما يصل إليه في الآخرة لكنه
روي عن ابن عباس أنه لما نزلت الآية شقت على المسلمين وقالوا: يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا فكيف الجزاء؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنه تعالى وعد على الطاعة عشر حسنات، وعلى المعصية الواحدة عقوبة واحدة، فمن جوزي بالسيئة نقصت واحدة من عشرة وبقيت له تسع حسنات، فويل لمن غلبت آحاده أعشاره.
وأيضا المؤمن الذي أطاع الله سبعين سنة ثم شرب قطرة من الخمر فهو مؤمن قد عمل الصالحات فوجب القطع بأنه يدخل الجنة. قالوا: إن صاحب الكبيرة غير مؤمن، وأجيب بنحو قوله: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات: 9] أما حديث نفي الشفاعة فإذا كانت شفاعة الملائكة والأنبياء بإذن الله صدق أنه لا ولي لأحد ولا نصيرا إلّا الله. قال في الكشاف: «من» في قوله: مِنَ الصَّالِحاتِ للتبعيض أراد ومن يعمل بعض الصالحات لأن كلّا لا يتمكن من كل الصالحات لاختلاف الأحوال، وإنما يعمل منها ما هو في وسعه، وكم من مكلف لا حج عليه ولا جهاد ولا زكاة ولا صلاة في بعض الأحوال.
ومن في قوله: مِنْ ذَكَرٍ لتبيين الإبهام في: مَنْ يَعْمَلْ والضمير في: لا يُظْلَمُونَ عائد إلى عمال السوء وعمال الصالحات جميعا، أو يعود إلى الصالحين فقط. وذكره عند أحد الفريقين يغني عن ذكره عند الآخر والمسيء مستغن عن هذا القيد، فمن المعلوم أن أرحم الراحمين لا يزيد في عقابه وأما نقصان الفضل في الثواب كان محتملا فأزيل ذلك الوهم، ثم بين فضل الإيمان المشروط به الفوز بالجنة فقال: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً وبيان الفضل من وجهين:
الأول أنه الدين المشتمل على إظهار كمال العبودية والانقياد لله وإليه الإشارة بقوله:
أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وهو راجع إلى الاعتقاد الحق وعلى إظهار كمال الطاعة وحسن العمل والإخلاص وإليه الإشارة بقوله: وَهُوَ مُحْسِنٌ وهو عائد إلى فعل الخيرات وترك المنكرات بصفاء النيات وخلوص الطويات. وفيه تنبيه على أن كمال الإيمان لا يحصل إلّا(2/502)
عند تفويض جميع الأمور إلى الخالق، وإظهار التبري من الحول والقوة، ومن الاستعانة بغير المعبود الحق من الأفلاك والكواكب والطبائع وغيرها كائنا من كان الوجه الثاني أن محمدا صلى الله عليه وسلم إنما دعا الخلق إلى ما يشبه دين أبيه إبراهيم عليه السلام، ومن المشهور فيما بين أهل الأديان أنه ما كان يدعو إلى عبادة فلك ولا طاعة كوكب ولا سجدة صنم ولا استعانة بطبيعة، بل كان مائلا عن الملل الباطلة بعيدا عنها بعد المركز عن جميع أجزاء الدائرة ولهذا شرف بقوله: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وهذه جملة معترضة والسبب في إيرادها أن يعلم أن من كان في علو الدرجة بهذه الحيثية كان جديرا بأن تتبع طريقته. قال العلماء: إن خليل الإنسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره وقد دخل حبه في خلال قلبه، ولما أطلع الله تعالى إبراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل ودعا القوم مرة بعد أخرى إلى توحيد الله ومنعهم عن عبادة النجوم والقمر والشمس وعن عبادة الأوثان، ثم سلم نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان، ثم جعله الله إماما للناس ورسولا إليهم وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته إلى يوم الدين كان خليلا لله، لأن خلته عبارة عن إرادة إيصال الخيرات والمنافع. وقيل: الخليل، هو الذي يوافقك في خلالك
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «تخلفوا بأخلاق الله»
فلما بلغ إبراهيم عليه السلام في مكارم الأخلاق مبلغا لم يبلغه من تقدمه فلا جرم استحق اسم الخليل. وقيل: الخليل الذي يسايرك في طريقك من الخل وهو الطريق في الرمل، فلما كان إبراهيم منقادا لكل ما أمر به مجتنبا عن كل ما نهى عنه فكأنه ساير ووافق أوامر الله تعالى ونواهيه فاستحق اسم الخليل لذلك. هذا من جهة الاشتقاق، وأما من قبل أسباب النزول
فعن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل بم اتخذ الله إبراهيم خليلا؟ قال: لإطعامه الطعام يا محمد.
وقال عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزي: دخل إبراهيم فجأة فرأى ملك الموت في صورة شاب لا يعرفه، فقال إبراهيم عليه السلام: بإذن من دخلت؟ فقال: بإذن رب المنزل. فعرفه إبراهيم عليه السلام. فقال له ملك الموت: إن ربك اتخذ من عباده خليلا. قال إبراهيم: ومن ذلك؟ قال: وما تصنع به؟ قال: أكون خادما له حتى أموت. قال: فإنه أنت.
وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: أصاب الناس سنة جهدوا فيها فحشدوا إلى باب إبراهيم يطلبون الطعام، وكانت الميرة له كل سنة من صديق له بمصر، فبعث غلمانه بالإبل إلى خليله بمصر يسأله الميرة، فقال خليله: لو كان إبراهيم إنما يريده لنفسه احتملنا ذلك له ولكنه يريد للأضياف وقد دخل علينا ما دخل على الناس من الشدة، فرجع رسل إبراهيم فمروا ببطحاء فقالوا: لو أنا احتملنا من هذه البطحاء ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة إنا لنستحي أن نمرّ بهم وإبلنا فارغة، فملؤا تلك الغرائر. ثم إنهم أتوا إبراهيم وسارة نائمة فأعلموه ذلك فاهتم إبراهيم لمكان الناس فغلبته عيناه فنام واستيقظت(2/503)
سارة فقامت إلى تلك الغرائر ففتحتها فإذا هي أجود حوّاري تكون فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا الناس واستيقظ إبراهيم فوجد ريح الطعام فقال: يا سارة من أين هذا الطعام؟
فقالت: من عند خليلك المصري. فقال: هذا من عند خليلي الله فيومئذ اتخذه الله خليلا.
وقال شهر بن حوشب: هبط ملك في صورة رجل وذكر اسم الله بصوت رخيم شج. فقال إبراهيم: اذكره مرة أخرى. فقال: لا أذكره مجانا. فقال: لك مالي كله. فذكره الملك بصوت أشجى من الأول. فقال: اذكره مرة ثالثة ولك أولادي. فقال الملك: أبشر فإني ملك لا أحتاج إلى مالك وولدك وإنما كان المقصود امتحانك. فلما بذل المال والأولاد على سماع ذكر الله فلا جرم اتخذه الله خليلا.
وروى طاوس عن ابن عباس أن جبريل والملائكة لما دخلوا على إبراهيم في صورة غلمان حسان الوجوه، فظن الخليل أنهم أضيافه وذبح لهم عجلا سمينا وقربه إليهم وقال: كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره.
فقال جبريل: أنت خليل الله.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتخذ الله إبراهيم خليلا وموسى نجيا واتخذني حبيبا. ثم قال: وعزتي لأوثرن حبيبي على خليلي ونجيي» .
قلت: وذكرت الفرق بين الخليل والحبيب في سورة البقرة في تفسير قوله: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ [البقرة:
131] فتذكر، قال في التفسير الكبير: إذا استنار جوهر الروح بالمعارف القدسية والجلايا الإلهية صار الإنسان متوغلا في عالم القدس فلا يرى إلا الله، ولا يسمع إلا الله، ولا يتحرك إلا لله، ولا يسكن إلا لله، فهذا الشخص يستحق أن يسمى خليل الله لما أن محبة الله ونوره تخللت في جميع قواه. قال بعض النصارى: إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفا فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر لمثل ذلك؟ والجواب أن الخلة لا تقتضي الجنسية بخلاف النبوة وإنه سبحانه متعال عن مجانسة المحدثات. ولهذا قال بعد ذلك: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً ليعلم أنه لم يتخذ إبراهيم خليلا للمجانسة أو الاحتياج، ولكنه اصطفاه لمجرد الفضل والامتنان، وفيه أنه مع خلته لم يستنكف أن يكون عبدا له داخلا تحت ملكه وملكه، وفيه أن من كان في القهر والتسخير بهذه الحيثية وجب على كل عاقل أن يخضع لتكاليفه وينقاد لأوامره ونواهيه كما قال إبراهيم: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ [البقرة: 131] وأيضا إنه لما ذكر الوعد والوعيد وإنه لا يمكن الوفاء بهما إلّا بالقدرة التامة على جميع الممكنات والعلم الكامل الشامل لجميع الكليات والجزئيات أشار إلى الأول بقوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وإلى الثاني بقوله: وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً وإنما قدم القدرة على العلم لأن الفعل بحدوثه يدل على القدرة وبما فيه من الإحكام والإتقان يدل على العلم، ولا ريب أن الاعتبار الأول مقدم على الثاني. وقال بعضهم: الإحاطة أيضا هاهنا بمعنى القدرة كقوله تعالى: وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ(2/504)
اللَّهُ بِها
[الفتح: 21] ولا يلزم تكرار لأن الأول لا يدل إلا على مالك لكل ما في السموات والأرض قادر عليهما والثاني يفيد القدرة المطلقة على جميع الأشياء وإن فرضت خارج السموات والأرض، وعلى أن سلسلة القضاء والقدر في جميع الممكنات إنما تنقطع بإيجاده وتكوينه وإبداعه.
التأويل:
لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ من نجوى النفس والهوى والشيطان إلّا فيمن أمر بالخيرات وهو الله بالوحي وبالخواطر الرحمانية ثم خواص عباده. وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ أي يخالف الإلهام الرباني وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ بأن يتبع الهوى وتسويل النفس والشيطان. نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى نكلله بالخذلان إلى ما تولى. وَنُصْلِهِ بسلاسل معاملاته.
جَهَنَّمَ الصفات البهيمية والسبعية والشيطانية. إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ولو كان مغفورا لم يشرك به وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ الآن فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً وهو الضلال بالإضلال الأزلي فافهم إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً صفات ذميمة يتولد منها الشرك وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً هي الدنيا كما
قال عليه السلام: «الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلّا ذكر الله وما والاه» «1»
والنصيب المفروض طائفة خلقهم الله أهلا للنار. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ كذب عدو الله فإنه مزين وليس إليه من الضلالة شيء كما
قال صلى الله عليه وسلم: «بعثت مبلغا وليس إليّ من الهداية شيء» «2»
وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وهو
قوله: «هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي» .
لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ يعني عوام الخلق الذين يذنبون ولا يتوبون ويطمعون أن يغفر الله لهم وقد قال: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً [طه: 82] ووَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ علماء السوء الذين يغرون العوام بالرجاء والطمع ويقطعون عليهم طريق الطلب والاجتهاد فليس من تمنى نعمته من غير أن يتعنى في خدمته كمن تعنى في خدمته من غير أن يتمنى نعمته. مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ في الحال بإظهار الرين على مرآة قلبه كما
قال صلى الله عليه وسلم: «إذا أذنب عبد ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء فإن تاب ورجع منه صقل» «3»
وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا يخرجه من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة والتوبة. وَلا نَصِيراً ينصره بالظفر على النفس الأمارة. مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى أي من قلب أو نفس.
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب الزهد باب 14. ابن ماجه في كتاب الزهد باب 3. الدارمي في كتاب المقدمة باب 32.
(2)
رواه أحمد في مسنده (4/ 101) بلفظ: «أنا مبلّغ والله يهدي» .
[.....] (3) رواه مسلم في كتاب الإيمان حديث 231. والترمذي في كتاب تفسير سورة 83 باب 1. الموطأ في كتاب الكلام حديث 18. أحمد في مسنده (5/ 386) .(2/505)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً يعني من محمد صلى الله عليه وسلم حين أسلم سره وروحه وقلبه ونفسه وشيطانه كما
قال: «أسلم شيطاني على يدي» «1»
ومن إسلام نفسه يقول يوم القيامة:
«أمتي أمتي»
حين يقول الأنبياء نفسي نفسي. وَهُوَ مُحْسِنٌ بمعنى أنه من أهل المشاهدة يعبد الله كأنه يراه بل يراه ولأنه أحسن خلقه العظيم إلى أن بلغ حد الكمال والختم. واتبع ملة إبراهيم بأن الله اتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا. قيل لمجنون بني عامر: ما اسمك؟ قال: ليلى.
وقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: الحبيب.
فكان محمد صلى الله عليه وسلم حبيبا خليلا أي فقيرا من الخلة الحاجة لأنه افتقر بالكلية إلى الله في كل أحواله. والفرق بين مقام الخليل ومقام الحبيب أن الخليل اتخذ الآلهة عدوا في الله فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ [الشعراء: 77] والحبيب اتخذ نفسه عدوا في الله وقال: ليت رب محمد لم يخلق محمدا وهذا مقام الفناء في الفناء بل البقاء بعد الفناء فلا جرم يقول بالرب عن الرب.
[سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 141]
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131)
وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)
__________
(1) رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث 69، 70. الترمذي في كتاب الرضاع باب 17. النسائي في كتاب النساء باب 4. الدارمي في كتاب الرقاق باب 25، 66. أحمد في مسنده (1/ 257، 397) .(2/506)
القراآت:
يُصْلِحا من الإصلاح: عاصم وعلي وحمزة وخلف. الباقون.
يصالحا من التصالح وإدغام التاء في الصاد. إِنْ يَشَأْ حيث كان بغير همز: الأعشى وأوقيه وورش من طريق الأصفهاني وحمزة في الوقف. وإن تلوا بواو واحدة: ابن عامر وحمزة. الباقون بالواوين. نَزَّلَ وأَنْزَلَ كلاهما على ما لم يسم فاعله من التنزيل والإنزال: ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو والباقون: نَزَّلَ وأَنْزَلَ مبنيين للفاعل من التنزيل والإنزال أيضا. وَقَدْ نَزَّلَ مشددا مبنيا للفاعل: عاصم ويعقوب. الباقون مبنيا للمفعول.
الوقوف:
فِي النِّساءِ ط فِيهِنَّ لا للعطف أي الله والمتلو يفتيكم الْوِلْدانِ لا للعطف أيضا أي في يتامى النساء وفي المستضعفين وفي أن تقوموا. بِالْقِسْطِ ط عَلِيماً هـ صُلْحاً ط خَيْرٌ ط الشُّحَّ ط خَبِيراً هـ كَالْمُعَلَّقَةِ ط رَحِيماً هـ سَعَتِهِ ط حَكِيماً هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ط وَما فِي الْأَرْضِ ط حَمِيداً هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط وَكِيلًا هـ بِآخَرِينَ ط قَدِيراً هـ وَالْآخِرَةِ ط بَصِيراً هـ وَالْأَقْرَبِينَ ج لابتداء الشرط مع اتفاق المعنى. أَنْ تَعْدِلُوا ج لذلك خَبِيراً هـ مِنْ قَبْلُ ط بَعِيداً هـ سَبِيلًا هـ أَلِيماً هـ لا لأن «الذين» صفة المنافقين وإن كان يحتمل النصب والرفع على الذم. الْمُؤْمِنِينَ ط جَمِيعاً هـ غَيْرِهِ ج لأن ما بعده كالتعليل.(2/507)
مِثْلُهُمْ ط جَمِيعاً هـ لا لأن ما بعده صفة المنافقين. لَكُمْ ج لابتداء الشرط مع أنه بيان التربص. مَعَكُمْ ز لترجيح جانب العطف وإتمام بيان النفاق. نَصِيبٌ لا لأن قالُوا جواب: «إن» . الْمُؤْمِنِينَ ط الْقِيامَةِ ط سَبِيلًا هـ.
التفسير:
أحسن الترتيبات اللائقة بالدعوة إلى الدين الحق والبعث على قبول التكاليف هو ما عليه القرآن الكريم من اقتران الوعد بالوعيد وخلط الترغيب بالترهيب وضم الآيات الدالة على العظمة والكبرياء إلى بيان الأحكام. والاستفتاء طلب الفتوى. يقال: استفتيت الرجل فأفتاني إفتاء وفتيا وفتوى وهما اسمان يوضعان موضع الإفتاء وهو إظهار المشكل من الفتى وهو الشاب الذي قوي وكمل كأنه قوي ببيانه ما أشكل فشب وصار فتيا قويا.
والاستفتاء لا يقع في ذوات النساء وإنما يقع في حالة من أحوالهن فلذلك اختلفوا فعن بعضهم أنهم كانوا لا يورثون النساء والصبيان شيئا من الميراث كما مر في أول السورة فنزلت في توريثهم. وقيل: إنه في الأوصياء. وقيل: في توفية الصداق لهن كانت اليتيمة تكون عند الرجل فإن كانت جميلة ومال إليها تزوج بها وأكل مالها، وإن كانت دميمة منعها من الأزواج حتى تموت فيرثها. أما قوله: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ ففيه وجوه: أحدها أنه رفع بالابتداء معطوفا على اسم الله أي الله يفتيكم والمتلو في الكتاب يفتيكم أيضا. ويجوز أن يكون رفعا على الفاعلية لكونه عطفا على المستتر في يفتيكم، وجاز بلا تأكيد للفصل أي يفتيكم الله والمتلو في الكتاب في معنى اليتامى كقولك: أعجبني زيد وكرمه. وذلك المتلو هو قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى [النساء: 3] كما سلف في أول السورة جعل دلالة الكتاب على هذا الحكم إفتاء من الكتاب. وثانيها وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ مبتدأ وفِي الْكِتابِ خبره وهي جملة معترضة ويكون المراد من الكتاب اللوح المحفوظ. والغرض تعظيم حال هذه الآية وأن المخل بها وبمقتضاها من رعاية حقوق اليتامى ظالم متهاون بما عظمه الله، ونظيره في تعظيم القرآن قوله: وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف: 4] وثالثها أنه مجرور على القسم لمعنى التعظيم أيضا كأنه قيل: قل الله يفتيكم فيهن وحق المتلو. ورابعها أن يكون مجرورا على أنه معطوف على المجرور في فِيهِنَّ.
قال الزجاج: إنه ليس بسديد لفظا لعدم إعادة الخافض، ومعنى لأنه لا معنى لقول القائل:
يفتي الله فيما يتلى عليكم من الكتاب، لأن الإفتاء إنما يكون في المسائل. وقوله: فِي يَتامَى النِّساءِ على الوجه الأول صلة يُتْلى أي يتلى عليكم في معناهن أو بدل من فِيهِنَّ وعلى سائر الوجوه بدل من فِيهِنَّ لا غير. والإضافة في يَتامَى النِّساءِ قال الكوفيون: إنها إضافة الصفة إلى الموصوف وأصله في النساء اليتامى. وقال البصريون: إنها(2/508)
على تأويل جرد قطيفة وسحق عمامة. وجوز بعضهم أن يكون المراد بالنساء أمهات اليتامى كما في قصة أم كحة. ومعنى لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ قال ابن عباس: يريد ما فرض لهن من الميراث بناء على أنها نزلت في ميراث اليتامى والصغار. وقال غيره: يعني ما كتب لهن من الصداق. وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ قال أبو عبيدة: هذا يحتمل الشهوة والنفرة أي ترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن، أو ترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن. احتج أصحاب أبي حنيفة بالآية على أنه يجوز لغير الأب والجد تزويج الصغيرة. ورد باحتمال أن يكون المراد وترغبون أن تنكحوهن إذا بلغن، ولأن قدامة بن مظعون زوج بنت أخيه عثمان بن مظعون من عبد الله بن عمر فخطبها المغيرة بن شعبة ورغبت أمها في المال،
فجاؤا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قدامة: أنا عمها ووصي أبيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها صغيرة وإنها لا تزوج إلا بإذنها وفرق بينها وبين ابن عمر.
ولأنه ليس في الآية أكثر من ذكر رغبة الأولياء في نكاح اليتيمة، وذلك لا يدل على الجواز. وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ نزلت في ميراث الصغار.
والخطاب في أَنْ تَقُومُوا للأئمة في أن ينظروا لهم ويستوفوا حقوقهم. قيل: ويجوز أن يكون وَأَنْ تَقُومُوا منصوبا أي ويأمركم أن تقوموا. ومن جملة ما أخبر الله تعالى أنه يفتيهم به في النساء لكن لم يتقدم ذكره. قوله وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ ارتفاع امْرَأَةٌ بفعل يفسره خافت أي علمت. وقيل: ظنت والظاهر أنه على معناه الأصلي إلا أن الخوف لا يحصل إلا عند ظهور العلامات الدالة على وقوع المخوف كأن يقول الرجل لامرأته: إنك دميمة أو مسنة وإني أريد أن أتزوج شابة جميلة، والبعل الزوج، والنشوز يكون من الزوجين وهو كراهة كل منهما صاحبه ويتبع نشوز الرجل أن يعرض عنها ويقبح وجهها ويترك مجامعتها ويسيء عشرتها. عن عائشة أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد الرجل أن يستبدل بها غيرها فتقول: أمسكني وتزوج بغيري وأنت في حل من النفقة والقسم كما فعلت سودة بنت زمعة حين كرهت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت مكان عائشة من قلبه فوهبت لها يومها. ومعنى الصلح وهو مصدر من غير لفظ الفعل مثل وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: 17] أن يصالحا على أن تطيب المرأة له نفسا عن القسمة أو عن بعضها أو عن المهر والنفقة فإن هذه الأمور هي التي تقدر المرأة على طلبها من الزوج شاء أم أبى. أما الوطء فليس كذلك لأن الزوج لا يجبر على الوطء. وَالصُّلْحُ خَيْرٌ من الفرقة أو من النشوز والإعراض فاللام للعهد، أو هو خير من الخصومة في كل شيء فاللام للاستغراق وبه تمسك أصحاب أبي حنيفة في جواز الصلح على الإنكار، أو الصلح خير من الخيرات كما أن الخصومة شر من الشرور. والجملة معترضة، وكذا قوله: وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ إلا أنه اعتراض مؤكد للمطلوب محصل للمقصود. والشح البخل مع(2/509)
حرص، وأرض شحاح لا تسيل إلا من مطر كثير. جعل الشح كالأمر الحاضر للنفوس لأنها جبلت على ذلك. ثم يحتمل أن يكون هذا تعريضا بالمرأة أنها تشح ببذل نصيبها أو حقها، أو بالزوج أنه يشح بأنه ينقضي عمره معها مع دمامتها وكبر سنها وعدم الالتذاذ بصحبتها.
واعلم أنه رخص أولا في الصلح بقوله: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وغايته ارتفاع الإثم، ثم بين أنه كما لا جناح فيه فكذلك فيه خير كثير.
ثم حث على الإحسان والتقوى وحسم مادة الخصومة رأسا فقال: وَإِنْ تُحْسِنُوا أي بالإقامة على نسائكم فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ وأحببتم غيرهن وتتقوا النشوز والإعراض وما يؤدي إلى الأذى والخصومة المحوجة إلى الصلح فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان والتقوى خَبِيراً فيثيبكم على ذلك. وعلى هذا فالخطاب للأزواج، وقيل: الخطاب للزوجين أن يحسن كل منهما إلى صاحبه ويحترز عن الظلم. وقيل: لغيرهما أن يحسنوا في المصالحة بينهما ويتقوا الميل إلى واحد منهما. يحكى أن عمران بن حطان الخارجي كان من أدمّ بني آدم وامرأته من أجملهم. فأجالت يوما نظرها في وجهه ثم قالت: الحمد لله. فقال: مالك؟
فقالت: حمدت الله على إني وإياك من أهل الجنة. لأنك رزقت مثلي فشكرت، ورزقت مثلك فصبرت، والشاكر والصابر من أهل الجنة. وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا لن تقدروا على التسوية بين النساء في ميل الطباع وَلَوْ حَرَصْتُمْ وإذا لم تقدروا عليها بحيث لا يقع ميل البتة ولا زيادة ولا نقصان لم تكونوا مكلفين به، وهذا تفسير يناسب مذهب المعتزلة من أن تكليف ما لا يطاق غير واقع ولا جائز. فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ أي رفع عنكم تمام العدل وغايته ولكن ائتوا منه ما استطعتم بشرط أن تبذلوا فيه وسعكم وطاقتكم. وبوجه آخر لن تستطيعوا التسوية في الميل القلبي وَلَوْ حَرَصْتُمْ ولا التسوية الكلية في نتائج الحب من الأقوال والأفعال لأن الفعل بدون الداعي ومع قيام الصارف محال. فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فلا تجوروا على المرغوب عنها كل الجور فتمنعوها قسمتها ونفقتها وسائر حقوقها وحظوظها من غير رضا منها فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ بين السماء والأرض لا على قرار أي غير ذات بعل ولا مطلقة. والغرض النهي عن الميل الكلي مع جواز التفريط في العدل الكلي في نتائج الميل القلبي، وأما الميل القلبي فمعفو بالكل وبالبعض لأن القلب ليس في تصرف الإنسان وإنما هو بين أصبعين من أصابع الرحمن.
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل فيقول: «اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك» «1»
يعني المحبة لأن
__________
(1) رواه الترمذي في كتاب النكاح باب 41.(2/510)
عائشة كانت أحب إليه.
وعنه صلى الله عليه وسلم «من كانت له امرأتان يميل مع أحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه مائل» «1»
وَإِنْ تُصْلِحُوا ما مضى من ميلكم وتتداركوه بالتوبة وَتَتَّقُوا فيما يستقبل فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا يرزق كل واحد منهما زوجا خيرا من زوجه وعيشا أهنأ من عيشته. والسعة الغنى والمقدرة وَكانَ اللَّهُ واسِعاً من الرزق والفضل والرحمة والعلم وأي كمال يفرض ولهذ أطلق. حَكِيماً قال ابن عباس: فيما حكم ووعظ. وقال الكبي: فيما حكم على الزوج من إمساكها بمعروف أو تسريحها بإحسان.
ثم قال: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وهو كالتفسير لسعة ملكه وملكه.
وفيه أن الذي أمر به من العدل والإحسان إلى اليتامى والنسوان ليس لعجز أو افتقار وإنما يعود فائدة ذلك إلى المكلف لأنه الأحسن له في دنياه وعقباه. ثم بين أن الأمر بتقوى الله شريعة قديمة لم يلحقها نسخ وتبديل، وإن استغناءه تعالى بالنسبة إلى الأمم السالفة كهو بالنسبة إلى الأمم الآتية فقال: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي جنسه ليشمل التوراة والإنجيل والزبور وغيرها من الصحف. وقوله: مِنْ قَبْلِكُمْ إما أن يتعلق ب وَصَّيْنَا أو ب أُوتُوا وقوله: وَإِيَّاكُمْ عطف على الَّذِينَ ومعنى أَنِ اتَّقُوا بأن اتقوا وتكون «أن» المفسرة لأن التوصية في معنى القول. وَإِنْ تَكْفُرُوا عطف على اتَّقُوا أي أمرناهم وأمرناكم بالتقوى. وقلنا لهم ولكم إن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وهو خالقهم ومالكهم والمنعم عليهم بأصناف النعم كلها فحقه أن يكون مطاعا في خلقه غير معصى يخشون عقابه ويرجون ثوابه. أو قلنا لهم ولكم: إن تكفروا فإن لله في سمواته وأرضه من الملائكة وغيرهم من يوحده ويعبده ويتقيه. وَكانَ اللَّهُ مع ذلك غَنِيًّا عن خلقه وعن عباداتهم حَمِيداً في ذاته وإن لم يحمده واحد منهم. ثم كرر قوله: وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا تقريرا لأنه أهل أن يتقى وتوكيدا لاستغنائه عن طاعات المطيعين وسيئات المذنبين. ثم بالغ في هذا المعنى بقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعدمكم أيها الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ يوجد خلقا آخرين غير الإنس أو من جنس الإنس وَكانَ اللَّهُ على ذلك الإعدام ثم الإيجاد قَدِيراً بليغ القدرة لم يزل موصوفا بذلك ولن يزال كذلك. وفي الآية من التخويف والغضب ما لا يخفى. وقيل: الخطاب لأعداء النبي صلى الله عليه وسلم من العرب والمراد بآخرين ناس يوالونه.
يروى أنها لما نزلت ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب النكاح باب 38. الترمذي في كتاب النكاح باب 42. الدارمي في كتاب النكاح باب 24.(2/511)
بيده على ظهر سلمان وقال: إنهم قوم هذا يريد أبناء فارس.
ثم رغب الإنسان فيما عنده من الكرامة فقال: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا كالمجاهد يريد بجهاده الغنيمة فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فماله يطلب الأخس بالذات مع أنه إذا طلب الأشرف تبعه الأخس.
فالتقدير: فعند الله ثواب الدنيا والآخرة له إن أراده ليحصل ربط الجزاء بالشرط وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً لأقوال المجاهدين والطالبين بَصِيراً بمطامح عيونهم ومطارح ظنونهم فيجازيهم على نحو ذلك. ثم بيّن أنّ كمال سعادة الإنسان في أن يكون قوله لله وفعله لله وحركته لله وسكونه لله فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ مجتهدين في اختيار العدل محترزين عن ارتكاب الميل شُهَداءَ لِلَّهِ لوجهه ولأجل مرضاته كما أمرتم بإقامتها ولو كانت تلك الشهادة وبالا على أنفسكم، أو الوالدين والأقربين بأن يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره. وفي كلام الحكماء: «إذا كان الكذب ينجي فالصدق أنجى» . أو المراد الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها وأن يقول: أشهد أنّ لفلان على والدي كذا أو على أقاربي كذا. وإنما قدم الأمر بالقيام بالقسط على الأمر بالشهادة لله عكس قوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] لأنّ شهادة الله تعالى عبارة عن كونه خالقا للمخلوقات، وقيامه بالقسط عبارة عن رعاية قوانين العدل في تلك المخلوقات، والأول مقدم على الثاني. وأما في حق العباد فالعدالة مقدمة على الشهادة تقدم الشرط على المشروط فاعلم. إِنْ يَكُنْ المشهود عليه غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فلا تكتموا الشهادة طلبا لرضا الغني أو ترحما على الفقير فَاللَّهُ أَوْلى بأمورهما ومصالحهما. وكان حق النسق أن لو قيل فالله أولى به أي بأحد هذين إلّا أنه ثنى الضمير ليعود إلى الجنسين كأنه قيل: فالله أولى بجنسي الفقير والغني أي بالأغنياء والفقراء يريد بالنظر لهما وإرادة مصلحتهما ولولا أنّ الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها.
قال السدي: اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم غني وفقير وكان ميله إلى الفقير رأى أنّ الفقير لا يظلم الغني فأبى الله إلّا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير وأنزل الآية.
وقوله: أَنْ تَعْدِلُوا يحتمل أن يكون من العدل أو من العدول فكأنه قيل: فلا تتبعوا الهوى كراهة أن تعدلوا بين الناس، أو إرادة أن تعدلوا عن الحق. واحتمال آخر وهو أن يراد اتركوا الهوى لأجل أن تعدلوا أي حتى تتصفوا بصفة العدالة لأنّ العدل عبارة عن ترك متابعة الهوى، ومن ترك أحد النقيضين فقد حصل له الآخر. وَإِنْ تَلْوُوا بواوين من لوى يلوي إذا فتل، وبواو واحدة من الولاية.
والمعنى وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق وحكومة العدل أَوْ تُعْرِضُوا عن الشهادة بما عندكم أو إن وليتم إقامة الشهادة أو تركتموها. واعلم أن الإنسان لا يكون قائما بالقسط إلّا(2/512)
إذا كان راسخ القدم في الإيمان فلهذا أردف ما ذكر بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا وظاهره مشعر بالأمر بتحصيل الحاصل. فالمفسرون ذكروا فيه وجوها الأول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا في الماضي والحاضر آمَنُوا في المستقبل أي دوموا على الإيمان واثبتوا. الثاني:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تقليدا آمَنُوا استدلالا. الثالث: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا استدلالا إجماليا آمَنُوا استدلالا تفصيليا. الرابع: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بالله وملائكته وكتبه ورسله آمَنُوا بأن كنه الله تعالى وعظمته وكذلك أحوال الملائكة وأسرار الكتب وصفات الرسل لا ينتهي إليها عقولكم. الخامس
قال الكلبي: إن عبد الله بن سلام وأسدا وأسيدا ابني كعب وثعلبة بن قيس وجماعة من مؤمني أهل الكتاب قالوا: يا رسول الله، إنا نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعزير، ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فأنزل الله هذه الآية فآمنوا بكل ذلك.
وقيل: إن المخاطبين ليسواهم المسلمين والتقدير: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بموسى والتوراة وبعيسى والإنجيل آمَنُوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وبجميع الكتب المنزلة من قبل لا ببعضها فقط، لأن طريق العلم بصدق النبي هو المعجز وأنه حاصل في الكل، فالخطاب لليهود والنصارى. أو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللسان آمَنُوا بالقلب فهم المنافقون، أو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا باللات والعزى آمَنُوا بالله فهم المشركون، والمراد بالكتاب الذي أنزل من قبل جنسه. فإن قيل: لم ذكر في مراتب الإيمان أمورا ثلاثة: الإيمان بالله وبالرسل وبالكتب. وذكر في مراتب الكفر أمورا خمسة؟ أجيب بأن الإيمان بالثلاثة يلزم منه الإيمان بالملائكة وباليوم الآخر، لكنه ربما ادّعى الإنسان أنه يؤمن بالثلاثة ثم إنه ينكر الملائكة واليوم الآخر لتأويلات فاسدة، فلما كان هذا الاحتمال قائما نص على أن منكر الملائكة والقيامة كافر بالله. فإن قيل: لم قدم في مراتب الإيمان ذكر الرسول على ذكر الكتاب في مراتب الكفر عكس الأمر؟ فالجواب أن الكتاب مقدم على الرسول في مرتبة النزول من الخالق إلى الخلق، وأما في العروج فالرسول مقدم على الكتاب. وبوجه آخر الرسول الأول هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والرسل عام له ولغيره، فلما خص ذكره أولا للتشريف جعل ذكره تاليا لذكر الله لمزيد التشريف ولبيان أفضليته صلى الله عليه وسلم.
ثم لما رغب في الإيمان والثبات عليه بين فساد طريقة من يكفر بعد الإيمان فقال:
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً والمراد الذين تكرر منهم الكفر بعد الإيمان تارات وأطوارا. قال القفال: وليس المراد بيان العدد بل المراد ترددهم وتمرنهم على ذلك. وقيل: اليهود هم آمنوا بالتوراة وبموسى ثم كفروا بعزير ثم آمنوا بداود ثم كفروا بعيسى ثم ازدادوا كفرا عند مقدم محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل: هم المنافقون أظهروا الإسلام(2/513)
ثم كفروا بنفاقهم وكون باطنهم على خلاف ظاهرهم، ثم إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم، ثم ازدادوا كفرا بجدهم واجتهادهم في استخراج وجوه المكايد في حق المسلمين. وقيل: هم طائفة من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المسلمين فكانوا يظهرون الإيمان تارة والكفر أخرى على ما أخبر الله تعالى عنهم أنهم قالوا: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [آل عمران: 72] ثم إنهم بالغوا في ذلك وازدادوا إلى حد الاستهزاء والسخرية بالإسلام. وفي الآية دلالة على أنه قد يحصل الكفر بعد الإيمان وذلك يبطل مذهب القائلين بالموافاة وهي أن شرط صحة الإسلام أن يموت الشخص على الإسلام وهم يجيبون عن ذلك بأنا نحمل الإيمان على إظهار الإيمان. وفيها أن الكفر يقبل الزيادة والنقصان فيجب أن يكون الإيمان كذلك لأنهما ضدان متنافيان، فإذا قبل أحدهما التفاوت فكذا الآخر. وكيف يزداد كفرهم فيه وجوه:
أحدها أنهم ماتوا على كفرهم. وثانيها بسبب ذنوب أصابوها حال كفرهم وعلى هذا فإصابة الطاعات وقت الإيمان تكون زيادة في الإيمان. وثالثها استهزاؤهم بالدين. أما قوله تعالى:
لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ فقيل عليه اللام تفيد نفي التأكيد وهذا لا يليق بالوضع إنما اللائق به تأكيد النفي. وأجيب بأن نفي التأكيد إذا ذكر على سبيل التهكم أفاد تأكيد النفي. ثم أورد عليه أن الكفر قبل التوبة غير مغفور على الإطلاق وحينئذ تضيع الشرائط المذكورة في الآية، وبعد التوبة مغفور ولو بعد ألف مرة فكيف يصح النفي؟ وأجيب بأن اللام في الذين لمعهودين وهم قوم علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر لا يتوبون عنه قط، فقوله: لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ إخبار عن موتهم على الكفر، أو اللام للاستغراق وخرج الكلام على الغالب المعتاد وهو أن من كان مضطرب الحال كثير الانتقال من الإسلام إلى الكفر، لم يكن للإيمان في قلبه وقع واحتشام. فالظاهر من حال مثله أنه يموت على الكفر، فليس المراد أنه لو أتى بالإيمان الصحيح لم يكن معتبرا بل المراد منه الاستبعاد والاستغراب كالفاسق يتوب ثم يرجع ثم يتوب ثم يرجع فإنه لا يرجى منه الثبات والغالب أنه يموت على الفسق. وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا أي إلى الإيمان عند الأشاعرة، وعند المعتزلة إلى الجنة. أو محمول على المنع من زيادة الألطاف. بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ تهكم كقولهم: عتابك الصيف تحيتهم الضرب أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ. كان المنافقون يوادّون اليهود اعتقادا منهم أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم لا يتم وحينئذ يبتغون بودّهم أن يحصل لهم بهم قوة وغلبة، فخيّب الله آمالهم بقوله: فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وعزّة الله تستتبع عزة الرسول والمؤمنين كقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
[المنافقون: 8] وجَمِيعاً حال من العزة أي مجموعة. قال المفسرون: إنّ المشركين كانوا بمكة يخوضون في ذكر القرآن في مجالسهم فيستهزؤن به(2/514)
وبين أظهرهم المسلمون ولا يتهيّأ لهم حينئذ الإنكار عليهم ظاهرا فنزلت إذا ذاك. وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فكان أحبار اليهود بالمدينة يفعلون نحو فعل المشركين ويجالسهم بعض المنافقين فأنزل الله تعالى في هؤلاء المنافقين وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ معنى آية الأنعام أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ هي المخففة من الثقيلة وضمير الشأن مقدر والمعنى أنه إذا سمعتم آيات الله حال كونها يكفر بها ويستهزأ بها. وقال الكسائي: المعنى إذا سمعتم الكفر بآيات الله والاستهزاء بها، ولكن أوقع فعل السماع على الآيات كما يقال: سمعت عبد الله يلام وفيه نظر، لأنّ إيقاع فعل السماع على الآيات ممكن بخلاف إيقاعه على عبد الله. إِنَّكُمْ أيها المنافقون إِذاً مِثْلُهُمْ مثل الأحبار في الكفر و «إذن» هاهنا ملغاة لوقوعها بين الاسم والخبر ولذلك لم يذكر بعدها الفعل أي إذن تكونوا مثلهم، وأفرد مِثْلُهُمْ لأنها في معنى المصدر نحو أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا [المؤمنون: 47] وقد جمع في قوله: ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ [محمد: 38] وإنما لم يحكم بكفر المسلمين بمكة لمجالسة المشركين الخائضين وحكم بنفاق هؤلاء بالمدينة لمجالسة أحبار اليهود الخائضين، لأن مجالسة أولئك المسلمين كانت للضرورة وفي أوان ضعف الإسلام ولم يرد نهي بعد، ومجالسة هؤلاء المنافقين كانت في وقت الاختيار وقوة الإسلام وبعد ورود النهي. قال أهل العلم: في الآية دليل على أن من رضي بالكفر فهو كافر، ومن رضي بمنكر يراه وخالط أهله وإن لم يباشر كان شريكهم في الإثم.
ثم حقق كون المنافقين مثل الكافرين بقوله: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً يعني القاعدين والمقعود معهم. والضمير في مَعَهُمْ يعود إلى الكافرين المستهزئين بدلالة يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها وأراد جامِعُ بالتنوين لأنه بعد ما جمعهم ولكن حذف التنوين تخفيفا في اللفظ. والمعنى أنهم كما اجتمعوا على الاستهزاء بآيات الله في الدنيا فكذلك يجتمعون في عذاب جهنم يوم القيامة ومثله
قوله صلى الله عليه وسلم: «المرء مع من أحب» .
يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ينتظرون بكم ما يتجدد لكم من نصر أو إخفاق. فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ ظهور على اليهود قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ مظاهرين فأسهموا لنا في الغنيمة وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ أي اليهود نصيب استيلاء ما في الظاهر قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ الحوذ السوق السريع والاستحواذ الغلبة. وهذا جاء بالواو على أصله كما جاء استروح واستصوب. وفي الآية وجهان: الأول ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم ثم لم نفعل شيئا من ذلك وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بأن ثبطناهم عنكم فهاتوا نصيبا لنا مما أصبتم.
الثاني أنّ أولئك الكفار كانوا قد هموا بالدخول في الإسلام. ثم إنّ المنافقين نفروهم(2/515)
وأطمعوهم أنه سيضعف أمر محمد صلى الله عليه وسلم ويقوى أمركم. فالمراد ألسنا غلبناكم على رأيكم في الدخول في الإسلام ومنعناكم منه وأرشدناكم إلى مصالحكم فادفعوا إلينا نصيبا مما وجدتم.
وفي تسمية ظفر المؤمنين فتحا وظفر الكافرين نصيبا تثبيت للمؤمنين وتعظيم لما هم عليه من الدين وتحقير لشأن الكافرين وتوهين لأمرهم، فكان ظفر المسلمين أمر عظيم يفتح له أبواب السماء حين ينزل على أولياء الله، وظفر الكافرين حظ دنيوي ينقضي ولا يبقى منه إلّا الذم في الدنيا والعقاب في الآخرة فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ. أي بين المؤمن والمنافق. والغرض أنه يقال: ما وضع السيف على المنافقين في الدنيا ولكن أخر عقابهم إلى يوم القيامة وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا
قال علي وابن عباس: المراد في الدنيا ولكن بالحجة أي حجة المسلمين غالبة على حجة الكل.
وقيل: في الآخرة. وقيل: عام في الكل. والشافعي بنى عليه مسائل منها: أن الكافر إذا استولى على مال المسلم وأحرزه إلى دار الحرب لم يملكه بدلالة هذه الآية. ومنها أن الكافر ليس له أن يشتري عبدا مسلما. ومنها أنّ المسلم لا يقتل بالذمي والله تعالى أعلم.
التأويل:
النفس للروح كالمرأة للزوج ويَتامَى النِّساءِ صفات النفوس وما كُتِبَ لَهُنَّ ما أوجب الله للنفوس من الحقوق. وحاصل المعنى أنّ نفسك مطيتك فارفق بها وإليه الإشارة بقوله: وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ فالروح تشح بترك حقوق الله، والنفس تشح بحظوظها فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ في رفض حظوظ النفس فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ بين العالم العلوي والعالم السفلي وَإِنْ يَتَفَرَّقا أي الروح والنفس فالروح تجتذب بجذبة دع نفسك وتعال إلى سعة غنى الله في عالم هويته لتستغني عن مركب النفس بالوصول إلى المقصود. والنفس تجتذب عن الروح بجذبة ارجعي إلى ربك إلى سعة غنى الله في عالم فادخلي في عبادي وادخلي جنتي. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا للإيمان ثلاث مراتب: إيمان للعوام أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالبعث والجنة والنار والقدر وهذا إيمان غيبي، وإيمان للخواص وهو أنه تعالى إذا تجلّى للعبد بصفة من صفاته خضع له جميع أجزاء وجوده وآمن بالكلية وهذا إيمان عياني، وإيمان للأخص وهو بعد رفع الحجب الأنانية حين أفناه بصفة الجلال وأبقاه بصفة الجمال فلم يبق له إلا عين وبقي في العين وهذا إيمان عيني. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي بالتقليد ثُمَّ كَفَرُوا إذ لم يكن للتقليد أصل ثُمَّ آمَنُوا بالاستدلال العقلي ثُمَّ كَفَرُوا إذ لم تكن عقولهم مشرقة بالنور الإلهي ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بالشبهات والاعتراضات لَمْ يَكُنِ اللَّهُ في الأزل غافرا لهم بنوره عند الرش وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا اليوم لأن الأصل لا يخطىء بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ أي بشرهم بأن أصلهم من(2/516)
جوهر الكفار ولهذا اتخذوا الكافرين أولياء فإنّ ائتلافهم هاهنا نتيجة تعارف أرواحهم وكما يعيشون يموتون وكما يموتون يحشرون.
تم الجزء الخامس، ويليه الجزء السادس أوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ ...(2/517)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الجزء السادس من أجزاء القرآن الكريم
[سورة النساء (4) : الآيات 142 الى 152]
إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)
ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)
القراآت:
فِي الدَّرْكِ بسكون الراء: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير الأعشى.
الباقون بالفتح يُؤْتِيهِمْ بالياء: حفص وعياش. الباقون بالنون.
الوقوف:
خادِعُهُمْ
ط لعطف المختلفين. كُسالى
لا لأن يُراؤُنَ
. صفتهم قَلِيلًا
هـ ز بناء على أن مُذَبْذَبِينَ نصب على الذم، والأوجه أنه حال أي يراؤون مذبذبين. بَيْنَ ذلِكَ ق وقد قيل على تقدير الابتداء أي لا هم إلى هؤلاء، والأوجه أنه بيان الذبذبة أي لا منسوبين إلى هؤلاء هؤُلاءِ الثانية ط سَبِيلًا هـ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ط مُبِيناً هـ مِنَ النَّارِ ج لابتداء النفي مع العطف. نَصِيراً هـ ط للاستثناء. مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ط عَظِيماً هـ وَآمَنْتُمْ ط عَلِيماً هـ ظُلِمَ ط عَلِيماً هـ قَدِيراً هـ بِبَعْضٍ لا للعطف سَبِيلًا هـ لا لأن ما بعده خبر «إن» وقيل:
إن الخبر محذوف أي هلكوا وما يتلوه مستأنف. حَقًّا ج لاحتمال ما بعده للعطف والاستئناف مُهِيناً هـ أُجُورَهُمْ ط رَحِيماً هـ.(2/518)
التفسير:
قال الزجاج: أي يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يظهرون له الإيمان ويبطنون الكفر كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] وهو خادعهم اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه. قال ابن عباس: يعطيهم نورا كما يعطي المؤمنين فإذا وصلوا إلى الصراط انطفأ نورهم ويبقى نور المؤمنين فينادون انظرونا نقتبس من نوركم. وباقي تفسير المخادعة تقدم في أول البقرة. كسالى جمع كسلان كسكارى في سكران أي يقومون متثاقلين متباطئين متقاعسين كما يرى من يفعل شيئا على كره لا عن طيب نفس ورغبة وهو معنى الكسل. والسبب في ذلك أنهم يبتغون بها في الحال ولا يرجون من فعلها ثوابا ولا يخافون من تركها عقابا. يُراؤُنَ النَّاسَ
أي لا يقومون إلى الصلاة إلّا لأجل الرياء والسمعة. ومعنى المفاعلة في الرياء أن المرائي يرى الناس عمله وهم يرونه استحسان ذلك العمل، أو فاعل هاهنا بمعنى فعل بالتشديد كقولك: ناعمة ونعمه. وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ
أي ولا يصلون إِلَّا قَلِيلًا
لأنه متى لم يكن معهم أحد من الأجانب لا يصلون، وإذا كانوا مع الناس فعند دخول وقت الصلاة يتكلفون حتى يصيروا غائبين عن أعين الناس، فإن لم يجدوا مندوحة فحينئذ يصلون. وقيل: إنهم في صلاتهم لا يذكرون الله إلا قليلا وهو الذي يظهر مثل التكبيرات، فأما الذي يخفى وهو القراءة والتسبيحات فهم لا يذكرونها. وقيل: إنهم لا يذكرون الله في جميع الأوقات إلا ذكرا قليلا في الندرة كما ترى من بعض المتهاونين بأمور الدين لو صحبته أياما وليالي لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة ولا تحميدة، ولكن حديث الدنيا يستغرق أوقاته، ويجوز أن يراد بالقلة العدم، قال قتادة: يريد أن الله لا يقبل صلاتهم لأن ما رده الله فكثيره قليل، وما قبله الله فقليله كثير. ومعنى مذبذبين ذبذبهم الشيطان والهوى. وحقيقة المذبذب الذي يذب عن كلا الجانبين أي يذاد ويدفع إلا أن الذبذبة فيها تكرير ليس في الذب كأن المعنى كلما مال إلى جانب ذب عنه. وقرأ ابن عباس مُذَبْذَبِينَ بالكسر أي يذبذبون قلوبهم أو دينهم أو رأيهم.
وعن أبي جعفر «مدبدبين» بالدال غير المعجمة والمعنى أخذ بهم تارة في دبة وتارة في دبة والدبة الطريقة. ومعنى بَيْنَ ذلِكَ أي بين الكفر والإيمان لأن ذكر الكافرين والمؤمنين يدل على الكفر والإيمان وذلك قد يشار به إلى اثنين كقوله: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ [البقرة: 68] واعلم أن السبب في التذبذب هو أن الفعل يتوقف على الداعي، فإذا كان الداعي إلى الفعل هو الأغراض المتعلقة بأحوال هذا العالم وأنها سيالة متغيرة لزم وقوع التغير في الميل والرغبة، وإذا تعارضت الدواعي والصوارف بقي الإنسان في الحيرة والتردد، وأما من كان مطلوبه في فعله اقتناء الخيرات الباقية واكتساب السعادات الروحانية وعلم أن تلك المطالب أمور باقية بريئة عن التغير والزوال، لا جرم كان هذا الإنسان ثابتا في(2/519)
إيمانه راسخا في شأنه فلهذا المعنى وصف أهل الإيمان بالثبات يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [إبراهيم: 27] أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر: 27] قيل: إنه تعالى ذمهم على ترك طريقة المؤمنين وطريقة الكفار، والذم على ترك طريقة الكفار غير جائز. قلنا: إنما توجه الذم لأنهم عدلوا عن الكفر إلى ما هو أخبث وهو طريق النفاق ولهذا ورد فيهم من المبالغات ما ورد من قوله: وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا [الرعد: 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ أي لا تتشبهوا بالمنافقين في اتخاذهم اليهود وغيرهم من أعداء الإسلام أولياء، وهو نهي للمؤمنين عن مولاة المنافقين والتخلق بأخلاقهم ومذاهبهم. ومعنى سُلْطاناً حجة بينة على النفاق لأن وليّ المنافق منافق لا محالة. ومعنى قوله: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ أي في أقصى قعرها فإن القعر الأخير من النار درك ودرك ومع ذلك وصف بالأسفل. ودركات النار منازلها نقيض درجات الجنة، فبين أن المنافق في غاية البعد ونهاية الطرد عن حضرة الله تعالى وأنه مع فرعون لأنّ الدرك الأسفل أشد العذاب وقد قال عز من قائل:
أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: 46] وقيل: إن النار سبع دركات سميت بذلك لأنها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض. قال أبو حاتم: جمع الدرك أدراك كفرس وأفراس، وجمع الدرك أدرك كفلس وأفلس. ثم قال: وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً احتجوا بهذا على إثبات الشفاعة في حق الفساق من أهل القبلة لأنه تعالى ذكره في معرض الزجر عن النفاق، فلو حصل نفي الشفاعة مع عدم النفاق لم يبق هذا زجرا عن النفاق من حيث إنه نفاق. ثم استثنى منهم التائبين فشرط أمورا أربعة أولها التوبة. وثانيها إصلاح ما أفسدوا من أسرارهم.
وثالثها الاعتصام بدين الله. ورابعها الإخلاص لأنه إذا كان مطلوبه جلب المنافع ودفع المضار تغير عن التوبة وإصلاح العمل سريعا، أما إذا كان مطلوبه مرضاة الله وسعادة الآخرة والاعتصام بحبل الله بقي على هذه الطريقة ولم يتغير عنها. وعند حصول الشرائط قال:
فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ولم يقل مؤمنون تشريفا للمؤمنين أنهم متبعون والمنافقون بعد الشرائط تبع لهم. ثم بين وعد المؤمنين بقوله: وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ليشمل المنافقين التائبين بالتبعية. ثم برهن على أن فائدة الإيمان والعمل الصالح إنما ترجع على المكلفين فقال: ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ لأن تعذيب الملوك بعض الرعية إنما يكون للتشفي من الغيظ أو لدرك الثأر أو لجلب المنافع أو لدفع المضار وأمثال هذه الأمور في حقه تعالى محال، وإنما المقصود حمل المكلفين على فعل الحسن وترك القبيح لينالوا السعادة العظمى، فمن امتثل وأطاع فكيف يليق بكرمه تعذيبه. قالت المعتزلة:(2/520)
هذا صريح في أنه تعالى لم يخلق أحدا لغرض التعذيب. وفي أن فاعل الشكر والإيمان هو العبد وإلّا لصار التقدير ما يفعل الله بعذابكم إن خلق الشكر والإيمان فيكم، ومعلوم أن هذا غير منتظم. والجواب مسلم أنه تعالى غير مستكمل بالتعذيب ولا بالإثابة لكن وقوع البعض في مظاهر اللطف والبعض في مظاهر القهر ضروري كما سبق. وأيضا انتهاء الكل إلى إرادته وخلقه وتكوينه ضروري بواسطة أو بغير واسطة، فيؤل المعنى إلى أنه لا يعذبكم إن كنتم مظاهر اللطف وهذا كلام في غاية الصحة. قال في الكشاف: وإنما قدم الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر أولا إلى النعمة فيشكر شكرا مبهما، ثم إذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به. وأقول: إن لم تكن الواو للترتيب فلا سؤال، وإن كانت للترتيب فلعله إنما قدم الشكر في هذه الآية خلاف أكثر الآيات التي قدم الإيمان فيها على العمل الصالح وهو الأصل، لأن الآية مسوقة في غرض المنافقين، ولم يقع نزاع في إيمانهم ظاهرا وإنما يقع النزاع في بواطنهم وأفعالهم التي تصدر عنهم غير مطابقة للقول اللساني، فكان تقديم الشكر هاهنا أهم لأنه عبارة عن صرف جميع ما أعطاه الله تعالى فيما خلق لأجله حتى تكون أفعاله وأقواله على نهج السداد وسنن الاستقامة وَكانَ اللَّهُ شاكِراً مثيبا على الشكر فسمى جزاء الشكر شكرا، وفيه أنه يجزي على العمل القليل ثوابا كثيرا عَلِيماً بالكليات والجزئيات من غير غلط ونسيان فيوصل جزاء الشاكرين إليهم كما يليق بحالهم بل كما يليق بكرمه وسعة فضله ورحمته.
ثم إنه سبحانه لما هتك ستر المنافقين وفضحهم وكان هتك الستر منافيا للكرم والرحمة ظاهرا ذكر ما يجري مجرى العذر من ذلك فقال: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ الآية يعني أنه لا يحب إظهار الفضائح إلا في حق من ظلم وهم المسلمون الذين عظم ضرر المنافقين وكيدهم فيهم. وأيضا إن المنافق إذا تاب وأصلح لم يكد يسلم من تعيير المسلمين إياه على ما صدر عنه في الماضي فبيّن تعالى أن تعييرهم بعد التوبة أمر مذموم وأنه تعالى لا يرضى به إلا من ظلم نفسه وعاد إلى نفاقه. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أنه تعالى لا يريد من عباده فعل القبائح لأن محبة الله تعالى عبارة عن إرادته. وقالت الأشاعرة: المحبة عبارة عن إيصال الثواب على الفعل وحينئذ يصح أن يقال: إنه أراده وما أحبه. قال أهل العلم: إنه لا يحب الجهر بالسوء ولا غير الجهر، ولكنه ذكر هذا الوصف لأن كيفية الواقعة أوجبت ذلك كقوله: إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا [النساء: 94] والتبين واجب في الطعن والإقامة. أما قوله: إِلَّا مَنْ ظُلِمَ فالاستثناء فيه متصل أو منقطع. وعلى الأول قال أبو عبيدة: تقديره إلّا جهر من ظلم فحذف المضاف. وقال الزجاج: الجهر بمعنى المجاهر أي(2/521)
لا يحب الله المجاهر بالسوء إلّا من ظلم. وعلى الثاني المعنى لكن المظلوم له أن يجهر بظلامته. وماذا يفعل المظلوم؟ قال ابن عباس: له أن يرفع صوته بالدعاء على من ظلمه.
وقال مجاهد: له أن يخبر بظلم ظالمه له. وقال الأصم: لا يجوز إظهار الأحوال المستورة المكنونة حذرا من الغيبة والريبة لكن له إظهار ظلمه بأن يذكر أنه سرق أو غصب. وقال الحسن: له أن ينتصر من ظالمه. وعن مجاهد أن ضيفا تضيف قوما فأساؤا قراه فاشتكاهم فنزلت الآية رخصة في أن يشكو. وقرأ الضحاك وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير إِلَّا مَنْ ظُلِمَ على البناء للفاعل. وقيل: إنه كلام منقطع عما قبله أي لكن من ظلم فدعوه وخلوه.
وقال الفراء والزجاج: معناه لكن من ظلم فإنه يجهر له بالسوء من القول وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً فليتق الله ولا يقل إلا الحق ولا يقذف مستورا. ثم حث على العفو بقوله: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ وهو إشارة إلى إيصال النفع أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ وهذا إشارة إلى دفع الضرر، وعلى هذين تدور المعاشرة مع الخلق. فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً قال الحسن: أي يعفو عن الجاني مع قدرته على الانتقام فعليكم أن تقتدوا بسنّة الله. وقيل: عفو لمن عفا، قدير على إيصال الثواب إليه. وقال الكلبي: معناه أن الله أقدر على عفو ذنوبك منك على عفو صاحبك.
وفي الخبر أن أبا بكر الصديق شتمه رجل فسكت مرارا ثم رد عليه فقام النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبوبكر: شتمني وأنت جالس فلما رددت عليه قمت. قال: إن ملكا كان يجيب عنك، فلما رددت ذهب الملك وجاء الشيطان فلم أجلس عند مجيء الشيطان.
ثم إنه سبحانه تكلم بعد ذكر أحوال المنافقين في مذاهب اليهود والنصارى وأباطيلهم. وذلك أنواع: الأول إيمانهم ببعض الأنبياء دون بعض فسلكهم في سلك من لا يقر بالوحدانية ولا بالنبوّات وهم الذين يكفرون بالله ورسله، وفي سلك من يقر بالوحدانية وينكر النبوّات وهم الذين يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله في الإيمان بالله والكفر بالرسل وذلك أن اليهود آمنوا بموسى والتوراة وكفروا بعيسى والإنجيل ومحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان، والنصارى آمنوا بعيسى والإنجيل وكفروا لمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا بالبعض وأرادوا أن يتخذوا بين ذلك أي بين الإيمان بالكل وبين الكفر بالكل سبيلا أي واسطة أُولئِكَ أي الطوائف الثلاث هُمُ الْكافِرُونَ أما الطائفة الأولى فكفرهم ظاهر، وأما الثانية فلأنّ تكذيب الأنبياء وإنكارهم يستلزم تكذيب الله إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الفتح: 10] وأما الطائفة الثالثة فلأنّ الدليل الدال على نبوة بعض الأنبياء هو المعجزة ويلزم منه حصول النبوة حيث حصل المعجز فالقدح في بعض من ظهر على يده المعجزة هو القدح في كل نبي. فقيل: هب أنه يلزمهم الكفر بكل الأنبياء ولكن ليس إذا توجه بعض الإلزامات على إنسان لزم أن يكون ذلك الإنسان قائلا به، فإلزام الكفر أمر والتزام الكفر غيره. فالجواب أن الإلزام إذا كان خفيا(2/522)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
يحتاج فيه إلى فكر وتأمل فالأمر كما ذكرتم، أما إذا كان جليا واضحا لم يبق بين الإلزام والالتزام فرق. وانتصاب حَقًّا على أنه مصدر مؤكد لغيره كقوله: زيد قائم حقا أي أخبرتك بهذا المعنى إخبارا حقا أي ثابتا. وقيل: المراد هم الكافرون كفرا حقا وطعن الواحدي فيه بأن الكفر لا يكون حقا بوجه من الوجوه. وأجيب بأن الحق هاهنا الكامل الراسخ الثابت. ثم ختم النوع بوعد المؤمنين. ومعنى: بَيْنَ أَحَدٍ بين اثنين منهم أو جماعة لأن أحدا في سياق النفي يفيد التعدد. ومعنى سَوْفَ توكيد الوعيد لا التأخر المجرد ولهذا قال سيبويه: لن أفعل نفى سوف أفعل. فالمعنى أن إيتاء الأجور كائن لا محالة وإن تأخر.
التأويل:
إنّ المنافقين يخادعون الله في الدنيا لأن الله خادعهم في الأزل حيث رش نوره وشاهدوه ثم أخطأهم إن شكرتم نعم الله عليكم وآمنتم أنفسكم من عذابه لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ من العوام ولا من التحدث بالنفس من الخواص ولا من الخواطر من الأخص إِلَّا مَنْ ظُلِمَ إما بتقاضي دواعي البشرية من غير اختيار أو بابتلاء من اضطرار. وأيضا لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ بإفشاء سر الربوبية، وإظهار مواهب الألوهية، أو بكشف القناع من مكنونات الغيب ومصونات غيب الغيب إِلَّا مَنْ ظُلِمَ بغلبات الأحوال وتعاقب كؤوس الجلال والجمال فاضطر إلى المقال فقال باللسان الباقي لا باللسان الفاني: أنا الحق وسبحاني إِنْ تُبْدُوا خَيْراً مما كوشفتم به من ألطاف الحق تنبيها للخلق وإفادة بالحق، أو تخفوه صيانة لنفوسكم عن آفات الشوائب وفطامها عن المشارب أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ مما يدعو إليه هوى النفس الأمارة، أو تتركوا إعلان ما جعل الله إظهاره سوءا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا فتكون عفوا متخلقا بأخلاقه إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ فيه إشارة إلى أن الإيمان لا يتبعض وإن كان يزيد وينقص مثاله شعاع الشمس إذا دخل كوّة البيت فيزيد وينقص بحسب سعة الكوة وضيقها، ولكن لا يمكن تجزئتها بحيث يؤخذ جزء منه فيجعل في شيء آخر غير محاذ للشمس والله تعالى أعلم.
[سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 169]
يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)
إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)(2/523)
القراآت:
لا تَعْدُوا بتشديد الدال مع سكون العين: أبو جعفر ونافع غير ورش.
وقرأ ورش مفتوحة العين مشددة. بَلْ طَبَعَ بالإدغام: علي وهشام وأبو عمر وعن حمزة بَلْ رَفَعَهُ مظهرا وبابه: الحلواني عن قالون سيؤتيهم حمزة وخلف وقتيبة. الباقون بالنون. زَبُوراً بضم الزاي حيث كان: حمزة وخلف والباقون بالفتح.
الوقوف:
بِظُلْمِهِمْ ج لأن «ثم» لترتيب الأخبار مع أن مراد الكلام متحد. عَنْ ذلِكَ ج لأن التقدير وقد آتينا. مُبِيناً هـ غَلِيظاً هـ غُلْفٌ ط قَلِيلًا هـ ص للعطف. عَظِيماً هـ لا لأنّ التقدير وفي قولهم. رَسُولَ اللَّهِ ج لأن ما بعده يحتمل ابتداء النفي والحال. شُبِّهَ لَهُمْ ط مِنْهُ ط الظَّنِّ ج لاحتمال الاستئناف والحال يَقِيناً ج لتقرير نفي القتل بإثبات الرفع. إِلَيْهِ ط حَكِيماً هـ قَبْلَ مَوْتِهِ ط لأن الواو للاستئناف مع اتحاد المقصود. شَهِيداً هـ ج للآية ولأن قوله: فَبِظُلْمٍ راجع إلى(2/524)
قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ وَقَوْلِهِمْ متعلق الكل حَرَّمْنا. كَثِيراً لا بِالْباطِلِ ط أَلِيماً هـ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ط عَظِيماً هـ مِنْ بَعْدِهِ ج للعطف مع تكرار الفعل.
وَسُلَيْمانَ ج لأنّ التقدير وقد آتينا التخصيص داود بإيتاء الزبر. زَبُوراً هـ ج لأنّ التقدير وقصصنا رسلا. عَلَيْكَ ط. تَكْلِيماً هـ ج لاحتمال البدل والنصب على المدح.
الرُّسُلِ ط ج حَكِيماً هـ بِعِلْمِهِ ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال.
يَشْهَدُونَ ط شَهِيداً هـ بَعِيداً هـ طَرِيقاً هـ لا أَبَداً ط يَسِيراً هـ.
التفسير:
هذا نوع ثان من جهالات اليهود فإنهم قالوا: إن كنت رسولا من عند الله فأتنا بكتاب من السماء جملة كما جاء موسى بالألواح. وقيل: اقترحوا أن ينزل عليهم كتابا إلى فلان وكتابا إلى فلان بأنك رسول الله. وقيل: كتابا نعاينه حين ينزل. فإن استكبرت ما سألوه فَقَدْ سَأَلُوا بمعنى سأل آباؤهم ومن هؤلاء على مذهبهم مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً وإنما كان سؤال الرؤية أكبر من سؤال تنزيل الكتاب لأن التنزيل أمر ممكن في ذاته بخلاف رؤية الله عيانا فإنها ممتنعة لذاتها عند المعتزلة، أو ممتنعة في الدنيا عند غيرهم. وفي قوله: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وجوه: أحدها أن البينات الصاعقة لأنها تدل على قدرة الله تعالى وعلى علمه وعلى قدمه وعلى كونه مخالفا للأجسام والأعراض، وعلى صدق موسى عليه السلام في دعوى النبوة. وثانيها أنها إنزال الصاعقة وإحياؤهم بعد إماتتهم. وثالثها أنها الآيات التسع من العصا واليد وفلق البحر وغيرها.
وفحوى الكلام أن هؤلاء يطلبون منك يا محمد أن تنزل عليهم كتابا من السماء فاعلم أنهم لا يطلبونه منك إلّا عنادا ولجاجا فإن موسى عليه السلام قد أنزل عليه هذا الكتاب وأنزل عليه سائر المعجزات الباهرة ثم إنهم طلبوا الرؤية على سبيل العناد وأقبلوا على عبادة العجل، وكل ذلك يدل على أنهم مجبولون على اللجاج والعناد والبعد عن طريق الحق فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ حيث لم نستأصل عبدة العجل وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً تسلطا ظاهرا وهو أن أمرهم بقتل أنفسهم، أو المراد قوّة أمره وكمال حاله وانكسار خصومه ففيه بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندونه فإنه بالآخرة يستولي عليهم ويقهرهم. ثم حكى عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم منها أنه تعالى رفع الطور بميثاقهم أي بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه، ومنها قصة دخولهم الباب باب بيت المقدس، ومنها قصة اعتدائهم في السبت باصطياد السمك وقد مر جميع هذه القصص في سورة البقرة. وقيل: إن العدو هاهنا ليس بمعنى الاعتداء وإنما هو بمعنى الحضر والمراد به النهي عن العمل والكسب يوم السبت كأنه قيل لهم: اسكنوا عن العمل في هذا اليوم واقعدوا في منازلكم فأنا(2/525)
الرزاق. ثم قال: وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً أي العهد المؤكد غاية التوكيد على أن يتمسكوا بالتوراة ويعملوا بما فيها. فَبِما نَقْضِهِمْ «ما» مزيدة للتوكيد أي فبنقضهم وبسبب كذا وكذا ثم قال: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها ردّا لقولهم قلوبنا أوعية للعلم وتنبيها على أنه تعالى ختم عليها فلهذا لا يصل أثر الدعوة والبيان إليها، أو تكذيبا لادعائهم إن قلوبنا في أكنة وذلك بحسب تفسيري الغلف كما مر في سورة البقرة فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا إيمانا قَلِيلًا وهو إيمانهم بموسى والتوراة على زعمهم وإلا فالكافر بنبي واحد كافر بجميع الأنبياء فالقلة في الحقيقة بمعنى العدم وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً فإنكارهم قدرة الله تعالى على خلق الولد من غير أب وكذا إنكارهم نبوة عيسى كفر ونسبتهم الزنا لمريم بهتان عظيم لأنه ظهر لهم عند ولادة عيسى من الكرامات والمعجزات ما دلهم على براءتها من كل سوء وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ قالوه على وجه الاستهزاء كقول فرعون إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: 27] أو أنه تعالى جعل الذكر الحسن مكان القبيح الذي كانوا يطلقونه عليه من الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة. وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ أي المقتول لَهُمْ لدلالة ذكر قتلنا على المقتول، أو يكون شبه مسندا إلى الجار والمجرور وهولهم أي وقع لهم التشبيه، ولا يجوز أن يكون في شبه ضمير المسيح لأنه المشبه به وليس بمشبه. قال أكثر المتكلمين: إن اليهود لما قصدوا قتله رفعه الله إلى السماء فخاف رؤساء اليهود وقوع الفتنة فيما بين عوامهم فأخذوا إنسانا وقتلوه وصلبوه ولبّسوا على الناس أنه هو المسيح، والناس ما كانوا يعرفون المسيح، إلّا بالاسم لأنه كان قليل المخالطة مع الناس. وقيل: إنّ اليهود لما علموا أنه في البيت الفلاني مع أصحابه، أمر يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه- يقال له طيطايوس- أن يدخل على عيسى ويخرجه ليقتله، فلما دخل عليه أخرج الله تعالى عيسى من سقف البيت وألقى على ذلك الرجل شبه عيسى فخرج فظنوا أنه هو المسيح فصلبوه وقتلوه. وقيل: وكلوا بعيسى عليه السلام رجلا يحرسه وصعد عيسى في الجبل ورفع إلى السماء وألقى الله الشبه على ذلك الرقيب فقتلوه وهو يقول لست عيسى. وقيل: إن رهطا من اليهود سبوه وسبوا أمه فدعا عليهم: اللهم أنت ربي وبكلمتك خلقتني، اللهم العن من سبني وسب والدتي.
فمسخ الله من سبهما قردة وخنازير، فأجمعت اليهود على قتله فلما هموا بأخذه وكان معه عشرة من أصحابه قال لهم: من يشتري الجنة بأن يلقى عليه شبهي؟ فقال واحد منهم: أنا.
فألقى الله شبه عيسى عليه فأخرج وقتل ورفع الله عيسى. وقيل: كان رجل يدعي أنه من أصحاب عيسى وكان منافقا، فذهب إلى اليهود ودلهم عليه فلما دخل مع اليهود لأخذه(2/526)
ألقى الله شبهه عليه فقتل وصلب. وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ قيل: إن المختلفين هم اليهود لما قتلوا الشخص المشبه ونظروا إلى بدنه قالوا: الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره. وقال السبكي: لما قتلوا اليهودي المشبه مكانه قالوا: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا، وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وقيل: إن المختلفين هم النصارى وذلك أنهم بأسرهم متفقون على أن اليهود قتلوه إلا أن كبار فرق النصارى ثلاثة: النسطورية والملكانية واليعقوبية. فالنسطورية زعموا أن المسيح صلب من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته وهو قريب من قول الحكماء إنّ القتل والموت يرد على الهيكل لا على النفس المجردة، وعلى هذا فالفرق بين عيسى وبين سائر المصلوبين أن نفسه كانت قدسية علوية مشرقة قريبة من عالم الأرواح فلم يعظم تألمها بسبب القتل وتخريب البدن. وقالت الملكانية: القتل والصلب وصل إلى اللاهوت بالإحساس والشعور لا بالمباشرة. وقالت اليعقوبية: القتل والصلب وقع للمسيح الذي هو جوهر متولد من جوهرين، والشك في الأحكام استواء طرفي نقيضه عند الذاكر وقد يطلق عليه الظن ولهذا ذم في قوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وأما العمل بالقياس فليس من اتباع الظن في شيء لأنه عمل بالطرف الراجح، ولأن العلم بوجوب العمل قطعي. ثم قال: وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً وإنه يحتمل عدم يقين القتل أي قتلا يقينا أو متيقنين. واليقين عقد جازم مطابق ثابت لدليل ويحتمل يقين عدم القتل على أن يَقِيناً تأكيد لقوله: وَما قَتَلُوهُ أي حق انتفاء قتله حقا وهذا أولى لقوله: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وقيل: هو من قولهم قتلت الشيء علما إذا تبالغ فيه علمه فيكون تهكما بهم لأنه نفى عنهم العلم أولا نفيا كليا ثم نبه بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً على أن رفع عيسى إلى السماء بالنسبة إلى قدرته سهل وأن فيه من الحكم والفوائد ما لا يحصيها إلّا هو.
ثم قال: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فقوله: إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف «وإن» هي النافية. التقدير: وما من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمنن به كقوله: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] والضمير في بِهِ عائد إلى عيسى، وفي مَوْتِهِ إلى أحد. عن شهر بن حوشب قال لي الحجاج: آية ما قرأتها إلّا تخالج في نفسي شيء منها يعني هذه الآية وقال: إني أوتي بالأسير من اليهود والنصارى فأضرب عنقه فلا أسمع منه ذلك. فقلت: إن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا: يا عدوّ الله أتاك عيسى نبيا فكذبت به فيقول: آمنت أنه عبد نبي. وتقول للنصراني: أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه الله أو ابن الله فيؤمن به ويقول: إنه(2/527)
عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه. قال: وكان متكئا فاستوى جالسا فنظر إليّ وقال:
ممن قلت؟ قلت: حدثني محمد بن علي ابن الحنفية فأخد ينكت الأرض بقضيبه ثم قال:
لقد أخذتها من عين صافية أو من معدنها. وعن ابن عباس أنه فسره كذلك فقال له عكرمة:
فإن أتاه رجل فضرب عنقه؟ قال: لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه. قال: وإن خر من فوق بيت أو احترق أو أكله سبع؟ قال: يتكلم بها في الهواء ولا تخرج روحه حتى يؤمن به.
وفائدة هذا الإخبار الوعيد وإلزام الحجة والبعث على معاجلة الإيمان به في أوان الانتفاع، لأنه إذا لم يكن بد من الإيمان به فلأن يؤمنوا به حال التكليف ليقع معتدا به أولى. وقيل:
الضميران في بِهِ وفي مَوْتِهِ لعيسى والمراد بأهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله. روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال وتقع الأمنة حتى ترتع الأسود والنمور مع الإبل والبقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات، ويلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه. قال بعض المتكلمين: ينبغي أن يكون هذا عند ارتفاع التكاليف أو بحيث لا يعرف إذ لو نزل مع بقاء التكليف على وجه يعرف أنه عيسى. فأما أن يكون نبيا- ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم- أو غير نبي وعزل الأنبياء لا يجوز. وأجيب بأنه كان نبيا إلى مبعث محمد صلى الله عليه وسلم وبعد ذلك انتهت مدة نبوته فلا يلزم عزله فلا يبعد أن يصير بعد نزوله تبعا لمحمد صلى الله عليه وسلم. قال في الكشاف: ويجوز أن يراد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلّا ليؤمنن به على أن الله تعالى يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ويعلمهم نزوله وما أنزل له ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم.
وقيل: الضمير في بِهِ يرجع إلى الله تعالى وقيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يشهد على اليهود بأنهم كذبوه وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله وكذلك كل نبي شاهد على أمته. قوله: فَبِظُلْمٍ التنوين للتعظيم يعني فبأي ظلم مِنَ الَّذِينَ هادُوا والذنوب نوعان: الظلم على الخلق وهو قوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا الآية والإعراض عن الدين الحق وهو قوله: وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً أي ناسا كثيرا أو صدا كثيرا.
ومن هذا القبيل أخذ الربا بعد النهي عنه وأكل أموال الناس بالباطل أي بالرشا على التحريف فهذه الذنوب هي الموجبة للتشديد عليهم في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا فتحريم بعض المطاعم الطيبة كما يجيء في سورة الأنعام: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [الأنعام: 146] الآية وأما في الآخرة فقوله: وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً واعلم أن في متعلق قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ وما عطف عليه قولين: الأوّل أنه محذوف والتقدير: فبنقضهم وبكذا وكذا لعناهم أو سخطنا عليهم أو نحو ذلك ثم استأنف قوله:(2/528)
فَبِظُلْمٍ ومتعلقه حَرَّمْنا وكذا متعلق المعطوفات بعده. الثاني أن متعلق الكل حَرَّمْنا وقوله: فَبِظُلْمٍ بدل من قوله: فَبِما نَقْضِهِمْ قاله الزجاج. ويرجح الأوّل بأن حذف المتعلق أفخم ليذهب الوهم كل مذهب، ولأنّ تحريم الطيبات عقوبة خفيفة فلا يحسن تعليقها بتلك الجنايات العظائم. قلت: لو جعل قوله: وَأَعْتَدْنا معطوفا على حَرَّمْنا زال هذا الإشكال، أما تكرار الكفر في الآيات ثلاث مرات ويلزم من عطف الثالث على الأوّل أو على الثاني عطف الشيء على نفسه فقد أجاب عنه في الكشاف بأنه قد تكرر منهم الكفر لأنهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فعطف بعض كفرهم على بعض، أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه كأنهم قيل: فبجمعهم بين نقض الميثاق والكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء عليهم السلام، وقولهم قلوبنا غلف، وجمعهم بين كفرهم وبهتهم مريم وافتخارهم بقتل عيسى، عاقبناهم أو بل طبع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم وكذا وكذا. ثم وصف طريقة المؤمنين المحقين منهم فقال: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ يعني عبد الله بن سلام وأضرابه ممن نبت في العلم وثبت وأتقن واستبصر حتى حصلت له المعارف بالاستدلال واليقين دون التقليد والتخمين، لأن المقلد يكون بحيث إذا شكك تشكك، أما المستدل فإنه لا يتشكك البتة وَالْمُؤْمِنُونَ يريد المؤمنين منهم أو المؤمنين من المهاجرين والأنصار. والراسخون مبتدأ ويُؤْمِنُونَ خبره.
أما قوله: وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ ففيه أقوال: الأوّل روي عن عثمان وعائشة أنهما قالا: إن في المصحف لحنا وستقيمه العرب بألسنتها، ولا يخفى ركاكة هذا القول لأن هذا المصحف منقول بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يمكن ثبوت اللحن فيه؟ الثاني قول البصريين إنه نصب على المدح لبيان فضل الصلاة وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ رفع على المدح لبيان فضل الزكاة كقولك: جاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد. فتقدير الآية أعني المقيمين الصلاة وهم المؤتون الزكاة وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وطعن الكسائي في هذا القول بأن النصب على المدح إنما يكون بعد تمام الكلام وهاهنا الخبر وهو قوله:
أُولئِكَ إلخ منتظر. والجواب أن الخبر يُؤْمِنُونَ ولم سلم فما الدليل على أنه لا يجوز الاعتراض بالمدح بين المبتدأ وخبره؟ الثالث وهو اختيار الكسائي أن المقيمين خفض للعطف على ما في قوله: أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ والمراد بهم الأنبياء لأنه لم يخل شرع واحد منهم من الصلاة. قال تعالى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ [الأنبياء: 73] أو الملائكة لقوله: وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ [الصافات: 165] واعلم أن العلماء ثلاثة أقسام:
العلماء بأحكام الله وتكاليفه وشرائعه، والعلماء بذات الله وصفاته الواجبة والممتنعة وأحوال(2/529)
المبدإ والمعاد، والعلماء الجامعون بين العلمين المذكورين مع العمل بما يجب العمل به وهم الراسخون في العلم وأنهم أكابر العلماء، وإلى الأقسام الثلاثة أشار
بقوله صلى الله عليه وسلم: «جالس العلماء وخالط الحكماء ورافق الكبراء»
اللهم اجعلنا من زمرتهم بفضلك يا مستعان. ثم إنه سبحانه عاد إلى الجواب عن سؤال اليهود وهو اقتراح نزول الكتاب جملة فقال: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية. فبدأ بذكر نوح عليه السلام لأنه أول من شرع الله على لسانه الأحكام والحلال والحرام، ثم قال: وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ثم خص بعض النبيين بالذكر لكونهم أفضل من غيرهم، ولم يذكر فيهم موسى لأن المقصود من تعداد هؤلاء الأنبياء أنهم كانوا رسلا مع أن واحدا منهم ما أوتي كتابا مثل التوراة دفعة واحدة. ثم ختم ذكر الأنبياء بقوله: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً يعني أنكم اعترفتم، أن الزبور من عند الله، ثم إنه ما نزل على داود جملة واحدة وهذا إلزام حسن قوي والزبور كتاب داود عليه السلام. من قرأ بضم الزاي فعلى أنه جمع زبر وهو الكتاب كقدر وقدور. ثم قال: وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ والمعنى أنه تعالى إنما ذكر أحوال بعض الأنبياء في القرآن والأكثرون غير مذكورين على سبيل التفصيل. وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً هذا أيضا من تتمة الجواب. والمراد أنه بعث كل هؤلاء الأنبياء والرسل وخص موسى عليه السلام بشرف التكليم معه، ولم يلزم منه الطعن في سائر الأنبياء فكيف يلزم الطعن بإنزال التوراة عليه دفعة وإنزال غيرها على غيره منجما رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ يعني أن المقصود من بعثة الأنبياء إلزام التكاليف بالإنذار والتبشير، وقد يتوقف هذا المطلوب على إنزال الكتب وقد يكون إنزال الكتاب منجما مفرقا أقرب إلى المصلحة لأنه إذا نزل جملة كثرت التكاليف فيثقل القبول كما ثقل على قوم موسى فعصوا. ثم ختم الآية بقوله: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً والمعنى أن عزته تقتضي أن لا يجاب المتعنت إلى مطلوبه وإن كان أمرا هينا في القدرة وكذلك حكمته تقتضي هذا الامتناع، لأنه لو فعل ذلك لأصروا على اللجاج في كل قضية. واحتج الأشاعرة بالآية على أن معرفة الله لا تثبت إلّا بالسمع لقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فيكون قبل البعثة لهم حجة في ترك الطاعات والمعارف.
وأجابت المعتزلة بأن الرسل منبهون عن الغفلة وباعثون على النظر وكان إرسالهم إزاحة للغفلة وتتميما لإلزام الحجة مع إفادة تفصيل أمور الدين وبيان أحوال التكليف وتعليم الشرائع. والمعتزلة قالوا: في الآية دلالة على امتناع تكليف ما لا يطاق لأن عدم إرسال الرسل إذا كان يصلح عذرا فبأن يكون عدم القدرة والمكنة صالحا للعذر أولى وعورض.
وأيضا قالوا: الآية تدل على أن العبد قد يحتج على الرب فيبطل قول أهل السنة إنه لا(2/530)
اعتراض عليه لأحد. وأجيب بأنه يشبه الحجة وليس حجة في الحقيقة. قوله: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ لا بد له من مستدرك لأن لكِنِ لا يبتدأ به. وفي ذلك المستدرك وجهان: أحدهما أن هذه الآيات بأسرها جواب عن قول اليهود لو كان نبيا لنزل عليه الكتاب جملة، وهذا الكلام يتضمن أنه هذا القرآن ليس كتابا نازلا عليه من السماء فلا جرم قيل: لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بأنه نازل عليه من السماء. الثاني أنه تعالى لما قال: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قال القوم:
نحن لا نشهد لك بذلك فنزل لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ ومعنى شهادة الله إنزال القرآن بحيث عجز عن معارضته الأولون والآخرون أي يشهد لك بالنبوة بواسطة هذا القرآن الذي أنزله إليك.
ثم فسر ذلك وأوضح بقوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أي متلبسا بعلمه الخاص الذي لا يعلمه غيره، أو بسبب علمه الكامل مثل: كتبت بالقلم وهذا كما يقال في الرجل المشهور بكمال الفضل إذا صنف كتابا واستقصى في تحريره إنما صنف هذا بكمال علمه يعني أنه اتخذ جملة علومه آلة ووسيلة إلى تصنيف ذلك الكتاب، أو أنزله وهو عالم بأنك أهل لإنزاله إليك وأنك مبلغه، أو أنزله بما علم من مصالح العباد فيه، أو أنزله وهو عالم به رقيب عليه حافظ له من شياطين الجن والإنس. وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ لأنهم لا يسبقونه بالقول فشهادته تستتبع شهادتهم ومن صدقه رب العالمين وملائكة السموات والأرضين لم يلتفت إلى تكذيب أخس الناس إياه وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً وإن لم يشهد غيره إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بمحمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وَصَدُّوا غيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بإلقاء الشبهات كقولهم: لو كان رسولا لأنزل عليه القرآن دفعة كما نزلت التوراة على موسى، وكقولهم إن شريعة موسى لا تنسخ وإن الأنبياء لا يكونون إلّا من ولد هارون وداود قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً لأن غاية الضلال أن ينضم معه الإضلال.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا محمدا صلى الله عليه وسلم بكتمان بعثته أو عوامهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم.
ومعنى قوله: وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً أنهم لا يسلكون إلّا الطريق الموصل إلى جهنم أو لا يهديهم يوم القيامة إلّا طريقها. والعامل في خالِدِينَ معنى لا ليهديهم أي يعاقبهم أو يدخلهم النار خالدين. وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لأنه لا صارف له عن ذلك ولا يتعذر عليه إيصال الألم إليه شيئا بعد شيء إلى غير النهاية. واللام في الَّذِينَ إما لقوم معهودين علم الله منهم أنهم يموتون على الكفر، وإما للاستغراق فيجب أن يضمر شرط عدم التوبة. وحمل المعتزلة قوله: وَظَلَمُوا على أصحاب الكبائر بناء على أنه لا فرق عندهم بين الكافر وصاحب الكبيرة في أنه لا يغفر لهما إلّا بالتوبة.
التأويل:
أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً لعل خرة موسى بلن تراني كانت بشؤم القوم وما كان في أنفسهم من سوء أدب هذا السؤال لئلا يطمعوا في مطلوب لم يعطه نبيهم، فما اتعظوا بحالة نبيهم لأنهم كانوا أشقياء والسعيد من وعظ بغيره. فكما زاد عنادهم زاد بلاؤهم وابتلاؤهم(2/531)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
كرفع الطور فوقهم وغير ذلك. قال أهل الإشارة: ارتكاب المحظورات يوجب تحريم المباحات والطيبات التي أحلت لهم ولأزواجهم الطيبين قبل التلوث بقذر المخالفات والإسراف في المباحات يستتبع حرمان المناجاة والقربات لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ هم الذين رسخوا بقدمي الصدق والعمل في العلم إلى أن بلغوا معادن العلوم فاتصلت علومهم الكسبية بالعلوم العطائية واللدنية إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ أي كل ما أوحينا إليهم أوحينا إليك من سر فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم: 10] وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي ليلة المعراج وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء: 164] الآن في القرآن مفصلة أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ تجلى له بصفة العالمية حتى علم بعلمه ما كان وما سيكون وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ على تلك الخلوة وإن لم يكونوا معك في الخلوة وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على ما جرى.
قد كان ما كان سرا لا أبوح به ... ظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
[سورة النساء (4) : الآيات 170 الى 176]
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)(2/532)
القراآت:
فسنحشرهم بالنون: المفضل. الباقون بالياء.
الوقوف:
خَيْراً لَكُمْ ط. وَالْأَرْضِ ط حَكِيماً هـ إِلَّا الْحَقَّ ط.
وَكَلِمَتُهُ ج للاستئناف مع اتحاد المقصود. وَرُوحٌ مِنْهُ ز لعطف المختلفين ولكن فاء التعقيب توجب تعجيل الإيمان مع تمام البيان. وَرُسُلِهِ ط. ثَلاثَةٌ ط خَيْراً لَكُمْ ط إِلهٌ واحِدٌ ط. وَلَدٌ ج لأن المنفي منه مطلق الولد ولو وصل أوهم أن المنفي ولد موصوف بأن له ما في السموات وما في الأرض. وَكِيلًا هْ مُقَرَّبُونَ
طمِيعاً
هـ.
مِنْ فَضْلِهِ ج أَلِيماً هـ وَلا نَصِيراً هـ مُبِيناً هـ وَفَضْلٍ لا للعطف.
مُسْتَقِيماً هـ يَسْتَفْتُونَكَ ط. الْكَلالَةِ ط ما تَرَكَ ج لأن ما بعده مبتدأ ولكن الكلام متحد البيان. لَها وَلَدٌ ط لأن جملة الشرط تعود إلى قوله: فَلَها نِصْفُ وبينهما عارض مِمَّا تَرَكَ ط لابتداء حكم جامع للصنفين. الْأُنْثَيَيْنِ ط أَنْ تَضِلُّوا ط عَلِيمٌ هـ.
التفسير:
لما بيّن فساد طريقة اليهود وأجاب عن شبههم عمم الخطاب فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ أي بالقرآن والقرآن معجز فيكون حقا أو بالدعوة إلى عبادة الله والإعراض عن غيره وهو الحق الذي تشهد له العقول السليمة. فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ انتصابه بمضمر وكذا في انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ لأنه لما بعثهم على الإيمان والانتهاء عن التثليث علم أنه يحملهم على أمر. فالمعنى: اقصدوا وأتوا خيرا لكم مما أنتم فيه من الكفر والتثليث وهو الإيمان والتوحيد، فإن الإيمان لا شك أنه أحمد عاقبة من الكفر بل العاقبة كلها له. وقيل: إنه منصوب على خبرية «كان» أي يكن الإيمان خيرا لكم والأول أصح لئلا يلزم الحذف من غير قرينة وَإِنْ تَكْفُرُوا فإن الله غني عنكم لأنه مالك الكل، أو هو قادر على إنزال العذاب لأن الكل تحت قهره وتسخيره، أو له عبيد أخر يعبدونه غيركم وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً بأحوال العباد حَكِيماً لا يضيع أجر المحسن ولا يهمل جزاء المسيء.
ثم لما أجاب عن شبه اليهود خاطب النصارى ومنعهم عن الغلو في الدين وهو الإفراط في شأن المسيح إلى أن اعتقدوه إلها لا نبيا، وحثهم على أن لا يقولوا على الله إلّا الحق الذي يحق ويجب وصفه به وهو تنزيهه عن الحلول في بدن إنسان والاتحاد بروحه واتخاذه لصاحبة وولد إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ وجد بأمره من غير واسطة أب ولا نطفة أَلْقاها أي الكلمة إِلى مَرْيَمَ أي أوصلها إليها وحصلها فيها وَرُوحٌ مِنْهُ أي إنه طاهر نظيف بمنزلة الروح كما يقال: هذه نعمة من الله، أو سمي بذلك لأنه سبب حياة الأرواح أو كمالها كما سمي القرآن روحا في قوله: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] وقيل: أي رحمة منه كقوله: وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: 22](2/533)
ولا شك أن وجود النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للأمة قال تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107]
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما أنا رحمة مهداة»
وقيل: الروح هو الريح يعني أن النفخ من جبريل كان بأمر الله تعالى فهو منه والتنكير للتعظيم أي روح من الأرواح الشريفة القدسية العالية. وقوله: مِنْهُ إضافة لذلك الروح إلى نفسه لأجل التشريف. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أي آمنوا به كإيمانكم بسائر الرسل ولا تجعلوه إلها وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ هي خبر مبتدأ محذوف أي الله ثلاثة إن كان معتقدهم أن الذات جوهر واحد وأنه ثلاثة بالصفات ويسمونها الأقانيم أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس، وربما يقولون أقنوم الذات وأقنوم العلم وأقنوم الحياة، أو الآلهة ثلاثة إن كان في اعتقادهم أنها ذوات قائمة بأنفسها الأب والأم والابن. ولعل القولين مرجعهما إلى واحد لأنهم إذا جوزوا على الصفات الانتقال والحلول في عيسى وفي مريم فقد جعلوها مستقلة بأنفسها ولهذا لزم الكفر والشرك، وإلا فمجرد إثبات الصفات لله تعالى لا يوجب الشرك. فالأشاعرة أثبتوا لله تعالى ثمان صفات قدماء. انْتَهُوا عن التثليث واقصدوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ لا تركيب فيه بوجه من الوجوه سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أسبحه تسبيحا وأنزهه تنزيها من أن يكون له ولد فلا يتصل به عيسى اتصال الأبناء بالآباء ولكن من حيث إنه عبده ورسوله موجود بأمره جسدا حيا من غير أب لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ فكيف يكون بعض ملكه جزءا منه على أن الجزء إنما يصح في المنقسم عقلا أو حسا، وإنه لا ينقسم بجهة من الجهات لا العقلية ولا الحسية. وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا وإذا كان كافيا في تدبير المخلوقات وحفظ المحدثات فلا حاجة معه إلى القول بإثبات إله آخر مستقل أو مشارك.
قال الكلبي: إن وفد نجران قالوا: يا محمد لم تعيب صاحبنا؟ قال: ومن صاحبكم؟ قالوا: عيسى. قال: وأي شيء أقول فيه؟
قالوا: تقول إنه عبد الله ورسوله. فقال لهم: إنه ليس بعار لعيسى أن يكون عبد الله. قالوا:
بلى. فنزل نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
والتحقيق أن الشبهة التي عليها يعوّلون في دعوى أنه ابن الله هي أنه كان يخبر عن المغيبات ويأتي بخوارق العادات كإحياء الأموات فقيل لهم: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
بسبب هذا القدر من العلم والقدرة عن عبودية الله تعالى فإن الملائكة المقربين أعلى حالا منه لأنهم مطلعون على اللوح المحفوظ، وقد حمل العرش مع عظمته ثمانية منهم ثم إنهم لم يستنكفوا عن كونهم عبادا لله تعالى فكيف يستنكف المسيح عن ذلك أي يمتنع ويأنف؟ والتركيب يدور على التنحية والإزالة من ذلك نكفت الدمع أنكفه إذا نحيته عن خدك بأصبعك، ونكفت عن الشيء أي عدلت.
والقائلون بأفضلية الملائكة استدلوا بهذه الآية وقد تقدم الاستدلال بها والجواب عنها والبحث عليها في سورة البقرة في تفسير قوله: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا [البقرة: 34](2/534)
الآية. أما قوله: لَا الْمَلائِكَةُ
فإنه معطوف علىْ مَسِيحُ
وهو الأظهر، وجوز بعضهم عطفه على الضمير في كُونَ
أو في بْداً
لمعنى الوصفية فيه فيكون المعنى: أنّ المسيح لا يأنف أن يكون هو ولا الملائكة موصوفين بالعبودية، أو لا يأنف أن يعبد الله هو والملائكة.
وفي المعنيين انحراف عن الغرض فالأول أولى. والمراد بالملائكة كل واحد منهم حتى يكون خبره أيضابْداً
أو يكون الخبر عِباداً وحذف لدلالةبْداً
عليه مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ
أي يجمعهم يوم القيامة إليه حيث لا يملكون لأنفسهم شيئا.
ثم إنه تعالى لم يذكر ما يفعل بهم بل ذكر أولا ثواب المؤمنين المطيعين فسئل إن التفصيل غير مطابق للمفصل لأنه اشتمل على الفريقين والمفصل على فريق واحد فأجاب في الكشاف بأن هذا كقولك: جمع الإمام الخوارج فمن لم يخرج عليه كساه وحمله ومن خرج عليه نكل به. فحذف ذكر أحد الفريقين لدلالة التفصيل عليه، ولأن ذكر أحدهما يدل على ذكر الثاني كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ أو قدم ثواب المؤمنين توطئة كأنه قيل: ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيعذب بالحسرة إذا رأى أجور العاملين وسيعاقب مع ذلك بما يصيبهم من العذاب. أقول: لو جعل الضمير في قول: سَيَحْشُرُهُمْ
راجعا إلى الناس جميعا لم يحتج إلى هذه التكلفات ويحصل الربط بسبب العموم ومثله غير عزيز في القرآن كقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [الكهف: 30] ثم عاد إلى تعميم الخطاب بقوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ الآية. فيحتمل أن يراد بالبرهان والنور كليهما القرآن، ويحتمل أن يراد بالبرهان محمد صلى الله عليه وسلم لأنه يقيم البرهان على تحقيق الحق وإبطال الباطل وبالنور المبين القرآن لأن سبب لوقوع نور الإيمان في القلب. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ في ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه وَاعْتَصَمُوا بِهِ تمسكوا بدينه أو لجؤا إليه في أن يثبتهم على الإيمان ويصونهم عن زيغ الشيطان فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ قال ابن عباس: الرحمة الجنة، والفضل ما يتفضل عليهم مما لا عين رأت ولا أذن سمعت وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ أي إلى عبادته صِراطاً مُسْتَقِيماً هو الدين الحنيفي والتقدير صراطا مستقيما إليه، ويحتمل أن يراد بالرحمة والفضل اللذات الحسية الباقية، وبالهداية اللذات الروحانية الدائمة.
ثم إنه سبحانه ختم السورة بنحو مما بدأها به وهو أحكام المواريث فقال:
يَسْتَفْتُونَكَ الآية. قال أهل العلم: إنّ الله تعالى أنزل في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول هذه السورة، والأخرى في الصيف وهي هذه ولهذا تسمى آية الصيف.(2/535)
عن جابر قال: اشتكيت فدخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي سبع أخوات فنفخ في وجهي فأفقت فقلت: يا رسول الله أوصي لأخواتي بالثلث. قال: أحسن. فقلت: الشطر؟ قال:
أحسن. ثم خرج وتركني قال: ثم دخل فقال: يا جابر إني لا أراك تموت في وجعك هذا وإن الله قد أنزل فبيّن الذي لأخواتك وجعل لأخواتك الثلثين.
وروي أنه آخر ما نزل من الأحكام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة عام حجة الوداع فأتاه جابر بن عبد الله فقال: إن لي أختا فكم آخذ من ميراثها إن ماتت؟ فنزلت.
هذا وقد تقدم أن الكلالة اسم يقع على الوارث وهو من عدا الوالد والولد وعلى المورث وهو الذي لا ولد له ولا والدين. إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ ارتفع امْرُؤٌ بمضمر يفسره هذا الظاهر، ومحل لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ الرفع على الصفة أي إن هلك امرؤ وغير ذي ولد. اعلم أن ظاهر الآية مطلق ولا بد فيه من تقييدات ثلاثة: الأول أن الولد مطلق والمراد به الابن لأنه هو الذي يسقط الأخت، وأما البنت فلا تسقطها ولكنها تعصبها لما
روي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت وبنت ابن وأخت بأن للبنت النصف ولبنت الابن السدس والباقي للأخت.
فعلى هذا فلو خلف بنتا وأختا فللبنت النصف والباقي للأخت بالعصوبة. الثاني أن ظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم يكن للميت ولد فإن الأخت تأخذ النصف وليس كذلك على الإطلاق، بل الشرط أن لا يكون للميت ولد ولا والد لأن الأخت لا ترث مع الوالد بالإجماع. الثالث قوله: وَلَهُ أُخْتٌ المراد الأخت من الأب والأم أو من الأب لأن الأخت من الأم والأخ من الأم ذكر حكمهما في أول السورة بالإجماع. ثم قال: وَهُوَ يَرِثُها أي وأخوها يرثها ويستغرق مالها إن قدر الأمر على العكس من موتها وبقائه بعدها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ
أي ابن كما قلنا لأن الابن يسقط الأخ دون البنت. وأيضا إن هذا في الأخ من الأبوين أو من الأب، أما الأخ من الأم فإنه لا يستغرق الميراث. وأيضا المراد إن لم يكن لها ولد ولا والد لأن الأب أيضا مسقط للأخ
لقوله صلى الله عليه وسلم: «ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى عصبة ذكر»
والأب أولى من الأخ.
ثم قال: فَإِنْ كانَتَا يعني من يرث بالإخوة اثْنَتَيْنِ فأنث وثنى باعتبار الخبر كقولهم من كانت أمك وكذا الكلام في قوله: وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً وأراد بالإخوة الإخوة والأخوات لكنه غلب جانب الذكورة. روي أن الصديق قال في خطبة: ألا إنّ الآيات التي أنزلها الله في سورة النساء في الفرائض أولاها في الوالد والولد، وثانيتها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم، والتي ختم بها السورة في الإخوة والأخوات من الأب والأم، والتي ختم بها الأنفال في أولي الأرحام يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا قال البصريون: المضاف محذوف أي كراهة أن تضلوا. وقال الكوفيون: لئلا تضلوا. وقال الجرجاني صاحب النظم: يبين الله لكم الضلالة لتعلموا أنها ضلالة فتتجنبوها وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيكون بيانه حقا وتعريفه صدقا. ختم(2/536)
السورة ببيان كمال العلم كما أنه ابتدأها بكمال القدرة فبهما تتم الإلهية ويحصل الترهيب والترغيب للعاصي والمطيع والله المستعان.
التأويل:
وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني إن تؤمنوا يكن لكم ماله وإن تكفروا فالكل له لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ لا تميلوا إلى طرفي التفريط والإفراط. فاليهود فرطوا في شأنه فلم يقبلوه نبيا وهموا بقتله، والنصارى أفرطوا في حبه فجعلوه ابن الله، وكذلك كل ولي له سبحانه يشقى قوم بترك احترامه وطلب أذيته، وقوم بالزيادة في إعظامه حتى يعتقد فيه ما ليس يرضى به كالخوارج والغلاة من الشيعة ولهذا
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم» «1» .
وَرُوحٌ مِنْهُ لأنه تكوّن بأمركن من غير واسطة أب كما أن الروح تكون كذلك قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] ولغلبة جانب الروحانية عليه كان يحيي الأجساد الميتة إذ ينفخ فيها وهذا الاستعداد الروحاني الذي هو من كلمة الله مركوز في جبلة الإنسان فمن تخلص جوهر روحانيته من معدن بشريته في إنسانيته يكون عيسى وقته فيحيي الله تعالى بأنفاسه القلوب الميتة ويفتح به آذانا صما وعيونا عميا فيكون في قومه كالنبي في أمته وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ يعني نفوسكم والرسول والله. بل انتهوا بنظر الوحدة عن رؤية الثلاثة فينكشف لكم إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سبحانه أن يتولد من وحدانيته شيء له الوجود الحقيقي القائم الدائم أولا وآخرا وظاهرا وباطنا كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: 88] وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا لكل هالك. نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ
لأن العبدية وهي حقيقة الإمكان الذاتي واجبة له ولهذا نطق في المهد بقوله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: 30] لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
إنما ذكرهم لأن بعض الكفار كانوا يقولون الملائكة بنات الله كما قالت النصارى المسيح ابن الله. قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ جعل نفس النبي برهانا لأنه برهان بالكلية وبرهان غيره كان في أشياء غير أنفسهم مثل ما كان برهان موسى في عصاه. فمن ذلك برهان بصره ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: 17] ومنه برهان أنفه
«إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» «2»
ومنه برهان لسانه وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: 3] وبرهان بصاقه بصق في العجين وفي البرمة فأكلوا من ذلك وهم ألف حتى تركوه والبرمة تفور كما هي والعجين يخبز. وبرهان تفله تفل في عين علي كرم الله وجهه وهي ترمد فبرأ بإذن الله وذلك يوم خيبر، وبرهان يده وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 48. الدارمي في كتاب الرقاق باب 68. أحمد في مسنده (1/ 23، 24، 47) .
(2) رواه أحمد في مسنده (2/ 541) .(2/537)
[الأنفال: 17] وسبح الحصى في يده، وبرهان أصبعه أشار بها إلى القمر فانشق فلقتين، وقد جرى الماء من بين أصابعه حتى شرب ورفع منه خلق كثير، وبرهان صدره كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل. أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشرح: 1] وبرهان قلبه
«تنام عيناي ولا ينام قلبي» «1»
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: 193] وبرهان كله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ [الإسراء: 1] اللهم ارزقنا الاقتناص من هذا البرهان والاقتباس من أنوار القرآن إنك أنت الرؤوف المنان.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 79. أحمد في مسنده (5/ 40) .(2/538)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
(سورة المائدة)
(مائة وعشرون آية) وهي مدنية غير آية نزلت عشية عرفة اليوم أكملت لكم دينكم حروفها أحد عشر ألفا وسبعمائة وثلاثة وثلاثون وكلماتها ألفان وثمانمائة وأربع
[سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)(2/539)
القراآت:
وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ بالنون الخفيفة: روي عن رويس. الباقون مثقلة.
شَنَآنُ في الموضعين بسكون النون: ابن عامر وإسماعيل وأبوبكر وحماد ويزيد من طريق ابن وردان. الباقون بالفتح. أَنْ صَدُّوكُمْ بكسر الهمز: ابن كثير أبو عمرو. الباقون بالفتح. وَلا تَعاوَنُوا بتشديد التاء: البزي وابن فليح. الْمَيْتَةُ وفَمَنِ اضْطُرَّ كما مر في البقرة. وَاخْشَوْنِي بالياء في الوقف: سهل ويعقوب. وَأَرْجُلَكُمْ بالنصب: ابن عامر ونافع وعلي والمفضل وحفص ويعقوب والأعشى في اختياره. الباقون بالجر.
الوقوف:
بِالْعُقُودِ ط لاستئناف الفعل. حُرُمٌ ط ما يُرِيدُ هـ وَرِضْواناً ط فَاصْطادُوا ط لابتداء نهي أن تعتدوا لئلّا يتوهم العطف وحذف التاء من تعاونوا.
وَالتَّقْوى ص لعطف المتفقتين. وَالْعُدْوانِ ص كذلك وَاتَّقُوا اللَّهَ ط شَدِيدُ الْعِقابِ هـ بِالْأَزْلامِ ط فِسْقٌ ط وَاخْشَوْنِي ط دِيناً ط لأنّ الشرط من تمام التحريم لا مما يليه. لِإِثْمٍ لا لأن ما بعده جزاء. رَحِيمٌ هـ أُحِلَّ لَهُمْ ط فصلا بين السؤال والجواب. الطَّيِّباتُ ط للعطف أي وصيد ما علمتم. مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ ز لفاء التعقيب مع عطف المختلفين. عَلَيْهِ ص وَاتَّقُوا اللَّهَ ط الْحِسابِ هـ الطَّيِّباتُ ط لأن ما بعده مبتدأ. لَكُمُ ص لعطف المتفقتين. لَهُمْ ز لأن قوله: وَالْمُحْصَناتُ عطف على وَطَعامُ الَّذِينَ لا على ما يليه. أَخْدانٍ ط عَمَلُهُ ز لعطف المختلفين مع أن ما بعده من تمام جزاء الكفر معنى. الْخاسِرِينَ هـ الْكَعْبَيْنِ ط لابتداء حكم.(2/540)
فَاطَّهَّرُوا ط كذلك. وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ط تَشْكُرُونَ هـ واثَقَكُمْ بِهِ لا لأن «إذ» ظرف المواثقة. وَأَطَعْنا ز لعطف المتفقتين مع وقوع العارض. وَاتَّقُوا اللَّهَ ط الصُّدُورِ هـ بِالْقِسْطِ ز لعطف المتفقتين مع زيادة نون التأكيد المؤذن بالاستئناف. أَلَّا تَعْدِلُوا ط للاستئناف. اعْدِلُوا ج وقفة لطيفة لأن الضمير مبتدأ مع شدة اتصال المعنى.
لِلتَّقْوى ز وَاتَّقُوا اللَّهَ ط بِما تَعْمَلُونَ هـ الصَّالِحاتِ لا لأن ما بعده مفعول الوعد أي أن لهم. عَظِيمٌ هـ الْجَحِيمِ هـ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ج لاعتراض الظرف بين المتفقين.
وَاتَّقُوا اللَّهَ ط الْمُؤْمِنُونَ هـ.
التفسير:
وفي بالعهد وأوفى به بمعنى. والعقد وصل الشيء بالشيء على سبيل الاستيثاق والإحكام والعهد وإلزام مع إحكام. والمقصود من الإيفاء بالعقود أداء تكاليفه فعلا وتركا. والتحقيق أن الإيمان معرفة الله بذاته وصفاته وأحكامه وأفعاله فكأنه قيل: يا أيها الذين التزمتم بأيمانكم أنواع العقود أوفوا بها. ومعنى تسمية التكاليف عقودا أنها مربوطة بالعباد كما يربط الشيء بالشيء بالحبل الموثق. قال الشافعي: إذا نذر صوم يوم العيد أو نذر ذبح الولد لغا
لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا نذر في معصية الله» «1» .
وقال أبو حنيفة: يجب عليه الصوم والذبح لقوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ غايته أنه لغا هذا النذر في خصوص كون الصوم واقعا في يوم العيد وفي خصوص كون الذبح في الولد. وقال أيضا خيار المجلس غير ثابت لقوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وخصص الشافعي عموم الآية
بقوله: صلى الله عليه وسلم: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» .
وقال أبو حنيفة: الجمع بين الطلقات حرام لأن النكاح من العقود بدليل: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ [البقرة: 235] وقال: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ترك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع فيبقى سائرها على الأصل. والشافعي خصص هذا العموم بالقياس وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ وقد نفذ فلا يحرم. ثم إنه سبحانه لما مهد القاعدة الكلية ذكر ما يندرج تحتها فقال: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ والبهيمة كل حي لا عقل له من قولهم: استبهم الأمر إذا أشكل. وهذا باب مبهم أي مسدود. ثم خص هذا الاسم بكل ذات أربع في البر والبحر. والأنعام هي: المال الراعية من الإبل والبقر والغنم. قال الواحدي: ولا يدخل في اسم الأنعام الحافر لأنه مأخوذ من نعومة الوطء، وإضافة البهيمة إلى الأنعام للبيان مثل: خاتم فضة بتقدير من. وفائدة زيادة لفظ البهيمة مع صحة ما لو قيل أحلت لكم الأنعام كما قال في سورة الحج هي فائدة
__________
(1) رواه النسائي في كتاب الأيمان باب 41. أحمد في مسنده (4/ 433) .(2/541)
الإجمال ثم التبيين. وإنما وحد البهيمة لأنها اسم جمع يشمل أفرادها. وجمع الأنعام لأن النعم مفردا يقع في الأكثر على الإبل وحدها. وقيل: المراد بالبهيمة شيء وبالأنعام شيء آخر وعلى هذا ففيه وجهان: أحدهما أن البهيمة الظباء وبقرة الوحش ونحوها كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس الأنعام في الاجترار وعدم الأنياب فأضيفت إلى الأنعام لملابسة الشبه. الثاني أنها الأجنة. عن ابن عباس أن بقرة ذبحت فوجد في بطنها جنين فأخذ ابن عباس بذنبها وقال: هذه بهيمة الأنعام. وعن ابن عمر أنها أجنة الأنعام وذكاته ذكاة أمه، قالت الثنوية: ذبح الحيوانات إيلام والإيلام قبيح وخصوصا إيلام من بلغ في العجز والحيرة إلى حيث لا يقدر أن يدفع عن نفسه ولم يكن له لسان يحتج على من يقصد إيلامه، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم فلا يكون الذبح مباحا حلالا، فلقوة هذه الشبهة زعم البكرية من المسلمين أنه تعالى يدفع ألم الذبح عن الحيوانات. وقالت المعتزلة: إن الإيلام إنما يقبح إذا لم يكن مسبوقا بجناية ولا ملحوقا بعوض، وهاهنا يعوض الله سبحانه وتعالى هذه الحيوانات بأعواض شريفة فلا يكون ظلما وقبيحا كالفصد والحجامة لطلب الصحة وقالت الأشاعرة: الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه فلا اعتراض عليه ولذا قال: إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ قال بعضهم: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ مجمل لاحتمال أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها أو عظمها أو صوفها أو بالكل. والجواب أن الإحلال لا يضاف إلى الذات فتعين إضمار الانتفاع بالبهيمة فيشمل أقسام الانتفاع. على أن قوله: وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ [النحل: 5] يدل على الانتفاع بها من كل الوجوه، إلّا أنه ألحق بالآية نوعين من الاستثناء الأول قوله: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ أي إلّا محرم ما يتلى عليكم أو إلّا ما يتلى عليكم آية تحريمه. وأجمع المفسرون على أن الآية قوله بعد ذلك: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ. والثاني قوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي داخلون في الحرم أو في الإحرام. قال الجوهري: رجل حرام أي محرم والجمع حرم مثل قذال وقذل. وقيل: مفرد يستوي فيه الواحد والجمع كما يقال قوم جنب، وانتصاب: غَيْرَ مُحِلِّي على الحال من الضمير في: لَكُمْ أي أحلت لكم هذه الأشياء لا محلين الصيد في حالة الإحرام وفي الحرم. ثم كان لقائل أن يقول: ما السبب في إباحة الأنعام في جميع الأحوال وإباحة الصيد في بعض الأحوال؟ فقيل: إن الله يحكم ما يريد فليس لأحد اعتراض على حكمه ولا سؤال بلم وكيف. ثم أكد النهي عن مخالفة تكاليفه بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ الأكثرون على أنها جمع شعيرة:
«فعيلة» بمعنى: «مفعلة» . وقال ابن فارس: واحدها شعارة. ثم المفسرون اختلفوا على(2/542)
قولين: أحدهما أنها عامة في جميع تكاليفه ومنه قول الحسن: شعائر الله دين الله. والثاني أنها شيء خاص من التكاليف. ثم قيل: المراد لا تحلوا ما حرم الله عليكم في حال إحرامكم من الصيد. وقيل: الأفعال التي هي علامات الحج التي يعرف بها من الإحرام والطواف والسعي والحلق والنحر. وقال الفراء: كانت عامة العرب لا يرون الصفا والمروة من شعائر الحج فنهوا عن ترك السعي بينهما. وقال أبو عبيدة: الشعائر الهدايا التي تطعن في سنامها وتقلد ليعلم أنها هدي.
وقال ابن عباس: إن الحطم واسمه شريح بن ضبيعة الكندي أتى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمامة إلى المدينة فخلف خيله خارج المدينة ودخل وحده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إلام تدعو الناس؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلّا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. فقال: حسن إلّا أن لي أمراء لا أقطع أمرا دونهم، ولعلي أسلم وآتي بهم. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه:
يدخل عليكم رجل يتكلم بلسان شيطان ثم خرج من عنده. فلما خرج قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد دخل بوجه كافر وخرج بعقبى غادر وما الرجل بمسلم. فمرّ بسرح المدينة فاستاقه فطلبوه فعجزوا عنه، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرة القضاء سمع تلبية حجاج اليمامة فقال لأصحابه: هذا الحطم وأصحابه وكان قد قلد ما نهب من سرح المدينة وأهداه إلى الكعبة، فلما توجهوا في طلبه أنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ
يريد ما أشعر لله وإن كانوا على غير دين الإسلام.
وقال زيد بن أسلم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحديبية حين صدهم المشركون وقد اشتد ذلك عليهم، فمر بهم ناس من المشركين يريدون العمرة، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصد هؤلاء عن البيت كما صدنا أصحابهم؟
فأنزل الله: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ
أي قوما قاصدين إياه. والمعنى لا تعتدوا على هؤلاء العمار لأن صدكم أصحابهم فالشهر الحرام شهر الحج أعني ذا الحجة، أو المراد رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم وعبر عنها بلفظ الواحد اكتفاء باسم الجنس، أي لا تحلوا القتال في هذه الأشهر. والهدي ما أهدى إلى البيت وتقرب به إلى الله من النسائك جمع هدية. والقلائد جمع قلادة وهي ما قلد به الهدي من نعل أو عروة مزادة أو لحاء شجر الحرم. والمراد لا تحلوا ذوات القلائد من الهدي أفرد للاختصاص بالفضل مثل وجبريل وميكال. ويحتمل أنه نهي عن التعرض للقلائد ليلزم النهي عن ذوات القلائد بالطريق الأولى كقوله: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [النور: 31] فإنه نهي عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها. وللمفسرين خلاف في الآية فذهب كثير منهم كابن عباس ومجاهد والحسن والشعبي وقتادة أنها منسوخة، وذلك أن المسلمين والمشركين كانوا يحجون جميعا فنهى المسلمون أن يمنعوا أحدا عن(2/543)
حج البيت بقوله: لا تُحِلُّوا ثم نزل بعد ذلك: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28] ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ [التوبة: 17] وهؤلاء فسروا ابتغاء الفضل بالتجارة، وابتغاء الرضوان بأن المشركين كانوا يظنون في أنفسهم أنهم على شيء من الدين وأن الحج يقرّبهم إلى الله فوصفهم الله بظنهم. وقال الآخرون: إنها محكمة وإنه تعالى أمرنا أن لا نخيف من يقصد بيته من المسلمين بدليل قوله: يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ أي ثوابا وَرِضْواناً وأن يرضى عنهم وهذا إنما يليق بالمسلم لا بالكافر. وقال أبو مسلم: المراد بالآية الكفار الذين كانوا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما زال العهد بسورة براءة زال ذلك الخطر. وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ظاهر الأمر للوجوب إلّا أنه يفيد هاهنا الإباحة لأنه لما كان المانع من حل الاصطياد هو الإحرام لقوله: غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ فإذا زال الإحرام رجع إلى أصل الإباحة وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ معطوف على لا تُحِلُّوا وجرم بمعنى كسب من حيث المعنى ومن حيث تعديه إلى مفعول واحد تارة وإلى مفعولين أخرى.
تقول: جرم ذنبا نحو كسبه وجرمته ذنبا نحو كسبته إياه وهذا هو المذكور في الآية. الشنآن بالتحريك والتسكين مصدر شنأته أشنؤه وكلاهما شاذ فالتحريك شاذ في المعنى لأن فعلان من بناء الحركة والاضطراب كالضربان والخفقان. والتسكين شاذ في اللفظ لأنه لم يجىء شيء من المصادر عليه قاله الجوهري. ومعنى الآية لا يكسبنكم بغض قوم الاعتداء أو لا يحملنكم بغضهم على الاعتداء. وقوله: أَنْ صَدُّوكُمْ من قرأ بكسر الهمزة فهو شرط وجوابه ما يدل عليه لا يَجْرِمَنَّكُمْ، ومن قرأ بفتح «أن» فمعناه التعليل أي لأن صدوكم.
قيل: هذه القراءة أولى لأن المراد منع أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يوم الحديبية عن العمرة والسورة نزلت بعد الحديبية. وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى على العفو والإغضاء أو على كل ما يعدّ برا وتقوى. وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ على الانتقام والتشفي أو على كل ما يورث الإثم والتجاوز عن الحد. والحاصل أن الباطل والإثم لا يصلح لأن يقتدى به ويعان عليه وإنما اللائق بالاقتداء به والتعاون عليه هو الخير والبر وما فيه تقوى الله سبحانه وتعالى. ثم بالغ في هذا المعنى بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في استحلال محارمه.
إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ. ثم شرع في تفصيل الاستثناء الموعود تلاوته في قوله: إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فقال: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ الآية. والمجموع المستثنى أحد عشر نوعا:
الأول الميتة كانوا يقولون إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله. قالت العقلاء:
الحكمة في تحريم الميتة أن الدم جوهر لطيف فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه وتعفن فيحصل من أكله مضار كثيرة. الثاني الدم كانوا يأكلون الفصيد وهو دم كان(2/544)
يجعل في معىّ من فصد عرق ثم يشوى فيطعمه الضيف في الأزمة ومنه المثل: «لم يحرم من فصد له» أي فصد له البعير وربما يقال: «من فزد له» . الثالث لحم الخنزير. قالت العلماء: الغذاء يصير جزءا من جوهر المغتذي ولا بد أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا في الغذاء، والخنزير مطبوع على الحرص والشره فحرم أكله لئلا يتكيف الإنسان بكيفيته. وأما الغنم فإنها في غاية السلامة وكأنها عارية عن جميع الأخلاق فلا تتغير من أكلها أحوال الإنسان. والرابع: ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ والإهلال رفع الصوت وكانوا يقولون عند الذبح باسم اللات والعزى وقد مر في سورة البقرة سائر ما يتعلق بهذه الأنواع الأربعة فليرجع إليها. الخامس المنخنقة كانوا في الجاهلية يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها. وقد تنخنق بحبل الصائد وقد يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتنخنق فتموت، وبالجملة فبأي وجه انخنقت فهي حرام. السادس الموقوذة وهي المقتولة بالخشب. وقذها إذا ضربها حتى ماتت ومنها ما رمي بالبندق فمات. السابع المتردية التي تقع في الردى وهو الهلاك، وتردى إذا وقع في بئر أو سقط من موضع مرتفع ويدخل فيه ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم أن زهوق روحه بالتردي أو بالسهم. الثامن النطيحة التي نطحتها أخرى فماتت بسببه، ولا يخفى أن هذه الأقسام الأربعة داخلة في الميتة دخول الخاص في العام فأفردت بالذكر لمزيد البيان. والهاء في المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة لأنها صفات الشاة بناء على أغلب ما يأكله الناس وإلّا فالحكم عام. وإنما أنث النطيحة مع أن «فعيلا» بمعنى «مفعول» لا يدخله الهاء كقولهم:
كف خضيب، ولحية دهين، وعين كحيل. لأن الموصوف غير مذكور. تقول: مررت بامرأة قتيل فلان فإذا حذفت الموصوف قلت: بقتيلة فلان لئلّا يقع الاشتباه. التاسع ما أكل السبع وهو اسم يقع على ما له ناب ويعدو على الإنسان ويفترس الحيوان كالأسد وما دونه.
قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي فحرمه الله وفي الآية حذف التقدير: وما أكل منه السبع لأن ما أكله السبع فقد نفد ولا حكم له وإنما الحكم للباقي. قوله: إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ الذكاء في اللغة تمام الشيء ومنه الذكاء في الفهم وفي السن التمام فيها، والمذاكي الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان، وتذكية النار رفعها وقوّة اشتعالها، والتذكية كمال الذبح. أما المستثنى منه فعن علي وابن عباس والحسن وقتادة أنه جميع ما تقدم من قوله: وَالْمُنْخَنِقَةُ إلى قوله: وَما أَكَلَ السَّبُعُ والمعنى أنك إن أدركت ذكاته بأن وجدت له عينا تطرف أو ذنبا يتحرك أو رجلا تركض فاذبح فهو حلال لأن ذلك دليل الحياة المستقرة. وقيل: إنه مختص بقوله: وَما أَكَلَ السَّبُعُ. وقيل: إنه استثناء منقطع من المحرمات كأنه قيل: لكن ما ذكيتم من غير هذا(2/545)
فهو حلال، أو من التحريم أي حرم عليكم ما مضى إلّا ما ذكيتم فإنه لكم حلال. العاشر ما ذبح على النصب وهو مفرد وجمعه أنصاب كطنب وأطناب وهو كل ما نصب فعبد من دون الله قاله الجوهري. وضعف بأنه حينئذ يكون كالتكرار لقوله: وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وقال ابن جريج: النصب ليست بأصنام فإن الأصنام أحجار مصوّرة منقوشة، وهذه النصب أحجار كانوا ينصبونها حول الكعبة وكانوا يذبحون عندها للأصنام وكانوا يلطخونها بتلك الدماء ويشرحون اللحوم عليها، فالمراد ما ذبح على اعتقاد تعظيم النصب، ويحتمل أن يكون الذبح للأصنام واقعا عليها. وقيل: النصب جمع إما لنصاب كحمر وحمار أو لنصب كسقف وسقف. الحادي عشر ما أبدعه أهل الجاهلية وإن لم يكن من جملة المطاعم أي حرم عليكم بأن تستقسموا بالأزلام، وإنما ذكر مع الذبح على النصب لأنهم كانوا يفعلون كلا منهما عند البيت كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا آخر من معاظم الأمور ضرب القداح وكانوا قد كتبوا على بعضها: «أمرني ربي» وعلى بعضها:
«نهاني ربي» وتركوا بعضها غفلا أي خاليا عن الكتابة. فإن خرج الأمر أقدم على الفعل، وإن خرج النهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد العمل. فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح. وقال كثير من أهل اللغة: الاستقسام هاهنا هو الميسر المنهي عنه. والأزلام قداح الميسر والتركيب يدور على التسوية والإجادة. يقال: ما أحسن مازلم سهمه أي سوّاه ورجل مزلم إذا كان مخفف الهيئة وامرأة مزلمة إذا لم تكن طويلة. ذلِكُمْ فِسْقٌ إشارة إلى جميع ما تقدم من المحرمات أي تناولها فسق، ويحتمل أن يرجع إلى الاستقسام بالأزلام فقط. وكونه فسقا بمعنى الميسر ظاهر، وأما بمعنى طلب الخير والشر فوجهه أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم ويعتقدون أن ما خرج من الأمر أو النهي هو إرشاد الأصنام وإعانتها فلذلك كان فسقا وكفرا. وقال الواحدي: إنما حرم لأنه طلب معرفة الغيب وأنه تعالى مختص بمعرفته، وضعف بأن طلب الظن بالأمارات المتعارفة غير منهي كالتعبير والفأل وكما يدعيه أصحاب الكرامات والفراسات.
ثم إنه سبحانه حرض على التمسك بما شرع فقال: الْيَوْمَ يَئِسَ قيل: ليس المراد يوما بعينه وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الماضية والآتية كقولك: كنت بالأمس شابا وأنت اليوم شيخ. وقيل: المراد يوم معين وذلك أنها نزلت يوم الجمعة وكان يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع سنة عشر والنبي صلى الله عليه وسلم واقف على ناقته العضباء. وعن ابن عباس أنه قرأ الآية ومعه يهودي فقال اليهودي: لو نزلت علينا في يوم لاتخذناه عيدا.
فقال ابن عباس: إنها نزلت في عيدين اتفقا في يوم واحد في يوم جمعة وافق يوم عرفة أي(2/546)
يئسوا من أن يحللوا هذه الخبائث بعد أن جعلها الله تعالى محرمة أو يئسوا من أن يغلبوكم على دينكم لأنه حقق وعده بإظهار هذا الدين على سائر الأديان فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ أخلصوا إلى الخشية. قيل: في الآية دليل على أن التقية جائزة عند الخوف لأنه علل إظهار هذه الشرائع بزوال الخوف من الكفار. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ سئل هاهنا إنه يلزم منه أن الدين كان ناقصا قبل ذلك، وكيف يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم مواظبا على الدين الناقص أكثر عمره؟ وأجيب بأنه كقول الملك إذا استولى على عدوه: اليوم كمل ملكنا. وزيف بأنّ السؤال بعد باق لأنّ ملك ذلك الملك لا بد أن يكون قبل قهر العدوّ ناقصا. وقيل: المراد إني أكملت لكم ما تحتاجون إليه في تكاليفكم من تعليم الحلال والحرام وقوانين القياس وأصول الاجتهاد، وضعف بأنه يلزم أن لا يكمل لهم قبل ذلك اليوم ما كانوا محتاجين إليه من الشرائع، وتأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز. والمختار في الجواب أن الدين كان أبدا كاملا بمعنى أنّ الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت- ناسخة أو منسوخة أو مجملة أو مبينة أو غير ذلك- كافية بحسب ذلك الوقت وفي آخر زمان البعثة حكم ببقاء الأحكام على حالها من غير نسخ وزيادة ونقص إلى يوم القيامة. قال نفاة القياس: إكمال الدين أن يكون حكم كل واقعة منصوصا عليه فلا فائدة في القياس. وأجيب بأن إكماله هو جعل النصوص بحيث يمكن استنباط أحكام نظائرها منها. قالوا: تمكين كل أحد أن يحكم بما غلب على ظنه لا يكون إكمالا للدين وإنما يكون إلقاء للناس في ورطة الظنون والأوهام.
وأجيب بأنه إذا كان تكليف كل مجتهد أن يعمل بمقتضى ظنه كان كل مجتهد قاطعا بأنه عامل بحكم الله.
روي أنه لما نزلت الآية على النبي صلى الله عليه وسلم فرح الصحابة وأظهروا السرور إلّا أكابرهم كأبي بكر الصدّيق وغيره فإنهم حزنوا وقالوا: ليس بعد الكمال إلّا الزوال.
وكان كما ظنوا فإنه لم يعمر بعدها إلّا أحدا وثمانين يوما أو اثنين وثمانين يوما ولم يحصل في الشريعة بعدها زيادة ولا نسخ ولا نقص. قال العلماء: كان ذلك جاريا مجرى إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن قرب وفاته وذلك إخبار بالغيب فيكون معجزا. واحتجت الأشاعرة بالآية على أن الدين- سواء قيل إنه العمل أو المعرفة أو مجموع الاعتقاد والإقرار والعمل- لا يحصل إلّا بخلق الله وإيجاده فإنه لن يكون إكمال الدين منه إلّا وأصله منه. والمعتزلة حملوا ذلك على إكمال بيان الدين وإظهار الشرائع. ثم قال: وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي أي بذلك الإكمال لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام، أو نعمتي بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين وَرَضِيتُ أي اخترت لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً
نصب على الحال أو مفعول ثان إن ضمن رضيت معنى صيرت. واعلم أن قوله: ذلِكُمْ فِسْقٌ إلى هاهنا اعتراض أكد به معنى التحريم لأنّ تحريم هذه الخبائث من جملة الدين الكامل والنعمة التامة واختيار دين الإسلام للناس(2/547)
من بين سائر الأديان. ثم بين الرخصة بقوله: فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ أي في مجاعة وأصل الخمص ضمور البطن غَيْرَ مُتَجانِفٍ منصوب باضطرّ أو بمضمر أي فتناول غير منحرف إلى إثم بأن يأكل فوق الشبع أو عاصيا بسفره، وقد مرّ القول في هذه الرخصة مستوفي في سورة البقرة.
يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ كأنهم حين تلي عليهم ما حرّم عليهم من خبيثات المآكل سألوا عما أحل لهم والسؤال في معنى القول. وإنما لم يقل ماذا أحل لنا على حكاية قولهم نظرا إلى ضمير الغائب في: يَسْئَلُونَكَ ومثل هذا يجوز فيه الوجهان. تقول: أقسم زيد ليفعلن أو لأفعلن. أما سبب النزول
فعن أبي رافع أن جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذن عليه فأذن له فلم يدخل، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال جبريل: إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ولا صورة. فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو. قال أبو رافع: فأمرني أن لا أدع بالمدينة كلبا إلّا قتلته حتى بلغت العوالي فإذا امرأة عندها كلب يحرسها فرحمتها فتركته فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني بقتله، فرجعت إلى الكلب فقتلته، فجاء ناس فقالوا: يا رسول الله ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي تقتلها فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن نزلت هذه الآية. فأمر بقتل الكلب الكلب والعقور وما يضر ويؤذي وأذن في اقتناء الكلاب التي ينتفع بها.
وقال سعيد بن جبير: نزلت في عدي بن حاتم وزيد الخيل الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير حين قالا: يا رسول الله إنا قوم نصيد بالكلاب والبزاة وإنها تأخذ البقر والحمر والظباء والضب فمنه ما ندرك ذكاته ومنه ما نقتل فلا ندرك وقد حرّم الله الميتة فماذا يحل لنا منها فنزل: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ
أي ما ليس بخبيث منها وهو ما لم يأت تحريمه في كتاب أو سنة أو قياس مجتهد، أو أحل لكم كل ما يستلذ ويشتهى عند أهل المروءة والأخلاق الجميلة، واعلم أن الأصل في الأعيان الحل لأنها خلقت لمنافع العباد هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: 29] واستثنى من ذلك أصول: الأوّل: تنصيص الكتاب على تحريمه كالميتة والدم وغيرهما. الثاني: تنصيص السنة كما
روي عن جمع من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عام خيبر عن نكاح المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية والبغال كالحمير.
ولا تحرم الخيل عند الشافعي لما
روي عن جابر أنه قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ولم ينهنا عن الخيل.
الثالث: ما هو في معنى المنصوص كالنبيذ فإنه مسكر كالخمر فيشاركها في التحريم. الرابع: كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطيور وقد مر معنى السبع عن قريب فلا يحل بموجب هذا الأصل الكلب والأسد والذئب والنمر والفهد والدب والببر والقرد والفيل لأنها تعدو بأنيابها، ولا يحل من الطيور البازي(2/548)
والشاهين والصقر والعقاب وجميع جوارح الطير. الخامس: ما أمر بقتله من الحيوانات فهو حرام لأنّ الأمر بقتله إسقاط لحرمته ومنع من اقتنائه. ولو كان مأكولا لجاز اقتناؤه للتسمين وإعداده للأكل وقت الحاجة. ومنه الفواسق الخمس.
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والفأرة والغراب الأبقع والكلب والحدأة» . «1»
السادس ما ورد النهي عن قتله فهو حرام لأنه لو كان مأكولا لجاز ذبحه ليؤكل كما
روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الخطاطيف، وكذا الصرد والنملة والنحلة والهدهد والخفاش.
السابع: الاستطابة والاستخباث لقوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ قال العلماء: فيبعد الرجوع إلى طبقات الناس وتنزيل كل قوم على ما يستطيبون ويستخبثون لأن ذلك يوجب اختلاف الأحكام في الحل والحرمة وذلك يخالف موضوع الشرع. فالعرب أولى أمة بالاعتبار لأنّ الدين عربي وهم المخاطبون أوّلا وليس لهم ترفه وتنعم يورث تضييق المطاعم على الناس، ولكن المعتبر استطابة سكان القرى والبلاد دون أجلاف البوادي الذين لا تمييز لهم. وأيضا يعتبر أصحاب اليسار والترفه دون أصحاب الضرورات والحاجات. وأيضا المعتبر حال الخصب والرفاهية دون حال الجدب والشدة. والحشرات بأسرها مستخبثة كالذباب والخنفساء والجعلان وحمار قبان إلّا الضب
فإنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا آكله ولا أحرمه» .
ومن الأصول أنه لا يجوز أكل الأعيان النجسة في حال الاختيار وكذا أكل الطاهر إذا نجس بملاقاة النجاسة كالدهن والسمن الذائب والدبس والخل. ومن الأصول الكسب بمخامرة النجاسة ولكن كسب الحجام حلال عند الشافعي، ومن الأصول ما يضر كالزجاج والسم والنبات المسكر أو المجنن. قوله سبحانه: وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ معناه أحل لكم صيد ما علمتم على حذف المضاف لدلالة فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ويجوز أن تكون «ما» شرطية والجزاء فَكُلُوا وعلى هذا يجوز الوقف على الطَّيِّباتُ. والجوارح الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والبازي والصقر. قال تعالى: وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الأنعام:
6] أي كسبتم. وجوّز بعضهم أن يكون من الجراحة. وقال: ما أخذ من الصيد فلم يسل منه دم لم يحل. وانتصاب مُكَلِّبِينَ على الحال من عَلَّمْتُمْ. وفائدة هذه الحال مع الاستغناء عنها ب عَلَّمْتُمْ أن معلم الجوارح ينبغي أن يكون ماهرا في علمه مدربا فيه موصوفا بالتكليب. نقل عن ابن عمر والضحاك والسدي أن ما صادها غير الكلاب فلم يدرك
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الحج حديث 67، 68، 69. النسائي في كتاب المناسك باب 113، 114.
ابن ماجه في كتاب المناسك باب 91. الموطأ في كتاب الحج حديث 90. أحمد في مسنده (6/ 23، 87، 261) .(2/549)
ذكاته لم يجز أكله لأنّ قوله: مُكَلِّبِينَ يدل على كون هذا الحكم مخصوصا بالكلب.
والجمهور على أنّ الجوارح يدخل فيه ما يمكن الاصطياد به من السباع. قالوا: المكلب مؤدب الجوارح ورائضها لأنّ تصطاد لصاحبها وإنما اشتق من الكلب لكثرة هذا المعنى في جنسه، أو لأنّ كل سبع يسمى كلبا
كقوله صلى الله عليه وسلم: «اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك فأكله الأسد» .
أو من الكلب الذي هو بمعنى الضراوة. يقال: فلان كلب بكذا إذا كان حريصا عليه. وهب أن المذكور في الآية إباحة الصيد بالكلب لكن تخصيصه بالذكر لا ينفي حل غيره لجواز الاصطياد بالرمي وبالشبكة ونحوها مع سكوت الآية عنها. تُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية أو استئناف مما علمكم الله من علم التكليب لأنّ بعضه إلهام من الله أو مما عرفكم أن تعلموه من اتباع الصيد بإرسال صاحبه وانزجاره بزجره. واعلم أنه يعتبر في صيرورة الكلب معلما أمور منها: أن ينزجر بزجر صاحبه في ابتداء الأمر وكذا إذا انطلق واشتد عدوه وحدّته، يشترط أن ينزجر بزجره أيضا على الأشبه فيه يظهر التأدب. ومنها أن يسترسل بإرسال صاحبه أي إذا أغري بالصيد هاج. ومنها أن يمسك الصيد لقوله: فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وفي هذا اعتبار وصفين: أحدهما أن يحفظه ولا يخليه، والثاني أن لا يأكل منه
لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: فإن أكل فلا تأكل منه فإنما أمسكه على نفسه.
وجوارح الطير يشترط فيها أن تهيج عند الإغراء وأن تترك الأكل ولكن لا مطمع في انزجارها بعد الطيران.
ويشترط عند الشافعي تكرر هذه الأمور بحيث يغلب على الظن تأدب الجارحة بها وأقله ثلاث مرات. ولم يقدر الأكثرون عدد المرات كأنهم رأوا العرف مضطربا، وطباع الجوارح مختلفة فيرجع إلى أهل الخبرة بطباعها. وعن سلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبي هريرة أنه يحل وإن أكل فعندهم الإمساك هو أن يحفظه ولا يتركه. ومعنى الآية كلوا مما تبقي لكم الجوارح وإن كان بعد أكلها منه. و «من» في مِمَّا أَمْسَكْنَ قيل زائدة نحو كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ [الأنعام: 141] وقيل مفيدة وذلك أن بعض الصيد لا يؤكل كالعظم والدم والريش. وقال سعيد بن جبير وأبو حنيفة والمزني: يؤكل ما بقي من جوارح الطير ولا يؤكل ما بقي من الكلب. والفرق أن تأديب الكلب بالضرب على الأكل ممكن وتأديب الطير غير ممكن. ولا خلاف أنه إذا كانت الجارحة معلمة ثم تصيد صيدا وجرحته وقتلته وأدركه الصائد ميتا فهو حلال، وجرح الجارحة كالذبح وإن قتلته بالفم من غير جرح ففي حله خلاف. أما قوله سبحانه: وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فالضمير إما أن يعود إلى مِمَّا أَمْسَكْنَ أي سموا عليه إذا أدركتم ذكاته، أو إلى ما عَلَّمْتُمْ أي سموا عليه عند إرساله أو إلى الأكل، وعلى هذا فلا كلام. وعلى الأول فالتسمية محمولة على الندب عند الشافعي، وعلى الوجوب عند أبي حنيفة وسيجيء تمام المسألة في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى.(2/550)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ فائدة الإعادة أن يعلم بقاء هذا الحكم عند إكمال الدين واستقراره وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ الأكثرون على أنّ المراد بالطعام الذبائح لأنّ ما قبل الآية في بيان الصيد والذبائح ولأنّ ما سوى الصيد والذبائح محللة قبل إن كانت لأهل الكتاب وبعد أن صارت لهم فلا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة. وعن بعض أئمة الزيدية أن المراد هو الخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى الذكاة. وقيل: إنه جميع المطعومات. وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي يحل لكم أن تطعموهم من طعامكم لأنه لا يمتنع أن يحرم الله تعالى إطعامهم من ذبائحنا. وأيضا فالفائدة في ذكره أن يعلم أن إباحة الذبائح حاصلة في الجانبين وليست كإباحة المناكحة فإنها غير حاصلة في الجانبين وَالْمُحْصَناتُ الحرائر أو العفائف من المؤمنات، وعلى الثاني يدخل فيه نكاح الإماء. وقد يرجح الأول بأنه تعالى قال: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ومهر الإماء لا يدفع إليهن بل إلى ساداتهن، وبأن نكاح المحصنات هاهنا مطلق ونكاح الأمة مشروط بعدم طول الحرة وخشية العنت، وبأن تخصيص العفائف بالحل يدل ظاهرا على تحريم نكاح الزانية، وقد ثبت أنه غير محرم. ولو حملنا المحصنات على الحرائر لزم تحريم نكاح الأمة ونحن نقول به على بعض التقديرات، وبأن وصف التحصين في حق الحرة أكثر ثبوتا منه في حق الأمة لأنّ الأمة لا تخلو من البروز للرجال وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ احتج بها كثير من الفقهاء في أنه لا يحل نكاح الكتابية إلّا إذا دانت بالتوراة والإنجيل قبل نزول الفرقان، لأنّ قوله:
مِنْ قَبْلِكُمْ ينافي من دان بهما بعد نزوله. وكان ابن عمر لا يرى نكاح الكتابيات أصلا متمسكا بقوله تعالى وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ [البقرة: 221] ويقول: لا أعلم شركا أعظم من قولها إن ربها عيسى. وأوّل الآية بأنّ المراد التي آمنت منهن. فمن المحتمل أن يخطر ببال أحد أن الكتابية، إذا آمنت هل يحل للمسلم التزوج بها أم لا؟ وعن عطاء أن الرخصة كانت مختصة بذلك الوقت لأنه كان في المسلمات قلة ولأن الاحتراز عن مخالطة الكفار واجب. لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ [آل عمران: 118] وأي خلطة أشد من الزوجية وقد يحدث ولد ويميل إلى دين الأم. وقال سعيد بن المسيب والحسن: الكتابيات تشمل الذميات والحربيات فيجوز التزوج بكلهن. وأكثر الفقهاء على أنّ ذلك مخصوص بالذمية فقط وهو مذهب ابن عباس فإنه قال: من أعطى الجزية حل ومن لم يعط لم يحل لقوله تعالى: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ [التوبة: 29] واتفقوا على أن المجوس قد سنّ بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فيه أن من تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقا كان كالزاني. والزنا(2/551)
ضربان: سفاح وهو الزنا على سبيل الإعلان، واتخاذ خدن وهو على سبيل الإسرار فحرمهما الله تعالى في الآية وأحلّ التمتع بهن على سبيل الإحصان وهو التزوج بالشروط والأركان. ثم حث على التزام التكاليف المذكورة بقوله: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ أي بشرائع الله وتكاليفه التي هي من نتائج الإيمان بالله ورسوله. وقال ابن عباس ومجاهد: معناه ومن يكفر برب الإيمان أي بالله. وقال قتادة: ومن يكفر بالقرآن الذي أنزل فيه هذه التكاليف التي لا بد منها في الإيمان فقد خاب وخسر. وفيه أن أهل الكتاب وإن حصلت لهم فضيلة المناكحة وإباحة الذبائح في الدنيا إلّا أن ذلك لا يفيدهم في الآخرة لأنّ كل من كفر بالله فقد حبط عمله في الدنيا ولم يصل إلى شيء من السعادات في الآخرة البتة. واعلم أنّ القائلين بالإحباط فسروا قوله: فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ بأنّ عقاب كفره يزيل ما كان حاصلا له من ثواب أعماله. ومنكروا الإحباط قالوا: إنّ عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان قد بان أنه لم يكن معتدا به وكان ضائعا في نفسه. ثم إنه سبحانه لما افتتح السورة بطلب الوفاء بالعقود فكأن قائلا قال: عهد الربوبية منك وعهد العبودية منا وأنت أولى بتقديم الوفاء بعهد الربوبية فأجاب الله تعالى نعم أنا أوفى بعهد الربوبية والكرم، ومعلوم أن منافع الدنيا محصورة في نوعين: لذات المطعم ولذات المنكح فبيّن الحلال والحرام من المطاعم والمناكح، وقدم المطعوم على المنكوح لأنه أهم. وعند تمام هذا البيان كأنه قال: قد وفيت بعهد الربوبية فاشتغل أيها العبد بوظائف العبودية ولا سيما بالصلاة التي هي أعظم الطاعات وبمقدماتها.
ونبني تفسير الآية على مسائل: الأولى ليس المراد بقوله: إِذا قُمْتُمْ نفس القيام وإلّا لزم تأخير الوضوء عن الصلاة وهو بالإجماع باطل، وأيضا لو غسل الأعضاء قبل الصلاة قاعدا أو مضطجعا لخرج عن العهدة بالإجماع، فالمراد إذا شمرتم للقيام إلى الصلاة وأردتم ذلك.
ووجه هذا المجاز أنّ الإرادة الجازمة سبب لحصول الفعل وإطلاق اسم المسبب على السبب مجاز مستفيض. الثانية: ذهب قوم إلى أنّ الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصلاة وليس تكليفا مستقلا لأنه شرط القيام إلى الصلاة. والأصح أنه عبادة برأسها لأن قوله: فَاغْسِلُوا أمر ظاهره الوجوب غاية ذلك أنه مقيد بوقت التهيّؤ للصلاة. وأيضا إنه طهارة وقد قال تعالى في آخر الآية: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ
وقال صلى الله عليه وسلم: «بني الدين على النظافة»
وقال: «أمّتي غر محجلون من آثار الوضوء يوم القيامة» «1»
والأخبار الواردة في كون الوضوء سببا لغفران
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 3. مسلم في كتاب الطهارة حديث 34- 39. الترمذي في كتاب الجمعة باب 74. النسائي في كتاب الطهارة باب 109. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 6.
الموطأ في كتاب الطهارة حديث 28. أحمد في مسنده (1/ 282) .(2/552)
الذنوب كثيرة. الثالثة: قال داود: يجب الوضوء لكل صلاة فإنه ليس المراد قياما واحدا في صلاة واحدة وإلّا لزم الإجمال إذ لا دليل على تعيين تلك المرة، والإجمال خلاف الأصل فوجب حمل الآية على العموم. وأيضا ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب مشعر بالعلية فيتكرر بتكرره فيجب الوضوء عند كل قيام إلى الصلاة. وأيضا إنه نظافة فلا يكون منها بدّ عند الاشتغال بخدمة المعبود. وقال سائر الفقهاء: إنّ كلمة «إذا» لا تفيد العموم ولهذا لو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق لم تطلق مرة أخرى بالدخول ثانيا.
ويروى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة إلّا يوم الفتح فإنه صلى الله عليه وسلم صلّى الصلوات كلها بوضوء واحد.
قال عمر: فقلت له في ذلك فقال: عمدا فعلت ذلك يا عمر. أجاب داود بأنّ خبر الواحد لا ينسخ القرآن. وأيضا في الخبر معنيان: أحدهما: وجوب التجديد لكل صلاة لا أقل من استحباب ذلك. الثاني أنه ترك ذلك يوم الفتح والأوّل يوجب المتابعة والثاني مرجوع لأنّ الفتح يقتضي زيادة الطاعة لا نقصانها. وأيضا التجديد أحوط، وأيضا دلالة ظاهر القرآن قولية ودلالة الخبر فعلية والقولية أقوى. ولناصر المذهب المشهور أن يقول: التيمم على المتغوّط والمجامع واجب إذا لم يجد الماء لقوله: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ الآية.
وذلك يدل على أنّ وجوب الوضوء قد يكون بسبب آخر سوى القيام إلى الصلاة فلم يكن هو مؤثرا وحده، وإذا لم يكن مؤثرا مستقلا جاز تخلف الأثر عنه. نعم التجديد مستحب لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده كانوا يتوضؤن لكل صلاة
وقال صلى الله عليه وسلم: «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات»
وقيل: كان الوضوء لكل صلاة واجبا أوّل ما فرض ثم نسخ. الرابعة:
الأصح أن في الآية دلالة على أنّ الوضوء شرط لصحة الصلاة لأنه علق فعل الصلاة بالطهور، ثم بيّن أنه متى عدم الماء لم تصح الصلاة إلّا بالتيمم، فلو لم يكن شرطا لم يكن كذلك. وأيضا إنه أمر بالصلاة مع الوضوء فالآتي بها بدون الوضوء تارك للمأمور به فيستحق العقاب وهذا معنى البقاء في عهدة التكليف. الخامسة: قال أبو حنيفة: النية ليست شرطا في الوضوء لأنها غير مذكورة في الآية والزيادة على النص نسخ ونسخ القرآن بخبر الواحد وبالقياس غير جائز. وعند الشافعي هي شرط فيه لأنّ الوضوء مأمور به لقوله: فَاغْسِلُوا وَامْسَحُوا وكل مأمور به يجب أن يكون منويا لقوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ [البينة: 5] والإخلاص النية الخالصة، فأصل النية يجب أن يكون معتبرا. وغاية ما في الباب أنها مخصوصة في بعض الصور فتبقى حجة في غير محل التخصيص.
السادسة: قال مالك وأبو حنيفة: الترتيب غير مشروط في الوضوء لأن الواو لا تفيد الترتيب، فلو قلنا بوجوبه كان من الزيادة على النص وهو نسخ غير جائز. وقال الشافعي:(2/553)
إنه واجب لأن فاء التعقيب في قوله: فَاغْسِلُوا توجب تقديم غسل الوجه ثم سائر الأعضاء على الترتيب.
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث الصفا: «ابدءوا بما بدأ الله به» «1» .
وأيضا الترتيب المعتبر في الحس هو الابتداء من الرأس إلى القدم أو بالعكس، والترتيب العقلي إفراد العضو المغسول عن الممسوح. ثم إنه تعالى أدرج الممسوح في المغسول فذل هذا على أن الترتيب المذكور في الآية واجب لأن إهمال الترتيب في الكلام مستقبح فوجب تنزيه كلام الله تعالى عنه. وأيضا إيجاب الوضوء غير معقول المعنى لأن الحدث يخرج من موضع والغسل يجب في موضع آخر ولأن أعضاء المحدث طاهرة
لقوله: المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا «2»
وتطهير الطاهر محال ولأن الشرع أقام التيمم مقام الوضوء وليس في التيمم نظافة، وأقام المسح على الخفين مقام الغسل ولا يفيد في نفس العضو نظافة والماء الكدر العفن يفيد الطهارة وماء الورد لا يفيدها فإذن الاعتماد على مورد النص. ولعل في الترتيب حكما خفية لا نعرفها أو هو محض التعبد. وقد أوجبنا رعاية الترتيب في الصلاة مع أن أركان الصلاة غير مذكورة في القرآن مرتبة فرعاية الترتيب في الوضوء مع أن القرآن ناطق به أولى. السابعة: قال الشافعي وأبو حنيفة: الموالاة في أفعال الوضوء غير واجبة لأن إيجاب هذه الأفعال قدر مشترك بين إيجابها على سبيل الموالاة وإيجابها على سبيل التراخي، وهذا القدر معلوم من الآية ومفيد للطهارة والزائد لا دليل عليه. وأيضا
روي أنه صلى الله عليه وسلم رأى رجلا توضأ وترك لمعة من عقبه فأمره بغسلها ولم يأمره بالاستئناف ولم يبحث عن المدة الفاصلة،
وعند غيرهما شرط كيلا يتخلل بين أجزاء العبادة ما ليس منها. وحدّ التفريق المخل بالموالاة أن يمضي من الزمان ما يجف فيه المغسول مع اعتدال الهواء ومزاج الشخص. الثامنة: قال أبو حنيفة: الخارج من غير السبيلين ينقض الوضوء لأن ظاهر الآية يقتضي الإتيان بالوضوء لكل صلاة لما مر ترك العمل به عند ما لم يخرج الخارج النجس من البدن فيبقى معمولا به عند خروج الخارج النجس. وخالفه الشافعي تعويلا على ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يزد على غسل أثر محاجمه.
التاسعة: قال مالك: لا وضوء في الخارج من السبيلين إذا كان غير معتاد وسلم في دم الاستحاضة لنا التمسك بعموم الآية.
__________
(1) رواه أبو داود في كتاب المناسك باب 56. الترمذي في كتاب الحج باب 38. النسائي في كتاب الحج باب 161. ابن ماجه في كتاب المناسك باب 34، 84. الدارمي في كتاب المناسك باب 34.
الموطأ في كتاب الحج حديث 126.
(2) رواه البخاري في كتاب الغسل باب 23، 24. مسلم في كتاب الحيض حديث 115، 116. أبو داود في كتاب الطهارة باب 91. الترمذي في كتاب الطهارة باب 89. النسائي في كتاب الطهارة باب 171. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 80. أحمد في مسنده (2/ 235، 382) .(2/554)
العاشرة: قال أبو حنيفة: القهقهة في الصلاة المشتملة على الركوع والسجود تنقض الوضوء. وقال الباقون: لا تنقض لأبي حنيفة أن يتمسك بعموم الآية. الحادي عشر: قال أبو حنيفة: لمس المرأة وكذا لمس الفرج لا ينقض الوضوء. وقال الشافعي: ينقض متمسكا بالعموم. الثانية عشرة: لو كان على وجهه وبدنه نجاسة فغسلها ونوى الطهارة من الحدث بذلك الغسل هل يصح وضوءا؟ قال في التفسير الكبير: ما رأيت هذه المسألة في كتب الأصحاب. قال: والذي أقوله أنه يكفي لأنه أمر بالغسل في قوله: فَاغْسِلُوا وقد أتى به، وأقول: الظاهر أنه لا يكفي لأنه لا يرتفع بغسلة واحدة نجاستان حكمية وعينية وهذا بخلاف ما لو نوى التبرد أو التنظف فإن النجاسة هناك حكمية فقط. الثالثة عشرة: لو وقف تحت ميزاب حتى سال عليه الماء ونوى رفع الحدث هل يصح وضوءه؟ يمكن أن يقال: لا لأنه لم يأت بعمل. وأن يقال: نعم لأنه أتى بما أفضى إلى المقصود وهو الانغسال. الرابعة عشرة:
إذا غسل أعضاء الوضوء ثم كشط جلده فالأظهر وجوب غسله لتحصيل الامتثال فإن ذلك الوضع غير مغسول. الخامسة عشرة: لو رطب الأعضاء من غير سيلان الماء عليها لم يكف لأنه مأمور بالغسل وهذا ليس بغسل، وفي الجنابة يكفي لأنه هناك مأمور بالتطهير لقوله:
وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ والتطهير يحصل بالترطيب. السادسة عشرة: لو أمر الثلج على العضو فإن ذاب وسال جاز وإلّا فلا خلافا لمالك والأوزاعي لنا فاغسلوا وهذا ليس بغسل.
السابعة عشرة: التثليث سنة لأن ماهية الغسل تحصل بالمرة. الثامنة عشرة: السواك سنة لا واجب لأن الآية ساكتة عنه وكذا القول في التسمية خلافا لأحمد وإسحاق، وكذا في تقديم غسل اليدين على الوضوء خلافا لبعضهم. التاسعة عشرة: قال الشافعي: لا تجب المضمضة والاستنشاق في الوضوء والغسل، وأحمد وإسحاق يجب فيهما. أبو حنيفة:
يجب في الغسل لا في الوضوء. حجة الشافعي أنه أوجب غسل الوجه والوجه هو الذي يكون مواجها وحده من مبتدأ تسطيح الجهة إلى منتهى الذقن طولا، ومن الأذن إلى الأذن عرضا، وداخل الفم والأنف غير مواجه. العشرون: ابن عباس: يجب إيصال الماء إلى داخل العين لأن العين جزء من الوجه. الباقون: لا يجب لقوله في آخر الآية: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ
وإدخال الماء في العين حرج. الحادية والعشرون: غسل البياض الذي بين العذار والأذن واجب عند الشافعي وأبي حنيفة ومحمد خلافا لأبي يوسف. لنا أنه واجب قبل نبات الشعر بالإجماع فكذا بعده ولأنه من الوجه والوجه يجب غسله كله. الثانية والعشرون: أبو حنيفة: لا يجب إيصال الماء إلى ما تحت اللحية الخفيفة. الشافعي: يجب لقوله: فَاغْسِلُوا ترك العمل عند كثافة اللحية دفعا للحرج فيبقى عند كثافتها على الأصل.(2/555)
الثالثة والعشرون: الأصح عند الشافعي وجوب إمرار الماء على ظاهر اللحية النازلة طولا والخارجة إلى الأذنين عرضا لأنه مواجه. مالك وأبو حنيفة والمزني: لا يجب لأنه لا جلد تحتها حتى يغسل ظاهرها بتبعيتها. الرابعة والعشرون: لو نبت للمرأة لحية وجب إيصال الماء إلى جلدة الوجه وإن كانت لحيتها كثيفة لأنا تركنا العمل بظاهر الآية في اللحية الكثيفة للرجل دفعا للحرج ولحية المرأة نادرة وخصوصا الكثيفة فيبقى حكمها على الأصل.
الخامسة والعشرون: يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشعر الكثيف في خمسة مواضع:
العنفقة والحاجب والشارب والعذار والهدب لأن قوله: فَاغْسِلُوا يدل على وجوب غسل كل جلدة الوجه، ترك العمل به في اللحية الكثيفة دفعا للحرج وهذه الشعور خفيفة غالبا فتبقى على الأصل. السادسة والعشرون: الشعبي: ما أقبل من الأذن فهو من الوجه فيغسل، وما أدبر فمن الرأس فيمسح وردّ بأن الأذن غير مواجه أصلا. السابعة والعشرون: الجمهور على أن المرفقين يجب غسلهما مع اليدين وخالف مالك وزفر وكذا، الخلاف في قوله:
وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ والتحقيق أن «إلى» تفيد معنى الغاية مطلقا، والمراد بالغاية جميع المسافة أو حقيقة النهاية. ثم إنّ حد الشيء قد يكون منفصلا عن المحدود حسا انفصال الظلمة عن النور في قوله: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] فيكون الحد خارجا عن المحدود. وقد لا يكون كذلك نحو حفظت القرآن من أوّله إلى آخره وبعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف فيدخل الحد في المحدود. ولا شك أن المرفق وهو موصل الذراع في العضد سمي بذلك لارتفاق صاحبها بها غير متميزة في الحس عن محدودها فلا يكون إيجاب الغسل إلى جزء أولى من إيجابه إلى جزء آخر فوجب غسلها جميعا. وإن سلم أن المرفق لا يجب غسلها لكنها اسم لما جاوز طرف العظم، ولا نزاع في أن ما وراء طرف العظم لا يجب غسله. وهذا الجواب اختيار الزجاج. وعلى هذا فمقطوع اليد من المرفق يجب عليه إمساس الماء بطرف العظم وإن كان أقطع مما فوق المرفقين لم يجب عليه شيء لأن محل هذا التكليف لم يبق أصلا. الثامنة والعشرون: تقديم اليمنى على اليسرى مندوب وليس بواجب خلافا لأحمد. لنا أنه ذكر الأيدي والأرجل في الآية من غير تقديم لإحدى اليدين أو الرجلين. التاسعة والعشرون: ذهب بعضهم إلى أن مبتدأ الغسل يجب أن يكون الكف بحيث يسيل الماء من الكف إلى المرافق لأن المرافق جعلت في الآية نهاية الغسل.
وجمهور الفقهاء على أن عكس هذا الترتيب لا يخل بصحة الوضوء لأن المراد في الآية بيان جملة الغسل لا بيان ترتيب أجزاء الغسل. الثلاثون: لو نبت من المرفق ساعدان وكفان وجب غسل الكل لعموم قوله: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ كما لو نبت على الكف أصبع(2/556)
زائدة. الحادية والثلاثون: المراد من تحديد الغسل بالمرفق بيان الواجب فقط لما
ورد في الأخبار أن تطويل الغرة سنة مؤكدة.
الثانية والثلاثون: مالك: يجب مسح كل الرأس.
أبو حنيفة: يتقدر بالربع لأنه صلى الله عليه وسلم مسح على ناصيته وأنها ربع الرأس.
الشافعي: الواجب أقل ما ينطلق عليه اسم المسح لأنه إذا قيل مسحت المنديل فهذا لا يصدق إلّا عند مسحه بالكلية، أما لو قال مسحت يدي بالمنديل كفى في صدقه مسح اليد بجزء من أجزاء المنديل فهكذا في الآية وإلّا احتيج في تعيين المقدّر إلى دليل منفصل وتصير الآية مجملة وهو خلاف الأصل. الثالثة والثلاثون: لا يجوز الاكتفاء بالمسح على العمامة لأن ذلك ليس مسحا للرأس. وقال الأوزاعي والثوري وأحمد: يجوز لما
روي أنه صلى الله عليه وسلم مسح على العمامة.
وأجيب بأنه لعله مسح قدر الفرض على الرأس والبقية على العمامة. الرابعة والثلاثون:
اختلف الناس في مسح الرجلين وفي غسلهما فنقل القفال في تفسيره
عن ابن عباس وأنس بن مالك وعكرمة والشعبي وأبي جعفر محمد بن علي الباقر رضي الله عنه أن الواجب فيهما المسح
وهو مذهب الإمامية. وجمهور الفقهاء والمفسرين على أن فرضهما الغسل.
وقال داود: يجب الجمع بينهما وهو قول الناصر للحق من أئمة الزيدية. وقال الحسن البصري ومحمد بن جرير الطبري: المكلف مخير بين المسح والغسل. حجة من أوجب المسح قراءة الجر في: وَأَرْجُلَكُمْ عطفا على: بِرُؤُسِكُمْ ولا يمكن أن يقال إنه كسر على الجوار كما في
قوله: «حجر ضب خرب»
لأن ذلك لم يجىء في كلام الفصحاء وفي السعة، وأيضا إنه جاء حيث لا لبس ولا عطف بخلاف الآية. وأما القراءة بالنصب فيكون للعطف على محل بِرُؤُسِكُمْ. حجة الجمهور أخبار وردت بالغسل وأن فرض الرجلين محدود إلى الكعبين والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح. والقوم أجابوا بأن أخبار الآحاد لا تعارض القرآن ولا تنسخه وبالمنع في محل النزاع فزعم الجمهور أن قراءة النصب ظاهرة في العطف على مفعول: فَاغْسِلُوا وإن كان أبعد من: امْسَحُوا وقراءة الجر تنبيه على وجوب الاقتصاد في صب الماء لأن الأرجل تغسل بالصب فكانت مظنة للإسراف. الخامسة والثلاثون: جمهور الفقهاء على أن الكعبين هما العظمان الناتئان من جانبي الساق. وقالت الإمامية وكل من قال بالمسح: إن الكعب عظم مستدير موضوع تحت عظم الساق حيث يكون مفصل الساق والقدم كما في أرجل جميع الحيوانات. والمفصل يسمى كعبا ومنه كعوب الرمح لمفاصله. حجة الجمهور أنه لو كان الكعب ما ذكره الإمامية لكان الحاصل في كل رجل كعبا واحدا وكان ينبغي أن يقال: وأرجلكم إلى الكعاب كما أنه لما كان الحاصل في كل يد مرفقا واحدا لا جرم قال: إِلَى الْمَرافِقِ. وأيضا العظم(2/557)
المستدير الموضوع في المفصل شيء خفي لا يعرفه إلّا أهل العلم بتشريح الأبدان، والعظمان الناتئان في طرفي الساق محسوسان لكل أحد ومناط التكليف ليس إلّا أمرا ظاهرا ويؤيده ما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «ألصقوا الكعاب بالكعاب» .
السادسة والثلاثون: الجمهور على جواز مسح الخفين خلافا للشيعة والخوارج. حجة الجمهور الأحاديث، وحجة الشيعة الآية، وأن جواز المسح على الخفين حاجة عامة فلو كانت ثابتة لبلغت مبلغ التواتر.
السابعة والثلاثون: رجل مقطوع اليدين والرجلين سقط عنه هذان الفرضان وبقي عليه غسل الوجه ومسح الرأس، فإن لم يكن معه من يوضئه أو ييممه سقط عنه ذلك أيضا لأن قوله:
فَاغْسِلُوا وَامْسَحُوا مشروط بالقدرة عليه فإذا فاتت القدرة سقط التكليف. الثامنة والثلاثون: قوله سبحانه: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا الأصل «تطهروا» أدغم التاء في الطاء فاجتلبت همزة الوصل. وللجنابة سببان: نزول المني
لقوله صلى الله عليه وسلم: «الماء من الماء» «1»
والثاني التقاء الختانين خلافا لزيد بن ثابت ومعاذ وأبي سعيد الخدري لما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى الختانان وجب الغسل» «2»
وختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة، وأما ختان المرأة فإن شفريها يحيطان بثلاثة أشياء: ثقبة في أسفل الفرج وهي مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد، وثقبة أخرى فوق هذه مثل إحليل الذكر وهي مخرج البول لا غير، والثالث جلدة رقيقة قائمة مثل عرف الديك فوق ثقبة البول، وقطع هذه الجلدة هو ختانها فإذا غابت الحشفة حاذى ختانه ختانها. التاسعة والثلاثون: لا يجوز للجنب مس المصحف خلافا لداود. لنا قوله: فَاطَّهَّرُوا يدل على أن الطهارة غير حاصلة وإلّا لكان أمرا بتطهير الطاهر وحينئذ لا يجوز له مس المصحف لقوله: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة: 79] ولإطلاق قوله: فَاطَّهَّرُوا علم أنه أمر بتحصيل الطهارة في كل البدن وإلّا خصت تلك الأعضاء بالذكر كما في الطهارة الصغرى، وعلم أنه لا يجب تقديم الوضوء على الغسل خلافا لأبي ثور وداود، وعلم أن الترتيب غير واجب خلافا إسحق فإنه أوجب البداءة بأعلى البدن، وعلم أن الدلك غير واجب خلافا لمالك.
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 81. أبو داود في كتاب الطهارة باب 83. الترمذي في كتاب الطهارة باب 81. النسائي في كتاب الطهارة باب 131. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 110.
الدارمي في كتاب الوضوء باب 74. أحمد في مسنده (3/ 29) ، (5/ 115) .
(2) رواه مسلم في كتاب الحيض حديث 88. البخاري في كتاب الغسل باب 28. أبو داود في كتاب الطهارة باب 83. الترمذي في كتاب الطهارة باب 80. النسائي في كتاب الطهارة باب 128. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 111، الدارمي في كتاب الوضوء باب 75. الموطأ في كتاب الطهارة حديث 71- 73. أحمد في مسنده. (2/ 178) ، (5/ 115) . [.....](2/558)
الأربعون: الشافعي: المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الغسل
لقوله صلى الله عليه وسلم: «أما أنا فأحثى على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت» «1»
أبو حنيفة: هما واجبان لقوله تعالى:
فَاطَّهَّرُوا والتطهير لا يحصل إلّا بطهارة جميع الأعضاء. ترك العمل به في الأعضاء الباطنة للتعذر وداخل الفم والأنف يمكن تطهيرهما فيبقى داخلا في النص ولأن
قوله صلى الله عليه وسلم: «بلوا الشعر» «2»
يدخل فيه الأنف لأن في داخله شعرا:
«وأنقوا البشرة» «3»
يدخل فيه جلدة داخل الفم. الحادية والأربعون: لا يجب نقض الشعر إن لم يمنع عن وصول الماء إلى منابته لأن المقصود التطهير وإن منع وجب خلافا للنخعي. الثانية والأربعون: إن كان المرض المانع من استعمال الماء حاصلا في بعض جسده دون بعض فقال الشافعي: يغسل ما لا ضرر عليه ثم يتيمم للاحتياط. وقال أبو حنيفة: إن كان أكثر البدن صحيحا غسل الصحيح دون التيمم وإن كان أكثره جريحا يكفيه التيمم لأن المرض إذا كان حالا في بعض أعضائه فهو مريض. الثالثة والأربعون: لو ألصق على موضع التيمم لصوقا منع وصول الماء إلى البشرة ولا يخاف من نزع ذلك اللصوق التلف. قال الشافعي: يلزم نزع اللصوق حتى يصل التراب إليه أخذا بالأحوط. وقال الأكثرون: لا يجب دفعا للحرج. الرابعة والأربعون:
قال الشافعي: الاستنجاء واجب إما بالماء أو بالأحجار
لقوله صلى الله عليه وسلم: «فليستنج بثلاثة أحجار» «4»
وقال أبو حنيفة: واجب عند المجيء من الغائط إما الوضوء أو التيمم ولم يوجب غسل موضع الحدث فدل على أنه غير واجب. الخامسة والأربعون: لمس المرأة ينقض الوضوء عند الشافعي ولا ينقضه عند أبي حنيفة وقد مرت المسألة في سورة النساء. السادسة والأربعون: لا يكره الوضوء بالماء المسخن لقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً وهاهنا قد وجد ماء وخالف مجاهد. السابعة والأربعون: أبو حنيفة وأحمد: لا يكره المشمس لقوله تعالى:
فَلَمْ تَجِدُوا ماءً وهذا قد وجد ماء. الشافعي يكره للحديث. الثامنة والأربعون: لا يكره الوضوء بفضل ماء المشرك وبالماء في آنية المشرك لأنه واجد للماء فلا يتيمم، وقد توضأ النبي صلى الله عليه وسلم من مزادة مشرك وتوضأ عمر من ماء في جرة نصرانية. وقال أحمد وإسحق: لا يجوز. التاسعة والأربعون: يجوز الوضوء بماء البحر لأنه واجد الماء خلافا لعبد الله بن
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 95.
(2، 3)
رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 97. الترمذي في كتاب الطهارة باب 78. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 106 بلفظ «فاغسلوا» بدل «بلّوا» .
(4) رواه الترمذي في كتاب الطهارة باب 12. أبو داود في كتاب الطهارة باب 4. أحمد في مسنده (5/ 439) .(2/559)
عمرو بن العاص. الخمسون: جوّز أبو حنيفة الوضوء بنبيذ التمر في السفر للحديث ولم يجوّزه الشافعي وقال: يتيمم لأنه غير واجد للماء. الحادية والخمسون: ذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة، والأكثرون لا يجوز.
حجتهما: فَاغْسِلُوا أمر بمطلق الغسل وإمرار المائع على العضو غسل قال الشاعر: فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها. لنا: أنه عند عدم الماء أوجب التيمم. الثانية والخمسون:
الشافعي: الماء المتغير بالزعفران تغيرا فاحشا لا يجوز الوضوء به لأن واجده يصدق عليه أنه غير واجد للماء. وخالف أبو حنيفة لأن أصل الماء موجود بصفة زائدة كما لو تغير وتعفن بطول المكث أو بتساقط الأوراق بالاتفاق. الثالثة والخمسون: مالك وداود: الماء المستعمل في الوضوء بقي طاهرا طهورا لأن واجده واجد للماء وهو قول قديم للشافعي.
والقول الجديد إنه طاهر غير طهور، ووافقه محمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة في أكثر الروايات: إنه نجس لأن النجاسة الحكمية كالعينية. الرابعة والخمسون: مالك: إذا وقع في الماء نجاسة ولم يتغير بقي طاهرا طهورا قليلا كان أو كثيرا وهو قول أكثر الصحابة والتابعين. وقال الشافعي: إن كان أقل من القلتين ينجس. وقال أبو حنيفة: إن كان أقل من عشرة في عشرة ينجس. حجة مالك أنه واجد للماء ترك العمل بهذا العموم في الماء القليل المتغير فيبقى حجة في الباقي ويؤيده
قوله صلى الله عليه وسلم: «خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلّا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه» «1»
حجة الشافعي مفهوم
قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا» «2» .
الخامسة والخمسون: يجوز الوضوء بفضل ماء الجنب لأن واجده واجد للماء، وقال أحمد وإسحاق: لا يجوز الوضوء بفضل ماء المرأة إذا خلت به وهو قول الحسن وسعيد بن المسيب. السادسة والخمسون: أسار السباع، طاهرة مطهرة وكذا سؤر الحمار لأنه واجد للماء. وقال أبو حنيفة: نجسة. السابعة والخمسون: قال الشافعي وأبو حنيفة والأكثرون: لا بد في التيمم من النية لأنه قال: فَتَيَمَّمُوا والتيمم عبارة عن القصد وهو النية. وقال زفر: لا يجب. الثامنة والخمسون: الشافعي: لا يجوز التيمم إلّا بعد دخول الصلاة لأنه طهارة ضرورة ولا ضرورة قبل الوقت. أبو حنيفة: يجوز قياسا على الوضوء ولظاهر قوله: إِذا قُمْتُمْ والقيام إلى الصلاة يكون بعد دخول وقتها. التاسعة والخمسون:
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 76.
(2) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 33. الترمذي في كتاب الطهارة باب 50. النسائي في كتاب الطهارة باب 43. ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 75. الدارمي في كتاب الوضوء باب 55. أحمد في مسنده (2/ 23، 27) .(2/560)
لا يجوز التيمم بتراب نجس لقوله تعالى: صَعِيداً طَيِّباً. الستون: لا خلاف في جواز التيمم بدلا عن الوضوء،
أما التيمم بدل غسل الجنابة فعن علي رضي الله عنه وابن عباس جوازه
وهو قول أكثر الفقهاء، وعن عمر وابن مسعود أنه لا يجوز. لنا قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ إما يختص بالجماع أو يدخل الجماع فيه. الحادية والستون: الشافعي: لا يجوز أن يجمع بتيمم واحد بين صلاتي فرضين لأن ظاهر قوله: إِذا قُمْتُمْ يقتضي إعادة الوضوء لكل صلاة ترك العمل به في الوضوء لفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبقى في التيمم على ظاهره. أبو حنيفة: يجوز أداء الفرائض به كالوضوء. أحمد: يجمع بين الفوائت ولا يجمع بين صلاتي وقتين. الثانية والستون: الشافعي: إذا لم يجد الماء في أول الوقت وتوقع في آخره جاز له التيمم لأن قوله: إِذا قُمْتُمْ يدل على أنه عند دخول الوقت إن لم يجد الماء جاز له التيمم. وقال أبو حنيفة: يؤخر الصلاة إلى آخره.
الثالثة والستون: إذا وجد الماء بعد التيمم وقبل الشروع في الصلاة بطل تيممه لأنه وجد الماء فلا يجوز له الشروع في الصلاة بالتيمم. وخالف أبو موسى الأشعري والشعبي. الرابعة والستون: لو فرغ من الصلاة ثم وجد الماء لا يلزمه إعادة الصلاة لأنه خرج عن عهدة التكليف خلافا لطاوس. الخامسة والستون: ولو وجد الماء في أثناء الصلاة لا يلزمه الخروج منها- وبه قال مالك وأحمد-، لأنه انعقدت صلاته صحيحة بحكم التيمم فما لم تبطل صلاته لا يصير قادرا على استعمال الماء، وما لم يصر قادرا على استعمال الماء لم تبطل صلاته فيدور. وقال أبو حنيفة والثوري والمزني: يلزمه الخروج لأنه واجد للماء.
السادسة والستون: لو نسي الماء في رحله وتيمم وصلى ثم علم وجود الماء لزمه الإعادة على أحد قولي الشافعي وهو قول أحمد وأبي يوسف. والثاني لا يلزمه وهو قول مالك وأبي حنيفة ومحمد لأن النسيان في حكم العجز وكذا إذا ضل رحله في الرحال بالطريق الأولى لأن مخيم الرفقة أوسع من رحله. ولو تيقن الماء في رحله واستقصى في الطلب فلم يجده وتيمم وصلى ثم وجد فالأكثرون على أنه يلزمه الإعادة لأن العذر ضعيف. وقيل: لا لأن حكمه حكم العاجز. السابعة والستون: لو صلى بالتيمم ثم وجد ماء في بئر بجنبه يمكنه استعمال ذلك الماء فإن كان قد علمه أوّلا ثم نسيه فهو كما لو نسي الماء في رحله، وإن لم يكن عالما فإن كان عليها علامة ظاهرة فالإعادة وإلّا فلا لأنه كالعاجز. الثامنة والستون: إذا لم يكن معه ماء ولا يمكنه أن يشتري إلّا بالغبن الفاحش جاز التيمم لقوله: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ولو وهب منه الماء لزمه القبول لأن المنة فيه سهل، ولو وهب منه ثمنه لم يلزمه القبول لثقل المنة ووجود الحرج، ولمثل هذا يجب قبول إعارة الدلو لاهبته فهذه جملة المسائل الفقهية المستنبطة من الآية سوى ما مرت في سورة النساء.(2/561)
واعلم أن قوله سبحانه وتعالى: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أصل معتبر في علم الفقه لأنه يدل على أن الأصل في المضار الحرمة وفي المنافع الإباحة. وقد تمسك به نفاة القياس قالوا: إن كل حادثة فحكمها المفصل إن كان مذكورا في الكتاب والسنة فذاك وإلّا فإن كان من باب المضارّ فالأصل فيها الحرمة، وإن كان من باب المنافع فالأصل فيها الإباحة، والقياس المعارض لهذين الأصلين يكون قياسا واقعا في مقابلة النص فيكون مردودا. أما قوله: وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ فله تفسيران: أحدهما وإليه ذهب أكثر أصحاب أبي حنيفة، أن عند خروج الحدث تنجس الأعضاء نجاسة حكمية، فالمقصود من هذا التطهير إزالة تلك النجاسة الحكمية، وزيف بأن أعضاء المؤمن لا تنجس لقوله تعالى:
إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة: 28]
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن لا ينجس لا حيا ولا ميتا» «1»
وبأنه لو كان رطبا فأصابه ثوب لم ينجس، ولو حمله إنسان وصلى لم تفسد صلاته بالاتفاق، وبأن الحدث لو كان يوجب نجاسة الأعضاء ثم كان تطهير الأعضاء الأربعة يوجب طهارة كل عضو لوجب أن لا يختلف ذلك باختلاف الشرائع، وبأن خروج النجاسة من موضع كيف يوجب تنجس موضع آخر، وبأن التيمم زيادة في التكدير فكيف يوجب النظافة والتطهير، وبأن المسح على الخفين كيف يقوم مقام غسل الرجلين، وبأن الذي يراد إزالته ليس من الأجسام ولا كان محسوسا ولا من الأعراض لأن انتقال الأعراض محال. التفسير الثاني أن المراد طهارة القلب عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى لأن إيصال الماء أو التراب إلى هذه الأعضاء المخصوصة ليس فيه فائدة يعقلها المكلف، فالانقياد لمثل هذا التكليف تعبد محض يزيل آثار التمرد وتؤكده الأخبار في أن المؤمن إذا غسل وجهه خرت خطاياه من وجهه وكذا القول في يديه ورأسه ورجليه. وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بإباحة الطيبات الدنيوية من المطاعم والمناكح بهذه النعمة الدينية وهي كيفية فرض الوضوء، أو ليتم برخصه كالتيمم ونحوه إنعامه عليكم بعزائمه. ثم ذكر ما يوجب عليهم قبول تكاليفه وذلك من وجهين:
الأول تذكر نعمته يعني التأمل في هذا النوع الذي لا يقدر عليه غيره لأن هذا النوع وهو إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى الخيرات في الدنيا والآخرة حيث إنه يمتاز عن نعمة غيره وأنه لا يقدر عليه غيره يجب تلقيه بالتشكر وهو الإذعان لأوامره والانقياد لنواهيه. فإن قيل: اذكروا مشعر بسبق النسيان وكيف يعقل
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الغسل باب 23، 24. مسلم في كتاب الحيض حديث 115. أبو داود في كتاب الطهارة باب 91. الترمذي في كتاب الطهارة باب 89. النسائي في كتاب الطهارة باب 171.
ابن ماجه في كتاب الطهارة باب 80. أحمد في مسنده (2/ 225، 382) .(2/562)
نسيانها مع تواترها وتواليها في كل لحظة ولمحة؟ فالجواب أنها صارت لتواليها كالأمر المعتاد فصار من غاية الظهور كالأمر المستور، أو المراد التوبيخ على عدم القيام بمواجبها فكأنها كالشيء المنسي. الثاني ذكر الميثاق ومعنى: واثَقَكُمْ بِهِ عاقدكم به عقدا وثيقا يعني ميثاق رسوله حين بايعهم تحت الشجرة وغيرها على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه. وعن ابن عباس: هو الميثاق الذي أخذه على بني إسرائيل حين قالوا: آمنا بالتوراة وبما فيها من البشارة بنبي آخر الزمان ومن غيرها. وقال مجاهد والكلبي ومقاتل:
إنه إشارة إلى قوله للذرية: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [الأعراف: 172] وقال السدي: هو ما ركز في العقول من حسن هذه الشريعة وهو اختيار أكثر المتكلمين.
واعلم أن التكاليف وإن كثرت إلّا أنها منحصرة في نوعين: التعظيم لأمر الله وإليه الإشارة بقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ والشفقة على خلق الله وحث عليها بقوله: شُهَداءَ بِالْقِسْطِ قال عطاء: يقول لا تحاب في شهادتك أهل ودّك وقرابتك ولا تمنع شهادتك أعداءك وأضدادك. وقال الزجاج: بينوا دين الله لأن الشاهد يبين ما يشهد عليه. ثم أمر جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلّا على سبيل العدل والإنصاف ويتركوا الظلم والاعتساف فقال وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ أي لا يحملنكم بغض قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا أي فيهم فحذف للعلم. ثم استأنف فصرح لهم بالأمر بالعدل تأكيدا فقال: اعْدِلُوا ثم استأنف فذكر لهم وجه الأمر بالعدل فقال: هُوَ أي العدل الذي دل عليه اعدلوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي إلى الاتقاء من عذاب الله أو من معاصيه. وقيل: المراد سلوك سبيل العدالة مع الكفار الذين صدوا المسلمين عن البيت بأن لا يقتلوهم إذا أظهروا الإسلام، أو لا يرتكبوا ما لا يحل من مثلة، أو قذف أو قتل أولاد أو نساء أو نقض عهد أو نحو ذلك. وفي هذا تنبيه على أن العدل مع أعداء الله إذا كان بهذه المكانة فكيف يكون مع أوليائه وأحبائه؟ ثم ختم الكلام بوعد المؤمنين ووعيد الكافرين وقوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ بيان للوعد قدم لهم وعدا، ثم كأنه قيل: أي شيء ذلك؟ فقيل: لهم مغفرة أو يكون على إرادة القول أي وعدهم وقال لهم مغفرة، أو يكون وعد مضمنا معنى قال، أو يجعل وعد واقعا على هذا القول وإذا وعدهم هذا القول من هو قادر على كل المقدورات عالم بجميع المعلومات غني عن كل الحاجات فقد امتنع الخلف في وعده لأن سبب الخلف إما جهل أو عجز أو بخل أو حاجة وهو منزه عن الكل. وهذا الوعد يصل إليه قبل الموت فيفيده السرور عند سكرات الموت فيسهل عليه الشدائد وفي ظلمة القبر فيفيده نورا وفي عرصة القيامة فيزيده حبورا. والجحيم اسم من أسماء النار وهي كل نار عظيمة في مهواة كقوله: قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ(2/563)
[الصافات: 97] وأصحاب الجحيم ملازموها. بسط إليه لسانه إذا شتمه وبسط إليه اليد مدّها إلى المبطوش به.
عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها، فعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه على شجرة فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فسله ثم أقبل عليه فقال: من يمنعك مني؟ قال: الله- قالها ثلاثا- والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: الله. فأغمد الأعرابي السيف فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه.
وقال مجاهد والكلبي وعكرمة: قتل رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلين من بني سليم- وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما موادعة- فجاء قومهما يطلبون الدية فأتى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبوبكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم فدخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستقرضهم في عقلهما فقالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة، اجلس حتى نطعمك ونعطيك الذي تسألنا. فجلس هو وأصحابه فخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا محمدا أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا. فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله يده، فجاء جبريل عليه السلام وأخبره بذلك فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وأنزل الله هذه الآية.
وقيل: نزلت في قصة عسفان حين هم الأعداء أن يواقعوهم فنزلت صلاة الخوف. وقيل: إنها لم تنزل في واقعة خاصة ولكن المراد أن الكفار أبدا كانوا يريدون إيقاع البلاء والنهب والقتل بالمسلمين فأعز الله المسلمين وفل شوكة الكفار وقوى دين الإسلام وأظهره على الأديان.
التأويل:
سماع اسم الله وهو من صفات الهيبة يوجب الفناء والغيبة، وسماع الرحمن الرحيم وهما من صفات اللطف يورث البقاء والقربة أَوْفُوا أيها العشاق بِالْعُقُودِ التي جرت بيننا يوم الميثاق ليوم التلاق. فمن صبر على عهوده فقد فاز بمقصوده عند بذل وجوده أُحِلَّتْ لَكُمْ ذبح بَهِيمَةُ النفس التي كالأنعام في طلب المرام إلا النفس المطمئنة التي تليت عليها ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: 28] فتنفرت من الدنيا بما فيها فهي كالصيد في الحرم وَأَنْتُمْ حُرُمٌ بالتوجه إلى كعبة الوصال وإحرام الشوق إلى حضرة الجمال والجلال إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ لمن يريد فيأمر بذبح النفس إذا كانت متصفة بصفة البهيمية وبترك ذبحها إذا كانت مطمئنة بذكر الحق ومتسمة بسمات الملك. ثم أخبر عن تعظيم الشعائر من صدق الضمائر فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بشهود القلوب فقصدوا زيارة المحبوب وخرجوا عن أوطان الأوطار وسافروا عن ديار الأغيار لا تُحِلُّوا معالم الدين والشريعة ومراسم آداب الطريقة والحقيقة، وعظموا الزمان والمكان والإخوان والقاصدين كعبة الوصول إلى الرحمن الذين أهدوا للقربان نفوسهم وقلدوها بلحاء الشجرة الطيبة ليأمنوا عن مكر الأعداء(2/564)
الخبيثة وَإِذا حَلَلْتُمْ أتممتم مناسك الوصول فَاصْطادُوا أرباب الطلب بشبكة الدعوة إلى الله، ولا يحملنكم حسد الحساد الذين يريدون أن يصدّوكم عن الحق على أن تعتدوا على الطالبين فتكونوا قطاع الطريق عليهم في طلب الحق. حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ يا أهل الحق الْمَيْتَةُ وهي الدنيا بأسرها وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ أي حلالها وحرامها قليلها وكثيرها لأن من الدم ما هو حلال والخنزير كله حرام والدم بالنسبة إلى اللحم قليل وَما أُهِلَّ بِهِ أي كل طاعة هي لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ يعني الذين يخنقون أنفسهم بالمجاهدات ويقذونها بالرياضات رياء وسمعة وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ الذين يتردون أنفسهم إلى أسفل سافلي الطبيعة بالتناطح مع الأقران والتفاخر بالعلم والزهد بين الإخوان وَما أَكَلَ السَّبُعُ الظلمة المتهارشون في جيفة الدنيا تهارش الكلاب إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ بالكسب الحلال ووجه صالح بقدر ضرورة الحال وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ ما تذبح عليه النفوس من المطالب الفانية وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ أي أن تكونوا مترددين في طلب المرام، فإذا انتهيتم عن هذه المناهي وتخلصتم عن هذه الدواهي فقد عاد ليلكم نهارا وظلمتكم أنوارا. الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا من النفس وصفاتها والدنيا وشهواتها مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ فإن كيدي متين.
الْيَوْمَ أي في الأزل أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ولكن ظهر الأمر في حجة الوداع يوم عرفة.
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وهي أسباب تحصيل الكمال ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم فَمَنِ اضْطُرَّ فمن ابتلى بالتفات لشيء من الدنيا والآخرة غير مائل إليه للإعراض عن الحق ولكن من فترة للطالبين أو وقفة للسالكين. يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لأرباب السلوك إذ الدنيا حرام على أهل الآخرة والآخرة حرام على أهل الدنيا وهما حرام على أهل الله الطيبات كل مأكول ومشروب وملبوس يكون سببا للقيام بأداء الحقوق. فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ تناولوا ما اصطادت النفوس المطمئنة المعلمة بعلوم الشريعة المؤدبة بآداب الطريقة المنوّرة بأنوار الحقيقة.
وَاذْكُرُوا عند تناول كل ما ورد عليكم من الأمور الدنيوية والأخروية اسْمَ اللَّهِ أي لا تتصرفوا فيه إلّا لله بالله في الله الْيَوْمَ يعني الذي فيه ظهر كمالية الدين الأزلية وهو يوم عرفة. وهذه فائدة التكرار أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ التي تتعلق بسعادة الدارين بل أحل لكم التخلق بالأخلاق الطيبات وهي أخلاق الله المنزهات عن الكميات والكيفيات وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وهم الأنبياء حِلٌّ لَكُمْ أي غذيتم بلبان الولاية كما غذوا بلبان النبوة وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ أي منبع لبن النبوة والولاية واحد وإن كان الثدي اثنين قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة: 60] وللنبي وراء ذلك كله مشرب
«أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني»
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وهي أبكار حقائق القرآن(2/565)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أبكار حقائق الكتب المنزلة على الأمم السالفة أي التي أدرجت في القرآن فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة: 17] إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وهي بذل الوجود محصنين في هذا البذل ليكون على وجه الحق غَيْرَ مُسافِحِينَ على وجه الطبع وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ غير ملتفتين إلى شيء من الأكوان وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ بهذه المقامات فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ الذي عمل من دون المكاشفات. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا حقيقيا عند خطاب ألست بربكم إِذا قُمْتُمْ من نوم الغفلة إِلَى الصَّلاةِ وهي معراجكم للرجوع إلى مكامن قربكم فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ التي توجهتم بها إلى الدنيا ولطختموها بالنظر إلى الأغيار بماء التوبة والاستغفار وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ أي اغسلوا أيديكم من التمسك بالدارين حتى الصديق الموافق والرفيق المرافق وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ببذل نفوسكم وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ من طين طبيعتكم والقيام بأنانيتكم وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ ولا يحملنكم حسد الحساد وعداوة الأنذال عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا مع أنفسكم إِذْ هَمَّ قَوْمٌ من الشيطان والنفس والهوى أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ والله خير موفق ومعين.
[سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 19]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)(2/566)
القراآت:
قاسِيَةً حمزة وعلي والمفضل. الباقون قاسِيَةً.
الوقوف:
بَنِي إِسْرائِيلَ ج للعدول عن الإخبار إلى الحكاية مع اتحاد القصة.
نَقِيباً ج للعدول عن الحكاية إلى الإخبار. مَعَكُمْ ط لأن ما بعده ابتداء قسم محذوف جوابه لَأُكَفِّرَنَّ. الْأَنْهارُ ج السَّبِيلِ هـ قاسِيَةً ج لاحتمال الاستئناف والحال أي لعناهم محرفين. مَواضِعِهِ ط لأنا ما يتلوه حال أي وقد نسوا. ذُكِّرُوا بِهِ ج للعدول عن الماضي إلى المستقبل مع الواو. وَاصْفَحْ ط الْمُحْسِنِينَ هـ ذُكِّرُوا بِهِ ص لعطف المتفقتين. يَوْمِ الْقِيامَةِ ط يَصْنَعُونَ هـ عَنْ كَثِيرٍ هـ مُبِينٌ هـ لا لأن قوله:
يَهْدِي وصف الكتاب إلى آخر الآية. مُسْتَقِيمٍ هـ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ الأول ط جَمِيعاً ط وَما بَيْنَهُما ط ما يَشاءُ ط قَدِيرٌ هـ وَأَحِبَّاؤُهُ ط بِذُنُوبِكُمْ ط لتناهي الاستفهام إلى الأخبار. مِمَّنْ خَلَقَ ط مَنْ يَشاءُ ط وَما بَيْنَهُما ز للفصل بين ذكر الحال والمال. الْمَصِيرُ هـ وَلا نَذِيرٍ ر للعطف مع وقوع العارض. وَنَذِيرٌ ط قَدِيرٌ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه لما خاطب المؤمنين بذكر نعمته وميثاقه أردفه ذكر ميثاق بني إسرائيل ونقضهم إياه ثم لعنهم بسبب ذلك تحذيرا لهذه الأمة من مثل ما فعلوا وفعل بهم.
وبوجه آخر لما ذكر غدر اليهود وأنهم أرادوا إيقاع الشر بالنبي صلى الله عليه وسلم لولا دفع الله تعالى، أردفه بذكر سائر فضائحهم ليعلم أن ذلك لم يزل هجيراهم. والنقيب العريف «فعيل» بمعنى «فاعل» لأنه ينقب عن أحوال القوم فيكون شاهدهم وضمينهم. وقال أبو مسلم: بمعنى «مفعول» يعني اختارهم على علم بهم. وأصل النقب الطريق في الجبل. ونقب البيطار سرة الدابة ليخرج منها ماء أصفر. والمناقب الفضائل لأنها لا تظهر إلّا بالنقب عنها. ويقال:
كلب نقيب وهو أن ينقب حنجرته لئلا يرفع صوت نباحه، وإنما يفعل ذلك البخلاء من العرب لئلا يطرقهم ضيف. قال مجاهد والكلبي والسدي: إن الله تعالى اختار من كل سبط(2/567)
من أسباط بني إسرائيل رجلا يكون نقيبا لهم وحاكما فيهم. ثم إنهم بعثوا إلى مدينة الجبارين لينقبوا عن أحوالهم فرأوا أجراما عظيمة فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلّا رجلين منهم. ومعنى إِنِّي مَعَكُمْ إني ناصركم ومعينكم والتقدير: وقال الله لهم. فحذف الرابط للعلم به. والخطاب للنقباء أو لكل بني إسرائيل. والحاصل إني معكم بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم وأرى أفعالكم وأعلم ضمائركم وأقدر على إيصال الجزاء إليكم. فهذه مقدمة معتبرة جدا في الترغيب والترهيب.
ثم ذكر بعدها جملة شرطية مقدمها مركب من خمسة أمور والجزاء هو قوله: لَأُكَفِّرَنَّ وهو إشارة إلى إزالة العقاب. وقوله: وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ وهو إشارة إلى إيصال الثواب.
واللام في لَئِنْ أَقَمْتُمُ موطئة للقسم وفي لَأُكَفِّرَنَّ جواب له ولكنه سد مسد جواب الشرط أيضا. والعزر في اللغة الرد ومنه التعزير التأديب لأنه يرده عن القبيح ولهذا قال الأكثرون: معنى عَزَّرْتُمُوهُمْ نصرتموهم لأن نصر الإنسان رد أعدائه عنه. ولو كان التعزير هو التوقير لكان قوله: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9] تكرارا. وهاهنا أسئلة: لم أخر الإيمان بالرسل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة مع أن الإيمان مقدم على الأعمال؟
وأجيب بعد تسليم أن الواو للترتيب بأن اليهود كانوا معترفين بأن النجاة مربوطة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة إلّا أنهم كانوا مصرين على تكذيب بعض الرسل فذكر أنه لا بد بعد الصلاة والزكاة من الإيمان بجميع الرسل وإلّا لم يكن لتلك الأعمال أثر. قلت: يحتمل أن يكون التقدير وقد آمنتم أو أخر الإيمان عن العمل تنبيها على أن الإيمان إنما يقع معتدا به إذا اقترن به العمل كقوله وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى [طه: 82] أو هو من القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس، أو لعل اليهود كانوا مقصرين في الصلاة والزكاة فكان ذكرهما أهم. سؤال آخر ما الفائدة في قوله: وَأَقْرَضْتُمُ بعد قوله: وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ؟
وأجيب بأن الإقراض أريد به الصدقات المندوبة. قال الفراء: ولو قال وأقرضتم الله إقراضا حسنا لكان صوابا أيضا إلّا أنه أقيم الاسم مقام المصدر مثل وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً [آل عمران:
37] . آخر لم قال: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ فإن من كفر قبل ذلك أيضا فقد أخطأ الطريق المستقيم الذي شرعه الله لهم؟ والجواب أجل، ولكن الضلال بعد الشرط المؤكد المعلق به الوعيد العظيم أشنع فلهذا خص بالذكر. فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ بتكذيب الرسل وقتلهم أو بكتمانهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم أو بإخلال جملة الشروط المذكورة لَعَنَّاهُمْ قال عطاء: أخرجناهم من رحمتنا. وقال الحسن ومقاتل: مسخناهم حتى صاروا قردة وخنازير. قال ابن عباس: ضربنا الجزية عليهم. وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً من قرأ قاسِيَةً(2/568)
فبمعنى القاسية أيضا إلا أنها أبلغ كعليم وعالم ومنه قولهم «درهم قسي» أي رديء مغشوش لما فيه من اليبس الصلابة بخلاف الدرهم الخالص فإن فيه لينا وانقيادا. قالت المعتزلة:
معنى الجعل هاهنا أنه أخبر عنها بأنها صارت قاسية كما يقال جعلت فلانا فاسقا أو عدلا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ بيان لقسوة قلوبهم لأنه لا قسوة أشد من الافتراء على الله وتغيير كلامه وَنَسُوا حَظًّا تركوا نصيبا وافرا أو قسطا وافيا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ من التوراة يريد أن تركهم التوراة وإعراضهم عن العمل بها إغفال حظ عظيم، أو فسدت نياتهم فحرفوا التوراة وزالت علوم منها عن حفظهم كما روي عن ابن مسعود: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية.
وقال ابن عباس: تركوا نصيبا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم. ثم بيّن أن نكث العهود والغدر لم يزل عادتهم خلفا عن سلف فقال: وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ أي خيانة كالعافية والحادثة أو صفة لمحذوف مؤنث أي على فعلة ذات خيانة أو على نفس أو فرقة خائنة أو التاء للمبالغة مثل «رجل راوية للشعر» إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام وأمثاله، أو هم الذين بقوا على الكفر من غير غدر ونقض لعهودهم فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ بعث على حسن العشرة معهم. فقيل منسوخ بآية الجهاد يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التحريم: 9] وقيل: المراد فاعف عن مؤمنهم ولا تؤاخذهم بما سلف منهم. وقيل: بناء على أن القليل هم الباقون على العهد منهم أن المراد لا تؤاخذهم بالصغائر ما داموا باقين على العهد وهذا قول أبي مسلم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال ابن عباس: معناه إذا عفوت فأنت محسن، وإذا كنت محسنا فقد أحبك الله. وعلى قول أبي مسلم فالمراد بهؤلاء المحسنين هم القليلون الذين ما نقضوا عهد الله وفي هذا التفسير بعد والله أعلم.
ثم قال: وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ولم يقل ومن النصارى لأنهم إنما سموا أنفسهم بهذا الاسم ادعاء لنصرة الله، وهم الذين قالوا لعيسى عليه السلام نحن أنصار الله وكانوا بالحقيقة أنصار الشيطان حيث اختلفوا وخالفوا الحق أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ إن كان الضمير عائدا إلى الذين قالوا فالمعنى ظاهر، وإن عاد إلى اليهود فالمعنى أخذنا منهم مثل ميثاق اليهود في أفعال الخير والإيمان بالرسل فَأَغْرَيْنا ألصقنا وألزمنا ومنه الغراء الذي يلصق به وغرى بالشيء لزمه ولصق به بَيْنَهُمُ بين فرق النصارى أو بينهم وبين اليهود. ثم دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ ووحد الكتاب لأنه أخرج مخرج الجنس مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ كصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكصفة الرجم(2/569)
وهذا معجز لأنه لم يقرأ كتابا وقد أخبرهم بأسرار كتابهم وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ مما تخفونه فلا يبينه مما لا تمس إليه حاجة في هذا الدين. وعن الحسن: ويعفو عن كثير منكم لا يؤاخذه بجرمه قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ محمد أو الإسلام وَكِتابٌ مُبِينٌ هو القرآن لإبانته ما كان خافيا على الناس من الحق، أو لأنه ظاهر الإعجاز، ويحتمل أن يكون النور والكتاب هو القرآن والمغايرة اللفظية كافية بين المعطوفين. ولا شك أن القرآن نور معنوي تتقوى به البصيرة على إدراك الحقائق والمعقولات. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ أي بالكتاب مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ من كان مطلوبه اتباع الدين الذي يرتضيه الله لا الذي ألفه بحسب هواه سُبُلَ السَّلامِ طرق السلامة أو طرق دار السلام أو سبيل دين الله إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ بناء على جواز الحلول فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً من الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله ومنع شيء من مراده. وقوله: إِنْ أَرادَ شرط جزاء آخر محذوف يدل عليه ما تقدمه والمعنى إن أراد أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ المدعو إلها وغيره فمن الذي يقدر على أن يدفعه عن مراده ومقدوره؟؟؟
والمراد بعطف من في الأرض على المسيح وأمه أنهما من جنسهم وشكلهم في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وسائر الأعراض. فلما سلمتم كونه تعالى خالقا لغيرهما وجب أن يكون خالقا لهما ومتصرفا فيهما. وإنما قال: وَما بَيْنَهُما بعد ذكر السموات والأرض ولم يقل «بينهن» لأنه أراد الصنفين أو النوعين. وفي قوله: يَخْلُقُ ما يَشاءُ وجهان:
أحدهما يخلق تارة من ذكر وأنثى، وتارة من أنثى فقط كما في حق عيسى، وتارة من غير ذكر وأنثى كآدم عليه السلام. وثانيهما أن عيسى إذا قدر صورة الطير من الطين فإن الله تعالى يخلق فيها اللحمية والحياة معجزة لعيسى، وكذا إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قيل: عليه أن اليهود لا يقولون ذلك فكيف يجوز نقل ذلك عنهم؟
وأما النصارى فلا يقولون ذلك في حق أنفسهم. وأجيب بأن المضاف محذوف أي نحن أبناء رسل الله أو أريد إن عناية الله تعالى بحالهم أكمل وأشد من اعتناء الأب بالابن، أو اليهود زعموا أن عزيرا ابن الله، والنصارى أن المسيح ابن الله. وقد يقول أقارب الملوك وحشمه نحن الملوك وغرضهم كونهم مختصين بذلك الشخص الذي هو الملك.
عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوفهم بعقاب الله فقالوا: كيف تخوفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه؟
ومما يتلو النصارى في الإنجيل الذي لهم أن المسيح قال لهم: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم. ثم إنه سبحانه أبطل عليهم دعواهم بقوله: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ فسئل أن موضع الإلزام هو عذاب الدنيا فحينئذ تمكن المعارضة بوقعة أحد وبقتل أحباء الله كالحسن والحسين عليهما السلام أو عذاب الآخرة. فالقوم ينكرون(2/570)
ذلك ولو كان مجرد إخبار محمد صلى الله عليه وسلم كافيا لكان مجرد إخباره بأنهم كذبوا في ادّعاء أنهم أحباء الله كافيا ويصير الاستدلال ضائعا. وأجيب بأن محل الإلزام عذاب عاجل، والمعارضة بيوم أحد ساقطة لأنهم وإن ادعوا أنهم الأحباء لكنهم لم يدعوا أنهم الأبناء. أو عذاب آجل واليهود والنصارى يعترفون بذلك وأنهم تمسهم النار أياما معدودة. ويمكن أن يقال: المراد مسخهم قردة وخنازير بل هذا الجواب أولى ليكون الاحتجاج عليهم بشيء قد دخل في الوجود فلا يمكنهم الإنكار. بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ جملة مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ ليس لأحد عليه حق يوجب أن يغفر له ولا قدرة تمنعه من أن يعذبه، وباقي الآية تأكيد لهذا المعنى يُبَيِّنُ لَكُمْ في محل النصب على الحال وفيه وجهان: أن يقدر المبين وهو الدين والشرائع وحسن حذفه لأن كل أحد يعلم أن الرسول إنما أرسل لبيان الشرائع، أو هو ما كنتم تخفون وحسن حذفه لتقدم ذكره وأن لا يقدر المبين. والمعنى يبذل لكم البيان وحذف المفعول أعم فائدة. وقوله: عَلى فَتْرَةٍ متعلق ب جاءَكُمْ أو حال آخر. قال ابن عباس: أي على حين فتور من إرسال الرسل وفي زمان انقطاع الوحي. وسميت المدّة بين الرسولين من رسل الله فترة لفتور الدواعي في العمل بتلك الشرائع. وكان بين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم خمسمائة وستون أو ستمائة سنة. وعن الكلبي: كان بين موسى وعيسى ألف وسبعمائة سنة وألف نبي، وبين عيسى عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم أربعة أنبياء، ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب خالد بن سنان العبسي. وأما العنسي بالنون فهو المتنبئ الكاذب. والمقصود أن الرسول بعث إليهم حين انطمست آثار الوحي وتطرق التحريف والتغيير إلى الشرائع المتقدمة وكان ذلك عذرا ظاهرا في إعراض الخلق عن العبادات، لأن لهم أن يقولوا إلهنا عرفنا أنه لا بد من عبادات ولكنا ما عرفنا كيف نعبدك، فمن الله تعالى عليهم بإزاحة هذه العلة وذلك قوله: أَنْ تَقُولُوا أي كراهة أن تقولوا: ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ أي لا تعتذروا فقد جاءكم. والحاصل أن الفترة توجب الاحتياج إلى بعثة الرسل والله قادر على ذلك لأنه قادر على كل شيء، فكان يجب في حكمته ورحمته إرسال الرسل في الفترات إلزاما للحجج وإقامة للبينات.
التأويل:
جعل في أمة موسى عليه السلام اثني عشر نقيبا، وجعل في هذه الأمة من النجباء البدلاء أربعين رجلا كما
قال صلى الله عليه وسلم: «يكون في هذه الأمة أربعون على خلق إبراهيم وسبعة على خلق موسى وثلاثة على خلق عيسى عليه السلام وواحد على خلق محمد صلى الله عليه وسلم»
وقال أبو عثمان المغربي: البدلاء أربعون، والأمناء سبعة، والخلفاء ثلاثة، والواحد هو القطب، والقطب عارف بهم جميعا ويشرف عليهم ولا يعرفه أحد ولا يشرف عليه وهو إمام(2/571)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
الأولياء، وهكذا حال الثلاثة مع السبعة والسبعة مع الأربعين، فإذا نقص من الأربعين واحد بدل مكانه واحد من غيرهم، وإذا نقص من السبعة واحد جعل مكانه واحد من الأربعين، وإذا نقص من الثلاثة واحد جعل مكانه واحد من السبعة، وإذا مضى القطب الذي به قوام أعداد الخلق جعل بدله واحد من الثلاثة هكذا إلى أن يأذن الله تعالى في قيام الساعة. لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ بأن تجعلها معراجك إلى الحق في درجات القيام والركوع والسجود والتشهد. فبالقيام تتخلص عن حجب أوصاف الإنسانية وأعظمها الكبر وهو من خاصية النار، وبالركوع تتخلص عن حجب صفات الحيوانية وأعظمها الشهوة وهو من خاصية الهواء، وبالسجود تتخلص عن حجب طبيعة النبات وأعظمها الحرص على الجذب للنشو والنماء وهو من خاصية الماء، وبالتشهد تتخلص عن حجب طبع الجماد وأعظمها الجمود وهو خاصية التراب، فإذا تخلصت من هذه الحجب فقد أقمت الصلاة مناجيا ربك مشاهدا له كما
قال صلى الله عليه وسلم: «اعبد الله كأنك تراه» .
وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ بأن تصرف ما زاد من روحانيتك بتعلق القالب في سبيل الله وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي استسلمتم بالكلية لتصرفات النبوّة والرسالة وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ بالوجود كله قَرْضاً حَسَناً وهو أن يأخذ منكم وجودا مجازيا فانيا ويعطيكم وجودا حقيقيا باقيا كما يقول. لَأُكَفِّرَنَّ لأسترن بالوجود الحقيقي عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ الوجود المجازي وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ الوصلة تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا أنهار العناية وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ لأنّ العصيان يجر إلى العصيان فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ حيث نسوا حظ الميثاق وأبطلوا الاستعداد الفطري صاروا كالسباع يتهارشون ويتجاذبون يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يجعل أقواما مظهر لطفه وفضله وآخرين مظهر قهره وعدله وهو أعلم بعباده.
[سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 26]
وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24)
قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)(2/572)
القراآت:
جَبَّارِينَ بالإمالة: قتيبة ونصير وأبو عمرو حيث كان. فَلا تَأْسَ بغير همزة حيث وقعت: أبو عمرو ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف.
الوقوف:
مُلُوكاً ز جَبَّارِينَ ق قد قيل لشبهة الابتداء بأن ولكن كسر ألف «إن» بمجيئه بعد القول معطوفا على الأول. حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب. داخِلُونَ هـ الْبابَ ج لذلك. غالِبُونَ هـ مُؤْمِنِينَ هـ قاعِدُونَ هـ الْفاسِقِينَ هـ سَنَةً ج لأنها تصلح ظرفا للتيه بعده والتحريم قبله الْفاسِقِينَ هـ.
التفسير:
وجه النظم أنه سبحانه كأنه قال: أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وذكرهم موسى نعم الله وأمرهم بمحاربة الجبارين فخالفوا في الكل. منّ الله عليهم بأمور ثلاثة: أوّلها قوله:
إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وذلك أنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء.
وثانيها قوله: وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً قال السدي: أي جعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما استعبدكم القبط. وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة وفيها مياه جارية وكان لهم أموال كثيرة وخدم يقومون بأمرهم ومن كان كذلك كان ملكا. وقال الزجاج: الملك من لا يدخل عليه أحد إلّا بإذنه. وقيل: الملك هو الصحة والإسلام والأمن والفوز وقهر النفس. وقيل:
من كان مستقلا بأمر نفسه ومعيشته ولم يكن محتاجا في مصالحه إلى أحد فهو ملك. وقيل:
كان في أسلافهم وأخلافهم ملوك وعظماء، وقد يقال لمن حصل فيهم ملوك إنهم ملوك مجازا. وقيل: كل نبي ملك لأنه يملك أمر أمته ينفذ فيهم حكمه. وثالثها: وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر وإغراق العدوّ وتظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك من الخوارق والعظائم. وقيل: أراد عالمي زمانهم.
روي أن إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال الله تعالى له: انظر فما أدرك بصرك فهو مقدّس وميراث لذريتك.
وقيل: لما خرج قوم موسى من مصر وعدهم الله إسكان أرض الشام، فكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام أرض المواعيد. ثم بعث موسى عليه السلام اثني عشر نقيبا من الأمناء ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأراضي، فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساما عظيمة هائلة.
قال المفسرون: لما بعث موسى النقباء لأجل التجسس رآهم واحد من أولئك الجبارين فأخذهم وجعلهم في كمه مع فاكهة كان قد حملها من بستانه وأتى بهم الملك فنثرهم بين يديه وقال متعجبا للملك: هؤلاء يريدون قتالنا. فقال الملك: ارجعوا إلى صاحبكم(2/573)
وأخبروه بما شاهدتم. فانصرف النقباء إلى موسى وأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلّا رجلان- هما كالب بن يوفنا من سبط يهودا، ويوشع بن نون من سبط افرائيم بن يوسف- فإنهما قالا هي بلاد طيبة كثيرة النعم وأجسامهم عظيمة إلّا أن قلوبهم ضعيفة، وأما العشرة الباقية فإنهم أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع من غزوهم. والأرض المقدسة هي المطهرة من الآفات، وقيل من الشرك. وزيف بأنها لم تكن وقت الجبارين كذلك. وأجيب بأنها كانت كذلك فيما قبل لأنها كانت مسكن الأنبياء. ثم إنها ما هي؟ فعن عكرمة والسدي وابن زيد هي أريحا. وقال الكلبي: دمشق وفلسطين وبعض الأردن. وقيل: الطور وما حوله. وقيل: بيت المقدس. وقيل: الشام.
ومعنى كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وهبها لكم أو خط في اللوح المحفوظ أنها لكم أو أمركم بدخولها.
قال ابن عباس: كانت هبة ثم حرمها عليهم بشؤم تمردهم وعصيانهم. وقيل: المراد خاص أي مكتوب لبعضهم وحرام على بعضهم. وقيل: إن الوعد كان مشروطا بالطاعة فلما لم يوجد الشرط لم يوجد المشروط. وقيل: حرمها عليهم أربعين سنة فلما مضى الأربعون حصل ما كتب. وفي قوله: كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ تقوية القلوب وأنّ الله سينصرهم مع ضعفهم على الجبارين مع قوّتهم. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ لا ترجعوا عن الدين الصحيح إلى الشك في نبوّة موسى عليه السلام وإخباره بهذه النصرة، أو لا ترجعوا عن الأرض التي أمرتم بدخولها إلى التي خرجتم عنها. فقد روي أن القوم كانوا قد عزموا على الرجوع إلى مصر فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ في الآخرة بفوت الثواب ولحوق العقاب، أو فترجعوا إلى الذل أو تموتوا في التيه غير واصلين إلى شيء من مطالب الدنيا ومنافع الآخرة. والجبار «فعال» من جبره على الأمر بمعنى أجبره عليه وهو العاتي الذي يجبر الناس على ما يريد وهو اختيار الفراء والزجاج. قال الفراء: لم أسمع «فعالا» من «أفعل» إلّا في حرفين: جبار من أجبر، ودراك من أدرك. ويقال: نخلة جبارة إذا كانت طويلة مرتفعة لا تصل الأيدي إليها. والقوم كانوا في غاية القوّة ونهاية العظم فجبن قوم موسى عنهم حتى قالوا على سبيل المبالغة في الاستبعاد إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ كقوله تعالى:
وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ [الأعراف: 40] قالَ رَجُلانِ هما يوشع وكالب مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا أي بالهداية والثقة بقوله والاعتماد على نصره ومحل أَنْعَمَ اللَّهُ مرفوع صفة لرجلان. ويحتمل أن يكون جملة معترضة. قال القفال: يجوز أن يكون الضمير في يَخافُونَ لبني إسرائيل والعائد إلى الموصول محذوف تقديره من الذين يخافهم بنو إسرائيل وهم الجبارون فعلى هذا الرجلان من الجبارين.(2/574)
ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ مبالغة في الوعد بالنصر والظفر كأنه قال: متى دخلتم باب بلدهم لم يبق منهم نافخ نار ولا ساكن دار فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ علموه ظنا أو يقينا من عادة الله في نصرة رسله عامة ومن صنعه لموسى عليه السلام؟؟؟ في قهر أعدائه خاصة وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا الفاء للإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها. والمعنى لما وعدكم الله النصر فلا ينبغي أن تصيروا خائفين من عظم أجسامهم بل توكلوا على الله إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مقرين بوجود الإله القدير، موقنين بصحة نبوّة موسى قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها نفوا دخولهم في المستقبل على وجه التأكيد المؤيس وزادوا في التأكيد بقولهم: أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ قال العلماء: لعلهم كانوا مجسمة يجوّزون الذهاب والمجيء على الله تعالى أو أنهم لم يقصدوا حقيقة الذهاب كقولك: «كلمته فذهب يجيبني» يريد القصد والإرادة. وقيل: المراد بالرب أخوه هارون وسموه ربا لأنه أكبر من موسى. وقيل: التقدير اذهب وربك معين لك بزعمك ولكن لا يجاوبه. قوله فَقاتِلا ولا يبقى لقوله أنت فائدة واضحة. ولا يخفى أنّ هذا القول منهم كفر أو فسق فلهذا قال موسى على سبيل الشكوى والبث رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي قال الزجاج: في إعرابه وجهان: الرفع على موضع إني والمعنى أنا لا أملك إلّا نفسي وأخي كذلك، أو نسقا على الضمير في أَمْلِكُ أي لا أملك أنا وأخي إلّا أنفسنا. والنصب على أنه نسق على الياء أي إني وأخي لا نملك إلّا أنفسنا، أو على نفسي أي لا أملك إلّا نفسي ولا أملك إلّا أخي، لأنّ أخاه إذا كان مطيعا له فهو مالك طاعته، وكأنه لم يثق بالرجلين كل الوثوق فلهذا لم يذكرهما، أو لعله قال ذلك تقليلا لمن يوافقه، أو أراد من يؤاخيه في الدين. فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ فباعد بيننا وبينهم وخلصنا من صحبتهم كقوله: وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [التحريم: 11] أو المراد فافصل بيننا وبينهم بأن تحكم لكل منا بما يستحق وهو في معنى الدعاء عليهم بدليل فاء التسبيب في قوله: فَإِنَّها أي الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثم يفتحها الله لهم من غير محاربة. أو المراد أنهم يتيهون أربعين سنة ومعنى يتيهون يسيرون متحيرين. عن مقاتل أن موسى عليه السلام لما دعا عليهم فأخبره الله بأنهم يتيهون قالوا له: لم دعوت علينا وندم على ما عمل فأوحى الله إليه: فَلا تَأْسَ أي لا تحزن ولا تندم عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ فإنهم أحقاء بالعذاب لفسقهم. وجوّز بعضهم أن يكون ذلك خطابا لمحمد صلى الله عليه وسلم أي لا تحزن على قوم لم تزل مخالفة الرسل هجيراهم.
واعلم أن المفسرين اختلفوا في أنّ موسى وهارون هل بقيا في التيه أم لا؟ فقال قوم:
إنهما ما كانا في التيه لأنه دعا أن يفرق بينه وبينهم وكل نبي مجاب، ولأن التيه عذاب(2/575)
والأنبياء لا يعذبون، ولأنّ سبب ذلك العذاب التمرد وهما لم يتمرّدا. وقال آخرون: إنهما كانا مع القوم إلّا أنّ الله تعالى سهل عليهم ذلك العذاب كما أن النار كانت على إبراهيم بردا وسلاما. ثم من هؤلاء من قال: إنّ هارون عليه السلام مات في التيه ومات موسى عليه السلام بعده فيه بسنة، ودخل يوشع عليه السلام أريحا بعد موته بثلاثة أشهر وكان ابن أخت موسى ووصيه بعد موته، ومات النقباء في التيه بغتة بعقوبات غليظة إلّا كالب ويوشع. ومنهم من قال: بل بقي موسى عليه السلام بعد ذلك وخرج من التيه وحارب الجبارين وقهرهم وأخذ الأرض المقدسة والله تعالى أعلم. واختلفوا أيضا في التيه وهي المفازة التي تاهوا فيها فقال الربيع: مقدار ستة فراسخ. وقيل: تسعة فراسخ في ثلاثين فرسخا. وقيل: ستة في اثني عشر. وقيل: كانوا ستمائة ألف فارس. ثم الأكثرون على أنّ قوله: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ تحريم منع كانوا يسيرون كل يوم على الاستدارة جادّين حتى إذا سئموا وأمسوا إذا هم بحيث ارتحلوا عنه، وكان مع ذلك نعمة الله عليهم من تظليل الغمام وإنزال المن والسلوى وغير ذلك متظاهرة كالوالد الشفيق يضرب ولده ويؤذيه ليتأدب ويتثقف ولكن لا يقطع عنه معروفه وإحسانه. ويشكل هذا القول بأنه كيف يعقل بقاء هذا الجمع العظيم في ذلك القدر الصغير من المفازة سنين متطاولة بحيث لا يتفق لأحد منهم أن يهتدي طريقا للتيه ولو بأمارات حركات النجوم؟ والجواب أنّ هذا من الخوارق التي يجب التصديق بها كسائر المعجزات التي يستبعد وقوعها. وقال بعضهم: إنّ هذا التحريم تعبّد وإنه تعالى أمرهم بالمكث في تلك المفازة أربعين سنة عقابا لهم على سوء صنيعهم وعلى هذا فلا إشكال.
التأويل:
أشار موسى الروح إلى القوى البدنية ادخلوا أرض القلب المقدسة التي كتبها الله تعالى للإنسان المستعد في الفطرة، فهابوا تحمل أعباء المجاهدات ولزوم المخالفات والرياضات فقال لهم رجلان- النفسان اللوّامة والمطمئنة- إنكم غالبون إذا دخلتم باب الجدّ والطلب تستبدل الراحة بالتعب، فلم يعتدّوا بقولهما فحرّم الله تعالى ذلك عليهم أربعين سنة هي مدة استيفاء حظوظ النفس الأمارة وانكسار سورة قواها في الأغلب كقوله: حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف: 15] . وفي الآية نكتة هي أنّ موسى عليه السلام لما ظن أنه يملك نفسه ونفس أخيه ابتلاه الله في الحال بالدعاء على أمته لأنّ المرء إنما يملك نفسه إذا ملكها عند الغضب فشتان بينه وبين من قال حين شج رأسه وكسرت رباعيته
«اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون»
اللهم صلّ عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآل كل بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين. قول الله عزّ وجل:(2/576)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
[سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 40]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36)
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
القراآت:
لَأَقْتُلَنَّكَ بالنون الخفيفة. روى المعدّل عن زيد يَدِيَ إِلَيْكَ بفتح ياء المتكلم: أبو جعفر ونافع. مِنْ أَجْلِ بكسر النون: يزيد وقرأ ورش بفتح النون موصولة رُسُلُنا بسكون السين حيث كان: أبو عمرو.
الوقوف:
بِالْحَقِّ م على أن «إذ» معمول اذكر محذوفا ولو وصل لأوهم أنه معمول اتْلُ وهو محال مِنَ الْآخَرِ ط لَأَقْتُلَنَّكَ ط الْمُتَّقِينَ هـ لِأَقْتُلَكَ ج لاحتمال إضمار اللام أو الفاء. الْعالَمِينَ هـ النَّارِ ج لاختلاف الجملتين. الظَّالِمِينَ هـ ج لأجل الفاء. الْخاسِرِينَ هـ سَوْأَةَ أَخِيهِ ط أَخِي ج لطول ما اعترض من المعطوف(2/577)
والمعطوف عليه. النَّادِمِينَ هـ ج مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ج كذلك لأنّ قوله: مِنْ أَجْلِ يصلح أن يتعلق ب فَأَصْبَحَ وب كَتَبْنا. جَمِيعاً في الموضعين ط. بِالْبَيِّناتِ ز لأنّ «ثم» لترتيب الأخبار. لَمُسْرِفُونَ هـ مِنَ الْأَرْضِ ط عَظِيمٌ هـ لا عَلَيْهِمْ ج لتناهي الاستثناء مع الجواب أي لا تعذب التائبين. أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ هـ تُفْلِحُونَ هـ مِنْهُمْ ج لتناهي الشرط مع اتحاد المقصود من الكلام. أَلِيمٌ هـ لاتحاد المقصود مع اختلاف الجملتين. مُقِيمٌ هـ مِنَ اللَّهِ ط حَكِيمٌ هـ يَتُوبُ عَلَيْهِ ط رَحِيمٌ هـ لِمَنْ يَشاءُ ط قَدِيرٌ هـ.
التفسير:
في النظم وجوه منها: أنه راجع إلى قوله: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ [المائدة: 11] فكأنه تعالى ذكر لأجل تسلية نبيّه صلى الله عليه وسلم قصصا كثيرة كقصة النقباء وما انجرّ إليه الكلام من إصرار أهل الكتاب وتعنتهم بعد ظهور الدلائل القاطعة، ثم ختمها بقصة ابني آدم وأنّ أحدهما قتل الآخر حسدا وبغيا ليعلم أنّ الفضل كان محسودا بكل أوان. ومنها أنه عائد إلى قوله: يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ [المائدة: 15] فإنّ هذه القصة وكيفية إيجاب القصاص بسببها كانت من أسرار التوراة. ومنها أنه من تمام قوله:
نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] أي لا ينفعهم كونهم من أولاد الأنبياء مع كفرهم كما لم ينفع قابيل. والمراد اتل على الناس أو على أهل الكتاب خبر ابني آدم من صلبه- هابيل وقابيل- تلاوة ملتبسة بالحق والصحة من عند الله تعالى، أو ملتبسة بالصدق موافقة لما في التوراة والإنجيل أو بالغرض الصحيح وهو تقبيح الحسد والتحذير من سوء عاقبة الحاسد. أو اتل عليهم وأنت محق صادق لا مبطل هازل كالأقاصيص التي لا غناء فيها إِذْ قَرَّبا قال في الكشاف: نصب بالنبا أي قصتهم في ذلك الوقت أو بدل من النبا أي نبأ ذلك الوقت على حذف المضاف، والمقصود إذ قرب كل واحد منهما قربانا إلّا أنه جمعهما في الفعل اتكالا على قرينة الحكاية، أو لأنّ القربان في الأصل مصدر، ثم سمي به ما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة.
يروى أنّ آدم عليه السلام كان يولد له في كل سنة بطن غلام وجارية، فكان يزوّج البنت من بطن بالغلام من بطن آخر فولد قابيل وتوأمته إقليما وبعدهما هابيل وتوأمته لبودا. وكانت توأمة قابيل أحسن وأجمل فأراد آدم أن يزوّجها من هابيل فأبى قابيل وقال: أنا أحق بها وليس هذا من الله وإنما هو رأيك. فقال آدم لهما: قرّبا قربانا فمن أيكما قبل قربانه زوّجتها منه. فقبل الله قربان هابيل بأن نزلت نار فأكلته فازداد قابيل سخطا وقتل أخاه حسدا.
هذا ما عليه أكثر المفسرين وأصحاب الأخبار. وقال الحسن والضحاك: إنهما ما كانا ابني آدم لصلبه وإنما كانا رجلين من بني إسرائيل لقوله عزّ من(2/578)
قائل: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ ومن البين أنّ صدور الذنب من أحد ابني آدم لا يصلح أن يكون سببا لإيجاب القصاص على بني إسرائيل، وزيف بأنّ الآية تدل على أنّ القاتل جهل ما يصنع بالمقتول حتى تعلم ذلك من عمل الغراب ولو كان من بني إسرائيل لم يخف عليه. قال مجاهد: أكل النار علامة الرد. وجمهور المفسرين على أنّ ذلك علامة القبول. وقيل: ما كان في ذلك الوقت فقير يدفع إليه ما يتقرّب به إلى الله فكانت النار تنزل من السماء فتأكله. وإنما صار أحد القربانين مقبولا والآخر مردودا لأنّ حصول التقوى شرط في قبول الأعمال ولهذا قال تعالى حكاية عن المحق في جواب المبطل: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ وذلك لأنه لما كان الحسد هو الذي حمله على توعده بالقتل فكأنه قال له: ما لك لا تعاتب نفسك ولا تحملها على طاعة الله تعالى التي هي السبب في القبول؟ قيل في هذه القصة: إنّ أحدهما جعل قربانه أحسن ما كان معه وكان صاحب غنم، والآخر جعله أردأ ما كان معه وكان صاحب زرع. وقيل: إنه أضمر حين قرب أنه لا يزوّج أخته من هابيل سواء قبل أو لم يقبل. وقيل: لم يكن قابيل من أهل التقوى وفي الكلام حذف فكأن هابيل قال في جواب المتوعد: لم تقتلني؟ قال: لأنّ قربانك صار مقبولا. فقال هابيل: وما ذنبي إنما يتقبل الله من المتقين. ثم حكى الله سبحانه عن المظلوم أنه قال: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ فذكر الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل مقرونا بالباء المزيدة لتأكيد النفي دلالة على أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع البتة.
قال مجاهد: كان أقوى من القاتل وأبطش منه ولكنه تحرّج عن قتل أخيه واستسلم له خوفا من الله لأنّ الدفع لم يكن مباحا في ذلك الوقت وهذا وجه قوله: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ وقيل: المعنى لا أبسط يدي إليك لغرض قتلك وإنما أبسط يدي إليك لغرض الدفع. قال أهل العلم: الدافع عن نفسه يجب عليه أن يدفع بالأيسر فالأيسر وليس له أن يقصد القتل بل يجب عليه أن يقصد الدفع، ثم إن لم يندفع إلّا بالقتل جاز له ذلك. ثم قال:
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فسئل أنه كيف يعقل أن يرجع القاتل مع إثم المقتول وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: 164] ؟ فقال ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة: أي تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي. وقال الزجاج: ترجع إلى الله بإثم قتلي وإثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك. وقال في الكشاف: إنه يتحمل مثل الإثم المقدر كأنه قال إني أريد أن تبوء بمثل إثمي لو بسطت إليك يدي. سؤال آخر: كيف جاز أن يريد معصية أخيه وكونه من أهل النار؟ والجواب أن هذا الكلام إنما دار بينهما عند ما غلب على ظن المقتول أنه يريد قتله وكان ذلك قبل إقدام القاتل على إيقاع القتل فكأنه لما وعظه(2/579)
ونصحه قال له: إن كنت لا تنزجر عن هذه الكبيرة بسبب هذه النصيحة فلا بد أن تترصد لقتلي في وقت غفلة وحينئذ لا يمكنني أن أدفعك عن قتلي إلّا إذا قتلتك ابتداء بمجرد الظن والحسبان وهذا مني كبيرة ومعصية، وإذا دار الأمر بين أن أكون فاعل هذه المعصية أنا وبين أن تكون أنت فأنا أحب أن تحصل هذه الكبيرة لك لا لي، ومن البين أن إرادة صدور الذنب عن الغير في هذه الحالة لا يكون حراما بل هو عين الطاعة. أو المراد أريد أن تبوء بعقوبة قتلي، ولا شك أنه يجوز للمظلوم أن يريد من الله تعالى عقاب الظالم.
وروي أنّ الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم،
فعلى هذا يجوز أن يقال: إني أريد أن تبوء بإثمي الذي يحمل عليك يوم القيامة إذا لم تجد ما يرضيني، وبإثمك في قتلك إياي وهذا يصلح جوابا عن السؤال الأوّل أيضا. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ وسعته ورخصته وسهلت من طاع له المرتع وأطاع إذا اتسع وله لأجل زيادة الربط كقول القائل: حفظت لزيد ماله. ومنهم من قال: شجعته فقتله. والتحقيق أن الإنسان يعلم أن القتل العمد العدوان من أعظم الذنوب فهذا الاعتقاد يكون صارفا له عن فعله فلا يطاوع النفس الأمارة حتى إذا كثرت وساوسها انقاد لها وخضع. وإضافة التطويع والتمرين إلى النفس لا ينافي كون الكل مضافا إلى قضاء الله فتنبه. يحكى أنّ قابيل لم يدر كيف يقتل هابيل فظهر له إبليس وأخذ طيرا وضرب رأسه بحجر فتعلّم قابيل ذلك منه. ثم إنه وجد هابيل يوما نائما فضرب رأسه بصخرة فمات.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقتل نفس ظلما إلّا كان على ابن آدم الأوّل كفل من دمها» «1»
وذلك أنه أوّل من سن القتل فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ دنياه وآخرته لأنه أسخط والديه وبقي مذموما إلى يوم القيامة ثم يلقى في النار خالدا. قيل: لما قتل أخاه هرب من أرض اليمن إلى عدن فأتاه إبليس وقال له: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها. فبنى بيت نار وهو أوّل من عبد النار.
وروي أن هابيل قتل وهو ابن عشرين سنة، وكان قتله عند عقبة حراء.
وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.
وروي أنه لما قتله اسودّ جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلا. فقال: بل قتلته ولذلك اسودّ جسدك.
ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك وإنه رثاه بشعر هو هذا:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبر قبيح
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 33. كتاب الأنبياء باب 1. مسلم في كتاب القسامة حديث 27.
الترمذي في كتاب العلم باب 14. النسائي في كتاب التحريم باب 1. ابن ماجه في كتاب الديات باب 1. أحمد في مسنده (1/ 383، 430) .(2/580)
تغير كل ذي طعم ولون ... وقل بشاشة الوجه المليح.
قال في الكشاف: إنه كذب بحت وقد صح أن الأنبياء معصومون عن الشعر وصدّقه في التفسير الكبير وقال: إنّ ذلك من غاية الركاكة بحيث لا يليق بالآحاد فضلا عن الأفراد وخصوصا من علمه حجة على الملائكة. وأقول: أما أن جميع الأنبياء معصومون عن الشعر فلعل دعوى العموم لا تمكن فيه وكأنه من خصائص نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا أثنى الله تعالى عليه بقوله: وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ [يس: 69] وأما أنه من الركاكة بالحيثية المذكورة فمكابرة مع أن مقام البث والشكوى لا يحتمل الشعر المصنوع والله أعلم بحقيقة الحال. قال المفسرون: إنه لما قتله تركه لا يدري ما يصنع به ثم خاف عليه السباع فحمله في جراب على ظهره سنة حتى تغيّر فبعث الله غرابا. روى الأكثرون أنه بعث غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر فحفر بمنقاره ورجليه ثم ألقاه في الحفرة فتعلم من الغراب. وقال:
الأصم: لما قتله وتركه بعث الله غرابا يحثى على المقتول فلما رأى القاتل أنّ الله تعالى كيف يكرمه بعد موته ندم. وقال أبو مسلم: عادة الغراب دفن الأشياء فجاء غراب فدفن شيئا فتعلم ذلك منه لِيُرِيَهُ أي الله أو الغراب أي ليعلمه وذلك أنه كان سبب تعليمه كَيْفَ يُوارِي محله نصب على الحال من ضمير يُوارِي والجملة منصوبة بيرى مفعولا ثانيا أي ليريه كيفية مواراة سوأة أخيه أي عورته وهو ما لا يجوز أن ينكشف من جسده. وقيل: أي جيفة أخيه. والسوأة السوء الخلة القبيحة يا وَيْلَتى كلمة عذاب. يقال: ويل له وويله ومعناه الدعاء بالإهلاك وقد يقال في معرض الترحم. وإنما طلب إقبال الويل هاهنا على سبيل التعجب والندبة أي احضر حتى يتعجب منك ومن فظاعتك أو احضر فهذا أوان حضورك.
والألف بدل من ياء المتكلم. أَعَجَزْتُ استفهام بطريق الإنكار أَنْ أَكُونَ أي عن أن أكون مِثْلَ هذَا الْغُرابِ أي في الفعلة المذكورة ولهذا قال: فَأُوارِيَ بالنصب على جواب الاستفهام مِنَ النَّادِمِينَ الندم وضع للزوم ومنه النديم لملازمته المجلس. وإنما لم يكن ندمه توبة لأنه لما تعلم الدفن من الغراب صار من النادمين على أنّ حمله على ظهره سنة، أو ندم على قتل أخيه لأنه لم ينتفع بقتله بل سخط عليه أبواه وإخوته، أو ندم لأنه تركه بالعراء استخفافا وتهاونا وكان دون الغراب في الشفقة على مقتوله حتى صار الغراب دليلا وقد قيل:
إذا كان الغراب دليل قوم مِنْ أَجْلِ ذلِكَ القتل قيل: هو من أجل شرا يأجله أجلا إذا جناه كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ إن كان القاتل والمقتول من بني إسرائيل فالمناسبة بين الواقعة وبين وجوب القصاص عليهم ظاهرة، وإن كانا ابني آدم من صلبه فالوجه أن يكون(2/581)
ذلك إشارة إلى ما في القصة من أنواع المفاسد كخسران الدارين وكالندم على الأمور المذكورة، أي من أجل ما ذكرنا في أثناء القصة من المفاسد الناشئة من القتل العمد العدوان شرعنا القصاص في حق القاتل، ثم وجوب القصاص وإن كان عاما في جميع الأديان والملل إلّا أنّ التشديد المذكور في الآية- وهو أن قتل النفس الواحدة جار مجرى قتل جميع الناس- غير ثابت إلّا على بني إسرائيل. والغرض بيان قساوة قلوبهم فإنهم مع علمهم بهذا الحكم أقدموا على قتل الأنبياء والرسل فيكون فيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الواقعة التي عزموا فيها على قتله. ثم القائلون بالقياس استدلوا بالآية على أنّ أحكام الله تعالى قد تكون معللة بالعلل لأنه صرّح بأن الكتبة معللة بتلك المعاني المشار إليها بقوله: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ والمعتزلة أيضا قالوا: إنها دلّت على أنّ الأحكام معللة بمصالح العباد. ويعلم منه امتناع كونه تعالى خالقا للكفر والقبائح لأنّ ذلك ينافي مصلحة العبد. والأشاعرة شنعوا عليهم بلزوم الاستكمال. والتحقيق أنّ استتباع الفعل الغاية الصحيحة لا ينافي الكمال الذاتي وقد سبق مرارا. بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير قتل نفس وهو أن يقع لا على وجه الاقتصاص. أَوْ فَسادٍ قال الزجاج: إنه معطوف على نَفْسٍ بمعنى أو بغير فساد فِي الْأَرْضِ كالكفر بعد الإيمان وكقطع الطريق وغيره من المهدّدات فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وهاهنا نكتة وهي أنّ التشبيه لا يستدعي التسوية بين المشبه والمشبه به من كل الوجوه، فلا يكون قتل النفس الواحدة قتل جميع الناس فإنّ الجزء لا يعقل أنه مساو للكل. فالغرض استعظام أمر القتل العمد العدوان واشتراك القتلين في استحقاق الإثم كما قال مجاهد: قاتل النفس جزاؤه جهنم وغضب الله والعذاب العظيم ولو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك. والتحقيق فيه أنه إذا أقدم على القتل العمد العدوان فقد رجح داعية الشهوة والغضب على داعية الطاعة، وإذا ثبت الترجيح بالنسبة إلى واحد ثبت بالنسبة إلى كل واحد بل بالإضافة إلى الكل لأنّ كل إنسان يدلي من الكرامة والحرمة بما يدلي به الآخر. وفيه أن جد الناس واجتهادهم في دفع قاتل شخص واحد يجب أن يكون مثل جدّهم في دفعه لو علموا أنه يقصد قتلهم بأسرهم وَمَنْ أَحْياها استنقذها من مهلكة كحرق أو غرق أو جوع مفرط ونحو ذلك، والكلام في تشبيه إحياء البعض بإحياء الكل كما تقرر في القتل ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ أي من بني إسرائيل بَعْدَ ذلِكَ بعد مجيء الرسل لَمُسْرِفُونَ في القتل لا يبالون بهتك حرمة.
ومعنى «ثم» تراخي الرتبة.
ثم إنه سبحانه بين أن الفساد في الأرض الموجب للقتل ما هو فقال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ استدل بالآية من جوز إرادة الحقيقة والمجاز معا من لفظ واحد(2/582)
لأنّ محاربة الله عبارة عن المخالفة فقط ولا يمكن حملها على حقيقة المحاربة. ويحتمل أن يقال: إنا نحمل هذه المحاربة على مخالفة الأمر والتكليف. والتقدير إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله، أو المراد إنما جزاء الذين يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله كما
جاء في الخبر «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» «1» .
وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً نصب على الحال أي مفسدين، أو على العلة أي للفساد، أو على المصدر الخاص نحو: رجع القهقرى. لأنّ الفساد نوع من السعي.
عن قتادة عن أنس أن الآية نزلت في العرنيين الذين قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم وأمر بقطع أيديهم وأرجلهم ثم سمل أعينهم وتركهم حتى ماتوا
فكانت الآية ناسخة لتلك السنة. وعند الشافعي لما لم يجز نسخ السنة بالقرآن كان الناسخ لتلك السنة سنة أخرى ونزل هذا القرآن مطابقا للسنة الناسخة. وقيل: نزلت في قوم أبي برزة الأسلمي- وكان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد- فمرّ بهم قوم من كنانة يريدون الإسلام وأبو برزة غائب فقتلوهم وأخذوا أموالهم. وقيل: إنها في بني إسرائيل الذين حكى الله عنهم أنهم مسرفون في القتل.
وقيل: في قطّاع الطريق من المسلمين وهذا قول أكثر الفقهاء. قالوا: ولا يجوز حمل الآية على المرتدين لأنّ قتل المرتد لا يتوقف على المحاربة وإظهار الفساد في الأرض، ولأنه لا يجوز الاقتصار في المرتد على قطع اليد أو النفي، ولأن حدّه يسقط بالتوبة قبل القدرة عليه وبعدها، ولأنّ الصلب غير مشروع في حقه، ولأن اللفظ عام. وشرطوا في هذا المحارب بعد كونه مسلما مكلفا أن يكون معتمد القوة في المغالبة مع البعد عن الغوث فيخرج الكفار والمراهقون والمعتمد على الهرب، وكذا المتعرض للقادر على الاستعانة بمن يغيثه. واتفقوا على أنّ هذه الحالة إذا حصلت في الصحراء كان قاطع الطريق، فأما في نفس البلد فكذلك عند الشافعي لعموم النص. وخالف أبو حنيفة ومحمد لأنه يلحقه الغوث في الغالب فحكمه حكم السارق. وللعلماء في لفظ «أو» في الآية خلاف. فعن ابن عباس في رواية علي بن أبي طلحة وقول الحسن وسعيد بن المسيب ومجاهد أنها للتخيير إن شاء الإمام قتل وإن شاء صلب وإن شاء قطع الأيدي والأرجل وإن شاء نفى. وعنه في رواية عطاء أنّ الأحكام تختلف بحسب الجنايات، فمن اقتصر على القتل قتل، ومن قتل وأخذ المال قدر نصاب السرقة قتل وصلب، ومن اقتصر على أخذ المال قطع يده ورجله من خلاف، ومن أخاف السبيل ولم يأخذ المال نفي من الأرض، وإليه ذهب الشافعي والأكثرون. والذي يدل على
__________
(1) رواه ابن ماجه في كتاب الفتن باب 16.(2/583)
ضعف القول الأول أنه ليس للإمام الاقتصار على النفي بالإجماع ولأن هذا المحارب إذا لم يقتل ولم يأخذ المال فقد همّ بالمعصية ولم يفعل وهذا لا يوجب القتل كالعزم على سائر المعاصي. فتقدير الآية أن يقتلوا إن قتلوا، أو يصلبوا إن جمعوا بين القتل والأخذ، أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن اقتصروا على الأخذ. والتشديد في هذه الأفعال للتكثير. أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إن أخافوا السبيل والقياس الجلي أيضا يؤيد هذا التفسير لأنّ القتل العمد العدوان يوجب القتل فغلظ ذلك في قاطع الطريق بالتحتم وعدم جواز العفو. وأخذ المال يتعلق به قطع اليد فغلظ في حقه بقطع الطرفين مِنْ خِلافٍ أي يده اليمنى ورجله اليسرى، فإن عاد فالباقيتان. قيل: وإنما قطع هكذا لئلّا يفوت جنس المنفعة. قلت: هذا أيضا من باب التغليظ لأنّ اليد اليمنى أعون في العمل والرجل اليسرى أعون في الركوب.
وإن جمعوا بين القتل والأخذ يجمع بين القتل والصلب، لأنّ بقاءه مصلوبا في ممر الطريق أشهر وأزجر. وإن اقتصروا على مجرد الإخافة اقتصر الشرع على عقوبة خفيفة هي النفي.
قال أبو حنيفة: إذا قتل وأخذ المال فالإمام مخيّر بين أن يقتل فقط أو يقطع ثم يقتل ويصلب. وعند الشافعي لا بد من الصلب لأجل النص. وكيفية الصلب أن يقتل ويصلّى عليه ثم يصلب مكفنا ثلاثة أيام. وقيل: يترك حتى يتهرى ويسيل صديده أي صليبه وهو الودك. وعند أبي حنيفة يصلب حيا ثم يمزق بطنه برمح حتى يموت أو يترك بلا طعام وشراب حتى يموت جوعا، ثم إن أنزل غسل وكفن وصلّي عليه ودفن، وإن ترك حتى يتهرى فلا غسل ولا صلاة. أما النفي فإنّ الشافعي حمله على معنيين: أحدهما أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن ظفر بهم أقام عليهم الحد، وإن لم يظفر بهم طلبهم أبدا.
فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي. والثاني الذين يحضرون الواقعة ويعينونهم بتكثير السواد وإخافة المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال، فالإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم، فيكون المراد بنفيهم هو هذا الحبس. وقال أبو حنيفة وأحمد وإسحق: النفي هو الحبس لأنّ الطرد عن جميع الأرض غير ممكن، وإلى بلدة أخرى استضرار بالغير، وإلى دار الكفر تعريض للمسلم بالردة، فلم يبق إلّا أن يكون المراد الحبس لأنّ المحبوس لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا فكأنه خارج منها ولهذا قال صالح بن عبد القدوس حين حبسوه على تهمة الزندقة وطال لبثه:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها ... فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة ... عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا.
ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ ذل وفضيحة فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ استدل(2/584)
المعتزلة بها على القطع بوعيد الفساق وعلى الإحباط. وقالت الأشاعرة: بل بشرط عدم العفو إِلَّا الَّذِينَ تابُوا قال الشافعي: إن تاب بعد القدرة عليه لم يسقط عنه ما يختص بقطع الطريق من العقوبات لأنه متهم حينئذ بدفع العذاب عنه وفي سائر الحدود بعد القدرة عليه. قيل: يكفي في التوبة إظهارها كما يكفي إظهار الإسلام تحت ظلال السيوف.
والأصح أنه لا بدّ مع التوبة من إصلاح العمل لقوله تعالى في الزنا فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما [النساء: 16] وفي السرقة فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ ولعل الفائدة في هذا الشرط أنه إن ظهر ما يخالف التوبة أقيم عليه الحد، وإنما يسقط بتوبة قاطع الطريق قبل القدرة عليه تحتم القتل. فالولي يقتص أو يعفو بناء على أن عقوبة قاطع الطريق لا تتمحض حدا بل يتعلق بها القصاص وهو الأظهر، أما إذا محضناه حدا فلا شيء عليه، وإن كان قد أخذ المال وقتل سقط الصلب وتحتم القتل. وفي القصاص وضمان المال ما ذكرنا وإن كان قد أخذ المال سقط عنه قطع الرجل. وفي قطع اليد وجهان: الأظهر السقوط أيضا بناء على أنه جزء من الحد الواجب فإذا لم يقم الكل لم يقم شيء من أجزائه بالاتفاق.
والثاني أنه ليس من خواص قطع الطريق لأنه يجب بالسرقة ففي سقوطه الخلاف في سائر الحدود.
ثم إنه سبحانه لما بيّن كمال جسارة اليهود على المعاصي وغاية بعدهم عن الوسائل إلى الله وآل الكلام إلى ما آل عاد إلى إرشاد المؤمنين ليكونوا بالضدّ منهم فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وأيضا فإنهم قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه أي نحن أبناء الأنبياء وكان افتخارهم بأعمال آبائهم فقيل للمؤمنين: لتكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بأسلافكم فقوله: اتَّقُوا اللَّهَ إشارة إلى ترك المنهيات وقوله: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ عبارة عن فعل المأمورات وإن كان ترك المناهي أيضا من جملة الوسائل إلّا أن هذا التقرير مناسب، والفعل والترك أيضا يعتبران في الأخلاق الفاضلة والذميمة وفي الأفكار الصائبة والخاطئة، وأهل التحقيق يسمون الترك والفعل بالتخلية والتحلية أو بالمحو والحضور أو بالنفي والإثبات أو بالفناء والبقاء، والأول مقدّم على الثاني، فما لم يفن عما سوى الله لم يرزق البقاء بالله. والوسيلة «فعيلة» وهي كل ما يتوسل به إلى المقصود ولهذا قد تسمى السرقة توسلا والواسل الراغب إلى الله قال لبيد:
ألا كل ذي لب إلى الله واسل والتوسيل والتوسل واحد يقال: وسل إلى ربه وسيلة وتوسل إليه بوسيلة إذا تقرب إليه(2/585)
بعمل قالت التعليمية: إنه تعالى أمر بابتغاء الوسيلة إليه فلا بد من معلم يعلمنا معرفته.
وأجيب بأن الأمر بالابتغاء مؤخر عن الإيمان لقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فعلمنا أن المراد بالوسائل هي العبادات والطاعات. ثم إن ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي لما كان شاقا على النفس ثقيلا على الطبع لأن العقل يدعو إلى خدمة الله والنفس تدعو إلى اللذات الحسيات والجمع بينهما كالجمع بين الضرتين والضدّين أردف التكليف المذكور بقوله: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ والمراد بهذا القيد أن تكون العبادة لأجله لا لغرض سواه وهذه مرتبة السابقين.
ثم قال: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ والفلاح اسم جامع للخلاص من المكروه والفوز بالمحبوب وهذه دون الأولى لأن غرضه الرغبة في الجنة أو الرهبة من النار وكلتا المرتبتين مرضية. ثم أشار إلى مرتبة الناقصين بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وخبر «إن» مجموع الجملة الشرطية وهي قوله: لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ أي بالمذكور أو الواو بمعنى «مع» والعامل في المفعول معه وهو المثل ما في «إن» من معنى الفعل أي لو ثبت:
مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ والغرض التمثيل وأن العذاب لازم لهم وقد مر مثله في سورة آل عمران.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «يقال للكافر يوم القيامة أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم. فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك» «1» .
يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا أي يتمنون الخروج من النار أو يقصدون ذلك. قيل: إذا رفعهم لهب النار إلى فوق فهناك يتمنون الخروج. وقيل: يكادون يخرجون منها لقوتها ورفعها إياهم. عمم المعتزلة هذا الوعيد في الكفار وفي الفساق، وخصصه الأشاعرة بالكفار لدلالة الآية المتقدمة. ثم إنه تعالى عاد إلى تتميم حكم أخذ المال من غير استحقاق وهو المأخوذ على سبيل الخفية لا المحاربة فقال: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ وهما مرفوعان على الابتداء والخبر محذوف عند سيبويه والأخفش والتقدير فيما فرض أو فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمها.
وعند الفراء- وهو اختيار الزجاج- أن الألف واللام فيهما بمعنى الذي والتي وخبرهما:
فَاقْطَعُوا ودخول الفاء لتضمنها معنى الشرط كأنه قيل: الذي سرق والتي سرقت فاقطعوا أيديهما. وقراءة عيسى بن عمر بالنصب وفضلها سيبويه على القراءة المشهورة لأن الإنشاء لا يحسن أن يقع خبرا إلّا بتأويل وأما إذا نصبت فإنه يكون من باب الإضمار على شريطة التفسير والفاء يكون مؤذنا بتلازم ما قبلها وما بعدها مثل: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر: 3] وضعف قول سيبويه بأنه طعن في قراءة واظب عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وترجيح للقراءة الشاذة
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الرقاق باب 49. أحمد في مسنده (3/ 218) . مسلم في كتاب المنافقين حديث 52.(2/586)
وفيه ما فيه على أن الإضمار الذي ذهب إليه هو خلاف الأصل. والذي مال إليه الفراء أدل على العموم وأوفق لقوله سبحانه: جَزاءً بِما كَسَبا فإنه تصريح بأن المراد من الكلام الأول هو الشرط والجزاء. أما البحث المعنوي في الآية فإن كثيرا من الأصوليين زعموا أنها مجملة لأنه لم يبين نصاب السرقة وذكر الأيدي وبالإجماع لا يجب قطع اليدين، ولأن اليد تقع على الأصابع بدليل أن من حلف لا يلمس فلانا بيده فلمسه بأصابعه فإنه يحنث، وتقع على الأصابع مع الكف وعلى الأصابع والكف والساعدين إلى المرفقين وعلى كل ذلك إلى المنكبين. وأيضا الخطاب في: فَاقْطَعُوا إما لإمام الزمان كما هو مذهب الأكثرين أو لمجموع الأمة أو لطائفة مخصوصة فثبت بهذه الوجوه أن الآية مجملة. وقال المحققون:
مقتضى الآية ولا سيما في تقدير الفراء عموم القطع بعموم السرقة إلّا أن السنة خصصته بالنصاب. أو نقول: إن أهل اللغة لا يقولون لمن أخذ حبة بر إنه سارق. والمراد بالأيدي اليدان مثل: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [التحريم: 4] وقد انعقد الإجماع على أنه لا يجب قطعهما معا ولا الابتداء باليسرى. واليد اسم موضوع لهذا العضو إلى المنكب ولهذا قيد في قوله: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ [المائدة: 6] وقد ذهب الخوارج إلى وجوب قطع اليدين إلى المنكبين لظاهر الآية إلّا أن السنة خصصته بالكوع. والحاصل أن الآية عامة لكنها خصصت بدلائل منفصلة فتبقى حجة في الباقي، وهذا أولى من جعلها مجملة غير مفيدة أصلا. ثم إن جمهور الصحابة والفقهاء ذهبوا إلى أن القطع لا يجب إلّا عند شروط كالنصاب والحرز، وخالف ابن عباس وابن الزبير والحسن وداود الأصفهاني والخوارج تمسكا بعموم الآية، ولأن مقادير القلة والكثرة غير مضبوطة، فالذي يستقله الملك يستكثره الفقير. وقد قال الشافعي: لو قال لفلان عليّ مال عظيم ثم فسره بالحبة يقبل لاحتمال أن يريد أنه عظيم في الحل أو عظيم عنده لشدة فقره. ولما طعنت الملحدة في الشريعة بأن اليد كيف ينبغي أن تقطع في قليل مع أن قيمتها خمسمائة دينار من الذهب، أجيب عنه بأن ذلك عقوبة من الشارع له على دناءته. وإذا كان هذا الجواب مقبولا من الكل فليكن مقبولا منا في إيجاب القطع على القليل والكثير. وأيضا اختلاف المجتهدين في قدر النصاب كما يجيء يدل على أن الأخبار المخصصة عندهم متعارضة فوجب الرجوع إلى ظاهر القرآن. ودعوى الإجماع على أن القطع مخصوص بمقدار معين غير مسموعة لخلاف بعض الصحابة والتابعين كما قلنا. واعلم أن الكلام في السرقة يتعلق بأطراف المسروق ونفس السرقة والسارق. وأما المسروق فمن شروطه عند الأكثرين أن يكون نصابا. ثم قال الشافعي: إنه ربع دينار من الذهب الخالص وما سواه يقوم به وهو مذهب الإمامية لما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا(2/587)
قطع إلّا في ربع دينار» «1»
وقال أبو حنيفة: النصاب عشرة دراهم لما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا قطع إلا في ثمن المجن» «2»
والظاهر أن ثمن المجن لا يكون أقل من عشرة دراهم، وقال مالك: ربع دينار أو ثلاثة دراهم. وعن أحمد روايتان كالشافعي وكمالك. وقال ابن أبي ليلى: خمسة دراهم. وعن الحسن: درهم. وفي مواعظه: «احذر من قطع يدك في درهم» .
ومنها أن يكون المسروق ملك غير السارق لدى الإخراج من الحرز. فلو سرق مال نفسه من يد غيره كيد المرتهن والمستأجر أو طرأ ملكه في المسروق قل إخراجه من الحرز بأن ورثه السارق أو اتهبه وهو فيه سقط القطع. ومنها أن يكون محترما لا كخمر وخنزير. ومنها أن يكون الملك تاما قويا. والمراد بالتمام أن لا يكون السارق فيه شركة أو حق كمال بيت المال، وبالقوّة أن لا يكون ضعيفا كالمستولدة والوقف. ومنها كون المال خارجا عن شبهة استحقاق السارق، فلو سرق رب الدين من مال المديون فإن أخذه لا على قصد استيفاء الحق أو على قصده والمديون غير جاحد ولا مماطل قطع، وإن أخذه على قصد استيفاء الحق وهو جاحد أو مماطل فلا يقطع سواء أخذ من جنس حقه أو لا من جنسه. وإذا سرق أحد الزوجين من مال الآخر وكان المال محرزا عنه فعند أبي حنيفة لا يجب القطع. وعند الشافعي ومالك وأحمد يجب. ومنها كون المال محرزا
لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن» «3»
وحرز كل شيء على حسب حاله. فالإصطبل حرز الدواب وإن كانت نفيسة وليس حرزا للثياب والنقود. والصفة في الدار وعرصتها حرزان للأواني وثياب البذلة دون الحلي والنقود فإن العادة فيها الإحراز في الصناديق والمخازن. وعن أبي حنيفة أن ما هو حرز لمال فهو حرز لكل مال. وأما السرقة فهي إخراج المال عن أن يكون محرزا ولا بد من شرط الخفية فلا قطع على المختلس والمنتهب والمعتمد على القوة، ولا على المودع إذا جحد خلافا لأحمد. وأما السارق فيشترط فيه التكليف والتزام الأحكام والاختيار فيقطع الذمي والمعاهد ولا يقطع المكره. وإنما تثبت السرقة بثلاث حجج: باليمين المردودة أو بالإقرار أو بشهادة رجلين. ويتعلق بها حكمان: الضمان والقطع. وقال أبو حنيفة: القطع والغرم لا
__________
(1) رواه مسلم في كتاب الحدود الحديث 1- 5. النسائي في كتاب السارق باب 10. ابن ماجه في كتاب الحدود باب 22. أحمد في مسنده (6/ 104، 249) .
(2) رواه النسائي في كتاب السارق باب 9، 10.
(3) رواه النسائي في كتاب السارق باب 11.(2/588)